المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادالدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ٨

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد الثامن

- ‌الأخذ بالرخص الشرعية وحكمهإعدادالدكتور: وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌موضوع: " الأخذ بالرخص الشرعية وحكمه

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادالدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادالشيخ خليل محيي الدين الميس

- ‌الرخصة (التلفيق)إعدادالشيخ خليل محيي الدين الميس

- ‌التلفيق والأخذ بالرخصة وحكمهماإعدادحجة الإسلام الشيخ محمد علي التسخيري

- ‌الأخذ بالرخص الشرعية وحكمهإعدادمحمد رفيع العثماني

- ‌حكمالرخصة وتتبع الرخصفي الفقه الإسلامي

- ‌الأخذ بالرخصةإعدادأ. د. حمد عبيد الكبيسي

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادالشيخ مجاهد الإسلام القاسمي

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادأ. د. عبد العزيز عزت الخياط

- ‌الرخصةإعدادالشيخ محمد الشيباني بن محمد بن أحمد

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهتتبع الرخص – التلفيق ورأي الفقهاء فيهإعدادفضيلة الشيخ مصطفى كمال التارزي

- ‌الأخذ بالرخص وحكمهإعدادالشيخ الطيب سلامة

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادالدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين

- ‌الأخذ بالرخص وحكمهإعدادالدكتور أبو بكر دوكوري

- ‌بيع العربُونإعدادفضيلة الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌بيع العربُونإعدادالدكتور وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌بيع العربونإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌بيع المزايدةإعدادفضيلة الشيخ محمد المختار

- ‌عقد المزايدةبين الشريعة الإسلامية والقانوندراسة مقابلةمع التركيز على بعض القضايا المعاصرةإعدادعبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان

- ‌قواعد ومسائلفيحوادث السيرإعدادالقاضي محمد تقي العثماني

- ‌ موضوع "حوادث السير

- ‌حوادث السيرإعدادد. عبد الله محمد عبد الله

- ‌حوادث السيرإعدادالشيخ عبد القادر محمد العماري

- ‌حوادث السيرإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌التطبيقات الشرعيةلإقامة السوق الإسلاميةإعدادالدكتور علي محيي الدين القره داغي

- ‌التطبيقات الشرعيةلإقامة السوق الإسلاميةإعدادالأستاذ الدكتور / علي السالوس

- ‌الائتمان المولد على شكل بطاقةمع صيغة مقترحة لبطاقة ائتمانية خالية من المحظورات الشرعيةإعدادسعادة الدكتور محمد القري بن عيد

- ‌بطاقات الائتمانإعدادالشيخ حسن الجواهري

- ‌سر المهنة الطبية بين الكتمان والعلانيةإعدادالدكتور أحمد رجائي الجندي

- ‌مسؤولية الطبيبإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌مداواة الرجل للمرأةوالمرأة للرجلإعدادالدكتور محمد علي البار

- ‌نقص المناعة المكتسبة (الإيدز)الأحكام المتعلقة بالمرضى والمصابينإعدادأ. د. مصطفى عبد الرؤوف أبو لسان

- ‌بعض المشاكل الأخلاقية والاجتماعيةالناتجة عن مرض الإيدز(نقص المناعة المكتسبة)إعدادالدكتور محمد علي البار

- ‌مرض الإيدز(نقص المناعة المكتسبة)أحكامه وعلاقة المريض الأسرية والاجتماعيةإعدادالدكتور سعود بن مسعد الثبيتي

- ‌التداوي بالمحرماتإعدادالدكتور محمد علي البار

- ‌بحوث مجمعية

- ‌حُسن وفاء الديونوعلاقته بالربط بتغير المستوى العام للأسعارإعدادالدكتور صالح بن زابن المرزوقي البقمي

- ‌ربط الأجور بتغير المستوى العام للأسعارفي ضوء الأدلة الشرعيةإعدادد. حمزة بن حسين الفعر

- ‌الربط القياسي للأجور بالمستوى العام للأسعارتحليل من منظور إسلامي لمشكلة الأجورفي ظل التضخم والعلاج المقترحإعدادد. عبد الرحمن يسري أحمد

- ‌التضخم والربط القياسيدراسة مقارنة بين الاقتصاد الوضعيوالاقتصاد الإسلاميإعدادالدكتور شوقي أحمد دنيا

- ‌ربط الأجور بتغير المستوى العام للأسعاربين الفقه والاقتصادإعدادد. محمد أنس الزرقا

- ‌ندوة قضايا العملةالربط القياسي للديون بعملة اعتباريةإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌ملاحظات أساسيةفي مسألة ربط الأجور والمستحقاتإعدادالدكتور سيف الدين إبراهيم تاج الدين

- ‌مشاكل البنوك الإسلاميةمحاورإعدادمجموعة دلة البركة

- ‌مشاكل البنوك الإسلاميةمحاورإعدادبيت التمويل الكويتي

- ‌الصعوبات التي تواجه البنوك الإسلاميةوتصورات لكيفية مواجهتهاإعدادأ. د. إسماعيل حسن محمد

- ‌مشاكل البنوك الإسلاميةعقد السلم ودوره في المصرف الإسلاميإعدادالشيخ صالح الحصين

- ‌مشكلات البنوك الإسلامية في الوقت الحاضرإعدادد. محمد نجاة الله صديقي

- ‌في مشكلات المصارف الإسلاميةإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌حكم المشاركة في أسهم الشركات المساهمةالمتعاملة بالرباتجربة مجموعة دلة في أسلمة الشركاتعن طريق شراء أسهمهاإعدادالشيخ صالح عبد الله كامل

- ‌المشاركة في شركات تتعامل بالحرامإعدادالشيخ عبد الله بن بيه

الفصل: ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادالدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين

‌الأخذ بالرخصة وحكمه

إعداد

الدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله عليه وسلم على أفضل الأولين والآخرين سيدنا محمد

مقدمة:

إن الله تبارك وتعالى أراد بعباده خيرًا فلم يكلفهم بما لا يطيقون، وبين لهم أحكام ما كلفهم به، وجعل شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم دين سماحة وسهولة ويسر، وكان صلى الله عليه وسلم يتجنب مواضع العسر، ويسلك سبل اليسر، فما خير عليه السلام بين أمرين إلا اختار أيسرهما، فقال سلام الله عليه:((دين الله يسر، ولن يشاد هذا الدين أحد إلا وغلبه)) وقال: ((يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا)) وهو بذلك مطبق لقول الله عز وجل: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] فالله أراد بعباده خيري الدنيا والآخرة، بتوجيههم الوجهة الصالحة، عن طريق تعاليم هيأتهم لتحمل أعبائها وأعفتهم، إما باستبدال الأشد بالأسهل مثل التيمم لعذر بدل الوضوء، وإما بإلغاء الفرض نفسه مؤقتًا مثل الصلاة بالنسبة للحائض أو التأجيل كالصوم بالنسبة لها أيضا واستخلص علماء الأصول من نصوص الكتاب والسنة، أن العزيمة كلما كان تطبيقها جالبًا لمشقة كلما كان ذلك مدعاة لرخصة مخففة، فالأمر لا محالة استهدف صدوره أو إناطة المكلف به تحقيق مصلحة عاجلة أو آجلة، أو هما معا، ولم يترك كل أمر على إطلاقه، بل لا يمكن أن يمتد إطلاقه إلى ما تحصل به مضرة المكلف، إذ بمجرد ما تحصل المضرة تباح الرخصة، كاستثناء من العزيمة، التي هي الأمر.

ولقد حثت مراسيم الشريعة على امتثال الأمر، ولكنها أيضا رغبت في استعمال الرخصة عند حصول المضرة من العزيمة، ففي الحديث الشريف:((إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يجب أن تؤتى عزائمه)) ، وفيه ((بعثت بالحنيفية السمحة)) أخرجه أحمد في مسنده، وأخرج أحمد والطبراني، والبزار وغيرهما عن ابن عباس: قيل: يا رسول الله أي الأديان أحب إلى الله؟ قال: ((الحنيفية السمحة)) وروى الشيخان من حديث أبي هريرة: ((إنما بعثتم مبشرين)) .

هذه الأصول هي التي استخلص منها العلماء القاعدة القائلة: " المشقة تجلب التيسير ".

وحتى نستطيع أن نلم بمختلف جوانب الموضوع حسب المستطاع نقسم هذا العرض إلى المباحث الآتية:

المبحث الأول: تعريف الرخصة والعزيمة.

المبحث الثاني: حكم الرخصة.

المبحث الثالث: الرخصة إضافية لا أصلية.

المبحث الرابع: هل الأفضل الأخذ بالعزيمة أم بالرخصة؟

خاتمة: تشمل على نظري في الموضوع.

ص: 377

المبحث الأول – تعريف العزيمة والرخصة:

سنقسم هذا المبحث إلى فقرتين: الأولى نتعرض فيها باقتضاب لتعريف العزيمة وأنواعها، والثانية نخصصها لتعريف الرخصة، على أننا سنتوسع في تحليل الرخصة أكثر في المباحث القادمة بحول الله.

1-

تعريف العزيمة: عرفها الشاطبي في الموافقات بأنها: ما شرع من الأحكام الكلية ابتداء.

وقال الآمدي: " أما العزيمة، ففي اللغة الرقية، وهي مأخوذة من عقد القلب المؤكد على أمر ما، ومنه قوله تعالى:{فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115] أي قصدا مؤكدًا (1) .

فالعزيمة لا يختص حكمها بجماعة من المكلفين دون أخرى فلقد شرعت على الإطلاق والعموم، ولا تختص بحال دون حال ولا بنوع من المكلفين دون بعض، ونفس الحكم ينطبق على الزكاة والصوم، والحج، وسائر شعائر الإسلام وكذلك المصالح التي لا غنى للإنسان عنها في الدارين، كعقود المعاوضات وأحكام الجنايات، مما يعبر عنه اصطلاحًا بكليات الشريعة.

ومعنى كونها كلية: أنه لا تختص ببعض المكلفين دون بعض، كالصلاة وجوبها لا يهم نوعًا من المكلفين خاصا يعتبر فرضها عليه هو وحده، فتجب عليه، إذا تمت مواصفات معينة، وتزول فرضيتها بزوال الشروط المطلوبة، فكليتها تنفي هذه الخصوصية، بعمومية فرضيتها على جميع المكلفين دون تمييز لا في الجنس ولا في المكان، ولا الأحوال؛ وإليه أشار جدنا الشيخ ماء العينين في نظمه لأحكام موافقات الشاطبي بقوله:

" وكونها كلية معناه: لا تختص بالبعض عن البعض جلا، يستنتج من هذا أن العزيمة أمر كلي عام شرع ابتداء، بحيث لا يستند في شرعيته على أمر سابق عليه، فتدخل في ذلك سائر شعائر الإسلام الكلية، كما يدخل فيه أيضا ما شرع لسبب مصلحي في الأصل كالمشروعات المتوصل بها إلى إقامة مصالح الدارين من البيع والإجارة والنكاح، وسائر عقود المعاوضات (2) وإن سبق حكم ثم نسخ بحكم آخر كان الناسخ حكمًا ابتدائيا غير مستند على السابق، ولا يخرج عن هذا التعريف ما كان من الكليات واردًا على سبب فإن الأسباب قد تكون مفقودة قبل ذلك فإذا وجدت اقتضت أحكامًا كقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} [البقرة: 104] الآية، وقوله تعالى:{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنعام: 108]، وقوله:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] فكل هذا عرفه الشاطبي بأنه تمهيد لأحكام وردت شيئا بعد شيء بحسب الحاجة، وكله تشمله العزيمة فهو شرع ابتدائي حكمًا، وقد يرد استثناء من حكم عمومي، ويبقى حكمًا ابتدائيا كقوله تعالى:{وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 229] .

نكتفي بهذه اللمحة عن العزيمة لنتمكن من معرفة كيف تستخرج منها الرخصة.

(1) الإحكام في أصول الأحكام للآمدي 1 /170

(2)

انظر الموافقات للشاطبي 1 /204، والمرافق على الموافق ص 91، والآمدي في الإحكام على أصول الأحكام، والأشباه والنظائر للسيوطي.

ص: 378

2-

تعريف الرخصة:

يقصد بالرخصة: " ما شرع لعذر شاق استثناء من أصل كلي يقتضي المنع، مع الاقتصار على مواضع الحاجة " الموافقات للشاطبي، ولقد شرح الشيخ ماء العينين من متأخري المالكية هذا التعريف بقوله:" أعني أن الرخصة هي ما شرع لعذر شاق على العباد، ويكون مستثنى من أصل كلي يقتضي المنع في قول كل العلماء، مع الاقتصار على مواضع الحاجة فيه ".

فإذا كان العذر لمجرد الحاجة ودون المشقة فلا يسمى رخصة، كالقراض فإنه لعذر عجز صاحب المال عن الضرب في الأرض لكن لا يسمى رخصة، وكذلك المساقاة والسلم، فكلها شرعت لعذر، لكن انتفاء المشقة فيها ينزع عنها صفة الرخصة فتدخل تحت الحاجيات وتلك لم يسمها العلماء رخصة.

وقد يتحد عمل شخصين في لحظة واحدة ولفعل واحد، فلا يعتبر عمل أحدهما رخصة، بينما تطلق الرخصة على فعل الآخر، مثل: الإمام يعجز عن الصلاة واقفًا أو يقدر بمشقة، فمشروع في حقه الانتقال إلى الجلوس ويسمى عمله هذا رخصة، وبما أنه إمام فالحديث الشريف قال:((وإنما جعل الإمام ليؤتم به)) إلى أن قال: ((وإن صلى جالسًا فصلوا جلوسًا أجمعون)) فصلاتهم جلوسًا لم تأت عن طريق المشقة، وإنما أتت لضرورة اتباع الإمام بسبب النص المتقدم، القائل باتباع الإمام، وعدم مخالفته، فعذرهم ليس المشقة، ولذلك لا يسمى عملهم هذا رخصة.

وكونها لا تقع إلا استثناء من أصل كلي بسبب ما يجلب عمله في تلك اللحظة للمكلف من مشقة، يبين أن الرخصة ليست بمشروعة ابتداء فهي دائما تأتي استثناء من العزيمة عندما تنجم عنها المشقة وهذا يذكرنا بالحديث الشريف القائل:((نهى عن بيع ما ليس عندك وأرخص في السلم)) فكل هذا قال الآمدي والشاطبي مستند إلى أصل الحاجيات، فقد اشترك مع الرخصة في بعض معانيها فيجري عليه حكمها وفي معنى كون الرخصة من بين مبررات استعمالها عند عدم المشقة قضية صلاة المأمومين جلوسًا بعذر اتباع الإمام، وصلاة الخوف المشروعة بالإمام أيضا، وقال الشاطبي بأن هاتين المسألتين من أصل التكميلات لا من أصل الحاجيات، فيطلق عليهما لفظ الرخصة، وإن لم تجتمع معهما في أصل واحد.

وقد تباح الرخصة بناء على الضرورة، وليست بناء على الحاجة؛ مثل المصلي يكون قادرًا على الصلاة قائما لكن بمشقة، فتكون الرخصة في حقه للحاجة وليست للمشقة.

وقد يطلق لفظ الرخصة على ما وضع عن الأمة الإسلامية من المشاق، والضرر، بسبب تطبيق عزيمة جلب تطبيقها مشقة قد تجلب مضرة، ومن خصائص هذه الملة السمحة تمكين العبد من قدر كبير من تيسير الله به، ولذلك وردت الرخص أيضا جلبًا للتوسعة على العباد، إذ يأتي نص يحمل عزيمة تضيق على المكلفين فتتدخل الرحمة واللين والسهولة التي تميزت بها الحنيفية السمحة فتمكنه من رخصة تجلب التوسعة استنادًا إلى قوله تعالى:

{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] وقوله تعالى: {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286]، وقوله:{رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286] ويرى الشاطبي والآمدي والشوكاني وابن حزم أن هذا المعنى يمكن أن يرجع إليه معنى الحديث القائل: ((إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يجب أن تؤتى عزائمه)) .

فهذا الدين الحنيف أتى سهلاً سمحًا مرخصًا في تجنب كثير من المشاق التي تكبدتها الأمم السابقة، وما شرعت الرخصة إلا لتجنب مشقة جلبها تطبيق عزيمة، فهي رحمة بالعباد، وتيسير ورأفة تمكنهم من نيل حظوظهم من الرحمة وقضاء أوطارهم دون المخالفة؛ فالعزائم أتت لتذكر العباد بأنهم ملك للخالق نافذ فيهم قضاؤه، واجب عليهم اتباع ما أمر به {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] ، {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا} [طه: 132] فعبوديتهم تحتم عليهم التذلل له والاتباع لأوامره، مهما كانت، فليس لهم حق لديه ولا حجة عليه، فإذا وهب لهم حظا ينالونه، فذلك كالرخصة لهم؛ فالعزيمة من هذا الوجه هي امتثال الأوامر، واجتناب النواهي على الإطلاق والعموم؛ كانت الأوامر وجوبًا أم ندبًا، والنواهي كراهة أو تحريما.

ص: 379

فأصبحت الرخصة هي كل ما كان تخفيفًا من شدة تطبيق العزيمة بصفتها حظا من رحمة الله أنعم به على عباده، وفي هذا الشأن تشترك الرخص مع المباح لكونهما معًا توسعة على العبد ورفعها للحرج عنه، وطريقًا لينال حظه من اللطف.

المبحث الثاني – حكم الرخصة الإباحة:

وذلك واضح من خلال نصوص الكتاب والسنة إذ الآيات رفعت الإثم عن المضطر، ولم تجعل جناحًا على المسافر إن قصر الصلاة في سفر الخوف وما قررته السنة بالنسبة للسفر كله، قال الله في كتابه العزيز:{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101] ثم أتت السنة في الحديث الذي رواه عمر فقالت: ((صدقة تصدق بها الله عليكم فلا تردوها)) .

ثم شرعت الرخصة أيضا لرفع الحرج عن المسلم في بعض المواقف التي تفرض عليه ارتكاب فعل أو قول يحرم على المسلم ولكن أجبر عليه، فتسامت به حينئذ عن المنطوق، أو المرتكب من ظاهر الفعل ليخاطب بحسب ما استقر في نفسه، قال الله في كتابه العزيز:{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] فهذا رأفة بالمؤمن رخص له الشارع في النطق بعبارة الكفر إذا خاف على نفسه، على أن يبقى قلبه مفعما بالإيمان عامرًا باليقين، متبرئا في قرارة نفسه مما نطق به لسانه، وهذه الرخصة هنا قال عنها الفقهاء: " لم يرد في جميعها أمر يقتضي الإقدام على الرخصة، بل إنما أتى بما ينفي المتوقع في ترك أصل العزيمة، وهو الإثم والمؤاخذة على حد ما جاء في كثير من المباحث بحق الأصل كقوله تعالى:{لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236] الآية، وقوله:{وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة: 235] وغير ذلك من الآيات المصرحة برفع الحرج عن الواقع في مخالفة نص العزيمة، ولم تأمر بضرورة استعمال الرخصة، مثل حديث: كنا نسافر مع رسول الله ومنا المقصر، ومنا المتم ولا يعيب بعضنا على بعض؛ لأنهم يتبعون قاعدة إدراك المرء في قرارة نفسه مدى استعداد جسمه لتطبيق العزيمة دون حصول المشقة فيجب اتباع العزيمة، بحصول المشقة فتسن الرخصة، والمراد بالمعنى الثاني: أن الرخصة المراد بها التخفيف عن المكلف ورفع الحرج عن أفراد الأمة من توفرت فيه شروط اتباع الرخصة، حتى يكون في سعة من وطأة ما يمكن أن تسببه العزيمة من مشقة يمكن أن ينشأ عنها الضرر، فيمكنه الشارع عندئذ من فرصة الاختيار، بين اتباع العزيمة والصبر على المشقة – إذا لم تسبب له المهلكة – أو الأخذ بالرخصة، ولكن إذا حصلت المضرة عند ذاك تنقلب الرخصة عزيمة وأصل الرخصة هو: الإباحة تطبيقا لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]، وقوله {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] .

ولو كانت الرخص مأمورًا بها ندبًا أو وجوبًا لما سميت رخصًا، ولبقيت عزائم بحيث تصبح الأوامر كلها جبرية لا استثناء فيها، مهما نشأ عنها من حرج ومشقة، ولتميزت الشريعة، لو كان ذلك بالشدة والقسوة والحرج بدل اللين والسهولة والرحمة، ووضع الفقهاء تساؤلات حول ما يمكن أن يفهم من أن الجمع بين الأمر والرخصة، جمع بين متناقضين، ثم أجابوا بما مضمونه:" لا يشك أن رفع الحرج والإثم في وضع اللسان إذا تجرد عن القرائن يقتضي الإذن في التناول والاستعمال ".

فإذا أتى الكلام مصحوبًا بسبب خاص لرفع الجناح والحرج كان لنا أن نحمله على مقتضى اللفظ لا على خصوص السبب، فقد يتوهم فيما هو مباح شرعًا أن فيه إثما، بناء على استقرار عادة تقدمت أو رأي عرض، كما توهم بعضهم قديمًا أن الطواف بالبيت بالثياب فيه إثم حتى نزل قول الله تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] وفي التعريض بالنكاح في العدة وغير ذلك.

ومن حيث الوصول إلى الخروج من وهم التناقض الحاصل في الجمع بين الأمر والرخصة، فلابد من الرجوع بالوجوب أو الندب إلى عزيمة أصلية لا إلى الرخصة بعينها، لندرك أن المضطر، الذي لم يجد ما يسد به رمقه وأوشك على الهلاك، أرخص له في أكل الميتة، قصدًا لرفع الحرج، إن أجهده الجوع، وعزيمة إن خاف الهلاك، فالرخصة مأمور بها لرفع الحرج، لكن إذا كان الفعل الذي نشأ عنه الحرج والمشقة ارتفع إلى سبب للهلاك، انقلبت الرخصة الناجمة عنه عزيمة، فالمثال السابق ينطبق على هذه القاعدة، فأكل الميتة مرخص فيه لسد المسغبة المضنية وواجب عندما يصل الأمر إلى حد الهلاك بسبب الجوع.

ص: 380

المبحث الثالث – الرخصة إضافية لا أصلية:

ليست الرخصة من الأحكام التي شرعت ابتداء لعموم المكلفين وغير مستندة إلى حكم آخر سابق عليها، أتت هي دون الارتباط به، بل على العكس من ذلك فالرخصة إضافية لا أصلية وهذا هو الأصل في أن المرء فيها فقيه نفسه، بسبب الإحساس الداخلي الذي يتولد عن طريق تطبيق العزيمة، وذلك لعدة أسباب؛ منها أن الرخصة من أسبابها المشقة، وتلك تختلف من شخص إلى شخص، ومن حال إلى حال، ومن زمان إلى زمان؛ فقد يكون السفر شاقا على فرد ومعه آخر في نفس الحالة لا يجد فيه أي عناء، فبالنسبة لهما واحد إن صام هلك أو أوشك على الهلاك، والثاني لا يجد فيه أي عناء، بل ربما يجد فيه قوة ولذة، فالأول تباح له الرخصة، والثاني مطالب بتطبيق العزيمة، وكذلك قصر الصلاة وبسبب ذلك ليس للمشقة ضابط معين، يمكن أن يعتبر قاسمًا مشتركًا، تباح بسبب حصوله الرخصة لكل المكلفين، بل الأمر متروك لإحساسهم ودرجات تحملهم، وحسابهم على الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ولذلك إن المشاق تختلف بالنسب والإضافات، وذلك يقضي بأن الحكم المبني عليها يختلف بالنسب والإضافات أيضا، وما قضية صيام الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم مع قضاء حاجاتهم، ومباشرة أعمالهم؛ إلا دليل على أن من يستطيع تنفيذ العزيمة دون حصول المشقة الضارة كان الأفضل له الأخذ بالرخصة، وهذا معنى كون الرخصة إضافية لا نستطيع استعمالها، إلا من خلال تطبيق عزيمة شعرنا بالحرج والمشقة في تطبيقها وأيضا بحسب الظرف الزمني، فالمسافر زمن الشتاء، وفي طائرة أو سيارة، وفي مسافة معتادة ليس كالمسافر على الخيل أو الإبل وفي زمن الحر، وقلة الزاد؛ وعلى هذا رأى الفقهاء بأن الشرع أقام السبب فيها مقام العلة، فاعتبر السفر لأنه أقرب مظان وجود المشقة وترك كل مكلف على ما يجد، وجعل كثيرًا من أحوال الرخصة متروكًا لاجتهاد المكلف، بل هو إضافي بالنسبة إلى كل مخاطب في نفسه، فمن كان من المضطرين معتادًا للصبر على الجوع ولا تختل حاله بسببه كما كانت العرب، وكما هو حال بعض العباد المروضين أنفسهم على تحمل الجوع فليست إباحة الميتة إليهم، على نفس درجة إباحتها لغيرهم من الضعفاء والمرضى، والإباحة المنسوبة إلى الرخص هي من باب رفع الحرج، لا من باب التخيير بين الفعل والترك، ورأى الآمدي أن هذا محل إجماع مستندًا على قول الله عز وجل:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] فلم يذكر أن له الفعل والترك، بل ذكر أن له التناول في حال الاضطرار برفع الإثم، وكذلك قول الله:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] ولم يقل فله الفطر، ولا فليفطر ولا يجوز له الصوم، بل اقتصر على ذكر نفس العذر، وأشار بأنه إن أفطر فعليه القضاء في أيام أخر، وهذه الأمثلة منطبقة على آية القصر في الصلاة بالنسبة للمسافر، وعدة حالات أخرى مثل الإكراه.

والغاية من ذلك أن الرخصة شرعت لرفع الحرج، وذلك لا يقتضي التخيير، ولو اقتضته للزم أن تكون مع مقتضى العزيمة من الواجب المخير، وليس كذلك إذا قلنا: إنها مباحة بمعنى رفع الخرج عن فاعلها؛ إذ رفع الحرج لا يستلزم التخيير، ألا ترى أنه موجود مع الواجب، وإنما كان ذلك ليتبين أن العزيمة على أصلها.

ص: 381

وإذا قيل بالتخيير بين الرخصة والعزيمة، فإن المجال في ذلك رحب، يقول صاحب إرشاد الفحول والموافقات ما يمكن تلخيصه فيما يلي: قال بعضهم: الأخذ بالعزيمة أولى لأمور منها:

1-

العزيمة هي الأصل الثابت المتفق عليه، المقطوع به، وورود الرخصة وإن كان مقطوعًا به أيضا، فلكي يتحقق التماثل فلابد من القطعية بهذا السبب وهو شيء نسبي، يهم حالة كل مكلف على حدة لأن مقدار المباح الذي هو مناط الرخصة غير منضبط، فالمشقة المؤدية إلى الفطر وقصر الصلاة غير محدودة تحديدًا موحدًا، كما أن الصبر والتحمل إذا لم يؤد لضياع النفس أو المال محمود لقول الله عز وجل:{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: 186]، وحث نبيه عليه الصلاة والسلام على الصبر فقال:{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35] ، وصيغة هذا الأمر هنا يفهم منها أنها من بين المسائل التي تكون لنا نحن أمته أسوة حسنة، وليست من الخصوصيات، ثم أتى الحث أيضا على الصبر عامًا مطلقا يعني جميع أفراد الأمة في قول الله:{وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43] .

2-

إن اعتبار المشقة في بعض الأمور يقصد منه التوسط في الأمر، فلا يقصد بحصول المشقة أن تقاس بحصولها لضعيف البنية المريض خلقة، الذي يتأثر جسمه بأضعف العوارض كما لا تقاس أيضا بالقوي، الذي لا يحس بوطأة الطوارئ إلا بعد أن تكون أهلكت غيره، فمناط المشقة هنا هو حصولها لمتوسط العادات، لأن الأمور الجزئية لا تحرم الأصول الكلية إنما تستثنى نظرًا إلى أصل الحاجيات بحسب الاجتهاد، والبقاء على الأصل من العزيمة هو المعتمد الأول للمجتهد، والخروج عن حكم العزيمة مع عوارض المشقات، التي لا تطرد ولا تدوم (1) .

3-

إذا أخذ بالترخيص في موارده على الإطلاق، كان ذريعة إلى انحلال عزائم المكلفين في التعبد على الإطلاق، فإذا أخذ بالعزيمة كان حريا بالثبات في التعبد والأخذ بالعزم فيه لأن أسباب الرخص أكثر ما تكون مقدرة ومتوهمة لا محققة، فربما عدها شديدة وهي خفيفة في نفسها، مما يؤدى إن اتبع بدون حدود إلى عدم صحة التعبد، واضطراب تطبيق العزائم، وسلوك سبل الرخص حسب هوى النفس وهو مذموم وحرام.

(1) الموافقات، وإرشاد الفحول، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي، وغيرهم

ص: 382

4-

مراسيم الشريعة الإسلامية مضادة للهوى من كل وجه، وكثيرًا ما يتداخل الهروب من المشقة مع اتباع هوى النفس المعارض في كثير من أوجهه لمراسيم الشريعة، فصاحب الهوى يشق عليه كل شيء، فكل من نبذ هواه، وحارب نوازع النفس الأمارة بالسوء، لا يلبث يصبر على المشقة، حتى يجد في نفسه القدرة على ممارسة الطاعات تطبيقًا للعزائم، كلما داوم عليها خفت عنه مشقتها حتى يجدها اعتيادية سهلة لا تؤثر فيه بشيء، فكم من شخص صبر على الصيام بتعب، وبعد أيام اعتاده وأصبح لا يحس بمشقة منه، على أنه يجب التنبيه على أن طلب الصبر يقصد به من يجد من نفسه الطاقة على تحمل ما ينجم عن العزيمة من مشقة، لا تضر نفسه، ولا ماله، إذ بإمكانه تأدية الفعل مع شيء من الاجهاد، الذي لا تنعكس آثاره على ما قلنا.

5-

إن المشاق التي هي مظان التخفيف على ضربين:

أ- أن يكون بقاؤه على العزيمة يدخل عليه فسادًا لا يطيقه طبعًا ولا شرعًا، ويكون ذلك محققا لا مظنونًا ولا متوهمًا، فإن حصل الأول فرجوعه إلى الرخصة مطلوب، وقد تصبح الرخصة هنا حقا لله، وإن كان مظنونًا كان المطلوب البقاء على أصل العزيمة، ومتى قوي الظن ضعف مقتضى العزيمة.

ب- الضرب الثاني: أن تكون توهمية بحيث لم يوجد السبب ولا الحكمة فلا يخلو أن يكون للسبب عادة مطردة، في أنه يوجد بعد أولى، فإن كان الأول فلا يخلو أن يوجد أولا، فإن وجد فوقعت الرخصة موقعها ففيه خلاف، أعني في إجراء العمل بالرخصة، لا في الإقدام ابتداء، إذ لا يصح أن ينبني حكم لم يوجد بعد، بل لا بناء على سبب لم يوجد شرطه (1) .

ومن هنا وقع الخلاف في لزوم أو عدم لزوم الكفارة لمن ظنت أنها ستحيض غدًا ففسخت نية الصوم في رمضان، والحال أنها لم تحض في ذلك اليوم، فمن العلماء من ألزمها الكفارة، ومنهم من أسقطها بناء على قول الله عز وجل:{لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68] .

وحاصل هذه التقسيمات أن الأفضل للمكلف اتباع العزيمة ما لم يخل ذلك بصحته أو ماله، وأن لا يستخدم الرخصة بمجرد الظن والتوهم، فالمشقة الحقيقية هي العلة التي من أجلها أبيحت الرخصة، وما عدا ذلك من الشعور بالإجهاد فهو تعب العبادة الذي أثيب عليه أصحابه وهو الصبر الذي دعت إليه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، فمشقة مخالفة الهوى لا رخصة فيها البتة، والمشقة الحقيقية فيها الرخصة بشرطها، ومن لم يجد شرطها، فالأحسن له براءة لذمته أن يلتزم باتباع تأدية ما نصت عليه العزيمة، فكل رخصة لا يأثم المكلف إن استعملها تكون تلك التي أتت من خلال المشقة المولدة للضرر بعيدًا عن هوى النفس أو التحايل، ومن ثم ينطبق عليها قول الله عز وجل:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:((ليس من البر الصيام في السفر)) وقوله: ((إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه)) وقول الله في الصبر على ما دون المضرة: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] .

(1) الموافقات للشاطبي، أخذت منه هاتين الفقرتين بتصرف.

ص: 383

المبحث الرابع – هل الأفضل الأخذ ب العزيمة أم الرخصة؟

الجواب على هذا السؤال فيه أقوال كثيرة منها أن الأخذ بالعزيمة ليس بأولى من الأخذ بالرخصة من أوجه هي:

1-

إذا كان أصل العزيمة قطعيا، فإن أصل الترخص قطعي أيضا، لأن الشارع أجرى الظن في كثير من الحالات مجرى القطع.

2-

أصل الرخصة إن كان جزئيا بالإضافة إلى عزيمة فذلك غير قادح في جواز الرخصة والعمل بها.

3-

رفع الحرج عن الأمة بلغ مبلغ القطع لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وقوله:{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28] .

4-

أخذ المكلف بالرخصة يكون تطبيقًا لقصد الشارع الرامي إلى رفع الحرج والرفق بالمكلف، وتؤيد ذلك آيات كثيرة منها ما تقدم، ومنها:{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] ، واستعمل النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا من الرخص ليسن تلك السنة لأمته عليه الصلاة والسلام.

5-

رأى بعض العلماء أن ترك الترخص مع ظن سببه قد يؤدي إلى الانقطاع عن الاستباق إلى الخير، ويجر السآمة والملل والتنفير من الدخول في العبادة، وكراهية العمل وترك الدوام.

6-

إن مراسيم الشريعة وإن أتت مخالفة للهوى، فإنها أيضا أتت لمصالح العباد في دينهم ودنياهم، والهوى يكون مذمومًا حالة مخالفته للشريعة.

وعلى هذا اعتبرت العزائم مطردة مع العادات الجارية، والرخص جارية عند انخراق تلك العوائد.

ولأبي محمد عز الدين بن عبد السلام السلمي في كتابه قواعد الأحكام في مصالح الأنام، قال: الضرورات مناسبة لإباحة المحظورات جلبًا لمصالحها، والجنايات مناسبة لجلب العقوبات درءًا لمفاسدها، والنجاسات مناسبة لاجتناب وجودها ولا مناسبة بين طهارة الأحداث، وأسبابها.

وتحت عنوان: فصل ما يتدارك إذا فات بعذر، أشار إلى أن الضابط أن اختلال الشرائط والأركان إذا وقع لضرورة أو حاجة لا مفر منها، وأقام بالواجب مع اختلال بعض شروطه، فلا قضاء عليه، كالصلاة في قوم كلهم عراة، لما في الاستتار من المشقة فبسبب مشقة عدم الحصول على الثياب تولدت رخصة الصلاة على تلك الهيئة، وهذا ينطبق حسب رأيه على كل مشقة استحال تفاديها، فإنها تستجلب العذر، الذي يفضي إلى جواز استعمال الرخصة.

ومن هذه النظريات يستخلص أن الأخذ ب العزيمة أفضل إذا لم تجر إلى المشقة الفادحة، واتباع الرخصة أفضل إن حصلت المضرة للمال والنفس، على أن المرء في كل ذلك هو فقيه نفسه، لأنه أعلم – بقرارة نفسه – بما يحصل له من مشقة تأدية العزيمة، وعليه أن لا يتهرب ولا يخادع، لأن التعامل مع الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

ص: 384

الخاتمة

إن تطبيق العزائم والأخذ بالرخص استثناء منها عند حصول المشقة المفضية إلى المضرة، كلاهما إن اتبع حسب شروطه وعلله وفق مراد الشريعة، كان ذلك مصدرًا لتهذيب النفوس وتطهيرها من رجس الأوثان واتباع الهوى والإدمان على فعل المحرمات، التي تفشت في كثير من المجتمعات الإسلامية، دون حتى ترك الفرصة لاستنكارها، مما جعل تطبيق العزائم في بعضها لا يثير الاستخفاف به أية معارضة، بل أصبحت الرخص هي الأصل عند البعض علمًا بأن الأخذ بالرخصة عند توفر شروطها، ليس فيه أي مطعن، فإذا خلصت النية للطاعة وتمكنت التربية الإسلامية من النفس، وكان استعمال الرخصة مستندًا على مبرراته الشرعية وغير مستعمل إلا في الحدود التي تجنب المكلف إجهادًا يضر بنفسه أو ماله، كان استعمالها جائزًا، أما إذا كان العكس وهو السائد اليوم مع الأسف وهو الاستخفاف بتعاليم الإسلام، والتساهل في كل العزائم، أصبحت الرخصة مستعملة، دون تقيد بضوابطها الشرعية، فأصبحنا أمام مخالفات شرعية، استخدم أصحابها حيلاً على النصوص الشرعية، ستجلب لهم عقاب الآخرة، ولو كانت أحكام الشرعية مطبقة، في كثير من البلاد الإسلامية، لأنزلت بهم التعازير والحدود المنصوص عليها لكل حالة.

فكم من مسافر إليهم يقصد هوى النفس، والتهرب من صيام شهر رمضان فيقصر صلاته ويفطر نهاره، ويوهم الناس بسفر، والأجدر أن يعاقب على السفر، ويضرب لترك الصلاة بالتعمد على قصرها، ويلزم بالكفارة لتعمد الفطر في رمضان.

وكم من مصل تيمم ولم يجرب هل يضره الماء أم لا، وكم من منتهك حقوق الناس في أموالهم مدعيًا الاضطرار وهو غير مضطر.

ومن هنا فالرخص حظ العباد من لطف الله فلا يمكن لأي أحد أن يمنعهم من ذلك الحظ الذي أنعم به الخالق عليهم، والعزائم حق الله على العباد فلا يمكنهم التهرب منه، وإلا عرضوا أنفسهم لعقابه، الذي لا يمكنهم التهرب منه، إذا لم يغفر لهم.

وبناء على هذا يمكن القول بأن الرخص اليوم اتسع مجالها، وكثرت المضار والمشاق المستوجبة لها ولا يمكن لأحد أن يسد على العباد حظهم من لطف الله، ولكن أيضا كثر أتباعها، دون المشقة المفضية إليها، بسبب انعدام التربية الإسلامية وغياب كثير من معرفة أحكامها، فليوضح العلماء أحكام الرخصة ومتى تطلب، ومتى يقع التخيير في شأنها، وما هو الأفضل للمكلف في كل حالة، ثم ضرورة المزيد من تعليم أحكام الحلال والحرام والواجب والمندوب والمباح للطلبة في جميع مؤسسات التعليم في العالم الإسلامي، حتى يعد المسلم العارف بأحكام دينه، ليسهل عليه تطبيق العزيمة أو اتباع الرخصة.

إن ما يشاهد اليوم في كثير من التجاوزات يعد مخالفات وليس أخذًا بالرخص.. ونختم هذا الموضوع بما جاء في الأشباه والنظائر حيث قال: الرخص لا تناط بالمعاصي، ومن ثم فلا يستفيد المسافر سفر معصية من رخصة قصر الصلاة، وفطر رمضان، لأن هذه الرخصة شرعت لرفع الحرج والتسهيل والتيسير في العبادة ولا يمكن استعمالها في غير ذلك، فإذا ما سافر إنسان من أجل أن ينهب مال آخر في مكان بينهما مسافة قصر، ثم قصر صلاته، وأفطر في رمضان عد مرتكب الإخلال بتمام الصلاة، وصلاته باطلة لنقص نصفها، وإن أفطر وجبت عليه الكفارة، لأن فطره غير مستند على عذر شرعي.

ص: 385

ولذلك لا يجزئه التيمم ولا يجوز له أكل الميتة، وفي المسح على الخف خلاف، وإن وجد ماء لكن لا يكفي للشرب والوضوء، لزمه الوضوء، لأن السفر من أجل معصية فلا يجزئه فيه التيمم، ولا يقدم عليه في هذه الحالة الشرب، وتحرم عليه الميتة للضرورة، لأنه بإمكانه الاستغناء عن هذا السفر بالتوبة، ووقع الخلاف في المسح على الخف للخلاف الواقع في استعماله في الحضر أو عدم جواز استعماله، عزا السيوطي للإصطخري فقال: إن العاصي بالإقامة لا يستحق منها شيئا، والمسافر لارتكاب معصية لا يسمح له بشيء منها، وقال السيوطي: " إن الرخص لا تناط بالمعاصي، ومعناه إن فعل الرخصة يتوقف على وجود شيء، ولذا كلما حصلت المشقة من العزيمة يجب أن ينظر في الوضع الذي حصلت منه المشقة، فإن كان مباحًا أو مندوبًا أو واجبًا، كان استعمال الرخصة جائزًا أيضا ومباحًا، وحتى واجبًا، وإن ظهرت شبهة في العمل الذي من أجله حصلت المشقة تبين من خلالها أن هذا العمل حرام، امتنع على المكلف استعمال الرخصة بسبب ذلك العمل؛ كمسافر بمال غصبه، والناشز والمسافر للمكس، ونحو عاص بالسفر، فالسفر نفسه معصية، والرخصة منوطة به مع دوامه، ومعلقة ومترتبة عليه ترتب المسبب على السبب فلا يباح، ويلحق بهذا أيضا أن الرخص لا تناط بالشك (1) .

فلو عرف الجميع الأحكام الواجبة عليه، لأصبح مدركًا متى تكون الرخصة مباحة تخييرية، أو حرامًا أو حتى واجبة، عند توفر بعض الحالات.

فهي مباحة والمكلف مخير بين الأخذ بها أو عدمه، عند الشعور بالمشقة أما إذا تسبب استعمالها في المضرة المؤدية إلى الهلاك، فحينئذ تنقلب الرخصة إلى عزيمة، ويصبح العمل بها واجبًا، وتركها حرام يعاقب عليه، فإذا امتنع المكلف من أكل الميتة حتى أشرف على الهلاك أصبح الترخيص الحاصل له بسبب مشقة تحمل الجوع عزيمة يجب عليه العمل بها حتى ينقذ النفس، وإن امتنع أصبح قاتل النفس.

من خلال ما سبق تكون الرخصة من نعم الله على عباده تخرجهم من المشقة وتمكنهم من تجنب المضرة إن كان تطبيق العزيمة سينزلها بهم، فتدخل في المباح تارة إلى أن تصل إلى الواجب لإنقاذ النفس، كما يحرم استعمالها والأخذ بها دون تحقق الشروط، ويبقى الأمر فيها موكولاً لضمير المسلم وإحساسه، وهو ما يتطلب التربية الإسلامية الحقة والسلوك المستقيم، كما يحتم يقظة أولي الأمر حتى لا تنتهك العزائم بخلق المبررات الكاذبة لاتباع رخص أجيزت لأسباب وعلل معينة والله الموفق للصواب.

الدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين

(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 139 دون اتباع ألفاظه

ص: 386