الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأخذ بالرخصة وحكمه
إعداد
أ. د. عبد العزيز عزت الخياط
نائب رئيس المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية
(مؤسسة آل البيت) عمان – الأردن
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على اشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
فقد اخترت أن أكتب في الموضوع الأول من موضوعات الدورة الثامنة، وهو الأخذ بالرخص وحكمه. وقد تناول بحثي الموضوعات التالية:
1-
العزيمة، تعريفها ومعناها وأحكامها.
2-
الرخصة، تعريفها لغة وشرعًا.
3-
أنواع الرخص مع بيان فقهي لأمثلة من كل نوع.
4-
ضوابط الأخذ بالرخصة.
5-
تتبع الرخص ورأي الأصوليين والفقهاء فيه.
6-
التلفيق ورأي الفقهاء والأصوليين فيه.
7-
ترجيح ما هو أحق بالاتباع وخاصة في عصرنا الحديث.
الرخصة
لابد عند بيان معنى الرخصة من بيان معنى العزيمة لغة وشرعًا: أما لغة: فالعزيمة: القصد المؤكد ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: 159] . قال الجوهري: عزمت على كذا عزمًا (بفتح العين) وعزمًا (بضم العين) وعزيمة وعزيمًا، إذا أردت فعله وقطعت عليه (1)، قال الله تعالى {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115] ، أو جد في الأمر، وعزم الأمر نفسه عزم عليه، وعلى الرجل أقسم، وأولو العزم من الرسل: الذين عزموا على أمر الله فيما عهد إليهم، أو هم أولو الجد والثبات والصبر، وعزائم الله: فرائضه (2)، ويقال: عزم الأمر إذا جد ولزم، قال تعالى {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [محمد: 21] (3) .
والرخصة في الأمر: خلاف التشديد (4)، والتشديد لا يحصل إلى من الواجب فعلاً أو كفًّا كما قال ابن منظور. والرخصة: السهولة، ومنه رخص السعر إذا سهل ولم يبق في السعر تشديد، وهو من رخص يرخص رخصًا ورخوصة ورخاصة ورخصانًا، والرخصة (بضمة وبضمتين) ترخيص الله للعبد فيما يخففه عليه، وأيضا بمعنى التسهيل (5) .
ورخص له في الأمر: سهله ويسره، وأذن له فيه بعد النهي عنه، والرخصة: التسهيل في الأمر والتيسير (6) .
وللعزيمة والرخصة لغة معان أخرى لم نذكرها لعدم صلتها بالمعنى الشرعي، بل ذكرنا المعنى اللغوي المتصل بالمعنى الشرعي كما سنرى.
الرخصة شرعًا:
للرخصة معان شرعية متعددة، وإطلاقات مختلفة بحسب الموضوع وبحسب تنوعها، وبحسب اختلاف الفقهاء في تعريفها:
فالرخصة عند المحدثين نوعان: الأول: الإجازة والمناولة، فإن كان عالمًا بما في الكتاب يجوز، والمستحب أن يقول أجاز، ويصح أن يقول أيضا:" أجيز "، وإن لم يكن عالمًا بما في الكتاب لا يجوز عند أبي حنيفة ومحمد، خلافًا لأبي يوسف، ورأي أبي حنيفة أصح، لأن أمر السنة أمر عظيم مما لا يتساهل فيه، وتصحيح الإجازة من غير علم فيه من الفساد ما فيه، وفيه فتح لباب التقصير في طلب العلم (7) .
والنوع الثاني: الرخصة كتابة الحديث، وقد كانت العزيمة في ضبط الحديث حفظه، ثم أصبحت الرخصة عزيمة صيانة للعلم (8) .
(1) الصحاح للجوهري / مادة عزم.
(2)
القاموس 4 / 149 – 150.
(3)
المعجم الوسيط مادة عزم.
(4)
لسان العرب مادة رخص 10 / 49.
(5)
القاموس المحيط للفيروز أبادي 2 / 304، ولسان العرب 10 / 49.
(6)
المعجم الوسيط 1 / 336 مادة رخص.
(7)
شرح التلويح للتفتازاني على شرح التوضيح لصدر الشريعة 2 / 12.
(8)
شرح التلويح للتفتازاني على شرح التوضيح لصدر الشريعة 2 / 12.
الرخصة عند الأصوليين والفقهاء:
الرخصة عند الأصوليين مقابل العزيمة، ولابد من بيان معنى العزيمة قبل الخوض في معنى الرخصة وأنواعها وأحكامها مما هو مطلوب بحثه في الدورة الثامنة لمجمع الفقه الإسلامي.
فالعزيمة عند الأصوليين الأحناف: " الأخذ بالحكم الأصلي غير مبني على أعذار العباد "، وهي إما فرض، أو واجب، أو سنة ونفل ومندوب، أو حرام، أو مكروه، أو مباح
فالعزيمة: ما إذا كان الفعل أولى من الترك مع عدم جواز الترك بدليل قطعي. مثل فرض الصلاة والجهاد والزكاة.
والعزيمة الواجبة: هي ما إذا كان الفعل أولى من الترك مع جواز الترك بدليل ظني (وهذا عند الحنفية، وإلا فعند غيرهم الفرض والواجب بمعنى واحد) .
والعزيمة النفل أو المندوبة أو السنة وهي ما إذا كان الفعل أولى من الترك مع جواز الترك.
والعزيمة لترك الحرام هي: ما إذا كان الترك أولى من الفعل مع منع الفعل.
والعزيمة لترك المكروه هي: ما إذا كان الترك أولى من الفعل مع جواز الفعل.
وإذا استوى الأمران: الترك والفعل، كانت العزيمة في المباح.
والحكم في كل هذه حكم أصلي والأخذ به عزيمة على أي وجه كان (1) .
والعزيمة عند الحنابلة هي " الحكم الثابت لدليل شرعي خال عن معارض " أو " هي الحكم الثابت من غير مخالفة دليل شرعي "(2) .
فالحكم الثابت لدليل شرعي يتناول الواجب (الفرض) والمندوب وتحريم الحرام وكراهة المكروه وذكر الدليل الشرعي احترازا عن الدليل العقلي.
والعزيمة عند المالكية هي " طلب الفعل الذي لم يشتهر فيه منع شرعي"، قال القرافي " وإنما قلت طلب الفعل ليخرج أكل الطيبات ونحوها الداخل في تعريف الإمام فخر الدين الرازي الذي يعرف العزيمة بجواز الإقدام مع عدم المانع، فإنه يقتضي أن أكل الطيبات ولبس الثياب ونحوها عزيمة، لأن الإقدام عليه جائز والمانع منه منتف (3) .
(1) التوضيح لصدر الشريعة 2 / 142.
(2)
شرح مختصر الروضة 1 / 457 لنجم الدين الطوفي – تحقيق الدكتور عبد المحسن التركي – طبع الرسالة 1410 هـ – 1990 م.
(3)
شرح مختصر الروضة 1 / 459.
وعرف الآمدي من الشافعية العزيمة بأنها " عبارة عما لزم العباد بإلزام الله تعالى، فهي ما لزم بإيجاب الله تعالى (1) ، وهي على هذا تختص بما هو أشبه بالواجبات كما يقول الطوفي (2) . كما عرفها البزدوي بأنها اسم لما هو أصل من الأحكام غير متعلق بالعوارض"(3) .
والشاطبي عرف العزيمة بأنها " ما شرع من الأحكام الكلية ابتداء" ومعنى الكلية أنها لا تختص ببعض الملكفين من حيث هم مكلفون دون بعض، كالصلاة مثلاً فإنها مشروعة على الإطلاق والعموم في كل شخص وفي كل حال، ومثلها سائر شعائر الإسلام الكلية (4) . ومعنى كونها شرعية ابتداء، أن الشارع قصد بها إنشاء الأحكام التكليفية على العباد من أول الأمر من غير أن يسبقها حكم شرعي قبل ذلك (5) .
وقد تطلق العزيمة على الأخذ بالتكاليف الغليظة والأعمال الشاقة.
ومما سبق يتضح أن العزيمة منها ما يتعلق بالفعل مثل العبادات، وهي أربعة أنواع:
1-
فريضة: وهي ما لا يحتمل زيادة ولا نقصانًا: وهي ما ثبت بدليل شرعي قطعي (لا شبهة فيه) كالإيمان والأركان ويكفر جاحدها ويفسق تاركها بلا عذر.
2-
واجب: وهو ما ثبت بدليل فيه شبهة كصدقة الفطر والأضحية، فإن كلا منهما ثبت بخبر الواحد، وحكمه اللزوم عملا لا اعتقادًا فإن جاحدها لا يكفر، ويفسق تاركه إذا استخف بأخبار الآحاد جملة.
3-
سنة: وهي الطريقة المسلوكة في الدين، ويطالب المكلف بإقامتها من غير افتراض ولا وجوب، وهي عند الشافعي طريقة النبي صلى الله عليه وسلم لأنه هو المتبع على الإطلاق، والسنة نوعان: سنة هدي كالجماعة والأذان والإقامة، وتاركها يستوجب الإساءة، وسنة زوائد وهي التي لا يستوجب تاركها أي إساءة كسير النبي صلى الله عليه وسلم في لباسه وقيامه وقعوده.
4-
وهو العبادة المشروعة لنا لا علينا، وهو ما يثاب المرء على فعله ولا يعاقب على تركه (6) .
ومن العزيمة ما يتعلق بالترك، وهي ترك الحرام، فيثاب تاركه ويعاقب فاعله، وترك المكروه، فيثاب تاركه ولا يعاقب فاعله.
(1) التلويح للتفتازاني 2/ 127، والمستصفى للغزالي 1 / 98، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 1 / 98.
(2)
مختصر الروضة 1 / 458.
(3)
التلويح 2 / 127.
(4)
الموافقات للشاطبي 1 / 204، طبعة صبيح بالقاهرة.
(5)
الموافقات للشاطبي 1 / 204، طبعة صبيح بالقاهرة.
(6)
شرح منار الأنوار في أصول الفقه للمولى عبد اللطيف الشهير بابن ملك، على المنار للنسفي 194 وما بعدها، طبع إستانبول سنة 1314هـ.
الرخصة
عرف الأحناف الرخصة تعريفات مختلفة، فمنها ما ذكره صدر الشريعة بأنها " ما لا يكون حكمًا أصليا، أي يكون مبنيا على أعذار العباد، وذلك مثل إباحة الكفر على اللسان للمكره (1) ، ومنها تعريف السرخسي بأنها " ما استبيح للعذر مع بقاء الدليل المحرم " (2) ، ومنها تعريف الكمال بن الهمام " ما شرع تخفيفًا لحكم مع اعتبار دليله " (3) ، ومثل تعريف الأحناف تعريف فخر الإسلام البزدوي حيث قال " الرخصة اسم لما بني على أعذار العباد ".
وعند الشافعية الرخصة: " ما شرع من الأحكام لعذر مع قيام المحرم لولا العذر لثبتت الحرمة" وبهذا يخرج المباح فليس برخصة أي هو عزيمة. وهذا معنى تعريف الآمدي لها وهو " ما شرع من الأحكام لعذر مع قيام السبب المحرم "(4) ، وعرفها أبو اليسر من الشافعية بأنها " ترك المؤاخذة بالفعل مع قيام المحرم، وحرمة الفعل وترك المؤاخذة بترك الفعل مع وجود الموجب والوجوب "(5) .
وعرفها الشعراني في الميزان بأنها " اسم لما تغير عن الأمر الأصلي إلى تخفيف ويسر ترفها وتوسعها على أصحاب الأعذار "(6) .
وعرف الحنابلة الرخصة بأنها " ما ثبت على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح" وهذا خلاف ما ثبت على وفق الدليل فلا يكون رخصة بل عزيمة كالصوم في الحضر (7) .
وقيل: إن الرخصة هي " استباحة المحظور مع قيام الحاظر " مثل أكل الميتة في المخمصة، فإنه استباحة للميتة المحرمة شرعًا مع قيام السبب المحرم وهو قوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]، وهذا الدليل راجح على سبب التحريم وهو قوله سبحانه {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3] ، فإن هذا خاص، وسبب التحريم عام، والخاص مقدم على العام (8) .
والمالكية عرفوا الرخصة بأنها " جواز الإقدام على الفعل مع اشتهار المانع منه شرعًا "(9) ، كما عرفها الشاطبي بأنها " ما شرع لعذر شاق، استثناء من أصل كلي يقتضي المنع، مع الاقتصار على مواضع الحاجة فيه "(10) ، ويتضح من هذه التعريفات أن من الأصوليين من جعل الرخصة اسمًا على الحكم نفسه، أي جعلها من أقسام الحكم، ومنهم القرافي والشاطبي والبيضاوي والغزالي، ومنهم من أطلقها على الفعل نفسه ومنهم ابن الحاجب والرازي.
(1) التوضيح لصدر الشريعة 2 / 126.
(2)
أصول السرخسي 1 / 117.
(3)
التقرير والتمييز، شرح التحرير للكمال بن الهمام 2 / 146.
(4)
التلويح للتفتازاني 2 / 127، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 1 / 188.
(5)
التلويح للتفتازاني 2 / 127.
(6)
الميزان 1 / 12 ملخص رأيه في الرخصة.
(7)
شرح مختصر الروضة 1 / 459.
(8)
شرح مختصر الروضة 1 / 459.
(9)
التنقيح في أصول الفقه للقرافي.
(10)
الموافقات 1 / 305.
أنواع الرخصة:
من العلماء من جعل الرخصة أنواعًا كالأحناف، ومنهم من سمى أنواع الرخصة إطلاقات كالشاطبي، ومنهم من جعل بعضها واجبًا وبعضها الآخر غير واجب، ومنهم من جعلها رخصة فعل، ورخصة ترك، مما نبينه تفصيلاً فيما يلي:
جعل الأحناف الرخصة أنواعًا من حيث كونها حقيقية أو مجازًا، ومعنى كونه حقيقة: أنه أبيح مع وجود الحرمة في فعله أو تركه، ومعنى كونه مجازًا أنه سهل علينا ما شدد على الأمم السابقة، رفقًا من الله سبحانه وتعالى بنا، مع جواز إيجابه علينا كما أوجبه عليهم، ولأنه بعيد عن حقيقة الرخصة لأن الأصل لم يكن مفروضًا علينا، كما أن بعض هذه التعريفات اقتصر على الدليل المحرم مع أنه قد يكون دليلاً على الوجوب كالصوم، كما قيد بعضهم الرخصة بجواز الفعل مع أنها قد تكون بجواز الترك.
أ- النوع الأول:
1-
أن يكون رخصة حقيقة، وهو " ما استبيح مع قيام المحرم والحرمة " كإجراء كلمة الكفر تحت الإكراه الملجئ، أي الذي يخشى منه فوات النفس كالقتل، أو فوات العضو كقطع اليد، وهو الإكراه التام؛ فيجوز له أن ينطق بكلمة الكفر تقاة من المكرهين الظالمين مع بقاء قلبه مطمئنًا بالإيمان، وذلك من قوله تعالى:{إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 105 – 106] فحرمة الكفر قائمة أبدًا، للأدلة الموجبة للإيمان، وهذا أعلى أنواع الرخص، لأنه لو أخذ بالعزيمة لكان حسبة لله تعالى، ولو قتل لكان شهيدًا (1) ، ومثله الكره على إتلاف مال الغير أو المكره على الإفطار في رمضان (2) .
2-
أن يكون رخصة حقيقة وهو " ما استبيح مع قيام المحرم دون الحرمة " كإباحة إفطار المسافر، فإن المحرم للإفطار قائم، لكن حرمة الإفطار غير قائمة، فالرخصة كانت بناء على سبب تراخي كلمة وهو شهود الشهر، وحكمه وجوب الصوم وقد تراخى حكمه لقوله تعالى:{وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] .
(1) التلويح للتفتازاني على التوضيح لصدر الشريعة 2 / 130.
(2)
المنار / 198.
وهذا النوع أدنى من النوع الأول، لأن الحكم فيه متراخ، ففيه شبهة كونه حكمًا أصليًا في حق فاعله كالمسافر في رمضان، بخلاف النوع الأول فإن المحرم والحرمة قائمان، والحكم الأصلي ليس فيه شبهة، كونه حكمًا أصليا مثل استباحة الكفر للمكره (1)، والأخذ بالعزيمة أولى لقوله تعالى {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] .
3-
ما كان رخصة مجازًا، وهو ما وضع عنا من الإصر والأغلال، فالإصر مثل اشتراط قتل النفس في صحة التوبة، الذي كان على بني إسرائيل كما ذكر تعالى {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} [البقرة: 54] ، ومثل الأغلال وهي الأحكام الشاقة التي كانت في شرائع ما قبل الإسلام، كالقصاص للقاتل العمد أو الخطأ، ومثل قطع الأعضاء الخاطئة، ومثل قرض موضع النجاسة من الثوب دون غسله. وهذه كانت واجبة على بعض من سبقنا، ولم تجب علينا، فالحكم في حقنا ليس مشروعًا أصلاً. والمجازية فيه بعيدة عن حقيقة الرخصة، لأن أصله لم يبق مشروعًا، وهو أتم في المجازية (2) .
4-
ما سقط حكمه مع كونه مشروعًا في الجملة، فهو بهذا شبيه بحقيقة الرخصة وأقرب إليها، فهو أقل مجازية من النوع الثالث، ومثاله ترخيص بيع السلم، فيما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ((أنه نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في السلم)) (3) . ومثل أكل الميتة وشرب الخمر ضرورة، فإن حرمتهما ساقطة هنا، مع كونها ثابتة في الجملة وذلك لقوله تعالى {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] ، فإنه استثناء من الحرمة، والنص غير محرم في حال الضرورة والمحرم غير قائم عند وجودها كذلك، وهذا فرق ما بينه وبين النوع الثاني، ومثل قصر الصلاة في السفر في حالة الأمن، مع أن الآية الكريمة تنص على أن القصر إنما يكون في حالة الخوف، قال تعالى {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] . وقد روى مسلم عن يعلى بن أمية قال: " قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه قول الله تعالى {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101] ، فقال: " عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال ((صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته)) (4) ، فقد فهم عمر رضي الله عنه أن التعليق بالشروط يوجب انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط، فأخذ الأحناف من ذلك أن التعليق بالشرط لا يدل على العدم عند عدم الشرط، خلافًا لغيرهم كفخر الإسلام البزدوي الذي قال:" إن انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط لازم ألبتة"(5) .
(1) التلويح 2 / 128 – 129.
(2)
التلويح 2 / 129، وشرح منار الأنوار 201.
(3)
حديث مركب من حديث النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان وقد رواه أصحاب السنن الأربعة ومن حديث " ورخص في السلم "(فتح القدير 6 / 205) .
(4)
رواه مسلم.
(5)
شرح مختصر الروضة 1 / 461، والتلويح 2 / 130.
إطلاقات الرخصة:
سمى الشاطبي أنواع الرخصة إطلاقات وجعلها إطلاقات أربعة بناها على الأسباب الموجبة للرخصة، وهي إطلاقات أربعة:
أولها: ما استثنى من أصل كلي يقتضي المنع مطلقًا من غير اعتبار لكونه بعذر شاق، وهو ما استند إلى أصل الحاجيات كالقرض والقراض والمساقاة وبيع العرية بخرصها تمرا، وضرب الدية على العاقلة، ويدل عليه قوله ((: نهى عن بيع ما ليس عندك وأرخص في السلم)) أو ما استند إلى أصل التكميلات كصلاة المأمومين جلوسًا اتباعًا للإمام المعذور، وصلاة الخوف المشروعة بالإمام كذلك (1) .
ثانيها: قد تطلق الرخصة على ما وضع عن هذه الأمة من التكاليف الغليظة والأعمال الشاقة كما دل عليها قوله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] . وقد سبق وذكرنا أمثلة لهذه التكاليف والأعمال الشاقة. ويدخل في الإطلاق كل ما جاء في ملة الإسلام من المسامحة واليسر (2) .
وثالثها: ما كان من المشروعات توسعة على الناس مما هو راجع إلى قضاء مآربهم ونيل حظوظهم وتحقيق مصالحهم، والعزيمة هي امتثال الأوامر واجتناب النواهي إطلاقًا، فالإذن بأخذ الحظ توسعة يعتبر رخصة هي حظ العباد من لطف الله. وهنا يدخل الشاطبي المباحات من الرخص لما فيه من التيسير والتوسعة ورفع الحرج (3)(خلافًا للحنفية الذين يجعلون المباح عزيمة) .
ورابعها: ما شرع من الأحكام لعذر شاق كصلاة الإنسان جالسًا لأنه لا يقدر على الصلاة قائمًا إلا بمشقة. وكأكل الميتة للمضطر في قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] ، ويقتصر بالرخصة على موضع الحاجة فقط، وهو من خواص الرخص. ويفترض بهذا عما شرع من الحاجيات الكلية فإنها مشروعة مستثمرة، بينما الرخصة هنا إذا زال سببها زالت مشروعيتها في حق المرخص له (4) .
(1) الموافقات 1 / 207.
(2)
الموافقات 1 / 207.
(3)
الموافقات 1 / 208.
(4)
الموافقات 1 / 209.
الرخصة بين الوجوب وعدم الوجوب:
الرخصة تتنوع من حيث حكمها إلى نوعين:
الأول: الوجوب، وذلك عند الضرورة أو الحاجة التي تنزل منزلة الضرورة، مثل أكل الميتة، فلا يجوز للمسلم المضطر أن يتأبى عن أكل الميتة، لأن النفس حق الله، وهي أمانة يجب حفظها للقيام بالعبادات والتكاليف، قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56](1) .
الثاني: عدم الوجوب، فله أن يأتي بالرخصة، إما تقية كالنطق بكلمة الكفر عند الإكراه حفظًا لنفسه مع طمأنينة الإيمان، وإما تخييرًا كالفطر في السفر، وإما أفضلية كقصر الصلاة في السفر عند الجمهور، وقد يأخذ بالعزيمة في عدم نطق كلمة الكفر عند الإكراه، أو بالصوم في السفر أو إتمام الصلاة عند الجمهور (2) .
أنواع الرخصة من حيث أداؤها:
والرخصة من حيث أداؤها تنقسم إلى قسمين:
الأول: رخصة فعل، وذلك بحسب حكم العزيمة، فإن كان فعل العزيمة يوجب تركًا، فالرخصة رخصة فعل، مثل ما إذا كان الحكم الأصلي نهيًا يفيد التحريم، وتكون الضرورة أو الحاجة تسوغ فعله رخصة، مثل أكل لحم الميتة أو الخنزير عند الضرورة أو شرب الخمر عند الغصة أو الإكراه الملجئ، ومثل المكره على نطق الكفر لأن فيه تلف النفس.
الثاني: رخصة ترك، إذا كان حكم العزيمة يوجب فعلاً، فالرخصة رخصة ترك مثل ترك الصيام للمريض في رمضان، ومثل ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا كان الحاكم بطاشًا ظالمًا فالرخصة السكوت، ومثل سقوط فرض الصلاة على المعذور (3) .
(1) شرح مختصر الروضة 1 / 465.
(2)
شرح مختصر الروضة 1 / 466، أصول الفقه للشيخ محمد أبو زهرة ص 51.
(3)
أصول الفقه للشيخ محمد أبو زهرة 53.
أنواع الرخصة من حيث التخفيف:
قسم بعض الأصوليين الرخصة من حيث التيسير على الناس والتخفيف عنهم إلى قسمين:
الأول: رخصة إسقاط، عندما يكون الأخذ بالرخصة واجبًا كأكل الميتة أو رفع التكاليف الشاقة التي كانت على الأمم قبلنا؛ فقد أسقط الحكم عنا.
الثاني: رخصة ترفه، عندما يكون الحكمان ثابتين، فله أن يأخذ بالرخصة وله أن يأخذ بالعزيمة كأكل المتولي من مال الوقف إذا كان محتاجًا أو أكل ولي الأيتام من مالهم إذا نمَّى أموالهم وكان محتاجًا، فلكل منهما أن يأكل من مال الوقف أو اليتيم أو لا يأكل، قال تعالى {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] .
وقد تكون الرخصة عامة للناس كلهم وهي في الأنواع الثلاثة التي بيناها، تكون خاصة لبعض الناس كما في النوع الرابع (1) .
دليل إباحة الرخص:
استدل لإباحة الرخص بالأدلة التالية:
أولاً – من النصوص:
قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173]، وقوله:{فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3]، وقوله:{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101]، وقوله {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] ، فكل هذه الآيات وغيرها دالة على إباحة الرخصة ورفع الحرج والجناح وجواز الإقدام على فعلها.
وقوله صلى الله عليه وسلم ((إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه)) (2) ، وورد في الحديث ((كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنا المقصر ومنا المتم)) (3) ، وروي عن عائشة ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر في السفر ويتم ويفطر ويصوم)) (4) .
وثانيًا:
التسهيل، التخفيف على المكلفين ورفع الحرج عنهم والتيسير عليهم، فيكون المكلف مخيرًا بين الأخذ بالرخصة أو العزيمة، وهذا أصله الإباحة في قوله تعالى {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] ، وقوله {مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] ، وقوله {وفَاكِهَةً وأَبًّا (31) مَتَاعًا لَّكُمْ ولأَنْعَامِكُمْ} [عبس: 31 – 32] ، وقال سبحانه {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28] (5) .
(1) الموافقات للشاطبي 1 / 207 – 211.
(2)
رواه أحمد ابن حنبل والبيهقي.
(3)
الموافقات 1 /211.
(4)
رواه الدارقطني والبيهقي.
(5)
الموافقات للشاطبي 1 / 210 – 211.
أسباب الرخص:
تعددت الأسباب التي أبيحت من أجلها الرخصة، فمنها:
1-
الضرورة: كأن يكون في حالة مخمصة ويخشى على نفسه الهلاك مثل أكل الميتة أو النطيحة أو شرب البول ولا يجد ما يأكله أو يشربه، لقوله تعالى:{فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ} [المائدة: 3] .
2-
رفع الحرج والمشقة: كإفطار العجوز الفاني في رمضان أو رؤية الطبيب عورة المرأة لمعالجتها؛ والحرج المعتبر في مشروعية الرخصة أن يكون مؤثرًا في المكلف، أو أن لا يكون له صبر عليها كالمرض الذي يعجزه عن استيفاء أركان الصلاة على وجهها.
استنادًا إلى قوله تعالى {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وقوله {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] ، والقاعدة الشرعية تقول " المشقة تجلب التيسير"(1) .
والمشقة – كما يقول ابن نجيم – قسمان: مشقة الصوم في شدة الحر وطول النهار، ومشقة السفر التي لا انفكاك للحج والجهاد عنها، ومشقة ألم الحد ورجم الزنا، وقتل الجناة، وقتال البغاة " فلا أثر لها في إسقاط العبادات في كل الأوقات". ومشقة عظيمة فادحة كمشقة الخوف على النفوس والأطراف ومنافع الأعضاء فهي موجبة للتخفيف (2) . ولكننا نقول بأن المشقة التي ذكرها يمكن أن تكون فيها الرخص في الإفطار عند عدم الإطاقة في الحر والسفر، قال صلى الله عليه وسلم:((ليس من البر الصيام في السفر)) (3) . وعند من اعتبر التيمم رخصة فهو بدل الوضوء في حالة الضرر من الغسل في البرد أو الغسل عند الجراحة.
حكم الرخصة:
وحكم الرخصة جواز العمل بها في مواضع الجواز، والإنسان مخير بين الأخذ بالعزيمة، كالصبر على العذاب وعدم النطق بكلمة الكفر، وبين الأخذ بالرخصة كالنطق بكلمة الكفر، ومثل الأخذ بالعزيمة في الصوم في السفر أو الإفطار.
والحديث النبوي الشريف وهو قوله صلى الله عليه وسلم ((إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه)) (4) ، وما روي عنه صلى الله عليه وسلم ((إنه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما)) (5) ، جعل الرخصة في موضع الإباحة والتخيير بعد الطلب الجازم بالفعل، تيسيرًا على الناس، ورحمة بهم وهو مقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية، كما استشهدنا بآيات اليسر ورفع الحرج (6) .
(1) الموافقات للشاطبي 1 / 217.
(2)
غمز عيون البصائر في شرح كتاب الأشباه والنظائر لابن نجيم 1 / 245 وما بعدها.
(3)
متفق عليه من حديث جابر بن عبد الله.
(4)
أصول الفقه للشيخ محمد أبو زهرة ص 54، والحديث رواه أحمد والبيهقي.
(5)
أخرجه البخاري.
(6)
التقرير على التحبير 3 /351.
ضوابط الأخذ بالرخص:
1-
أن لا يكون الأخذ بالرخصة لغرض فاسد، ومن هنا جاء منع تتبع الرخص (عند جماعة من العلماء كما سنذكر) لكف الناس عن الجري وراء الأسهل من غير دليل، والأصل أنه يجوز للعامي أن يأخذ في كل مسألة بقول مجتهد هو أخف عليه، لما روي عن عائشة ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب ما خفف على الناس)) (1) .
2-
أن لا يجمع بين الرخص على صورة تخالف الإجماع كمن تزوج بغير صداق ولا ولي ولا شهود، فإن هذه الصورة لم يقبل بها أحد من العلماء.
3-
أن لا يأخذ برخص متناقضة في الأمر الواحد (من اختلاف الفقهاء في اجتهاداتهم) كأن يأخذ بعدم نقض الوضوء بلمس المرأة (وهو رأي أبي حنيفة) ويأخذ بعدم نقض الوضوء بنزول الدم (وهو رأي الشافعي) الذي يرى انتقاض الوضوء باللمس، ويرى أبو حنيفة انتقاض الوضوء بنزول الدم عن موضعه.
4-
لا يجوز الأخذ بالأهون من كل مذهب مجتهد بحيث تنحل ربقة التكليف من عنق المكلف (2) .
تتبع الرخص في المذاهب ورأي الفقهاء والأصوليين فيه
هل يجوز تتبع الرخص في المذاهب؟
والرخصة هي الأخذ بالأسهل والأيسر، وتتبعها هو أن يأخذ من كل مذهب أخف الأحكام وأسهلها.
اختلف العلماء في ذلك:
1) فبعضهم ذهب إلى تحريمه: فقد نقل ابن حجر في تحفته الإجماع على منع تتبع الرخص.
وأباحه بعضهم بقيود كالقرافي الذي قال: إنما يجوز تقليد غير من قلده أولاً بشروط: كما إذا لم يترتب على تقليد ذلك الغير ما يجتمع على بطلانه عند الأول والثاني، مثال ذلك لو قلد الشافعي في عدم فرضية الدلك للأعضاء المغسولة في الوضوء والغسل، وقلد مالكًا في عدم نقض اللمس بلا شهوة للضوء فتوضأ ولمس بلا شهوة وصلى، إن كان الوضوء بدلك صحت صلاته عند مالك وإن كان بدونه بطلت عندهما (3) .
2) والروياني اشترط في التقليد ثلاثة شروط كما نقل القرافي في تنقيح الفصول:
1-
أن لا يجمع بينها على صورة تخالف الإجماع كمن تزوج بغير صداق ولا ولي ولا شهود، فإن هذه الصورة لم يقل بها أحد من المجتهدين، وإلى هذا ذهب العز بن عبد السلام (4) .
2-
أن يعتقد فيمن يقلده الفضل.
3-
عدم تتبع الرخص، وقد تعقب العلماء دعوى الإجماع بأنها غير صحيحة لأنها إجماع المتأخرين، وهم غير مجتهدين، وإجماع غير المجتهدين غير معتبر؛ على أن دعوى إجماع المتأخرين فيه نظر لأنهم لم يجمعوا جميعهم، والمجتهدون لم يصرحوا بشيء من هذا، ثم إن هذا الإجماع منقول بالآحاد وهو لا يوجب العمل عند الأحناف وعند بعض الشافعية، كما ذكر ذلك ابن ملك في شرح المنار (5) .
(1) التقرير على التحبير 3 / 351 والحديث أخرجه البخاري.
(2)
خلاصة التحقيق في بيان حكم التقليد والتلفيق للشيخ عبد الغني النابلسي (ص 4) طبع استنبول سنة 1406هـ – سنة 1986م.
(3)
التقرير والتحبير 3 / 352.
(4)
الفواكه العديدة 2 / 138، والتقرير على التحبير 3 / 352.
(5)
مخطوطة القول السديد صـ 32، والمنار لابن ملك صـ 259.
وتعقب القرافي قول الروياني بأنه إذا أراد بالرخص ما ينقض فيه قضاء القاضي وهو ما خالف الإجماع أو القواعد أو النص أو القياس الجلي فهو حسن، أما إذا أراد بالرخص ما فيه سهولة على المكلف كيف كان، يلزمه أن يكون من قلد مالكًا في المياه والأرواث وترك الألفاظ في العقود مخالفًا لتقوى الله، وليس كذلك، ثم الشرط الأول ليس بضائر فإن مالكًا لم يقل فيمن قلد الشافعي في عدم الصداق إن نكاحه باطل، وإلا لزم أن تكون أنكحة الشافعية بلا صداق باطلة عنده، ولم يقل الشافعي أن من قلد المالكية في عدم الشهود في النكاح باطلة أنكحتهم. وكيف نقول بصحة أنكحة الكفار إذا اعتقدوا صحتها في دينهم الباطل، ولا يقول الشافعي أو المالكي بصحة نكاح من قلد أحدهما.
وأما اعتقاد الفضل فمبني على منع تقليد المفضول، وهو مردود، لأنه ليس على العامي البحث على الأرجح من المجتهدين، إذ ليس له القدرة على ذلك، إلا إذا كان الرجحان من حيث ميل العامي إليه (1) ، قال الكمال بن الهمام " إن أخذ العامي بما يقع في قلبه أنه صواب أولى "(2) .
3) والرأي الثالث إباحة تتبع الرخص وهو ما ذهب إليه جمهور العلماء والمحققين كالكمال بن الهمام والقرافي وغيرهما، قال العز بن عبد السلام:" لا يتعين على العامي إذا قلد إمامًا في مسألة أن يقلد غيره في سائر مسائل الخلاف لأن الناس من لدن الصحابة إلى أن ظهرت المسائل يسألون فيما يسنح لهم العلماء المحققين من غير نكير، وسواء اتبع في ذلك الرخص أو العزائم "(3) .
(1) تحفة القول السديد صـ76.
(2)
المخطوطة صـ 16، والتقرير على التحبير 3 / 53.
(3)
الفواكه العديدة في المسائل المفيدة لأحمد بن محمد النجدي، من منشورات المكتبة الإسلامية الجزء الثاني / ص 128.
وذلك للآيات والأحاديث الواردة في قوله تعالى {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وقوله {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] ، وحديث عائشة في البخاري ((كان صلى الله عليه وسلم يحب ما خفف عنهم)) (1) ، وحديث ((إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه)) (2) .
قال العلماء: ولا يمنع من ذلك مانع شرعي لأن للإنسان أن يسلك الأخف الأسهل فيما يقع له من المسائل إذا وجد إليه سبيلاً بأن لم يكن عمل بآخر فيه.
ويحمل المنع على تتبع الرخص لغرض فاسد، وقد روي عن أحمد ابن حنبل في إحدى روايتيه جواز ذلك، ولا يلتفت إلى رأي من فسق متتبع الرخص فهو تشديد لا مبرر له وليس عليه من دليل. إذ المفروض أن يتبع الإنسان من القول أحسنه.
وقال عليه السلام فيما رواه الشيخان وغيرهما: ((إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين)) ، ولأحمد حديث بسند صحيح ((دينكم أيسره)) . وروى الشيخ نصر المقدسي في كتاب" الحجة " مرفوعًا ((اختلاف أمتي رحمة)) ، وفي المنهل عن البيهقي عن القاسم بن محمد أنه قال:" اختلاف أمة محمد رحمة "، وللبيهقي في " المدخل " عن عمر بن عبد العزيز قال:" ما يسرني أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا لأنهم لو لم يختلفوا لم يكن رخصة "، وأخرج البيهقي من حديث ابن عباس رضي الله عنه ((.. أن أصحابي بمنزلة النجوم فبما أخذتم اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة)) .
وقد روى السيوطي في الجامع الصغير عن عمر مرفوعًا: ((أفضل أمتي الذين يعملون بالرخص)) . وقد رد شارح التحرير (السيد بادشاه) على دعوى ابن عبد البر الإجماع على عدم تتبع الرخص.
(1) أخرجه البخاري.
(2)
رواه ابن حنبل 2 / 108، والبيهقي 3 / 140، وابن حبان.
التلفيق
التلفيق لغة: هو ضم شقتي الثوب إلى الأخرى وخياطتها، يقال: لفق الثوب (من باب ضرب) يلفقه لفقًا وهو أن يضم شقة إلى أخرى فيخيطهما، وقد لفقت بين ثوبين ولفقت أحدهما بالآخر إذا لاءمت بينهما بالخياطة، والتلفيق أعم. كما جاء في لسان العرب والصحاح للجوهري والقاموس للفيروزأبادي.
وهذا المعنى اللغوي هو أقرب المعاني للكلمة ما يوافق ما أراده الاصطلاحيون " بالتلفيق " فهو عند علماء الحديث (كما في كشف الظنون)" علم يبحث فيه عن الملاءمة والتوفيق من الأحاديث المتنافية ظاهرًا، إما بتخصيص العام تارة وإما بتقييد المطلق تارة أخرى، أو بالحمل على تعدد الحادثة، إلى غير ذلك من وجوه التأويل. وشراح الحديث يرددون كثيرًا لفظة التلفيق، قد يريدون بها التلفيق بين متون لأحاديث مختلفة ليتكون من مجموعها خبر واحد، كما صنع كل من البخاري وابن إسحاق في حديث الإفك "(1) .
وهو عند الفقهاء والأصوليين: " أن يأتي بكيفية لا يأتي بها مجتهد "(2) ، أو الجمع بين تقليد إمامين أو أكثر في فعل له أركان وجزئيات لها ارتباط ببعضها، لكل منها حكم خاص كان موضع اجتهادهم وتبيان آرائهم فيقلد أحدهم في حكم وآخر في حكم آخر فيتم التلفيق.
وهو ضربان: أحدهما:
تخير الأحكام الكلية للعمل والمعرفة والاطمئنان إلى الأرجحية من غير نظر إلى جزئيات تلك الأحكام وما يمكن أن يترتب عليها في النوازل المختلفة. وقد أجيز هذا النوع من غير تقييده بشرط (3) .
والنوع الثاني تلفيق التقليد في العمل وهو:
أن يكون هذا التخير للعمل به في نازلة معينة، وهو النوع الذي تكلم العلماء في جوازه أو عدم جوازه، وهو نوع من التقليد ومن شرط جوازه أن لا يلفق بين قولين تتولد منهما حقيقة واحدة مركبة لا يقول كل من الإمامين بها (4) .
وقد جاء في الدر المختار أن الحكم الملفق باطل بالإجماع (5) .
وأكثر العلماء على جواز التلفيق ودعوى الإجماع غير واردة فالبيجوري على جوهرة التوحيد وابن الهمام على أنه لم يثبت نص في تحريم التلفيق.
صورة التلفيق أن يقلد إمامًا في رأي في نازلة معينة، ويقلد إمامًا آخر في نفس النازلة كأن يقلد الشافعي في وضوئه من حيث عدم فريضة الدلك ويقلد مالكًا في لمس المرأة بشهوة فلا يصح وضوءه على مذهبيهما، وكأن يقلد أبا حنيفة في صحة الزواج بعبارة النساء، وحال قيام الزوجية طلق الزوجة بلفظ من ألفاظ الكنايات التي يقع بها البائن عند أبي حنيفة وقلد الشافعي في وقوعه طلقة رجعية فيكون عاملاً بقولين معًا في قيام زوجية واحدة. وكمن قلد أبا حنيفة في التزوج بلا ولي، ثم قلد الشافعي في ضرورة التزويج بولي يبقى عقد نكاح الأول صحيحًا.
فالتلفيق العملي لا يتحقق إلا حين العمل بالقولين أو بأحدهما مع بقاء الآثار اللازمة للآخر.
(1) انظر مقالاً للشيخ محمد أحمد فرج السنهوري في النشرة الأولى لمجمع البحوث 1 / 67.
(2)
تحفة الرأي السديد صـ 23.
(3)
مقال الشيخ محمد أحمد فرج السنهوري في مجلة البحوث 1 / 76.
(4)
شرح المنهاج للإسنوي 3 / 350.
(5)
رد المحتار 3 / 407، 4 / 648.
والتلفيق مسألة نشأت عند المتأخرين ولم تكن عند الأئمة المجتهدين ولا عند أهل التخريج، وأول من تكلم بها كما يقول الشيخ محمد أحمد فرج السنهوري هو القاضي نجم الدين بن علي الطرسوسي سنة 758 هـ إذ نقل أنه وقف على حكم لحسام الدين الراوي المنفي في سنة 681هـ حكم فيه بصحة وقف المحجور للسفه، ونفذ هذا قضاة من الحنابلة، وأن هذا الحكم أشكل عليه لأن القضية صارت مركبة من مذهبي أبي حنيفة وأبي يوسف. وأنه رأى في " منية المفتي " مثل هذا الواقعة المركبة من مذهبين وقد مضى فيها على الجواز، ثم أجازه العلامة أبو السعود العمادي سنة 983هـ وهو مفتي الروم ثم تبعهم العلماء في ذلك، وقد أجازه الكمال بن الهمام، والسيد الشريف محمد أمين الشهير بأمير بادشاه شارح التحرير المتوفى سنة 972 هـ.
وعندي رسالة مخطوطة للشيخ منيب هاشم مفتي مدينة نابلس، انتهى من تأليفها سنة 1307هـ عرضها على شيخ الشيوخ عبد الرحمن البحراوي الحنفي الذي كتب عليها " إن المؤلف قد بين الحق على الوجه الصحيح "، وهي مخطوطة بدار الكتب المصرية برقم 403 وقد وجدها الشيخ السنهوري وبين أنه انتصر فيها للتقليد انتصارًا موفقًا.
وقد أثار مسألة التلفيق من المالكية الشيخ الزناتي ونقل عنه القرافي المتوفى سنة 680هـ وكذلك الشاطبي وقد ذهبوا إلى منع التلفيق وتتبع الرخص، والشافعية تناولوا التلفيق كالقفال والمروزي والماوردي والشيرازي والغزالي والرافعي والنووي والسبكي، واختلفوا بين المنع والإجازة، فابن دقيق العيد أجازه شرط أن لا يقع في صورة يجمع على أنها باطلة.
وعز الدين بن جماعة المتوفى سنة 767 هـ يرى أن العبادة الملفقة من عدة مذاهب لا تجوز، وإلى ذلك ذهب الغزالي وأحمد بن حجر سنة 974هـ وادعى الإجماع على منعه (وهو غير صحيح) ، وإلى ذلك ذهب شهاب الدين أحمد بن عماد الدين الأقفهي في كتابه " تنبيه الحكام إلى أن التلفيق باطل بإجماع المسلمين".
والباجوري من الشافعية (شيخ الأزهر السابق) يقول في حاشيته على جوهرة التوحيد: فإن قلت: هل يجوز الانتقال من مذهب إلى مذهب؟ قلت: فيه ثلاثة أقوال: "يمتنع مطلقًا"، وقيل:" يجوز مطلقًا "، وقيل:" إن لم يجمع بين المذهبين على صفة تخالف الإجماع كمن تزوج بلا صداق ولا ولي ولا شهود فإن هذه الصورة لا يقول بها أحد "(1) .
(1) مقال الشيخ فرج السنهوري، مجلة مجمع البحوث – السنة الأولى سنة 1383هـ الموافق سنة 1946م.
وقد ناقش العلماء دعوى الإجماع وانتهوا إلى جواز التلفيق لعدم دليل يدل على المنع (1) من نص أو إجماع، وإلى هذا الرأي مال العلماء الكثيرون من الحنفية، ومن المتأخرين الشيخ السنهوري والشيخ عبد الرحمن القلهود من علماء مجمع البحوث الإسلامية؛ مستندين إلى إجازات العلماء في ذلك وإلى أن التلفيق أمر ضروري لاسيما ونحن على أبواب عمل تشريعي لتقنين الفقه والأخذ فيه بأيسر الآراء اعتمادًا على قوله تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، قال القلهود:" ومما تقدم يتضح أن تقليد أئمة المذاهب المعتبرة وعدم التقيد بتقليد مذهب أو قول معين أمر جائز، كما أن التلفيق بين أقوال المذاهب لا محذور فيه؛ وهذا بلا شك من اليسر في الدين "(2) .
ترجيح ما هو أحق بالاتباع
الترجيح: إثبات الفضل في أحد جانبي المتقابلين أو جعل الشيء راجحًا، ونحن بعد استعراض أقوال العلماء وأدلتهم في موضوع تتبع الرخص أو عدم تتبعها، وموضوع التلفيق بين الأحكام الاجتهادية أو عدم التلفيق؛ بين أمرين: التتبع أو عدم التتبع، وجواز التلفيق أو عدم جواز التلفيق؛ أرى الذهاب إلى جواز تتبع الرخص وهو الأخذ من كل مذهب بما هو الأخف والأسهل فيما يقع من المسائل، للأسباب والشروط التالية:
1-
أن يكون تتبع الرخص للعامي لا للمجتهد أو المرجح.
2-
أن لا يرتكب ما اشتهر تحريمه في الشرع فإن فعل يأثم، وأن لا يكون قد عمل بحكم آخر في نفس المسألة.
3-
أن لا يجمع بين الآراء التي يؤدي العمل بها إلى أن يكون عمله باطلاً في كل مذهب كأن يتزوج من غير ولي ولا شهود ولا إعلان. أو يأخذ بالآراء المتناقضة والنوادر كأن يعمل بالمتعة على رأي الشيعة، وبالسماع على رأي أهل المدينة، وإتيان النساء في أدبارهن على رأي بعض الفقهاء، وبأن يشرب النبيذ على رأي أهل الكوفة (3) .
4-
الحكمة من الرخصة التخفيف والتيسير والتوسعة على العباد شرعًا، وقد جاءت الأحكام الكثيرة المقررة لهذا، استنادًا إلى الآيات والأحاديث التي تقرر هذه الحكمة، وقد تعرضنا لها في أثناء البحث، بل إن الأحناف اعتبروا الترفيه على الناس من حكم الرخصة (4) .
(1) مقال للشيخ عبد الرحمن القلهود ص 96 من المجلة المذكورة.
(2)
مقال القلهود في الجزء الأول من نشرة مجمع البحوث ص 97.
(3)
إرشاد الفحول للشوكاني ص 272.
(4)
ميزان الأصول في نتائج العقول للسمرقندي ص 55.
5-
الضرورة اقتضت تشريع أحكام تخفيفية على الناس كالتيمم، أو ترخيصًا كإفطار المسافر، وذلك تيسيرًا على الناس ولا سيما ذوي الأعذار منهم.
6-
أسقط الله تبارك وتعالى المؤاخذة على من أخذ بالرخصة مع قيام الحرمة أو الوجوب، أو قيام السبب المحرم أو الموجب، فالأخذ بالرخص وتتبعها للتسهيل على الناس، لاسيما في أيامنا هذه، وقد خف فهم الناس للقواعد والأصول، وتأثروا بالثقافات الأجنبية فمالوا إلى التخفف من أحكام الشرع، وأصبحوا يعتمدون على العقل في الحكم على الأشياء، فإجراء أعمالهم على مقتضى الاجتهادات والأحكام الشرعية المخففة أولى.
7-
أجاز الفقهاء الاتباع للعالم (وهو التقليد عن دليل) وأجازوا التقليد للعامي، والعامي يعرف الحكم بسؤال العلماء ولا يعرف الدليل، ويأخذ برأي مفتيه ويعمل به، وقد يتعدد المفتون في الموضوع الواحد، وقد يفتي بما هو رخصة في كل مذهب ولا ضير عليه، شريطة ما ذكرنا من عدم ارتكاب ما هو مشهور بالتحريم.
8 – أجاز الكمال بن الهمام تتبع الرخص وهي جزئيات المسائل لا أجزاؤها (1) ، واعتمد في إجازته ذلك على أنه لم يرد أي نص من أي مجتهد على منع ذلك، والكمال بن الهمام من أهل الترجيح بل قد بلغ رتبة الاجتهاد، وهو أدرى بمذاهب المجتهدين، ولو كان هناك نص في مذهب أبي حنيفة لنسبه إليه، ويبعد كل البعد أن يكون كذلك ويجهله (2)، وقد جاء في كتاب التحرير:"ولا يمنع منه مانع شرعي بأن كان في غير ما عمل به، إذ للإنسان أن يسلك الأخف عليه إذا كان إليه سبيل، إن لم يكن عمل بآخر فيه، وكان عليه السلام يحب ما خفف عليهم "(3) ، وقال في فتح القدير " وأخذ العامي في كل مسألة بقول مجتهد أخف عليه، لا أدري ما يمنعه من العقل والنقل "(4) .
(1) اعترض الشرنبلالي من علماء الحنفية على تخصيص الرخص بجزيئات المسائل لا بأجزائها بأنه تخصيص من غير مخصص، إذ الرخصة السهولة، وهي تكون في جزئيات المسائل كالوضوء لقلة فروضه عند أبي حنيفة، وتكون في أجزائها أي متعلقاتها كعدم نقض الوضوء بالدم عند الشافعي وباللمس عند أبي حنيفة.
(2)
القول السديد في أحكام التقليد للشيخ منيب هاشم مفتي نابلس ص 25.
(3)
التحبير للكمال بن الهمام 3 / 351.
(4)
فتح القدير 6 / 361.
9-
ما نقل عن ابن عبد البر أنه لا يجوز تتبع الرخص إجماعًا، غير مسلم به، إذ شك العلماء في صحة ما نقل عنه، كما لم يسلم له بصحة الإجماع (1) وقد سبق أن ذكرنا أن للإمام أحمد روايتين في الموضوع، ولسنا مع ما ذهب إليه الروياني من أن شرط التقليد أن لا يتتبع الرخص إذا كان المقصود بها اتباع ما فيه سهولة على المكلف لا في مسائل القضاء.
وأما التلفيق فإني أرى جوازه اتباعًا لمن قال به من العلماء للأسباب التالية:
1-
لم يثبت نص في منع التلفيق من أحد المجتهدين أو أهل التخريج.
2-
الذين منعوا التلفيق هم عدد من العلماء المتأخرين، ولم يوافقهم على ذلك عدد آخر من العلماء كشيخ الإسلام أبو السعود، والكمال بن الهمام، وصاحب تنقيح الحامدية، وابن نجيم الذي جزم في رسالته في بيع الوقف بجواز التلفيق، ويشترط فيه ما اشترط في تتبع الرخص، أن لا يرتكب ما اشتهر بحرمته عند جمهور العلماء أو ما هو باطل في جميع المذاهب إذا ترك كل تقييدات وشروط المذاهب كلها.
وأختم بحثي بقول صاحب (القول السديد في أحكام التقليد) بعد أن استعرض أقوال المخالفين وأدلتهم: " وحيث لم يقم للمخالف على التقليد بعدم التلفيق استدلال، فاتق الله في تحريم ما دل إطلاق الدليل على أنه حلال، وكن ممن يعرف الرجال بالحق لا ممن يعرف الحق بالرجال، فماذا بعد الحق إلا الضلال "(2) .
وهذا هو الأوفق الأيسر في زمننا هذا، من جواز تتبع الرخص، وجواز التلفيق.
والله الموفق الهادي إلى سواء السبيل والحمد لله رب العالمين.
أ. د. عبد العزيز عزت الخياط
(1) التحبير للكمال بن الهمام 3 / 351.
(2)
القول السديد في أحكام التقليد ص 25.