الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حوادث السير
إعداد
الدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد
الأستاذ بالجامعة الإسلامية بماليزيا وممثل السودان
بسم الله الرحمن الرحيم
حوادث السير
(1)
مسؤولية السائق في حوادث السير (2) أثر هذه المسؤولية في التعويض والزجر والكفارة
ذكر الله تعالى نوعين من القتل في كتابه الكريم:
القتل العمد:
قال الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93] .
وبين عقوبته حيث قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) } [البقرة: 178 – 179] .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤكدا لهذا المبدأ القرآني العظيم: ((العمد قود إلا أن يعفو ولي المقتول)) .
وقال صلى الله عليه وسلم: ((من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يقتل وإما أن يفدي)) .
وقد اتفق فقهاء المذاهب الإسلامية على تعريف واحد للعمد المحض الذي يكون فيه الفاعل عامدا في فعله قاصدا النتيجة الضارة، وهو أن يكون القاتل بالغا عاقلا قاصدا إلى القتل وإلى المقتول، أي عامدا في فعله وقصده. وللحنفية آراء في نوع القتل بحسب السلاح الذي يستعمل في القتل، فإن كان بما يقتل به عادة فهو عمد وإلا فهو قتل شبه العمد.
القتل الخطأ:
القتل شبه العمد:
وأثبتت السنة نوعا ثالثا من أنواع القتل وهو شبه العمد. جاء في المغني ما نصه: "شبه العمد أحد أقسام القتل: وهو أن يقصد ضربه بما لا يقتل غالبا، إما لقصد العدوان عليه، أو لقصد التأديب له، فيسرف فيه؛ كالضرب بالسوط والعصا والحجر الصغير والوكز واليد، وسائر ما لا يقتل غالبا إذا قتل فهو شبه عمد؛ لأنه قصد الضرب دون القتل. ويسمى عمد الخطأ، وخطأ العمد لاجتماع العمد والخطأ فيه، فإنه عمد الفعل وأخطأ في القتل فهذا لا قود فيه، والدية على العاقلة في قول اكثر أهل العلم. وجعله مالك عمدا موجبا للقصاص، ولأنه ليس في كتاب الله إلا العمد والخطأ، فمن زاد قسما ثالثا زاد على النص، ولأنه قتله بفعل عمده فكان عمدا كما لو غرزه بإبرة فقتله. وقال أبو بكر من أصحابنا: تجب الدية في مال القاتل، وهو قول ابن شبرمة؛ لأنه موجب فعل عمد فكان في مال القاتل كسائر الجنايات.
ولنا ما روى أبو هريرة قال: اقتتلت امرأتان في هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم أن دية جنينها عبد أو وليدة وقضى بدية المرأة على عاقلتها، متفق عليه. فأوجب ديتها على العاقلة والعاقلة لا تحمل عمدا، وأيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم:((ألا إن في قتيل خطأ العمد - قتيل السوط والعصا والحجر - مائة من الإبل)) . وفي لفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((عقل شبه العمد مغلظ مثل عقل العمد، ولا يقتل صاحبه)) رواه أبو داود، وهذا نص، وقوله: هذا قسم ثالث، قلنا: نعم، هذا ثبت بالسنة والقسمان الأولان ثبتا بالكتاب، ولأنه قتل لا يوجب القود فكانت ديته على العاقلة كقتل الخطأ (1) .
نفى فقهاء المذهب المالكي والظاهرية وجود القتل شبه العمد (2) ، وقال به الجمهور من الشافعية والحنابلة والحنفية. وتوسع الحنفية في حالات القتل شبه العمد ذلك لعدم اعتبارهم القتل بالمثقل وغير المحدد والحجر والضرب بالعصا عمدا (3) . والشافعية والحنابلة مع أنهم قد أخذوا بمبدأ القتل شبه العمد إلا أنهم قد ضيقوا من حالاته (4) . وتجب الدية في مثل هذا القتل على العاقلة عند الجمهور.
(1) المغني لابن قدامة: 9 / 237 – 238، طبعة دار الكتاب العربي
(2)
المدونة الكبرى. كتاب الجراحات. ص 106، المحلى: 10 / 342
(3)
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع: 10 / 4617
(4)
مغني المحتاج: 4 / 3، وانظر نيل المآرب بشرح دليل الطالب: 2 / 100
ورجح بعض العلماء مذهب المالكية في عدم الأخذ بالقتل شبه العمد وقالوا: إن القتل شبه العمد هو القتل في عمية أو عصبية مع استعمال الحجارة أو السوط والعصا. وذلك لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((من قتل في عمية أو عصبية بحجر أو سوط أو عصا فعقله عقل الخطأ)) (1) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من قتل في عمياء أو رمياء فهو خطأ وديته دية خطأ)) (2) .
والقتل في عمية أو عصبية هو أن يصاب المجني عليه في معركة جماعية من شخص غير معلوم لكثرة المشتركين في المعركة وبشرط أن يكون بحجر أو سوط أو عصا أما إذا حمل سلاحا فهو عمد إذا عرف القاتل.
الجروح:
الأصل في حكم الجروح قول الله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) } [المائدة: 45] .
والواجب أخذ القصاص إذا طالب المجروح، ولكن يجوز القصاص في بعض الجروح والكسور دون بعض، ويجوز أن يعفو من له حق القصاص أو أن يعفو في مقابل الدية. وقد فصلت السنة الشريفة الدية تفصيلا كاملا شاملا حددت فيه مقدار دية النفس في العمد وشبه العمد والخطأ، وكذلك الدية لكل جزئية من أجزاء الإنسان. ومن السنة أن لا يؤخذ القصاص أو الدية إلا إذا استقر الضرر نهائيا وعرف نطاقه، وبالتالي معرفة مقدار الدية بتحديد نهائي واضح. وفي الأضرار البدنية ما يكون مستقرا منذ وقوعه مثل القتل وقلع سن الكبير، وبالتالي فإن الدية أو الأرش تكون واجبة منذ وقوع الضرر.
(1) أخرجه ابن ماجه، حديث رقم (2635)
(2)
أخرجه الدارقطني، حديث رقم (41، 42، 43، 46)
والجروح وخلع سن الصغير الذي لم يثغر بعد تعتبر جروحا غير مستقرة، وذلك لاحتمال سراية الجرح للنفس أو اتساع نطاقه وانتهائه إلى ضرر أكبر. وأساس هذا المبدأ أن رجلا طعن رجلا بقرن فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أقدني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حتى تبرأ، فأعادها عليه مرتين أو ثلاثا، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: دعه حتى تبرأ، فأقاده به، ثم عرج المستقيد فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: عرجت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألم آمرك أن لا تستقيد حتى يبرأ فعصيتني فأبعدك الله وبطل عرجك، ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بما كان به جرح أن لا يستقيد حتى يبرأ جرحه. فالشريعة الإسلامية بهذا قد اعترفت بالضرر المحتمل وبينت حكمه.
بعد هذا البيان الهام لأنواع القتل والجراحات في الفقه الإسلامي وما يجب أداؤه نتيجة كل منها نتعرض الآن لحوادث السير.
حوادث السير
تحدث فقهاء المذاهب الإسلامية عن حوادث السير تحت عناوين مختلفة، بعضهم تحدث عنها تحت عنوان مسؤولية السائق، والبعض الآخر تحدث عنها تحت عنوان جناية البهائم، وآخرون تحدثوا عنها تحت عنوان ما يحدثه الرجل في الطريق. وقد اختلفوا في مسؤولية راكب الدابة عما تحدثه الدابة وهي تسير في الطريق العام من وطء وكدم وصدم وهل يضمن الراكب أم لا؟ قال جمهور الفقهاء: إن الراكب يضمن لما أصابت الدابة، واحتجوا في ذلك بقضاء سيدنا عمر رضي الله عنه على الذي أجرى فرسه فوطئ فرسه آخر بالعقل. وخالف أهل الظاهر فلم يوجبوا الضمان على الراكب أو السائق لحديث النبي صلى الله عليه وسلم:((جرح العجماء جبار والبئر جبار والمعدن جبار وفي الركاز الخمس)) (1) . وقد حمل الجمهور الحديث على أنه إذا لم يكن للدابة راكب ولا سائق وهذا هو الصحيح، فإذا وجد الراكب فهو الذي سبب الضرر. وقد بين ذلك الإمام محمد بن الحسن الشيباني حيث قال:"العجماء: الدابة المنفلتة ليس لها سائق ولا راكب، تطأ رجلا فتقتله فذلك هدر"(2) .
واختلف الفقهاء في ما أصابت الدابة برجلها أو بذنبها، قال الشافعي رحمه الله:"إن الراكب يضمن ما أصابت دابته برجلها أو بيدها. وبه قال ابن شبرمة وابن أبي ليلى، وسويا بين الضمان برجلها أو بغير رجلها، وقال مالك: إن الراكب أو السائق ضامن لما أصابت الدابة إلا أن ترمح الدابة من غير أن يفعل بها شيء ترمح له، وقد قضى عمر بن الخطاب في الذي أجرى فرسه بالعقل"(3) .
(1) أخرجه البخاري وغيره
(2)
الآثار للإمام محمد بن الحسن الشيباني، (ص 100)
(3)
المنتقى في شرح الموطأ: 7 / 109
والرأي الغالب: هو أن راكب الدابة ضامن لما وطئت الدابة وما أصابت بيدها أو برجلها أو برأسها، أو كدمت، أو ضبطت، أو صدمت، ولا يضمن إذا نفحت الدابة برجلها أو بذنبها إلا إذا أوقفها في الطريق فإنه يضمن النفحة برجلها أو بذنبها لأن الإيقاف يمكن التحرز منه فصار متعديا بالإيقاف وشغل الطريق (1) .
أما النفحة فقد قال أكثر فقهاء المذهب الحنفي بعدم ضمان الراكب لها لعدم إمكانية التحرز من ذلك، إذا كانت برجلها أو بذنبها إذ ليس على رجلها ما يمنعها به بخلاف الكدم لإمكان كبحها بلجامها. وقد خالفهم في ذلك الشافعي، وقال بضمان الراكب النفحة بالرجل أيضا (2) .
وخلاصة قول الفقهاء: إن المرور في طريق المسلمين العام سواء أكان مشيا أو سيرا بالدابة وخلافها مباح ولكنه مقيد بشرط سلامة العاقبة وذلك من حق المار والمستعملين الآخرين للطريق العام. وقيد أكثرهم حق الضمان على الراكب بما يمكن الاحتراز منه ولا ضمان فيما لا يمكن الاحتراز منه. والنفحة وهي الرفس بالرجل والذنب لا يمكن الاحتراز عنها في حالة سير الدابة لأنها من خلفها فلا يتقيد بشرط السلامة (3) .
(1) الهداية: 4 / 111، حاشية ابن عابدين: 5 / 530، المنتقى شرح الموطأ: 7 / 109
(2)
الهداية: 4 / 111، الاختيار: 5 / 67
(3)
الاختيار بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد: 5 / 66. شرح درر المختار للأسكفي (ص 467) ، حاشية ابن عابدين: 5 / 529، درر الحكام في شرح غرر الأحكام 2 / 111، الهداية: 4 / 111، حاشية عميرة 4 / 148، بدائع الصنائع: 10 / 4070
ومن أهم ما اعتمد عليه فقهاء المذاهب الإسلامية في ترتيب هذه المسؤولية هو قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا ضرر ولا ضرار)) (1) . ووجه الاستدلال به أن الذي يمارس حقه عليه مراعاة ما يمكن احترازه من الإضرار بغيره.
وأيضا الأحاديث التي تضع قواعد خاصة باستعمال الطريق العام والأماكن العامة كالمساجد والأسواق، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:((من أوقف دابة في سبيل من سبل المسلمين أو في أسواقهم فأوطأت بيدها أو رجلها فهو ضامن)) (2) .
وجاء في كتاب الوافي: روى السكوني في الموثق عن الصادق عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أخرج ميزابا أو كنيفا، أو أوتد وتدا أو أوثق دابة، أو حفر بئرا في طريق المسلمين فأصاب شيئا فعطب فهو له ضامن)) (3) .
وروى الإمام محمد بن الحسن الشيباني في كتابه الآثار ما نصه: قال محمد: أخبرنا أبو حنيفة عن حماد بن إبراهيم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((العجماء جبار، والقليب جبار، والرجل جبار، والمعدن جبار)) . وشرح محمد بن الحسن رحمه الله هذا الحديث فقال: الجبار الهدر إذا سار الرجل على الدابة فنفحت برجلها، وهي تسير فقتلت رجلا أو جرحته فذلك هدر، ولا يجب على عاقلة ولا على غيرها. والعجماء الدابة المتفلتة ليس لها سائق ولا راكب تطأ رجلا فتقتله فذلك هدر. والمعدن والقليب الرجل يستأجر الرجل ليحفر له بئرا أو معدنا فيسقط عنه فيموت فذلك هدر ولا شيء على المستأجر ولا على عاقلته (4) .
(1) حديث صحيح أخرجه البخاري، الدارقطني، سنن ابن ماجه، وغيرهم
(2)
أخرجه الدارقطني والبيهقي
(3)
كتاب الوافي: 2 / 268
(4)
كتاب الآثار للإمام محمد بن الحسن الشيباني (ص100)
والحديث الذي شرحه الإمام محمد أخرجه كما ذكرنا من قبل أصحاب السنن الصحيحة كمسلم والبخاري وابن ماجه.
وهذا الحديث له أهمية كبيرة هنا إذ يفهم منه أن خلاف هذه الحالات مضمونة والمسؤولية على عاتق محدثها. واستدل المالكية زيادة كما ذكرنا بقضاء عمر بن الخطاب على من أجرى فرسه فوطئ (1)، قال الإمام مالك:"فالقائد والسائق والراكب أحرى أن يغرموا من الذي أجرى فرسه"(2) .
وبناء على ما ذكره العلماء الأجلاء نستطيع أن نتوصل إلى ما يأتي:
1-
يتضح أن حوادث السير والحركة في الطريق العام لا تقاس على القتل والجرح الخطأ مطلقا بل لها قواعد خاصة بها كما ظهر في معرض آراء الفقهاء أعلاه.
والقتل الخطأ إما أن يكون خطأ إيجابيا مباشرا وهو الذي يقع مباشرة بفعل إيجابي من الجاني كإطلاق الرصاص نحو صيد فيصيب آدميا، وإما أن يكون خطأ إيجابيا غير مباشر؛ وهو إحداث الضرر عن طريق التسبب كمن حفر حفرة في طريق المسلمين فتؤدي إلى ضرر بشخص، وهنا كما ذكرنا تتراخي النتيجة عن السبب.
(1) المنتقى شرح الموطأ: 7 / 109
(2)
المنتقى شرح الموطأ (ص 109)
وهذان النوعان يختلف الفقهاء في وجوب الدية أو الأرش فيهما. وحوادث السير والحركة في الطريق العام أقرب ما تكون إلى نوعين أخريين من الخطأ وهو الخطأ السلبي المباشر، وهو الضرر الذي يحدث من الدابة في الطريق بما يمكن التحرز منه، وفي هذا الضمان، وما لا يمكن التحرز منه فلا ضمان فيه كما بينا. وهنالك أيضا الخطأ السلبي غير المباشر وهو التقصير عن القيام بواجب معين يترتب عليه ضرر للغير. والرأي الغالب هو وجوب الدية أو الأرش إذا كان التلف الناتج عن سقوط الحائط هو قتل آدمي معصوم الدم أو جرحه، وتجب الدية على العاقلة إذا شهد بذلك الشهود ولكن إذا كان إقرارا فقط من الجاني فالدية في ماله (1) .
2-
إذا اتضحت براءة السائق في حوادث السير من أي إهمال أو تقصير من جانبه في حادثة لا يمكن التحرز منها فليس على السائق ضمان ألبتة؛ لأنه مستعمل لحق ثابت له ولم يكن خطأ أو تقصير من جانبه.
3-
وإذا نتج الموت أو الضرر نتيجة خطأ بين من السائق؛ كأن يخالف قواعد الحركة والمرور المعمول بها، كأن يتعدى السرعة القانونية أو يجتاز النور الأحمر أو يلف لفة خطأ، فهو مخطئ خطأ جنائيا يعاقب عليه تعزيرا بما تحدده القوانين من عقوبة رادعة.
والجانب الأول وهو ما سببه من ضرر مادي وبدني فيكون ضمان الضرر المادي كتكسير عربة الشخص الآخر في ماله ولا يتعداه إلى غيره.
والجانب الثاني هو ما سببه من موت أو جرح أو تكسير فيجب فيه الضمان. ذهب بعضهم إلى أن الضمان يكون في ماله، وذهب بعضهم أن تتحمله العاقلة، ونرجح أن يكون الضمان في ماله في هذه الحالة.
(1) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع: 10 / 4735
4-
إذا لم يخالف السائق أيا من قوانين المرور ولكن صدم بعربته عربة أخرى أو إنسانا أو وطئت عربته إنسانا، وكان ذلك مما يمكن التحرز منه وإن لم تكن هناك مخالفة لقواعد المرور فإن الواجب هو دفع الدية إذا كانت النتيجة الضارة هي قتل شخص والأرش إن كانت دون ذلك (1) . وذهب كثير من الفقهاء أن الدية تتحملها العاقلة، أما إذا وقع الضرر على غير إنسان كتهشيم عربة أو مرفق فإن جبر الضرر يكون من مال السائق، وعلى السائق الكفارة في حالة القتل، وفي رأي يحرم من الميراث إذا كان المجني عليه مما يرثهم السائق.
5-
إذا أخطأ السائق في حوادث المرور خطأ سلبيا غير مباشر، كأن أوقف عربته في مكان غير معهود، فتدحرجت فأحدثت حادثا؛ فإن كان هذا التدحرج نتيجة عطب في فرامل العربة ولم يصلحها أو لم يثبت الفرامل بالطريقة المطلوبة في حالة الوقوف في مكان متدحرج، فقد استحسن كثير من الفقهاء دفع الدية أو الأرش أو جبر الضرر المادي غير البدني الناتج عن الحادث. والدية والأرش مما تتحمله العاقلة، وجبر ما عدا ذلك يكون في ماله.
6-
كلمة أخيرة: وهي أن الفقهاء عرفوا العاقلة بتعريفات مختلفة فقال بعضهم إنهم أهل ديوان الجاني أو حرفته وبالعدم عشيرته، وقال فريق: عاقلة الجاني هم عشيرته وقبيلته، وقال فريق: أن عاقلة الجاني هم عصبته، وقال فريق: إنها أهل حرفة الجاني وأهل مهنته (2) .
وكما هو معلوم فإن مبدأ العاقلة يكون أساسا لشركات التأمين الإسلامية المعمول بها في عدد من البلدان الإسلامية. وهذه الشركات طالما أن المقصود منها التعاون والتعاضد عند الحاجة وأنها خالية من شبهة الربا أو المقامرة أو التكسب فإنها تكون حلالا مقبولا، بل مبدأ يحث عليه حتى تطمئن قلوب الناس، خاصة في هذا الزمان الذي كثرت فيه المركبات الخاصة والعامة وأصبحت على الأرض ومن فوقها وفي البحار، بل إن بعض البلدان لجأت إلى مبدأ التأمين الإجباري بأخذ مبلغ معين كل عام من كل مالك لعربة، وهو أيضا مبدأ مقبول وزيادة في التأمين والطمأنينة.
أما الكفارة فتكون بصيام شهرين متتابعين على السائق توبة من الله عليه، وهذا أمر متروك بينه وبين ربه عالم السر وأخفى. وكما هو معلوم فإن عتق النفس المؤمنة وهو المطلب القرآني الأول غير متيسر الآن.
والله ولي التوفيق
الدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد
(1) حاشية العدوي على شرح أبي الحسن لرسالة ابن أبي زيد: 2 / 284، الجوهرة المنيرة: 2 / 136
(2)
البحر الرائق: 8 / 456
المناقشة
بسم الله الرحمن الرحيم
حوادث السير
العارض: عبد القادر العماري:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين وبعد.
فأحيي هذه الدولة المضيافة ملكا وحكومة وشعبا، وأحيي الرئاسة والأمانة العامة على مجهودهم لعقد هذه الدورة. البحث كما هو في عنوانه: حوادث السير، وأعتذر مع الأسف عن الأخطاء المطبعية واللغوية الكثيرة بسبب ذلك الاستعجال وعدم التمكن من المراجعة، كما أعتذر للإخوة المشاركين بأبحاثهم في نفس الموضوع عن عدم الإلمام بأبحاثهم، لأنها جاءت متأخرة ولم أجد الفرصة الكافية، ولكن كلنا جميعا كما جاء في الحديث، حواليها ندندن.
تعرضت في المقدمة إلى ما وقع فيه بعض القانونيين العرب تبعا لأساتذتهم الفرنسيين من خطأ عندما زعموا أن الفقه الإسلامي ليس فيه شيء عن قضايا الخطأ والإهمال، وأن الآية الكريمة التي ذكرت قتل الخطأ قد خيرت الجاني بين أن يدفع التعويض أو يصوم شهرين، وأرادوا أن يجاملوا فقالوا: لأن العصر الإسلامي يتميز بأنه عصر ديني يؤمن فيه الناس بالله ورحمته ويطلبون غفرانه، وأن البلاد الإسلامية ومصر خاصة لم تعرف محاكمها قضايا الخطأ والإهمال إلا بعد التشريعات الفرنسية، وفندت هذه الدعوى، وكيف أن العز بن عبد السلام قد كان رئيسا للقضاة في مصر إذ ألف كتابا في الأحكام وتعرض لمثل هذه القضايا.
وأدخل في البحث فأقول: لا شك أن حوادث السير التي تسببها المركبات الميكانيكية في الطرق العامة هي من الأمور المحدثة في المجتمعات بعد أن اخترعت تلك المركبات لتكون وسيلة للنقل بدلا من الدواب التي كانت وسائل للنقل في تلك العصور السابقة، وقد ترتب على سير هذه المركبات في الطرقات العامة أحداث وإصابات جسمانية ومادية، مما وطد الحكم بالديات والأروش والتعويضات والكفارات والتعزيرات بحسب كل حادثة على حدة، ومن الواضح أن هذه الحوادث تندرج في أغلبها تحت عنوان الخطأ والإهمال، فإذا أدى الحادث مثلا إلى موت شخص بصدمة بالسيارة نقول هنا: إن سائق السيارة قد قتل الشخص الخطأ فيغرم الدية وعليه الكفارة، وهذا الحكم واضح في الآية:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} [النساء: 92] إلى آخر الآية، والذي ينبغي أن نعرض له في هذه العبارة هي المواضيع الآتية، ولذلك أعرضت عن كثير مما جاء في البحث؛ لأن هذه المواضيع هي المهمة وهي التي نريد فيها توصيات من المجمع الموقر:
أولا: العاقلة، ثانيا: الكفارة، ثالثا: دية غير المسلم، رابعا: التسبب والمباشرة، خامسا: اعتراض البهائم للسيارات في الطرق العامة، سادسا: تحمل بيت المال للدية في بعض الحالات، سابعا: جواز وضع نظام للعقوبات فيه التعزير بالمال أو غرامات مالية كما تسمى.
أولا – العاقلة:
العاقلة عند جمهور الفقهاء: هم العصبة من الذكور، وعند الأحناف ورواية للمالكية: هم أهل الديوان إن كان الجاني من أهل الديوان، وإلا فعاقلته عصبته، لقد أصبح من الصعوبة بمكان في هذا العصر أن تؤخذ الدية من العاقلة، وإذا قلنا: إنها تؤخذ من الجاني عند تعذر العاقلة، فأغلب الذين يرتكبون قتل الخطأ في حوادث السيارات هم من الفقراء الذين لا يستطيعون دفع الديات، كما أنه ليس في الإمكان أن نقول: أن تقوم الدولة بدفع الديات اعتمادا على القول بأن يدفع بيت المال الدية عند تعذر العاقلة.
ويرى الأستاذ عبد القادر عودة رحمه الله أن تقوم الحكومة بفرض ضريبة عامة يخصص دخلها لهذا النوع من التعويض، وتستطيع أن تفرض ضريبة خاصة على المتقاضين لهذا الغرض. وقال: إذا كانت الحكومات العصرية تلزم نفسها بإعانة الفقراء والعاطلين فأولى أن تلزم نفسها بتعويض ورثة القتيل المنكوبين، وقد سبقتنا بعض البلاد الأوروبية إلى هذا العمل فأنشأت صندوقا لتعويض المجني عليهم في الجرائم، ويأتي في إيراده من المبالغ المتحصلة من الغرامات التي تحكم بها المحاكم، وهذا هو بالذات ما قصدته الشريعة الإسلامية من نظام العاقلة، والذي نراه أن النقابات في هذا العصر يمكن أن تقوم مقام العاقلة في البلدان التي فيها نقابات. وتقبل أن تقوم بذلك، كما أن التأمين التعاوني أيضا يمكن أن يقوم مقام العاقلة، لكن إذا لم يكن هناك تأمين تعاوني هل يجوز للمسلم أن يؤمن ضد حوادث السيارات عند شركات التأمين التجارية باعتبار أن ذلك ضرورة وحاجة ملحة تقتضيها حاجات الإنسان الضرورية في هذه الحياة، خاصة في حالة إلزام الدولة بالتأمين لكل من يريد أن يسوق سيارة؟ أعتقد أن ذلك جائز للفرد، لأنه لا حلية له، وإذا كانت هناك مسؤولية فهي على المسلمين جميعا، بوقوفهم موقفا سلبيا، فلم يضعوا حلولا مناسبة عملية تتفق مع شريعتهم، وأعتقد أن هذا لا يتعارض مع ما اتخذه المجمع من قرارات فيما يتعلق بعدم جواز التأمين التجاري، فهذا أمر محصور للحاجة في حالة معينة، هذا عن العاقلة.
ثانيا – الكفارة:
فكفارة قتل الخطأ – كما هو معروف وموضح في الآية الكريمة: عتق رقبة فإن لم يستطع فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع الصيام فليس فيها إطعام إلا في رواية للإمام أحمد، وقول الشافعي قياسا على كفارة الظهار، وللأستاذ عبد القادر عودة رأي يقول: إن الكفارة بعد إلغاء الرق لا تكون بعتق رقبة، وإنما تكون بالتصدق بقيمة الرقبة إذا كان لدى القاتل ما يفيض عن حاجته، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين؛ لأن معنى عدم الاستطاعة هي عدم توفر المال عنده لشراء الرقبة فيكون عليه الصيام بعد ذلك، أي إذا لم يستطع قيمة الرقبة، ويقوم ولي الأمر بتحديد قيمة الرقبة بمبلغ معين، وليكن مثلا نصف الدية، والسؤال هنا: هل يمكن أن نقول بالإطعام قياسا على الظهار في حالة عدم استطاعة الصيام، بأن تكون الكفارة إطعام ستين مسكينا أو نقول برأي الأستاذ عودة في موضوع الرقبة فتكون قبل الصيام؟ هذا الموضوع الثاني.
ثالثا – دية غير المسلم:
من المعروف أن هناك خلافا بين الفقهاء في دية الذمي، فقال الأحناف: إن دية الذمي مساوية لدية المسلم سواء بسواء، سواء كان من أهل الكتاب أو من غير أهل الكتاب، وقال المالكية والحنابلة والزيدية والإباضية: إن دية الكتابي على المسلم مثل دية المسلم، وغير الكتابي كالمجوسي ثمانمائة درهم، أي ثلث خمس دية المسلم، وقال الشافعية: أن دية الكتابي ثلث دية المسلم، والمجوسي ثلث خمس دية المسلم، أي ثمانمائة درهم، وقال الشيعة الإمامية: إن دية اليهودي والنصراني والمجوسي ثمانمائة درهم بلا تفرقة بين الكتابي والوثني، ولعل القول الأجدر بالترجيح هو قول الأحناف بأنه لا فرق بين دية المسلم وغير المسلم؛ لأن هذا القول يتفق مع ظاهر الآية وهو قوله تعالى:{وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] . إذ المراد حسب الظاهر بقوله تعالى في قتل المؤمن: {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} ، أما الآثار والأحاديث الواردة في هذا الموضوع، فكل له أثر أو حديث يؤيد رأيه الذي يحتج به، لكنها لم تبلغ مبلغ الصحة بحيث يتفق الأئمة على صحتها، ما عدا حديث:((لا يقتل مسلم بكافر)) ، وقد حمل أبو حنيفة الكافر هنا على الكافر الحربي، كما أن السياسة الشرعية إظهار عدالة الإسلام يقتضيان أن نقول بهذا الرأي.
رابعا – السبب أو المباشرة:
لا يخفى ما في حركة السيارات من دور لا ينكر في حوادث السير مما يحتم على القاضي تحمل مسؤولية الموازنة والمقارنة ليتبين إلى من ينسب الحادث حقيقة، فليس من العدل أن يتحمل السائق المسؤولية لمجرد المباشرة. فبعض القضايا لا يسوغ فيها اختلاف وجهات النظر بحجة أن هذا متسبب وهذا مباشر، فلا مجال للاحتمالات واختلاف وجهات النظر في مثل أن تأتي سيارة من شارع فرعي وتدخل فجأة إلى الشارع العام الذي تكون فيه السيارة آتية في طريقها الصحيح. فتعترضها السيارة الآتية من الشارع الفرعي فيصدم سائق السيارة التي تسير في الشارع العام السيارة التي اعترضتها والتي خرجت من شارع فرعي، فإنما القضاة لم يعتبروا الصادم هو المسؤول باعتباره المباشر للصدم اعتمادا على القاعدة الفقهية التي تقول: إذا اجتمع المباشر والمتسبب يضاف الحكم إلى المباشر، والمباشر ضامن وإن لم يتعمد.
إذا كان من المسلم به في الفقه الإسلامي أن لولي الأمر حق وضع الأنظمة والقوانين التي تنظم حياة الناس وتحفظ أرواحهم وممتلكاتهم، ألا يكون من الحق أن تحدد تلك الأنظمة والقوانين الحالات التي يكون فيها سائق السيارة مسؤولا عن الحادث؟ !
خامسا – اعتراض البهائم للسيارات في الطرق العامة:
لا نجد نصا فقهيا واضحا في هذا الموضوع، وفقهاؤنا في ذلك معذورون، لعدم وجود السيارات في عصرهم، وقد اقتصر بحثهم على ما تحدثه البهائم مستندين إلى حديث البراء بن عازب:((قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها وأن حفظ الماشية على أهل الماشية)) ، وحديث:((العجماء جبار)) وعلى ضوء ذلك نتساءل: هل بإمكاننا أن نجعل إهمال صاحب الناقة مثلا لناقته بتركها تذهب إلى طريق السيارات سببا لأن يتحمل مسؤولية ما يترتب على اعتراضها للسيارات وما تسببه من حوادث؟
نجد هنا قرارا لهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية يقول: "عدم ضمان البهائم التي تعترض الطرق العامة المعبدة بالأسفلت إذا تلفت نتيجة اعتراضها الطريق المذكورة، فصدمت فهي هدر، وصاحبها آثم بتركها وإهمالها، لما يترتب على ذلك من أخطاء جسيمة تتمثل في إتلاف الأنفس والأموال، وتكرار الحوادث، ولما يترتب على حفظها وإبعادها عن الطرق العامة من أسباب السلامة وأمن الطرق والأخذ بالحيطة، وحفظ الأموال والأنفس تحقيقا للمقتضى الشرعي وتحريا للمصالح العامة، وامتثالا لأوامر ولي الأمر".
هذا القرار حل جزءا من المشكلة، وهو إهدار البهيمة على صاحبها، وعدم استحقاقه لشيء مقابل تلفها، وهذا يعني أن هيئة كبار العلماء ضمنت مالك البهيمة قيمة بهيمته عندما قررت أنها هدر، ألا يمكن أن نقول: إنه أيضا يضمن ما سببته بهيمته بسبب إهماله لها من أضرار أخرى ترتبت على الحادث، فيما لو أدى الحادث إلى موت سائق السيارة فيضمن الدية، ويضمن التلف الذي حصل بالسيارة؟ وما الذي يمنع من ذلك خاصة إذا أمر ولي الأمر أصحاب المواشي أن يحفظوا مواشيهم ولا يهملوها، وأنذرهم بأنهم يتحملون المسؤولية في حالة دخول أي بهيمة إلى الطريق العام الذي تسير فيه السيارات؟ وإذا كانت هيئة كبار العلماء قد صرحت بأن مالك البهيمة يأثم في هذه الحالة، ألا يمكن أن يترتب على هذا الإثم مسؤولية حقوقية نحو الآخرين الذين تضرروا بسبب هذا الحادث؟ !
سادسا – تحمل الدولة للدية:
فكثيرا ما تراق الدماء في حوادث السير وتذهب هدرا، وبما أنه لا يبطل دم في الإسلام، كما قال سيدنا علي رضي الله عنه، فإن الواجب أن تتحمل الدولة دية القتيل في مثل هذه الحوادث، فمثلا لو أن سيارة مجهولة صدمت شخصا ولم يتعرف عليها فالدية على الدولة، ففي خلافة عمر رضي الله عنه دفع دية رجل قتل في زحام ولم يعرف قاتله، ودفع النبي صلى الله عليه وسلم دية الأنصاري الذي قتل بين اليهود.
فالمطلوب من المجمع الموقر أن يؤكد هذا الحكم.
سابعا – التعزير بالمال أو العقوبات المالية:
إذا قلنا: إن لولي الأمر أن يضع الأنظمة والقوانين التي تكفل تنظيم السير للمحافظة على أرواح الناس وممتلكاتهم، فهل له أن يضع عقوبات مالية، وبالمعنى الفقهي: هل يجوز التعزير بأخذ المال؟
بينت في بحث الأدلة التي تجيز التعزير بالمال ولا داعي لتكرارها هنا، غير أني ألفت النظر أن هناك مخالفات لا ينبغي أن يكون التعزير لها بالسجن أو الجلد، وإذا كان الفقهاء الذين منعوا التعزير بالمال قالوا: إن السبب في ذلك هو حرمة مال المسلم نرى أن حرمة المسلم نفسه أعظم من ماله، فإذا ارتكب خطأ بسيطا فلا ينبغي أن تنتهك حرمته بالسجن أو الجلد، وكل شخص يفضل أن يدفع قدرا من ماله فلا يدخل في السجن ولا يجلد، فالسجن والجلد ينبغي أن يقتصر على الجرائم التي يستحق مرتكبها العقوبة الشديدة، ومن هنا تجدني في اختلاف مع الزميل المشارك الأستاذ محمود شمام الذي قال في بحثه: إن هناك إجماعا على عدم جواز التعزير بالمال، ونقل عن بعض فقهاء المالكية الإجماع.
أردت أن ألخص وأقتصر حتى يشترك الإخوة في النقاش والوصول إلى حل لهذه المسائل المهمة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الشيخ خليل الميس:
بسم الله الرحمن الرحيم
نشكر فضيلة الشيخ عبد القادر العماري على ما تقدم به، وكنا نتمنى لو كان حرفه كنطقه، ولو كان حرفه في الطباعة كنطقه لاستفدنا أكثر فأكثر.
هنالك استدراك وحيد في الحقيقة لا بد منه، ما دمنا قد تطرقنا إلى العاقلة لا بد من تحديدها حتى لا نبقى في فراغ؛ لأن العاقلة شرعت مرجعًا في الفقه الإسلامي، وهذا المرجع قد تغير والمفهوم قد تغير، وحبذا لو كان هناك تحديد من هو المسؤول في هذه الحالة. وأمر آخر، هذا إذا كان السائق مسلما وفي بلده، أما إن كان في غير بلده ما الحكم؟ وإن كان السائق غير مسلم فما الحكم؟ هناك ملاحظة أخرى: بالنسبة لقيمة الرقبة لأول مرة أسمعها، ولم نقرأها: أنه يعدل عن الرقبة إلى قيمتها، بينما الشرع ينتقل من الرقبة إلى أمر آخر، ولم يقل في قيمتها أحد من الفقهاء على ما أعرف، ولكن لاحظت – وقد تصفحت – لا أقول عقوبة بل استدراكا لما فاتنا في الجلسة الأولى في كل الأبحاث فأقول:
أولا: بالنسبة للأستاذ شمام، حكم القتل الناجم عن حوادث السير هل يعتبر قتل عمد أو شبه عمد أو خطأ؟ هذا مغفل عنده، وحكم الدية في القتل لم يرد على ما ذكره الدكتور محمد عطا السيد في البند الثالث عنده، لم يذكر موجب القتل بالنسبة للصوم، هل يصوم هذا السائق أم لا؟ فذكر وجوب الضمان المادي والزجر وسكت عن حكم الصوم ما دام القتل خطأ.
ثانيا: عندما ذكر العاقلة وأقوال العلماء فيها كان ينبغي أن يميز بين السائق المحترف والسائق غير المحترف، وهنا أود أن ألفت الانتباه، عندنا سائق وظيفته القيادة، أي قيادة السيارات، وعندنا سائق ليست له وظيفة، إذ قلنا: إن نقابة السائقين هي عاقلة السائق المسجل بأنه سائق محترف فيبقى السائق غير المحترف مالك السيارة كأي أحد منا وهو لا ينضم إلى هذا، وهل تعتبر نقابة السائقين عاقلة السائق المحترف أم لا؟ لذلك اقتضى التفكير.
ثالثا: ما حكم من أصيب بعطل دائم أو من مات معه في السيارة وكان السائق أحد الورثة لذلك الميت في الحادث؟ هذا مسكوت عنه.
رابعا: ما الحكم إذا مات السائق المخطئ في الحادث، وأفاد الخبراء أنه لا يتحمل كامل المسؤولية؟ في الحقيقة: كنا نتمنى أن يكون بين يدي الباحثين أمران: أحدهما: الأحكام التي صدرت في المحاكم التي أوردها بعض الإخوة، أمر آخر: أيضا أن يكون بتصرفهم قوانين السير، السير له قوانين تحكمه، فيبدو أن جميعنا أو الإخوة الباحثين قرؤوا كل ما في الفقه الإسلامي، وربما لم يتمكنوا من قراءة قوانين السير، وهذا شيء مهم؛ لأن الذي يخالف قوانين السير ما الذي يحصل له؟ وهو شيء مهم، حتى أن أخانا الشيخ العثماني فاتته هذه، رغم عمق بحثه.
خامسا: لم يميز كافة الباحثين عن أوجه الفرق بين حوادث السير فيما يعرف بالطرقات الدولية والطرقات الخاصة، وإن ذكر البهائم التي وردت أظن أن ذلك في الطرقات الدولية، سواء في المملكة أو في الجزيرة، لأنها طرقات واسعة، ومعروف أن الدولة تقوم ببعض الصيانة للطرقات حتى لا تصل إليها البهائم، فإذن تكلم عن هذا ولم يتكلم عنها في مكان آخر، وكان يحسن الاطلاع على قوانين السير كما ذكرت، وهل مخالفة قوانين السير بمثابة مخالفة الأحكام الشرعية أم لا؟. نعرف أن الخبراء يقيسون، يأتي الخبير ويقيس المسافات ويحكم بما تمليه القوانين عندهم، ومن المعلوم في كل القوانين الدولية أنه عند حصول أي حادث سير يستدعى الخبراء لتحديد المسؤولية أولا، ولا يستدعى الفقهاء، ولا نقول: إن هذا يخرج الموضوع عن نطاق مسؤولية الفقهاء.
سادسا: هناك فروق عديدة وواضحة بين السيارة والدابة، ولا تخفى على أحد، ويمكن إجماله بأن السيارة إنما يضاف تحركها إلى السائق بكل وجه، بخلاف الدابة كما هو معروف. كما تكلم في مقدمته وما إلى ذلك.
بالنسبة للدكتور العثماني: فوجهت دراسته القيمة بشيء من التفصيل إلى المسؤولية المادية وسكت عن حكم القتل الناجم عن ذلك التسبب أو المباشرة ولزوم الدية، كما سكت عن حكم الكفارة، وكذلك لم يشر إلى نماذج من قوانين السير، كما أحاط إلى حد كبير بقواعد فقهية من مظانها والتي نص عليها الفقهاء بسير الدواب، وما إلى ذلك وشكرا. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الشيخ عبد الله البسام:
بسم الله الرحمن الرحيم
أشكر فضيلة المحاضر الشيخ عبد القادر على محاضرته، وأؤيد رأيه من أن على المجلس أن يتخذ قرارا، وهذا القرار يدين أصحاب البهائم التي تعترض الطرق البرية، لأنه يحصل في هذا فجائع في إتلاف الأنفس قبل إتلاف الأموال. فيحسن بالمجلس أن يصدر قرارا بهذا، بأن أصحاب البهائم التي تعترض بهائمهم لسير السيارات ولا سيما بالليل أنهم غارمون، وأنهم يجب عليهم تسليم الديات، هذا من ناحية، أما بخصوص العاقلة وما نقله من الشيخ الأستاذ عبد القادر عودة هذا في رأيي فيه ملاحظات:
الأولى: نعم في صدر الإسلام لما كانت العاقلة في زمن النبي عليه الصلاة والسلام والصحابة كان الإسلام محصورا في الجزيرة العربية وهي قبائل، أما بعد تدوين الفقه من العلماء فحال المسلمين لا تختلف عن حالها، فيهم ناس ينتسبون إلى قبائل واسعة وكبيرة، وفيهم أيضا جهات لا تنتسب وإنما هي عشائر معروفة وإن كانت من غير العرب فهي كذلك عشائر معروفة، وبناء عليه فإني أرى ما يراه الجمهور، جمهور أهل العلم من أن العاقلة تبقى هي العاقلة، وإن العاقلة لا تكون فيمن يشتركون مثلا في مهن أو يشتركون في أعمال، هذا يصلح أن يكون مثلا تأمينا تعاونيا فيما بينهم ولكننا لا نسميها عاقلة، فالعاقلة باقية على حكمها، والعاقلة يلاحظ فيها أمور: ملاحظ فيها العصبية فيما بين الأقارب، فإنهم يأسو بعضهم بعضا ويتعصب بعضهم لبعض، الأمر الآخر: إن فيها لحمة نسبية، ولحمة النسب لها جذورها ولها أصولها، وهذا كلمه مفقود في المشاركين في المهن والأعمال.
الثانية: أنه ملاحظ فيها صلة الرحم، وصلة الرحم عبادة، والله جل وعلا يقول – في الحديث القدسي -:((والله لأصلن من وصلك ولأقطعن من قطعك)) فالعاقلة هذه أيضا من صلة الرحم فيما بين الأقارب، وملاحظ فيها أمور كثيرة كلها متعلقة بالقرابة ولا تتعلق بالمهن، أما أصحاب المهن وأصحاب الحرف ليس بينهم هذه الروابط، وليس بينهم هذه العلاقات وليس بينهم هذه الجذور والأنساب أبدا، هذه أشياء مؤقتة، وإنما فيما أرى أن المجلس الموقر يصدر أمره في ذلك بأن العاقلة هي العاقلة، والآن والحمد لله، حتى في غير جزيرة العرب ومصر والشام وفي غيرها من البلدان في آسيا وأفريقيا أسر معروفة، وتستطيع أن تتحمل العاقلة، والعاقلة تحميلها أمر معروف، القاضي إذا أراد أن يحمل العاقلة رأى إلى الأدنين من الإخوان والأعمام، فإن حملت ووسعت الدية أحوالهم أخذها منهم، وإلا اتسع إلى ما فوقهم من أعمام الأعمام وأبناء العم البعيدين إلى آخره حتى تتم لهم الدية، يحمل كل إنسان بما يطيقه.
أنا أرى أننا نبقي هذا الحكم، وهو أن العاقلة النسبية العصبية هي التي تتحمل دية الجاني الخاطئ، وشكرا.
الرئيس:
أرجو السماح لي بالتدخل في موضوع أثاره الشيخ عبد القادر وثنى عليه فضيلة الشيخ عبد الله في قضية تغريم صاحب الدابة، لا شك أن هذا الموضوع من الأهمية بمكان، وأنه ينبغي أن يخرج من المجمع سواء في هذه الدورة أو في دورة لاحقة بقرار لأهميته وكثرة الاختلافات التي تحدث بسببه، لكن هل يصح هذا على إطلاقه؟ فمثلا لو كان الجمل شاردا وأثبته مالكه، أثبت شروده فما رأي الشيخ؟
الشيخ عبد الله البسام:
هذه المسائل تعرض على القضاء ويصدر فيها حكم شرعي من القاضي ومن بعد القاضي هيئة التمييز وهكذا.
الرئيس:
المهم أن الموضوع ليس على إطلاقه.
الدكتور محمد عطا السيد:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، اللهم صل على محمد عبدك ورسولك.
أولا: أحمد الله عز وجل الذي وفقنا في إدراج هذا الموضوع – وهو موضوع هام وحساس جدا ويهم كثيرا من الناس – من ضمن موضوعات هذه الدورة.
وأبدأ فأقول: إن كثيرا من الفقهاء أو كثيرا من الناس الذين يبحثون في هذا المجال كلما تعرضوا لحوادث الحركة أو حوادث السير في الطريق يقيسون قياسا مطلقا على قتل الخطأ، ولكن بالرجوع إلى كتب البحث، والكتب التي كتبت في هذا المجال نجد أن السابقين من الفقهاء فرقوا بين قتل الخطأ مطلقا وبين هذه الحوادث وتكلموا عنها كأنما هي شيء منفصل، وشبهوها بأنها أقرب ما تكون إلى الخطأ السلبي المباشر والخطأ السلبي غير المباشر، وأخرجوها من مجال الخطأ الإيجابي المباشر أو الخطأ الإيجابي غير المباشر، ولذلك أرى أن من أهم الأشياء لكي نكون واقعيين في هذا المجمع ونخرج بقرار يفيد الناس في هذا المجال أن نتعرض للحالات التي تحدث فيها الحوادث.
أبدأ فأقول: هذه الحوادث اتضح الآن أن سائق العربة أو اللوري أو الحافلة يكون أحيانا بريئا كليا من أي مسؤولية، لم يخطئ قط، مثل السائق الذي يقود بالسرعة المطلوبة في الطريق، ففجأة يخرج أمامه شخص أو يأتي أمامه طفل، فيصيب ذلك الشخص أو ذلك الطفل، فيجرحه أو يقتله، هذه مسألة واضحة جدا أنه لا يمكن تفاديها مهما كانت قدرته البشرية، وكذلك سائق الباص مثلا الذي يقود وحصل في الطريق شيء غير متوقع ولم يكن من جانبه أي خطأ ولا تقصير، فحصل فيه وفاة أو جرح أو ضرر، فهل في هذه الحالة يكون على السائق مسؤولية؟
أنا وجدت لحسن الحظ أنه من خلال البحوث أن الفقهاء ذكروا أنه إذا اتضحت براءة السائق في حوادث السير من أي إهمال أو تقصير من جانبه في حادث لا يمكن التحرز منه، فليس على السائق الضمان ألبتة، لأنه مستعمل لحقه الثابت له ولم يكن من جانبه الخطأ أو تقصير يعرف.
فأنا أرجو أن نولي هذه المسألة اهتمامنا؛ لأن هذه المسألة – كما ذكرت – تحدث كثيرا، وكثيرا ما يظلم الناس سائق العربة ويقولون: هذا قتل خطأ فيجب أن يدفع الدية، ويجب أن يقوم بالكفارة، وهذا في رأيي يحتاج إلى إعادة نظر وإلى تفكير.
النقطة الثانية: ما ذكره الأخ فضيلة الشيخ خليل الميس بأننا ما تعرضنا له، هذا غير صحيح، وهو مرجع حوادث السير، مثلا في بحثي تعرضت لهذه المسألة فذكرت فيه: (وإذا نتج الموت أو الضرر نتيجة خطأ بين من السائق كأن يخالف قواعد الحركة والمرور المعمول بها، كأن يتعدى السرعة القانونية أو يجتاز النور الأحمر أو يلف لفة خطأ فهو مخطئ خطأ جنائيًّا يعاقب عليه تعزيرا بما تحدده القوانين من عقوبة رادعة، في رأيي هذا السائق يكون مسؤولا مسؤولية كاملة عن كل ما ينتج من ضرر سواء كان بدنيا أو ماديا، كان دية أو كان أرشا؛ فإذن معنى ذلك نحكم قوانين الحركة، إذا كان السائق مخطئا خطأ بينا بأن يتعدى هذه القوانين زيادة على الخطأ الجنائي، فإنه لا بد من التعزير له في هذه المسألة، أنا في رأيي يكون متحملا لهذه المسألة تحملا كاملا، ولا نلحقه في هذا الموضوع بموضوع قتل الخطأ.
النقطة الثالثة: وهي جديرة بالاهتمام، في هذه المسألة إذا لم يخالف السائق أيا من قوانين الحركة، وكان يسوق وكان يحترم النور الأحمر وكل قواعد السير ولكن صدم بعربته أو أحدث ضررا بدنيا أو ماديا أو عقليا، وكان ذلك مما يمكن التحرز منه ففي هذه الحالة يجب الضمان، ولكن الرأي الراجح أن الدية والأرش في هذه الحالة مما تتحمله العاقلة، وغيرهما من الضرر المادي يكون في ماله. هذا الذي أراه إذا كان السائق يقود واتبع قواعد الحركة وكان متحرزا، ولكن مع ذلك صدمت العربة، وهذه المسألة تحصل وكان يمكن التحرز من هذا الضرر، ففي هذه الحالة – في رأيي – يجب الضمان لا شك ويدخل فيه موضوع العاقلة، أفرق بين هذا وبين الحال الخطأ، إنني أحمله هناك المسؤولية الجنائية والمدنية تحميلا كاملا، في هذه الحالة ليست عليه مسؤولية جنائية، ولكن المسؤولية المدنية يكون مسؤولا عنها وتدخل فيها مسألة العاقلة، وأرد أيضا على الشيخ خليل الميس: إنني ما ذكرت في بحثي موضوع الكفارة، أرجو أن تنظر في السطرين الأخيرين من البحث: وعلى السائق الكفارة التي نص الله تعالى عليها في كتابه في حالة قتل الخطأ، وهو مما تلحق به هذه الحالة، فإذن قد ذكرنا ذلك، وقد تعرضنا له، أما تفصيله فهذا مجال طويل، وإذا ثبت خطؤه في هذه المسألة وكان بغير قصد فلا بد من الدية.
ناقش المجمع من قبل موضوع تعدد القتيل أي إذا قتل شخصين أو ثلاثة أو أربعة أو أكثر، هل تتعدد الكفارة أم لا؟. هذه المسألة بدأنا النقاش فيها في دورة سابقة ولكن لم نتابع ذلك النقاش، أرجو أيضا أن يخرج المجمع فيه بقرار واضح، لأنه من الأشياء التي يجب الناس أن يعرفوا رأي الفقهاء فيها.
نقطة أخيرة: ولا أريد أن أطيل، وهي موضوع العاقلة، هذا الموضوع بكل أسف أختلف مع فضيلة الشيخ عبد الله البسام، هذا الموضوع صحيح أثبتته الشريعة أي تحمل العاقلة للدية، وهي في أصلها مخالفة لموضوع المسؤولية:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: 15] وهذا هو المبدأ العام، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما رأى ما في الجاهلية من تكاتف وتعاضد في موضوع العاقلة أجاز هذا الأمر، ولكن في عصرنا الحاضر، كما تعلمون أن هذه الصلات الصلة العصبية والصلة بين الناس والصلة القبلية، قد ضعفت هذه الصلات ضعفا شديدا، فاليوم لا يمكن أن تأتي لإنسان يعمل حادثا في بلد من البلاد تمشي لقريبه فيرد عليك بأنني لا أعرف إلا قريبي، لا أعرف إلا الذي لي علاقة معه، وأحيانا بعضهم يقول لك: أنا علاقتي معه سيئة وكيف أدفع؟.. ولذلك نرى أنه من المصلحة، وهذا من واجبنا كفقهاء في هذا المجال أن نرتقي لموضوع العاقلة إلى موضوع مهم جدا وهو موضوع التأمين.
ولذلك قلت في نهاية البحث: إن الفقهاء عرفوا العاقلة بعدة تعريفات منهم من عرفها بأنهم أهل ديوان الجاني، ومنهم من عرفها بأن العاقلة أهل حرفته وبالعدم عشيرته، وقال فريق: إن العاقلة هم أهل المهنة أيضا. وقلت: وكما هو معلوم فإن مبدأ العاقلة يكون أساسا للشركات الإسلامية المعمول بها في عدد من البلدان الإسلامية. وهذه الشركات لا بأس بها طالما أن المقصود منها التعاون والتعاضد عند الحاجة وأنها خالية من شبه الربا والمقامرة أو التكسب فإنها تكون حلالا مقبولا، بل مبدأ يحث عليه الدين حتى تطمئن قلوب الناس، خاصة في هذا الزمان الذي كثرت فيه المركبات الخاصة والعامة، وتنوعت وازدحمت بها الطرقات، وينبغي أن تعممه البلدان الإسلامية لما فيه من فوائد جمة وموافقة لروح الشرع، بل إننا نؤيد ما ذهب إليه بعض البلدان من جعله إجباريا بأخذ مبلغ معين كل عام من كل مالك لعربة أو غيرها من سبل المواصلات ونرى فيه الزيادة في التأمين والطمأنينة، وشكرا للسيد الرئيس.
الشيخ تقي العثماني:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله الكريم وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإني أشكر فضيلة الشيخ عبد القادر العماري حفظه الله تعالى على بحثه القيم والذي أعترف أنه أكثر البحوث المقدمة في هذا الموضوع استيعابا للجوانب المهمة المتعلقة بالموضوع، وكذلك أشكره على عرضه الطيب والقيم الذي حرر لنا موضوع البحث في هذا اللقاء.
أما أنا فقد ركزت بحثي لأسباب ذكرتها على نقطة واحدة فقط، وهو موضوع الحالات التي يحمل فيها السائق ما حدث من ضرر بقيادة سيارته، والذي استمع إليه جميع أصحاب البحوث في الموضوع: هو أن سائق السيارة لا يضمن إلا إذا كان مخطئا متعديا في قيادة سيارته، مثلا يخالف نظام المرور أو القواعد المتبعة في القيادة، ولكن هناك نقطة ذكرها الشيخ عبد القادر العماري: أن كثيرا من القضاة وكثيرا من الفقهاء والمفتين ربما لا يقبلون هذا الحكم ويقولون: إن الفقهاء رحمهم الله قد ذكروا بأن المباشر ضامن وإن لم يكن متعديا، وإنما يشترط التعدي للمتسبب وليس للمباشر، وكذلك يقولون: إذا اجتمع المباشر والمسبب فالحكم للمباشر والضمان على المباشر، فلم أر في البحوث الموجودة بين أيدينا ما يشرح هذه القاعدة ويطبق ما اقترحه أصحاب البحوث على هذه القاعدة التي ذكرها الفقهاء، وقد حاولت في ذلك محاولة أريد أن أعرضها على أصحاب الفضيلة هنا ليقرروها أو لينقدوها، وهي: أن ما ذكره الفقهاء – رحمهم الله – من المباشر والمسبب حينما يجتمعان فإن الحكم للمباشر، إنما يختص ذلك إذا كان المباشر السبب الوحيد للإتلاف، أما إذا كان المسبب هو المتعدي أو كان تأثير المسبب أقوى من تأثير المباشر فحينئذ لا تتأتى هذه القاعدة في نظري، وهذا مما يتضح بكثير من الجزئيات التي ذكرها الفقهاء، ربما أنني لم أطلع على هذه القاعدة بهذا اللفظ، ولكن الذي اتضح بعد دراسة جزئيات عدة هو أن المباشر إنما يكون ضامنا عند عدم التعدي إذا كان هو السبب الوحيد، أما إذا كان هناك مسبب ومباشر، وتأثير المسبب أقوى من تأثير المباشر والمسبب متعد والمباشر غير متعد، فهذه القاعدة لا تجري في مثل هذه المسائل، فالذي أرى أنه إذا كان السائق ملتزما بأحكام المرور ولم يصدر منه أي تقصير فحينئذ لا ينبغي أن يحمل الضمان ولا الدية ولا شيء ولا الكفارة.
والموضوع الثاني الذي تطرق إليه الشيخ العماري: هو موضوع العاقلة، وهو موضوع مهم جدا يحتاج إلى النظر والدراسة، الواقع أن العاقلة إذا كانت هناك حياة قبلية، وربما توجد في بعض البلاد كالمملكة العربية السعودية فلا مشكلة في تطبيق نظام العاقلة، أما إذا لم تكن هناك حياة قبلية كما في سائر البلدان الإسلامية غير المملكة العربية السعودية، فهنا تنشأ مشكلة، والاقتراح الذي ذكره الشيخ العماري عن الشيخ عبد القادر عودة رحمه الله تعالى ليس من الميسور تطبيقه في زمننا هذا، أن تفرض ضريبة جديدة على كل المواطنين، هذا لا يكون قابلا للعمل في أكثر البلاد الإسلامية، والحل كما أرى أنه إذا كانت هناك حياة قبلية فالعاقلة من قبيلة الجاني تتحمل الدية، أما إذا لم يكن هناك حياة قبلية فحينئذ تستطيع النقابات، نقابات المهن أن تقوم مقام العاقلة، والذي ذكره فضيلة الشيخ عبد الله البسام مع كل إجلالي وتقديري لكلامه ولعلمه وفضله، فإني أخالف في ذلك الرأي؛ فإن سيدنا عمر – رضي الله تعالى عنه - قد جعل الدية على أهل الديوان وأهل الديوان لم يكونوا من قبيلة واحدة، فهذا يجعلنا نجزم بأن العلة الحقيقية في تعيين العاقلة هي التناصر والتعاون، وإذا حدث التعاون والتناصر بأي شيء آخر يمكن أن نقول: إنها هي العاقلة، فالنقابة إذا كان هناك نقابة فيمكن أن تحمل الدية، أما إذا لم يكن هناك نقابة ولا قبيلة فالدية يتحملها الجاني نفسه.
مسألة دية الذمي التي أشار إليها الشيخ العماري، أنا أؤيده في هذا، ولو لم أكن حنفيا لقلت بهذا القول، وذلك لأن الآية القرآنية الكريمة:{فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] هي مساوية للمسلمين وأهل الذمة جميعهم، وهناك حديث صحيح أيضا أخرجه الإمام الترمذي رحمه الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ودى العامريين بدية المسلمين، وهذا حديث أصح إسنادا من الحديث الذي يذكر في تصنيف دية الذمي.
ومسألة الحوادث التي تنشأ من تطرق البهائم إلى الشوارع، هذه مسألة نجد فيها أيضا حديثا واضحا، ربما يكون أصرح شيء في هذا الباب، الذين يقولون بأن صاحب البهيمة ليس عليه الضمان ربما يستدلون بالحديث المعروف الذي قال به رسول الله صلى الله عليه وسلم:((العجماء جرحها جبار)) ، ولكن في نفس الوقت هناك حديث أخرجه الإمام مالك في موطئه أن ناقة للبراء بن عازب رضي الله تعالى عنه دخلت بستانا فأفسدت ما فيه فضمن رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب الناقة، وفي نفس ذلك الحديث نجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((إن على أهل الدواب حفظها بالنهار)) فهذه الجملة التي نجدها في هذا الحديث ربما توضح لنا العلة في الضمان. يعني أصحاب البهائم أو أصحاب الدواب هم المسؤولون عن حفظ تلك البهائم والدواب، ما دام الحفظ عليهم، وهم قصروا في ذلك، فإنهم أصحاب الضمان أما إذا كان هناك حالة ذكرها فضيلة الرئيس، أنه إذا كان هناك بعير شارد وانفلت إلى الشارع العام أو إلى الطريق المعبد، فحين ذلك مالك البعير لم يقصر في حفظه، فلذلك لم توجد العلة التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا ينبغي أن يضمن الدية والضمان.
وأخيرا مسألة التعزير بالمال أو التعزير بالعقوبات المالية، فأنا أؤيد فضيلة الشيخ العماري، إنه وإن كان هناك كثير من الفقهاء قد منعوا التعزير بالمال، ولكن هناك جمع كثير من الفقهاء كالإمام أبي يوسف رحمه الله قد أجاز التعزير بالمال، وهناك أدلة كافية على جوازه، فلا بأس بالأخذ بالتعزير بالمال في مسألة مخالفة نظام المرور.
وهذا ما كنت أريد أن أدلي به في هذا الموضوع، والله سبحانه وتعالى أعلم، وشكرا.
الشيخ القره داغي:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه ومن تبعه إلى يوم الدين.
أولا: نشكر الشيخ عبد القادر العماري حفظه الله على بحثه القيم حيث جمع بين العلم والتطبيق لما هو قائم منذ فترة طويلة، فعاش هذه المعاملة بالتأكيد، وضمن، بحثه هذه المعاملة التي يلاقيها دائما في القضايا التي تعرض على فضيلته في قطر. هناك بعض الأمور نريد من مجمعنا الموقر أن يحدد خلال هذه البحوث قضية حوادث السير وأن تقسم هذه الحوادث وتنزل على الواقع، حقيقة بعض البحوث يتحدث عن شبه العمد وعن الخطأ، عن قضايا الفقه التي هي موجودة في الكتب، أما كيف تنزل هذه القضية على الواقع فهذا هو السؤال.
أكثر البحوث تتكلم عن هذه القضايا أن هذا شبه العمد وأنه عمد وأنه قضية الدية، ولكن نحن نريد الآن أن تكون قواعد المرور واضحة مثل ما قال الشيخ خليل، والأمور كلها واضحة، هناك حالات كثيرة جدا، كيف يمكن أن تكون حادثة السير تعتبر من باب الخطأ أو تعتبر من باب شبه العمد أو تعتبر من حالات العمد أيضا في بعض الحالات؟ أكثر البحوث لم تتحدث عن قضية العمد، وإنما أتحفت بقضية الخطأ أو شبه العمد، بينما الحقيقة يمكن أن يكون بعض حوادث السير تتوفر فيها جميع أركان الجريمة العمدية، فمن هنا نريد أن نضع ضوابط لهذه المسألة كقاعدة أساسية ونحدد متى يكون السائق مخطئا أو متعمدا أو شبه متعمد؟ هذه مسألة ومتى تأتي قضية الأوامر وقوانين السير؟ هذه لا بد من رعايتها، كذلك السائح العادي الذي يسير ملتزما بقوانين المرور ثم يطلع بعد ذلك في غير الخطوط المخصصة والأماكن المخصصة لسير المشاة، ما حكم هذه المسائل؟ نفصل هذه التفصيلات ونضع بجانب كل جزئية من هذه الجزئيات الحكم المناسب حتى تكون الأحكام واضحة، كذلك حكم من يموت في السيارة، هل إذا كان للسائق دور أو إذا لم يكن للسائق دور؟ إذا كان الشخص الآخر متعد ولكن السيارة أيضا تجاوز حدود السير المسموح بها في السرعة، مثلا حدود ستين كيلو مترا أو سبعين كيلو مترا، والشخص الثاني أيضا مقصر أيضا في أنه دخل مثل ما قال فضيلة الشيخ عبد القادر من الفرع إلى الشارع العام، يعني ننظر إلى هذه القضايا بنظرة واسعة مفصلة، وبعد ذلك ننزل الأحكام الفقهية على هذه الوقائع العملية، هذا من ناحية الملحوظة الأولى.
ثانيا: العاقلة، أنا أثني على رأي الشيخ عبد القادر، ولكن حسب التسلسل الذي ذكره فضيلة الشيخ العثماني، بحيث يرتب حسب التسلسل، إذا وجدت القبائل فالقبائل هي الأساس، وإذا لم توجد القبائل، وليس بالضرورة المملكة العربية السعودية، هناك بعض الدول لا تزال تسير على قضية القبائل، فحصرها على المملكة العربية السعودية ربما لم يكن دقيقا، وننتقل بعد ذلك إلى قضية النقابات ثم الهيئات وحتى الأحزاب السياسية الآن، العصبية الموجودة بين الأحزاب السياسية أكبر من العصبية الموجودة بين النقابات، فمثلا الحزب الفلاني والحزب الفلاني كذلك، أو الجماعات الإسلامية التعصب أو الحاجات الموجودة فيها ربما تدخل في الحساب، فهذه قضية أيضا مع ملاحظتها حسب التسلسل المطلوب.
وأنا في اعتقادي انتقال سيدنا عمر من العصبية القبلية إلى عملية الديوان، هذه إشارة خضراء لنا بأنه فتح لنا الباب؛ لأن قضية العاقلة يراد بها تحقيق الهدف المنشود وهو ألا يخل دم في الإسلام إما عن طريق الأشخاص المتعاونين، ثم بعد ذلك عن طريق الدولة.
ثالثا: في قضية رأي الشهيد الشيخ عبد القادر عودة رحمه الله فرأي وجيه ما دامت الرقبة غير موجودة في وقتنا الحاضر، فعصرنا اليوم يختلف عن العصر السابق، العصر السابق كان الرجل لا يجد المال لشراء الرقبة، وبالتالي ما دام ليس عنده مال فينتقل إلى الصوم، فلذلك لم يأت إلى قضية الطعام؛ لأن هناك أمرين: هناك مال وهناك عبادة بدنية، أي إذا كان له مال فيعتق ربة، وإذا لم يكن عنده مال فحينئذ يصوم، أما اليوم يوجد مال لكن لا يوجد رقبة أساسا، ألغي حسب نظام الأمم المتحدة.
فأنا في رأيي، رأي الشيخ عبد القادر عودة شبيه، أي يقاس على رأي الشافعية وغير الشافعية الذين جعلوا الإبل أصلا في الدية، ومع ذلك إذا فقدت الإبل في منطقة من المناطق تقوم الإبل بقيمتها ولا ننتقل إلى ألف دينار، كما هو اعتبار الأصل، فالرقبة لم توجد فحينئذ تقوم قياسا، كما أن الإبل لا توجد بالنسبة للدية فتقوم ولا ننتقل إلى ألف دينار إلى إلى اثني عشر ألف درهم، ولذلك الأحاديث في هذه المسألة واردة بين ألف دينار وبين ثمانمائة دينار وبين ثمانية آلاف درهم وبين اثني عشر ألف درهم، كما لا يخفى على حضراتكم، فلذلك رأي الشيخ عبد القادر عودة وجيه، وإن لم يسبق؛ لأن عدم السبق ناتج عن أن هذه الحالة ما كانت متصورة في عصرهم، أي عملية الرقاب.
رابعا: قضية اعتراض البهائم، نحن لا بد أن نجعل الأصل أن صاحبها مسؤول كقاعدة أساسية، الإبل طبعا معروفة كما لا يخفى على حضراتكم بعلاماتها فتنسب إلى أصحابها، وبالتالي صاحبها مسؤول كقاعدة إلا إذا اثبت بالعكس بأن هذا الرجل قد شرد عنه هذا البعير، وبالتالي نضع الأصل ثم نستثني عنه الاستثناء.
خامسا: قضية التعزير بالمال، فعلا أنا أثني على رأي الشيخ عبد القادر في هذه المسألة، وشيخ الإسلام ابن تيمية في هذه المسألة فصل فيها تفصيلا طيبا، فجزاه الله خيرا، والتعزير بالمال أهون من التعزير بالجلد، ولذلك الإمام أبو حنيفة لا يجيز الحجر على الإنسان بسبب السفه في المال، قال: المال خادم للإنسان، وليس الإنسان خادما للمال، فالمال غاد ورائح، فكيف الآن نحن نجيز الضرب والجلد؟ يبدو هذا متفق مع ما نعيشه نحن في بلادنا الإسلامية، حيث ليس هناك للإنسان وربما القيمة الكبيرة للمال ونحو ذلك.
سادسا: دية غير المسلم، وحقيقة حينما يتكلم الشيخ عبد القادر عن دية غير المسلم ويدافع عن مساواة غير المسلم بالمسلم كنت أعيش – والله شاهد - مع إخواننا في البوسنة والهرسك، قلت: سبحان الله الذي جزى الله الإسلام خيرا لعدالته، يتحدث عن مساواة المسلم بغير المسلم في ديته، وغير المسلمين ماذا يفعلون بالمسلمين؟
هذا ما كنت أريد أن أتكلم عنه من باب أن نتذكر مأساة الأندلس الجديدة، ولو كان في الفقه لا تنسى هذه المأساة الكبيرة، وكذلك مآسينا، أشكركم يا سيدي الرئيس على إتاحة الفرصة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الشيخ محمد الشيباني:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أشكر الشيخ عبد القادر محمد العماري على بحثه القيم، قد أجاد وأفاد.
أولا: الحقيقة إن حوادث السير ليست بجديدة في عصرنا، فقد تكلم عنها العلماء في وسائل السير والنقل الذي كان في عهدهم، تكلموا عن تصادم الفارسين والسفينتين إلى غير ذلك، ثم فرقوا بين اصطدام السفينتين وتصادم السيارتين، وأنا أرى أن السيارة تقاس على الفرس لأن من يحسن السياقة أقدر على كبح سيارته من الفارس على فرسه، وهذا أقوله عن تجربة، لأنني كنت في البدو وكان عندي فرس، وبعد ذلك انتقلت إلى المدن وكانت عندي سيارة، والحقيقة إنني أقدر على كبح السيارة من الفرس، هذه مسألة معروفة.
ثانيا: فيما يخص ما أتلفته البهائم، هذا تكلم عنه العلماء، أما تبيين المخطئ من المعتمد، فهذا أعتقد أننا نرجع فيه إلى قوانين السير؛ لأن هذه القوانين لا تخالف الشرع أو معظمهما لا يخالف الشرع، فهي تندرج تحت الشرع العام، وهو المصالح المرسلة، فالمصالح المرسلة هي التي لم يأمر بها الشرع بإهمال ولا يأمر، لم يأمر بها الشرع ولم ينه عنها وفيها مصلحة، مثلا ننظر هناك في المعتدي وغيره وذلك لنعلم مسائل عدم الالتزام بالسرعة المحددة التي باستطاعة السائق أن يتحكم في سيارته إذا التزم بها، وإلى من له الأسبقية في الطريق وما إلى ذلك، إذن هذه القوانين يمكن أن ندرجها في المصالح المرسلة.
ثالثا: نتكلم عن مسائل وملاحظات عليها، وهي:
أولا: فيما يخص الكفارة، الكفارة أمرها واضح، فالله تبارك وتعالى قال:{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} [النساء: 92] هذه تتناول من لم يجد الرقبة أو لم يجد ثمنها، ليس فيها تحديد أن من لم يجد ثمن الرقبة، فمن لم يجد فيها فصيام شهرين متتابعين، إذن ليس هناك إلا صيام شهرين متتابعين، ومن لم يقدر على ذلك، من لم يستطيع فإطعام ستين مسكينا، هذا هو الصحيح في أمرها.
ثانيا: فيما يخص الدية، كما أن الجمهور يجعل الدية على العاقلة، وهي العصبة، عصبة الجاني، الأقرب فالأقرب، وإن القول بأنها تكون على الديوان أي الذين يعملون مع القاتل في قطاع واحد أولى عندي في هذا الزمن، وهو ما صرح به الإمام أبو حنيفة، وهو أحد قولي الإمام مالك، وصدر به خليل في مختصره فقال: وبدئ بالديوان، وإن كان غير مشهور مذهبه، وخصوصا في بلد ليست فيه قبائل مترابطة فيما بينها؛ لأن القبلية أصبحت اليوم شبه معرض عنها في هذا الزمن، فالبلد الذي فيها قبائل تتناصر فيما بينها نجعلها عليها، والبلد – وهو الأكثر – الذي ليست فيها القبلية وخصوصا المدن الكبيرة، نجعلها على الديوان، تكون على الذين يعملون مع القاتل في قطاع واحد، وهو معنى الديوان.
أما ما يخص دية غير المسلم هو طبعا الجمهور مثل الإمام مالك والإمام أحمد قالا: إن الكتابي ديته نصف دية المسلم، ولكن مذهب أبي حنيفة هو الذي يعمل به اليوم في الإمارات، أي يسوون بين دية المسلم وغيرهن الحقيقة أنه ليس هناك ذمي اليوم في الإسلام فلا نتحدث عن الذمي؛ لأن الذمي هو الكافر الذي تحت السيطرة، وليس هذا موجودا وإنما الموجود هو المستأمن، وسواء عند الإمام أبي حنيفة كان المستأمن كتابيا أو يهوديا أو بوذيا أو مجوسيا فإن ديته تساوي دية المسلم، وهذا ربما يكون أحسن في هذا الزمان؛ لأن الناس تستورد كثيرا من هؤلاء الفنيين، وهذا لا مانع عندي منه.
ثالثا: أما ما يخص البهائم التي تعترض الطرق، أنا أرى أن يفرق بين البلاد، فبعض البلاد كالمملكة العربية السعودية قد قامت الحكومة فيها بعمل جيد، لكن هناك بلاد أخرى وهي البلاد التي أسكن فيها الآن على العكس من هذا، يقولون: أن الإبل تحترم ويعطون إشارات في هذا البلد: خذ انتباهك فيها الإبل، وحتى أن هناك في الغالب صاحب الناقة يكون له جانب عظيم في التعويض، إذن ينبغي أن تكون المسألة ذات شأن أعلى من مؤتمرات إسلامية، لكي توحد الدول قوانينها تجاه هذا الموضوع، لأننا الآن إذا تكلمنا عن هذا الموضوع، لازم أن نعرف قوانين الدولة، يقولون ذلك لا تمش في هذا البلد، وهنا كثير من الناس ماتوا لهذا السبب، هذه المسألة ينبغي أن ننظر فيها بما هو الأحسن.
رابعا: فيما يخص التعزير بالمال كما قال الشيخ عبد القادر – جزاه الله خيرا – صحيح قال به بعض العلماء، من المالكية قال به ابن فرحون، وقال به ابن القيم، إذا لا مانع منه ومن الأحسن أن يعمل به؛ لأن لكل زمن ما يخصه في هذه الموضوع، وكما قال بعض الجماعة: إن التعزير في الزمان الأول يكون بنزع العمامة، خلع عمامة الإنسان هذا كان تعزيرا، استيقاف إنسان أمام الناس هذا أيضا كان تعزيرا، ومعنى ذلك أن لكل زمن خصوصية مما نص الشارع عليه، ولا مانع من ذلك.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الشيخ خالد المذكور:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
لا شك أن هذا الموضوع من المواضيع المهمة ومن التي تقلق دول العالم جميعا، ولا شك أن الفقه الإسلامي سباق إلى مثل هذه المواضيع، ولكني كنت أود في هذه الجلسة أو في هذه الدورة بمناسبة بحث هذا الموضوع أن يتطلب من خبراء المرور كتابة بحث فيما يتعلق بتنظيم المرور الحديث، وفيما يتعلق بالسيارات وغيرها، وبما يتعلق بالراكب والراجل على وجه الخصوص؛ إذ أن كثيرًا من نظم المرور وتنظم المرور لراكب السيارة وتحمله الأخطاء وتعاقبه على خطئه، ولكن غالبها لا ينظم للراجل غير البهائم، ولا ينظم للراجل الإنسان كيف يستفيد من العلامات والإرشادات، وما هي العقوبة التي يوقعها عليه نظام المرور إذا خالف هذه العلامات وهذه الإرشادات على الطرق، فحتى نكون عمليين وحتى نستطيع أن نستفيد من هذه الأبحاث التي كتبت ومن هذه المناقشات التي ذكرت حبذا لو أن هناك من الخبراء من يعطينا مبحثا عن تنظيم المرور؛ لأن تنظيم المرور عالمي، يعني الإشارات والخطوط، هذه نجدها في كل دولة من هذه الدول حتى نستطيع أن نواكب ما هو موجود، وبالتالي نستطيع كذلك أن نضمن نظم المرور، هذه الأمور الشرعية التي نبحثها الآن. وجزاكم الله خيرًا.
الشيخ وهبة الزحيلي:
بسم الله الرحمن الرحيم
هناك الكثير من المسائل التي كنت أود أن أتحدث بها سبقني إليها الإخوة الكرام، وأريد أن أؤيدهم في هذا لما تبين جانب الصواب من غيره في هذه القواعد، ففيما يتعلق بالمسؤولية عن حوادث السير وهي بيت القصيد والعنصر الأهم في هذا الموضوع، ولا شك أنه ينبغي أن يكون التأصيل الشرعي مراعا فيه ما عليه أحوال الناس وأعرافهم في الوقت الحاضر؛ لأن تلك الأعراف إنما نسجت من أوضاع القوانين والأنظمة المعروفة للناس، كما أشار الدكتور خالد، ولذلك أصبحت تلك القوانين بمثابة أعراف محكمة في هذه القضايا، وفقهنا لا يعارض هذه الأعراف ولا تلك الأوضاع، لأنها تقوم على أساس توجيه المسؤولية بناء على وجود إما الخطأ وإما تلك الأوضاع، لأنها تقوم على أساس توجيه المسؤولية بناء على وجود إما الخطأ وإما التقصير وإما الإهمال، وأما إذا لم توجد هذه العناصر فإنه لا مسؤولية، هذا شيء. الشيء الثاني: كنت أود من الإخوة الكرام أن يستفيدوا في قضايا حوادث السير مما كتبه فقهاء الحنفية والمالكية عن تصادم الفارسين وتصادم السفينتين، فلهم كلام طويل وواضح في هذا الموضوع يمكن أن يعد ذلك أصلا في قضية حوادث السير، ولا يمكن أن نستبعد وجود الفرق بين السيارة والسفينة، فكلاهما يقومان على أساس المحركات المعروفة، فلذلك لم أجد أحدا تنبه إلى هذا وأشار إليه، ولذلك الاستفادة من موضوع تصادم السفن وما بحثه فقهاؤنا في هذا المجال يعد أصلا لكثير من المسائل التي تقع.
أما القضايا الأخرى التي بحثها الأساتذة الكرام أو قضية العاقلة، فلا شك أن هناك مذهبين في هذا الموضوع: مذهب الجمهور ومذهب الحنفية، وقد جلى الموضوع الأستاذ الشيخ تقي في قضية وجود عنصر القبيلة وعدم وجود عنصر القبيلة، والحقيقة عالمنا العربي والإسلامي ما يزال منقسما في هذا الموضوع، فهناك أنظمة اجتماعية ما يزال للقبيلة والعشيرة تأثير فيها كدول الخليج والأردن في الشام، ولكن ما عدا الأردن مثل مصر وسورية لا تأثير لهذه الظاهرة على الإطلاق، ولهذا ينص ابن عابدين في هذا الموضوع حيث أن رابطة القبيلة والعشيرة قد زالت، والديوان لم يعد موجودا، فلذلك أرتأي ما ارتآه متأخرو الحنفية أن تكون المسؤولية على الفاعل أو الجاني أو المتسبب، هذا واضح في كلامه، بقية الفقهاء غير الحنفية ما يزالون يقررون أن المسؤولية في قضايا الخطأ هي على الجاني، وهذا رأي جمهور الفقهاء، ولكن ينبغي ألا ننسى أن ما يتعلق بقضية العاقلة القاعدة الشرعية المأخوذة من الأحاديث هي: أن العاقلة لا تعقل عمدا ولا عبدا ولا صلحا ولا اعترافا، فإذا وجد الاتفاق والإقرار أو الصلح عندئذ لا مجال لدور العاقلة، وهذا يخفف البحث عن تحميل العاقلة كثيرا من القضايا التي تقع في العصر الحاضر.
أما ما يتعلق بقضية التغريم المالي فلا شك أن الاتجاه الحديث هو الأخذ بهذا المبدأ، وقد وجدت رسائل دراسات عليا في هذا الموضوع، وإن كان الغالب عند جمهور الفقهاء في الماضي عدم القول بهذا المبدأ فقد أصبح الاتجاه الحديث مناصرا لهذا المبدأ وأن العدالة وأن الأيسر على الناس هو أن يدفع شيئا من ماله ولا يتحمل شيئا من العقوبات الجسدية أو التأديبية.
أما قضية تطرق البهائم إلى الشوارع؛ أيضا أؤيد الشيخ تقي العثماني في هذا الموضوع، وأعتبر أن قضية الحديث في ناقة البراء بن عازب تصلح أساسا لكثير من القضايا، بالإضافة إلى الحديث الآخر:((العجماء جبار والمعدن جبار والبئر جبار)) ، هذه القضايا عن هدر، هذه في الواقع لم تكن في الحوادث بالكثرة التي تقع الآن، فلذلك حديث البراء يعد ألصق بالموضوع في تحديد المسؤولية عن حوادث البهائم في الوقت الحاضر.
أخيرًا ما يتعلق بالقتل الخطأ كأني وجدت اختراقا في هذا الموضوع لدى سماعي للحديث في هذه القضايا، النص القرآني واضح؛ لأن قضية القتل الخطأ وكل حوادث الخطأ إنما فيها الدية أو فيها الأرش المالي لأنه قد لا يكون هناك قتل وإنما فيها الأرش، والأرش إما مقدر أو غير مقدر، والحكومة العدل وهي ما يقرره الخبراء، يمكننا أن نجعل الآية أصلا في هذا الموضوع، في قضية الدية أو حوادث الأرش، وأما فيما يخص القتل بعينه فلا بد من إصلاح العلاقة بين الإنسان وربه، وذلك عن طريق الكفارة، والكفارة القرآن واضح فيها في أنها هي صيام شهرين متتابعين، وانفرد فقهاء الشافعية بأنه إذا عجز عن الصيام فيمكن أن يأخذ بمبدأ إطعام ستين مسكينا، وهذا لم يقل به غير فقهاء الشافعية.
فقضية ما ينقل عن المرحوم الشيخ عبد القادر عودة وغيره في هذا الموضوع لا أجد له تلامسا صحيحا مع الدقة الفقهية التي نحن بأشد الحاجة إليها.
هذا ما ارتأتيه، فنرجو الله تعالى أن يوفقنا لما فيه الصواب.
الشيخ عبد العزيز الخياط:
بسم الله الرحمن الرحيم
أولا: أشكر الباحثين والأستاذ عبد القادر العماري عما قدموا، والاعتذار عنهم في إغفال بعض الأمور التي تتعلق بالسير؛ لأن الأمر جديد، وهو جديد من حيث كثرة الحوادث وتنوع المركبات المنتشرة في العالم والتي اهتم بها العالم، ثم رأيت أن الإخوة الباحثين اهتموا بما يتعلق بالأشخاص، ولم يكن ثمة اهتمام فيما يتعلق بالمركبات نفسها، أو بما يتلف من الأموال الخاصة والعامة من حوادث السير، ولذلك لا بد من التعرض لها، وسأتناولها بإيجاز نقطة نقطة، وكنت أتمنى صدوره من الباحثين – ولعل هذا أسلوب من الأساليب في البحث – وسأعمد إلى استخلاص ذكر القواعد العامة من أبحاث الفقهاء ثم أرتب عليها أو أستخرج الأحكام الشرعية التي نستنبط منها حتى يتبين الدليل المستخلص.
أولا: من المسائل التي تناولت، أنا مع تأييدي لما تناوله الإخوة الكثيرون مما كنت سأتناول بعضها، أولا: لا أقول بقيام النقابات العامة وإحلالها محل العاقلة، العاقلة إذا وجدت في بلد يمكن أن تكون كما ذكر الإخوة فهذا مطلوب، وأما غير ذلك فنحن أمام أمرين أو جهتين: أؤيد من قال بالتأمين، التأمين في هذا الأمر ربما يكون من أوسع أو من أفضل الأمور في دفع هذا الموضوع، وفي بعض البلدان ترجع الحكومة نفسها أو الحكومات نفسها إلى وضع التعويضات للناس في هذا الأمر إذا لم يتيسر التعويض من جهة معينة، كذلك أؤيد ما رآه الدكتور العماري في رأي الأحناف في تساوي الدية بالنسبة للمسلم وغير المسلم.
ثم لم يكن فيما قرأت من الأبحاث التفريق بين القتل العمد والقتل شبه العمد ورأي الأحناف في تنوع أنواع القتل وأرى أن ينظر فيها، ثم لم يتعرض الباحثون إلا قليلا لما يتعلق بإصابات العمل الناجمة عن حوادث السيارات إلا ما ذكره ونبه عليه الأستاذ الزحيلي في آخر الأمر، هناك إصابات تتعلق – كما هو معلوم – ليست بالقتل وإنما بإصابات وعاهات في هذا الأمر.
وموضوع الأروش يمكن أن يستخلص من قواعدها العامة ما يطبق على حوادث السير إذا ثبت تعمد السائق أو الخطأ المتعلق بالسائق، أيضا أنا لا أفرق بين السيارة والدابة، نعم قد يكون هناك فرق، هذه آلة وذلك حيوان إلا أن خطأ الدابة أحيانا مثله قد يقع في السيارة عن غير رغبة من السائق، فإذا تلفت آلة حديد بالسيارة دون رغبة السائق فهو تماما خارج عن إرادته في هذا الموضوع. الإخوة أيضا لم يتعرضوا إلى مقارنة أو استعراض لأحكام السير في القوانين الحاضرة ورأي الشريعة فيها؛ لأن بعض هذه الأحكام قد تكون مخالفة للشريعة الإسلامية، ولذلك لا بد من التعرض لهذا الأمر.
ثم لم يحدث تعرض في الأبحاث فيما يتعلق بالمركبات الفضائية في النقل، ثم نقل الطائرات وحوادث الطائرات، وما يحصل لها من تصادم، ثم إذا سقطت هذه الطائرات، وطاقم الطائرة هل يكون مسؤولا أو لا؟ وهل يعتمد على الصندوق الأسود في بيان حوادث الطائرات أم لا؟ لأن في كل طائرة كما تعلمون صندوقا أسود يبين الخلل الذي حصل أو المتسبب في سقوط الطائرة أو الحوادث لها.
ثم أيضا مع أننا نتحدث عن السير أشار بعض الإخوان إلى سير الناس، لم تنظم هذه الأمور ونحن نعلم ما حدث في بلدان كثيرة ويحدث من تصادم الناس بعضهم ببعض، ما حدث في نفق المعيصم وما حدث مثلا في الطواف حول الكعبة في هذا العام من تزاحم هل يعتبر هذا ويطبق عليه أحكام السير أم لا؟. هذه أمور عامة.
ثم أمر آخر أقول به، لم يتعرض للمال العام الذي يصاف، يعني إذا أصابت السيارة مالا عاما، كأعمدة الكهرباء أو أتلفت الطريق، فهل يغرم السائق أم لا؟ بعض قوانين السير لم تتعرض لهذا، وهل من الضرورة أن نبين حكم الشريعة فيه أم لا؟ ونعلم أن بعض الطائرات تسقط على أموال عامة، كما تسقط أيضا على بيوت خاصة، من يدفع تعويض هذا؛ هل الدولة أم التأمين أم من تسبب في هذا الحادث؟
هذه نقاط أحببت أن أنبه إليها، وأقترح في التوصيات أن يبين الحكم بالنسبة للمقتولين والمصابين من حوادث السير وما يتعلق بضمان المتلفات والجهة التي تدفع التعويض، ثم التعرض كذلك لموضوع الميراث عندما يتوفى أعداد من الطائرة، كيف يكون التوارث فيما بينهم؟ إذا كانت السيارة فيها إخوة أو فيها أقارب فمات بعضهم، والبعض الآخر لم يمت، هل يرث بعضهم البعض في مثل هذه الحالة؟ ومن يرث إذا ماتوا معها، نعم الفقهاء تعرضوا لهذا في حوادث الزلزال وحوادث الدفن الجماعي، لكن لا بد أن نتعرض لها في هذا الأمر.
هذه أمور أحببت أن أبينها، وأخيرا أقول: بالنسبة للتعزير بالمال أعتقد أن التركيز على التعزير بالمال وحده لا يكفي، أقول أن نترك الأمر كما تركه الفقهاء؛ لأن التعزير متعدد وأن مرجعه إلى القاضي، يرى حسب الظروف، وفي رأيي أن العقوبة البدنية ينبغي ألا تغفل؛ لأن التعزير وحده لا يكفي، ونحن نحتاج خاصة في كثرة حوادث السير في هذه الأيام واستهتار الكثيرين بحوادث السير واستهتار أبناء الأغنياء، وهذا يحدث في كثير من البلدان، وقد يكون سكران أو سهران إلى آخر ذلك مما يؤدي إلى وفاة أو إتلافات، فالتعزير بالمال وحده لا يكفى، فلا بد من التعزير بالعقوبات الجسدية.
وشكرا أخي الرئيس، والسلام عليكم ورحمة الله.
الشيخ محمد المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
شكري لمقدم الموضوع ولمن تقدمني، فقد أغنوني عن كثير من القضايا التي كنت أريد أن أبسطها وإن بقيت بعض المسائل.
أولا: من ناحية التقعيد، فإني أرى أن قضية قتل الخطأ في الشريعة الإسلامية هي قضية سلكت فيها مسلكا خاصا لا نجده في غير هذه القضية من القضايا؛ لأن من شأن الخطأ أنه معفو عنه وأنه إذا ترتب منه ضرر للغير تحمل المخطئ جبر الضرر بمقدار الضرر، هذه القواعد التي سارت عليها الشريعة لا نجدها تسير هذا المسلك في القتل، وفي قتل الخطأ سلكت الشريعة أن الشخص الذي قتل يجبر الضرر حبرا يختلف عن البقية؛ لأن قيمة الإنسان أو قيمة الحياة هي كما قال تعالى:{فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] .
الأمر الثاني: أنه لا يتحمل هو نتيجة الخطأ، ولكن تتحمله العاقلة أو العائلة الكبرى، وهما مسلكان انفرد بهما الخطأ وأحكامه، ولذلك عندما يعمل مثل المفتي في قياس القضايا قتل الخطأ أو التعدي خطأ بالنسبة للأنفس وبالنسبة للجوارح، عليه ألا يند به جماح القياس، فيقيس هذه القضية على بقية قضايا الخطأ.
الأمر الثالث: هو أن المخطئ تارة يبقى حيا وتارة يموت هو أيضا، فإذا مات المخطئ فلا بد من البحث في القضية هذه وفي أحكامها.
الأمر الرابع: الذي تقدمني به الدكتور الخياط، وهو لا بد من تقسيم وسائل النقل إلى وسائل تسير في البر وفي البحر وفي الجو، وهي متحدة الأحكام ومختلفة الأحكام، فقضية القتل أو التعدي أو الخطأ تتناول المحاور الآتية:
أولا: الدية وقد كثر الكلام في الدية ومن يتحملها. لما جاء الإسلام كان هناك نظام اجتماعي أقره الإسلام، هذا النظام الاجتماعي موجود في الوضع الإسلامي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه غير ما هو موجود في بقية المجتمعات الأخرى، إن تطور الزمن وظهور ظاهرتين، هما التحرر من ناحية، ثم وسائل النقل المساعدة على تجرؤ العائلات وانتقالها من مكان إلى مكان؛ أفقد من معظم بلاد العالم الإسلامي العاقلة أو الأسرة الكبيرة، ولم يبق إلا في بعض المناطق أو في بعض البلدان، إذا قيست بمليار مسلم كان جزءا قليلا، فلا تهمل العاقلة حيث وجدت، إذا بقي النظام الاجتماعي في بلد من البلدان على الترابط فلا بد من نظام العاقلة، فالعاقلة أمر قررها رسول الله صلى الله عليه وسلم واستمر الأمر عليها في كل بلد من البلدان عليه، فإذا انتهى من بلد أو أن النظام الاجتماعي لا يقوم على أساس الأسرة الكبيرة وعلى أساس الترابط فأعتقد أنه لا وجه للحديث عن العاقلة هنا، ولا يمكن أن أجعل أو أقيس قضية العاقلة على النقابات، لأنه ما قتل شخص ولو خطأ إلا ولا بد أن هناك من تقصير، تقصير ولو جزئي، وشأن الأسرة أنها تترابط فيما بينها حتى بتأديب الشخص، هذا غير موجود في النقابات.
بالنسبة لما نقل عن الشيخ عبد القادر عودة رحمه الله تعالى، فإجلالنا أو إكبارنا لهذا الشخص وجهاده واستشهاده، هذا الرجل لا يسبغ عليه جهاده أن يصبح فقيهًا مجتهدا يرجع إلى كلامه، ولا موته يعطيه هذه القيمة، فما أظن أن الشيخ عبد القادر عودة قد وصل إلى درجة الاجتهاد حتى يصبح كلامه بعد موته مرجعا يرجع إليه، وإن ذكره في كتبه، فإن وضعنا الاجتماعي ووضعنا الحضاري ألزم ألا تهدر الأرواح البشرية وألا تضيع العائلات؛ لأن شخصا ملك سيارة فقتل رب العائلة أو قتل الزوجة وأبقى البنين يتامى، لا بد من حل لهذه المشكلة، والحل ظفر به الغرب في التأمين، لكن كانت الصورة للتأمين في الغرب فيها كثير من الباطل وفيها شيء من الحق، فقد وصل علماء المسلمين في عصرنا هذا إلى التأمين التعاوني، فلو أخذت الدول بالتأمين التعاوني الإلزامي لكل من يملك سيارة يسير بها حفظا لحقوق العائلات وحفظا للأيتام من التعدي عليهم، لكان ذلك صوابا وأمرا مؤكدا.
ثانيا: الكفارة، والكفارة من الأشياء التي سلك بها التشريع الإسلامي بالنسبة للخطأ غير المسالك الموجودة في الأخطاء الأخرى في بقية أنواع القضايا، فقد يخطئ الإنسان فيفسد مال غيره، وقد يخطئ الإنسان فيتصل جنسيا بزوجة غيره وأنواع الخطأ كثيرة لكن ليس هناك إلزام بكفارة إلا هنا؛ لأن النفس البشرية أو الحياة قيمتها قيمة خاصة، وبذلك يشعر الإنسان دائما في ضميره وفي ذاته وفي باطنه أنه قتل نفسا وإن كان خطأ، ولهذا حتى تجد النفس اللوامة ذلك النقص كان من حكمة الشريعة أن وضعت في مقابل النفس المقتولة نفسا تحرر من الأسر، ولذلك وقعت البشرية في نظري عند حدود إما القتل وإما إحياء نفس بتحريرها وإما بتنظيف باطن الإنسان بصورة الصيام، ولا يمكن أن نجعل القضية المالية أو دفع المال مساويا لما ذكرت، لأني قلت: إن مسلك الشريعة في قتل الخطأ والتعدي خطأ على الإنسان هو غير مسلكها في غيره.
التعزير، الحقيقة إن التعزير لا يكون إلا إذا كان هناك تعمد بمعنى أنه يندر صدوره في القتل الخطأ، فإذا كان يندر صدوره في قتل الخطأ ولكن هناك من ناحية أخرى التقصير، تقصير معتمد من صاحب السيارة أو من صاحب المركبة أو من صاحب الطائرة أو من شركة الطيران أو من شركة البواخر، فهنا يأتي التعزير، بما يمنع المستعملين لهذه الوسائل من التحرر بهذه الوسائل الفتاكة بالبشرية، والتعزير أراه واجبا ومؤكدا وأن يقنن تقننيا واضحا، وهذا التعزير قد يكون بالمال وقد يكون بالسجن وقد يكون بما يراه من ينظر في المصلحة العامة، ما يراه أولى وأجدر بردع الناس في تجاوزهم لحدود استعمال هذه الوسائل.
أمر آخر: وهو السائر في الطريق، إذا تسبب في الحادث، قطع الطريق في مكان ليس له الحق أن يقطعه فإذا بالسائق يضغط على الكابح فصدم وجهه أو الذي بجانبه على البلور الأمامي فمات، فإذا وقعت مثل هذه الواقعة فم إذا يتحمل السائر في الطريق الذي تسبب في موت السائق في السيارة؟ وهو من النواحي التي ينبغي أن تبحث في نظري.
ثالثا: من القضايا التي ينبغي أن تبحث وهي: السيارة نفسها إذا انفجرت فتسببت في المشاكل التي عرض لها الدكتور الخياط – جزه الله خيرا – وكذلك القضية التي تعرض لها فضيلة السيد الرئيس، وهو: ما هو الحكم إذا انفلتت وشردت؟ أي إذا كانت السيارة اصطدمت بسبب الشرود، وكثيرا ما وقع، يسوق السيارة بقوة أو هو يضغط على المنبه بقوة فتشرد السيارة فتشرد الدابة فترتطم بالسيارة فيموت السائق أو بعض من يحمله أو يعطب له عطب، هذه قضية لا أقول فيها حكمي، لكن لا بد أن تبحث وأن يعطي لها حكم في مثل هذا.
الأمر الآخر: وهو أنه قد يكون المتسبب في حوادث السير الدولة، بما أن الدولة هي المحافظة على الطريق، وهذا نجد له أثرا في مقالة عمر: أنه يخشى على نفسه "لو عثرت دابة" وإهمال الدولة هذا يجب أن يبحث أيضا، وأن يعطي له أحكام، وأن تعرف الدولة أنها مسؤولة، وأن القضاء يحاكمها إذا كانت هي السبب في الحادث الذي وقع للسيارة فمات بها السائق أو مات بها من معه، ولهذا أرى في موضوع كهذا الذي وقعت دراسته من كثير ممن تقدمنا أو خاصة عن استعمال هذه الوسائل من قبلنا وأعطوها صورا كثيرة وأحكاما كثيرة، فأعتقد أنه لا بد من تتبع قانوني ثم تسوية الحكم الشرعي على الصورة التي أبرزها القانونيون عبر قرن كامل.
هذا ما أردت أن أعقب به وشكرا لكم على الاستماع. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الدكتور درويش جستنيه:
بسم الله الرحمن الرحيم
النقطة الأولى: فيما يتعلق بموضوع المتسبب في الحادث، والمتسبب - كما ذكر الدكتور الخياط وغيره – إما أن تكون له ثروة بحيث إنه لا يهمه التعزير المالي ويعيث في الأرض فسادا، فلذلك ينبغي أن نقول: أن التعزير المالي والبدني في حوادث السير وغيرها ينبغي أن يكون بالشكل الذي يرضاه الدين الإسلامي.
النقطة الثانية: لم يتعرض كثير من السادة الأفاضل في بحوثهم عن مسؤولية الشركات والمؤسسات الناقلة لأن الاتجاه الحديث الآن النقل الجماعي بالأوتوبيسات بالقطار وبالسفن والنقل السياحي إلى آخره، هذه الوسائل تختلف عن العربة التي يملكها الشخص، وهناك أصحاب السيارات والسائقون وأولياء الأمور والأطفال الذين يقودون برخص قيادة إلى آخره، مشاكل كثيرة ومسؤوليات كثيرة، فلا بد أن تكون هذه محصورة، أقصد أن تكون ملاحظة في كتابات الذين يتحدثون عن مشاكل وحوادث السير؛ لأن المسؤوليات لو وجدت في شركة النقل، هل نقول: هي مسؤولية السائق، فالسائقون فقراء وليس لدهم مال حتى لو ألزمناهم، فهل نلزم الشركة أن تؤمن؟ وبالتالي نخرج من هذه المشكلة، مشكلة التأمين، فنقول بإلزامية التأمين، تفاديا لهذه الحوادث، أرجو أن يكون محور الحديث يدور حول أشياء أوسع من المسؤولية المباشرة لسائق سيارة الركوب العادية.
النقطة الثالثة: ينبغي أن يقودنا الكلام عن حوادث السير إلى موضوع هام جدا، أقترح أن يدرس في إحدى دورات المجمع إن شاء الله، وهو عن المخاطر الصناعية، والمخاطر التجارية، والمخاطر العمالية، والحوادث الصناعية التي تقع، وهدم المنازل؛ هذه مسائل مهمة، هذه المصانع والصناعات الكبيرة سمة من سمات العصر، فلو تصورنا مثلا أنه حدث فيها انفجار كبير من المسؤول؟ المصنع أو الشركة؟ وكيف يتم هذا أو كيف تتم معالجته؟ وعلى أي أساس؟ أيضا هدم المنازل، هل المسؤول أو المالك أو المقاول أم المهندس أم المخطئ أم الحكومة التي اطلعت على المخططات قبل الإنشاء؟ أيضا هذه مشاكل مهمة تتعلق بأرواح الناس ومتلكاتهم، المخاطر الصناعية كثيرة منها المباشر مثل التلوث ومنها غير المباشر، فأرجو أن تتاح الفرص لمثل هذه الأشياء.
مسألة أخرى أيضا مهمة، أريد أن أوجه إليها، وهي الغش التجاري الذي يؤدي أحيانا إلى التسمم والهلاك؛ إما بطريق الغذاء أو عن طريق الاستعمالات الأخرى، وإما أن تؤدي إلى الهلاك أو الإصابات بالأمراض المختلفة، فإذن هذه مسائل لا بد أن نلاحظها في إحدى دورات المجمع ونتكلم فيها.
لذلك أقترح أن تدرس المخاطر والمسؤوليات الجنائية كوحدة واحدة، وفي النهاية تصل إلى شيء، هل نقول بإلزامية التأمين على أساس أن هذا يحقق مسألة شرعية معتبرة أم لا؟ أي ننتهي إلى هذه النتيجة وبعدها ندرس هذه الأشياء، ولا شك أننا جميعا نشعر بأهمية هذه المسائل للعمل التجاري والصناعي وهذه الأمور المتقدمة، وحوادث السير جزء من هذه الأمر.
وأرجو الله التوفيق وأشكركم على إتاحة الفرصة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الدكتور عمر جاه:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
أشكر فضيلة الرئيس وأشكر للمشائخ والعلماء الذين كتبوا في هذا الموضوع، وأشكر للذين تدخلوا وعلقوا تعليقات جيدة، ومما لا شك فيه أن الذين تدخلوا قبلي أغنوني عن كثير من النقاط التي كنت أود أن أتناولها في هذا التعليق الموجز، لكنني أود أن أشير إلى أن وسائل المرور التي تكلم عنها الفقهاء تطورت وتنوعت وتشعبت، وقد أضيفت إليها الآن وسائل أخرى، فالنقل الجوي والمرور الجوي لم يتناولهما العلماء لأنهما غير معروفين في زمنهم، ومن الملاحظ أن الفقهاء الذين تناولوا البحث في هذا الموضوع ركزوا على جوانب معينة ولعل عامل الوقت لم يسعفهم للتنبه إلى جوانب أخرى من الأهمية بمكان، فالنقل ومشاكل المرور تتعلق به أشياء كثيرة تمس حياتنا كدول وكشركات وأفراد، فالنقل يعتمد عليه اقتصاديات الدول والتعامل التجاري والاقتصادي، والتعامل الصناعي يعتمد اعتمادا كليا على النقل.
ومما لا شك فيه أن دولنا الإسلامية التي كلفتنا بالنظر في هذه المسائل الشرعية للخروج بحلول من الممكن استعمالها، هذه الدول التي كونت المجمع والتي نمثلها والدليل على ذلك أن كل واحد منا يجلس أمام علم من الأعلام، وهذه الأعلام تشير إلى الدول، فهذه التكلفة تشمل أشياء كثيرة، وأن هذه الدول قننت ووضعت أنظمة للمرور، هي قوانين ينبغي أن نستأنس بها وأن نستنير بها في كل فتوى نصدرها من هنا، وقد سبقني في هذا مشائخ، الشيخ خليل أشار إلى هذا، والشيخ الخياط أشار إليه كذلك وغيرهما من المتكلمين، ولكنني أريد أن أضيف إضافات بسيطة هذا مما تفضلوا بها، فقوانين المرور في الوقت الحاضر هي قوانين دولية معروفة لدى الجميع، تقنن وتحمل المسؤولية على ثلاث جهات مختلفة، هناك الشيخ السلامي جزاه الله خيرا أشار إلى مسؤولية الدولة، فالطريق لها اعتبارات في تحميل المسؤولية، والمركب له اعتبارات والسائق عليه المسؤولية، ولذلك نرى أن الدول في قوانينها المرورية سواء المرور البحري أو الجوي أو البري تؤهل السائق؛ لأن هذا السائق يخضع لاختبارات متعددة وشائكة لكي يضمن أنه يستحق المؤهل لكي يسوق، وأما المركب فينبغي أن يكون في حالة جيدة، وأن الطريق ينبغي أن يكون في حالة جيدة.
ويقولون: ما من حادث حدث إلا ووراءه خطأ، فينبغي أن يكون هناك من يتحمل مسؤولية هذا الخطأ، إذا كان السائق لا يجيد السياقة فهو مخطئ أو إذا كانت حالته غير جيدة أو سكران أو غير ذلك، وأن المركب ينبغي أن يصان ويؤكد أنه صالح للسير، وأن الطريق الذي يسلكه صالح أيضا. ومن هنا ينبغي، قبل إصدار أي فتوى أن نكون على بينة من القوانين التي تطبقها دولنا فيما يخص هذه المسألة، لأنه من الواضح البين أننا كلفنا بالبحث عن مشاكل شكلية نستطيع أن نقدم فيها حلولا لدولنا، وكيف نستطيع أن نقدم فتوى إلى دولة من الدول الإسلامية إذا لم نكن ملمين ومستنيرين بقوانين المرور التي تستعمل في هذه الدول؟
ولذلك وددت أن أضيف هذه الإضافات البسيطة إلى ما تفضل به العلماء الذين سبقوني في التعليق على هذا الموضوع الهام، والسلام عليكم ورحمة الله.
الشيخ علي السالوس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله.
توضيحات قليلة؛ لأن الإخوة شكر الله لهم وجزاهم خيرا، أفادوا في هذا الموضوع، بالنسبة للذين رفضوا تحمل النقابات وأجازوا التأمين، أقول هنا بأن تحمل النقابات هو نوع من التأمين التعاوني، النقابة عندما تتحمل هي تأخذ أصولا من أعضاء النقابة، هذا نوع من التأمين التعاوني فهو أولى، أما التأمين التجاري فقرار المجمع فيه واضح ولا يجوز أن نلجأ إليه إلا عند الضرورة. يعني الإنسان إذا كان غنيا قادرا على أن يتحمل الدية لا يلجأ إلى التأمين، إنما إذا كان - كما تفضل الشيخ عبد القادر العماري – لا يستطيع أن يتحمل الدية ومن هنا يباح له في هذه الحالة أن يؤمن تأمينا تجاريًّا.
بالنسبة للنقابات والوزارات والهيئات، أنا أعتقد أن المجمع عندما يصدر قرارا أو توصيات يجب أن يدعو هؤلاء إلى أن يجعلوا من ضمن أهداف التأمين عندهم حوادث المرور.
بالنسبة للكفارة: أعتقد أن عتق الرقبة فيه معنى الإحياء مقابل الموت وليست المسألة مادية بحتة، فتحرير الرقبة هنا فيه معنى الإحياء، ولذلك وجدنا أن فك الرقبة والإطعام والصيام والمال المنصوص عليه، إذن المسألة ليست مسألة مال فقط، وأرجو أن يوضع في قرارنا الحالات التي يكون فيها السائق غير مسؤول؛ لأن هذا يكاد يقطع الآن المعروف بين الناس، واحد يسير بسيارته يخشى أن يركب معه أحد حتى لا تحدث حادثة فيصبح مسؤولا، لذلك أرجو أن نوضح هذا جيدا، ويكون واضحا بارزا.
وفي المقابل كذلك نوضح الحالات الأخرى، وجدنا من يتسابق في الشوارع العامة، يتسابقون بسيارات في الشوارع العامة، هؤلاء هل يعتبر قتلهم قتل خطأ أم يعتبر عمدا أو شبه عمد؟ هي نقطة أرجو أيضا أن توضح.
بالنسبة كذلك للبهائم، وهذه حوادثها كثيرة في بعض البلاد، أرجو أن يكون القرار واضحا بالنسبة لمسؤولية صاحب هذه البهائم، متى كان مستطيعا أن يمنعها من أن تتسبب في الحوادث.
بالنسبة للمتسبب والمباشر، أرجو أيضا أن يكون واضحا؛ لأن أحيانا كثيرة يكون المباشر غير مسؤول ويكون المتسبب هو المسؤول.
تصادم السفن والفارسين، بعض الإخوة أشاروا إليه في أبحاثهم – جزاهم الله خيرا – ووضحوه توضيحات طيبة. ونشكرهم ونكتفي بهذا، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
الشيخ عبد الله بن منيع:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على نبينا محمد، وبعد:
أقدر لإخوتي الأعزاء الباحثين: الدكتور عبد القادر العماري، والشيخ تقي العثماني، والدكتور عبد الله محمد، والأستاذ محمود شمام، ومحمد عطا؛ أقدر لهم هذه المجهودات الجيدة التي أثرت الموضوع ثراء علميا، نعتز باقتنائه والحصول عليه، فجزاهم الله خيرا.
في الواقع: محبكم أحد أعضاء هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، والدكتور عبد القادر العماري أشار إلى ما صدر من الهيئة، وأحب أن أذكر حقيقة ما صدر من الهيئة أو حقيقة الأمر الذي جرى عند هيئة كبار العلماء.
في الواقع موضوع حوادث السير عرضت على الهيئة وأعد فيها بحث، هذا البحث تناول ما ذكره الفقهاء من تصادم السفن والخيول والإبل وغيرها من المراكب، وتأملوا في الموضوع وقارنوا بين هذه الصور التي ذكرها فقهاؤنا الأجلاء القدماء وبين حوادث السير الناتجة عن مخالفات وتجاوزات، فوجد أن هناك فارقا كبيرا بين الصور التي ذكرت في السابق وبين حوادث السير، ذلك أن حوادث السير في الواقع تحكمها أنظمة، هذه الأنظمة صدرت من جهات مختصة بالسير والمرور تعنى بنظام الطريق وتعنى بنظام منح رخصة السير، وتعنى بما يجب أن تكون عليه آلة السير من صلاحية كاملة لا تكون سببا من أسباب التفريط والتعدي والتقصير في تسليطها على هذه الطرق وبالتالي تسليطها على من يتأذي بسيرها والحال أنها غير مؤهلة لذلك؛ الهيئة بحثت الموضوع ولكنها رأت أن حوادث السير في الواقع ليست منضبطة حتى يصدر فيها قرار، وإنما هي محكومة بهذه الأنظمة، وكل قضية من قضايا حوادث السير لها في الواقع أحوالها الخاصة، فهذه القضية أحد المتسببين يتحمل نسبة كبيرة من حيث خطؤه وتقصيره، والآخر قد لا يتحمل نسبة صغيرة، فقد وكل الأمر إلى القضاة أنفسهم وإلى ما يقدم إليهم من قرارات فنية من الجهات المعنية بالمرور.
هذا جانب، وجانب آخر بحثته هيئة كبار العلماء وهو ما يتعلق بتضمين أصحاب المواشي الذين يطلقون مواشيهم، فبحثوا الموضوع وانتهوا إلى القرار الذي تفضل بالإشارة إليه فضيلة الدكتور عبد القادر، وهو أن الدابة ضمانها هدر، ثم نظروا هل يمكن أن يضمن صاحب الدابة ما تلف من هذا الحادث فترددوا في إصدار قرار، ورأوا أن ذلك ينبغي أن يعود إلى القضاء نفسه، فالقضاء هو الذي يقدر المسؤولية، وبالفعل وجه هذا التوجيه إلى بعض القضاة الذين أثاروا الموضوع لدى هيئة كبار العلماء، وفي نفس الأمر صدرت قضايا من القضاة في المملكة بتضمين بعض ملاك المواشي، وجاءت هذه القضايا أو هذه الأحكام إلى محكمة التمييز وأيدت هذا.
والأمر كما تفضل به فضيلة الرئيس من أن الأمر بتضمين الملاك ليس على إطلاقه، ولكن ينبغي أن يلاحظ أن لديهم من التفريط وعدم الاهتمام بمواشيهم ما يجعلهم مسؤولين من حيث الجملة.
هذه ناحية، وناحية أخرى وهي ما يتعلق بالتردد في قبول العقوبة المالية، وبعض الإخوة المعلقين قالوا بهذا التردد، في الواقع إن العقوبة – كما هو معروف – تكون عقوبة جسدية من حيث الجلد أو الحبس وتكون عقوبة مالية، وللإمامين الكريمين رحمهما الله، شيخ الإسلام ابن تيمية وتليمذه ابن القيم مجال واسع في توضيح هذه المسألة وفي ذكر مجموعة كبيرة من الأمثلة التي تدل دلالة واضحة لا غبار عليها في أن العقوبة المالية معتبرة، فيمكن أن يصادر مال ويمكن أن يحرق مال، ويمكن أن يغرم المتسبب، وتكون هذه الغرامة لمن تضرر بهذا السبب، وفي الطرق الحكمية وفي الحسبة الشيء الكثير مما ذكرت.
نقطة سمعتها كذلك من الإخوة – جزاهم الله خيرا – وهي: إثارة بدل الرقبة، الرقبة الآن في الكفارة غير موجودة أو متعسرة، يتعسر الحصول عليها، وقال بعض الإخوة: يمكن أن نأخذ بالبدل المالي، ولكن لو نظرنا إلى ما ذكره علماؤنا الأفاضل حدثا وسلفا، لا نجد أحدا فيما أعلم قال بهذا القول، وهذا يذكرنا بفتوى صدرت وصارت مجال تندر، وقد صدرت من أحد الفقهاء في الأندلس حينما كان من الوالي جماع زوجته في نهار رمضان، فأفتاه بأن عليه أن يصوم ولا يعتق رقبة، ولفتواه شيء من النظر، لكنها مخالفة للإجماع فهي مردودة، وقال في فتواه: إن لديه الاستعداد أن يعتق مئات من الأرقاء في سبيل إشباع شهوته وانتهاك حرمة رمضان، فرأى أن يعاقب بالصوم، ولكن هذه النظرة بالرغم من أن لها من حيث ما يبررها، أو لها ما يجعلها مقبولة من حيث العاطفة لا من حيث الدلالة الشرعية، فهو يقول: يمكن أن يعتق مئات الأرقاء ويتمتع بشهوته، ولكنه لا يستطيع أن يصوم شهرين أو يصوم لكل واقعة شهرين، فأفتاه بالصيام دون الإعتاق، ولا يخفى أن الكفارة مبنية على الترتيب: عتق رقبة فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فكانت هذه الفتوى مجال تندر، والحاصل أنه لا ينبغي لنا أن نأتي بشيء لم يقل به أحد من أهل العلم، فقد كفينا، لكن حينما نختار بعض آراء لعلمائنا الأفاضل ونقول: إن المقتضى يقتضي الأخذ بها، هذا يمكن أن يكون، أما أن نأخذ بشيء لم يقل به أحد، وهو مخالف للنص، فهذا لا يجوز أن نأخذ به، وإن كنا نستحسنه من حيث العاطفة ومن حيث انشراح الخاطر له، وعلى كل حال، نحن بشر، والله تعالى حكيم حميد، وقد مَنَّ علينا بهذا التشريع المبارك، وهو أعلم بنا وبما يصلح أحوالنا.
فهذا ما أحببت أن يشار إليه، وشكرا يا فضيلة الرئيس وأيها الإخوة الأعزاء.
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
من هذه المداولات التي تمت في حوادث السير تناولت الجوانب الآتية:
الجانب الأول: ترتيب المسؤولية في حوادث السير، والاتجاه الآن إلى نسبة التسبب.
والملحظ الثاني في العاقلة، والثالث في الكفارة، والرابع في التعازير المالية، والخامس في تغريم صاحب الدابة.
وعلى الرغم من أن البحوث لم تتناول هذه المسائل الخمسة بأكملها، وإنما تناولت عددا منها، إلا أن المناقشة تجاوزت إلى هذه المسائل وإلى مسائل فرعية أخرى، إضافة إلى أن التوجه العام الذي تفيده المداولة في هذه المسائل هو أنها أو عددا منها بحاجة إلى مزيد من البحث واستقطاب النظر وإحضار الدارسات المتخصصة في هذا الموضوع، وبجانب ذلك يوجد بعض المسائل يمكن أن يوضع فيها التقعيدات الفرعية الشرعية التي اتضحت من خلال المداولات وأن يبت فيها بالرأي، والمقرر والعارض على بصيرة بذلك.
ويمكن تأليف اللجنة لهذا من أصحاب الفضيلة: الشيخ عبد الله البسام، والشيخ تقي العثماني، والشيخ وهبة الزحيلي، والشيح علي التسخيري، والدكتور عبد الله محمد؛ بالإضافة إلى العارض والمقرر. مناسب، وبهذا ترفع الجلسة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
القرار
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين
وعلى آله وصحبه
قرار رقم: 75 / 2 / د8
بشأن
حوادث السير
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سيري باجوان، بروناي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414 هـ الموافق 21 – 27 يونيو 1993 م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: "حوادث السير".
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله.
وبالنظر إلى تفاقم حوادث السير وزيادة أخطارها على أرواح الناس وممتلكاتهم، واقتضاء المصلحة سن الأنظمة المتعلقة بترخيص المركبات بما يحقق شروط الأمن كسلامة الأجهزة وقواعد نقل الملكية ورخص القيادة والاحتياط الكافي بمنح رخص القيادة بالشروط الخاصة بالنسبة للسن والقدرة والرؤية والدراية بقواعد المرور والتقيد بها وتحديد السرعة المعقولة والحمولة.
قرر ما يلي:
1-
أ- أن الالتزام بتلك الأنظمة التي لا تخالف أحكام الشريعة الإسلامية واجب شرعا، لأنه من طاعة ولي الأمر فيما ينظمه من إجراءات بناء على دليل المصالح المرسلة، وينبغي أن تشتمل تلك الأنظمة على الأحكام الشرعية التي لم تطبق في هذا المجال.
ب- مما تقتضيه المصلحة أيضا سن الأنظمة الزاجرة بأنواعها، ومنها التعزير المالي، لمن يخالف تلك التعليمات المنظمة للمرور لردع من يعرض أمن الناس للخطر في الطرقات والأسواق من أصحاب المركبات ووسائل النقل الأخرى أخذا بأحكام الحسبة المقررة.
2-
الحوادث التي تنتج عن تسيير المركبات تطبق عليها أحكام الجنايات المقررة في الشريعة السلامية، وإن كانت في الغالب من قبيل الخطأ، والسائق مسؤول عما يحدثه بالغير من أضرار سواء في البدن أو المال إذا تحققت عناصرها من خطأ وضرر ولا يعفى من هذه المسؤولية إلا في الحالات الآتية:
أ- إذا كان الحادث نتيجة لقوة قاهرة لا يستطيع دفعها وتعذر عليه الاحتراز منها، وهي كل أمر عارض خارج عن تدخل الإنسان.
ب- إذا كان بسبب فعل المتضرر المؤثر تأثيرا قويا في إحداث النتيجة.
ج- إذا كان الحادث بسبب خطأ الغير أو تعديه فيتحمل ذلك الغير المسؤولية.
3-
ما تسببه البهائم من حوادث السير في الطرقات يضمن أربابها الأضرار التي تنجم عن فعلها إن كانوا مقصرين في ضبطها، والفصل في ذلك إلى القضاء.
4-
إذا اشترك السائق والمتضرر في إحداث الضرر كان على كل أحد منهما تبعة ما تلف من الآخر من نفس أو مال.
5-
أ – مع مراعاة ما سيأتي من تفصيل، فإن الأصل أن المباشر ضامن ولو لم يكن متعديا، وأما المتسبب فلا يضمن إلا إذا كان متعديا أو مفرطا.
ب- إذا اجتمع المباشر مع المتسبب كانت المسؤولية على المباشر دون المتسبب إلا إذا كان المتسبب متعديا والمباشر غير متعد.
ج- إذا اجتمع سببان مختلفان كل واحد منهما مؤثر في الضرر، فعلى كل واحد من المتسببين المسؤولية بحسب نسبة تأثيره في الضرر، وإذا استويا أو لم تعرف نسبة أثر كل واحد منهما فالتبعة عليهما على السواء.
والله أعلم