المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادالشيخ خليل محيي الدين الميس - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ٨

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد الثامن

- ‌الأخذ بالرخص الشرعية وحكمهإعدادالدكتور: وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌موضوع: " الأخذ بالرخص الشرعية وحكمه

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادالدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادالشيخ خليل محيي الدين الميس

- ‌الرخصة (التلفيق)إعدادالشيخ خليل محيي الدين الميس

- ‌التلفيق والأخذ بالرخصة وحكمهماإعدادحجة الإسلام الشيخ محمد علي التسخيري

- ‌الأخذ بالرخص الشرعية وحكمهإعدادمحمد رفيع العثماني

- ‌حكمالرخصة وتتبع الرخصفي الفقه الإسلامي

- ‌الأخذ بالرخصةإعدادأ. د. حمد عبيد الكبيسي

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادالشيخ مجاهد الإسلام القاسمي

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادأ. د. عبد العزيز عزت الخياط

- ‌الرخصةإعدادالشيخ محمد الشيباني بن محمد بن أحمد

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهتتبع الرخص – التلفيق ورأي الفقهاء فيهإعدادفضيلة الشيخ مصطفى كمال التارزي

- ‌الأخذ بالرخص وحكمهإعدادالشيخ الطيب سلامة

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادالدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين

- ‌الأخذ بالرخص وحكمهإعدادالدكتور أبو بكر دوكوري

- ‌بيع العربُونإعدادفضيلة الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌بيع العربُونإعدادالدكتور وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌بيع العربونإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌بيع المزايدةإعدادفضيلة الشيخ محمد المختار

- ‌عقد المزايدةبين الشريعة الإسلامية والقانوندراسة مقابلةمع التركيز على بعض القضايا المعاصرةإعدادعبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان

- ‌قواعد ومسائلفيحوادث السيرإعدادالقاضي محمد تقي العثماني

- ‌ موضوع "حوادث السير

- ‌حوادث السيرإعدادد. عبد الله محمد عبد الله

- ‌حوادث السيرإعدادالشيخ عبد القادر محمد العماري

- ‌حوادث السيرإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌التطبيقات الشرعيةلإقامة السوق الإسلاميةإعدادالدكتور علي محيي الدين القره داغي

- ‌التطبيقات الشرعيةلإقامة السوق الإسلاميةإعدادالأستاذ الدكتور / علي السالوس

- ‌الائتمان المولد على شكل بطاقةمع صيغة مقترحة لبطاقة ائتمانية خالية من المحظورات الشرعيةإعدادسعادة الدكتور محمد القري بن عيد

- ‌بطاقات الائتمانإعدادالشيخ حسن الجواهري

- ‌سر المهنة الطبية بين الكتمان والعلانيةإعدادالدكتور أحمد رجائي الجندي

- ‌مسؤولية الطبيبإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌مداواة الرجل للمرأةوالمرأة للرجلإعدادالدكتور محمد علي البار

- ‌نقص المناعة المكتسبة (الإيدز)الأحكام المتعلقة بالمرضى والمصابينإعدادأ. د. مصطفى عبد الرؤوف أبو لسان

- ‌بعض المشاكل الأخلاقية والاجتماعيةالناتجة عن مرض الإيدز(نقص المناعة المكتسبة)إعدادالدكتور محمد علي البار

- ‌مرض الإيدز(نقص المناعة المكتسبة)أحكامه وعلاقة المريض الأسرية والاجتماعيةإعدادالدكتور سعود بن مسعد الثبيتي

- ‌التداوي بالمحرماتإعدادالدكتور محمد علي البار

- ‌بحوث مجمعية

- ‌حُسن وفاء الديونوعلاقته بالربط بتغير المستوى العام للأسعارإعدادالدكتور صالح بن زابن المرزوقي البقمي

- ‌ربط الأجور بتغير المستوى العام للأسعارفي ضوء الأدلة الشرعيةإعدادد. حمزة بن حسين الفعر

- ‌الربط القياسي للأجور بالمستوى العام للأسعارتحليل من منظور إسلامي لمشكلة الأجورفي ظل التضخم والعلاج المقترحإعدادد. عبد الرحمن يسري أحمد

- ‌التضخم والربط القياسيدراسة مقارنة بين الاقتصاد الوضعيوالاقتصاد الإسلاميإعدادالدكتور شوقي أحمد دنيا

- ‌ربط الأجور بتغير المستوى العام للأسعاربين الفقه والاقتصادإعدادد. محمد أنس الزرقا

- ‌ندوة قضايا العملةالربط القياسي للديون بعملة اعتباريةإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌ملاحظات أساسيةفي مسألة ربط الأجور والمستحقاتإعدادالدكتور سيف الدين إبراهيم تاج الدين

- ‌مشاكل البنوك الإسلاميةمحاورإعدادمجموعة دلة البركة

- ‌مشاكل البنوك الإسلاميةمحاورإعدادبيت التمويل الكويتي

- ‌الصعوبات التي تواجه البنوك الإسلاميةوتصورات لكيفية مواجهتهاإعدادأ. د. إسماعيل حسن محمد

- ‌مشاكل البنوك الإسلاميةعقد السلم ودوره في المصرف الإسلاميإعدادالشيخ صالح الحصين

- ‌مشكلات البنوك الإسلامية في الوقت الحاضرإعدادد. محمد نجاة الله صديقي

- ‌في مشكلات المصارف الإسلاميةإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌حكم المشاركة في أسهم الشركات المساهمةالمتعاملة بالرباتجربة مجموعة دلة في أسلمة الشركاتعن طريق شراء أسهمهاإعدادالشيخ صالح عبد الله كامل

- ‌المشاركة في شركات تتعامل بالحرامإعدادالشيخ عبد الله بن بيه

الفصل: ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادالشيخ خليل محيي الدين الميس

‌الأخذ بالرخصة وحكمه

إعداد

الشيخ خليل محيي الدين الميس

مفتي البقاع ومدير أزهر لبنان

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي المصطفى محمد خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.

فإن موضوع (الرخص) وبالتالي التقليد، هما من مباحث الاجتهاد عند علماء الأصول، فكما أن الرخص هي الوجه المقابل للعزيمة. فإن التلفيق إحدى مظاهر وصور تتبع الرخص سواء من مسائل المذهب الواحد أو من مذاهب متعددة.

وهنا يصل بنا الكلام إلى الاجتهاد والتقليد وما دام الأمر كذلك فإن نافذة الحوار لم تغلق، كما أن باب الاجتهاد لم ولن يوصد. كيف لا وإن جميع الأئمة الفقهاء كانوا يأمرون أتباعهم بالاجتهاد ويحذرونهم من التقليد.

ولذلك نرى في مذهب الإمام أبي حنيفة قد خالفه أصحابه في العديد من المسائل.

وكان للفقهاء المجتهدين في المذاهب ترجيحات واختيارات أكثر من أن تحصى.

لا تقلدني ولا تقلد مالكا.. كذا قال الإمام الشافعي رضي الله عنه. وإذا كانت الرخصة مشروعة في الكتاب والسنة في مقابل العزيمة.. ففي الوضوء عزيمة ورخصة.. وفي الصلاة عزيمة ورخصة، بل في المحرمات عزيمة ورخصة.. وإذا كانت العزيمة أو الرخصة يلحظ فيها حال المكلف على وجه الانفراد كذلك يمكن النظر إلى مجموع المكلفين في زمن من الأزمان أو مكان من الأمكنة.. وهكذا يطرح الموضوع للنظر وعلى مستوى هذا المجمع الفقهي لينظر علماء الأمة في التماس الحلول المناسبة لمشاكل الأمة والتي ترى نفسها وجهًا لوجه أمام قضايا كبيرة لا بد من التماس الرخصة حينًا والتلفيق أحيانًا.

مثلاً بمناسبة أداء مناسك الحج بالذات يتعذر لمجموع الحجيج أداء النسك على مذهب فقيه واحد. ولكن عندما يطالعنا قول الرسول صلى الله عليه وسلم في تلك المناسبة (لاحرج) لكل من سأله بتقديم الحلق على الذبح، وترخيصه للرعاة والضعفة أن يتقدموا من سواهم بالنسك في طواف الإفاضة؛ نلحظ رفع الحرج حتى في عبادة العمر وهو الحج.. وكذلك الشأن في جمع الصلاة عند من يقول بها من الأئمة في السفر والمطر وغير ذلك أنها رخصة..

فالرخصة يقول بها جميع الفقهاء وإن اختلفت أقوالهم في محالها.. لكنها مجمع على مشروعيتها بالكتاب والسنة.. وهنا يأتي دور التلفيق وإن كان الفقهاء لم يتعاطوا معه بالمرونة التي نراها في الرخصة، بل كانوا أقرب إلى الحذر معه من الإقدام.. وبخاصة الفقهاء الذين لا يقولون أصلا بالتقليد لذلك أسقطوا هذه المسألة كلية من دائرة البحث.. ولكنها لم تسقط.. بل أدرجت كما ذكرنا في نطاق إحداث القول الثالث من مباحث الأصول، وأفتى بمقتضاها الفقهاء المتقدمون منهم والمتأخرون.. ولكل دليل ووجه استدلال.. والله تعالى نسأل التوفيق والسداد في القول والعمل.. عليه توكلنا إنه نعم المولى ونعم النصير.

ص: 86

بسم الله الرحمن الرحيم

الرخصة في اللغة: عبارة عن التوسعة واليسر والسهولة.

والرخصة: ترخيص الله للعبد في أشياء خففها عنه، والرخصة في الأمر وهو خلاف التشديد

(1) .

الرخصة في الشريعة: أورد الأصوليون غير تعريف لها: منها: هي اسم لما تغير عن الأمر الأصلي لعارض، إلى تخفيف وتيسير ترفيهًا وتوسعة على أصحاب الأعذار.. (2) .

وقيل: هي ما بني أعذار العباد، أي ما استبيح للعذر مع قيام الدليل المحرم (3) .

وعرفها الشافعية بقولهم: هي الحكم الثابت على خلاف الدليل لعذر (4) . وقيل: هي اسم لما شرع من الأحكام متعلقا بالعوارض.

وقال صاحب التحرير: فالرخصة بهذا الاعتبار: ما شرع لعذر شاق، أو استثناء من أصل كلي يقتضي المنع مع الاقتصار على مواضع الحاجة.

فكونه مشروعًا لعذر: الخاصية التي ذكرها علماء الأصول.

وكونه شاقًّا: فإنه قد يكون العذر مجرد الحاجة من غير مشقة موجودة فلا يسمى ذلك رخصة شرعية، كالقراض والمساقاة، ونخلص من ذلك كله إلى القول:

بأن الشريعة جاءت من حيث الأمر والنهي – على مرتبتي تخفيف وتشديد، لا على مرتبة واحدة؛ لأن جميع المكلفين لا يخرجون عن قسمين قوي وضعيف، من حيث إيمانه أو جسمه في كل عصر ومكان.

فمن قوي منهم من حيث إيمانه وجسمه خوطب بالتشديد والأخذ بالعزائم.

ومن ضعف منهم خوطب التخفيف والأخذ بالرخص. وكل منهما حينئذ على شريعة من ربه وتبيان.

فلا يؤمر القوي بالنزول إلى الرخصة، ولا يكلف الضعيف بالصعود للعزيمة، قال تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] خطابًا عامًّا، وقال صلى الله عليه وسلم ((إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)) أي كذلك، فلا يؤمر القوي المذكور بالنزول إلى مرتبة الرخصة والتخفيف وهو يقدر على العمل بالعزيمة والتشديد لأن ذلك كالتلاعب بالدين.

وكذلك لا يكلف الضعيف المذكور بالصعود إلى مرتبة العزيمة والتشديد والعمل بذلك مع عجزه، ولكن لو تكلف وفعل ذلك لا نمنعه إلا بوجه شرعي.

فليس لمن قدر على استعمال الماء حسا أو شرعًا أن يتيمم بالتراب، وليس لمن قدر على القيام بالفريضة أن يصلي جالسًا، وليس لمن قدر على الصلاة جالسًا أن يصلي على جنب وهكذا في سائر الواجبات.

(1) ابن منظور، لسان العرب 8 / 306، فصل الراء. باب الصاد.

(2)

السمرقندي: ميزان الأصول (ص 55) .

(3)

السرخسي: أصول 2 / 117، والنسفي: كشف الأسرار 1 / 448.

(4)

الغزالي: المستصفى 1 / 98. والآمدي: الأحكام 1 / 68.

ص: 87

وليس من الأدب أن يفعل المفضول مع قدرته على الأفضل فيقدم الأفضل على المفضول ندبًا مع القدرة، ويقدم الأولى شرعًا على خلاف الأولى، وإن جاز ترك الأفضل والمفضول أصالة.

ومن المعلوم ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخاطب الناس على قدر عقولهم ومقامهم في حضرة الإسلام أو الإيمان أو الإحسان.))

تأمل قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] وخطابه صلى الله عليه وسلم للأكابر مع خطابه لأجلاف العرب، وأين مقام من بايعه صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره والمعسر والميسر

فمن طلب أن يبايعه صلى الله عليه وسلم على صلاة الصبح والعصر فقط دون غيرهما من الصلوات ودون الزكاة والحج والصيام والجهاد وغيرها.

وقد تبع الأئمة المجتهدون ومقلدوهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك.. فما وجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شدد فيه عادة شددوا فيه أمرًا كان أو نهيًا، وما وجدوه خفف خففوا فيه.

وإنما تكون الرخصة للعاجز عن فعل العزيمة - بل وتكون الرخصة في حقه عزيمة وعلى كل مقلد أن لا يعمل برخصة قال بها إمام مذهبه إلا إذا كان من أهلها وإن ذلك من فعل الرخصة بشرطها، أو المفضول بشرطه فهو على هدى من ربه في ذلك ولو لم يقل به إمامه (1) .

وقال بدر الدين الزركشي في آخر كتابه القواعد: الأخذ بالرخص والعزائم في محل كل منها مطلوب راجح.

فإذا قصد المكلف بفعل الرخصة قبول فضل الله تعالى عليه كان أفضل، كما أشار إليه الحديث الصحيح:((إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه)) (2) .

(1) الشعراني: الميزان الكبرى 1 / 7 – 16 بتصرف.

(2)

هذا الحديث أخرجه ابن حبان في صحيحه عن ابن عباس.. الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان 3 / 341.

ص: 88

فإذا ثبت هذا الأصل فليعلم أن مطلوب الشرع الوفاق ورد الخلاف إليه ما أمكن كما عليه عمل الأئمة من أهل الورع والتقوى كأبي محمد الجويني وأضرابه.. فإنه صنف كتابه (المحيط) ولم يلتزم فيه المشي على مذهب معين، قال: وذلك في حق أهل الورع والتقوى من باب العزائم، كما أن العمل بالمختلف فيه عندهم من باب الرخص.

فإذا وقع العبد في أمر ضروري وأمكنه الأخذ فيه بالعزيمة فله فعل ذلك وله تركه، وكان ذلك الفعل الشديد من باب القوة والأخذ بالعزائم إن كان راجحًا.

ون لم يمكنه الأخذ فيه بالعزيمة أخذ بالرخصة، كما أن له الأخذ بالقول الضعيف في بعض المواطن فلا يكون ذلك من باب المخالفة المحضة. إذا علمت هذا، فحينئذ تعرف أن أحدًا من الأئمة الأربعة أو غيرهم لم يتقلد أمر المسلمين في القول برخصة أو عزيمة إلا على حد ما ذكرنا من هذه القاعدة، فينبغي لكل مقلد للأئمة أن يعرف مقاصدهم (1) .

هذا وكان يفتي الناس بالمذاهب الأربعة كل من الشيخ الإمام الفقيه المحدث المفسر الأصولي الشيخ عبد العزيز الديراني صاحب كتاب: الدرر الملتقطة في المسائل المختلطة وشيخ الإسلام عز الدين ابن جماعة المقدسي، والشيخ العلامة الشيخ شهاب الدين البرلسي الشهير بابن الأقيطع، رحمهم الله، والشيخ على النبتيتي الضرير.

ونقل الشيخ الجلال السيوطي رحمه الله عن جماعة كثيرة من العلماء أنهم كانوا يفتون الناس بالمذاهب الأربعة لاسيما العوام الذين لا يتقيدون بمذهب ولا يعرفون قواعده ونصوصه، ويقولون حيث وافق فعل هؤلاء العوام قول عالم فلا بأس به (2) .

وعقب الشعراني على ذلك بالقول: كانوا – أولئك العلماء – يأمرون قويا برخصة، لا ضعيفا بعزيمة.

وإن الشيخ عز الدين بن جماعة كان إذا أفتى عاميًّا بحكم على مذهب إمام يأمره بفعل جميع شروط ذلك الإمام الذي أفتاه بقوله ويقول له: إن تركت شرطًا من شروطه لم تصح عبادتك على مذهبه ولا غيره. إذ الملفقة من عدة مذاهب لا تصح إلا إذا جمعت شروط تلك المذاهب كلها. وذلك منه احتياطًا للدين وخوفًا من أن يتسبب في نقض عبادة أحد من المسلمين.

ومن حسن القول ما جاء في الميزان:

تفتي كل أحد بما يناسب حاله ولو لم تفعل أنت به كذلك لأنه هو الذي خوطبت فيه فاعلم ذلك واعمل عليه.. وأفت غيرك بما هو أهله. فليس لمن قدر على سهولة الطهارة أن يمس فرجه إذا كان شافعيا ويصلي بلا تجديد طهارة تقليدًا لأبي حنيفة – كما أنه ليس له أن يصلي فرضًا أو نفلاً بغير فاتحة الكتاب مع قدرته عليها، أو أن يصلي بالذكر مع قدرته على القرآن (3) .

(1) الزركشي: المنثور في القواعد 3 / 396.

(2)

الشعراني: الميزان الكبرى 1 / 17.

(3)

الشعراني: الميزان الكبرى 1 / 18.

ص: 89

أنواع الرخص

لما كانت الرخص مبنية على أعذار العباد، وأعذارهم مختلفة؛ اختلفت أنواع الرخص فانقسمت على أنواع أربعة.

نوعان من الحقيقة، أحدهما أحق من الآخر.

ونوعان من المجاز أحدهما أتم من الآخر.

منشأ هذا التقسيم وحقيقته: لما كانت الرخصة ما تغير من عسر إلى يسر بعارض عذر، والرخصة الحقيقية هي التي تبقى عزيمته معموله. فكلما كانت العزيمة ثابتة، كانت الرخصة أيضا في مقابلتها حقيقة من جميع الوجوه.

أما النوع الأول: وهو أحق نوعي الحقيقة: فهو ما استبيح مع قيام السبب المحرم وقيام حكمه جميعا وهو الحرمة، أي عومل معاملة المباح، لأن الحرمة لما كانت قائمة مع سببها ومع ذلك شرع للمكلف الإقدام عليه من غير مؤاخذة في الدار الآخرة – بناء على عذره – كان في أعلى درجات الرخص، لأن كمال الرخصة بكمال العزيمة.

مثاله: الترخص بإجراء كلمة الكفر على اللسان بعذر الإكراه التام مع قيام التصديق بالقلب.

حكمه: الأخذ بالعزيمة (في الصبر) والامتناع عن الكفر حتى يقتل أولى؛ لأن حرمة الكفر والتكلم به لا تحتمل الإباحة بحال. ويكون شهيدًا، هذا أبيح لمن خاف التلف على نفسه عند الإكراه إجراء كلمة الكفر على لسانه رخصة له.

وجه المسألة: لأن في الامتناع حتى يقتل تلف نفسه صورة بتخريب البنية، ومعنى بزهوق الروح؛ فكان الامتناع عزيمة، لأن الممتنع مطيع ربه مظهر للصلابة في الدين وما ينقطع عنه طمع المشركين وهو جهاد يكون أفضل. والمترخص بإجراء كلمة الكفر يعمل لنفسه من حيث السعي في دفع سبب الهلاك عنها فهذه رخصة له – إن أقدم عليها لم يأثم، والأول عزيمة حتى إذا صبر حتى قتل كان مأجورا (1) .

النوع الثاني: (من نوعي الحقيقة) هو ما استبيح بعذر مع قيام السبب المحرم موجبا لحكمه وهو الحرمة، غير أن الحكم متراخ عن السبب لمانع اتصل بالسبب فمنعه من أن يعمل عمله.

فمن حيث إن السبب الموجب قائم كانت الرخصة حقيقة، والاستباحة ترخصا للعذر.

(1) السرخسي: الأصول 1 / 118.

ص: 90

ومن حيث إن الحكم متراخ عن السبب غير ثابت في الحال كان غيره أحق فكان هذا القسم دون الأول، فإن كمال الرخصة يبتنى على كمال العزيمة، فإذا كان الحكم ثابتًا مع السبب كان في العزيمة أقوى مما إذا كان الحكم متراخيًا عن السبب.

بمنزلة البيع بشرط الخيار مع البيع البات، والبيع بثمن مؤجل مع البيع بثمن حالٍّ، فإن الحكم وهو الملك في المبيع، والمطالبة بالثمن ثابت في البيع البات المطلق، ولكن الحكم متراخ عن السبب في البيع بشرط الخيار أو الأجل.

وبيان هذا النوع في الصوم في شهر رمضان للمسافر والمريض.

فإن السبب الموجب شرعًا وهو شهود الشهر قائم، ولذا لو أديا كان المؤدى فرضا – لكن الحكم متراخ إلى إدراك عدة من أيام أخر، ولهذا لو ماتا قبل الإدارك لم يلزمهما شيء، ولو كان الوجوب ثابتا للزمهما الأمر بالفدية عنهما، لأن ترك الواجب بعذر يرفع الإثم ولكن لا يسقط الخلف وهو القضاء أو الفدية (1) .

والتعجيل بعد تمام السبب مع تراخي الحكم صحيح كتعجيل الدين المؤجل.

حكم هذا النوع: أن الأخذ بالعزيمة أولى لكمال سببه وهو شهود الشهر ولتردد في الرخصة، حتى صارت العزيمة تؤدي معنى الرخصة من وجه، إذ الرخصة لليسر، والصوم في السفر يسر من وجه لأجل موافقة المسلمين وشركته مع سائر الناس يصومون.

أما إذا أضعفه الصوم فحينئذ الفطر أولى بالاتفاق.

وأما النوع الثالث: وهو أتم نوعي المجاز، فما وضع عنا من الإصر والأغلال التي كانت على من قبلنا قال تعالى:{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] وقال تعالى: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286] .

فإن ذلك يسمى رخصة مجازًا لأن الأصل ساقط لم يبق مشروعًا فلم يكن رخصة إلا مجازًا من حيث هو فسخ لمحض تخفيفًا.

وذلك لما وجبت على غيرنا فإذا قابلنا أنفسنا بهم كان السقوط في حقنا توسعة وتخفيفًا، فحسن إطلاق الرخصة عليه باعتبار الصورة تجوزًا لا تحقيقًا، لأن السبب الموجب للحرمة مع الحكم معدوم أصلاً بالرفع والفسخ والإيجاب على غيرنا لا يكون تضييقا في حقنا، والرخصة فسحة في مقابل التضييق.

(1) السرخسي 1 / 118، والبزدوي 2 / 586، وكشف الأسرار على المنار 1 / 466، والميزان للسمرقندي (ص 86) .

ص: 91

أما النوع الرابع: فما سقط عن العباد مع كونه مشروعا في الجملة.

أي في بعض المواضع سوى موضع الرخصة.

فمن حيث إنه لم يبق في موضع الرخصة أصلاً كان من قسم المجاز.

ومن حيث إنه بقي في موضع آخر

أي بقي السبب والحكم مشروعًا في الجملة. أخذ شبهًا في الحقيقة فضعف وجه المجاز فكان دون القسم الثالث، ولكن جهة المجاز غالبة على شبه الحقيقة لأن جهة المجاز بالنظر إلى محل الرخصة – وشبه الحقيقة بالنظر إلى غير محلها فكان جهة المجاز أقوى.

وبيان هذا النوع في فصول: منها السلم: روي أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان حيث قال: ((لا تبع ما ليس عندك)) (1) ورخص بالسلم. والسلم نوع بيع واشتراط العينية في المبيع المشروع قائم في الجملة ثم سقط هذا الشرط في السلم أصلاً حتى كانت العينية في المسلم فيه مفسدة للعقد لا مصححة، وكان سقوط هذا الشرط للتيسير على المحتاجين حتى يتوصلوا إلى مقاصدهم من الأثمان قبل إدراك غلاتهم، ويتوصل صاحب الدراهم إلى مقصوده من الربح فكانت رخصة من حيث إخراج السبب من أن يكون موجبًا اعتبارا العينية فيه مع بقاء هذا النوع من السبب موجبًا له في الجملة. وكذلك المسح على الخفين رخصة مشروعة لليسر، وكذلك المكره على شرب الخمر أو الميتة أو المضطر إليهما رخصة مجازًا لأن الحرمة ساقطة، حتى إذا صبر حتى مات صار آثما لأن حرمته ما ثبتت إلا صيانة لعقله ودينه عن فساد الخمر ونفسه عن الميتة فإذا خاف به فوات نفسه لم يستقم صيانة البعض بفوات الكل فسقط المحرم وكان إسقاطا لحرمته (2) .

ومن ذلك قصر الصلاة في السفر، إنه رخصة إسقاطًا لا يصح أداؤه من المسافر وإنما جعلناها إسقاطًا استدلالاً بدليل الرخصة ومعناها.

أما الدليل: فما روي عن عمر رضي الله عنه قال: أنقصر ونحن آمنون؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ((إن هذه صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته)) ، سماه صدقة والتصدق بما لا يحتمل التمليك إسقاط محض لا يحتمل الرد وإن كان المتصدق ممن لا يلزم طاعته كولي القصاص إذا عفا فممن تلزم طاعته أولى.

(1) رواه الترمذي في البيوع باب الكراهية 3 / 534 رقم 1232، وأبو داود في الإجارة باب الرجل يبيع ما ليس عنده 3 / 281 رقم 3513، وابن ماجه في التجارات. وغيرهم.

(2)

بدائع الصنائع للكاساني 7 / 176، وأحكام القرآن لابن العربي 1 / 54، وأحكام القرآن للجصاص 1 / 128، وقواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 1 / 294.

ص: 92

وأما المعنى فوجهان:

أحدهما: أن الرخصة لليسر وقد تعين اليسر في القصر بيقين فلا يبقى الإكمال إلا مؤنة محضة ليس فيها فضل ثواب، لأن الثواب في أداء ما عليه، فالقصر مؤنة السفر من الإكمال، كقصر الجمعة مع إكمال الظهر، فوجب القول بالسقوط أصلاً.

الثاني: أن التخيير إذا لم يتضمن رفقًا كان ربوبية، وإنما للعباد اختيار الأرفق فإذا لم يتضمن رفقا كان ربوبية ولا شركة له فيها (1) .

وجاء في المنثور في القواعد للزركشي:

تنقسم الرخص إلى أقسام:

أحدها – رخصة واجبة:

كحل الميتة للمضطر، وقيل: لا يجب الأكل بل له الصبر حتى الموت.

قال (الكيا الهراسي) الطبري في أحكام القرآن: الصحيح عندنا أن أكل الميتة للمضطر عزيمة لا رخصة، كالإفطار في رمضان للمريض (أحكام القرآن 1 / 74) وكذلك إساغه اللقمة بالخمر إن لم يجد غيرها.

ومنه: استدامة لبس الخف إن لم يجد من الماء ما يكفيه، كما لو كان المحدث لابس خف بشرائطه ودخل وقت الصلاة ووجد من الماء ما يكفيه لو مسح على الخف، ولا يكفيه لو غسل رجليه فإنه يجب عليه المسح على الخف قطعًا – كما نقله صاحب البحر في باب التيمم – لأنه قادر على الطهارة من غير حذر..

ومنه التيمم لفقد الماء أو للخوف من استعماله إذا جعلناه رخصة، وهو ما أورده الإمام والرافعي.

والثاني: أنه عزيمة وهو ما أورده البندنبجي.

والثالث: التفصيل بين التيمم لعدم الماء فعزيمة، أو للمريض، أو بعد الماء عنه أو بيعه بأكثر من الثمن فرخصة وهو ما أورده الغزالي في المستصفى..

الثاني – رخصة فعلها أفضل:

وقال النووي: مستحبة: كقصر الصلاة في السفر، والفطر لمن شق عليه الصوم. وعد بعضهم منه مسح الرأس في الوضوء أفضل في الغسل مع أنه رخصة.

وعد النووي منه – في كتاب الأصول والضوابط – الإبراد بالظهر في شدة الحر.

(1) البزدوي: كشف الأسرار 2 / 596.

ص: 93

الثالث – رخصة تركها أفضل:

كالمسح على الخف، والتيمم لمن وجد الماء يباح بأكثر من ثمن المثل وهو قادر عليه.

والفطر لمن لم يتضرر بالصوم.

وعد المتولي والغزالي من هذا – الجمع بين الصلاتين في السفر للخروج من الخلاف، فإن أبا حنيفة رحمه الله يوجب القصر ولا يوجب الجمع إلا بعرفة والمزدلفة.

قال الإمام الغزالي: وفرقوا بوجهين:

أحدهما: أن في القصر خروجًا من الخلاف، وفي ترك الجمع خروجًا من الخلاف أيضًا.

فإن أبا حنيفة وآخرين يوجبون القصر، ويبطلون الجمع.

والثاني: أن الجمع يلزم منه إخلاء لوقت العبادة الأصلي عن العبادة - بخلاف القصر.

قالوا: والأحاديث الواردة في الجمع ليست نصوصًا في الاستحباب بل فيها ما يجوز فعله، ولا يلزم منه الاستحباب. اهـ

كيف ومتى يؤخذ بالرخص:

لما كانت الرخصة إضافية لا أصلية، بمعنى أن كل أحد في الأخذ بها فقيه نفسه ما لم يجد فيها حدًّا شرعيًّا فيتوقف إذ ذاك عنده.

بيانه: تقرر أن سبب الرخصة المشقة، هذا والمشاق تختلف بالقوة والضعف وبحسب الأحوال، وبحسب قوة العزائم وضعفها، كما تختلف بحسب الأزمان وبحسب الأعمال.

مثلاً: إن سفر الإنسان راكبًا مسيرة يوم وليلة في رفقة مأمونة وأرض مأمونة، وعلى بطء وفي زمن الشتاء وقصر الأيام – ليس كالسفر على الضد من ذلك في الفطر والقصر.

ص: 94

وليس للمشقة – المعتبرة في التحقيقات – ضابط مخصوص ولا حد محدود يطرد وفي جميع الناس، لذلك أقام الشرع في جملة منها السبب مقام العلة – فاعتبر السفر لأنه أقرب مظان وجود المشقة – وترك كل مكلف على ما يجد أي إن كان قصر أو أفطر في السفر.

وترك كثيرًا منها موكولاً إلى الاجتهاد كالمرض، فكثير من الناس يقوى في مرضه على ما لا يقوى عليه الآخر – فتكون الرخصة مشروعة بالنسبة إلى أحد الرجلين دون الآخر. وبذلك يتحقق المبدأ بأن الرخص إضافية لا أصلية (1) .

سؤال: هل الإباحة المنسوبة إلى الرخصة – هي من قبيل الإباحة بمعنى رفع الحرج، أم من قبيل الإباحة بمعني التخيير بين الفعل والترك.

الجواب: الظاهر من نصوص الرخص، في الكتاب والسنة أن الإباحة بمعنى رفع الحرج، لا بالمعنى الآخر.. كما يظهر من قوله تعالى:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 115] نلاحظ أنه لم يذكر في ذلك بأن له الفعل والترك – إنما ذكر أن التناول في حال الاضطرار يرفع الإثم.

وقال تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ} [النحل: 106] . فالتقدير: أن من أكره فلا غضب عليه، ولا عذاب يلحقه إن تكلم بكلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان، ولم يقل: فله أن ينطق، أو إن شاء فلينطق – وفي الحديث: أكذب امرأتي؟ قال: (( ((لاخير في الكذب)) )) . قال: أفأعدها وأقول لها؟ قال: لا جناح عليك. ولم يقل له نعم ولا افعل إن شئت.

ويبتنى على ذلك: أن المترخص بالعذر يرفع عنه الإثم باختياره بانتقاله من العزيمة إلى الرخصة (2) .

(1) الموافقات 1 / 315.

(2)

الموافقات 1 / 319.

ص: 95

الترخص المشروع

الترخص المشروع ضربان:

أحدهما: أن يكون في مقابلة مشقة لا صبر عليها (طبعًا أو شرعًا) .

أما طبعًا: كالمرض الذي يعجز معه عن استيفاء أركان الصلاة على وجهها مثلا، أو عن الصوم لفوت النفس.

وأما شرعًا: كالصوم المؤدي إلى عدم القدرة على الحضور في الصلاة أو على إتمام أركانها.

الثاني: أن يكون الترخص في مقابلة مشقة بالمكلف قدرة على الصبر عليها وأمثلته ظاهرة:

فأما الأول فهو راجع إلى حق الله تعالى والترخص فيه مطلوب ومن هنا جاء قوله صلى الله عليه وسلم ((ليس من البر الصيام في السفر)) وكذلك النهي عن الصلاة بحضرة الطعام أو وهو يدافعه الأخبثان، قال صلى الله عليه وسلم ((إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعشاء)) أخرجه في التفسير عن الشيخين. وفي رواية أخرى عن الستة إلا النسائي ((إذا وضع عشاء أحدكم وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعشاء)) والرخصة هنا جارية مجرى العزائم (1) .

وأما الثاني فراجع إلى حظوظ العباد لينالوا من رفق الله وتيسيره بحظ ولو لم يكن فيه مشقة كالجمع بعرفة والمزدلفة.

هذا: وإن كل أمر شاق جعل الشارع فيه للمكلف مخرجًا، فقصد الشارع بذلك المخرج أن يتحراه المكلف إن شاء، كما جاء في الرخص شرعية المخرج من المشاق، فإذا توخى المكلف الخروج من ذلك على الوجه الذي شرع له كان متمثلاً لأمر الشارع، وإن لم يفعل خالف قصد الشارع وسد أبواب التيسير عليه. والشارع جاء بالشريعة لمصالح العباد، والمكلف في طلب التخفيف مأمور أن يطلبه من وجهه المشروع، ويكفيه في حصول التخفيف طلبه من وجهه والقصد إلى ذلك يمن وبركة، هذا وإن طالب المخرج من وجهه طالب لما ضمن له الشارع النجاح فيه، والرجوع إلى الوجه الذي وصفه الشارع رجوع إلى وجه حصول المصلحة والتخفيف على الكمال (2) .

(1) الموافقات 1 / 321.

(2)

الشاطبي: الموافقات 1 / 366.

ص: 96

تتبع الرخص

إن هذه المسألة تتخرج على أصل واحد وهو:

جواز الانتقال في آحاد المسائل والعمل فيها بخلاف مذهب إمامه الذي يقلد مذهبه.

أي أخذه من كل مذهب ما هو الأهون عليه فيما يقع من المسائل ولا يمنع منه مانع شرعي، إذ للإنسان أن يسلك الأخف عليه إذا كان له إليه سبيل، وذلك أن يأخذ بقول مجتهد مسوغ له الاجتهاد، وما علمت من الشرع من ذمة عليه. ((لأنه صلى الله عليه وسلم كان يحب ما خفف على أمته)) (1) .

قلت: بل إن تتبع الرخص يتفرع على أصلين في مسائل الأصول وهما:

(1)

التلفيق بين المذاهب.

(2)

هل يصح للعامي مذهب ولو تمذهب؟.

أما قضية التلفيق بين المذاهب فقد أفردت بالبحث، لذلك ينبغي أن نقدم لمسألة تتبع الرخص بمبحث تحت عنوان:

هل يجب الالتزام بمذهب معين أم لا؟

وهل يجوز للعامي أن يقلد غير إمامه أم لا؟

قال فقهاء الحنفية:

قال ابن أمير حاج (879) في التقرير على التحرير.

قد انطوت القرون الفاضلة على عدم القول بوجوب الالتزام بمذهب معين، بل لا يصح للعامي مذهب ولو تمذهب به، لأن المذهب إنما يكون لمن له نوع نظر واستدلال ونظر بالمذاهب على حسبه، أو لمن قرأ كتابا في فروع ذلك المذهب وعرف فتاوى إمامه وأقواله. وأما من لم يتأهل لذلك البتة بل قال: أنا حنفي أو شافعي أو غير ذلك لم يصر كذلك بمجرد هذا القول.

يوضحه: أن قائله يزعم أنه متبع لذلك الإمام، سالك طريقه في العلم والاستدلال؛ فأما مع جهله وبعده جدا عن سيرة الإمام وعمله بطريقته فكيف يصح الانتساب إليه إلا بالدعوى المجردة، والقول الفارغ من المعنى (2) .

وقال الإمام صلاح الدين العلائي:

والذي صرح به الفقهاء مشهور في كتبهم: جواز الانتقال في آحاد المسائل والعمل فيها بخلاف مذهبه إذا لم يكن على وجه متبع الرخص (3) .

(1) الكمال بن الهمام: التحرير 3 / 350.

(2)

ابن أمير حاج: التقرير على التحرير 3 / 351.

(3)

أمير باد شاه: تيسير التحرير 4 / 253.

ص: 97

مذهب الحنابلة

هل يجوز للعامي أن يتخير ويقلد أي مذهب شاء؟

إن كان العامي منتسبًا إلى مذهب معين انبنى على أن العامي هل له مذهب؟ فيه وجهان: حكاهما أبو الحسين:

أحدهما: لا، فله أن يستفتي من شاء من أهل المذاهب.

والثاني: وهو أصح عند القفال والمروزي – له مذهب فلا يجوز له إن كان شافعيًا أن يستفتي حنفيًا، ولا يخالف إمامه.

قال أبو عمر: إن المفتي المنتسب لا يجوز له مخالفة إمامه، وإن لم يكن قد انتسب إلى مذهب معين – انبنى على أنه هل يلزمه التمذهب بمذهب معين؟ فيه وجهان ذكرهما ابن برهان.

- أحدهما: لا يلزمه ذلك.

- والثاني: يلزمه ذلك.

ذهب بعض علماء الحنابلة وبعض الشافعية إلى أن العامي إذا انتحل مذهبًا لا يجوز له الانتقال عنه في سائر الأشياء.

والذي عليه الجمهور (منا أي فقهاء الحنابلة) ومن سائر العلماء أن العامة أي الأقاويل أخذوا فلا حرج في ذلك.

ص: 98

الشافعية

ومن قلد إماما من الأئمة ثم أراد تقليد غيره فهل له ذلك؟

فيه خلاف، والمختار التفصيل.

فإن كان المذهب الذي أراد الانتقال إليه مما ينقض فيه الحكم فليس له الانتقال إلى حكم يجب نقضه، فإنه لم يجب نقضه إلا لبطلانه.

فإن كان المأخذان متقاربين جاز التقليد والانتقال، لأن الناس لم يزالوا من زمن الصحابة إلى أن ظهرت المذاهب الأربعة يقلدون من اتفق من العلماء من غير نكير من أحد يعتبر إنكاره، ولو كان ذلك باطلاً لأنكروه.

وكذلك لا يجب تقليد الأفضل وإن كان هو الأولى، لأنه لو وجب تقليده لما قلد الناس الفاضل والمفضول في زمن الصحابة والتابعين من غير نكير، بل كانوا مسترسلين في تقليد الفاضل والأفضل، ولم يكن الأفضل يدعو الكل إلى تقليد نفسه، ولا المفضول يمنع من سأله عن وجود الفاضل، وهذا مما لا يرتاب فيه عاقل (1) .

ونقل الشيخ عليش عن العز بن عبد السلام قال:

وللعامي أن يعمل برخص المذاهب، وإنكار ذلك جهل ممن أنكره. لأن الأخذ بالرخص محبوب، ودين الله يسر، وما جعل عليكم في الدين من حرج (2) .

وقال العز بن عبد السلام في فتاويه: لا يتعين على العامي إذا قلد إمامًا في مسألة أن يقلده في سائر مسائل الخلاف، لأن الناس من لدن الصحابة إلى أن ظهرت المذاهب يسألون فيما يسنح لهم العلماء المختلفين من غير نكير سواء تتبع الرخص في ذلك أو العزائم

وأما ما حكاه بعضهم عن ابن حزم من حكايته الإجماع على منع تتبع الرخص من المذاهب فلعله محمول على تتبعها من غير تقليد لمن قال بها، أو على الرخص المركبة في الفعل الواحد، نقله عن السيد السمهودي.

فيؤخذ من مجموع ما ذكرناه: جواز التقليد وجواز تتبع الرخص، لا على الإطلاق بل لابد من مراعاة ما اعتبره المجتهد في المسألة التي وقع التقليد فيها بما يتوقف على صحتها كي لا يقع في حكم مركب من اجتهادين، كما إذا توضأ ومسح بعض الرأس على مذهب الشافعي ثم صلى بعد لمس مجرد عن الشهوة عند مالك على عدم النقض – وهذا عمل من منع التلفيق في التقليد. فإن معناها التلفيق في أجزاء الحكم لا في جزئيات المسائل فإنه جائز (3) .

(1) العز بن عبد السلام: قواعد الأحكام 2 / 135.

(2)

فتاوى الشيخ عليش 1 / 78.

(3)

السبكي: جمع الجوامع 2 / 442.

ص: 99

قال الإمام النووي في المجموع:

مسألة: هل يجوز للعامي أن يتخير ويقلد أي مذهب شاء؟ قال القاضي حسين في العامي المنتسب إلى مذهب هل له مذهب أم لا؟ في المسألة قولان:

أحدهما: لا مذهب له، لأن المذهب لعارف الأدلة؛ فعلى هذا: له أن يستفتي من شاء من حنفي وشافعي وغيرهما.

والثاني: وهو الأصح عند القفال: له مذهب فلا يجوز له مخالفته..

وهنا سؤال طرحه العلماء وأجابوا عليه: في أن العامي هل يلزمه أن يمتذهب بمذهب معين يأخذ برخصه وعزائمه؟

قولان للعلماء:

أحدهما: لا يلزمه كما لم يلزمه في العصر الأول أن يخص بتقليده علما يعينه. فعلى هذا: هل له أن يستفتي من شاء؟ أم يجب عليه البحث عن أشد المذاهب وأصحها أصلاً ليقلد أهله؟ فيه وجهان..

الثاني: يلزم العامي أن يمتذهب معين وبه قطع أبو الحسن الكيا (الهراسي) وهذا الحكم جار أيضا في كل من لم يبلغ رتبة الاجتهاد من الفقهاء

وجه هذا القول: أنه لو جاز اتباع أي مذهب شاء لأفضى إلى أن يلتقط رخص المذاهب متبعا هواه، ويتخير بين التحليل والتحريم والوجوب والجواز.

ثم أشار إلى المحظور المترتب على ذلك بقوله: وذلك يؤدي إلى انحلال ربقة التكليف

ص: 100

ثم سارع إلى بيان الفرق بين عصر المؤلف وعصر الصحابة والتابعين حيث لا تمذهب إذ ذاك بقوله:

بخلاف العصر الأول، فإنه لم تكن المذاهب وافية بأحكام الحوادث مهذبة.. وعرفت (1) .

وقال السيوطي: الأصح جواز الانتقال مطلقا فيما عمل به وفيما لم يعمل به.

كذا صححه الرافعي لكن بشرط عدم تتبع الرخص.

فمقلد الشافعي إذا غسل نجاسة الكلب على مذهبه وأراد بعد ذلك أن ينتقل ويقلد غيره فيها فله ذلك، لكن بشرط مراعاة ذلك المذهب في جميع شروط الطهارة والصلاة من مسح كل الرأس أو الربع، والدلك ومراعاة الترتيب في قضاء الصلوات، فإن أخل بشيء من ذلك كانت صلاته باطلة باتفاق المذهب (2) .

الجواب: إن هذا الاعتراض مندفع لعدم اتحاد المسألة، لأن الإجماع على نفي القول الثالث إنما يكون إذا اتحدت المسألة حقيقة أو حكمًا، ولأنه لو تم لزم استفتاء مفت بعينه وإلا احتمل الوقوع فيما ذكر، هذا والله أعلم بحقيقة الحال (3) .

المالكية

وقيد القرافي المالكي في شرح المحصول: جواز تقليد العامي غير إمامه، بأن لا يترتب على تقليده ما يجتمع على إبطاله الإمام الذي كان على مذهبه، والإمام الذي انتقل إليه.

صورته: من قلد الشافعي في عدم فرضية دلك الأعضاء المغسولة في الوضوء والغسل – وقلد مالكا في عدم نقض اللمس بلا شهوة – فتوضأ ولمس بلا شهوة وصلى.

الحكم: إن كان الوضوء بدلك صحت صلاته عند مالك.

وإن كان الوضوء بلا دلك بطلت صلاته عند كل من مالك والشافعي (4) .

(1) النووي: المجموع 1 / 91.

(2)

السيوطي: الحاوي 1 / 296.

(3)

مسلم الثبوت (ص 356) .

(4)

الإسنوي، بهامش التقرير 3 / 350.

ص: 101

القائلون بجواز تتبع الرخص

قال الكمال بن الهمام:

لا يمنع مانع شرعي من جواز اتباع المقلد رخص المذاهب، بأن يأخذ من كل منها ما هو الأهون عليه فيما يقع من المسائل، إذ للإنسان أن يسلك الأخف عليه إذا كان إليه سبيل بأن لم يكن عمل بآخر فيه.

والغالب أن مثل هذه الإلزامات من الفقهاء لكف الناس عن تتبع الرخص وإلا أخذ العامي في كل مسألة بقول مجتهد قوله أخف عليه.

وقال ابن أمير حاج معلقا: وأنا لا أدري ما يمنع هذا من العقل والسمع وكون الإنسان يتبع ما هو أخف على نفسه من قول مجتهد مسوغ له الاجتهاد – ما علمت من الشرع ذمه عليه.

واستدل ابن الهمام بقوله: ((كان صلى الله عليه وسلم يحب ما خفف عليهم – أي عن أمته.))

مقالة ابن عبد البر والرد عليها: قال ابن أمير حاج:

قلت لكن ما عند ابن عبد البر: من أنه لا يجوز للعامي تتبع الرخص إجماعًا – إن صح احتاج إلى جواب.

ويمكن أن يقال: لا نسلم صحة دعوى الإجماع.

نقول

لماذا؟ بل ما يترتب على صحتها.. يجب: إذ في تفسيق المتتبع للرخص عند الإمام أحمد روايتان.

قلت: ولا يخفى أن دعوى الإجماع بعد مقالة الإمام أحمد لا تصح..

وهنا يورد ابن أمير حاج: أن القاضي أبا يعلى حمل الرواية المفسقة على غير متأول.

وذكر بعض الحنابلة: إن كان قوي الدليل، أو كان عاميا لا يفسق.

ثم استدل ابن أمير حاج بما ورد عن الإمام النووي الشافعي في الروضة قال: وفي روضة النووي (الشافعي) وأصلها – أي تلك الرواية – عن حكاية الحناطي وغيره عن أبن أبي هريرة: أنه – أي متتبع الرخص – لا يفسق به.

ص: 102

ثم لعله محمول على ما يجتمع له من ذلك ما لم يقل بمجموعه مجتهد.

ثم قال الكمال بن الهمام: قيد جواز تقليد غير إمامه متأخر – وهو العلامة القرافي المالكي – بأن لا يترتب على تقليد غيره ما يجتمع على بطلانه كلا الإمامين.

وصورته: من قلد الشافعي في عدم فرضية الدلك للأعضاء المغسولة في الوضوء بالغسل وقلد مالكًا في عدم نقض اللمس بلا شهوة للوضوء فتوضأ ولمس بلا شهوة وصلى: إن كان الوضوء بدلك صحت صلاته عند مالك. وإن كان الوضوء بلا دلك بطلت عند كل من الإمام مالك والشافعي.

ثم خرج ابن باد شاه على هذه المسألة صورة مسألة أخرى قال:

جاء في غير ما كتاب من الكتب المذهبية المعتبرة:

إن المستفتي إن أمضى قول المفتي لزمه وإلا فلا، حتى قالوا: إذا لم يكن الرجل فقيهًا فاستفتى فقيهًا فأفتاه بحلال أو حرام ولم يعزم على ذلك حتى أفتاه فقيه آخر بخلافه فأخذ بقوله وأمضاه، لم يجز له أن يترك ما أمضاه فيه ويرجع إلى ما أفتاه به الأول؛ لأنه لا يجوز له نقض ما أمضاه مجتهدًا كان أو مقلدًا.

وجه هذا القول: لأن المقلد متعبد بالتقليد.

كما أن المجتهد متعبد بالاجتهاد.

ثم كما لم يجز للمجتهد نقض ما أمضاه، فكذا لا يجوز للمقلد. لأن اتصال الإمضاء بمنزلة اتصال القضاء يمنع النقض فكذا اتصال الإمضاء (1) .

وقال صاحب مسلم الثبوت في تتبع الرخص الممنوع (2) : إنما يحظر تتبع الرخص للتلهي. مثاله: عمل حنفي بالشطرنج على رأي الشافعي – قصد اللهو. كشافعي شرب المثلث للتلهي به.

ولعل هذا حرام بالإجماع، لأن التلهي حرام بالنصوص القاطعة.

وعليه:

اختلف العلماء في حكم تتبع الرخص: قال أبو إسحاق المروزي: يفسق. وقال ابن أبي هريرة: لا يفسق.

قال الإمام أحمد بن حنبل: لو أن رجلاً عمل بقول أهل الكوفة في النبيذ، وأهل المدينة في السماع، وأهل مكة في المتعة كان فاسقًا.

(1) أمير باد شاه: على هامش التحرير 3 / 353.

(2)

البهاري: مسلم الثبوت 356.

ص: 103

وخص القاضي من الحنابلة التفسيق بالمجتهد إذ لم يؤد اجتهاده إلى الرخصة واتبعها العامي العالم بها من غير تقليد لإخلاله بفرضه وهو التقليد.

فأما العامي إذا قلد في ذلك فلا يفسق؛ لأنه قلد من سوغ اجتهاده.

وقال ابن عبد السلام: ينظر إلى الفعل الذي فعله، فإن كان مما اشتهر تحريمه في الشرع أثم وإلا لا يأثم.

وفي السنن للبيهقي عن الأوزاعي: من أخذ بنوادر العلماء خرج عن الإسلام.

وروي عنه أنه قال: يترك من قول أهل مكة المتعة والصرف، ومن قول أهل المدينة السماع وإتيان النساء في أدبارهن، ومن قول أهل الشام الحرب والطاعة، ومن قول أهل الكوفه النبيذ (1) .

المانعون من تتبع الرخص

لعل الإمام الشاطبي هو حامل لواء المنع مطلقًا

وبسط القول في الموافقات شارحًا وجهة نظره ومستدلاً لها ومدافعًا عنها؛ حتى يخيل للقارئ أن الأبواب والنوافذ قد أوصدت جميعًا في وجه الترخيص والقائلين به. ولا غرو فقد انفرد دون سائر الأصوليين والفقهاء في بسط القول واستقصاء الأدلة وضرب الأمثلة؛ كيف لا والقسم الأكبر من كتابه الموافقات قد بناه على هذه المسألة.

ويبدو واضحًا أنه في عرضه ذلك تراه مدافعًا عن الشريعة الإسلامية بالشريعة الإسلامية.. وكأني به لاحظ شطر القضية ألا وهي الشريعة.. وبقي أن نلاحظ الشطر الثاني ألا وهو المكلف بالشريعة.

فيا ترى ونحن نوصد الباب في وجه تتبع الرخص بقطع النظر عن أحوال المكلفين.. كأننا قد واجهنا أيضا نصًا شرعيًا {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وما دام الأمر منوطًا بالمجتهدين قبولاً وردًا.. استدلالاً ومناقشة.. فلنتوجه إليهم لنقف على أقوالهم في المسألة.. ولنبدأ بالإمام الشاطبي حيث يقول:

1-

متى خيرنا المقلدين في مذاهب الأئمة لينتقوا منها أطيبها عندهم لم يبق لهم مرجع إلا اتباع الشهوات في الاختيار وهذا مناقض لقصد الشريعة.

(1) الشوكاني: إرشاد الفحول ص 272.

ص: 104

فلا يصح القول بالتخيير على حال، فاختيار أحد المذهبين بالهوى والشهوة مضاد للرجوع إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وذلك يفضي إلى تتبع رخص المذاهب من غير استناد إلى دليل شرعي، وقد حكى ابن حزم الإجماع على أن ذلك فسق لا يحل، وأيضا فإنه مؤد إلى إسقاط التكليف في كل مسألة مختلف فيها.

وجه هذا القول: لأن حاصل الأمر مع القول بالتخيير – أن للمكلف أن يفعل إن شاء ويترك إن شاء، وهو عين إسقاط التكليف. بخلاف ما إذا تقيد بالترجيح فإنه متبع للدليل فلا يكون متبعا للهوى ولا مسقطًا للتكليف (1) .

- إن الفقيه لا يحل له أن يتخير بعض الأقوال بمجرد التشهي والأغراض من غير اجتهاد، ولا أن يفتي به أحدًا.

- والمقلد في اختلاف الأقوال عليه مثل هذا المفتي الذي ذكر. إن المتخير بالقولين بمجرد موافقة الفرض: إما أن يكون حاكمًا به، أو مفتيًا، أو مقلدًا عاملاً بما أفتاه به المفتي.

1-

أما الحاكم المتخير بين القولين: لا يصح له ذلك على الإطلاق.

وجه هذا القول: لأن الحاكم إن كان متخيرًا بلا دليل لم يكن أحد الخصمين بالحكم له أولى من الآخر. إذ لا مرجع عنده بالغرض إلا للتشهي، فلا يمكن إنفاذ حكم على أحدهما إلا مع الحيف على الآخر.

2-

وأما المفتي: إذا أفتى بالقولين معًا على التخيير فقد أفتى في النازلة بالإباحة وإطلاق العنان له أن يعمل بأحدهما وهذا قول ثالث غير نفس القولين الدائرين بين النفي من قائل: والإثبات من القائل الآخر، وهذا لا يجوز له.

(1) الشاطبي: الموافقات 4 / 134.

ص: 105

ثانيًا: أن المفتي أقام المستفتي مقام الحاكم على نفسه، إلا أنه لا يلزمه المفتي ما أفتاه به، فكما لا يجوز للحاكم التخيير كذلك هذا.

أما إن كان المتخير عاميًا: فبتخييره بين القولين قد استند بفتوى نفسه حيث تتبع الرخص إلى شهوته وهواه، واتباع الهوى عين مخالفة الشرع.

وجه هذا القول: لأن العامي إنما حكم العالم على نفسه ليخرج عن اتباع هواه، ولهذا بعثت الرسل وأنزلت الكتب، فإذا عرض العامي نازلته على المفتي فهو قائل له: أخرجني عن هواي ودلني على اتباع الحق – فلا يمكن والحال هذه أن يقول له: في مسألتك قولان فاختر لشهوتك أيهما شئت، فإن معنى هذا تحكم الهوى دون الشرع، وتسليط المفتي العامي على تحكيم الهوى – بعد أن طلب منه إخراجه عن هواه – رمي في عماية وجهل بالشريعة، وغش في النصيحة، وهذا المعنى جار في الحاكم وغيره (1) . وليس تتبع الرخص ولا اختيار الأقوال بالتشهي ثابتًا من أصول الشريعة؛ بل تتبع الرخص ميل مع أهواء النفوس، والشرع جاء بالنهي عن اتباع الهوى ومضاد لقوله تعالى {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] فلا يصح أن يرد إلى أهواء النفوس، وإنما يرد إلى الشريعة وهي تبين الراجح من القولين فيجب اتباعه.

ومن المفاسد في اتباع رخص المذاهب:

- الانسلاخ من الدين بترك اتباع الدليل {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] إلى اتباع الخلاف.

- الاستهانة بالدين: إذ يصير بهذا الاعتبار سيالاً لا ينضبط فلا يحجز النفوس عن هواها ولا يقفها عند حد.

- ترك ما هو معلوم إلى ما ليس بمعلوم.

- احترام قانون السياسة الشرعية بترك الانضباط إلى أمر معروف.

- إفضاؤه إلى القول بتلفيق المذاهب على وجه يخرق إجماعهم.

يؤدي إلى إيجاب إسقاط التكليف جملة، فإن التكاليف كلها شاقة ثقيلة ولذلك سميت تكليفًا من الكلفة وهي المشقة.

فإذا كانت المشقة حيث لحقت في التكليف تقتضي الرفع بهذه الدلائل لزم ذلك في الطهارات والصلوات والزكوات والحج والجهاد وغير ذلك، ولا يقف عند حد إلا إذا لم يبق على العبد تكليف، وهذا محال (2) .

الشيخ خليل محيي الدين الميس

(1) الشاطبي: الموافقات 4 / 140 – 144، بتصرف.

(2)

الشاطبي: الموافقات 4 / 148 – 149.

ص: 106

وخلاصة القول

ما قاله العز بن عبد السلام: إن الأولى التزام الأشد والأحوط له في دينه، أي من كل مذهب (1) . وكذا في الإفصاح لابن هبيرة.

واتفق العلماء على الاستحباب للخروج من الخلاف.

وإن كان بين التحريم والجواز فالاجتناب أفضل.

وإن كان في الإيجاب والاستحباب فالفعل أفضل.

وإن كان في المشروعية وعدمها فالفعل أفضل.

كقراءة البسملة في الفاتحة، فإنها مكروهة عند الإمام مالك، واجبة عند الشافعي، سنة عند أبي حنيفة وأحمد رضي الله عنهما: وعند الإمام مالك رضي الله عنه، السنة تركها.

ففي مثل هذا: " الأولى اتباع الأكثر. وعلى هذا أرى ما استمر من الخلفاء الراشدين من ترك الجهر بها في الجوامع، مع أن الخطباء قد يكون منهم من يعتقد مذهب الشافعي، إلا أنهم استمروا على الإسرار بها كما ذكر، وهو المانع من الجهر، لأني مع الأكثر فلولا ذلك لجهرت ". انتهى كلام ابن هبيرة (2) .

(1) قواعد الأحكام 2 / 14.

(2)

العقد الفريد – من مجلة الفكر الإسلامي ص 121، تحقيق الباحث.

ص: 107