الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأخذ بالرخص الشرعية وحكمه
إعداد
محمد رفيع العثماني
رئيس جامعة دار العلوم – كراتشي – والمفتي بها
باكستان
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
الحمد لله الذي رفع الحرج بهذا الدين؛ الإسلام، فقال:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] ، والصلاة والسلام على نبينا محمد المصطفى المبعوث بالشريعة الحنيفية السمحة، وعلى آله وصحبه الذين قال لهم نبيهم الكريم – عليه الصلاة والسلام:((إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين)) (1) وعلى من حذا حذوهم واتبع هداهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيلائم لنا قبل الخوض في البحث أن نقدم شيئًا من استحباب اليسر والرفق والتخفيف عند الله الكريم وعند نبيه الرؤوف الرحيم – عليه الصلاة والسلام.
بيان يسر هذا الدين وسماحته ورفع الحرج عنه:
فاعلم أن الله – سبحانه وتعالى – يحب الرفق واليسر في الأمر كله، ورد به كثير من نصوص الآيات والأحاديث نذكر بعضها نحو ما يلي:
1-
آيات اليسر ورفع الحرج:
أما الآيات، فقال الله تعالى في القرآن العظيم:
1-
{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] .
2-
{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] .
3-
{وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [المؤمنون: 62] .
4-
{لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 233] .
5-
{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28] .
6-
{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6] .
7-
{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] .
8-
{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور: 61] .
9-
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] .
(1) هذا الحديث أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الأداب، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:(يسروا ولا تعسروا) وكان يحب التخفيف على الناس، رقم 5752، وفي الوضوء، باب صب الماء على البول في المسجد، رقم 219، والنسائي في المياه، باب التوقيت في الماء، رقم 330، والترمذي في الطهارة، رقم 147، وأحمد في مسنده 2 / 239، 282.
2-
أحاديث الرفق واليسر:
وأما الأحاديث فمنها ما يأتي:
1-
عن عائشة – رضي الله تعالى عنها – قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا عائشة! إن الله يحب الرفق في الأمر كله)) (1) .
2-
وعنها أيضًا، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ارفقي، فإن الرفق لم يكن في شيء قط إلا زانه، ولا نزع من شيء قط إلا شانه)) (2) .
3-
وروى عبد الله بن مغفل – رضي الله تعالى عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله رفيق يحب الرفق)) (3) .
4-
وروى أبو هريرة – رضي الله تعالى عنه – قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا موسى ومعاذ بن جبل إلى اليمن
…
ثم قال: ((يسرا ولا تعسرا، بشرا ولا تنفرا)) (4) .
5-
وعن عائشة – رضي الله تعالى عنها – أنها كانت تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سددوا وقاربوا ويسروا)) (5) .
6-
وعن أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنه – يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يسروا ولا تعسروا)) (6) .
7-
وعن عائشة – رضي الله عنها – قالت: ((ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس عنه)) (7) .
8-
وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا، وقاربوا، وأبشروا، وبشروا)) (8) إلخ.
9 – وعن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – عن النبي صلى الله عليه وسلم ((أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة)) (9) .
10-
وعن محجن بن الأدرع – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن خير دينكم أيسره، إن خير دينكم أيسره، إن خير دينكم أيسره)) ثلاث مرات (10) .
11-
وعنه أيضًا، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنكم أمة أريد بكم اليسر)) (11) .
12-
وعن أبي هريرة –ر ضي الله عه عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن دين الله – عز وجل – في يسر)) ثلاثًا (12) .
13-
وعن جابر بن عبد الله – رضي الله عنه – قال: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لم يبعثني معنتًا ولا متعنتًا، ولكن بعثني معلمًا ميسرًا)) (13) .
(1) هذا الحديث أخرجه البخاري في الأدب، باب كيف يرد على أهل الذمة السلام، رقم 5878، وباب الرفق في الأمر كله، رقم 5654، والترمذي في الاستيذان، باب ما جاء في كراهية التسليم على الذمي، رقم 2844، والدارمي في الرقاق، باب في الرفق، رقم 2797، وأحمد في مسنده 6 / 37، 85، 199، وابن ماجه في الأدب، باب الرفق رقم 3689.
(2)
أخرجه مسلم في البر والصلة، باب في فضل الرفق، رقم 2574، وأبو داود في الأدب، باب في الرفق، رقم 4808، وفي الجهاد باب ماجاء في الهجرة، رقم 2478، وأحمد في مسنده 6/ 58، 112، 125، 171، 206، 222.
(3)
أخرجه مسلم في البر والصلة، باب فضل الرفق، رقم 2593، وأبو داود في الأدب، باب في الرفق، رقم 4807، والدارمي في الرقاق، باب في الرفق، رقم 2796، وأحمد في مسنده 87/4، وأخرجه عن علي بن أبي طالب – رضي الله تعالى عنه – أيضا في 1 / 112، وابن ماجه في الأدب، باب الرفق، رقم 3688.
(4)
أخرجه البخاري في المغازي، باب بعث أبي موسى.. إلخ، رقم 4341، 4342، وفي الأحكام، باب أمر الوالي إذا وجه أميرين.. إلخ، رقم 6732.
(5)
أخرجه أحمد في مسنده 6 / 125.
(6)
أخرجه البخاري في الأدب، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:(يسروا ولا تعسروا)
…
إلخ، رقم 5749، وأحمد في المسند عنه 3 / 131، 209 وعن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – 1 / 365.
(7)
أخرجه البخاري في الأدب، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:(يسروا ولا تعسروا)
…
إلخ، رقم 5750، وأبو داود في الأدب، باب العفو والتجاوز في الأمر، رقم 4785، وأحمد في مسنده 6 / 116..
(8)
أخرجه البخاري، رقم 38، والنسائي في الإيمان، باب الدين يسر، رقم 5034
(9)
أخرجه البخاري في الإيمان في ترجمة باب (الدين يسر) وأحمد في مسنده 1 / 236 بلفظ: عنه (قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأديان أحب إلى الله؟ قال: الحنيفية السمحة) وعن أبي أمامة – رضي الله تعالى عنه - 1 / 236، 5 / 266 بلفظ:(إني لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية ولكني بعثت بالحنيفية السمحة) وعن عائشة – رضي الله تعالى عنها - 6 / 116 بلفظ: (إني أرسلت بحنيفية سمحة) وراجع فتح الباري 1 / 93 – 94.
(10)
أخرجه أحمد في مسنده 4 / 338 و 5 / 32 عنه وعن أعرابي 3 / 479 إلا أن جملة: (إن خير دينكم أيسره) وردت في حديثه مرتين.
(11)
أخرجه أيضا أحمد في المسند 5 / 32.
(12)
أخرجه أيضا أحمد في المسند 5 / 69.
(13)
أخرجه مسلم في الطلاق، باب بيان أن تخيير امرأته لا يكون طلاقًا إلا بالنية، رقم 1478، وأحمد في مسنده 3/ 328.
فهذه النصوص من الآيات والأحاديث كلها تنادي بأعلى نداء أن الدين الإسلامي يسر لا عسر فيه ولا حرج، وليس في أحكامه ما يجاوز قوى الإنسان، أو ما يعنته.
ومن ضوء هذه النصوص استنبط الفقهاء – رحمهم الله تعالى – القواعد المشهورة المعروفة المذكورة في كتب " القواعد الفقهية " وجعلوها بمثابة نبراس يستضيئون به عند النوازل والوقائع، ويعالجون كثيرًا من المسائل والقضايا على أساسها – وهي كما يلي:
القواعد الفقهية الدالة على اليسر ورفع الحرج:
1-
" المشقة تجلب التيسير "(1) .
2-
" لا ضرر ولا ضرار "(2) .
3-
" الضرر يزال "(3) .
4-
" الضرورات تبيح المحظورات "(4) .
5-
" يختار أهون الشرين "(5) .
6-
" يتحمل الضرر الخاص لأجل دفع الضرر العام "(6) .
7-
" الضرر الأشد يزال بالأخف "(7) .
8-
" إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما "(8) .
9-
"درء المفاسد أولى من جلب المنافع "(9) .
10-
" إذا ضاق الأمر اتسع "(10) .
11-
" إن ما عمت بليته خفت قضيته "(11) .
12-
" لو كان أحدهما أعظم ضررًا من الآخر، فإن الأشد يزال بالأخف "(12) .
فهذا بعض ما تيسر لي إيراده من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، والقواعد الفقهية، فيه ما يبين أن الدين يسر ورحمة لنا، قد رفع عنا العسر والحرج، كيف وقد سمى الله – سبحانه وتعالى – نفسه بـ " الرحمن " و "الرحيم " وسمى نبيه – عليه الصلاة والسلام – بـ " الرؤوف " وأرسله رحمة للعالمين، وأنزل كتابه بالرحمة، فقال خطابًا لنبيه صلى الله عليه وسلم:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89] . وقال: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) } [النمل: 76] .
معنى رفع الحرج:
فوضح أن الشرع لم يأت ولم يكلف بما لا يطيقه الإنسان أو يعنته؛ بل شرع من الأحكام الأصلية ورخص ما يناسب أحوال المكلفين.
ولكن ليس معنى أن الشرع أطلق العنان للمكلفين، ومنح لكل أحد الحرية لأن يترك كل عمل يحسبه عسيرًا، وإنه لو كان كذلك لانفتح باب الإباحة، وانغلق باب التكليف، وتعطلت الشرائع، وانسد باب العمل الذي خلق له الإنسان، قال سبحانه وتعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] .
والظاهر أن المقصود من الشرع تزكية النفس، وانتظام الأمور الدنيوية والأخروية، ورضى الحق – سبحانه وتعالى – وذلك لا يحصل إلا بالعمل بالشريعة، ويعلم كل من له أدنى شعور أنه لا يخلو عمل مطلوب شرعًا من نوع كلفة، ومن هنا سمي تكليفًا، لأن فيه نوع مشقة، ولو لم يكن فيه إلا مخالفة الهوى لكن كافيًا في كونه شاقًّا على النفس، لكن هذا القدر من المشقة ليس مانعًا من التكليف.
فالكلفة والمشقة التي توجد في كثير من المطلوبات الشرعية هي كلفة معتادة لا يمنع التكليف معها، وهي داخلة في حدود الاستطاعة والوسع المذكور في قوله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] .
كما أن الأعمال الدنيوية ككسب المعاش فيها كلفة، بل كثير من أعمال النزهة والتفرج لا يخلو من مشقة وكلفة أيضًا: ومع هذا لا يعد شاقا، ولا يتقاعس الناس من أجلها عن ذلك العمل لكون الكلفة والمشقة فيه عادية، بل أهل العقول يعدون المنقطع عنه كسلان، والناس يذمونه بذلك، فكذلك المعتاد في التكاليف.
وهذا كما قاله العلامة الشاطبي – رحمه الله تعالى -: " وإلى هذا المعنى يرجع الفرق بين المشقة التي لا تعد مشقة عادة والتي تعد مشقة، وهو أنه إن كان العمل يؤدي الدوام عليه إلى الانقطاع عنه أو عن بعضه، أو من وقوع الخلل في صاحبه في نفسه أو ماله، أو حال من أحواله، فالمشقة هنا خارجة عن المعتاد، وإن لم يكن فيها شيء من ذلك في الغالب فلا يعد في العادة مشقة، وإن سميت كلفة (13) .
فعلى هذا ليس كل مشقة تجلب التيسير والتخفيف والرخص، بل المشقة غير المعتادة هي التي تجلب التيسير والتخفيف، وهذه هي المرادة من النصوص والقواعد الفقهية التي ذكرناها آنفًا.
(1) القاعدة الرابعة في الأشباه والنظائر لابن نجيم، والقاعدة الثالثة في أشباه الإمام السيوطي، وغيرهما من كتب القواعد الفقهية.
(2)
مجلة الأحكام، رقم 19.
(3)
الأشباه والنظائر لابن نجيم، القاعدة الخامسة، وأشباه السيوطي، ومجلة الأحكام، رقم 20، وشرح القواعد الفقهية ص 125.
(4)
أشباه ابن نجيم تحت القاعدة الخامسة، ومجلة الأحكام، رقم 21، وشرح القواعد ص 131.
(5)
مجلة الأحكام، رقم 29.
(6)
أشباه ابن نجيم، والمجلة، رقم 26، وشرح القواعد ص 143.
(7)
مجلة الأحكام، رقم 27.
(8)
أشباه ابن نجيم تحت القاعدة الخامسة، ومجلة الأحكام، رقم 28، وشرح القواعد ص 147.
(9)
أشباه ابن نجيم تحت القاعدة الخامسة، والمجلة، رقم 30.
(10)
شرح القواعد الفقهية ص 111، والمجلة رقم 18، وأشباه ابن نجيم تحت القاعدة الرابعة.
(11)
أشباه ابن نجيم.
(12)
أشباه ابن نجيم.
(13)
الموافقات 2 / 122 – 125.
الأخذ بالرخص وحكمه
قبل أن ندخل في صلب الموضوع يجدر بنا أن نذكر تعريف الحكم الشرعي وأقسامه فإن الحكم الشرعي هو الذي يتضمن العزيمة والرخصة
الحكم الشرعي:
فالحكم الشرعي هو ما ثبت بخطاب الله تعالى المتعلق بفعل العباد بالاقتضاء (كوجوب الصلاة وحرمة الخمر) أو التخيير (كإباحة أكل اللحم) أو الوضع (ككون الزنى سببًا لوجوب الحد) .
لا يقال هذا التعريف لا يشمل ما ثبت بالسنة والإجماع والقياس. لأنه لا يصدق عليه أنها خطاب الله، ولأنا نقول: إن كلا من السنة والإجماع والقياس كاشف ومظهر عن خطاب الله تعالى، فالثابت بها ثابت بخطاب الله تعالى، وهو معنى كون كل منهما دليل الحكم.
والحكم الشرعي على قسمين: الحكم الوضعي، والحكم التكليفي (1) .
الحكم الوضعي وأقسامه:
فالحكم الوضعي هو ما وضعه الشارع لإضافة الحكم إليه، لتعرف به الأحكام تسهيلاً علينا، فهو لا يتعلق بطلب فعل أو ترك له، وهو ثلاثة:
1-
السبب؛ كجعل الزنا سببًا لوجوب الحد، والوقت المخصوص لوجوب الصلاة والصوم.
2-
والشرط؛ كجعل القدرة على تسليم المبيع شرطًا لصحة البيع، والطهارة لصحة الصلاة.
3-
والمانع؛ كجعل الأبوة مانعة للقصاص مع وجوب السبب، وهو القتل العمد ظلمًا.
الحكم التكليفي واقسامه:
والحكم التكليفي ما ثبت بخطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير، والمراد بالاقتضاء طلب الفعل مع المنع عن الترك، وهو الإيجاب أو بدونه، وهو الندب، أو طلب الترك مع المنع من الفعل وهو التحريم، أو بدونه وهو الكراهة. ومعنى التخيير إباحة الفعل والترك.
وتنقسم الأحكام التكليفية التي شرعها الله تعالى لعباده إلى عزيمة ورخصة (2) .
(1) تسهيل الوصول إلى علم الأصول لفضيلة الشيخ محمد عبد الرحمن المحلاوي القاضي رحمه الله تعالى ص 242 – 245.
(2)
تسهيل الوصول إلى علم الأصول للمحلاوي رحمه الله تعالى ص 247.
العزيمة وأقسامها:
أما العزيمة: فهي لغة: القصد المؤكد، كما قال الله تعالى عن آدم – على نبينا وعليه الصلاة والسلام – {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115] . أي: قصدًا مؤكدًا، وسمى بعض الرسل " أولي العزم " لتأكد قصدهم في طلب الحق (1)، وقال تعالى:{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35] . أي: أولو الجد والثبات والصبر.. إلخ (2) .
وشرعًا: فهي ما شرع ابتداء غير مبني على أعذار العباد، سواء كان متعلقًا بالفعل، كالمأمورات، أو متعلقًا بالترك، كالمحرمات. وهي على ستة أنواع عند الحنفية: الفرض، والواجب، والسنة، والنفل (المندوب) ، ووالحرام، والمكروه تحريمًا.
قال النسفي – رحمه الله تعالى – في شرحه على المنار: وقيل: إن النفل ليس بعزيمة، لأنه شرع جبرًا لنقصان ما يمكن في العزيمة، وهي الفريضة – قلنا: ذاك في قصد الأداء لا في الشرعية فهو مشروع ابتداءً كسائر العزائم.
والمراد بالعزيمة ما يترتب عليه الجزاء من العزائم، فليس المياه منها، والمكروه تنزيهًا أدخله بعضهم في المباح (3) .
الرخصة في اللغة:
والنوع الثاني من الأحكام التكليفية، الرخصة، وهي بضم الراء المهملة وتسكين الخاء، وحكي بضمتين مشتقة من الرخص، (بضم الراء المهملة وسكون الخاء) وهو ضد الغلاء والعزيمة.
فهي عبارة عن اليسر والسهولة، يقال:"رخص السعر " إذا اتسعت السلع وكثرت، وسهل وجودها، وتيسرت إصابتها (4) لكثرة وجود الأشكال وقلة الرغائب فيها (5) و " رخص الشارع لنا في كذا " إذا يسره وسهله (6) .
(1) المستصفى للإمام الغزالي 1 / 62.
(2)
كشف الأسرار على المنار للمصنف النسفي 1 / 448، ط دار الكتب.
(3)
تسهيل الوصول إلى علم الأصول للمحلاوي رحمه الله تعالى ص 247.
(4)
أصول الإمام السرخسي 1 / 117.
(5)
أصول الإمام السرخسي 1 / 148.
(6)
انظر القاموس 2 / 304، وشرحه " تاج العروس " للزبيدي 4 / 397، ولسان العرب 8 / 306، وصحاح الجوهري 3 / 1041، والقاموس الفقهي ص 146، ومجموعة قواعد الفقه ص 305، والتعريفات للجرجاني ص 97، وشرح المنار لابن ملك 1 / 593، وأصول الإمام البزدوي ص 136.
الرخصة في عرف اللسان:
والرخصة في عرف اللسان تستعمل في الإباحة على طريق التيسير، يقول الرجل لغيره:" رخصت لك في كذا " أي: أبحته لك تيسيرًا عليك (1) .
الرخصة في الاصطلاح:
وأما الرخصة في الاصطلاح فعرفها الأصوليون بعبارات مختلفة لكنها متقاربة المعنى، كما يأتي:
1-
قال المحقق ابن الهمام – رحمه الله تعالى- في التحرير آخرًا: " الرخصة ما تغير من عسر إلى يسر من الأحكام "(2) .
2-
ويقول العلامة نظام الدين الشاشي – رحمه الله تعالى -: " الرخصة في الشرع: صرف الأمر من عسر إلى يسر بواسطة عذر في المكلف "(3) .
4-
وقيل: " هي ما بني على أعذار العباد "(4) .
4-
" ما تغير من عسر إلى يسر "(5) .
5-
وقال في رد المحتار: " هي ما بني على أعذار العباد، ويقابلها العزيمة، وهي ما كان أصلها غير مبني على أعذار العباد " – وقال -: " وهو الأصح في تعريفهما "(6) .
6-
وقيل: " إن الرخصة اسم لما تغير عن الأمر الأصلي إلى تخفيف ويسر ترفيهًا وتوسعة على أصحاب الأعذار "(7) .
7-
ويقول العلامة الشاطبي – رحمه الله تعالى -: " وأما الرخصة فما شرع لعذر شاق استثناء من أصل كلي يقتضي المنع مع الاقتصار على مواضع الحاجة فيه "(8) .
8-
وعرفها البيضاوي – رحمه الله تعالى – بقوله: " الحكم إن ثبت على خلاف الدليل لعذر فرخصة، وإلا فعزيمة "(9) .
9 – وقال ابن السبكي – رحمهما الله تعالى -: " الحكم الشرعي إن تغير إلى سهولة لعذر مع قيام السبب للحكم الأصلي فرخصة، وإلا فعزيمة "(10) .
10 -
ويقول المحلاوي – رحمه الله تعالى -: " وأما الرخصة
…
اصطلاحًا (فهي) السهولة في الحكم المتغير إليه لعذر مع قيام السبب للحكم الأصلي المتغير" (11) .
11-
وعرفها المحقق ابن الهمام – رحمه الله تعالى – " بما شرع تخفيفًا لحكم مع اعتبار لدليله قائم الحكم لعذر، أو متراخيًا عن محلها، كفطر المسافر "(12) .
(1) أصول الإمام السرخسي 1 / 117.
(2)
التحرير 2 / 148.
(3)
انظر آخر أصوله ص 105.
(4)
التعريفات للجرجاني ص 97.
(5)
مجموعة قواعد الفقه للمفتي عميم الإحسان الداكوي ص 305.
(6)
رد المحتار، باب المسح على الخفين 1 / 264.
(7)
تسهيل الوصول إلى علم الأصول للمحلاوي ص 248.
(8)
الموافقات 1 / 301.
(9)
المنهاج مع شرحه " نهاية السول " على هامش التقرير والتحبير 1 / 52 – 53، ومع شرحه "الإبهاج " 1 / 81.
(10)
جمع الجوامع مع شرح الجلال المحلي وحاشية العطارعلى جمع الجوامع 1 / 160 – 165.
(11)
تسهيل الوصول ص 248.
(12)
التحرير مع التقرير والتحبير 2 / 146، 147.
12-
وعرفها السيرفي – رحمه الله تعالى – " بما تغير من عسر إلى يسر لعذر مع بقاء الأصل مشروعًا "(1) .
13-
وقال الجرجاني: " إن الرخصة في الشريعة اسم لما شرع متعلقًا بالعوارض، أي: بما استبيح بعذر مع قيام الدليل المحرم "(2) . وبه عرفها المفتي عميم الإحسان الداكوي – رحمه الله تعالى – أيضا (3) .
14-
ويقول الإمام فخر الإسلام البزدوي – رحمه الله تعالى – " إن الرخصة اسم لما بني على أعذار العباد، وهو ما يستباح بعذر مع قيام المحرم "(4) .. وزاد عليه الإمام السرخسي – رحمه الله تعالى -: " وللتفاوت فيما هو أعذار العباد يتفاوت حكم ما هو رخصة "(5) .
15-
وعرفها الآمدي – رحمه الله تعالى – بقوله: " الرخصة ما شرع من الأحكام لعذر مع قيام الدليل المحرم "(6) . وبه عرفها العلامة ابن الحاجب (7) والتفتازاني (8) – رحمهما الله تعالى.
تنبيهات:
1-
المراد بقيام الدليل كونه سالمًا من النسخ والمعارضة المسقطة.
2-
إن الرخصة لابد لها من دليل شرعي فوق العذر، وإلا لزمت مخالفة الدليل الشرعي القائم من غير دليل.
3-
ذهبت طائفة من الأصوليين إلى أن الرخصة من أقسام الحكم التكليفي، كما فعلناه فيما سبق حيث قسمنا التكليفي إلى عزيمة ورخصة، وذهبت طائفة منهم إلى أنها من أقسام الحكم الوضعي.
والذي فهمته من كلامهم أن الرخصة من أقسام الحكم التكليفي من وجه، ومن أقسام الحكم الوضعي من وجه، فمن حيث كونها واجبة، أو مندوبة، أو مباحة هي من الحكم التكليفي، ومن حيث كونها مسببة عن عذر طارئ في حق المكلف هي من الحكم الوضعي، ولا مانع من اجتماع التكليف والوضع في الرخصة من جهتين، كما حققه ابن أمير الحاج في شرحه على التحرير (9) . فإن إيجاب الجلد للزاني مثلاً من أحكام التكليف من وجه وهو ظاهر، ومن أحكام والوضع من حيث كونه مسببًا عن الزنا (10) . فالخلاف في هذا لفظي لا يترتب عليه ثمرة.
(1) فتح الغفار للعلامة ابن نجيم 2 / 68.
(2)
التعريفات ص 97.
(3)
مجموعة قواعد الفقه ص 305.
(4)
كنز الوصول إلى معرفة الأصول ص 136.
(5)
أصول الإمام السرخسي 1 / 117.
(6)
الإحكام في أصول الأحكام 1 / 122.
(7)
مختصر ابن الحاجب 2 / 8.
(8)
التلويح على التوضيح 2 / 613.
(9)
التقرير والتحبير 2 / 153.
(10)
تسهيل الوصول ص 251 و 252.
حاصل ما مر من تعريفات الرخصة:
إذا نظرنا فيما مر من تعريفات الرخصة لدى العلماء ظهر لنا أنهم متفقون على معنى الرخصة اصطلاحًا، وإن اختلفت عباراتهم.
وحاصله: " أن الرخصة هي الحكم الذي تغير من عسر إلى يسر توسعة على أصحاب الأعذار مع قيام الدليل للحكم الأصلي " إلا أن طائفة منهم سكتوا عن قيد: " مع قيام الدليل للحكم الأصلي " وما في معناه، كما رأيته في التعريفات الثمانية الأول، وطائفة منهم ذكروا هذا القيد، كما في التعريفات الباقية.
ولعل سبب هذا أن من أراد إدخال الرخصة المجازية في التعريف لم يقيده بهذا القيد، ومن لم يرد إدخالها فيه وخص التعريف بالرخصة الحقيقية فقط قيده بهذا، كما سيتضح لك في بيان أنواع الرخصة الآتية عند الحنفية.
أنواع الرخصة:
للأصوليين في بيان أنواع الرخصة منهجان: منهج الحنفية، ومنهج الشافعية وموافقيهم.
أنواع الرخصة عند الحنفية:
أما الحنفية فقسموها إلى نوعين: رخصة حقيقية، ورخصة مجازية، ثم قسموا الحقيقية أيضا إلى نوعين، أحدهما أحق من الآخر، أي: أقوى في كونه رخصة حقيقية. وكذا المجازية عندهم نوعان، أحدهما أتم من الآخر، أي: أكمل في كونه مجازا، فالرخصة عندهم أربعة أنواع (1) .
(1) نور الأنوار مع كشف الأسرار: 1 / 463.
النوع الأول:
وهو أحق نوعي الحقيقة، أي: أقوى وأثبت في كونها رخصة حقيقية، وهي ما عوملت معاملة المباح في سقوط المؤاخذة عن من عمل بها (1) مع أن الحكم الأصلي، وهو الحرمة قائم، لقيام الدليل.
مثاله: سقوط المؤاخذة عن من أكره بما يخاف على نفسه بالقتل أو على عضو منه بالقطع (2) على إجراء كلمة الكفر، فإنه يرخص له إجراء قول الكفر على لسانه وقلبه مطمئن بالإيمان، فالحكم الأصلي، وهو حرمة قول الكفر قائم لم ينسخ، ودليله قائم أيضًا، وهو النصوص الدالة على حرمة الكفر، سواء كان باللسان أو بالقلب، لكن جاء العذر، وهو الإكراه بالقتل أو القطع، فرخص له إجراء كلمة الكفر إذا كان قلبه مطمئنًا بالإيمان، ودليل الرخصة قوله تعالى:{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106] .
ولأن حقه في نفسه يفوت بالامتناع من إجراء كلمة الكفر صورة ومعنى، أما صورة فبتخريب البنية، وأما معنى فبزهوق الروح، وفي الإجراء لا يفوت حقه تعالى لقيام الركن الأصلي، وهو التصديق بالقلب، واستدامة الإقرار باللسان في كل وقت ليس بركن إلا أن في إجراء كلمة الكفر هتك حرمة حق الله تعالى صورة، وفي الامتناع من الإجراء مراعاة لحقه صورة ومعنى.
فحرمة إجراء كلمة الكفر عزيمة، فلو صبر وامتنع من الإجراء حتى قتل، أو قطع عضو منه كان مأجورًا، وسقوط المؤاخذة بإجراء كلمة الكفر على لسانه مع كونه حرامًا رخصة بمعنى أنه لا يعاقب فاعله إذا أكره عليه، لا بمعنى أنه صار مباحًا، لأن حرمة الكفر قائمة أبدًا، لقيام الدليل المحرم، فلا يلزم من سقوط المؤاخذة ثبوت الإباحة وسقوط الحرمة، كمن ارتكب كبيرة فعفي عنه، فإن العفو لا يصير الكبيرة مباحة (3) .
فهذه الرخصة تشبه المباح في سقوط المؤاخذة عن من عمل بها، ويخالفه في كون التارك لها مأجورًا، لأن حقيقة المباح ما استوى طرفاه، أي: فاعله وتاركه سواء لا يعاقب ولا يثاب.
(1) أي لا أنه يصير مباحًا في نفسه، كما في المصدر السابق.
(2)
لا بما دونه، كما في المصدر السابق.
(3)
تسهيل الوصول ص 248، ونور الأنوار مع كشف الأسرار 1 / 462.
ومثاله أيضًا: سقوط المؤاخذة بالإفطار في رمضان عن الصائم إذا أكره عليه، مع أن الحكم الأصلي، وهو حرمة الإفطار قائم لم ينسخ، لقيام الدليل، وهو قوله تعالى:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] . لكن جاء العذر، وهو الإكراه، فرخص له في الإفطار، ودليل الرخصة: أن حق الله تعالى لا يفوت لإمكان تداركه بالقضاء، وحق المكره في نفسه يفوت بالامتناع من الإفطار، لا يمكن تداركه، فجاز له الإفطار بمعنى أنه سقط المؤاخذة عنه.
وكذلك إذا أكره على إتلاف مال الغير، فإنه يرخص له ذلك مع أن الحكم الأصلي قائم، وهو حرمة الإتلاف، لقيام الدليل المحرم، وهو النصوص الدالة على حرمة مال الغير، كقوله صلى الله عليه وسلم:((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا)) (1) ودليل الرخصة أن حق المكره في نفسه يفوت، ولا يمكن تداركه، وحق الغير يمكن تداركه بضمان المثل أو القيمة.
وكذا إذا ترك الخائف على نفسه الأمر بالمعروف جاز له ذلك بشرط أن يكون كارهًا لذلك بقلبه، مع أن الحكم الأصلي قائم، وهو حرمة ترك الأمر بالمعروف، لقيام الدليل، وهو النصوص الدالة على حرمة الترك، كقوله تعالى:{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) } [العصر] .
(1) أخرجه مسلم في الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم رقم 1218. وأبو داود في المناسك، باب صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم رقم 1905، 1907، 1908، 1909. والنسائي في الحج، باب الكراهية في الثياب المصبغة للمحرم، وباب ترك التسمية عند الإهلال، وباب الحج بغير نية يقصده المحرم، وباب العمل في الإهلال، وباب إهلال النفساء، وباب سوق الهدى، وباب كيف يطوف، وغيرها من مواضع شتى 5 / 143، 144 وأخرجه أيضا ابن ماجه في المناسك، باب حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم رقم 3074.
ودليل الرخصة قوله صلى الله عليه وسلم: ((ومن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) (1) ولأن حق المكره يفوت رأسًا إذا أقدم على الأمر بالمعروف.
وحق الله تعالى باق غير فائت تداركه اعتقاد حرمة الترك (2) ، ولهذا النوع أمثلة كثيرة (3) .
وهذا القسم الرخصة فيه أكمل، لأن العزيمة في مقابلتها أكمل، فإن الحكم الأصلي، وهو الحرمة، ودليله قائمان، وأكملية الرخصة لأكملية العزيمة، وهذا كما قيل:" وبضدها تتبين الأشياء ".
حكم هذا النوع:
حكم هذا النوع من الرخصة أن الأخذ بالعزيمة أولى مطلقًا، لبقاء الدليل المحرم والحرمة، حتى لو تحمل ما أكره به وامتنع عما هو الرخصة وقتل كان شهيدًا، لكونه باذلاً نفسه لإقامة حق الله تعالى، وقد روي (4) أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم – فقال لأحدهما:" ما تقول في محمد "؟ قال: " رسول الله " قال: " فما تقول في "؟ قال: " أنت أيضا " فخلاه، وقال لآخر:" ما تقول في محمد "؟ قال: " رسول الله " قال: " فما تقول في؟ " قال: " إنما أنا أصم " فأعاد عليه ثلاثًا، فأعاد جوابه، فقتله، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم – فقال:((أما الأول فقد أخذ برخصة الله تعالى، وأما الثاني فقد صدع بالحق فهنيئًا له ")) (5) .
النوع الثاني:
أما النوع الثاني من الرخصة فما استبيح فعله مع قيام السبب المحرم الموجب لحكمه إلا أن الحكم، وهو الحرمة، متراخ عن السبب إلى زمان زوال العذر، فقد اتصل بالسبب عذر مانع منعه أن يعمل عمله في الحال.
فهذا النوع أهون من الأول، لأنه من حيث إن سبب الحرمة قائم فهو من الرخص الحقيقية، ومن حيث أن حكم السبب، وهو الحرمة تراخى عنه كان غيره أحق، لأن كمال الرخصة مبني على كمال العزيمة المقابلة لها، فإذا كان الحكم الأصلي وهو العزيمة ثابتًا مع سببه؛ أي من غير تراخ كان في كونه عزيمةً أقوى مما إذا كان متراخيًا عن السبب، كالبيع بشرط الخيار مع البيع الثابت، فحكم البيع وهو الملك في المبيع للمشتري ثابت في الحال من غير تراخ بالبيع الثابت، متراخ عن السبب، وهو العقد، في البيع بشرط الخيار.
(1) أخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدري – رضي الله تعالى عنه – في الإيمان، باب كون النهي عن المنكر من الإيمان، رقم 49، وتمامه:(من رأى منكم منكرًا فليغيره بيد، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) وأخرجه أيضا الترمذي في الفتن، باب ما جاء في تغيير المنكر باليد، رقم 2173، وأبو داود في صلاة العيدين، باب الخطبة يوم العيد، رقم 1140، وفي الملاحم، باب الأمر والنهي، رقم 4340، والنسائي في الإيمان، باب تفاضل أهل الإيمان 8 / 111، وابن ماجه في الفتن، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، رقم 4013.
(2)
تسهيل الوصول ص 284 بزيادة إيضاح وتفصيل، وكشف الأسرار مع نور الأنوار 1 / 118 – 119.
(3)
انظر أصول السرخسي 1 / 118، 119.
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة قال: حدثنا إسماعيل بن علية عن يونس عن الحسن، (أن عيونًا لمسيلمة أخذوا رجلين من المسلمين، فأتوه بهما، فقال لأحدهما: أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ قال: " نعم " قال: "أتشهد أني رسول الله؟ " فأهوى إلى أذنيه، وقال: "إني أصم" فأعاد عليه، فقال مثله:، فأمر بقتله. وقال للآخر: "أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ " قال: "نعم " قال: "أتشهد أني رسول الله؟ " قال: "نعم " فأرسله. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " هلكت "، فقال: " وما شأنك؟ " فأخبره بقصته وقصة صاحبه، فقال: " أما صاحبك فمضى على إيمانه، وأما أنت فأخذت بالرخصة".) وأخرجه عبد الرزاق في التفسير عن معمر، قال:"سمعت أن مسيلمة أخذ رجلين " فذكره بنحوه. وذكر الواقدي في المغازي أن اسم المقتول: حبيب بن زيد عم عباد بن تميم، واسم الآخر: عبد الله بن وهب الأسلمي. قال: وكان فسقًا. وذكروا أنه قطعه عضوًا عضوًا وأحرقه بالنار. كذا في الكافي الشافي في تخريج أحاديث الكشاف للحافظ ابن حجر العسقلاني، مع الكشاف 2 / 637 تحت تفسير آية:{مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلَاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106] .
(5)
تسهيل الوصول ص 248 – 249. وكشف الأسرار 1 / 464، وأصول السرخسي 1 / 118 - 119.
مثاله رخصة الإفطار للمسافر والمريض في رمضان، فإن السبب الموجب للصوم المحرم للفطر قائم، وهو شهود الشهر، لقوله تعالى:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] ، لكن تراخى حكمه في حقها – وهو وجوب أداء الصوم وحرمة الإفطار – إلى إدراك عدة من أيام أخر ترخيصًا لهما وتيسيرًا، لقوله تعالى:{وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185] .
ولقيام السبب الموجب صح أداؤهما لو صاما، ولتراخي الحكم لو ماتا قبل إدراك عدة من أيام أخر لم يكن عليهما شيء من القضاء أو الفدية، كما لو ماتا قبل رمضان. ولو كان وجوب أداء الصوم ثابتًا للزمهما الوصية بالفدية، لأن ترك الواجب لعذر وإن كان رافعًا للإثم ولكنه لا يسقط الخلف، وهو القضاء أو الفدية.
بخلاف المكره على الإفطار في رمضان، إذا أفطر ومات قبل إدراك زمان القضاء، فإنه يلزمه الوصية بالفدية قبل موته، لأن الحكم وهو وجوب أداء الصوم وحرمة الإفطار قائم في حقه غير متراخ، لكن سقوط المؤاخذة عنه رخصة له كما قدمناه في النوع الأول (1) .
حكم هذا النوع:
1-
إن الأخذ ب العزيمة أولى إذا لم يضعفه الصوم، فالصوم أفضل من الإفطار.
2-
والأخذ بالرخصة أولى إذا ضعف عن الصوم في السفر أو فات منه أمر أهم كالجهاد، فالإفطار أولى.
3-
والأخذ بالرخصة واجب إن خاف الهلاك على نفسه، فيلزمه الفطر. لأنه لو صبر وصام فمات كان قتيل الصوم، وهو المباشر لفعل الصوم فيصير قاتلاً نفسه، تحري عدم التناقض.
فيأثم، لأنه يجب عليه الاحتراز عن قتل نفسه، بخلاف ما إذا أكرهه ظالم على الفطر فلم يفطر حتى قتله فإنه يثاب؛ لأن القتل هنا مضاف إلى الظالم، وبصبره أظهر الطاعة لله تعالى، وذلك عمل المجاهدين.
واعلم أن النوع الأول والثاني هو ما يطلق عليه اسم الرخصة حقيقة، لأن الرخصة الحقيقية هي التي تكون العزيمة المقابلة لها ثابتة معمولاً بها في الشريعة، وهذا ظاهر في النوعين المتقدمين، والنوع الأول أثبت وأقوى من النوع الثاني في صدق لفظ الرخصة عليه حقيقة (2) .
(1) كشف الأسرار مع نور الأنوار 1 / 464 – 465. وأصول السرخسي 1 / 119. وتسهيل الوصول إلى علم الأصول ص 249.
(2)
تسهيل الوصول ص / 249 – 250. وانظر كشف الأسرار مع نور الأنوار 466/1.
وأما النوع الثالث:
فهو ما وضع عنا ولم يشرع في حقنا من الإصر والأغلال التي كانت على من قبلنا في الشرائع كما قال الله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] ، وذلك كالقضاء بالقصاص عمدًا كان أو خطأ من غير شرع الدية والعفو، وقطع الأعضاء الخاطئة، وقرض الثوب إذا أصابه نجاسة، وإحراق الغنائم، وتحريم العروق في اللحم، وتحريم السبت، وأداء ربع المال للزكاة، وعدم جواز الصلاة إلا في المسجد، وحرمة الجماع في أيام الصوم بعد العتمة والنوم، وحرمة الطعام بعد النوم.
فيسمى ذلك رخصة مجازًا، لأن الحكم الأصلي لم يبق مشروعًا في حقنا (1) وإنما أطلق عليه اسم الرخصة باعتبار ما فيه من التخفيف واليسر عند مقارنة حالنا بحالهم، فحسن إطلاق اسم الرخصة عليه باعتبار الصورة تجوزًا لا تحقيقًا، فإن حقيقة الرخصة في الاستباحة إنما تتحقق إذا ثبتت مع قيام السبب المحرم وهو هنا معدوم أصلاً بالرفع والنسخ (2) .
حكم النوع الثالث:
وحكم هذا النوع أننا إذا عملنا بالحكم الأصلي المنسوخ، وتركنا هذا النوع من الرخصة التي شرعت لنا في مقابلته أثمنا وعوتبنا (3) .
النوع الرابع:
أما النوع الرابع وهو الثاني من نوعي الرخصة المجازية فهو ما سقط عن العباد بإخراج سببه من أن يكون موجبًا للحكم في محل الرخصة مع كون الساقط مشروعًا في بعض الأوقات، أي في غير صورة العذر، فهو غير مشروع لأهل الأعذار من هذه الأمة، ومشروع في حق من ليس له عذر منها.
(1) كشف الأسرار 1 / 467.
(2)
الحكم الوضعي لسعيد علي محمد ص 338.
(3)
نور الأنوار مع الكشف 1 / 467.
فهو من حيث انعدام السبب الموجب للحكم الأصلي يشبه النوع الثالث، فكان مجازًا، لأن العزيمة لم تكن في مقابلتها، ومن حيث إنه بقي مشروعًا علينا في الجملة يشبه النوع الثاني، فكان معنى الرخصة فيه حقيقة من وجه دون وجه (1) بخلاف النوع الثالث لأن الحكم سقط فيه ولم يبق مشروعًا في حقنا بوجه من الوجوه، فكان في غاية البعد عن حقيقة الرخصة (2) فكان أتم في كونه مجازًا من النوع الرابع.
ومثلوا لهذا النوع من الرخصة بأكل الميتة وشرب الخمر إذا خاف الهلاك على نفسه من الجوع أو العطش، أو أكره على ذلك، فإنه يجب عليه التناول ولا يسعه الامتناع في ذلك، حتى لو صبر حتى مات، أو قتل أثم، لأن السبب غير موجب للحكم عند الضرورة للاستثناء المذكور في قوله تعالى:{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] ، فالمستثنى، لا يتناوله الكلام موجبًا لحكمه، ولكن السبب بهذا الاستثناء لم ينعدم أصلاً، فكانت الرخصة ثابتة باعتبار عذر العبد خرج به السبب من أن يكون موجبًا للحكم في حقه ويلتحق الحرام في هذه الحالة في حقه بالحلال، لما انعدم سبب الحرمة في حقه، فكأنه قال إنها محرمة في حالة الاختيار، مباحة في حالة الاضطرار، ومن امتنع من تناول الحلال حتى يتلف نفسه يكون آثمًا.
يوضحه: أن سبب الحرمة وجوب صيانة عقله عن الاختلاط أو الفساد بشرب الخمر، وصيانة بدنه عن ضرر تناول الميتة، وصيانة البعض لا يتحقق في إتلاف الكل، فكان الامتناع في هذه الحالة إتلافًا للنفس من غير أن يكون فيه تحصيل ما هو المقصود بالحرمة، فلا يكون مطيعًا لربه، ويكون متلفًا نفسه بترك الترخص، فيكون آثمًا.
ولهذا النوع أمثلة غيرها ذكرها السرخسي في أصوله، إن شئت التفصيل فراجعه (3) .
(1) أصول السرخسي 1 / 120 – 121.
(2)
تسهيل الوصول ص 250.
(3)
أصول السرخسي 1 / 121 – 122. وكشف الأسرار شرح المنار للمصنف النسفي 1 / 471.
أقسام الرخصة عند الشافعية وغيرهم:
قسم الشافعية الرخصة بحسب ورود العذر وقوة الطلب فيها إلى أربعة أقسام:
1-
رخصة واجبة: كأكل الميتة للمضطر في حالة المخمصة لمن خاف الهلاك على نفسه بغلبة الجوع، فإن ذلك واجب لحفظ النفس، لقوله تعالى:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] . ولذلك فلو صبر ولم يأكل حتى مات يكون تاركًا للواجب، آثمًا.
2-
رخصة مندوبة: كقصر الصلاة الرباعية في السفر إذا بلغ ثلاثة أيام فصاعدًا عند من يقول بندبية القصر.
3-
رخصة مباحة: كالسلم والإجارة والعرايا ونحو ذلك من العقود الثابتة على خلاف القياس، لأن القياس يقتضي عدم جواز مثل هذه العقود، لما فيها من الجهالة والغرر، ولكنها جوزت للحاجة إليها، وقد جاء التصريح بذلك في بعض الأحاديث كقوله (أي الراوي) :" وأرخص في السلم وأرخص في العرايا (1) " ونحوها.
4-
رخصة على خلاف الأولى: كما في الجمع بين الصلاتين في السفر في غير عرفة ومزدلفة، إن الإفراد أولى خروجًا من خلاف من لا يجوز الجمع الحقيقي إلا في عرفة ومزدلفة.
ومن هذا القبيل التلفظ بكلمة الكفر عند الإكراه، فإن الأفضل عدمه والتزام الثبات والمصابرة على الدين (2) .
(1) متفق عليه، انظر فتح الباري 4 / 377. وشرح النووي على مسلم 10 / 183.
(2)
انظر أشباه الإمام السيوطي ص 83 – 84. ورفع الحرج ص 149، والحكم الوضعي ص 328 – 330.
أسباب التخفيف والرخص:
قال الفقيه العلامة ابن نجيم – رحمه الله تعالى – في أشباهه تحت القاعدة الرابعة- وهي " المشقة تجلب التيسير "(1) – قال العلماء: يتخرج على هذه القاعدة جميع رخص الشرع وتخفيفاته، واعلم أن أسباب التخفيف في العبادات وغيرها سبعة:(ثم ذكرها وفرع الجزئيات الفقهية تحت كل سبب، ونحن نلخصها فيما يلي بزيادة إيضاح في بعض المواضع) :
الأول السفر، وهو نوعان: الأول منه: ما يختص بالطويل، وهو مسيرة ثلاثة أيام ولياليها. والثاني: ما لا يختص به، والمراد به مطلق الخروج من المصر.
ومن الأحكام المختصة بالسفر الطويل: جواز المسح على الخفين ثلاثة أيام بلياليها، وقصر الصلاة الرباعية المفروضة، والفطر في رمضان (وغير ذلك) .
ومن الأحكام المختصة بالسفر القصير: ترك الجمعة والعيدين، والجماعة والنفل على الدابة (ونحوها) .
الثاني: المرض؛ ورخصه كثيرة: كالتيمم عند الخوف على نفسه، أو على عضوه، أو من زيادة المرض أو بطئه (ونحو ذلك) .
والثالث: الإكراه (أقول: وهو على نوعين: إكراه ملجئ، وهو الإكراه التام، وإكراه غير ملجئ، وهو الإكراه الناقص – وأمثلتهما مبسوطة في كتب الفقه والأصول، والموضع لا يتحملها) .
والرابع: النسيان – وهو عدم استحضار الشيء وقت الحاجة – فيشمل السهو عند الحكماء – وهو لا ينافي الوجوب لكمال العقل، وليس عذرًا في حقوق العباد، حتى لو أتلف مال إنسان يجب عليه الضمان. وفي حقوقه تعالى عذر في سقوط الإثم – كما قاله الحموي " في شرحه على الأشباه لابن نجيم "، وذكر حكمه مفصلاً في الجزئيات الفقهية – فليراجع -.
الخامس: الجهل. أما النسيان والجهل ففيهما أيضا مباحث وتفاصيل، لم يذكرها العلامة ابن نجيم – رحمه الله – في هذا الموضع، وإنما ذكرها في الفن الثالث من أشباهه، وهناك قسم الجهل إلى أربعة أقسام مع بيان أحكامها وبسط مباحثها - فليراجع.
السادس: العسر وعموم البلوى؛ كالصلاة مع النجاسة المعفو عنها، كما دون ربع الثوب من المخففة، وقدر الدرهم من المغلظة، ونجاسة المعذور التي تصيب ثيابه، وكان كلما غسلها خرجت – ونحوها كثير -.
السابع: النقص، كعدم تكليف الصبي والمجنون، وعدم تكليف النساء بكثير مما وجب على الرجال، كالجماعة والجمعة والجهاد والجزية، وما إلى ذلك (2) .
(1) ملخصًا من الأشباه والنظائر لابن نجيم الفن الأول ص 105 – 115.
(2)
ملخصًا من الأشباه والنظائر لابن نجيم – الفن الأول، من ص 116 (إلى)117.
طرق الرخص وكيفياتها:
ثم اعلم أن لتخفيفات الشرع ورخصه طرقًا ذكرها الفقيه ابن نجيم – رحمه الله – وسماها أنواعًا، وهي سبعة أيضًا:
الأول: تخفيف إسقاط، كإسقاط العبادات عند وجود أعذارها.
والثاني: تخفيف تنقيص، كالقصر في السفر على القول بأن الأصل إتمام، وأما على قول من قال إن الأصل في الفرض ركعتان ونزيد ركعتان في الحضر، فلا تخفيف فيه إلا صورة.
والثالث: تخفيف إبدال، كإبدال الوضوء والغسل بالتيمم، وإبدال القيام في الصلاة بالقعود والاضطجاع، وإبدال الركوع والسجود بالإيماء، وإبدال الصيام بالإطعام.
والرابع: تخفيف تقديم، كالجمع بعرفات، وتقديم الزكاة على الحول، وزكاة الفطر في رمضان، وقبله على الصحيح بعد تملك النصاب في الأول ووجود الرأس بصفة المؤنة والولاية في الثاني.
والخامس: تخفيف تأخير، كالجمع بمزدلفة، وتأخير صوم رمضان للمريض والمسافر، وتأخير الصلاة عن وقتها في حق مشتغل بإنقاذ غريق ونحوه.
والسادس: تخفيف ترخيص، كصلاة المستجمر مع بقية النجو، وشرب الخمر للغصة.
والسابع: تخفيف تغيير، كتغيير نظم الصلاة للخوف (1) .
المشقة على ثلاث مراتب:
الأولى: مشقة عظيمة فادحة: كمشقة الخوف على النفوس أو الأطراف أو منافع الأعضاء، فهي موجبة للتخفيف والرخص. كما في الإكراه الملجئ، والاضطرار.
الثانية: متوسطة بين العظيمة والخفيفة، كمشقة مريض في رمضان يخاف من الصوم زيادة المرض، أو بطء البرء، فيجوز له الفطر، وهكذا في المرض المبيح للتيمم.
الثالثة: مشقة خفيفة، كمشقة البرد من الوضوء، ومشقة الصوم في شدة الحر وطول النهار لغير المريض والمسافر، وكأدنى وجع في إصبع، أو أدنى صداع في الرأس أو سوء مزاج خفيف، فهذه لا أثر لها ولا التفات إليها، لأن تحصيل مصالح العبادات أولى من رفع مثل هذه المفسدة التي لا أثر لها (2) .
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم – الفن الأول ص 116 و 117.
(2)
الأشباه والنظائر لابن نجيم – الفن الأول ص 116. بتصرف وزيادة واختصار.
قسم آخر للمشقة:
وهنا قسم للمشقة: وهي المشقة التي لا انفكاك عنها إلا بترك الأعمال المطلوبة في الشرع من غير بدل، وإلا بترك ما هو المقصود بتشريعها. كالمشقة التي تصيب أصحاب الجرائم كألم الحدود، ورجم الزناة، وقتل الجناة، وقتال البغاة، فإنه لا أثر لها، فإنه لو رخص لهم، أو خفف عنهم لفاتت المصالح التي بنيت عليها تلك العقوبات. وكذا مشقة السفر التي لا انفكاك للحج والجهاد عنها، فإنه لو أسقط السفر لانعدما رأسًا (1) .
الضرورة والحاجة المرخصة:
وقد أبان علماء قواعد الفقه مراتب الرغبة، فقالوا: المراتب خمسة: ضرورة، وحاجة، ومنفعة، وزينة، وفضول (2) .
فالضرورة أن يبلغ الإنسان حدا إن لم يتناول الممنوع هلك، أو قارب الهلاك. وهذه الحالة تبيح له الحرام شرعًا، بقدر الضرورة كالمضطر للأكل أو اللبس، بحيث لو بقي جائعًا أو عريانًا، لمات، أو تلف منه عضو، ولا يشترط أن يتيقن المرء من الوقوع في الموت أو الهلاك، وإنما يكفي أن يغلب على ظنه ذلك.
والحاجة: أن يكون الإنسان في حالة من الجهد والمشقة التي لا تؤدي إلى الهلاك إذا لم يتناول المحرم شرعًا – وهذه الحالة لا تبيح المحرم وإنما تبيح الفطر للصائم، مثل الجائع الذي لو لم يجد ما يأكله، لم يهلك، وإنما يكون في ضيق وجهد ومشقة؛ فهي في مرتبة دون الضرورة.
والمنفعة: أن ينتفع المرء بشيء أساسي كخبز البر ولحم الغنم والطعام الدسم.
والزينة: أن يشتهي المرء شيئًا من الكماليات في عرفنا الحاضر، كمن يشتهي أكل الحلويات والفواكه، أو يرغب في لبس الثياب الفاخرة المنسوجة مثلاً من حرير وكتان.
والفضول: وهو التوسع باستعمال ما لا ينفعه، كمن يريد استعمال أواني الذهب والفضة، وشرب الخمر (3) .
والحاصل: أن الرخصة إنما هي مشروعة لدفع الضرورة أو الحاجة، لا لجلب المنفعة والزينة أو الفضول.
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم – الفن الأول ص 115. بتصرف وزيادة واختصار.
(2)
شرح الحموي على الأشباه لابن نجيم 1 / 119 تحت القاعدة الخامسة من الفن الأول، والأشباه والنظائر للسيوطي، في آخر القاعدة الرابعة " الضرر يزال " ص 86.
(3)
الضرورة الشرعية، للدكتور وهبة الزحيلي: ص 246 وص 347.
ضوابط الأخذ بالرخصة
أما ضوابط الأخذ بالرخص فلم أجدها في كتب الفقه والأصول مضبوطة مرتبة في موضع واحد، والسبب أن المشقة تختلف باختلاف الطبائع والأشخاص، والأزمان والأحوال وقوة العزائم والتحمل، فليس للرخصة حكم واحد، بل يختلف حكمها وطرقها وقدرها باختلاف أسبابها وأنواعها ومحالها، كما رأيته فيما سبق من البحث. فضبط الضوابط غير يسير.
لكن يمكن استنباطها وضبطها مما مر في هذا البحث من بيان يسر هذا الدين، والآيات والأحاديث والقواعد الفقهية فيه، وبيان معنى رفع الحرج، وتقسيم المشقة إلى العادية وغير العادية، وتعريف الرخصة، وبيان أنواعها، واختلاف أحكامها وأسبابها، وطرقها، وكيفياتها، وبيان مراتب المشقة الجالبة للتيسير والرخص، وبيان الضرورة والحاجة.
وهذا الفقير إلى الله سبحانه وتعالى وإن لم يكن أهلاً لمثل هذا الاستنباط، فلا بعد في أن يوفقه الله لشيء من ذلك، فإنه على كل شيء قدير، فرجاءً لتوفيقه تعالى أقول وبه أستعين وعليه التكلان:
1-
إن الرخصة لا بد لها من دليل شرعي من الأدلة الأربعة، ولا يكفي فيها وجود العذر فقط، كما ذكرته في أوائل البحث في "التنبيهات". وإلا لزمت مخالفة الدليل الشرعي القائم الموجب للحكم الأصلي، من غير دليل.
2-
لابد أن تكون الضرورة الملجئة إلى ارتكاب المحرم موجودة محققة في الحال، لا موهومة أو منتظرة في المآل – كالجائع الذي لم يصل جوعه إلى حد الاضطرار، فتناوله الميتة في هذه الحال بناءً على تيقنه أنه سوف لا يجد غيرها في المآل، لا يجوز. لأن الضرورة منتظرة غير موجودة في الحال.
3-
لابد للعامل برخصة أن يعلم شروطها وحدودها حسبما قررها الفقهاء – رحمهم الله – فيحافظ عليها ولا يتجاوز عنها.
توضيحه: أن الفقهاء ذكروا مع كل رخصة شروطها وحدودها، وهي تختلف باختلاف أنواع الرخصة وأسبابها وطرقها، وباختلاف الأزمان والأحوال والأشخاص، وباختلاف قدر المشقة وما إلى ذلك كالمريض إذا لم يضعفه الصوم فالفطر له خلاف الأولى وإن ضعفه فالفطر أولى وإن خاف الهلاك على نفسه فالفطر واجب – وكالمضطر لا يجوز له التناول من الميتة أو الخمر فوق ما يدفع الهلاك عن نفسه، لأن الضرورة تتقدر بقدرها – فلابد من المحافظة على الشروط والحدود.
4-
لا يجوز للمضطر والمكره الترخص للحرام إلا أن يتعين عليه ارتكابه، أي لا يجد هنالك لدفع الهلاك عن نفسه وسيلة أخرى، ويغلب الظن أن دفع الهلاك إنما يمكن بارتكاب المحرم.
5-
إن أعمال القلب الاختيارية المحرمة لا يرخص لها أبدًا، كالكفر بالقلب عند الإكراه، وكترك تغيير المنكر بالقلب، إذا لم يستطع تغييره باليد وباللسان، وكالكبر والحسد وما إلى ذلك من الأعمال الباطنة المحرمة.
6-
إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يجب أن تؤتي عزائمه (1) فالرخصة حكم الله كما أن العزيمة حكمه، فقد تكون الرخصة واجبة وقد تكون مندوبة أو مباحة أو خلاف الأولى، فعلى العبد أن يأتي منهما ما تقتضيه الحالة على وفق الشريعة، ولا يستنكف عن الأخذ بالرخصة إذا توفرت شروطها ودعت الشريعة إليها.
7-
إن المشقة والحرج إنما يعتبر في موضع لا نص فيه، أما مع النص بخلافه فلا (2) . فلا يجوز القصر في الصلاة للزراع والعمال ولمن اشتغل في الأكساب الشاقة، مع أن مشقتهم أشد من المسافر المترفه ظاهرًا، لأن كثيرًا من الصحابة رضي الله عنهم كانوا مشتغلين في مثل هذه الأكساب ولم يرخص لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رخص للمسافرين.
8-
لا يجوز تتبع الرخص، أي أن يأخذ من كل مذهب فقهي مباحه على سبيل التشهي والتلهي، فإنه اتباع للهوى وهو حرام (3) لقوله تعالى {فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى} [النساء: 135] وقوله تعالى {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ} [القصص: 50] .
أما عند الضرورة والحاجة جاز الإفتاء بما هو أيسر على المستفتي أو المجتمع بمذهب من المذاهب الفقهية الأربعة المتبوعة المنقولة عن المجتهدين نقلاً يعتمد عليه، بشرط أن يلتزم المفتى جميع ما يوجبه ذلك المذهب المرجوع إليه في تلك المسألة من الشروط والقيود، فإن الحكم الملفق باطل بالإجماع (4) .
هذا ما أختم به بحثي، مع أني كنت حريصًا على البحث عن " تتبع الرخص " و " التلفيق " وما يتعلق بهما، لتتم الفائدة، لكن سدتني عما كنت أريد كثير من العوائق، فاقتصرت على تقديم هذه الأوراق إلى المجلس على قاعدة " ما لا يدرك كله، لا يترك كله "، راجيًا من الله سبحانه وتعالى أن يقبلها ويجعل لها حظًّا ما في المشاركة لدراسة موضوع الرخص – والله سبحانه وتعالى أعلم، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وله الحمد أولاً وآخرًا، والصلاة والسلام على نبينا محمد المصطفى وعلى آله وأصحابه ومن بهم اقتدى
محمد رفيع العثماني
(1) رواه أحمد والبيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما، ورواه الطبراني عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم مرفوعًا، لكن وقفه على ابن مسعود أصح – فيض القدير: 2 / 292.
(2)
الأشباه والنظائر مع شرحه للحموي، تحت القاعدة الرابعة من الفن الأول: ص 117.
(3)
الموافقات للعلامة الشاطبي: 4 / 145.
(4)
الدر المختار مع حاشية ابن عابدين رحمه الله قبيل باب الأذان: 1 / 382 – 383.