الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حُسن وفاء الديون
وعلاقته بالربط بتغير المستوى العام للأسعار
إعداد
الدكتور صالح بن زابن المرزوقي البقمي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على إمام المتقين، وسيد الأولين والآخرين، وقائد الغر المحجلين، وخاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وأصحابه أجمعين. وبعد:
فهذا بحث في (حسن وفاء الديون)(في القروض، وثمن البيع المؤجل والمهر المؤخر) وعلاقته بالربط بتغير المستوى العام للأسعار.
من سماحة الإسلام، ومن أبرز سمات التكافل الاجتماعي بين المسلمين، أن شرع الله القرض، ورغب فيه، بل حث عليه، وجعل أجره عظيماً، وفضله كبيراً، وحكمه أنه مندوب إليه في حق المقرض، مباح للمقترض. وقد اقترض رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة. وحض على حسن التقاضي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع، وإذا اشترى وإذا اقتضى)) (1)
كما بين صلى الله عليه وسلم أن هؤلاء من خيار الناس، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر، ثم قام خطيباً، فذكر الحديث إلى أن قال:((ألا وخيرهم الحسن القضاء، الحسن الطلب، ألا وشرهم سيئ القضاء وسيئ الطلب)) . (2)
والأمر بحسن التقاضي والسماحة في المعاملة لا يختص بالمدين المعسر، بل شامل له وللموسر، ولكن المعسر أولى.
ومن حسن الوفاء الزيادة في القرض إذا لم تكن مشروطة. وقد طبق ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى مسلم عن أبي رافع ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكراً (3)
فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره، فرجع إليه أبو رافع فقال: لم أجد فيها إلا خياراً رباعياً (4) فقال: أعطه إياه، إن خيار الناس أحسنهم قضاء)) . (5)
(1) صحيح البخاري بشرحه فتح الباري 4/306.
(2)
الترغيب والترهيب. للمنذري 2/564 – 565، رقم الحديث 12. قال الترمذي: حديث حسن.
(3)
البكر – بفتح الباء-: الفتي من الإبل كالغلام من الآدميين، والأنثى بكرة.
(4)
رباعياً: الرباعي من الإبل ما أتى عليه ست سنوات ودخل في السابعة حيث طلعت رباعيته
(5)
صحيح مسلم بشرح النووي 4/119
قال النووي في شرحه لهذا الحديث: (يستحب لمن عليه دين من قرض وغيره أن يرد أجود من الذي عليه، وهذا من السنة ومكارم الأخلاق، وليس هو من قرض جر منفعة المنهي عنه؛ لأن المنهي عنه ما كان مشروطاً في عقد القرض) . (1)
وفي هذا العصر ابتلي العالم بصفة عامة، والعالم الإسلامي بصفة خاصة، بارتفاع التضخم، مما نتج عنه انخفاض القوة الشرائية للنقود، فالتضخم يعني أن النقود غير قادرة على القيام بدورها كوحدة حسابية عادلة، كما نلاحظ ركوداً عميقاً في بعض البلدان الإسلامية، وارتفاع معدلات البطالة في بلدان أخرى، ووجود مشكلات اقتصادية متعددة.
ويستنتج من هذه المشكلات وجود انحراف عن المنهج القويم. يحتم على المخلصين من علماء الأمة الإسلامية فقهاء واقتصاديين ومفكرين أن يبحثوا عن أسباب الداء ليعالجوه، ولا يكتفون بعلاج الأعراض الظاهرية؛ لأن علاج الأعراض ما هو إلا مسكن، يتيح للفيروس أن ينمو ويستفحل حتى يصل إلى مرحلة المناعة، فيتعذر علاجه.
والعلاج يجب أن يكون مستمداً من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومقتبساً من أقوال العلماء الراجحة التي تعضدها الأدلة. حتى يمكن الوصول إلى مرحلة استقرار قيمة النقود.
تعريف الربط: (هو تقويم قيمة الديون قروضاً أو بيوعاً، مؤجلة أو مهوراً، أو نحو ذلك؛ بسلعة أو مجموعة من السلع، مناسبة للقوة الشرائية للنقود) .
كيف يتم الربط: يتم الربط بعدة أمور، أقتصر على ما تناوله موضوع هذا البحث، وهو الربط بتغير المستوى العام للأسعار، ويسمى الربط القياسي. فيمكن معرفة قيمة سلعة من السلع في وقت عقد هذا الدين، سواء كان هذا الدين قرضاً، أو ثمن مبيع مؤجل، أو صداقاً مؤخراً. ثم يعرف قيمة تلك السلعة أو السلع عند تاريخ الاستحقاق، ومن هنا يكون الفرق هو التغير في قيمة النقود.
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 4/119
حكم ربط القرض الحسن،
أو ثمن البيع المؤجل، أو مؤخر الصداق بمستوى الأسعار
المطلب الأول – حكم الربط إذا كانت النقود من الذهب أو الفضة:
اتفقت المذاهب الفقهية الأربعة على أن النقود الرائجة ذهباً أو فضة يرد مثلها في الديون، قروضاً، أو ثمن بيوع مؤجلة، أو مهراً مؤخراً. فالنقص أو الزيادة في القيمة مع بقاء الرواج لا يعتد بها.
جاء في المدونة للإمام مالك رحمه الله: (قلت: أرأيت لو أن رجلاً قال لرجل: أقرضني ديناراً دراهم أو نصف دينار دراهم أو ثلث دينار دراهم. فأعطاه الدراهم، ما الذي يقضيه في قول مالك؟ قال: يقضيه مثل دراهمه التي أخذ منه. رخصت أو غلت، فليس عليه إلا مثل الذي أخذ
…
) (1)
وقال الشافعي رحمه الله: (ومن سلف فلوساً أو دراهم أو باع بها ثم أبطلها السلطان، فليس له إلا مثل فلوسه أو دراهمه التي أسلف وباع بها) . (2)
وجاء في المادة 788 من مرشد الحيران: (
…
وإن استقرض شيئاً من المكيلات أو الموزونات أو المسكوكات من الذهب والفضة، فرخصت أسعارها أو غلت، فعليه رد مثلها، ولا عبرة برخصها أو غلوها) .
وجاء في قرة العين في الجواب على سؤال عن الواجب في الذمة عند بطلان السكة، أو زيادة قيمتها أو انخفاضها:(الواجب قضاء المثل على من ترتبت في ذمته إن كانت موجودة في بلد المعاملة، ويجب المثل لو كانت مئة بدرهم ثم صارت ألفاً بدرهم أو بالعكس، وكذلك لو كان الريال حين العقد بتسعين ثم صار بمئتين أو بالعكس وهكذا)(3)
(1) المدونة للإمام مالك بن أنس 3/445، وانظر أيضاً: حاشية الرهوني 5/121 و122، والزرقاني على خليل 5/60، ومنح الجليل 2/534.
(2)
الأم 3/33.
(3)
قرة العين ص 203 و204، وانظر منح الجليل 2/534
وقال ابن قدامة: (قد ذكرنا أن المستقرض يرد المثل في المثليات سواء رخص سعره أو غلا، أو كان بحاله. إلى أن قال: وأما رخص السعر فلا يمنع ردها، سواء كان كثيراً، مثل إن كانت عشرة بدانق، (1) فصارت عشرين بدانق، أو قليلاً؛ لأنه لم يحدث فيها شيء، إنما تغير السعر فأشبه الحنطة إذا رخصت أو غلت) . (2)
المطلب الثاني – حكم الربط بالنسبة للورق النقدي:
نتعامل في هذا العصر بنقود أصبحت هي النقود الرائجة في جميع دول العالم، وهي النقود الورقية.
وقد صدرت قرارات المجامع الفقهية أنه نقد قائم بذاته له حكم الذهب والفضة.
فقد جاء قرار مجمع الفقه الإسلامي، التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي رقم 9/د3/07/86 (أنها نقود اعتبارية فيها صفة الثمنية كاملة، ولها الأحكام المقررة للذهب والفضة من حيث أحكام الربا والزكاة والسلم وسائر أحكامه) .
وجاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة السادس (يقرر أن العملة الورقية نقد قائم بذاته له حكم النقدين من الذهب والفضة
…
) .
وجاء في قرار هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية: (إن الورق النقدي يعتبر نقداً قائماً بذاته كقيام النقدين في الذهب والفضة وغيرهما من الأثمان
…
) (3) وقد قالت بهذا من قبل مجلة الأحكام الشرعية في المادة (750) حيث جاء فيها: (إن كان القرض فلوساً أو دراهم مكسرة أو أوراقاً نقدية فغلت أو رخصت أو كسدت ولم تحرم المعاملة بها، وجب رد مثلها، أما إذا حرم السلطان التعامل بها فتجب قيمتها يوم القرض ويلزم الدفع من غير جنسها إن جرى فيها ربا الفضل، وكذا الحكم في سائر الديون، وفي ثمن لم يقبض، وفي أجرة، وعوض خلع، وعتق، ومتلف، وثمن مقبوض لزم البائع رده) . (4)
(1) الدانق: سدس الدرهم.
(2)
المغني 6/441 - 442
(3)
توضيح الأحكام من بلوغ المرام، للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام، الطبعة الأولى، مطبعة دار القبلة للثقافة الإسلامية، جدة، سنة 1413 هـ – 1992م، ص 19.
(4)
مجلة الأحكام الشرعية، للشيخ أحمد بن عبد الله القاري، تحقيق الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان والدكتور محمد إبراهيم أحمد علي، الطبعة الأولى 1401 هـ – 1981م. مطبوعات تهامة.
وما دامت النقود الورقية تأخذ حكم الذهب والفضة، وقد اتفقت على هذا قرارات المجامع الفقهية وهيئة كبار العلماء، وما دامت هي النقد السائد المقبول والمعمول به في جميع دول العالم، فإنه يتخرج على هذا قول علماء المسلمين، ومنهم الأئمة الأربعة بأنه يجب رد مثل الدين الثابت في الذمة عند حلول الأجل، سواء غلت النقود أو رخصت، وسواء كان الدين قرضاً أو ثمن مبيع، أو مهراً مؤخراً.
ولذا فإنه لا يجوز عندي ربط القرض أو أثمان البيوع المؤجلة، أو المهور المؤجلة بمستوى الأسعار؛ لأن الربط بمستوى الأسعار مصادم لأحكام الشريعة الإسلامية، فهو يؤدي إلى أمرين قد نهى الشارع عنهما:
الأول: الربا، فربط القروض، أو ثمن المبيع المؤجل، أو الصداق المؤخر بمستوى الأسعار يعني أن يدفع المقرض للمقترض مثلاً خمسين ألف ريال سعودي، وبعد عام، وقد حل موعد السداد، وقد ارتفعت نسبة التضخم 5 % فإنه يلزمه دفع الخمسين ألفاً (50000) وعليها زيادة ارتفاع الأسعار وقدرها ألفان وخمسمائة ريال (2500) ، وهذا ربا الفضل والنسيئة، وهو باطل لما رواه مسلم وغيره عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((لا تبيعوا الدينار بالدينارين ولا الدرهم بالدرهمين)) (1)
وعن أبي سعيد الخدري قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب، والفِضة بالفضة، والبُرُّ بالبر والشَّعير بالشعير، والتمر بالتمر، والمِلح بالملح مثلاً بمثل، يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء)) (2)
فالحديثان الشريفان تضمنا النص على المنع من أخذ أكثر أو أقل مما أقرض، أو باع به، والحديث الأول جاء بصيغة النهي، وصيغة النهي الخالية عن القرائن الصارفة عند علماء الأصول يقتضي التحريم والفساد.
وإذا قال قائل: إن الربط فيه تماثل؛ لأن القيمة التي ربط الدين بها عند السداد مماثلة لقيمة الدين عند القرض، أو عند البيع أو عند تقرر المهر، بسبب ربطه بقيمة سلعة أو سلع أو ذهب عرفت قيمته في الحالين، فإنه يجاب على هذا بأنه أولاً متعذر؛ إذ يصعب ضبط المماثلة في حالة الربط؛ لأنها قائمة على التقويم، والتقويم يختلف، ولا بد من وجود الفرق، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:((ولا تشفوا بعضها على بعض)) . والشف أدنى زيادة.
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 4/96
(2)
صحيح مسلم بشرح النووي 4/96
ثانياً: أن حديث عثمان رضي الله عنه نص على العدد فقال: لا تبيعوا الدينار بالدينارين. والبائع في مثالنا السابق باع خمسين ألفاً باثنين وخمسين ألفاً وخمسمائة ريال. فتحقق بيع الدينار بالدينارين، فشمله النهي، فكان حراماً، والعقد فاسداً.
وهذا هو الذي فهمه العلماء المحققون، ونصوا عليه. جاء في المغني:(وإن كانت الدراهم يتعامل بها عدداً، فاستقرض عدداً، رد عدداً، وإن استقرض وزناً رد وزناً)(1)
ونصوصهم السابقة وغيرها واضحة جلية في عدم اعتبار أي فارق في العدد مع وجود الغلاء والرخص، فهذا موفق الدين بن قدامة يقول:(وأما رخص السعر فلا يمنع ردها، سواء كان كثيراً، مثل أن كانت عشرة بدانق، فصارت عشرين بدانق، أو قليلاً؛ لأنه لم يحدث فيها شيء، إنما تغير السعر، فأشبه الحنطة إذا رخصت أو غلت)(2)
وما سبق بيانه مما جاء في قرة العين: ومنه (ويجب المثل لو كانت مئة بدرهم ثم صارت ألفاً بدرهم أو بالعكس، وكذلك لو كان الريال حين العقد بتسعين ثم صار بمئتين أو بالعكس وهكذا) .
ومع هذا فهو أولاً: فتح لباب الربا على مصراعيه؛ إذ إن كل مراب سواء كان مصرفاً ربوياً، أو شخصاً اعتبارياً أو طبيعياً. سوف يمارس الربا، ويتذرع بأن هذا فارق الأسعار، وحينئذ لا يمكن قفل هذا الباب.
ثانياً: إن فيه غرراً فاحشاً؛ لأنه لا يعلم كم تساوي قيمة السلعة أو السلع التي سيربط بها القرض، أو قيمة المبيع المؤجل، أو الصداق المؤخر. ومن شروط البيع العلم بمقدار الثمن، ومن شروط وجوب المهر المسمى في عقد الزواج العلم بمقدار المهر، ومقدار الثمن والمهر في حالة ربطهما بمستوى الأسعار أمران احتماليان غير معلومي المقدار، فيكون البيع والقرض فاسداً.
وقد بين التطبيق العملي أن التوسع في الربط القياسي على الدخول والأصول النقدية غير مجد، بسبب تعقيداته وتكاليفه الإدارية العالية. (3)
(1) المغني 6/434
(2)
المغني 6/434
(3)
نحو نظام نقدي عادل، للدكتور محمد عمر شبرا (ص 57)
ومع أن الربط القياسي قد يخفف جزئياً من الآثار السيئة لتقلبات القوة الشرائية للنقود الناتجة عن التضخم، إلا أنه ليس علاجاً له؛ لأنه يؤدي إلى عدم الاهتمام بالبحث عن سياسات صحيحة (مما يعني أن الربط القياسي يهزم نفسه بنفسه، إلا إذا كان التضخم متجها إلى الانخفاض، وكانت هناك سياسات علاجية نقدية ومالية وداخلية)(1)
وانخفاض القوة الشرائية للنقود لا يختص ضرره بالمقرضين أو أصحاب الأثمان المؤجلة، أو نحو ذلك، بل إنه يشمل المدخرين.
وأسباب هذه المشكلة أنها جاءت نتيجة لتطبيق نظم اقتصادية مخالفة للقيم والأحكام الإسلامية، ومن أهمها اعتماد تلك النظم على الفوائد الربوية.
ولذا فإن معالجتها تتم بإزالة أسبابها، وتطبيق أحكام الاقتصاد الإسلامي في كل القضايا الاقتصادية، ومنها العمل بكل حزم على استقرار الأسعار، وعلى الجهات المعنية بالسياسة الاقتصادية في البلدان الإسلامية العمل على تحقيق ذلك بكل الوسائل. وهذا في نظري هو البديل الأفضل عن الربط القياسي. كما أنه ينبغي لأرباب الأموال استثمارها وعدم كنزها لتجنب أو لتخفيف آثار انخفاض القوة الشرائية لنقودهم.
المطلب الثالث – حكم الربط بالنسبة للفلوس:
الفلوس: جمع فلس، وهو جمع كثرة، وجمع القلة أفلس، وهي: عملة معدنية من غير الذهب والفضة، كالحديد والنحاس والنيكل، قليلة القيمة، مثل الهللة بالنسبة للريال السعودي، والمليم بالنسبة للجنيه المصري، والبنس للدولار الأمريكي.
جاء في لسان العرب: وأفلس الرجل صار ذا فلوس بعد أن كان ذا دراهم، يفلس إفلاساً: صار مفلساً كأنما صارت دراهمه فلوساً وزيوفاً.
آراء العلماء حالة غلاء الفلوس ورخصها:
ذهب جماهير الفقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة إلى أن الواجب على المدين من الفلوس في القرض ونحوه، هو نفس المقدار المحدد في الدين بدون زيادة أو نقصان.
(1) نحو نظام نقدي عادل، للدكتور محمد عمر شبرا (ص 57)
جاء في بدائع الصنائع في الكلام على الفلوس: (
…
ولو لم تكسد ولكنها رخصت قيمتها أو غلت لا ينفسخ البيع بالإجماع، وعلى المشتري أن ينقد مثلها عدداً ولا يلتفت إلى القيمة ههنا؛ لأن الرخص أو الغلاء لا يوجب بطلان الثمنية) (1)
وجاء فيها بخصوص القرض: (ولو لم تكسد ولكنها رخصت أو غلت فعليه رد مثل ما قبض) . (2)
و (جاء في فتاوى قاضي خان: يلزمه المثل وهكذا ذكره الاسبيجابي قال: ولا ينظر إلى القيمة)(3) (.
وفي مجمع الفتاوى معزياً إلى المحيط قال الشيخ الإمام الأجل الأستاذ: لا يعتبر هذا، ويطالبه بما وقع عليه العقد والدين على هذا، ولو كان يروج لكن انتقصت قيمته لا يفسد وليس له إلا ذاك، وبه كان يفتي الإمام، وفتوى الإمام قاضي ظهير الدين على أنه يطالب بالدرهم التي يوم البيع، يعني بذلك العيار ولا يرجع عليه بالتفاوت) (4)
وقد نقل ابن عابدين عن الاسبيجابي فقال: (قال في غاية البيان: قيد بالكساد احتراز عن الرخص والغلاء؛ لأن الإمام الاسبيجابي في شرح الطحاوي قال: وأجمعوا أن الفلوس إذا لم تكسد ولكن غلت قيمتها أو رخصت فعليه مثل ما قبض من العدد)(5)
وقال في مدونة الإمام مالك: (أرأيت إن استقرضت فلوساً ففسدت الفلوس فما الذي أرد على صاحبي؟ (قال) قال مالك: ترد عليه مثل تلك الفلوس التي استقرضت منه وإن كانت قد فسدت. قلت: فإن بعته سلعة بفلوس ففسدت الفلوس قبل أن أقبضها. (قال) : قال مالك: لك مثل فلوسك التي بعت بها السلعة الجائزة بين الناس يومئذ، وإن كانت الفلوس قد فسدت فليس لك إلا ذلك) (6)
فإذا كان الإمام مالك يقول: ليس له إلا مثل فلوسه في حالة الفساد وهو الكساد، فالقول بأنه ليس له إلا مثلها في حالة الغلاء والرخص أولى.
(1) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع 5/542
(2)
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع 5/542
(3)
تنبيه الرقود 2/59
(4)
تنبيه الرقود 2/59
(5)
تنبيه الرقود 2/59
(6)
المدونة 3/444
وفي المدونة للإمام مالك: (وكذلك إن أقرضته دراهم فلوساً، وهو يومئذ مئة فلس بدرهم، ثم صارت مئتي فلس بدرهم، فإنما يرد إليك ما أخذ لا غير ذلك)(1)
وجاء في مختصر خليل وشرحه منح الجليل: (وإن بطلت فلوس فالمثل لما بطل التعامل به على من ترتبت في ذمته، وأولى إن تغيرت قيمتها مع استمرار التعامل بها)(2) وقال الإمام الشافعي: (ومن سلف فلوساً أو دراهم أو باع بها ثم أبطلها السلطان فليس له إلا مثل فلوسه أو دراهمه) . (3)
وقال السيوطي: (وقد تقرر أن القرض الصحيح يرد فيه المثل مطلقاً، فإذا اقترض منه رطل فلوس فالواجب رد رطل من ذلك الجنس، سواء زادت قيمته أم نقصت. أما في صورة الزيادة، فلأن القرض كالسلم
…
وأما في صورة النقص فقد قال في (الروضة) من زوائده: ولو أقرضه نقداً، فأبطل السلطان المعاملة به، فليس له إلا النقد الذي أقرضه، نص عليه الشافعي رضي الله عنه. فإذا كان هذا مع إبطاله، فمع نقص قيمته من باب أولى) (4)
وقال البهوتي: (إن الفلوس إن لم يحرمها وجب رد مثلها، غلت أو رخصت أو كسدت)(5)
هذا هو رأي جماهير العلماء في الفلوس لدى المذاهب الفقهية المختلفة. وهي نصوص صريحة واضحة، لا لبس فيها على أن الفلوس الثابتة في الذمة بسبب القرض أو ثمن بيع مؤجل، أو صداق مؤخر، أنه ليس له إلا مثلها غلت أو رخصت، وهو نص الإمام مالك والشافعي، ومذهب أبي حنيفة، بل إن مالكاً والشافعي يقولان ذلك حتى في حالة الكساد، فإذا كان الأمر كذلك فهو في حالة الغلاء والرخص من باب أولى.
(1) نقلاً عن منح الجليل 2/535
(2)
نقلاً عن منح الجليل ص 534
(3)
الأم 3/33
(4)
قطع المجادلة 1/97
(5)
كشاف القناع 3/315
ومع كل ما قاله الأئمة في الفلوس فإني لا أرى قياس الورقة النقدي عليها؛ لأنه موغل في الثمنية إيغالاً تقصر دونه الفلوس، ولأن الفلوس كانت للمحقرات من البيوع، أما الورق النقدي فتتم به الصفقات الكبيرة، ولأنه أصبح النقد الوحيد الشائع الانتشار في جميع بلدان العالم اليوم، بل لقد فاق انتشاره والتعامل والرضا به في هذا العصر الذهب والفضة. لا سيما وبعد أن قررت المجامع الفقهية، وهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية إعطاءه حكم الذهب والفضة كما بينا فيما سبق.
القول الثاني في الفلوس:
وهو مروي عن أبي يوسف، ونسبه البعض لشيخ الإسلام ابن تيمية، وللرهوني من فقهاء المالكية.
قال ابن عابدين: (وفي الفصل الخامس التترخانية إذا اشترى شيئاً بدراهم هي نقد البلد ولم ينقد الدراهم حتى تغيرت، فإن كانت تلك الدراهم لا تروج اليوم في السوق فسد البيع، وإن كانت تروج لكن انتقصت قيمتها لا يفسد البيع، وقال في الخانية: لم يكن له إلا ذلك، وعن أبي يوسف أن له أن يفسخ البيع في نقصان القيمة أيضاً) . (1)
وقال أيضاً: (وفي المنتقى: إذا غلت الفلوس قبل القبض أو رخصت قال أبو يوسف: قولي وقول أبي حنيفة في ذلك سواء وليس له غيرها، ثم رجع أبو يوسف وقال: عليه قيمتها من الدراهم يوم وقع البيع ويوم وقع القبض)(2)
وقد نقل ابن عابدين عن الإمام الاسبيجابي فقال: (قال في غاية البيان: قيد بالكساد احترازاً عن الرخص والغلاء؛ لأن الإمام الاسبيجابي في شرح الطحاوي قال: وأجمعوا على أن الفلوس إذا لم تكسد ولكن غلت قيمتها أو رخصت فعليه مثل ما قبض من العدد)(3)
(1) تنبيه الرقود 2/57 - 58
(2)
تنبيه الرقود 2/58
(3)
تنبيه الرقود 2/60
(وقال أبو الحسن: لم تختلف الرواية عن أبي حنيفة في قرض الفلوس إذا كسدت أن عليه مثلها، قال أبو يوسف: قيمتها من الذهب يوم دفع القرض في الدراهم التي ذكرت لك أصنافها –يعني البخارية والطبرية واليزيدية- وقال محمد: قيمتها في آخر نفاقها، قال القدوري: وإذا ثبت من قول أبي حنيفة في قرض الفلوس ما ذكر، فالدراهم البخارية فلوس على صفة مخصوصة والطبرية واليزيدية هي التي غلب الغش عليها، فتجري مجرى الفلوس، فلذلك قاسها أبو يوسف على الفلوس)(1)
وللجواب على ما نسب لأبي يوسف نقول: إن هذا القول ضعيف من ناحيتين: من ناحية الرواية؛ لأنه لم تروه عنه أشهر كتب الحنفية كالهداية، وفتح القدير، والمبسوط، والكنز، ونحوها، يؤيد هذا ما ذكره الكاساني، والاسبيجابي من الإجماع على أن الفلوس إذا لم تكسد ولكن غلت قيمتها، أو رخصت، فعليه مثل ما قبض من العدد. (2)
والناحية الثانية من ناحية الدراية: فإن فيه فتحاً لباب الربا لمن يرى قياس الأوراق النقدية على الفلوس؛ إذ إن كل مراب سواء كان بنكاً ربوياً، أو شخصاً اعتبارياً أو عادياً سيرتكب الربا، ويقول: هو فرق لمستوى الأسعار، ثم لا يمكن قفل هذا الباب.
ولهذا فإن نسبة قول إلى عالم من العلماء لا يعني إباحة الأخذ به دون النظر في دليله ومقارنته بغيره، فليست الحجة للأشخاص، وإنما الحجة للأدلة.
وما نسب لشيخ الإسلام ابن تيمية من قوله برد قيمة الفلوس في القرض حالة ارتفاع قيمة الفلوس أو رخصها غير دقيق. (3) فهو يقول بهذا حالة كسادها، أو تحريم السلطان التعامل بها. أما حالة الغلاء والرخص فهو يقول برد المثل.
جاء في المنح الشافيات بشرح مفردات الإمام أحمد:
والنص بالقيمة في بطلانها
لا في ازدياد القدر أو نقصانها
بل إن غلت فالمثل فيها أحرى
كدانق عشرين صار عشراً
(1) تنبيه الرقود 2/60
(2)
تنبيه الرقود 2/60
(3)
تقلبات القوة الشرائية للنقود، للدكتور شوقي دنيا، نشر في مجلة المسلم المعاصر، عدد 41، سنة 1985 (ص 70) .
(فالنص في رد القيمة إنما ورد عن الإمام فيما إذا أبطلها السلطان، فمنع المعاملة بها لا فيما إذا زادت قيمتها أو نقصت مع بقاء التعامل بها) .
وشيخ الإسلام فتى تيمية
قال: قياس القرض عن جلية
الطرد في الديون كالصداق
وعوض في الخلع والإعتاق
والغصب والصلح عن القصاص
ونحو ذا طرا بلا اختصاص
أي قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (قياس ذلك –أي القرض- فيما إذا كانت مكسرة أو فلوساً وحرمها السلطان وقلنا: يرد قيمة جميع الديون)(1)
وجاء في المحرر (وإذا أقرضه فلوساً أو مكسرة فحرمها السلطان. فله قيمتها وقت القرض) . (2)
وما ذكره البعض قولاً للمالكية برد القيمة في الفلوس إذا غلت أو رخصت اعتماداً على عبارة الرهوني التالية: (قلت: وينبغي أن يقيد ذلك بما إذا لم يكثر ذلك جداً حتى يصير القابض لها كالقابض لما لا كبير منفعة فيه، لوجود العلة التي علل بها المخالف)(3) غير دقيق؛ لأن أصل الخلاف جاء في بطلان الفلوس عند قول خليل: (وإن بطلت فلوس فالمثل) .
وقد ذكر الرهوني صراحة أن هذا الخلاف في البطلان لا في الغلاء والرخص، فقال ما نصه:(ظاهر كلام غير واحد من أهل المذهب، وصريح كلام آخرين منهم أن الخلاف السابق محله إذا قطع التعامل بالسكة القديمة جملة، وأما إذا تغيرت بزيادة أو نقص فلا، وممن صرح بذلك أبو سعيد بن لب) ثم أتبعها بعبارته السابقة: (والتي أراد بها تغيير عدم جريان الخلاف في التغير بالزيادة أو النقص بما إذا لم يصل التغير إلى الدرجة التي يكون القابض للفلوس التي نقصت كالقبض لما لا كبير منفعة فيه؛ لأنها لو كانت كذلك تصبح كالفلوس التي بطلت، فينبغي أن يجري فيها الخلاف، وهذا التغيير يكون مقبولاً في حالة التغير بالنقص فقط، ولا يتصور في حالة الزيادة)(4)
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الدكتور صالح بن زابن المرزوقي البقمي
(1) المنح الشافيات بشرح مفردات الإمام أحمد، للشيخ منصور البهوتي، تحقيق د. عبد الله المطلق 2/386 - 390
(2)
المحرر في الفقه لمجد الدين أبي البركات ابن تيمية 1/355، وانظر الدرر السنية 5/ 110-111
(3)
موقف الشريعة الإسلامية من ربط الحقوق والالتزامات المؤجلة بمستوى الأسعار، للدكتور الصديق محمد الأمين الضرير، ص 12
(4)
موقف الشريعة الإسلامية من ربط الحقوق والالتزامات المؤجلة بمستوى الأسعار للدكتور الصديق محمد الأمين الضرير، ص12