المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الرخصةإعدادالشيخ محمد الشيباني بن محمد بن أحمد - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ٨

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد الثامن

- ‌الأخذ بالرخص الشرعية وحكمهإعدادالدكتور: وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌موضوع: " الأخذ بالرخص الشرعية وحكمه

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادالدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادالشيخ خليل محيي الدين الميس

- ‌الرخصة (التلفيق)إعدادالشيخ خليل محيي الدين الميس

- ‌التلفيق والأخذ بالرخصة وحكمهماإعدادحجة الإسلام الشيخ محمد علي التسخيري

- ‌الأخذ بالرخص الشرعية وحكمهإعدادمحمد رفيع العثماني

- ‌حكمالرخصة وتتبع الرخصفي الفقه الإسلامي

- ‌الأخذ بالرخصةإعدادأ. د. حمد عبيد الكبيسي

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادالشيخ مجاهد الإسلام القاسمي

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادأ. د. عبد العزيز عزت الخياط

- ‌الرخصةإعدادالشيخ محمد الشيباني بن محمد بن أحمد

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهتتبع الرخص – التلفيق ورأي الفقهاء فيهإعدادفضيلة الشيخ مصطفى كمال التارزي

- ‌الأخذ بالرخص وحكمهإعدادالشيخ الطيب سلامة

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادالدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين

- ‌الأخذ بالرخص وحكمهإعدادالدكتور أبو بكر دوكوري

- ‌بيع العربُونإعدادفضيلة الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌بيع العربُونإعدادالدكتور وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌بيع العربونإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌بيع المزايدةإعدادفضيلة الشيخ محمد المختار

- ‌عقد المزايدةبين الشريعة الإسلامية والقانوندراسة مقابلةمع التركيز على بعض القضايا المعاصرةإعدادعبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان

- ‌قواعد ومسائلفيحوادث السيرإعدادالقاضي محمد تقي العثماني

- ‌ موضوع "حوادث السير

- ‌حوادث السيرإعدادد. عبد الله محمد عبد الله

- ‌حوادث السيرإعدادالشيخ عبد القادر محمد العماري

- ‌حوادث السيرإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌التطبيقات الشرعيةلإقامة السوق الإسلاميةإعدادالدكتور علي محيي الدين القره داغي

- ‌التطبيقات الشرعيةلإقامة السوق الإسلاميةإعدادالأستاذ الدكتور / علي السالوس

- ‌الائتمان المولد على شكل بطاقةمع صيغة مقترحة لبطاقة ائتمانية خالية من المحظورات الشرعيةإعدادسعادة الدكتور محمد القري بن عيد

- ‌بطاقات الائتمانإعدادالشيخ حسن الجواهري

- ‌سر المهنة الطبية بين الكتمان والعلانيةإعدادالدكتور أحمد رجائي الجندي

- ‌مسؤولية الطبيبإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌مداواة الرجل للمرأةوالمرأة للرجلإعدادالدكتور محمد علي البار

- ‌نقص المناعة المكتسبة (الإيدز)الأحكام المتعلقة بالمرضى والمصابينإعدادأ. د. مصطفى عبد الرؤوف أبو لسان

- ‌بعض المشاكل الأخلاقية والاجتماعيةالناتجة عن مرض الإيدز(نقص المناعة المكتسبة)إعدادالدكتور محمد علي البار

- ‌مرض الإيدز(نقص المناعة المكتسبة)أحكامه وعلاقة المريض الأسرية والاجتماعيةإعدادالدكتور سعود بن مسعد الثبيتي

- ‌التداوي بالمحرماتإعدادالدكتور محمد علي البار

- ‌بحوث مجمعية

- ‌حُسن وفاء الديونوعلاقته بالربط بتغير المستوى العام للأسعارإعدادالدكتور صالح بن زابن المرزوقي البقمي

- ‌ربط الأجور بتغير المستوى العام للأسعارفي ضوء الأدلة الشرعيةإعدادد. حمزة بن حسين الفعر

- ‌الربط القياسي للأجور بالمستوى العام للأسعارتحليل من منظور إسلامي لمشكلة الأجورفي ظل التضخم والعلاج المقترحإعدادد. عبد الرحمن يسري أحمد

- ‌التضخم والربط القياسيدراسة مقارنة بين الاقتصاد الوضعيوالاقتصاد الإسلاميإعدادالدكتور شوقي أحمد دنيا

- ‌ربط الأجور بتغير المستوى العام للأسعاربين الفقه والاقتصادإعدادد. محمد أنس الزرقا

- ‌ندوة قضايا العملةالربط القياسي للديون بعملة اعتباريةإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌ملاحظات أساسيةفي مسألة ربط الأجور والمستحقاتإعدادالدكتور سيف الدين إبراهيم تاج الدين

- ‌مشاكل البنوك الإسلاميةمحاورإعدادمجموعة دلة البركة

- ‌مشاكل البنوك الإسلاميةمحاورإعدادبيت التمويل الكويتي

- ‌الصعوبات التي تواجه البنوك الإسلاميةوتصورات لكيفية مواجهتهاإعدادأ. د. إسماعيل حسن محمد

- ‌مشاكل البنوك الإسلاميةعقد السلم ودوره في المصرف الإسلاميإعدادالشيخ صالح الحصين

- ‌مشكلات البنوك الإسلامية في الوقت الحاضرإعدادد. محمد نجاة الله صديقي

- ‌في مشكلات المصارف الإسلاميةإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌حكم المشاركة في أسهم الشركات المساهمةالمتعاملة بالرباتجربة مجموعة دلة في أسلمة الشركاتعن طريق شراء أسهمهاإعدادالشيخ صالح عبد الله كامل

- ‌المشاركة في شركات تتعامل بالحرامإعدادالشيخ عبد الله بن بيه

الفصل: ‌الرخصةإعدادالشيخ محمد الشيباني بن محمد بن أحمد

‌الرخصة

إعداد

الشيخ محمد الشيباني بن محمد بن أحمد

المفتي الشرعي بدائرة القضاء الشرعي – أبو ظبي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله رحمة للعالمين القائل: ((إن الله لم يبعثني معنتًا ولا متعنتًا، ولكن بعثني معلمًا ميسرًا)) (1) . صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد فإن الله عز وجل قال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا..)) (2) وقال صلى الله عليه وسلم: ((بعثت بالحنيفية السمحة)) (3) .

ومن هذا المنطلق شرعت الرخصة التي هي موضوع بحثنا وعنوانه الأخذ بالرخصة وحكمه.

ويتضمن هذا البحث النقاط الآتية:

1-

تعريف الرخصة لغة واصطلاحًا، مع تعريف العزيمة التي هي في مقابلها.

2-

أنواع الرخص عند الأصوليين مع بيان فقهي بالأمثلة لكل نوع منها.

3-

ضوابط الأخذ بالرخص.

4-

تتبع الرخص ورأي الفقهاء والأصوليين فيه.

5-

التلفيق بين المذاهب ورأي الفقهاء والأصوليين فيه.

6-

خاتمة البحث وتتضمن ملخصًا وجيزًا للبحث، وذكر ما هو المرجح عند الفقهاء والأصوليين في تتبع الرخص والتلفيق وما هو أحق بالاتباع.

(1) أخرجه مسلم في حديث طويل لجابر، صحيح مسلم 2 / 1105.

(2)

صحيح البخاري 1 / 23.

(3)

أخرجه الإمام أحمد عن ابن أمامة؛ المسند 5 / 266.

ص: 256

أولاً: تعريف الرخصة:

الرخصة في اللغة تطلق على معان منها أنها ضد الغلاء، ومنها النعومة والتسهيل، قال في تاج العروس:(الرخص – بالضم – ضد الغلاء وقد رخص السعر ككرم رخصًا: انحط) قال: (والرخص – بالفتح – الشيء الناعم اللين.

وقال عن ابن دريد: امرأة رخصة البدن إذا كانت ناعمة الجسم، وأصابع رخصة غير كزة، وقال الليث: إن وصفت بها المرأة فرخاصتها نعومة بشرتها ورقتها، وكذلك رخاصة أناملها) .

قلت: ومن هذا القبيل قول النابغة الذبياني:

بمخضب رخص كأن بنانه عنم يكاد من اللطافة يعقد

والرخصة بضمة وبضمتين: ترخيص الله للعبد فيما خففه عليه، وهو التسهيل وهو مجاز ومنه:((إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تترك معصيته)) (1) والجمع رخص.

ثم قال: وأرخصه الله فهو رخيص جعله رخيصًا قال الشاعر:

نغالي اللحم للأضياف نيئًا ونرخصه إذا نضج القدور (2)

أما تعريف الرخصة شرعًا فهي أنها: (عبارة عما وسع للمكلف في فعله لعذر وعجز عنه، مع قيام السبب المحرم) قاله في المستصفى (3) .

وقال في الموافقات: (وأما الرخصة فما شرع لعذر شاق استثناء من أصل كلي يقتضي المنع، مع الاقتصار على مواضع الحاجة فيه، فكونه مشروعًا لعذر هو الخاصة التي ذكرها الأصوليون)(4) .

مثال ذلك ما أبيح للمضطر من تناول الميتة، وما أبيح للمسافر والمريض من الفطر في رمضان، وما أبيح للمريض من التيمم.

(1) حديث: (إن الله يحب أن تؤتى رخصه) أخرجه أحمد عن ابن عمر مرفوعًا بلفظ: (إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته) ورجاله رجال الصحيح ورواه الطبراني في الأوسط والبزار بإسناد حسن؛ قاله في مجمع الزوائد 3 / 162.

(2)

تاج العروس للزبيدي مادة (رخص) .

(3)

المستصفى للغزالي 1 / 98.

(4)

الموافقات للشاطبي 1 / 301 – 302.

ص: 257

ولا يسمى ما لم يوجبه الله علينا رخصة، وإن كان فيه سعة كعدم وجوب صوم شوال وصلاة الضحى، كما أن ما أباحه الله أصلاً من الأكل والشرب وغيرهما من المباحات، لا يسمى رخصة (1) .

ومقابل الرخصة العزيمة، قال في مراقي السعود:

للعذروالرخصة حكم غيرا إلى سهولة لعذر قررا

مع قيام علة الأصلي وغيرها عزيمة النبي (2)

والعزيمة في اللغة: القصد المؤكد (3)، ومنه قوله تعالى:{فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: 159] وقوله تعالى: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115] وقوله عز وجل: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35] .

وفي اصطلاح الأصوليين: هي الحكم الثابت على وجه ليس مخالفًا لدليل شرعي (4) . وبعبارة أخرى: هي ما شرع من الأحكام الكلية ابتداء، ومعنى كونها كلية أنها لا تختص ببعض المكلفين من حيث هم مكلفون دون بعض كالصلاة مثلاً، فإنها مشروعة على الإطلاق والعموم في كل شخص وفي كل حال، وكذلك الصوم والزكاة والحج والجهاد، وسائر شعائر الإسلام الكلية (5) .

ومعنى كونها مشروعة على الإطلاق أنها شرعت ابتداء، وأن قصد الشارع إنشاء الأحكام التكليفية بها على العباد من أول الأمر دون حكم شرعي سابق مخالف غير منسوخ، فإن سبقها حكم شرعي ثم نسخ كان الناسخ كالحكم الابتدائي.

وعليه فإن أحكام الشريعة منقسمة إلى قسمين: عزائم وهي الأصل، ورخص وهي التي شرعت للتيسير ورفع المشقة عن المكلفين، قال الله تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28] .

(1) المستصفى 1 / 98 نزهة الخاطر العاطر شرح روضة الناظر 1 / 173.

(2)

نشر البنود على مراقي السعود 1 / 55 – 57.

(3)

المصباح المنير مادة (عزم) .

(4)

المستصفى 1 / 98.

(5)

الموافقات 1 / 300.

ص: 258

وهكذا فإن الله عز وجل رفع الحرج عن هذه الأمة، وجعل المشقة تجلب التيسير، وهذا من القواعد التي بني عليها الفقه، قال العلامة سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم الشنقيطي في " مراقي السعود ":

قد أسس الفقه على رفع الضرر وأن ما يشق يجلب الوطر (1)

قال في نشر البنود: (قد أسس الفقه، أي بنيت مسائله على أربعة أصول أحدها: قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا ضرر ولا ضرار)) (2) .

والقاعدة الثانية أن المشقة تجلب التيسير، وهو المراد بالوطر لقوله تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] .

ومن مسائلها الأخذ بالأخف والرخص كجواز القصر والجمع والفطر في السفر (3) .

والمشقة التي تجلب التيسير هي المشقة الخارجة عن المعتاد وهي التي من شأنها أن تؤدي إلى خلل في جسم المكلف أو عقله أوتؤدي إلى ما لا يحمد عقباه في المستقبل (4) .

وقد نص الشارع على الترخيص فيها مثل قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] ومثل ترك الجماعة في المطر، ففي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر المؤذن إذا كانت ليلة ذات برد ومطر يقول: ألا صلوا في الرحال)) .

(1) نشر البنود على مراقي السعود 2 / 270.

(2)

حديث (لا ضرر ولا ضرار) أخرجه مالك في الموطأ مرسلاً عن يحيى المازني – الموطأ 2 / 745 – وقد وصله أحمد عن ابن عباس – فيض القدير شرح الجامع الصغير 6 / 431. ووصله ابن ماجه عن عبادة – سنن ابن ماجه 2 / 784. ووصله الحاكم عن أبي سعيد وصححه – المستدرك 2 / 57.

(3)

نشر البنود على مراقي السعود 2 / 270.

(4)

الموافقات لأبي إسحاق الشاطبي 2 / 134 – 135.

ص: 259

وترجم له البخاري بباب الرخصة في المطر (1) .

أما المشقة المعتادة فلا تجلب التيسير لأنه لا يخلو عمل مطلوب منها، ولذلك لا تمنع التكليف، فتناول الطهارة في البرد والصلاة في الجماعة وقت الفجر في شدة البرد، والصيام في فصل الحر، كل هذه أعمال لها مشقة لكنها مشقة معتادة لا تجلب التيسير، ولا تستوجب الترخيص (2) .

وفي ذلك يقول الشيخ محمد العاقب بن مايابى الشنقيطي في نظمه لنوازل سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم الشنقيطي:

وألغيت خفيفة كبرد ماء الطهارة أوان البرد

ثانيًا: أقسام الرخصة:

للرخصة مجالات مختلفة قسمها الأصوليون باعتبارها، ومن أهم تلك التقسيمات تقسيمها باعتبار حكمها الشرعي وهي بهذا الاعتبار أربعة أقسام: واجبة، ومندوبة، ومباحة، وخلاف الأولى؛ وهذا التقسيم للشافعية ذكره الجلال المحلي في شرحه لجمع الجوامع لابن السبكي (3) ، ونقله أبو إسحاق الشاطبي عن العلماء، وإن كان غير مرتض له، فقال:(إن العلماء قد نصوا على رخص مأمور بها، فالمضطر إذا خاف الهلاك وجب عليه تناول الميتة وغيرها من المحرمات الغاذية، ونصوا على طلب الجمع بعرفة والمزدلفة، وأنه سنة، وقيل في قصر المسافر، وإنه فرض أو سنة أو مستحب، وفي الحديث: ((إن الله يحب أن تؤتى رخصه)) .

وقال ربنا تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] إلى كثير من ذلك، فلم يصح إطلاق القول بأن حكم الرخص الإباحة دون التفصيل (4) فالشاطبي نقل هذا الكلام ليرد عليه، لأنه يرى أن حكم الرخصة الإباحة مطلقًا، وإن ما لم يكن حكمه الإباحة فهو عزيمة (5) .

وأشار ابن عاصم في " مرتقى الوصول إلى معرفة علم الأصول " في كلامه على الرخصة إلى التقسيم الذي ذكره الجلال المحلي فقال:

وأصلها الجواز وهي تنتهي للندب والوجوب والأخذ به (6)

وقال الحطاب في حاشيته: (وكون الرخصة تنتهي للوجوب هو ما عليه المحققون كابن الحاجب وغيره من المتأخرين في تقسيمهم إياها للواجب والمندوب والمباح، زاد بعضهم، وخلاف الأولى)(7) .

وحديث: ((إن الله يحب أن تؤتى رخصه..)) ورد بطرق مختلفة إحداها تقدم تخريجها عن الإمام أحمد والطبراني في الأوسط والبزار، وله طريقة أخرى باللفظ الآتي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه)) . أخرجه البطراني في الكبير والبزار، ورجالهم ثقات، قاله في مجمع الزوائد (8) . أما باقي طرقه فلا نذكرها لضعفها (9) .

وهذه أقسام الرخص نوردها بالتفصيل مع ذكر مذاهب الأئمة حولها.

(1) صحيح البخاري 1 / 137 وصحيح مسلم 1 / 484.

(2)

الموافقات للشاطبي 2 / 156.

(3)

حاشية العطار على شرح المحلى لجمع الجوامع 1 / 162.

(4)

الموافقات للشاطبي 1 / 310 – 312.

(5)

الموافقات للشاطبي 1 / 310 – 312

(6)

نيل السول على مرتقى الوصول للشيخ محمد يحيى الولاتي الشنقيطي ص 93.

(7)

مواهب الجليل لحطاب 1 / 325 – 326.

(8)

مجمع الزوائد 3 / 162.

(9)

مجمع الزوائد 3 / 162.

ص: 260

القسم الأول:

الرخص الواجبة: وهي التي شرعت للضرورة الشديدة التي تهدد حياة المسلم مثل أكل الميتة والدم ولحم الخنزير – لمضطر يهدد الجوع حياته. فقد شرع الله له ذلك لقوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173] .

واتفق الأئمة الأربعة في مشهور مذاهبهم على وجوب أكل المضطر للميتة والدم ولحم الخنزير إن خشي الهلاك علمًا أو ظنًّا، ذكر ذلك أبو بكر الجصاص والكيا الهراسي – في أحكام القرآن، والقرطبي في تفسيره (1) .

كما ذكره الحطاب في حاشيته، والنووي في شرح المهذب (2) ، والمرداوي في الإنصاف (3) ، وشيخ الإسلام ابن تيمية في فتاواه (4)، والحجة في ذلك قوله تعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29] وقوله عز وجل: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] .

القسم الثاني:

من أنواع الرخص: رخص مندوبة وتشمل ما كان سنة وما كان الأخذ به أفضل من غيره، كالقصر في السفر الذي لا تقل مسافته عن أربعة برد، أي حوالي (80) كم، وهذا هو قول الجمهور (5)، وقال الحنفية: لا تقل مسافته عن ثلاثة أيام ولياليها بسير الإبل ومشي الأقدام (6) .

وقال ابن حزم: كل ما يسمى سفرًا تقصر فيه الصلاة ويفطر فيه الصائم، وهذا القول ذكر العلامة الشيخ محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي أنه أقوى دليلاً (7) ، ولا عبرة بعدم وجود مشقة في السفر لأن القصر في السفر صدقة تصدق الله بها على عباده، كما في حديث يعلى بن أمية قال: قلت لعمر: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] فقد أمن الناس، فقال: عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته)) أخرجه مسلم (8) . إلا أن الصوم في السفر أفضل لمن لا يشق عليه الصوم – كما سيأتي في القسم الرابع من أقسام الرخص – أما من يشق عليه الصوم فالفطر أفضل له لحديث: ((ليس من البر الصوم في السفر)) أخرجه الشيخان عن جابر مرفوعًا (9) .

(1) أحكام القرآن للجصاص 1 / 28، وأحكام القرآن للكيا الهراسي 1 / 42، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 2 / 232.

(2)

مواهب الجليل 3 / 232 – 233، والمجموع للنوي 9 / 39 – 40.

(3)

الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف 10 / 370.

(4)

مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 21 / 81.

(5)

مختصر خليل ص 19، والمجموع للنووي 4 / 325، والمغني 2 / 255.

(6)

الهداية 1 / 80.

(7)

المحلى 5 / 2، وأضواء البيان 1 / 470.

(8)

صحيح مسلم 1 / 478.

(9)

صحيح البخاري 2 / 687، وصحيح مسلم 2 / 786.

ص: 261

ومن الرخص التي يندب الأخذ بها: فطر المريض الذي يخاف زيادة المرض أو تماديه، فيندب له الفطر إذا لم يخش الهلاك، وإلا وجب عليه، والأصل في ذلك قوله تعالى:{وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] قال القرطبي: (للمريض حالتان: إحداهما ألا يطيق الصوم بحال فعليه الفطر واجبًا، الثانية أن يقدر على الصوم بضرر ومشقة، فهذا يستحب له الفطر ولا يصوم إلا جاهل)(1) .

القسم الثالث:

من أقسام الرخص رخص مباحة، وهي التي تطلق على ما استثني من أصل كلي يقتضي المنع مطلقًا، من غير اعتبار بكونه لعذر شاق. قال الشاطبي:(فيدخل فيه القرض والقراض والمساقاة ورد الصاع من الطعام في مسألة المصراة، وبيع العرية برخصها تمرًا، وضرب الدية على العاقلة، وما أشبه ذلك.. وعليه يدل قوله: ((نهى عن بيع ما ليس عندك، ورخص في السلم)) ، وكل هذا مستند إلى أصل الحاجيات) (2) . لأن الحاجة إذا عمت تنزلت منزلة الضرورة، والضرورات تبيح المحظورات.

وقوله: (ويدل عليه قوله: ((نهى عن بيع ما ليس عندك)) يشير به إلى ما أخرجه أصحاب السنن عن حكيم بن حزام قال: ((أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يأتيني الرجل يسألني من البيع ما ليس عندي أفأبتاع له من السوق ثم أبيعه؟ فقال: " لا تبع ما ليس عندك ".)) (3) . قال الخطابي: (قوله: لا تبع ما ليس عندك، يريد بيع الدين دون بيع الصفة، ألا ترى أنه أجاز السلم إلى الآجال، وهو بيع ما ليس عند البائع في الحال)(4) .

ومن الرخص الجائزة: المسح على الخفين في الحضر والسفر، فلا خلاف عند جميع الأئمة في جوازه لوروده في الموطأ والصحيحين (5) . ولأنه رواه سبعون صحابيا (6) .

(1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 2 / 276.

(2)

الموافقات في أصول الشريعة 1 / 303 – 304.

(3)

سنن أبي داود 3 / 768، وعارضة الأحوذي على جامع الترمذي 5 / 341، وسنن النسائي بشرح السيوطي 7 / 289، وسنن ابن ماجة 2 / 737.

(4)

معالم السنن 3 / 140.

(5)

الموطأ 1 / 36، وصحيح البخاري 1 / 151، وصحيح مسلم 1 / 151.

(6)

إكمال إكمال المعلم 2 / 47.

ص: 262

القسم الرابع:

من أقسام الرخص رخص على خلاف الأولى. من ذلك التلفظ بالكفر لمن أكره عليه وقلبه مطمئن بالإيمان، فيجوز له التلفظ بالكفر إذا خشي الهلاك، لقوله تعالى:{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106] .. هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر، أخذه المشركون فلم يتركوه حتى سب النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر آلهتهم بخير، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:((كيف تجد نفسك؟)) قال: مطمئن بالإيمان. قال: ((إن عادوا فعد)) . أخرجه ابن جرير في تفسيره، والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين (1) . هذا دليل الترخيص في الكفر، إلا أن من صبر على البلاء حتى قتل كان ذلك أولى وأعظم أجرًا.. ذكر ذلك الجصاص وابن العربي (2) وحكى القرطبي عليه الإجماع (3) .

ومن الرخص التي هي خلاف الأولى:

فطر المسافر في رمضان حيث كان الصوم لا يشق عليه، وهذا رأي الجمهور (4) . لقوله تعالى:{وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 148] . وقال أحمد: إن الفطر أفضل مطلقًا قوي على الصوم أم لا (5) . واستدل بحديث جابر الآنف الذكر ((ليس من البر الصوم في السفر)) لكن هذا الحديث ورد في شأن رجل أجهده الصوم حتى أضر به، وقد ترجم البخاري لهذا الحديث بقوله: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن ظلل عليه واشتد الحر ((ليس من البر الصوم في السفر)) .

قال في الفتح: أشار بهذه الترجمة إلى أن سبب قوله صلى الله عليه وسلم: ((ليس من البر الصوم السفر)) ما ذكر من المشقة.

قال: (والحاصل أن الصوم لمن قوي عليه أفضل من الفطر، والفطر لمن شق عليه الصوم أو أعرض عن قبول الرخصة أفضل، وأن من لم يتحقق المشقة خير بين الصوم والفطر)(6) . اهـ.

(1) جامع البيان في تفسير القرآن 14 / 122، المستدرك 2 / 357.

(2)

أحكام القرآن للجصاص 3 / 192، وأحكام القرآن لابن العربي 3 / 1179.

(3)

الجامع لأحكام القرآن 10 / 188.

(4)

اللباب شرح الكتاب 1 / 169، ومواهب الجليل 2 / 401، وفتح الباري 4/ 159.

(5)

المغني 3 / 150.

(6)

فتح الباري 4 / 159.

ص: 263

وقد قسمت الرخص أيضا على أساس اعتبار الحقيقة والمجاز، وهذا التقسيم للحنفية (1) وهي بهذا الاعتبار على قسمين:

رخص حقيقية، ورخص مجازية.

فالرخص الحقيقية هي التي تقع في مقابلة عزائم ما يزال العمل بها جاريًا لقيام دليلها، وهي على نوعين:

- نوع أباحه الشرع مع قيام السبب المحرم، وهو أعلى درجات الرخص، مثاله النطق بكلمة الكفر لمن أكره عليها، فقد رخص لمن أكره على الكفر وخاف على نفسه الهلاك أن يتلفظ بكلمة الكفر عندما يكون قلبه مطمئنًا بالإيمان.

ومع ذلك فله أن يرفض ذلك ويصبر حتى يقتل شهيدًا، بل إن الصبر أفضل له، وقد ذكرنا ذلك سابقًا وأتينا بكلام العلماء حوله.

ومن هذا النوع أكل الميتة لمضطر يخشى الهلاك، فإن الشارع قد رخص له في أكلها وقد ذكرنا سابقًا أن مشهور مذاهب الأئمة أنه إذا خشي التلف وجب عليه أكلها لقوله تعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]

النوع الثاني من القسم الأول هو ما رخص فيه مع قيام السبب المحرم إلا أن الحكم فيه على التراخي كالفطر في رمضان للمسافر فإن السبب المحرم للإفطار هو رمضان وهو قائم بذاته إلا أن المسافر مشروع له التراخي في أداء هذا الفرض لقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] .

وعليه فإنه من حيث إن السبب الموجب للصوم قائم كانت الرخصة حقيقية، ومن حيث إن الحكم متراخ غير لازم في الحال كان هذا النوع دون النوع الأول (2) .

القسم الثاني من هذا التقسيم هو الرخص المجازية وتسمى أيضا برخص الإسقاط وهي نوعان:

أ- نوع أسقطه الله عن أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم كالإصر والأغلال التي على أمم قبلنا، مثل قتل النفس لصحة التوبة فمن ارتد عن دينه لم يكن له من توبة إلا قتل نفسه.

قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} [البقرة: 54] ومن الإصر والأغلال أي الأثقال والمشاق التي كانت على من قبلنا – أن النجاسة إذا أصابت ثوبًا أو جسدًا قطع محلها من ذلك الثوب أو الجسد. كما أن مجالسة الحائض ومواكلتها ومضاجعتها كانت ممنوعة، وكانوا إذا جمعوا الغنائم نزلت نار من السماء فأكلتها (3)، لأن الغنائم لم تحل لأحد قبل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. ففي صحيح البخاري من حديث جابر مرفوعًا:((وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي)) (4) .

(1) كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام للبزدوي 2 / 315 – 321.

(2)

كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام للبزدوي 2 / 315 – 321.

(3)

الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 7 / 300.

(4)

صحيح البخاري 1 / 128.

ص: 264

ولم تكن الدية فيمن قبلنا وإنما كان فيهم القصاص فقط (1) .

ب- النوع الثاني هو ما شرع للأمة من المعاملات التي الأصل فيها المنع، كالسلم والقراض والمساقاة وبيع العرايا وهو ما تكلمنا عنه آنفًا تحت عنوان الرخص المباحة.

فكما أن هذا النوع قد أدرج تحت الرخص المباحة من أجل حاجيات المجتمعات إليها – فإنه أيضا أدرج في عداد الرخص المجازية، فسميت عند الشافعية بالرخص المباحة، كما أسلفنا، وسميت عند الحنفية بالرخص المجازية (2) .

ثالثًا: ضوابط الأخذ بالرخصة:

الأخذ بالرخصة التي نص الشارع عليها – محبب كما تقدم في حديث: ((إن الله يحب أن تؤتى رخصة كما يحب أن تؤتى عزائمه)) (3) وقد وردت به أحاديث متعددة، منها حديث:((عليكم برخصة الله الذي رخص لكم)) أخرجه مسلم عن جابر مرفوعًا (4) .

غير أن للأخذ بالرخصة ضوابط لابد من مراعاتها لكل من يريد الأخذ بها، ومن هذه الضوابط.

1 – وجود مشقة تؤدي إلى الانتقال من حكم العزيمة إلى الأخذ بالرخصة، وهذه المشقة تختلف من شخص إلى شخص، وقد ذكرنا سابقًا أن المشقة التي تستوجب الأخذ بالرخصة هي المشقة غير المعتادة.

أما المشقة المعتادة فإنها مقترنة مع التكاليف الشرعية لأن التكليف في حقيقته هو إلزام المكلف بما فيه كلفة ومشقة، قال في " مراقي السعود ":

وهو إلزام الذي يشق أو طلب فاه بكل خلق (5)

وذلك لأن مراد الشارع إخراج المكلف عن دائرة هواه بالانقياد إلى أوامر مولاه، وقال في مرتقى الوصول:

القصد بالتكليف صرف الخلق عن داعيات النفس نحو الحق (6)

لأن اتباع الهوى هو سبب الخسران والضلال، قال الله تعالى:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50] .

(1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 7 / 300.

(2)

كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام للبزدوي 2 / 315 – 316.

(3)

تقدم تخريج هذا الحديث في الحاشية رقم (1) ص 368.

(4)

صحيح مسلم 2 / 786.

(5)

نشر البنود على مراقي السعود 1 / 25.

(6)

نيل السول على مرتقى الوصول ص 112.

ص: 265

وليس معنى هذا أن الشهوات كلها ممنوعة على المسلم، وإنما معناه أن لا يكون الإنسان متبعًا هواه في الشهوات.

أما أخذ الشهوة من حيث أبيحت فلا إثم فيه، قال الله تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32] .

وفي صحيح مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

((وفي بضع أحدكم صدقة)) قالوا يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال ((أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال فإن له أجرًا)) (1) .

فالضابط أن يكون الهوى تابعًا للشرع، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به)) (2) .

2-

أن تكون الرخصة فيما أذن فيه شرعًا، مثال ذلك أن يكون السفر في غير معصية، كالسفر في الجهاد والحج وطلب العلم والتجارة في المباح، أما إذا كان السفر في معصية كالسفر لقطع الطريق، أو للتجارة بالمحرمات كالخمر ونحوها، فلا يؤخذ فيه بالرخصة عند الجمهور.

قال السيوطي: " الرخص لا تناط بالمعاصي ومن ثم لا يستبيح العاصي بسفره شيئًا من رخص السفر كالقصر والجمع والفطر "(3) مع أن في المسألة اختلافًا بين العلماء، قال العلامة سيدي عبد الله في " مراقي السعود ":

وهي في المأذون شرعًا توجد وغيره فيه لهم تردد

وذكر في نشر البنود أن الخلاف في أخذ العاصي بالترخيص سببه اختلاف المفسرين في قوله تعالى: {غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} [البقرة: 173] هل هو الأكل، أو السبب الموصل للاضطرار؟ (4) وممن قال من المالكية بأخذ العاصي بالرخصة: القرطبي وسند وابن عبد السلام وابن مرزوق، وهو المذهب عند الحنفية (5) .

وممن قال بعدم أخذ العاصي بالرخصة من المالكية ابن العربي وابن عبد السلام وخليل (6) وهو المذهب عند الشافعية والحنابلة (7) .

3-

أن يكون سبب الرخصة قطعيا أو ظنيا لا مشكوكًا فيه، لأن الشك لا تناط به الأحكام، أما الظن فقد أجريت عليه الأحكام مجرى القطع، قال الشيخ محمد الخضري بك:" فقد قام الدليل القطعي على أن الأدلة الظنية تجري في فروع الشريعة مجرى الأدلة القطعية متى ثبت أن غلبة الظن معتبرة فلتعتبر في الرخص"(8) .

(1) صحيح مسلم 2 / 697 – 698.

(2)

هذا الحديث هو 41 من الأربعين النووية، قال النووي: رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح.

(3)

الأشباه والنظائر ص 260.

(4)

نشر البنود على مراقي السعود 1 / 57.

(5)

نشر البنود على مراقي السعود 1 / 57 وأحكام القرآن لابن العربي 1/ 58، والمجموع للنووي 4 / 343 – 344.

(6)

نشر البنود 1 / 58، ومختصر خليل ص 20، 44.

(7)

المجموع للنووي 4 / 343، والمغني 3 / 261 – 262.

(8)

أصول الفقه للشيخ محمد الخضري بك ص 73.

ص: 266

أما الشك فليس كذلك، قال السيوطي " الرخص لا تناط بالشك " قال:" ومن فروعها لزوم الغسل لمن شك في جواز المسح ووجوب الإتمام لمن شك في جواز القصر، وذلك في صور متعددة "(1) .

4-

أن يكون سبب الرخصة واقعًا بالفعل لا متوقعًا، ومثلوا لذلك بامرأة عادتها أن تحيض في يوم معين فقالت في نفسها: غدًا يوم حيضتي فأصبحت مفطرة في رمضان قبل أن تحيض، وشخص عادته أن يحم في يوم معين فقال: غدًا هو اليوم الذي تصيبني فيه الحمى وأصبح مفطرًا قبل أن يحم (2) .

فهذان عملا بالرخصة قبل موجبها فعملهما مخالف للشرع؛ بل إن عليهما الكفارة في مشهور المذهب المالكي، ولو وقع لهما ما كانا يتوقعان. قال ابن القاسم في المدونة " ما رأيت مالكًا يجعل الكفارة في شيء من هذا الوجه على التأويل إلا امرأة قالت: غدًا أحيض فأفطرت أول النهار وحاضت آخره، والذي قال: اليوم أحم فأفطر ثم حم ". قال ابن يونس: " لأنهما تأولا أمرًا لم ينزل بهما بعد، وقد يكون ولا يكون، وأصلهم في هذا أن لا حكم له، قال ابن يونس الأقيس قول ابن عبد الحكم أنهما يعذران " نقله المواق عنهما (3) .

5-

الاقتصار بالرخصة على مورد النص مع اختلاف العلماء في ذلك. قال القرافي: " يجوز القياس عند الشافعي على الرخص خلافًا لأبي حنيفة، وحكى المالكية عن مذهب مالك قولين في جواز القياس على الرخص. وخرجوا على القولين فروعًا كثيرة في المذهب، منها: لبس خف على خف، وغير ذلك " وذكر حجة المانعين والمجيزين للقياس عليها (4) .

والظاهر أن أصح الروايات عند أحمد أن الرخص لا يقاس عليها. ذكر ذلك ابن مفلح في كلامه على الرخصة في بيع العرايا قال: " واختاره الأكثر اقتصارًا على مورد النص"(5) .

(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 264.

(2)

أصول الفقه للشيخ محمد الخضري ص 73.

(3)

التاج والإكليل للمواق 2 / 439.

(4)

شرح تنقيح الفصول ص 415 – 416.

(5)

المبدع في شرح المقنع 4 / 143.

ص: 267

رابعًا: تتبع الرخص ورأي الفقهاء والأصوليين فيه:

تتبع الرخص هو أن يأخذ الإنسان من مذهب كل إمام ما هو الأسهل والأخف عليه من المسائل التي اجتهد فيها الأئمة. أما الرخص التي نص الشارع عليها والتي بينا أنواعها آنفًا – فلا حرج على من عمل بها باستمرار، إذ الآخذ بها لا يعتبر متتبعا للرخص، لأن الشارع رغب في الأخذ بها كما تقدم في حديث:((إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه)) .

وقبل أن نتكلم على رأي الفقهاء والأصوليين في تتبع الرخص نجد أمامنا سؤالاً يطرح نفسه: هل يجوز لمن التزم مذهبًا معينًا أن يخالفه ويعمل بغيره من المذاهب الأخرى؟

في المسألة خلاف: قيل: يجوز، وقيل: لا يجوز، قيل: إن كان قد عمل بالمسألة لم يجز أن يخالف ما عمل به فيها، وقيل: إن غلب على ظنه أن مذهب غير إمامه في تلك المسألة أقوى من مذهب إمامه جاز، وقيل: إن كان المذهب الذي أراد الانتقال إليه مما ينقض الحكم به لم يجز، وإلا جاز؛ واختاره ابن عبد السلام، ذكر ذلك الشوكاني (1) .

وذكر العلامة سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم الشنقيطي أن الأصح في هذه المسألة التفصيل الآتي فقال:

وذو التزام مذهب هل ينتقل أو لا وتفصيل أصح ما نقل

ومن أجاز للخروج قيدا بأنه لابد أن يعتقدا

فضلاً له وأنه لم يبتدع بخلف الإجماع وإلا يمتنع

وعدم التقليد فيما لو حكم قاض به بالنقض حكمه يوم

ومعنى ذلك كما في الشرح أن العامي (2) يجوز له ذلك بثلاثة شروط:

أحدها: أنه لابد أن يعتقد فضل المنتقل إلى مذهبه ولو بوصول أخباره إليه، ولا يقلد في عماية.

الشرط الثاني: أن لا يبتدع المنتقل بمخالفة الإجماع، كأن يجمع بين مذهبين على وجه يخالف الإجماع كمن تزوج بغير صداق ولا ولي ولا شهود، فإن هذه الصورة لم يقل بجوازها أحد.

الشرط الثالث: عدم تقليد المذهب المنتقل إليه فيما ينقض فيه حكم الحاكم، وهو أربعة جمعها قوله:

إذا قضى حاكم يومًا بأربعة فالحكم منتقض من بعد إبرام

خلاف نص (3) وإجماع (4) وقاعدة

كذا قياس جلي دون إيهام (5)

(1) إرشاد الفحول للشوكاني ص 272.

(2)

المراد العامي: المقلد، أي غير المجتهد.

(3)

مثال مخالفة النص أن يحكم بتسوية الذكر والأنثى في الميراث، لأنه مخالف لقوله تعالى:{لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء: 11] .

(4)

مثال مخالفة الإجماع أن يحكم بالميراث كله للأخ دون الجد لأنهما إما أن يشتركا في الميراث أو يكون الميراث للجد كله، أما حرمان الجد فلم يقل به أحد.

(5)

القياس الجلي هو ما قطع فيه بنفي الفارق بين الأصل والفرع، فقد يكون من باب أولى كقياس الضرب على التأفيف في قوله تعالى:{فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ} [الإسراء: 23]، وقد يكون مساويًا كقياس إتلاف مال اليتيم على أكله في قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: 10] .

ص: 268

قال: (وفسر بعضهم تتبع الرخص بأن يأخذ من كل مذهب ما هو أسهل عليه، وإن كان لا ينقض فيه حكم الحاكم) – اهـ (1) .

وأصل هذا في شرح التنقيح للقرافي نقله عن الزناتي، وعقب عليه بما مفاده. أن الممنوع في تتبع الرخص هو التلفيق بين قولي إمامين فأكثر في مسألة واحدة بحيث تكون في صورة لا يقول بها أي أحد من الأئمة.

أما إذا اختار من أحد المذاهب ما فيه سهولة، كتقليد مالك في طهارة أبوال النعم، وتقليده في الاكتفاء بالمعاطاة في البيع دون التلفظ بكلمة البيع أو الشراء فلا يمنع ذلك (2) .

وقال ابن عابدين في حاشيته: (ليس على الإنسان التزام مذهب معين وأنه يجوز له العمل بما يخالف ما عمله على مذهبه، مقلدًا فيه غير إمامه مستجمعًا شروطه، ويعمل بأمرين متضادين في مسألتين منفصلتين لا تعلق لواحدة منهما بالأخرى، وليس له إبطال عين ما فعله بتقليد إمام آخر لأن إمضاء الفعل كإمضاء القاضي لا ينقض)(3) .

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أن جمهور الشافعية والحنابلة لا يوجبون على العامي أن يلتزم مذهبًا معينًا، قال:(والذين يوجبونه يقولون: إذا التزمه لم يكن له أن يخرج عنه ما دام ملتزمًا له، أو ما لم يتبين له أن غيره أولى بالالتزام)(4) .

أما تتبع الرخص في المسائل الاجتهادية من غير ضرورة ملحة، فأكثر العلماء على منعه، قال الشيخ محمد أحمد عليش في فتاواه: (أما قولكم: والأخذ بالرخص مطلوب ودين الله يسر {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] فجوابه أن ذلك في الرخص المعهودة العامة كالقصر في السفر الطويل والفطر فيه، والجمع في السفر وليلة المطر، والمسح على الخفين، وأشباه ذلك.

وأما تتبع أخف المذاهب وأوفقها لطبع الصائر إليها والذاهب فمما لا يجوز، فضلاً عن كونه محبوبًا مطلوبًا، قاله الرياشي وغيره. وقال ابن عبد البر في كتابه " بيان العلم ": عن سليمان التميمي أنه قال لخالد بن الحارث: إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله، قال أبو عمر: هذا إجماع لا أعلم فيه خلافًا. ونقل ابن حزم أيضا الإجماع على أن تتبع رخص المذاهب من غير استناد إلى دليل فسق لا يحل) اهـ (5) .

وقال المحلي في شرحه لجمع الجوامع: (والأصح أنه يمنع تتبع الرخص في المذاهب بأن يأخذ من كل منها ما هو الأهون فيما يقع من المسائل، وخالف أبو إسحاق المروزي فجوز ذلك)(6) .

(1) نشر البنود على مراقي السعود 2 / 348 – 350.

(2)

شرح تنقيح الفصول ص 432 – 433.

(3)

رد المحتار على الدر المختار: حاشية ابن عابدين 1 / 75.

(4)

مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 20 / 222.

(5)

فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب مالك 1 / 77.

(6)

حاشية العطار على شرح جمع الجوامع 2 / 441.

ص: 269

ونقل من حاشية الشيخ حسن العطار عن الشرنبلالي الحنفي عن السيد بادشاه في شرح التجريد: " يجوز اتباع رخص المذاهب ولا يمنع منه مانع شرعي، إذ للإنسان أن يسلك المسالك الأخف عليه إن كان له إليه سبيل بأن لم يكن عمل بقول آخر مخالف لذلك الأخف "(1) .

كما نقل عن الشافعية ما قاله ابن عبد السلام في فتاواه وهو أن ما حكاه بعضهم عن ابن حزم من حكاية الإجماع على منع تتبع الرخص من المذاهب، لعله محمول على من يتتبعها من غير تقليد لمن قال بها أو على الرخص المركبة في الفعل الواحد. ثم قال العطار:" فيؤخذ مما ذكرناه جواز التقليد وجواز تتبع الرخص لا على الإطلاق " قال: " بحيث لا يقع تتبع الرخص في التلفيق بين مذهبين في مسألة واحدة "(2) وهذا الكلام يتفق مع ما تقدم عن القرافي أن الممنوع من تتبع الرخص هو ما كان فيه تلفيق بين مذهبين فأكثر في مسألة واحدة.

فتبين من هذا أن تتبع الرخص فيه خلاف في المنع والجواز وأن المنع هو رأي الجمهور.

وكما أن تتبع الرخص منهي عنه في حق من يعمل به فإنه منهي عنه في حق من يحكم أن يفتي به، وقد ينشأ ذلك من التساهل في الحكم والفتوى، وربما يقع ذلك رغبة في نفع قريب أو مسؤول.

قال ابن القيم: " لا يجوز للمفتي تتبع الحيل المحرمة والمكروهة، ولا تتبع الرخص لمن أراد نفعه، فإن تتبع ذلك فسق، وحرم استفتاؤه، فإن حسن قصده في حيلة جائزة لا شبهة فيها ولا مفسدة لتخليص المستفتي من حرج جاز، بل استحب، وقد أرشد الله نبيه أيوب عليه السلام إلى التخلص من الحنث بأن يأخذ بيده ضغثًا فيضرب به المرأة ضربة واحدة ".

ثم قال: " وأحسن المخارج ما خلص من المأثم: وأقبح الحيل ما وقع في المحارم أو أسقط ما أوجب الله ورسوله من الحق اللازم "(3) .

وقال القرافي " إذا كان في المسألة قولان: أحدهما فيه تشديد والآخر فيه تسهيل فلا يفتى للعامة بالتشديد، وللخواص بالتسهيل، وذلك قريب من الفسوق والخيانة، ودليل على فراغ القلب من تعظيم الله تعالى والحاكم كالمفتي في ذلك " نقله الحطاب (4) .

ومثله في كتاب " أدب المفتي والمستفتي " لأبي عمرو بن الصلاح. نقله ابن فرحون (5) .

(1) حاشية العطار على شرح جمع الجوامع 2 / 441 – 442.

(2)

حاشية العطار على شرح جمع الجوامع 2 / 441 – 442.

(3)

إعلام الموقعين 4 / 222.

(4)

مواهب الجليل 1 / 32.

(5)

تبصرة الحكام 1 / 51.

ص: 270

خامسًا: التلفيق:

أ – معنى التلفيق:

التلفيق هو الجمع بين تقليد إمامين فأكثر في مسألة واحدة بحيث تكون هذه المسألة في صورة لا تقبل في أي مذهب من المذاهب (1) .

مثال ذلك رجل توضأ فمسح أقل من ربع رأسه مقلدًا الشافعي، ثم لمس زوجة أو أجنبية مقلدًا أبا حنيفة في عدم نقض الوضوء بلمس المرأة وصلى فإن صلاته على هذه الحالة لا يقبلها كل من الأئمة، فلا يقبلها أبو حنيفة لعدم مسح ربع الرأس ولا يقبلها الشافعي لأن لمس الزوجة أو الأجنبية ينقض الوضوء عنده مطلقًا، ولا يقبلها مالك ولا أحمد لعدم مسح الرأس كله.

ومثل ذلك أن يقلد مالكًا في عدم نقض الوضوء بالقهقهة ويقلد أبا حنيفة في عدم النقض بمس الذكر ثم يصلي فهذه الصلاة لا تصح عند أبي حنيفة لأن القهقهة تنقض الوضوء عنده، كما أنها لا تصح عند مالك، ولا تصح عند الشافعي وأحمد لأن مس الذكر ينقض الوضوء عندهم.

ومثال التلفيق في غير العبادات أن يطلق رجل زوجته ثلاث تطليقات مكرهًا على طلاقها – فيفتيه حنفي بلزوم طلاق المكره، ثم يتزوج أختها بعد انقضاء عدتها، ثم يفتيه شافعي بعدم مضي طلاق المكره، فيحرم عليه أن يطأ الأولى مقلدًا للشافعي ويطأ الثانية مقلدًا لأبي حنيفة.

أي يحرم عليه أن يجمع بينهما، أما إذا أعرض عن الثانية فإن له وطء الأولى تقليدًا للشافعي (2) .

ب – حكم التلفيق:

التلفيق منعه أكثر الفقهاء، وأجازه بعضهم ففي المذهب الحنفي قال في الدر المختار:" وحاصل ما ذكره الشيخ قاسم في تصحيحه أنه لا فرق بين المفتي والقاضي إلا أن المفتي مخبر عن الحكم والقاضي ملزم به، وأن الحكم بالقول المرجوح جهل وخرق للإجماع وأن الحكم الملفق باطل بالإجماع. قال ابن عابدين في حاشيته: " مثاله متوضئ سال من بدنه دم ولمس امرأة " فإن هذه الصلاة ملفقة من مذهب الشافعي والحنفي والتلفيق باطل وصحته منتفية " اهـ (3) .

وللمالكية طريقتان في التلفيق في العبادة الواحدة؛ إحداهما تمنعه وهي طريقة المصريين، والأخرى تجيزه وهي طريقة المغاربة ورجحت. هذا ما نقله الدسوقي عن شيخه العدوي (4) .

ونقل محمد سعيد الباني في عمدة التحقيق أن المعتمد عند الشافعية والحنفية والحنابلة عدم جواز التلفيق، لا في العبادة ولا في غيرها، وأن القول بجوازه ضعيف جدًّا، حتى حكى ابن حجر وغيره أنه خلاف الإجماع، قال:" وأراد بالإجماع اتفاق الأكثر "(5) .

(1) عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق لمحمد سعيد الباني ص 91 – 92.

(2)

نهاية المحتاج وحاشية أحمد بن عبد الرزاق المعروف بالمغربي الرشيدي 1 / 47 – 48، وعمدة التحقيق في التقليد والتلفيق لمحمد سعيد الباني ص 92.

(3)

رد المحتار على الدر المختار: حاشية ابن عابدين 1 / 74 – 75.

(4)

حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 20.

(5)

عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق ص 110.

ص: 271

سادسًا: خاتمة البحث:

وتتضمن ملخصًا وجيزًا لنقاط البحث وذكر ما هو المرجح عند العلماء في تتبع الرخص والتلفيق.

أ – تعريف الرخصة:

الرخصة شرعًا عبارة عما وسع في فعله لعذر مع قيام السبب المحرم والاقتصار على مواضع الحاجة.

ومقابل الرخصة العزيمة وهي الحكم الثابت على وجه ليس مخالفًا لدليل شرعي.

ب – أنواع الرخصة باعتبار حكمها الشرعي أربعة:

وهذا التقسيم هو الذي تبنته الشافعية.

رخص واجبة: وهي التي شرعت للضرورة الشديدة كوجوب أكل الميتة والدم لجائع خشي الهلاك.

رخص مندوبة: أو سنة أو هي أفضل من غيرها مثل القصر في السفر وفطر المريض والمسافر في رمضان إذا كان الصوم يشق عليه.

رخص مباحة: وهي التي تطلق على ما استثني من أصل كلي يقتضي المنع لحاجة المجتمعات إليها كالقرض والقراض والمضاربة والسلم وبيع العرايا.

رخص على خلاف الأولى: كالتلفظ بكلمة الكفر لمن أكره وقلبه مطمئن بالإيمان فالتلفظ بالكفر في هذه الحالة جائز ولكن الصبر على البلاء أفضل. ومن هذا النوع فطر المسافر في رمضان إذا كان الصوم لا يشق عليه فالصوم أفضل له عند الجمهور.

وهناك تقسيم آخر تبنته الحنيفة وهو قسمان:

رخص حقيقية: وهي التي تقع في مقابلة عزائم ما يزال العمل بها جاريًا لقيام دليلها. مثل النطق بالكفر للمكره عليه، وأكل الميتة لمضطر يخشى الهلاك.

وهذا النوع من هذا القسم أعلى درجات الرخصة.

والنوع الثاني من هذا القسم هو فطر المسافر في رمضان، فمن حيث إن السبب الموجب للصوم وهو رمضان – قائم كانت الرخصة حقيقية، ومن حيث إن الأمر على التراخي كانت الرخصة دون النوع الأول.

رخص مجازية: وتسمى أيضا برخص الإسقاط، وهي أيضا نوعان:

نوع أسقطه الله عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهو الإصر والأغلال التي كانت على من قبلنا من قتل النفس للتوبة وقطع محل النجاسة من الثوب والجسد ونحو ذلك.

والنوع الثاني من هذا التقسيم هو ما شرع للأمة من المعاملات التي الأصل فيها المنع كالقرض والسلم وغيرهما مما تقدم ذكره.

ص: 272

ج – ضوابط الأخذ بالرخصة:

- وجود مشقة تؤدي إلى الانتقال من حكم العزيمة إلى الأخذ بالرخصة وهي المشقة غير المعتادة، أما المشقة المعتادة فمقترنة بالتكليف.

- أن تكون الرخصة فيما أذن فيه شرعًا، لأن الرخص لا تناط بالمعاصي ولذلك فإن العاصي بسفره لا يأخذ بالرخصة عند الجمهور.

- أن يكون سبب الرخصة قطعيًا أو ظنيًا، لا مشكوكًا فيه، لأن الرخص لا تناط بالشك فمن شك في جواز القصر وجب عليه الإتمام.

- أن يكون سبب الرخصة واقعًا بالفعل لا متوقعًا. فمن ترقب الحمى في يوم من رمضان لا يحل له الفطر قبل أن تصيبه الحمى.

- الاقتصار بالرخصة على مورد النص، فلا يقاس عليها عند الحنفية والحنابلة وهو أحد قولي المالكية.

- تتبع الرخص:

المنهي عنه هو الأخذ بأخف أقوال الأئمة وأسهلها من غير استناد لدليل شرعي، وهذا ممنوع عند أكثر العلماء وأجازه بعضهم إن سلم من التلفيق.

أما الرخص التي نص الشارع عليها. فلا يعد الآخذ بها متتبعًا للرخص لأن الله يحب الأخذ بها كما أسلفنا.

هـ – التلفيق:

هو الجمع بين تقليد إمامين فأكثر في مسألة واحدة، وأكثر الفقهاء على منعه، وللمالكية قول بجوازه في العبادة ورجح.

وعليه فإن الذي ترجح عندي من كلام العلماء الآنف الذكر في مختلف المذاهب أن الجمهور على منع تتبع الرخص والتلفيق، وأن تتبع الرخص دون تلفيق أخف من تتبعها بالتلفيق، لذلك أرى أن لا يعمل بالتلفيق إلا لضرورة.

ولا يعمل بتتبع الرخص الاجتهادية إلا فيما بين العبد وربه، ويكون ذلك في حالات نادرة.

أما الحقوق التي تكون بين العباد فلا يحكم فيها ولا يفتى بالتلفيق ولا بتتبع الرخص؛ بل يجب أن يكون الحكم والفتوى فيها بالراجح أو المشهور.

والله ولي التوفيق..

محمد الشيباني بن محمد بن أحمد

ص: 273

مراجع البحث

أولاً: كتب التفسير مرتبة ترتيبًا زمنيا:

1-

جامع البيان في تفسير القرآن: لابن جرير الطبري (ت 310 هـ) : الطبعة الأولى ببولاق 1323 هـ.

2-

أحكام القرآن: للجصاص (ت 370 هـ) – دار الكتاب العربي – بيروت مصورة عن الطبعة الأولى سنة 1325 هـ.

3-

أحكام القرآن: للكيا الهراسي (ت 504 هـ) – الطبعة الأولى 1403 هـ / 1983م – دار الكتب العلمية – بيروت.

4-

أحكام القرآن: لأبي بكر بن العربي (ت 543 هـ) – تحقيق محمد علي البخاري – دار المعرفة – بيروت (بدون تاريخ) .

5-

الجامع لأحكام القرآن: للقرطبي (ت 671 هـ) الطبعة الثانية – دار الكتاب العربي – القاهرة 1386 هـ / 1966م.

6-

الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي (ت 911 هـ) – دار الكتب العلمية – بيروت – الطبعة الأولى 1411هـ.

7-

أضواء البيان: الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (ت 1393هـ) عالم الكتب – بيروت (بدون تاريخ) .

ثانيًا: كتب الحديث:

1-

الموطأ: للإمام مالك (ت 179 هـ)(رواية يحيى الليثي) – دار إحياء الكتب العربية – مصر – تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.

2-

الجامع الصحيح: للإمام البخاري (ت 256 هـ) – تحقيق: مصطفى ديب البغا – اليمامة للطباعة والنشر – دمشق – الطبعة الأولى 1401 هـ / 1981 م.

3-

صحيح مسلم: للإمام مسلم بن الحجاج (ت 261 هـ) – تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي – دار إحياء التراث العربي – بيروت.

4-

سنن ابن ماجه: محمد بن يزيد القزويني (ت 373 هـ) تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي – دار إحياء التراث العربي 1975 م.

5-

سنن أبي داود: سليمان بن الأشعث السجستاني (ت 275 هـ) إعداد وتعليق عزت عبيد الدعاس – الطبعة الأولى 1388 هـ.

6-

المسند: للإمام أحمد بن حنبل (ت 241 هـ) المكتب الإسلامي للطباعة والنشر – دار صادر – بيروت.

7-

سنن النسائي بشرح السيوطي: أحمد بن شعيب النسائي (ت 303 هـ) – الطبعة الأولى 1930 م – دار إحياء التراث العربي – بيروت.

8-

المستدرك: للحاكم النيسابوري (ت 405 هـ) – الطبعة الأولى 1406هـ / 1986م – دار المعرفة – بيروت.

9-

السنن الكبرى: للبيهقي (ت 458 هـ) – الطبعة الأولى 1344هـ.

10-

معالم السنن: حمد بن محمد الخطابي (ت 388 هـ) – الطبعة الأولى 1401هـ.

11-

عارضة الأحوذي على صحيح الترمذي – أبو بكر بن العربي المالكي (ت 543 هـ) – دار العلم للجميع (بدون تاريخ) .

12-

صحيح مسلم بشرح النووي – محيي الدين بن شرف النووي (ت 676 هـ) – الطبعة الثانية 1392 هـ / 1972 م – دار إحياء التراث العربي – بيروت.

13-

صحيح مسلم مع شرحه المسمى: إكمال إكمال المعلم – محمد بن خلفة الأبي (ت 827 هـ) – دار الكتب العلمية – بيروت.

ص: 274

14-

مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: نور الدين الهيثمي (ت 807 هـ) – دار الكتاب العربي – بيروت.

15-

فيض القدير شرح الجامع الصغير – عبد الرؤوف المناوي – دار المعرفة – بيروت.

16-

بلوغ المرام من أدلة الأحكام – الحافظ: أحمد بن حجر العسقلاني – دار الكتب العلمية – بيروت.

17-

فتح الباري شرح صحيح البخاري: لابن حجر العسقلاني (ت 852 هـ) الطبعة الأولى ببولاق 1300 هـ.

18-

تلخيص الحبير (تخريج أحاديث الرافعي الكبير) للحافظ ابن حجر – تحقيق عبد الله هاشم اليماني – المدينة المنورة 1384هـ.

19-

نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار – محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) – دار الجيل – بيروت.

20-

زاد المسلم فيما اتفق عليه البخاري ومسلم وشرحه فتح المنعم – الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي – دار إحياء التراث العربي – بيروت.

ثالثًا: كتب الأصول والقواعد:

1-

المستصفى: أبو حامد الغزالي (ت 505 هـ) – بولاق – مصر 1322 هـ.

2-

كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام: البزدوي (ت 730 هـ) طبعة جديدة بالأوفست سنة 1394 هـ.

3-

شرح تنقيح الفصول – شهاب الدين القرافي (ت 684 هـ) – دار الفكر – بيروت – 1972 م.

4-

حاشية العطار على جمع الجوامع لابن السبكي – دار الكتب العلمية – بيروت – بدون تاريخ.

5-

الموافقات في أصول الشريعة- أبو إسحاق الشاطبي (ت 790 هـ) – الطبعة الثانية 1395 هـ / 1975 م – دار المعرفة.

6-

الأشباه والنظائر للسيوطي: تحقيق وتعليق البغدادي – الطبعة الأولى 1407هـ / 1987 م – بيروت.

7-

إرشاد الفحول للشوكاني – دار المعرفة – بيروت 1399هـ – دار الكتاب العربي.

8-

نشر البنود على مراقي السعود – الشيخ سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم الشنقيطي – مطبعة فضالة المحمدية (المغرب) .

9 – نيل السول على مرتقى الوصول – الشيخ محمد يحيى الولاتي الشنقيطي (ت 1330هـ) الطبعة الأولى بفاس 1327 هـ.

10-

أصول الفقه – الشيخ محمد الخضري بك – الطبعة السادسة سنة 1389 هـ المكتبة التجارية الكبرى – مصر.

(أ) عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق: محمد سعيد الباني – الطبعة الأولى – المكتب الإسلامي 1981م.

(ب) نزهة الخاطر العاطر شرح روضة الناظر: عبد القادر بدران – دار الكتب العلمية بيروت.

ص: 275

رابعًا: كتب الفقه (مرتبة أبجديًّا) :

أ- الفقه الحنفي:

1-

بدائع الصنائع: علاء الدين الكاساني – دار الكتاب العربي – بيروت 1402هـ.

2-

رد المحتار على الدر المختار (حاشية ابن عابدين) الطبعة الثانية 1346هـ – مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر.

3-

اللباب في شرح الكتاب: عبد الغني الميداني – دار الحديث: حمص – بيروت.

4-

الهداية: أبو الحسن المرغيناني – المكتبة الإسلامية – الطبعة الخيرة – مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي.

ب- الفقه المالكي:

1-

تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام: ابن فرحون المالكي – الطبعة الأولى بالمطبعة العامرة الشرفية بمصر المحمية 1301هـ.

2-

حاشية الدسوقي على الشرح الكبير لأحمد الدردير: محمد عرفة الدسوقي – دار الفكر للطباعة والتوزيع.

3-

فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك: عليش – دار الفكر – بيروت.

4-

شرح الزرقاني وبهامشه حاشية البناني: عبد الباقي الزرقاني؛ محمد البناني – دار الفكر ببيروت.

5-

مختصر خليل: خليل بن إسحاق – دار الفكر للطباعة والتوزيع – بيروت.

6-

مواهب الجليل وبهامشه التاج والإكليل: محمد بن عبد الرحمن الحطاب، محمد بن يوسف المواق – الطبعة الثانية 1398 هـ / 1978 م – القاهرة.

ج – الفقه الشافعي:

1-

المجموع شرح المهذب للنووي – دار الفكر – بيروت.

2-

مغني المحتاج شرح المنهاج: محمد الخطيب الشربيني – دار التراث العربي بيروت.

3-

نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج لشمس الدين محمد بن شهاب الرملي الشهير بالشافعي الصغير – شركة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي – الطبعة الأخيرة 1386هـ.

د – الفقه الحنبلي:

1-

الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف لعلاء الدين المرداوي – دار إحياء التراث العربي – بيروت.

2-

الروض المربع: منصور بن يونس البهوتي، تحقيق محمد عبد الرحمن عوض – دار إحياء التراث العربي.

3-

المبدع في شرح المقنع: برهان الدين بن مفلح – الكتب الإسلامي 1394 هـ.

4-

المغني لموفق الدين بن قدامة – مكتبة الرياض الحديثة.

5-

مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: جمع وترتيب عبد الرحمن بن قاسم – تصوير الطبعة الأولى 1398هـ.

6-

إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم – دار الجيل – بيروت (بدون تاريخ) .

هـ – المذهب الظاهري:

1-

المحلى لابن محمد بن حزم – منشورات المكتب التجاري للطباعة والنشر والتوزيع – بيروت.

ص: 276