الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأخذ بالرخص وحكمه
إعداد
الشيخ الطيب سلامة
عضو المجلس الإسلامي الأعلى
تونس
بسم الله الرحمن الرحيم
مدخل
تأصيل الرخصة في التشريع الإسلامي
الشريعة هي ما شرعه الله تعالى وخاطب به الأمة، فلا يسمى شرعا أو شريعة إلا شرع الله، ولا يسمى شارعا أو مشرعا إلا الله تعالى، وهذه حقيقة إيمانية لا خلاف فيها بين أولي العلم من المؤمنين، والله تعالى يقول:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13] .
وما يعمد إليه البعض من إطلاق كلمة (تشريع أو شرع) على القوانين الوضعية وكذلك إطلاق كلمة (مشرع أو شارع) على واضع القوانين الوضعية، هو منكر يأباه الإيمان الصحيح، وتأباه الأخلاق، زيادة على التحريف اللغوي، قال تعالى:{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18] . ومن التحريف اللغوي الصارخ استعمال فعل (خلق) – الذي هو فعل خاص بمقام الرب تعالى، خالق الأكوان – في أفعال العباد، وهكذا يفعل الذين لا يعلمون أن الخلق معناه الإيجاد من عدم، ومن يخلق من عدم غير الله؟ وهل يقدر الإنس والجن مجتمعين أن يخلقوا ذبابا واحدا؟ قال الحق تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) } [الحج: 73-74] فهل ينتهي المتخمون فنا وثقافة (بالمفهوم المعاصر) من التجني على اللغة العربية وعلى القيم والمقدسات؟
هذه هي الشريعة بإجمال
…
فهل يكفي العلم بها وإبقاؤها في الدفاتر؟ لقد أجمع أرباب النظر من علماء المقاصد على أن وجود الشريعة التي شرع الله للأمة لا يتم إلا باتباعها ، وبترك الأهواء، ولا يحصل اتباعها إلا بتيسير العمل بها ، وإقامة نفوذها في الأمة.
التيسير مسلك لدعم نفوذ الشريعة:
نفوذ الشريعة، أو بعبارة أخرى: نفاذها إلى القلوب واستهواؤها للنفوس، لا يكون إلا بعد العلم والاقتناع، والتصميم على الطاعة، والالتزام بالاتباع، عملا بقوله صلى الله عليه وسلم: ((
…
فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)) (1) .
ولا يحصل التصميم – بالاختيار – لدى المكلف، ولا الالتزام – بمحض الرغبة – في اتباع تعاليم الشرع، ما لم يحصل لدى هذا المكلف الشعور بالاستطاعة، والإحساس باعتدال هذا الشرع، ووسطيته وسماحته، بحيث تتحقق سهولة المعاملة والتطبيق لأحكامه، وتقوم على ذلك الأدلة، بمثل ما قامت في أحكام شرع الإسلام.
وقد دل استقراء الشريعة على أن التيسير والسماحة والرحمة من مقاصد هذا الدين الحنيف، وليست الشريعة نكاية، ولا تشتمل على نكاية بالأمة، ولعل هذا من خصائص شريعة الإسلام، يدل على ذلك ما حدث للأمم السابقة ولم يحدث نظيره في شريعة الإسلام، مثل ما حدث من تحريم بعض الطيبات على بني إسرائيل عقابا لهم على مخالفة الشريعة وإصرارهم على العصيان. قال تعالى:{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 160 – 161] .
إن الله خلق الخلق من عباده وفطرهم على الفطرة الحسنة، قال تعالى {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30] . وجعل أمور هذه الفطرة راجعة إلى الجبلة الكامنة في النفس، ومن رحمته تعالى بخلقه أن جعل شريعته التي شرع لهم على دين الفطرة، وجعل السماحة واليسر أول أوصاف هذه الشريعة وأكبر مقاصدها، وبذلك يتفق مقصد التشريع والديانة مع فطرة الله التي فطر الناس عليها، ويستجيب شرع الله لداعي الفطرة الحسنة ويجاريها:{صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة: 138] .
لقد نوه حكماء المسلمين وعلماء الشريعة بما اتسم به الشرع الإسلامي من يسر أزاح كل عسر، ومن سماحة محمودة نفت كل جرح، ومن وسطية جلبت النفع والاعتدال ودفعت الضر والشطط.
وقد كانت هذه الأوصاف الثابتة في الشريعة خير ضمان لتحقيق أمور ثلاثة:
1-
قبول المكلفين لأحكام الشرع عن اقتناع ورغبة، وإدراكهم لما نالهم من رحمة الخالق تعالى وهو القائل:{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28] .
2-
عموم الشريعة إذ وافقت الطباع ولاءمت النفوس وحققت المصالح لكافة الناس على السواء في حالي التفرد والاجتماع.
3-
ديمومتها، لأنها لم تبن على اختيارات بشرية، ولم تقم من أجل مصالح طائفية أو حزبية، أو منافع ظرفية، وإنما قامت على اعتبار مصالح العباد الثابتة فأمرت بها تنصيصا وبصورة ثابتة لا تقبل شكا ولا جدالا، وعلى اعتبار المفاسد الثابت ضرها للعباد فنهت عنها نهيا صريحا مؤكدا لا يقبل شكا ولا جدالا، ثم تركت مجالا فسيحا للاجتهاد وللعقل لينظر فيما دون ذلك من أمور معيشة الإنسان التي تعتريها شوائب من المصالح والمفاسد، أو ما يجد في الحياة من الأمور التي لم يسبق أن عرفها المسلمون الأوائل حين كان الوحي ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكن لها حكم على التحديد وإنما لها قاعدة تدخل تحتها أو عدة قواعد ترشد إلى الحكم المتعين أو الراجح.
(1) هو من حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتفق عليه. وأوله: (دعوني ما تركتكم، إنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا
…
)
أدلة التيسير ورفع الحرج بلغت في الأمة مبلغ القطع:
لقد أصبح معلوما من تضافر الأدلة الواردة في الكتاب والسنة، أن من خصائص الشريعة الإسلامية ومن الأصول التي قام عليها تشريعها، عدم النكاية بالأمة وتيسير العمل بأحكامها على المكلفين، تحصيلا لاقتناعهم بهذا الدين، ولإقبالهم عليه دون حرج ولا ملل، لأن النفوس – عموما – قد فطرت على كره ما يشق أو يعسر لديها، كما جلبت على النفور من كل ما يضنيها أو يوقعها في العنت والحرج.
من أجل هذا جاءت أحكام هذا الدين على وفق الفطرة الحسنة، ومن أجل هذا أيضا صح أن يسمى الحنيفية السمحة، كما جاءت هذه التسمية في الحديث الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:((أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة)) (1) . والمراد أن أحب الدين إلى الله دين الإسلام الذي هو الحنيفية السمحة، والحنيفية السمحة، هكذا بهذا الوصف المكون من وصفين، أحدهما: الحنيفية وتعني ملة التوحيد، والميل عن الشركة وعبادة الأوثان، والتمسك بملة التوحيد التي هي الإسلام وهو الحنيف وجمعه حنفاء، وفي التنزيل قال تعالى:{وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [البقرة: 135] . وقال تعالى: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 95] . وقال تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 161] . وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النساء: 125] . وقال أيضا: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآَتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) } [النحل: 120 – 123] . قال في المصباح المنير: " والحنيف المسلم لأنه مائل إلى الدين المستقيم "(2) . وبناء على قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج: 78] .
وثاني الوصفين: السمحة وتطلق بإزاء معنيين: الجود والسهولة وفي المعنى الثاني جاء في القاموس المحيط قوله: " والسمحة =
…
الملة التي ما فيها ضيق .... وتسامحوا = تساهلوا
…
وأسمحت الدابة = لانت بعد استصعاب
…
وعود سمح = لا عقدة فيه " (3) .
وجاءت السماحة بمعنى الرفق والسهولة واللين، في الحديث الصحيح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رحم الله رجلا سمحا إذا باع، سمحا إذا أشترى، سمحا إذا اقتضى)) (4) .
(1) أخرجه البخاري في الصحيح تعليقا وفي الأدب المفرد مسندا
(2)
انظر كلامه في مادة حنف
(3)
انظر: مادة سمح
(4)
أخرجه البخاري والترمذي في البيوع وابن ماجه في التجارات
والحاصل من وصف الشريعة بالسماحة، أنها شريعة تجمع بين معان ثلاثة هي: الاعتدال والتوسط والعدل – لأنها شريعة تميل إلى سهولة المعاملة في حدود الاعتدال، ولأنها شريعة تلتزم الوسطية بين التضييق والتساهل، ولأنها بالتالي شريعة نبذت طرفي الإفراط والتفريط اللذين يدعو إليهما الهوى وحذرت منهما في مواطن كثيرة من التنزيل الحكيم، كما في قوله تعالى:{وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26] . وقوله {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77] .
فما أضر بأهل الكتاب غير أهواء نفوسهم وغلوهم في الدين، وما حكاه القرآن من حالتي إفراطهم وتفريطهم كان المراد منه موعظة أمة الإسلام، ليتجنبوا الأٍسباب التي أوجبت غضب الله على الأمم السابقة وهلاكها. وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر اليهود فيما أمرهم الله بذبح بقرة:((لو ذبحوا أية بقرة لأجزأتهم، ولكن شددوا فشدد الله عليهم)) (1) .
ولقد جزم علماء الأمة وحكماؤها الذين عنوا بتفحص أحوال النفوس والعقول بأن قوام الصفات الفاضلة هو الاعتدال، ومن يقل الاعتدال يقل التوسط ويقل العدل، لأن معاني الأوصاف الثلاثة لا تكاد تنفك عن بعضها، ليتكون من مجموعها نسيج فريد خص الله به دينه المعتبر عنده {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19] . والدين الذي لا يقبل سواه من أحد {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] .
ولقد تضافرت الأدلة من الكتاب والسنة وتوافرت في هذا الشأن، حتى بلغت مبلغ القطع، وصارت دليل الأئمة ومرتكزهم في استنباط قواعد التشريع، فاستنبطوا لهذا الأصل العظيم من الأصول التي انبنت عليها أحكام الشريعة قاعدة أصلية، هي قاعدة:" المشقة تجلب التيسير "، بما حوت من قواعد متفرعة عنها وبما اشتملت عليه من مباحث الرخصة باعتبارها قسيما لمباحث العزيمة.
(1) هكذا عده شيخ الإسلام ابن عاشور حديثا ولم يذكر راويه ولا من أخرجه. انظر: مقاصد الشريعة ص 60. وذكره الشاطبي باعتباره من كلام ابن عباس رضي الله عنهما قاله في قصة بقرة بني إسرائيل. انظر الموافقات: 1 /204. وذكره ابن كثير في التفسير بلفظ مقارب منسوبا لابن جرير رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما. انظر تفسير ابن كثير
فالآيات الكريمة التي صرحت بهذه القاعدة العامة " المشقة تجلب التيسير ". أو لمحت إليها بوضوح عديدة، منها:
{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] .
{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6] .
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] .
{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286](1) .
ولقد استنبطوا من هذه القاعدة العامة قواعد أخرى مندرجة تحتها ومتفرعة عنها، واستدلوا عليها بأدلتها من أصلي الشريعة، فقالوا في القاعدة الفرعية الأولى وهي:" الضرورات تبيح المحظورات " إنها مستنبطة من قوله تعالى:
{فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3] .
{إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] .
{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] .
وقالوا في القاعدة الفرعية الثانية، وهي: " ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها، إنها مستنبطة من قوله تعالى:
{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] .
{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 145] .
{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 115] .
واعتبروا أن القاعدة الفرعية الثالثة، وهي:" كلما ضاق الأمر اتسع ". تستند إلى قوله تعالى:
{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28] .
{سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق: 7] .
{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) } [الانشراح: 5- 6] .
(1) وانظر كذلك سبب النزول لخواتم سورة البقرة التي منها هذه الآية
ورابعة القواعد الفرعية، هي:" الميسور لا يسقط بالمعسور ". وتعني هذه القاعدة أن المطلوب من المكلف قد يكون على مراتب من حيث قد يشق بعضها ولا يشق البعض الآخر، ومثال ذلك: ما فرضه الله على المسلمين من التآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر بمراتبه الثلاث: التغيير باليد، والتغيير باللسان، والتغيير بالقلب. فمن شقت عليه المرتبة الأولى وهي التغيير باليد قد لا تشق عليه المرتبة الثانية وهي التغيير باللسان، فيفعلها ولا تسقط في حقه لأن الميسور لا يسقط بالمعسور، ومن شقت عليه المرتبة الثانية من هذا الواجب لا تشق عليه المرتبة الأخيرة وهي: تغيير المنكر بالقلب، لأنها لا تشق على أحد، ولا يتطلب القيام بها أكثر من عمل داخلي في نفس المؤمن هو الإنكار والاشمئزاز وذلك أضعف الإيمان كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من رأي منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع، فبلسانه، فإن لم يستطع، فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) (1) .
وقد استندوا في استنباط هذه القاعدة إلى قول الحق سبحانه وتعالى:
{رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286] .
{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا} [الطلاق: 7] .
{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] .
{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور: 61] .
هذه جملة من الآيات الكريمة، أقرت قاعدة التيسير في الشرع الإسلامي وأصلتها، وأشارت إلى ما أخذ منها من قواعد فرعية مندرجة، لها عظيم الأثر في توجيه الاستنباط وتأصيل الأحكام.
وجاءت السنة الشريفة تواكب آي الكتاب الحكيم وتزيد القضية إيضاحًا وتركيزًا. فكان أن تناولت الأحاديث في ذلك ثلاثة جوانب تصب كلها في مصب واحد هو يسر الدين وسماحته، والنهي عن التشدد والتعمق والتنطع، حتى عمد صلى الله عليه وسلم إلى العدول عن بعض القرب خشية أن يلتزمها فتشق عليهم، أي على المؤمنين.
(1) أخرجه مسلم في الإيمان، وأبو داود في الصلاة، والترمذي في الفتن، والنسائي في الإيمان، وابن ماجه في الصلاة وفي الفتن
ولقد جاء في مجال يسر الدين الإسلامي وسماحته ورفع الحرج عن أتباعه من المؤمنين قوله صلى الله عليه وسلم:
- فيما يرويه أنس بن مالك خادم الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا)) (1) .
- وما يرويه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الدين يسر، ولن يشاد هذا الدين أحد إلا غلبه، فسددوا، وقاربوا، وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة)) (2) .
والمراد: استعينوا على طاعة الله باختيار أوقات نشاطكم وفراغ قلوبكم بحيث تستلذون عبادتكم ولا تسأمونها، كما يستعين المسافر الحاذق على أتعاب سفره باختيار هذه الأوقات (الروحة، والغدوة، والدلجة) فيبلغ قصده بأقل الأتعاب.
- وقد كان صلى الله عليه وسلم لا يشق على أصحابه في أمر حتى في أوقات تعليمهم، فقد روى ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال:((كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة في الأيام (أي يتعهدنا بها في الأيام ولا يكثر) كراهة السآمة علينا)) (3) .
- وفي الحديث الآخر الذي يرويه أبو هريرة رضي الله عنه ينهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمنين أن يشقوا على أنفسهم بكثرة السؤال كما فعل بنو إسرائيل ويحدد لهم أن يأتوا بالمأمور في حدود الاستطاعة، فقال صلى الله عليه وسلم:((دعوني ما تركتكم، إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم)) ، وفي رواية:((إنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم.. واختلافهم على أنبيائهم. فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)) (4) .
- ولقد جاء في الجانب الثاني من الجوانب الثلاثة المذكورة آنفًا وفي مجال أمره صلى الله عليه وسلم الناس بالتخفيف والاعتدال ونهيهم عن التنطع والتعمق والتشديد أحاديث عديدة منها:
- ما جاء عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((هلك المتنطعون)) (5) . (قالها ثلاثًا) وفي رواية: ((ألا هلك المتنطعون)) والمتنطعون هم المتعمقون والمتشددون في غير موضع التشديد.
(1) حديث متفق عليه؛ انظر البخاري: كتاب العلم – باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة والعلم كيلا ينفروا.
(2)
الغدوة: سير أول النهار، والروحة: سير آخر النهار، والدلجة: آخر الليل. هذا لفظ البخاري في: كتاب الإيمان – باب 29 الدين يسر وقول النبي صلى الله عليه وسلم: أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة.
(3)
انظر البخاري: كتاب العلم – باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة والعلم كيلا ينفروا.
(4)
متفق عليه – انظر البخاري: كتاب الاعتصام – باب الاقتداء.
(5)
أخرجه مسلم في القدر: وأبو داود في السنة. انظر ذخائر المواريث عدد 4741.
- وجاء عن عائشة رضي الله تعالى عنها: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها امرأة، فقال: من هذه؟ قالت: فلانة تذكر من صلاتها
…
قال: " مه عليكم بما تطيقون! فوالله لا يمل الله حتى تملوا، وكان أحب الدين إلى الله ما دوام عليه صاحبه ")) (1)
- وجاء عن جابر عن سمرة رضي الله عنه أنه قال: ((كنت أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات، فكانت صلاته قصدًا، وخطبته قصدًا)) (2) .
- وعن أنس رضي الله تعالى عنه، قال:((ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم من النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان ليسمع بكاء الصبي فيخفف مخافة أن تفتن أمه)) (3) .
- وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تشددوا على أنفسكم)) (4) .
- وفى حادثة الأعرابي الذي بال في المسجد، وموقف الشدة الذي رامه الناس حين قاموا إليه ليقعوا فيه، فصدهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن كل أذى يلحقونه به، بل منعهم أن يقطعوا عليه بوله وأخبرهم أن رسالتهم التي عليهم أن ينشروها هي التيسير:
جاء عن أنس ((أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أعرابيا يبول في المسجد فقال: " دعوه".حتى إذا فرغ دعا بماء فصبه عليه)) (5) .
وعن أبي هريرة أنه قال: ((قام أعرابي فبال في المسجد تناوله الناس، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " دعوه وهريقوا على بوله سجلا من ماء، أو ذنوبًا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين ")) (6) .
- وعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: ((قال رجل: يا رسول الله لا أكاد أدرك الصلاة مما يطيل بنا فلان. (وفى رواية: إني لا تأخر عن الصلاة في الفجر – أو عن صلاة الصبح من أجل فلان مما يطيل بنا) فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في موعظة أشد غضبًا من يؤمئذ. فقال: " يا أيها الناس إنكم منفرون، فمن صلى بالناس فليخفف، فإن فيهم المريض والضعيف وذا الحاجة ")) (7)
- وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ((ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه. وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله، فينتقم لله بها)) (8) .
- وعن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنه قال: ((أقبل رجل بناضحين [جملين يسقى عليهما] وقد جنح الليل [أي أقبل] فوافق معاذًا يصلي فترك ناضحه، وأقبل إلى معاذ فقرأ بسورة البقرة أو النساء، فانطلق الرجل، وبلغه أن معاذا نال منه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فشكا إليه معاذًا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا معاذ! أفتان أنت!؟ أو أفاتن!؟ (ثلاث مرار) فلولا صليت بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى، فإنه يصلي وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة ")) (9) .
(1) متفق عليه. انظر: البخاري: كتاب الإيمان – باب أحب الدين إلى الله أدومه.
(2)
أخرجه أصحاب الصحاح في الصلاة باستثناء البخاري – انظر: ذخائر المواريث عدد 1118.
(3)
متفق عليه. انظر البخارى: كتاب الآذان – باب من أخف الصلاة.
(4)
أخرجه أبو داود في الصلاة وفى الأدب. انظر ذخائر المواريث عدد 244
(5)
أخرجه البخاري في كتاب الوضوء – باب ترك النبي صلى الله عليه وسلم والناس الأعرابي.
(6)
أخرجه البخاري في كتاب الوضوء – باب صب الماء.
(7)
متفق عليه. أخرجه البخاري في مواضع عدة، انظر البخاري كتاب العلم – باب الغضب في الموعظة، وكتاب الأذان – باب من شكا إمامه
…
وأخرجه مسلم وابن ماجه في الصلاة. انظر ذخائر المواريث عدد 5277.
(8)
حديث متفق عليه – أخرجه البخاري في عدة مواضع. انظر: كتاب المناقب – باب صفة النبي. وأخرجه مسلم في فضائل النبي. وأبو داود في الأدب. انظر ذخائر المواريث: عدد 11208 وعدد 11314.
(9)
أخرجه البخاري كتاب الجماعة والإمامة – باب من شكا إمامه إذا طول
وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن دخول الجنة ليس بكثرة العمل ولا بالتشديد وإرهاق النفس، وإنما دخول الجنة بفضل من الله ورحمة منه، وأن أحب العمل عند الله تعالى أدومه وإن قل، وفى هذا المعنى ورد حديث أم المؤمنين عائشة بنت الصديق رضي الله عنهما إذ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسم ((: سددوا وقاربوا واعلموا أن لن يدخل أحدكم عمله الجنة، وأن أحب الأعمال أدومها إلى الله وإن قل)) (1) .
وبالحديث الآخر لأم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((سددوا وقاربوا وأبشروا، فإنه لا يدخل أحدًا الجنة عمله! قالوا: ولا أنت يارسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمة ")) (2) . كما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من أراد – رغم ذلك – أن يطيل في العبادة أو أن يقل فلا يلزم الناس بما أراد، فقد جاء عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء)) (3) .
ولقد جاءت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم واضحة المعالم، نهجها الاعتدال، ديدنها التيسير والتخفيف على الناس، وقد أعلن هذا الاتجاه نبينا يوم جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواجه صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته، قال أنس رضي الله تعالى عنه:((جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها. فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر! قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدًا. وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، ولكنى أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني ")) (4) .
(1) أخرجه البخاري: كتاب الرقاق – باب القصد والمداومة على العمل.
(2)
نفس المصدر والكتاب والباب. وفيه حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مع اختلاف قليل في اللفظ
(3)
انظر: البخاري. كتاب الأذان – باب إذا صلى لنفسه فليطول ما شاء
(4)
أخرجه البخاري ومسلم والنسائي في النكاح. انظر: البخارى: كتاب النكاح – باب الترغيب في النكاح. وانظر ذخائر المواريث عدد 670
والجانب الثالث الذي ركزت عليه السنة لإقرار مبدأ التيسير هو ما بينته عديد من الأحاديث من أنه صلى الله عليه وسلم كان يتعمد ترك بعض القربات خشية أن يشق على المؤمنين، وهو بهم – كما وصفه الله تعالى – رؤوف رحيم. لا يريد إعناتهم، ولم يبعث إلا رحمة لهم وللعالمين. ومن هذه الأحاديث.
ما روته أم المؤمنين عائشة بنت الصديق رضي الله عنهما، قالت:((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل في حجرته وجدار الحجرة قصير، فرأى الناس شخص النبي صلى الله عليه وسلم، فقام أناس يصلون بصلاته فأصبحوا فتحدثوا بذلك، فقام ليلة الثانية، فقام معه أناس يصلون بصلاته.... صنعوا ذلك ليلتين أو ثلاثة، حتى إذا كان بعد ذلك جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يخرج، فلما أصبح ذكر ذلك الناس، فقال إنى خشيت أن تكتب عليكم صلاة الليل)) (1) .
- وما رواه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك. (وفى رواية: عند كل صلاة)) ) (2)
- وروي أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسلي أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة، أو أدخله الجنة. ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرية، ولوددت أني أقتل في سبيل الله، ثم أحيا ثم أقل، ثم أحيا ثم أقتل)) (3) .
وما رواه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: ((أعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة بالعشاء حتى رقد الناس واستيقظوا ورقدوا واستيقظوا، فقام عمر بن الخطاب فقال: الصلاة (وفى رواية: الصلاة يا رسول الله! رقد النساء والصبيان) فخرج نبي الله صلى الله عليه وسلم كأني أنظر إليه الآن يقطر رأسه ماء واضعا يده على رأسه. فقال: لولا أن أشق على أمتى لأمرتهم أن يصلوها هكذا. (وفى رواية: لأمرتهم بهذه الصلاة هذه الساعة)) ) (4) .
وفي خاتمة هذه المجموعة المختارة من الأحاديث التي تنفي المشقة وتنادي بالتيسير نسوق هذا الحديث الشريف، العظيم المرمى، البعيد المقصد وهو حديث أم المؤمنين عائشة الصديقة رضي الله تعالى عنها قالت:((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بيتي هذا: اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشق عليهم، فاشقق عليه. ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به)) (5) .
وبعد؛ لقد كان لمبدأ التيسير ورفع الحرج عن المسلمين، وهو المبدأ الذي نوهت به جميع النصوص التي أسلفنا من الكتاب والسنة وغيرها، عظيم الأثر في رسوخ الإسلام وفى سرعة انتشاره واستمراره، مما أثار الدهشة، وحير الأفهام، ودعا إلى التساؤل عن سر هذا الأمر؟! وأوقع العديد من الباحثين الأغراب في الشبه والتمحلات، فعزا من خفي عليه سر هذا الأمر وهو انتشار الإسلام بسرعة غير معهودة، وتمكنه تمكنًا غير مألوف، إلى حد السيف وإلى قوة الإرهاب التي أوقعتها الجيوش الإسلامية في قلوب الكافرين، وفي نفوس الأعداء
…
ولقد خفي على هؤلاء أن الترغيب له مفعول واضح الإقناع والاستمالة، كفضل التيسير على النفوس لجعلها أميل وأحرص على هذا الدين، ولشيخ الإسلام محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله تعالى بيان لطيف لحكمة التيسير والسماحة في الشريعة الإسلامية إذ قال:" إن حكمة السماحة في الشريعة أن الله جعل هذه الشريعة دين الفطرة. وأمور الفطرة راجعة إلى الجبلة فهي كائنة في النفوس، سهل عليها قبولها. ومن الفطرة النفور من الشدة والإعنات، قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28] . وقد أراد الله تعالى أن تكون شريعة الإسلام شريعة عامة ودائمة فاقتضى ذلك أن يكون تنفيذها بين الأمة سهلاً، ولا يكون ذلك إلا إذا انتفى عنها الإعنات، فكانت بسماحتها أشد ملاءمة للنفوس، لأن فيها إراحة النفوس في حالي خويصتها ومجتمعها. وقد ظهر للسماحة أثر عظيم في انتشار الشريعة وطول دوامها، فعلم أن اليسر من الفطرة لأن في فطرة الناس حب الرفق "(6) .
(1) انظر: البخاري: كتاب الأذان – باب إذا كان بين الإمام وبين القوم حائط أو سترة.
(2)
أخرجه البخاري، انظر كتاب التمني – باب ما يجوز من اللو.. كما أخرجه الترمذي في الطهارة
(3)
انظر: البخاري: كتاب الايمان – باب الجهاد من الإيمان.
(4)
حديث متفق عليه. انظر البخاري: كتاب مواقيت الصلاة – باب النوم قبل العشاء لمن غلب. وكتاب التمني – باب ما يجوز من اللو.
(5)
رواه مسلم انظر كتاب الإمارة حديث 19
(6)
انظر: مقاصد الشريعة الإسلامية ص 61 – 62
لا نكاية في الشريعة الإسلامية
تبين من استقراء الشريعة أن السماحة واليسر من مقاصد الدين الإسلامي. وقد بلغت الأدلة من الكتاب والسنة مبلغ القطع على رفع الحرب عن هذه الأمة، فليس بدعًا بعد ذلك أن نجزم أن هذه الشريعة الإسلامية لا نكاية فيها بالأمة، بل هي شريعة عملية تسعى بنهجها المبني على التيسير والرفق إلى تحصيل مقاصدها، سواء كان ذلك في عموم الأمة أو في خويصة أفرادها.
وانتفاء النكاية بالأمة عن الشرع الإسلامي أمر ثابت من وجهين:
الأول: أنه لم يأت في الشرع الإسلامى تشريع يضاهي ما حكاه القرآن من تشريع بعض الأمم التي نالها التنكيل بسبب الظلم والانحراف عن أمر الله، قال تعالى:{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 160-161]
الثاني: أنه إذا تقرر قيام الشريعة على مقصد السماحة واليسر ورفع الحرج تنتفي إمكانية النكاية، لأنها نقيض للسماحة واليسر ورفع الحرج، ولا يوجد النقيض إلا مع انتفاء نقيضه كما يقول المناطقة.
وبناء على ما أسلفنا، بالإمكان أن نورد هنا – دفعًا لما قد يخطر على البال – السؤال التالي: ماذا نقول في الزواجر والعقوبات والحدود؟ أليست نكاية بالمخالف وعقابًا له؟ فكيف ننفي عن الشرع النكاية مع وجود هذه الزواجر والعقوبات؟
الجواب هو: أن الإسلام إذا رخص ويسر وأباح فقد جاء على الأصل من سماحته ورفقه، ومن جاء على أصله فلا سؤال عليه.
وإذا شدد أو زجر، أو نسخ حكمًا من الإباحة إلى التحريم – كما كان الشأن في الخمر – فليس ذلك بقصد النكاية أبدًا، ولكن مراعاة للمصالح ودفعًا للمفاسد. وقد نطقت بهذا جملة من القواعد التي جرت مجرى الحكم لما اشتملت عليه من مصالح، من ذلك:" القتل أنفى للقتل " أو {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] .
ولا يعد الطبيب عندما يصف لمريض مر الدواء بقصد علاج ما اعتل من جسمه، منكلاً بهذا المريض، وقديمًا عرفوا: أن الشفاء للمرض لا يحصل دون آلام.
فليست الزواجر ولا القصاص نكاية بل إصلاح وحماية، كما أنه ليس في بتر عضو أو تجرع مر الدواء نكاية؛ بل رحمة بالمريض ورعاية. وبناء على كون الزواجر والعقوبات والحدود في الشريعة ليست سوى إصلاح لحال الناس، فإنها تحدد بالمقدار الذي قرره الشارع دون زيادة أو نقصان، لأن الزيادة تؤذن بالنكاية ولا نكاية في الشرع، ولأن النقصان يؤذن باتهام الشريعة، أنها زادت على ما به الحاجة في الإصلاح، إلى ما هو أشبه بالتشفي والنكاية.
والإصلاح بهذه الزواجر والعقوبات، يتوقف أساسًا على العدل في تطبيقها، فالناس أمامها سواء، لا فرق بين الأبيض والأسود، ولا بين الشريف والوضيع، ولا بين القوي والضعيف، ولا بين الغني والفقير. ومن أجل تحقيق هذه العدالة جعل محلها الأبدان، لأن هذه الأبدان تتساوى فيها فطرة الناس من حب البقاء وحفاظ على النفس وفرار من الألم، ولم يكن محلها الأموال لأن اعتبارها والإحساس بها يختلف باختلاف قلتها ووفرتها، وباختلاف ما جبلت عليه النفوس من بخل وفي البخل درجات ومن كرم وفي الكرم درجات أيضًا، ومن أجل هذا لم تجئ في الإسلام عقوبات مالية خارجة عن غرم الضرر أو ضمان المتلف والمغصوب وما في حكمهما، من كل ما فيه إرجاع المال لمستحقه شرعًا وإرجاع الحق لأهله.
وليس في القانون الجزائي الإسلامي عقوبة مالية تكون منفردة أو مضافة إلى العقوبة البدنية كما هو الحال في القوانين الوضعية.
ليس الأخذ بالعزيمة أولى من الترخص
الرخصة والعزيمة قسيمان للحكم الشرعي ولكل أسبابه مع تمييز باللحاق والسبق، وتأصيلهما في الشريعة مقطوع به، فالمنكر للرخصة كالمنكر للعزيمة، فإن كان هذا الإنكار في المعلوم من الدين بالضرورة أوصل صاحبه إلى الكفر.
فإذا قلت: تعود العزيمة إلى سبب قطعي في حين تعود الرخصة إلى سبب ظني!
قلنا: الكل قطعي لأن المظنة في الرخصة منزلة منزلة القطع، وذلك بناء على أن الشارع أجرى الدلائل الظنية في الفروع الشرعية مجرى الدلائل القطعية.
والقول بأنه لا أولوية للعزيمة على قسيمها في الحكم الشرعي الذي هو الرخصة، قول يستند إلى العديد من البراهين، منها:
1-
أن العزيمة يتجه أمر المكلف بها بشرط عدم الحرج: فإن وجد الحرج صح اعتباره مقتضيًا للعمل بالرخصة، فأي معنى للأولوية إذا قام الحرج حائلا دون فعل العزيمة!؟
2-
أصل الرخصة وإن كان بمثابة الجزئي، بالنظر إلى أصل عزيمتها، لا يكون مؤثرًا، وإلا لزم القدح في كل جزئي وقع استثناؤه من العموم مع أنه معتبر في نفسه، ومعدود من باب التخصيص للعموم، أو من باب التقييد للمطلق، وقد ذكروا في الأصول الفقهية: أنه يصح تخصيص القطعي بالظني. كما يتعين الرجوع إلى التخصيص – ولو كان بدليل ظني دون العمل بأصل العموم ولو كان دليله قطعيًا.
3-
وكما أجازوا تخصيص القطعي بالظني، أجازوا نسخ حكم القطع السابق بغلبة الظن، مثل حرمة أكل الميتة – وهو حكم قطعي سابق – ينسخ بغلبة الظن – لدى الصياد: أن الموت كان بسبب ضربته وصيده، مع وجود الاحتمال – دائما – أن الموت كان بغير ذلك أصلاً، أو كان بمعين آخر على موت الفريسة. وما ذلك إلا لكون الشريعة قبلت وصححت العمل على مقتضى الظن.
4-
أسلفنا أن أدلة رفع الحرج عن هذه الأمة قد بلغت مبلغ القطع من مثل قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6]{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28]{مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} [الأحزاب: 38] ، وغيرها من الآيات والأحاديث التي أصلت مبدأ التيسير ورفع الحرج في الشريعة حتى سميت بالحنفية السمحة، ولا نرى وجهًا لتطبيق هذا المبدأ دون اعتبار الرخص والأخذ بها.
5-
مبدأ التيسير ورفع الحرج قررته الشريعة حتى صار أمرًا مقطوعًا به، ولم تقف عند تقريره والإعلان عنه، بل دعت إلى الأخذ به، وأنكرت على المغالين والمتشددين، والنافرين من الرخصة والمنفرين منها.
وقد جاءت في هذا المعنى عدة أحاديث، نقتصر منها على ما يلى:
- عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته (1) وفي رواية أخرى ط عليكم برخصة الله الذي رخص لكم)) (2) .
فالدعوة إلى العمل بالرخصة في هذا الحديث لا غبار عليها، فالله يحب أن تؤتى رخصه، والرسول صلى الله عليه وسلم يحضنا على العمل برخصة الله التي رخص لنا.
- وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر برجل في ظل شجرة يرش عليه الماء، فقال:((ما بال صاحبكم هذا؟ قالوا: يارسول الله صائم! قال: إنه ليس من البر أن تصوموا في السفر، وعليكم برخصة الله التي رخص لكم، فاقبلوها (3) وفي رواية عنه: ليس من البر الصيام في السفر، عليكم برخصة الله عز وجل فاقبلوها)) .
فالحديث براويتيه يأمر بقبول رخصة الله عز وجل التي رخص لعباده، رحمة بهم، ومنة عليهم
…
فماذا يكون موقف الرافض لهذه النعمة من الله عز وجل؟ خصوصًا وقد سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر لجابر بن عبد الله رضي الله عنهما هؤلاء التاركين أو المعرضين عن الرخصة التي رخص الله لهم عصاة:
- قال جابر رضي الله عنه: ((خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة عام الفتح في رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم [اسم لواد أمام عسفان] فصام الناس، فبلغه أن الناس قد شق عليهم الصيام، فدعا بقدح من الماء بعد العصر، فشرب والناس ينظرون، فأفطر بعض الناس وصام بعض. فبلغه أن ناسا صاموا، فقال: " أولئك العصاة)) (4) .
سماهم عصاة للنكير عليهم في مخالفة ما سن لهم، وفي إعراضهم عن هذه المنحة من الله عز وجل.
فهل يبقى شك بعد هذا في أن من أخذ برخصة الله، فقد رضي بحكمه، وقبل شرعه، وفرح بمنحته، وأحب رحمته وتيسيره رأفة بالعباد؟ ومن ترك الرخصة مع وجود دواعيها وأسبابها - ولو بغلبة الظن - فقد ترك شيئا من شرع الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم استحق بسببه أن يوصف بالعصيان عساه أن يمسك عن التمادي في هذه الطريق المؤدية إلى التشديد والغلو، والله تعالى يحب أن ينعم على عباده ويحب أن يحمدوه على نعمه.
للرخصة أسبابها وللعزيمة أسبابها، وعلى المؤمن أن يأخذ بكل عندما يتوفر سببه، والله يحب ذلك وقد جعل التقرب إليه وعبادته بالرخصة كالتقرب إليه وعبادته بالعزيمة.
إن ترك العزيمة معصية إذا توفرت أسبابها، كما أن عدم ترك العزيمة إذا توفرت أسباب الرخصة، جنوح إلى المغالاة والشدة المنهي عنهما، ولهذا قال عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم ((أولئك العصاة)) .
وهذا ما حدث للبعض من شيوخ الصوفية الذين أوصوا تلاميذهم بترك اتباع الرخص جملة، وجعلوا من أوصلهم الأخذ بعزائم العلم، كما نقل ذلك عنهم الشاطبي (5) فإنهم وقعوا في مخالفة السنة والشريعة بترك الرخصة من حيث أرادوا الحرص على البر بالشريعة، وعلى المزيد من تقوى الله، والشيء إذا تغالوا فيه ووصل إلى الحد رجع إلى الضد كما يقال. والله الهادي إلى سواء السبيل.
(1) انظر مسند الإمام أحمد بن حنبل: 2 /108
(2)
هي رواية مسلم: كتاب الصيام: 93 و 105، والنسائي: صيام: 47 و 48
(3)
أخرجه النسائي: صيام 47
(4)
اخرجه النسائي: صيام 49
(5)
الموافقات: 1/ 202
تعريف الرخصة
أ – الرخصة لغة:
هي التيسير والتسهيل. قال الجوهري: " الرخصة في الأمر خلاف التشديد فيه، ومن ذلك رخص السعر: إذا سهل وتيسر. وهى بتسكين الخاء، وحكي أيضا ضمها. وأما الرخصة بفتح الخاء، فهو الشخص الآخذ بها.
- وقال في القاموس:
الرخصة (بضمة وبضمتين) ترخيص الله للعبد فيما يخففه عليه.
- وجاء في الصباح المنير:
رخص الشيء رخصا فهو رخيص (من باب قرب) وهو ضد الغلاء، والرخصة (وزان غرفة) وتضم الخاء للاتباع، ومثله ظلمه وظلمة.... والجمع رخص ورخصات، مثل: غرف وغرفات. والرخصة: التسهيل في الأمر والتيسير – يقال: رخص الشرع لنا في كذا ترخيصًا، وأرخص إرخاصا إذا يسره وسهله. اهـ.
- وفي مختار الصحاح، يقول الرازي:
الرخص ضد الغلاء، وقد رخص السعر (بالضم) رخصًا، وأرخصه الله فهو رخيص، وارتخص الشيء اشتراه رخيصًا، وارتخصه أيضا عده رخيصًا. والرخصة في الأمر خلاف التشديد فيه.. والرخص الناعم – يقال: هو رخص الجسد، بين الرخاصة والرخوصة.
ب- الرخصة في اصطلاح علماء الشريعة الإسلامية المطهرة:
عرف العلماء الرخصة تعاريف متعددة، محاولين أن تكون هذه التعاريف جامعة مانعة، ولكن حدود الرخصة وما تشمله من أقسام وفروع لم تكن محل اتفاق، ومن هنا جاءت التعاريف مختلفة. وهذا ما قالوه:
- الرخصة عند حجة الإسلام الغزالى رحمه الله:
قال: " الرخصة في الشريعة عبارة عما وسع للمكلف في فعله لعذر مع قيام السبب المحرم (1) .
فقد أراد الغزالي بقوله: (مع قيام السبب المحرم) أن ما لم يوجبه الله تعالى مثل صوم شوال، وصلاة الضحى، أو ما أبيح في الأصل، فإن تركه وإن كان لعذر لا يسمى رخصة.
(1) انظر: المستصفى: 1 / 63
- وقال القاضي البيضاوي في تعريف الرخصة:
" الحكم إن ثبت على خلاف الدليل لعذر فرخصة. كحل الميتة للمضطر، والقصر والفطر للمسافر، واجبًا ومندوبًا ومباحًا، وإلا فعزيمة (1) فالرخصة عنده حكم شرعي مثل العزيمة، خلافًا للإمام الرازي الذي جعلهما من أقسام الأفعال (2) ولكل حكم دليله من الشرع، فإن كان هذا الحكم ثابتًا بالدليل ابتداء من غير تقدم ما يوجب خلافه فهو العزيمة، وما شرع على خلاف الدليل الثابت ابتداء بدليل آخر لعذر فرخصة. فقوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] . هو دليل الحكم الثابت ابتداء، وهذا الحكم هو حرمة أكل الميتة. وهو العزيمة.
وقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] هو دليل الحكم الثابت لعذر على خلاف الدليل الثابت ابتداء. وهذا الحكم هو حلية أكل الميتة للمضطر. وهو الرخصة.
- وقال العلامة البدخشي في شرحه على منهاج الأصول للقاضي البيضاوي والذى ترجمه بمنهاج العقول في شرح منهاج الأصول:
وعرف بعضهم الرخصة بأنها: ما شرع من الأحكام لعذر مع قيام المحرم لولا العذر (3) وهذا التعريف لا يختلف عن تعريف ابن الحاجب. وقد تحصل من هذا التعريف أن دليل الحرمة (وهو قوله تعالى مثلاً: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} إذا بقي معمولاً به، فطرأ في حق المكلف عذر (مثل المخمصة) أدى إلى التخلف عن الحكم الثابت ابتداء فأبيح له ما كان ممنوعًا، ولولا ما طرأ من عذر أو مانع ما أبيح له ذلك، فالحكم الثابت بالتخلف لا ابتداء هو الرخصة.
ويخرج بهذا التعريف:
أ – الحكم الثابت ابتداءً لأنه شرع لغير عذر أو مانع.
ب- المنسوخ لأن المحرم لا يبقى قائمًا ولا معمولاً به.
ج – الحكم الثابت بالمخصص لأن التخلف فيه ليس لعذر، بل هو لبيان أن الدليل العام لا يشمله.
- وعرف أبو إسحاق الشاطبي الرخصة فقال:
هى ما شرع لعذر شاق استثناء من أصل كلي يقتضي المنع، مع الاقتصار على موضع الحاجة فيه (4)
(1) انظر: منهاج الوصول في علم الأصول بشرحي الإسنوى والبدخشي: 1 /69 – 70 (ط. محمد صبيح وأولاده بالأزهر – مصر)
(2)
الحاصل: أن القاضي البيضاوي قد تبع في اعتبار الرخصة والعزيمة من أقسام الحكم، تاج الدين الأرموي صاحب كتاب الحاصل، وعلى هذا سار الإمام القرافي في كتبه. وجرى غيرهم على اعتبارهما (أي الرخصة والعزيمة) من أقسام الفعل مثل: الآمدي في الأحكام، وابن الحاجب في مختصره الكبير، والإمام الرازي في المحصول.
(3)
انظر: كتاب المنهاج بشرحي الإسنوي والبدخشي: 1 /69
(4)
انظر: الموافقات: 1 /18 (ط. أولى بتونس)
بالتأمل في هذا الحد نجد أنه اشتمل على عدة قيود:
أولها: كون الرخصة مشروعة لعذر، وظاهره أن ما شرع لغير عذر لا يسمى رخصة كما هو مقرر لدى علماء الأصول.
ثانيها: كون العذر من نوع الشاق، بخلاف العذر الذي لا مشقة فيه، وإنما هو حاجة عرضت، مثل حاجة الضرب في الأرض بصفة عامة لأنها حاجة الأمة وحاجة الأفراد، وعجز صاحب المال عن الضرب في الأرض بنفسه لا يعتبر عذرًا شاقا، ورغم ذلك فقد راعى الشارع حاجة الأمة بصفة عامة ويسر على الناس فأباح أنواعًا من العقود مثل: القراض والمساقاة والسلم إباحة مطردة لم يقتصر فيها على موضوع الحاجة، ولا على أصحاب الأعذار وحدهم.
وهذه العقود – وإن كانت مستثناة من أصل ممنوع – فلا تسمى رخصًا بالمفهوم الاصطلاحي، وإنما هي من قبيل ما رخص فيه الشرع لدخوله تحت أصل الحاجيات الكلية. والحاجيات الكلية لا تسمى عند العلماء رخصة بالمفهوم الاصطلاحي، بل بالمفهوم اللغوي لا غير. وكذلك الشأن فيما إذا رجع العذر إلى أصل تكميلي، وليس من قبيل الأعذار الشاقة، فلا يسمى ما شرع بسبب هذا العذر التكميلي رخصة اصطلاحًا، ومثال هذا: الترخيص للمأمورين في الصلاة جلوسًا تبعا لإمامهم الذي يشق عليه القيام، فجلوس المأمومين كان لغير مشقة، وإنما لموافقة إمامهم وعدم مخالفته، وهو أصل تكميلي بناء على ما جاء به الحديث الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم:((إنما جعل الإمام ليؤتم به)) .
ثالثها: الاقتصار بحكم الرخصة على موضع الحاجة دون سواه، بناء على قاعدة:" ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها" وهذا القيد عند من نصوا عليه هو الفاصل بين ما شرع من الحاجيات الكلية، وبين ما شرع من الرخص بصورة جزئية يقتصر فيها على موضع الحاجة لا غير.
ذلك أن الرخصة ترتفع بارتفاع العذر الشاق المسبب لها: كالتيمم لعدم الماء أو لعدم القدرة على مسه، والإفطار والقصر للسفر الطويل، والجلوس في الصلاة لمن شق عليه القيام
…
إلخ.
بخلاف ما شرع من الحاجيات الكلية مثل: القراض والمساقاة والمغارسة، وغيرها من العقود المستثناة من قاعدة المنع، والمباحة لعموم الحاجة، فأشبهت الرخصة وليست برخصة حقيقة؛ إذ حكم الرخصة يرتفع بارتفاع السبب الذي هو العذر، بخلاف ما أشبهها فلا يرتفع حكمه بارتفاع العذر فيه.
- وعرفها القاضي تاج الدين عبد الوهاب ابن السبكي صاحب كتاب جمع الجوامع بقوله: الحكم الشرعي إن تغير إلى سهولة لعذر مع قيام السبب للحكم الأصلي، فرخصة: كأكل الميتة – والقصر – والسلم – وفطر مسافر لا يجهده الصوم، واجبًا ومندوبًا ومباحًا وخلاف الأولى، وإلا فعزيمة.
- وعرفها من المتأخرين شيخ الإسلام محمد الطاهر ابن عاشور رحمه الله فقال: الرخصة تغير الفعل من صعوبة إلى سهولة لعذر عرض لفاعله وضرورة اقتضت عدم اعتداد بما في الفعل المشروع (يعني المشروع ابتداء) من جلب مصلحة أو دفع مفسدة، مقابل المضرة العارضة لارتكاب الفعل المشتمل على المفسدة.
لم نقف على هذا التعريف عند غير الشيخ ابن عاشور، وقد وضعه بهذا الإطناب ليتقصى الأسس التي قامت عليها الرخصة، وهى كما تؤخذ من عبارته في هذا التعريف:
أ – أن الرخصة أساسها التغيير من صعوبة إلى سهولة: تيسيرًا ودفعها للحرج عن المكلف، وبدون هذا التغيير وهذا التيسير لا وجود للرخصة.
ب- أن الداعي لهذا التغيير أمران:
الأمر الأول: حصول عذر عارض للمكلف يشق معه أو يحول دون الأخذ بالفعل المشروع ابتداء.
الأمر الثانى: عدم اعتداد الشريعة – مع قيام هذا العذر للمكلف – بالفعل المشروع ابتداء، لما في استمرار الاعتداد به من ضرر طارئ.
وبهذا المنهج الواضح في تعريف الرخصة، يتبين لنا أن الشريعة الإسلامية المطهرة لا تخرج في عامة الأحوال وخاصتها عن المبدأين المشهورين.
1-
مراعاة مصالح العباد.
2-
التيسير ورفع الحرج.
وقد درج الشيخ ابن عاشور على ما درج عليه الشاطبي في عد الرخصة مستمدة من قاعدة رفع الحرج، كما أن العزيمة راجعة إلى أصل التكليف وكلاهما (أي الرخصة والعزيمة) أصل كلي (1) .
- الصيغ المؤذنة بالترخيص:
للرخصة صيغ عديدة، جاءت بها نصوص الكتاب الكريم والسنة المطهرة، من هذه الصيغ.
أ – نفي الجناح (بضم الجيم) هو الإثم. قال تعالى:
- {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198]
- {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101]
- {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} [النور: 58]
- {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور: 60](2)
وفي الحديث الصحيح: عن أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خمس من الدواب لا جناح على من قتلهن: الغراب والحدأة والفأرة، والعقرب، والكلب العقور)) (3) .
(1) ابن عاشور، مقاصد الشريعة: 124- 125. (ط. الشركة التونسية للتوزيع)
(2)
آيات نفي الجناح
(3)
رواه الخمسة (عدا ابن ماجه) انظر: التاج الجامع للأصول: 2 /116. (دار إحياء التراث العربي – بيروت. ط. ثالثة 1381هـ /1961م
ب- نفي الإثم:
وإذا انتفى الإثم في المنهي عنه أصبح مرخصًا فيه. قال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} ِ [البقرة: 173] .
- {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203](1)
جـ - نفي المؤاخذة:
قال تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225] – [المائدة: 89]
د – نفي الحنث:
قال تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44]
هـ - نفي الحرج:
أو الحكم بارتفاعه عنهم، أو الترخيص لهم في الفعل؛ قال تعالى:{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} [التوبة: 91] .
- {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور: 61](2)
- {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} [الأحزاب: 37]
و– نفي السبيل:
أى نفي الإثم والحرج. قال تعالى:
- {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] . أي ما على المحسنين إذا ما قعدوا عن الجهاد من حرج نظرًا لأعذارهم.
- {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 41](3) أي ليس عليهم جناح في الانتصار ممن ظلمهم، وفي الحديث:((من دعا على من ظلمه فقد انتصر)) .
وخير من الانتصار من الظالم الصفح والعفو عملاً بقوله تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43] .
أنواع الرخص
نظر العلماء في تصنيف الرخص وتقسيمها إلى اعتبارات مختلفة، فتعددت الأقسام والأنواع وتفجر ينبوع ما تحتها من فروع ومسائل، حتى صار كبح السير في غمار هذه الفروع، وما يقاس عليها، أمرًا عسيرًا، ومطاوعة النفس في ترك الحبل للجوس خلالها، أمرًا مغريًا بمزيد التفقه في الدين، ومن يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين كما قال رسول رب العالمين عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
- التقسيم الأول: باعتبار الإطلاق
ويشمل أقسامًا ثلاثة: قسم الرخص الحقيقية – وقسم الرخص المجازية – والقسم المتردد بينهما.
1-
تطلق الرخصة حقيقة على ما استبيح لعذر مع بقاء حكم العزيمة قائمًا، وإنما رخص في تركه تخفيفا عن المكلف.
وكما يسمى هذا القسم رخصة حقيقية يسميه الحنفية: رخصة ترفيه كما جاء في كشف الأسرار على أصول البزدوي.
المثال: نطق المكره بكلمة الكفر، أو إتلافه مال الغير، أو إساغة غصة بجرعة خمر لم يوجد سواها.
(1) آيات نفي الإثم.
(2)
آيات نفي الحرج
(3)
آيتا نفي السبيل
ويعتبر حجة الإسلام الغزالي هذا النوع من الرخص في الرتبة العليا.
2-
تطلق الرخصة من باب المجاز على ما استبيح لعذر دون رجوع إلى حكم العزيمة ودون تقيد بقاعدة: ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها.
وكما يسمى هذا القسم رخصة مجازية، يسمى رخصة إسقاط.
المثال: ما وضع عنا من الإصر والأغلال التي كانت على من قبلنا؛ كوجوب قتل النفس لمن أراد التوبة، ووجوب قطع موضع النجاسة من الثوب لا غسله، وقطع الأعضاء الخاطئة وغيرها. فرفع هذا الإصر دون عودة هو في الحقيقة نسخ وإنما أشبه الرخصة من حيث التيسير والسهولة، فسميت رخصة على ضرب من التجوز.
3-
ما تردد بين القسمين السالفين، وهي صور بعضها أقرب إلى الحقيقة وبعضها أقرب إلى المجاز.
أ- الصور القريبة من الحقيقة: ما أبيح ورخص فيه مع قيام السبب المانع، مثل: الفطر للمسافر في رمضان وقصره للصلاة.
فالسبب المانع من الفطر قائم، وهو دخول هذا المسافر تحت عموم قوله تعالى:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] . فأخرج من العموم ترخيصًا للعذر ومظنة العسر.
ب- الصور الأقرب إلى المجاز: مما لا يحسن أن يسمى رخصة إلا بتجوز، مثل: التيمم عند فقد الماء، فالسبب المانع، وهو التكليف باستعمال الماء ليس قائما لعدم وجوده، ولقول الحق تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] ومن مقتضيات الرخصة الحقيقية التوسيع على المكلف والترخيص له مع وجود السبب قائمًا. وليس منه هذا التيمم عند فقد الماء، بل هو أشبه بالإطعام في كفارة الظهار عند فقد الرقبة، لأن الظهار سبب لوجوب العتق في حالة، ولوجوب الإطعام في حالة، وليس رخصة.
ومما يدخل تحت الرخصة المجازية السلم وما شابهه من العقود المستثناة من أصل ممنوع مثل المغارسة والمساقاة والجعل والقراض وغيرها، فالسلم مثلا داخل تحت أصل ممنوع وهو: بيع الإنسان ما ليس عنده. ولكنه استثني لحاجة الناس، وعبر عن هذا الاستثناء ترخيصًا، كما جاء في حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه:((نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عند الإنسان، وأرخص في السلم)) (1) .
ومن هنا جاء اعتبار السلم رخصة مجازية، باعتبار أنه بيع دين فاختلف عن بيع العين في شرط حضور المبيع، والافتراق في الشرط لا يلحق أحدهما بالرخصة.
(1) لفظه عند أحمد: (نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبيع ما ليس عندي وليس فيه: وأرخص في السلم) . انظر المسند 3 /402
- التقسيم الثانى: باعتبار مرجعية الحق في الرخصة:
الحق في الرخصة قد يكون لله تعالى وهو ما عناه الغزالي بقوله: ما يعصى بتركه، وقد يكون هذا الحق للعباد، وسماه الغزالي ما لا يعصى بتركه (1) .
أ – مثال ما يعصى بتركه لأن الحق فيه لله تعالى:
- أكل الميتة لمن خشي الهلاك.
- الإفطار لمن لم يعد يقوى على الصيام.
- شرب الخمر لدفع صائر به إلى هلاك.
ب- مثال ما لايعصى بتركه لأن الحق فيه للعياد.
الإفطار وقصر الصلاة للمسافر.
ونضع تساؤلاً في هذا المجال وهو: كيف يسمى ما يجب الإتيان به رخصة؟ كأكل الميتة لمن أصابته مخمصة مهلكة، أو جرعة الخمر لمسوغ غصة؛ مع أنه يجري مجرى العزيمة في كونه يرجع إلى أصل كلي وهو حفظ النفس؟
والجواب: أنه سمي رخصة باعتبار الفسحة والإذن – ولو مع التحتيم في فعل ما كان محظورًا من أجل حفظ النفس. أو باعتبار الترخيص للعذر وقدر الحاجة مع بقاء سبب المنع قائمًا، إذ حرمة أكل الميتة وشرب الخمر قائمة لم تنسخ في الأحوال العادية.
- التقسيم الثالث: باعتبار حكم الأخذ بالرخصة:
ينتقل المكلف – عند قيام العذر – من حكم العزيمة إلى حكم الرخصة. وحكم العزيمة المنتقل عنه إما الوجوب وإما الحرمة ولا يكون سوى ذلك، إذ لا ترخص في المندوب ولا في المكروه وأحرى المباح. فالمترخص ينتقل من فعل واجب كصيام رمضان إلى خلافه وهو ترك الصيام، ويكون هذا الترك بحسب المشقة أو المضرة التي تلحقه من الفعل أي من الصيام، فالمريض الذي يخشى عليه الهلاك من الصيام أو زيادة المرض يفطر وجوبًا فيكون قد انتقل من واجب الفعل إلى واجب الترك، وقد يكون لصيامه حكم آخر إذا لم يخش الهلاك أو زيادة المرض.
(1) انظر المستصفى: 1 /63. (مصطفى محمد – ط أولى مصر، 1356 هـ / 1937م
كما ينتقل المترخص من الفعل المحرم: كأكل الميتة أو شرب الخمر إلى الإباحة أو الوجوب أو الندب أو خلاف الأولى، وهذه هي الأقسام الأربعة للرخصة، كما قررها علماء الشافعية وغيرهم بقطع النظر عن الحكم الأصلي للعزيمة سواء، كان الوجوب أو الحرمة، وهذا تفصيل الأقسام الأربعة وأمثلتها:
1-
الرخصة المندوبة، والمراد ما كان الانتقال إليها من حكم العزيمة مندوبًا، مثل:
- قصر الصلاة للمسافر – بعد توفر شروط القصر – تخفيفًا عليه من مشاق السفر لقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101] وفى الحديث عن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] فقد أمن الناس. فقال: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال:((صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته)) (1) دل تعبيره صلى الله عليه وسلم بالصدقة، وحثه إيانا على قبول هذه الصدقة دل كل ذلك على أن القصر بات مشروعًا لمن ضرب في الأرض، سواء مع الخوف أو عدمه، كما دل ذلك على أن شرط الخوف جرى مجرى الغالب بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، إذ كانت أغلب أسفارهم بقصد الجهاد في سبيل الله.
وفهم أبو حنيفة – رضي الله عنه – من هذا التعبير حكم الإسقاط في حق المسافر فيما زاد على الركعتين، بحيث صار فرض المسافر ركعتين، وليس في الأمر رخصة، فقال في مجال التدليل على رأيه: الصدقة هنا ليست حقيقية بدليل أنها لا تملك، ولا تتوقف على قبول المتصدق عليه، ونظير هذا قول ولي القصاص للجاني: تصدقت عليك بدم فلان فإنه يكفي لإسقاط القصاص دون قبول الجاني. وكذلك الأمر هنا: صدقة الله علينا تعني إسقاط ركعتين من الرباعية وليس للأمر علاقة بالرخصة.
وعلى المذهب الحنفي صار فرض المسافر ركعتين بدل أربع للمقيم، والتمثيل بقصر الصلاة- في هذا الباب – يجري على المذهبين الشافعي والحنبلي لأنهما يعتبران القصر للصلاة مندوبًا، كما يجري وفق المذهب المالكي الذي يعتبر القصر سنة مؤكدة لأنه – عند مالك – مما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وواظب عليه.
2-
الرخصة الواجبة، والمراد ما كان الانتقال إليها من حكم العزيمة واجبًا أي فعله واجبًا، ومثلوا له بأكل الميتة استبقاءً على الحياة لمن وقع في مخمصة وخشي الهلاك، فقد قال الحق تعالى:{فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:3] بعد قوله تعالى في أصل الحكم الذي بقي به الدليل قائمًا: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] كما مثلوا لهذا القسم بوجوب إفطار المريض في رمضان إذا خاف الهلاك أو زيادة المرض أو استمراره.
3-
الرخصة المباحة، أي ما كان الانتقال إليها من العزيمة مباحًا ومثلوا لهذا القسم بأمثلة كثيرة لا يسلم أغلبها من الاعتراض، منها: فطر المسافر، والظاهر أنه راجع للقسم الآتي: الرخصة على خلاف الأولى لقوله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] .
(1) رواه أصحاب الصحاح عدا البخاري، وكلهم في الصلاة إلا الترمذي ففي التفسير انظر ذخائر المواريث: عدد 5639
ومثلوا بالرخص الاستحسانية: السلم، المساقاة، المغارسة، الجعل، العرية، القراض.. إلخ. والظاهر أنها ليست رخصًا حقيقية بل مجازية لعدم بقاء الحكم الأصلي قائما معها وعدم تحديدها بحدود الضرورة الدافعة إليها، وإنما صار حكمها عامًا مستمرًا.
والأفضل أن يمثل لهذا القسم بما يأتي:
- المسح على الخفين.
- التيمم لمن وجد الماء يباع بأكثر من ثمنه المعتاد.
- قراءة القرآن وكتابته على غير طهارة للعالم والمتعلم.
4-
الرخصة على خلاف الأولى: والمراد أن الأخذ بالرخصة خلاف المطلوب بل الأولى والمطلوب عدم الترخص كالمسافر يفطر ولا يشق عليه السفر فهو خلاف الأولى لأن الله تعالى يقول: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] ، وأما إذا شق على النفس فالفطر أولى.
- التقسيم الرابع باعتبار أنواع التخفيف التي احتملتها الرخص في الشريعة:
بناء على أن الرخصة ليست سوى تخفيف من الأعباء على المكلف.
- النوع الأول: تخفيف الإسقاط، وهو عبارة عن الترخيص في ترك ما كان مأمورًا به ما دام العذر قائما تخفيفًا على المكلف. وأمثلته كثيرة منها:
- إسقاط الخروج إلى الجماعة للمرض أو البرد والمطر الشديدين.
- إسقاط الجمعة للمرض والبعد وعدم سماع النداء.
- إسقاط الحج والعمرة لعدم الاستطاعة البدنية أو المالية أو الأمنية.
- إسقاط الصلاة على من فقد الطهورين، وذلك في المشهور من مذهبي مالك وأبي حنيفة.
- إسقاط قضاء الصوم لمن أفطر ناسيًا عند الجمهور إلا مالكًا، والأصل فيه حديث أبي هريرة ((من نسي وهو صائم فأكل أو شرب، فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه)) (1)
- إسقاط الحدود بالشبهة على قاعدة: " ادرأوا الحدود بالشبهات". وهي قاعدة منقولة باللفظ عن حديث عائشة الذي رواه الترمذي والحاكم.
فلا حد على من ظن حلية الأمور التالية:
أخذ مال الأب، وطء جارية زوجته، وطء مطلقته ثلاثًا في العدة، وطء المرتهن مرهونته.
(1) أخرجه البخاري في الصوم وكذلك الترمذي وابن ماجه. انظر ذخائر المواريث: عدد 8343
وقد بحث العلماء الشبهة وقسموها أقسامًا ثلاثة:
1-
شبهة في الفاعل: كمن وطئ أجنبية ظانا أنها زوجته.
2-
شبهة في المفعول: سرقة مال في غير حرز، وطء الجارية المشتركة.
3-
شبهة في السبب: استباحة الوطء بنكاح بلا ولي أو بنكاح المتعة.
النوع الثانى: تخفيف تنقيص، والمراد تنقيص معين من المأمور به أو تنقيص على قدر الاستطاعة.
المثال: قصر الصلاة الرباعية في السفر (وهو تنقيص معين) . تنقيص ما عجز عنه المريض في صلاته (وهو تنقيص على وفق الاستطاعة) .
النوع الثالث: تخفيف الإبدال، والمراد الإتيان بفعل أخف على وجه الترخص بدل الفعل الأشق.
المثال: - التيمم عند فقدان الماء أو العجز عن استعماله بدل الطهارة المائية.
- أعمال الكفارة إذا كانت على الترتيب لا على التخيير، مثل كفارة الصيام عند غير مالك: العتق، ثم صوم شهرين متتابعين، ثم إطعام 60 مسكينًا، فلا ينتقل من نوع إلى ما بعده إلا لعذر.
- فدية الحج والعمرة عما يفعله المحرم من مخالفات الإحرام، مثل: قطع الشجر، ومس الطيب، وقص الشعر أو الأظافر. وأعمال الفدية عند الجمهور تكون على الترتيب، وهي كما يلي: ذبح شاة، صيام ثلاثة أيام، إطعام 6 مساكين – نصف صاع لكل مسكين – ويستوي فيها المعذور وغيره.
النوع الرابع: تخفيف تقديم، أي بأن يقوم المكلف بالعمل قبل وقته، ترخيصًا له وتخفيفًا عليه لقيام العذر.
المثال: جمع التقديم في مشتركتي الوقت (الظهر والعصر أو المغرب والعشاء) بالنسبة للمسافر، جاء في الحديث:((كان صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى يجمعها مع العصر يصليهما جميعًا. وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعًا، ثم سار. وكان إذا ارتحل قبل الغروب أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء، وإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء فصلاها مع المغرب)) (1)
- إخراج الزكاة قبل حلول الحول، فقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لعمه العباس بن عبد المطلب.
- تقديم الكفارة على حنث اليمين لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا حلفت على يمين، فرأيت غيرها خيرًا منها، فكفر عن يمينك، وائت الذي هو خير)) (2) .
- النوع الخامس: تخفيف التأخير، وهو المقابل للنوع الرابع.
المثال: تأخير الصلاتين المشتركتي الوقت، كما تقدم في المثال الأول من أمثلة النوع الرابع.
(1) أخرج هذا الحديث وما في معناه البخاري وأبو داود والترمذي عن جماعة من الصحابة منهم: أنس بن مالك – وابن عباس – وابن عمر – ومعاذ
(2)
حديث عبد الرحمن بن سمرة. أخرجه أصحاب الصحاح، أغلبهم في الأيمان والنذور. انظر ذخائر المواريث: عدد 5040
- تأخير صيام رمضان أو أيام منه للمريض لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] .
- تأخير الجمع بالمزدلفة للعشاءين في الحج.
- تأخير الصلاة عن وقتها الاختياري لأمر مهم كإنقاذ غريق أو إطفاء حريق.
- النوع السادس: تخفيف بإباحة الممنوع.
المثال: صلاة المستجمر مع بقية من النجاسة لا تزول إلا بالماء، عملاً بقاعدة " القليل معفو عنه"، وهو مقدر عند الحنفية بما دون الدرهم من النجاسة الجامدة، وما دون مقعر الكف من النجاسة المائية. وسبب العفو الضرورة أو عسر الاحتراز عنها.
وعند مالك المقدار المعفو عنه من النجاسة ما يساوي الدرهم البغلي في الصلاة ولا عفو في الطعام.
- النوع السابع: تخفيف تغيير، بحيث يصير معه العمل ميسورًا
المثال: صلاة الخوف وما طرأ عليها من تغيير في نظامها كما جاء في قوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102]
- التقسيم الخامس باعتبار الأسباب الداعية إلى الترخص:
والمتضمنة لضوابط الأخذ بالرخصة. وهي أسباب عديدة أهمها:
1-
الضرورة: عرفها بعضهم بقوله: حقيقتها في الشرع: الخوف على النفس – وما في حكم النفس – من الهلاك المتيقن أو الغالب الظن بحيث يحل له المحظور لقاعدة الضرورات تبيح المحضورات، بل يصبح هذا المحظور في حق هذا المضطر واجبًا كأكل الميتة إذا لم يجد ما يغنيه عنها لقوله تعالى:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] وقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] .
2-
الحاجة: وهي على قسمين: عامة وخاصة. وبالجملة هي عبارة عن مصالح يترتب على عدم الاستجابة إليها عسر ومشقة وكونها عامة بمعنى أنها تشمل جميع الأمة وكونها خاصة يعني أنها تشمل مصالح مجموعة من الناس أو طائفة أو أهل بلد مثال الحاجة التي تحقق مصلحة عامة تشمل جميع الأمة.
- الإجارة على خلاف القياس رخص فيها للحاجة.
- ضمان الترك على خلاف القياس أيضا.
- السلم لأنه بيع المعدوم دفعًا لحاجة المفاليس.
- الاستصناع لحاجة الناس – دخول الحمام – شربة السقاء.
- بيع الوفاء حين كثر الدين على أهل بخارى وغيرهم، حتى سموه: بيع الأمانة وسماه الشافعية: الرهن، لأنه في حقيقته رهن معتاد. وبعبارة أخرى: ما يدخل تحت ما يسميه الحنفية: الرخص المجازية.
مثال الحاجة التي تحقق مصلحة خاصة لقسم أو طائفة من الناس:
- النظر للأجنبية للحاجة المتعددة المصالح، منها: التعليم – علاج المرض – التقاضي- الفتوى.. إلخ.
- لبس الذهب والحرير للعلاج.
- التصوير الشمسي الذي اقتضاه النظام العالمي لضبط هوية الأفراد، والتعريف بهم في حلهم وترحالهم.
وبالجملة فالحاجة سواء كانت عامة أو خاصة اعتبرتها الشريعة طبقًا للقاعدة التي تقول: تنزل الحاجة منزلة الضرورة (1)
(1) ابن نجيم، الأشباه والنظائر: ص 31 (دار الهلال – بيروت 1400/1980
3-
السفر: وهو على نوعين:
أ- سفر طويل وأدناه ما يقطع عادة في ثلاثة أيام بلياليها، وهي المسافة المعبر عنها بمسافة القصر مثال لما يسمح به:
- القصر للصلاة الرباعية.
- الفطر في رمضان على درجات واختلاف في حكمه.
- المسح على الخفين أكثر من يوم وليلة.
سقوط الأضحية.
ب – سفر دون الطويل، ومنه مطلق الخروج من المصر.
مثال لما يسمح به:
- ترك الجمعة والجماعة والعيدين.
- جواز التنقل على الدابة.
- جواز التيمم عند الحنفية.
- قصر الصلاة عند الحنفية باعتبار أن هذا القصر رخصة إسقاط بمعنى العزيمة، والمراد أن الإتمام لم يبق مشروعًا، ويأثم إن أتم، وتفسد صلاته لو لم يجلس في نهاية الركعتين، ولم ينو القصر قبيل سجود الركعة الثالثة (1)
4-
المرض: هو عبارة عما يدخل على الجسم من اعتلال يفقده مألوف طبيعته واعتداله.
- والأمراض مختلفة في ذاتها، فمنها المرض الخفيف: كالصداع والزكام الخفيفين. ومنها الشديدة والخطيرة والمزمنة.
- كما أنها مختلفة بحسب الأبدان التي تصاب بها، فقد ينقلب الزكام الخفيف إلى مرض شديد وخطير على الحياة إذا أصيب به الشيخ الطاعن أو الرضيع الهزيل.
فالأمر نسبي وليس فيه مقياس ثابت ولا قاعدة مطردة، وإنما العبرة بواقع كل شخص وبطاقته وقوة تحمله. وبالجملة فالمرض المبيح للترخص هو المرض المؤثر على المكلف في جعله في حالة عجز ولو جزئي أو في حالة خوف من زيادة المرض أو تأخر الشفاء، ورخص المرض كثيرة أهمها:
- التيمم لمن خاف من استعمال الماء (خاف على نفسه أو على عضو من أعضائه أو خاف زيادة المرض أو تأخر الشفاء)
القعود في صلاة الفرض أو الاضطجاع فيها أو الإيماء بحسب الاستطاعة.
التخلف عن الجماعة مع حصول ما كان يناله من فضل.
الفطر في رمضان للشيخ الفاني مع وجوب الفدية عليه.
الانتقال من الصوم إلى الإطعام في كفارة الظهار لأنها على الترتيب وفي كفارة الصيام لأنها على الترتيب عند مالك.
- ترك الصيام والخروج من المعتكف.
- الاستنابة في رمي الجمار.
- إباحة محظورات الإحرام وجبرها بالفدية.
- التداوي بالنجاسات والمسكرات أو المخدرات على أحد قولين إن تعينت.
- إساغة اللقمة بهذه الممنوعات إن تعينت اتفاقًا.
- إباحة النظر للأجنبية أو للعورة والسوأتين للطبيب.
- التخلف عن الجهاد.
- الجمع بين مشتركتي الوقت.
(1) ابن نجيم، الأشباه والنظائر: ص275 وفي ص 368 جملة أخرى من أحكام السفر
5-
الإكراه: هو جبر الغير على ما لايرضى فعله أو الإعانة عليه لو كان حرًّا في تصرفه.
ويقع المكره تحت طائلة المتسلط عليه المهدد له بإلحاق ضرر بحياته أو حياة أبنائه أو عرضه أو ماله، كالتهديد بقتله أو قتل أحد أبنائه أو اغتصاب زوجته أو ابنته، أو اغتصاب ماله.
وليس كل إكراه يجوز للمكره فعل ما أكره عليه، فالذي توعده الصائل بالسجن أو الجلد أو الصفع مكرهًا إياه على وقاع أجنبية لا يواقعها. والذى يهدد بالقتل إن لم يقتل أباه أو أحد الصالحين لا يقتله ولو قتل، وهذا ما تقوله القاعدة الأصولية وهي: الضرر لا يزال بضرر أشد. ومن هذا الأشد أن الضرر الخاص لا يدفع بالضرر العام ومثاله: إذا تترس الأعداء بصبيان المسلمين ليمنعونا من رميهم. فإذا رميناهم قتلنا صبياننا بأيدينا، وإذا تركنا الرمي استولى علينا الأعداء وقهرونا. فلا نترك الرمي ولا نستسلم لحيلة الأعداء، ولا نضحي بمصلحة الأمة وبعزتها ومنعتها وهي مصلحة عامة، ابتغاء مصلحة خاصة لا تمس إلا عددًا من الأنفار، فالواجب يقتضينا تحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام.
ويختلف الإكراه عن الضرورة في كونها تبيح الفعل مطلقا بخلاف الإكراه فقد يبيح الفعل وقد لا يبيحه، وإذا ثبتت الإباحة في حال الإكراه (إباحة فعل المكره عليه) فذلك دليل على أن الاضطرار قد تحقق كما بين ذلك العلماء ومنهم البزدوي (1) .
6-
الخطأ: يطلق الخطأ ويراد به ما يقابل العمد، كما في قوله تعالى:{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] وقوله تعالى {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5] وفي الحديث الشريف ((قتل الخطأ ديته عشرون حقة وعشرون جذعة وعشرون........)) الحديث (2) .
وهذا الإطلاق هو مراد الشرع من كلمة الخطأ.
وقد يطلق الخطأ على ما يقابل الصواب، فيقال أخطأ الرامي إذا لم يصب كما يقال للماشي أخطأ طريقه إذا عدل عنها إلى طريق أخرى.
والخطأ مختلف عن النسيان على ما درج عليه أهل التحقيق، يدل عليه عطف أحدهما على الآخر في حديث:((رفع عن أمتي الخطأ والنسيان..)) إذ العطف يقتضي المغايرة، فلا يعطف الشيء ذاته على نفسه.
والفرق بين الخطأ والنسيان على رأي من يقول بالفرق هو أن الخطأ يمكن الاحتراز منه بالتوقف والتثبت، بخلاف النسيان فهو خارج عن طاقة الناس فلا يقال لصياد رمى فريسة فأصاب إنسانًا إنه نسي، بل يقال أخطأ. وبخلاف ذلك، قد يطلق على من أكل ناسيا صيامه أنه أكل مخطئًا.
(1) انظر: كشف الأسرار على أصول البزدوي، ومعه نور الأنوار. ط. مكتب الصنايع 1307هـ وانظر الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 282، ففيه فوائد عن أحكام الإكراه
(2)
رواه أبو داود، انظر كتاب الديات عدد 4545. ومثله الترمذي
فالفرق بين الخطأ والنسيان قائم، والتداخل موجود بإطلاق المخطئ على الناسي أحيانًا.
والخطأ سواء كان في الفعل أو القصد معدود من أسباب الترخيص مثل: من قتل خطأ فلا قصاص عليه، وعليه الدية جبرًا للضرر، وعليه الكفارة جزاء للتقصير.
- ومن وطئ امرأة خطأ ظانا أنها زوجته فلا حد ولا إثم عليه.
- ومن شرب لبنا لم يعبأ بحموضته فأسكره فلا حد ولا إثم عليه.
- من أكل بعد الفجر خطأ في تقدير الوقت لا إثم عليه، ويقضي يومه عند الحنفية أيضا لأنه مقصر، وإذا أكل ناسيا فقد أطعمه الله وليس عليه قضاء عندهم.
ومما سلف يتبين أن الخطأ مسقط لإثم الاعتداء وللحد وهما حق لله تعالى ولا يسقط حق العباد، وما أتلف خطأ من أموالهم للقاعدة المعلومة: العمد والخطأ في أموال الناس سواء. فمن أحرق مال غيره خطأ أو أفسده، ضمن ما أتلف دون عقوبة ما لم يتهاون تهاونًا واضحًا ومثل حق العباد لا يسقط بالخطأ ما كان دائرا بين العبادة والعقوبة مثل الكفارات التي تترتب عليه ككفارة القتل الخطأ.
7 -
الجهل: هو عدم العلم عمن من شأنه العلم.
والجهل على قسمين بحسب شعور صاحبه.
أ – جهل بسيط: لا يشعر صاحبه بشيء يخالف ما هو عليه في الواقع.
ب- جهل مركب: يقارن صاحبه شعور بنقيض ما هو عليه في الواقع.
وينقسم الجهل البسيط – عند المالكية ومن تبعهم – إلى قسمين:
القسم الأول: جهل معفو عنه شرعًا وهو الجهل الذي يتعذر الاحتراز عنه عادة.
المثال:
- جهل الإنسان بنجاسة الأطعمة والأشربة أو طهارتها، معفو عنه، وتحمل هذه الأشياء على الأصل، والأصل هو الطهارة.
- جهل الإنسان كذلك بحال ثوبه ومكانه وبدنه معفو عنه شرعًا ويحمل الأمر على الطهارة لأن الأصل في الأشياء الطهارة.
- من شرب نقيع فاكهة أو عصير ثمر على أنه طيب فتبين بعد شربه أنه تخمر، وهو يجهل ذلك، لا إثم عليه ولو أسكره.
- إذا حكم القاضي استنادًا إلى شهادة عدلين يجهل أنهما قد شهدا شهادة زور فلا إثم عليه.
- وكذلك لا إثم على من قتل مسلمًا في صفوف الكفار يظنه حربيًا.
وفروع هذا الباب كثيرة أفاض كل من القرافي والشاطبي في تعدادها.
القسم الثانى: جهل لا يعذر فيه صاحبه، لأنه تقصير، وضرب من التخلي عن الواجب، وضابطه: كل ما لا يمكن للمسلم تركه والاستغناء عنه، ولا مشقة في علمه، من أحكام الديانة والشريعة التي تتصل بحياته العادية. مثل مسائل العقيدة التي لا تخفى على عامة الناس، ومثل ضروريات العبادة وجملة الأحكام التي تتوقف عليها، من صلاة وزكاة وصوم وحج، ومثل ضروريات التعامل وما يحل منها وما يحرم في الجملة.
وبالجملة فإن الإنسان لا يعذر بجهله في كل ما يرجع إلى القضايا والأحكام الداخلة تحت القسم الأول من أقسام العلم، وهو العلم الواجب وجوبًا عينيًا، والذي يقتضي معرفة كافية بضرورات الحياة سواء منها الراجع للمعتقد أو للعبادة أو للتعامل.
وقسم الحنفية الجهل إلى أربعة أقسام باعتبار كونه يصلح عذرًا أو لا يصلح:
الأول: جهل ممقوت لا يعذر به صاحبه، ومن هذا الصنف:
- جهل الكافر بصفات الله تعالى، وبأحكام الآخرة بإجمال؛ لا يعذر به صاحبه في الآخرة، وإن درأ عنه القتل في الدنيا، وجاز قبوله في أهل الذمة.
- جهل الباغي مرفوض حتى يسترد منه ما أتلف أو اغتصب.
- جهل من خالف في اجتهاده صريح الكتاب والسنة، وإجماع الأمة والقياس الجلي
الثاني: جهل يصلح عذرًا باعتبار ما فيه من شبهة، مثال هذا الصنف من وطئ جارية أبيه، أو نكح زوجته من بعده، ظانا أنهما تحلان له.
الثالث: جهل يكون عذرًا لصاحبه، ومثاله: من أسلم من كفار دار الحرب، وبقي حيث هو ولم يقدر على الهجرة لدار الإسلام، فترك العديد من الواجبات لجهله بها، فإنه يعذر ولا إثم عليه.
الرابع: ملحق بما تقدم في قبوله عذرا لصاحبه، مثل جهل الشفيع بوقوع البيع أو بحقه في الشفعة جهل الأمة بوقوع العتق وجهل البكر بأن وليها قد أنكحها. إلى غير ذلك من الأمثلة والفروع التي أفاضت فيها كتب الفتاوى.
8-
النسيان أو السهو: من نسي الشيء أو سها عنه، بمعنى أنه لم يتذكره وقت الحاجة. والظاهر أن النسيان والسهو مترادفان في المدلول المراد منهما عند الأصوليين، خلافًا لمن زعم أن بينهما فرقًا. وقد اتفق العلماء على أن النسيان أو السهو مسقط للإثم مطلقًا لحديث ثوبان رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال:((رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)) (1) .
فقد دل الحديث على رفع حكم النسيان، وهذا الحكم مشترك لأنه إما أخروي وإما دنيوي، والأخروي مراد به الإثم، والدنيوي مراد به الفساد أو البطلان.
والظاهر أن الحكم الأخروي وهو الإثم مرتفع عمن نسي واجبًا أو ترك مأمورًا لم يفعله، وإلى هذا الحكم ينصرف الفهم للحديث. وأما الحكم الدنيوي المتمثل فيما يفعل بالواجب المنسي؛ فليس في الحديث ما يفيد إسقاط هذا الواجب على العموم، ولذا وجب القضاء لتبرأ الذمة، إلا ما أفاده النص على خلاف ذلك، كمن أكل ناسيًا في رمضان فلا قضاء فيه عند أبي حنيفة خلافًا لمالك الذي يوجب القضاء وإنما أخذ أبو حنيفة في قوله بعدم قضاء المفطر ناسيًا يومه، بما جاء في الحديث نفسه من قوله صلى الله عليه وسلم: ((
…
فليتم صيامه، فإنما أطعمه الله وسقاه)) (2) . وإطعام الله الذي لا دخل للصائم فيه لا يفسد الصيام وحينئذ لا قضاء.
(1) رواه الطبراني عن ثوبان: كما أخرجه أبو داود وابن ماجه وابن حبان وأبو نعيم في الحلية.
(2)
تقدم الحديث في النوع الأول (تخفيف الإسقاط) من التقسيم الرابع، باعتبار أنواع التخفيف
والحاصل أن النسيان والسهو سبب من أسباب التخفيف ورفع الحرج والترخيص للمكلف، وذلك برفع الإثم أخرويًا، وبالقضاء متى ذكر، تبرئة للذمة دنيويا ولا يلزم القضاء فيما أفاد الشارع أنه لم يلحقه فساد، كما في أكل الصائم أو شربه عند أبي حنيفة، وفيما وقته الشارع من العبادات وجعله يفوت بفوات وقته كالجمعة والعيدين والجماعة والخسوف والكسوف، والصلاة على الجنازة، ولا يلزم القضاء كذلك على من نسي بعض الحقوق التي لا يمكن تداركها كإسكان من يجب إسكانه من القرابة مثل الأبوين بل الآباء والأبناء والزوجات، فلا إثم ولا ضمان في مثل هذا النسيان.
9-
النقص: هو نوع من المشقة، فاقتضى التخفيف.
والنقص أنواع:
(1)
نقص بدني
1-
حقيقى: أ – أمراض. ب – عاهات.
2-
نسبي: أ – نقص عاطفي. ب – نقص عقلى.
(2)
نقص مالي.
(3)
نقص اجتماعي.
(1)
– النقص البدني منه:
1-
الحقيقي ويشمل:
أ – الأمراض العارضة منفكة كانت أو مزمنة وقد تعرضنا لها في السبب الرابع من أسباب الرخص.
ب- أنقاص وعاهات متفاوتة الاستدامة مثل: الصبا، الجنون، الصرع أو الإغماء، الشلل، البله، وغيرها.
كما استوجب المرض العارض – كما أسلفنا – إسقاطًا لبعض الواجبات وتخفيفًا من أخرى؛ كذلك تستوجب الأنقاص والعاهات – من باب أولى – الإسقاط أو التخفيف من الواجبات التي تشق.
فالصبا عائق عن التكليف حتى يبلغ الصبي بالنسبة للعبادات، وحتى يرشد بالنسبة للمعاملات المالية، ولا يكتفى بالبلوغ وحده، إذ قد يحصل متقدما بحسب المناخ وخصوبة الأبدان، ولا يكون معه رشد كاف.
- والصبا موجب لإيكال حضانة الصبي وتربيته إلى النساء الأولى فالأولى على قدر حنوهن عليه، فتقدم الأمهات، ثم الجدات، ثم الخالات، ثم العمات، ثم الأخوات.
- والصبا قاض بحفظ مال الصبي، فيوضع تحت يد وليه أو حاجره الذي يعينه القاضي.
- والصبا أسقط عن الصبي أن يتوجه إليه التكليف – كما قلنا – بالمأمورات أو المنهيات، وحينئذ لم يترتب عليه عقاب أو قصاص وعد عمده خطأ، وأسقط عنه قضاء العبادة إن أراد القيام بها وفاتته، ولا فدية ولا جزاء عليه في الحج، ولا يدخل – مثل المجنون- في قسامة ولا عاقلة، وقال أبو حنيفة بعدم حرمانه من الميراث إذا قتل مورثه، ولا يحرم عليه ما يحرم على البالغ من نظر إلى أجنبية أو خلوة بها، قال تعالى:{أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور: 31] ولا تسقط الزكاة عن الصبي في ماله، لأنها واجبة في ذات المال دون اعتبار لصاحبه، ويتولى وليه إخراجها عنه.
والجنون قسمه العلماء إلى قسمين: مطبق (وهو الممتد المستغرق للوقت كله) وعارض أو طارئ (لا يستغرق الوقت كله) .
ولا خلاف بين العلماء أن المجنون جنونًا مطبقًا هو مثل الصبي مرفوع عنه التكليف فليست له استطاعة وليست له أهلية التصرف، ويمكن أن تكون له أموال وتجب فيها الزكاة يخرجها عنه وليه، ويرث ويورث، وليس عليه عقوبات بدنية مهما كان سببها وعليه غرم ما أتلف في ماله إن كان له مال أو في مال وليه.
أما المجنون جنونًا طارئا متقطعًا فهو في حكم النائم والمغمى عليه لجامع وجود العذر العارض فقط، والعذر العارض لا ينفي تكليف ووجوب الفعل أو الترك. ويؤدي ما عليه من واجب أداءً إن خلا من العذر، أو قضاء إن فاته وقت الأداء لحديث:((من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها)) (1) وحديث ((رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق)) (2) .
فالقائل بالقضاء على من به جنون عارض غير مستمر، حين يفيق، يقيسه على النائم وعلى الناسي في الحديث الأول.
كما يرى أن الحديث الثانى قد حدد رفع القلم بالاستفاقة، فإذا أفاق نزل القلم وعاد التكليف والمطالبة، وحيث هو معذور في إخراج العبادة عن وقتها لفقد الاستطاعة فليؤدها متى أفاق وعادت الاستطاعة. ويرى بعضهم أنه لا يقضيها بناء على أصل القاعدة في التكليف، وهي تقول: وكل تكليف بشرط العقل، ولا عقل للمجنون، فكيف يقضي ما لم يجب عليه أصلا ويخفف عن كل المصابين بنقص مثل الشلل أو الصرع أو البله على قدر نقصهم، وبحسب ما يجدون من مشقة وعسر.
(1) حديث أنس رضي الله عنه رواه الخمسة بألفاظ متقاربة. انظر: التاج: أعذار الصلاة 1 /147 (التاج الجامع للأصول ط. دار التراث العربي – 1381 / 1961 بيروت)
(2)
أخرجه الإمام أحمد والنسائى وأبو داود والحاكم وصححه، انظر: التاج: الباب الثالث في شروط الصلاة: 1/ 151
2-
النقص البدني النسبي ويشمل:
أ – النقص العاطفي: وهو نقص يتصف به جنس الرجال فعواطفهم أنقص إذا ما قيست بعقولهم على الجملة، وإذا ما قيست كذلك بعواطف النساء، وهي حكمة إلهية ليحصل التكامل بين الجنسين.
وقد استوجب هذا النقص العاطفي عند الرجل أن يخفف عنه وتتقدم عليه المرأة في الحضانة وفي التربية الأولى للأبناء، وفي التمريض سواء في حالة السلم أو في حالة الحرب، وفي التعليم، وفي سائر الأعمال التي تتطلب الأناة والدقة والصبر، ولذا اعتبرت الأم هي المدرسة الأولى، ولم يذكر أحد الأب، وذهب حكمة وحكمًا صادقًا قول من قال:
والأم مدرسة إذا أعددتها
أعددت شعبًا يطب الأعراق.
ب- النقص العقلي: وهو نقص تتصف به المرأة عادة بحكم طغيان عاطفتها مما يحجب لديها في أغلب الأحيان منطق العقل وقوانينه، ومن أجل هذا النقص العقلي النسبي لدى المرأة خفف عنها في جميع الأعمال التي تستدعي العقل واستبعاد التأثير العاطفي كالولاية على اختلاف مراتبها باستثناء ما يقوم منها على العاطفة ولا يصلح إلا بها مثل رعاية الطفولة والتعليم والتمريض، وحماية الشيخوخة، وإعانة المحتاجين، ولم شتات الأسرة تحت جناحيها، لأنها – كما هو الواقع – هي التي تجمع إن شاءت وهي التي تفرق إن صممت.
فقد حط عنها الجهاد والقضاء والإمامة، وكل ولاية أو عمل تفسده العاطفة.
وترك لها المجال فسيحًا في التصرف المالي والأسري والاجتماعي، مع تحذيرها من مخاطر سلاح العاطفة الذي تمتلكه وتتفوق به وتتغلب، لأنه قد يستعمل ضدها فتؤسر به وتقهر، وينال من شرفها وعرضها ومكانتها بين الناس، لذا جاءت أحكام الشريعة لتحميها من ذئاب المجتمع، فحرمت النظر إليها نظرة غير بريئة، وحرمت على الأجنبي عنها (غير المحرم) أن يختلي بها، لأن الغواني يغرهن الثناء، وعند الثناء والإغراء يغيب العقل، وتلتهب العاطفة، فتقع المرأة ضحية بين مخالب الذئب الشره.
ومن العجيب أن هذه الحماية من الشرع الإسلامي لشرف المرأة ومكانتها وعرضها صورها بعض الجهلة والمغرضين وأنصار الحيوانية الجنسية في صور تقييد للمرأة واعتداء على حريتها ونيل من حقوقها كإنسان.
والحاصل أن الله تعالى الذي خلق الذكر والأنثى ليحصل بهما التكامل وعمران الكون، قد أودع في الأول كمالا عقليا ونقصًا عاطفيا (في حدود النسبية طبعًا) وأودع في الثاني كمالاً عاطفيًا ونقصًا عقليًا، وهذه التركيبة الخلقية لا دخل ولا مشيئة فيها لأحد، وإنما هي مشيئة الخالق البارئ دون سواه.
وقد خلق تعالى العقل وجعله هاديًا ومنيرًا، وأوجب تقويته بالعلم، وأمر بالاعتماد عليه في سائر الأمور، لأنه كلما قوي ازداد نفعه وقلت عثراته، وأودعه في الرجل والمرأة على السواء، وأناط به التكليف، ووظفه لعمل الخير، وفعل الصالحات، فهو النصوح والمرشد إذا لم تغيبه المغيبات التي منها طغيان العاطفة. وخلق الله تعالى العاطفة وأناط بها علاقة الذكر بالأنثى، وتواصل التناسل، وحمايته الذات من الألم، وحسن ارتباطها بالأصول والفروع، فجعل لها مزايا، وجعل بطلتها المرأة. وجعل لها مخاطر كالسكين، وحذر من مخاطرها التي تكثر عند المرأة.
(2)
النقص المالي: وهو الإعسار والعجز عن أداء الحقوق المالية. وصاحب هذه النقص سماه القرآن: ذو عسرة، فقال تعالى:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280] .
والإعسار المالي عذر شرعي له أثره في تخفيف الأحكام على المعسر والمفلس.
وفي بيان من هو العسر اختلفت أنظار الفقهاء:
فمنهم من قال: هو الذي يحل له أن يأخذ الصدقة ولا تجب عليه الزكاة، ومنهم من قال: هو الذي يستحق أن يعان ولو من مال الصدقة لأنه لا مال له ولو كانت له دار يمتلكها.
والفلس: هو عدم المال. وللتفليس أحكام مبسوطة في كتب الفروع تحوم كلها أو جلها حول استرداد حق الغير. مع وصية القرآن والسنة في الرفق بالمعسر والتخفيف عنه، وندب الشارع العزيز التصدق عليه بما تخلف في ذمته وعجز عن أدائه. قال تعالى:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 280] . وجاء في السنة الصحيحة قوله صلى الله عليه وسلم: ((من أنظر معسرًا أو وضع عنه أظله الله في ظله)) . (1) . وقوله صلى الله عليه وسلم ((من نفس عن غريمه أو محا عنه، كان في ظل العرش يوم القيامة)) (2) . والأحاديث في هذا الباب عديدة ومن طرق متعددة.
وقد اعتبرت الشريعة الإعسار المالي عذرًا يجلب التخفيف للمعسر فيما عليه من حقوق مالية أوجبها الله سواء كانت عبادة: كالزكاة وزكاة الفطر، والحج، والأضحية ونفقة الجهاد.
- أو كانت عقوبة مثل: الكفارات، الدية.
- أو كانت عوضًا عن غير مال مثل: النفقات الواجبة، نفقات الصلة على الأقارب، أجرة الإرضاع والحضانة، الصداق.
والتخفيف في هذه الواجبات المالية يكون بالإسقاط فيما تمحض الحق فيه لله تعالى مثل العبادات: كالزكاة، والحج، والأضحية؛ ومثل الواجبات المشروطة باليسار كالنفقة الواجبة لغير الزوجة، ويكون بالإنظار والتأجيل فيما هو حق للعباد مثل حق الزوجة في صداقها، وفي نفقتها ولو فيما مضى.
(3)
– النقص الاجتماعي: المراد به وضع مخصوص كوضع الأرقاء وما يفرض عليهم من أن يكون في خدمة المالكين لرقابهم بإزاء ما هو مفروض عليهم من واجبات شرعية قد يشق عليهم تأديتها كالأحرار الذين قدروا عليها لأنهم يملكون أنفسهم ويتصرفون في أوقاتهم.
(1) حديث عبادة بن الصامت، أخرجه مسلم في الزهد.
(2)
حديث أبي قتادة، رواه أحمد ومسلم. انظر ذخائر المواريث: عدد 8079.
من أجل ذلك حط عن العبيد كثير من الواجبات مثل: الجمعة، والعيدين، والجماعة، والاعتكاف، والشهادة والولاية، والزكاة، والحج، والعمرة، والأضحية؛ كما حط عنهم نصف العقاب إذا ما ارتكبوا ما يوجب العقاب.
(10)
– العسر وعموم البلوى: المراد بالعسر الصعوبة، كما في الإتيان بالمأمورات من مشقة، وكذلك الحال في الإمساك عن المنهيات.
ومن القواعد الكلية في التشريع الإسلامي " المشقة تجلب التيسير " وهي قاعدة متأصلة في أحكام الشرع الإسلامي يدل على تأصيلها قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] ويقول القرافي في إحدى قواعده: " كل مأمور يشق على العباد فعله، سقط الأمر به، وكل منهي شق عليهم اجتنابه سقط النهي عنه " وجاء في كلام خليل الفقيه المالكي: " وعفي عما يعسر ".
كما جاء في كلام ابن نجيم النظار الحنفي، في مساق التنويه بالقاعدة الكلية الآنفة الذكر:" قال العلماء: يتخرج على هذه القاعدة جميع رخص الشرع وتخفيفاته "(1) .
وليست كل المشاق جالبة للتيسير، ولا كل ما عمت به البلوى يسمح به ويقتضي التخفيف.
ومن هنا جاء البحث في أنواع المشقة وتحديد ما يكون منها مؤثرًا ومقتضيًا للتخفيف والترخيص، فقالوا: المشاق على ثلاث مراتب، وهذه المراتب هي التي تكون في المشقة غير الملازمة للعبادة غالبًا، وهي التي يعنيها العلماء باسم مشقة ويقسمونها إلى المراتب المذكورة.
أما المشقة التي تلازم العبادة ولا تنفك عنها، وهي مدخول عليها في مفهوم التكليف، لأنها في دائرة الاستطاعة ومن ضرورة الحركة والعمل لتحقيق الامتثال والطاعة.
- كمشقة البرد في الطهارة (دون خوف ضرر كحدوث مرض) .
- ومشقة الجوع للصائم العادي.
- ومشقة السفر للحج والجهاد.
ويلحق بهذا: المشقة المقصودة للشارع في القصاص من الجناة وإقامة الحد على العصاة.
فكل هذه المشاق الملازمة لا أثر لها في إسقاط العبادة ولا في ترك ما حتمه الشرع في كل الأوقات.
(1) الأشباه والنظائر: ص 75 (ط. دار الهلال – بيروت 1400هـ / 1980م) .
أما المشقة المرادة بهذه التسمية لدى العلماء فهي – كما قلنا – على ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى: المشقة البينة الواضحة لأنها عظيمة فادحة، مثالها: مشقة الخوف على النفس، أو على البدن ومنافع الأعضاء فهذه وما شابهها من كل مشقة تنال من سلامة الكليات الخمس (في الجملة) توجب التخفيف على وجه من الوجوه.
المرتبة الثانية: المشقة الخفيفة كوجع في إصبع أو صداع خفيف، وسوء مزاج، فهذه لا يعتد بها، لأن تحصيل المصالح التي أناطها الشارع بالمأمورات أولى من دفع هذه المفسدة البسيطة المتمثلة في المشقة الخفيفة.
المرتبة الثالثة: المشقة المترددة بين الشديدة والخفيفة: مثالها: المريض في رمضان يكون الترخيص والإفطار بحسب ما غلب على ظنه، فإن خاف زيادة المرض أو تأخير البرء أفطر وإلا فلا.
وكذا المتيمم من أجل المرض بنفس التفصيل ويعتبر في كل إنسان ما يعرفه من أحوال بدونه وما يشير به الأطباء الثقات.
فائدة:
المشقة التي لا يعتد بها، ولا يجري عليها حكم القاعدة الكلية المتقدمة وهي:" المشقة تجلب التيسير ".
1-
المشقة الملازمة وهي المقصودة في ضمن العمل المكلف به.
2-
المشقة الخفيفة التي لا يقام لها وزن لدى العقلاء عادة.
3-
المشقة التي يعارضها نص لا يكون بها تخفيف لأن المصلحة الحقيقية في إعمال النص، كالنهي عن قطع شجر الحرم المكي وعن رعي حشيشه إلا الإذخر (استثني لحاجة التطيب به) .
ومن ذلك الحكم بتغليظ نجاسة الأرواث للنص الوارد، الذي يرويه البخاري وغيره، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:((إنها ركس)) " أي نجس " وكذلك التنصيص على نجاسة بول الإنسان.
فهذه المسائل وأمثالها، وإن كانت فيها مشقة وعمت بها البلوى، لا يعفى عنها لمعارضة النص، وتكون مستثناة من عموم القاعدة الكلية التي هي:" المشقة تجلب التيسير ".
وأما عموم البلوى فيكون في أمور العبادة، كما يكون في قضايا التعامل بين الناس، بحيث لو أخذ بأصل الحكم فيها لأدى إلى المشقة والعسر، أو إلى تعطيل المصالح وهو نوع من المشقة أيضا.
وليس كل ما عمت به البلوى يجلب التيسير والتخفيف، فشرب الخمر المعدود من أكبر البلايا على النطاق العالمي قديمًا وحديثًا، ولا مشقة في حرمته وتركه لوضوح المفسدة فيه، والتعامل بالربا هو أيضا قد عمت به البلوى عالميا، ولكنها بلوى لا ينظر إليها، ولا تجلب الترخيص لمعارضة النص، وتحقق المفسدة.
- مثال لعموم البلوى في العبادة وما يترتب على ذلك من إعفاء وترخيص:
- السلس معفو عنه لمشقة تجديد الوضوء لكل صلاة أو تجديده مرات للصلاة الواحدة، وقد يطلق عليه: نجاسة المعذور التي كلما غسلها خرجت.
- دم البراغيث والبق في الثوب قدر رؤوس الإبر.
- طين الشوارع.
- ما يصيب الثياب المبتلة من ريح وفساء كالسراويل، وما يصيب الثياب الجافة من بخارات النجاسة.
- المسك وإن كان أصله دمًا.
- ما تبقى من نجاسة بعد الاستنجاء بالحجارة (وهو الاستجمار) لأن هذا الاستجمار لا يحصل به النقاء الكامل، بدليل أن صاحبه لو نزل في ماء طاهر نجسه.
- المسح على الخفين في الحضر بدل نزعه في كل وضوء، ولا مسح مع الغسل لعدم تكراره مثل الوضوء.
- مس المصحف للمتعلم والمعلم.
- التنقل على الدابة خارج المصر.
- الماء المتغير لطول المكث أو الطين أو طحلب، ولكل ما يعسر صون الماء عنه.
- ذيل المرأة يستطال للستر، والأصل فيه حديث أم سلمة رضي الله عنها لما سألته صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال:((يطهره ما بعده)) وهو راجع على العموم لنجاسات الطرقات التي لا يمكن الاحتراز عنها.
- ما يبتلعه الصائم من غبار الطريق، والطحان من غبار الدقيق.
- ما يخرج قسرًا من قيء لا يرجع الصائم منه شيئًا.
مثال لعموم البلوى في المعاملات، وما يترتب على ذلك من إعفاء وترخيص:
- لبس الحرير للحكة، والذهب لتعويض سن أو ضرس.
- بيع ما ليس حاضرًا، بل على الوصف في الذمة وهو السلم، جوز تيسيرًا، ودفعًا لحاجة المفاليس.
- الاكتفاء برؤية ظاهر الصبرة أو الأنموذج، ومشروعية خيار الشرط لمشتري.
- فتوى المتأخرين بخيار الرد من أجل الغبن الفاحش.
- الترخيص في القرض والشركة والإجارة والمزارعة والمساقاة والإقالة والحوالة والرهن والضمان والإبراء والصلح والحجر والوكالة لحاجة الناس والتيسير عليهم في أمر معاشهم، ولعظم المشقة في أن كل واحد لا ينتفع إلا بما هو ملكه، ولا يستوفي إلا ممن عليه حقه، ولا يأخذه إلا بكماله، ولا يتعاطى أموره إلا بنفسه ومن هنا جاء رفع المشقة، وتيسير الأمر على الناس وتسهيل معاشهم؛ بإباحة الانتفاع بملك الغير بطريق الإجارة والإعارة والقرض.
- وبالاستعانة بالغير عن طريق الوكالة والجعل والوديعة والمضاربة والمساقاة.
- وبالاستيفاء من غير من عليه الدين وهو المدين عن طريق الحوالة.
- وبالتوثيق على الدين بالرهن والكفيل.
- وبالتخلي عن بعض الدين عن طريق الصلح، أو عن كل الدين عن طريق الإبراء.
- الترخيص في النظر للأجنبية للطبيب، والقاضي والشاهد والخطيب.
- جواز النكاح من غير نظر للمرأة، لما في اشتراط النظر من مشقة لا يتحملها كثير من الناس في بناتهم وأخواتهم، وبناء على هذا جاءت المفارقة بين النكاح والبيع، فلا يرد النكاح بخيار الرؤية بخلاف البيع.
- جواز حل رباط الزوجية بالطلاق لما في استمرار هذه الزوجية من مشقة معاناة التنافر، ومثل الطلاق الخلع والافتداء.
- إسقاط الإثم عن المجتهد إذا أخطأ، اكتفاء منه بغلبة الظن، ولو كلف باليقين لشق الأمر وعسر الوصول إليه.
- وبالجملة فالرخص في الفروع التي سببها العسر وعموم البلوى لا تدخل تحت حصر لتفرقها في أبواب كثيرة من كتب الفروع، والقواعد، والسياسة الشرعية، وكتب الأشباه والنظائر والمرجع في الترخيص والتخفيف يكون دائما بالنظر إلى ما فيه مصلحة المسلمين المعتبرة شرعًا والتي لا تخالف مقصدًا شرعيا ثابتًا، ورفع المشقة معتبر في الشريعة اعتبار المصلحة ذاتها، بل من المصلحة رفع الحرج والضيق حسب قاعدة " إن الأمر إذا ضاق اتسع " واعتبار سير حياة الناس وأعرافهم، وما عمت به البلوى في محيطهم دون هتك للأصول الدينية، وعندئذ نلوذ بما يسر الله وما خفف عنا مما تشمله قاعدة " ما عمت بليته خفت قضيته ".
وفي هذا المقام للعز بن عبد السلام في كتابه قواعد الأحكام كلام مهم في المصالح العامة والخاصة المعتبرة شرعًا، ننقل منه ما يلي:
" إن المصلحة العامة كالضرورة الخاصة، ولو دعت الضرورة واحدًا إلى غصب أموال الناس، لجاز له ذلك، بل يجب عليه إذا خاف الهلاك، لجوع أو حر أو برد
…
وإذا وجب هذا لإحياء نفس واحدة، فما الظن بإحياء نفوس؟!
ومثل هذا ما لو عم الباطل البلد، فإن الهجرة تكون واجبة منه، فإذا عم جميع البلدان، تعينت الإقامة في أقلها شرا من حيث الكم والكيف وكذلك لو عم الفسق أهل بلد، أقمنا للشهادة عليهم أصلحهم، وأقلهم فجورًا، ويفعل مثل ذلك بالنسبة للقضاة وغيرهم من الولاة لئلا تضيع مصالح الناس.
ومعلوم أن التكليف مشروط بالإمكان، والعدل في كل زمان بحسبه.
التقسيم السادس: باعتبار كون الرخصة عامة أو خاصة ومطردة أو مؤقتة:
- قد تكون الرخصة خاصة لأفراد، وقد تكون عامة لعموم الأمة.
- وقد تكون مؤقتة أبيحت للضرورة أو الحاجة، فتقدر بقدرها دون تجاوز.
وقد تكون مطردة لا تؤقت لأن حاجة الأمة ومصالحها واجبة الاعتبار على الدوام.
والحاصل من هذا ثلاثة أقسام للرخصة:
الأول – الرخصة المؤقتة: وهي العارضة للأفراد في حال الضرورة أو الحاجة أو لحدوث المشقة.
وهذا القسم هو الذي خصه الفقهاء بالعناية وضربوا له عديد الأمثلة منها:
- حلية أكل الميتة للمضطر.
- إباحة الإفطار للمريض والمسافر.
- المسح على الخفين بشرطه للمتوضئ.
الثاني – رخص عامة مطردة: وتشمل التشريعات العامة المستثناة من أصول ممنوعة.
المثال: السلم، المساقاة، المغارسة، الجعل، الإجارة، وغيرها من العقود التي أسلفنا ذكرها قريبا فيما عمت به البلوى، والتي رخص فيها الشارع دفعا للحرج وتيسيرًا للمصلحة، وإن كانت هذه العقود راجعة في الأصل إلى حكم المنع لما فيها من غرر وجهالة، ولكن مصالحها أعظم وأجدر بالاعتبار.
وما نسميه هنا بالرخص العامة المطردة، يسميه الشافعية بالرخص المباحة، ويسميه الحنفية بالرخص المجازية.
الثالث – رخص عامة مؤقتة: وهي عبارة عما يعرض للأمة، أو لطائفة منها، من ضرورة تستدعي إباحة الفعل الممنوع لتحقيق مقصد شرعي معتبر يتصل بسلامة الأمة، أو بالحفاظ على قوتها ومنعتها.
ومن المسلم أن اعتبار هذه الضرورة العامة أجدر من اعتبار ضرورة خاصة، لا تعني سوى فرد أو أفراد قلائل.
المثال: تترس الأعداء بأسرى المسلمين، لإيقاعنا في محظور قتل أبنائنا إن رميناهم، وفي محظور أشد إن أمسكنا عن رميهم وهو الهزيمة والوقيعة بالمسلمين وإذلالهم، لذا فإننا نرميهم وننصر الله لينصرنا، فهي رخصة للأمة في كيفية تصرف جيشها تقدر بقدر الضرورة.
- ما أفتي به من كراء الوقف كراء مؤبدًا عندما زهد الناس في كراء أراضيه وغرسها والبناء فيها لقصر المدة التي جرت بها العادة، كما أفتى بذلك ابن السراج وابن منظور من علماء الأندلس في القرن التاسع الهجري، وتبعهم من مصر في القرن الموالي منهم ناصر الدين اللقاني.
يقول شيخ الإسلام محمد الطاهر ابن عاشور:
" وقد يطرأ من الضرورات ما هو أشد من ذلك فالواجب رعيه وإعطاؤه ما يناسبه من الأحكام، وفي قواعد عز الدين بن عبد السلام في أواخر قاعدة المستثنيات من القواعد الشرعية في المعاوضات: (لو عم الحرام الأرض بحيث لا يوجد حلال جاز أن يستعمل من ذلك ما تدعو إليه الحاجات ولا يقف تحليل ذلك [أي جعله حلالا] على الضرورات، لأنه لو وقف عليها لأدى إلى ضعف العباد، واستيلاء العدو على البلاد، ولانقطع الناس عن الحرف والصنائع التي تقوم بالمصالح
…
) وهذا مقام راعاه المجتهدون في تصاريف استنباطهم، ودونوا منه وابتعدوا في مختلف أقوالهم بحسب الأدلة المتعارضة وغير ذلك " (1) .
وهذا التقسيم هو الذي حفل به الشيخ ابن عاشور وفضله وإن غفل عنه جل المتقدمين (2) .
(1) مقاصد الشريعة الإسلامية: ص 126
(2)
المصدر نفسه: ص 124
ضوابط الأخذ بالرخصة
حتى يكون الأخذ بالرخصة مفيدًا ومعينًا للمسلم على التمسك بدينه منتهيًا عن النواهي وآتيًا من الأوامر ما يستطيع كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، لابد من وضع هذه الرخصة في دائرة ما نحن مطالبون به، وبالمقدار المحدد دون إقلال المتشددين ولا إكثار المتساهلين.
ولو شخصنا الرخصة تشخيصًا ماديًا لوجدناها أشبه بالملح الذي هو أحد مصلحات الطعام، فلا يجوز الإعراض عن الملح لأن في ذلك تعريض الجسم للهزال والسقم، كما يعرض من يشاد الدين – بترك الرخص – إلى أن يغلب ويعجز كما لا يجوز الإكثار من الملح كي لا ينقلب مفسدًا للطعام، كما يوشك المكثر من الترخص بمجرد الوهم أن يفسد دينه بالتخلي عن الواجبات والتحلل منها.
لذا تعين – لصحة الأخذ بالرخصة – أن نأخذ بالاعتبارات التالية:
أ- ضرورة الوقوف على حقيقة الرخصة باعتبار أنها تشريع من الله تعالى ومنحة منه ورحمة بعباده، يصح الأخذ بها، ولا يجوز الإعراض عنها لأنها قد تتعين فيصير الأخذ بها واجبًا كما أسلفنا، وقد تندب فيصير الآخذ بها أفضل وأكثر ثوابًا من الآخذ بالعزيمة، ولقد علم الذين يلوذون برحمة ربهم أنه لن ينجو أحد بعمله – كما أخبر صلى الله عليه وسلم – ولكن النجاة إذا تغمدهم الله تعالى برحمته.
ب- الالتزام بحدود الرخصة كما بينها الفقهاء والأصوليون في تعريفاتهم التي أسلفنا الحديث فيها، وبذلك يتميز المسلك السليم لمن رام أو لمن تعين عليه الأخذ بالرخصة.
جـ- بالوقوف على الأسباب المسوغة لترك العزيمة والداعية للانتقال إلى الرخصة، وهي عبارة عن الضوابط الحقيقية للأخذ بالرخصة، شأن السبب الذي يلزم من وجوده الوجود – كما هو معلوم – ومن عدمه العدم.
وقد أوصلنا هذه الأسباب إلى عشرة عدا، وهي المذكورة – فيما تقدم – في مبحث: التقسيم الخامس للرخصة باعتبار أسبابها.
وتكاد لا تخرج ضوابط الرخصة عن حدودها وأسبابها التي لتفاوت بعض الرخص نزلت منزلة العلة.
د- بمعرفة القيود التي لا تخرج الرخصة عن كونها حكمًا شرعيًا يتعبد به كما يتعبد بالعزيمة، وعن كونها مقصدًا شرعيًا شرع لجلب المصالح ودرء المفاسد مثل العزيمة ومن هذه القيود:
1-
نية التعبد والتقرب بالرخصة والإخلاص فيها لله تعالى دون سواه، لأن السنة المطهرة قد بينت أن من كان مريضًا أو مسافرًا فترك ما كان عليه من عبادة، فله مثل أجر ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا.
2-
عدم اتباع الهوى والتشهي في الأخذ بالرخصة: حتى لا يصبح الإنسان متحللا من دينه، خارجًا عن ربقة التكليف والعياذ بالله.
3-
الوقوف بالرخصة عند حد الضرورة، وما أبيح للضرورة يقدر بقدرها، دون تجاوز، ودون تعسف.
4-
اللجوء إلى الرخصة والاعتداد بها باعتبار أنها تيسر على المكلف القيام بالواجب، وليست طريقًا للتحلل من أحكام الشريعة ولا للتحيل على أحكامها، ولا لتغيير ما جاء فيها من ثوابت أنيطت بها مصالح العباد والبلاد.
تتبع الرخص
الرخصة في هذا المبحث ليست هي الرخصة الاصطلاحية التي ترجع إليها كل الأبحاث السالفة لحد هذا، أعني ليست الرخصة التي تقابل العزيمة، باعتبار أنها من تقاسيم الحكم الشرعي لدى أغلب الأصوليين وليست الرخصة التي لا جدال في الأخذ بها لأنها مشروعة بالكتاب والسنة، ومعلومة من الدين بالضرورة، وإنما هي الرخصة بالمدلول اللغوي للكلمة، والمراد منها على التحديد: رخص المذاهب الفقهية، وذلك بأن يتتبع لمذهب ما يكون أيسر له وأخف عليه في مذهب إمام آخر غير إمامه فيقلده.
ونحن لا نرى حاجة في نقل أقوال العلماء بنصها في هذا المبحث إذ هي مبسوطة في الكتب، وفي المتناول متى أحببنا الرجوع إليها ولهذا المبحث: تتبع الرخص ومع مبحث التلفيق توجهت عناية المتأخرين، وخص الحديث فيهما بكتاب كالذي وضعه الشيخ محمد سعيد الباني وطبع بمطبعة حكومة دمشق سنة 1341هـ.
غير أنا نرى من الأجدى تقسيم هذه الأقوال بحسب توجهاتها وتعليل المنحى الذي انتحاه أصحابها، حتى لا تستغرب هذه الأقوال من قائليها، ولكل وجهة هو موليها وتحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا
…
تناول العلماء (الأصوليون والفقهاء) هذا المبحث أعني: تتبع الرخص ومثله المبحث الآتي وهو: التلفيق، في غضون كلامهم على التقليد وأحكامه في الغالب.
- هل يجوز للمقلد أن يخرج عن مذهب إمامه الذي قلده؟ منع بعضهم ذلك، واشترط من جوزه: أن لا يفضي أمر انتقاله إلى مذهب آخر إلى الوقوع في ما سماه العلماء بتتبع الرخص في المذاهب.
قال ابن السبكي في متنه: جمع الجوامع: " وأنه يمتنع تتبع الرخص في المذاهب " ونبه الجلال المحلي إلى المراد فقال: " بأن يأخذ من كل منهما [أي من هذه المذاهب] ما هو الأهون فيما يقع من المسائل " وقال البناني في حاشيته معللا لهذا المنع: " وإنما امتنع ذلك لأن التتبع المذكور يحل رباط التكليف، لأنه إنما نبع حينئذ مما تشتهيه نفسه "(1) .
(1) انظر: حاشية البناني على شرح المحلي على جمع الجوامع: 2 /256 (المطبعة الخيرية: ط أولى – مصر 1308هـ) .
رأي العلماء في تتبع الرخص:
للعلماء في هذه المسألة مناح ثلاثة: منهم المانع، ومنهم المجيز، ومنهم القائل بالتفصيل.
1-
المانعون لتتبع الرخص في المذاهب:
هم جماعة من العلماء بين قدامى ومحدثين، منهم النووي والغزالي وغيرهما من الشافعية، ومعظم المالكية والحنابلة.
وإنما منع هؤلاء تتبع الرخص في المذاهب بناء على سد الذرائع حتى لا يكون الناس تبعا لهوى نفوسهم، وحتى لا يؤدى هذا التتبع إلى حل رباط التكليف، والعبث بالديانة.
ويرى المحدثون من العلماء أن فتح الباب لتتبع الرخص يعين المناهضين للإسلام، وهم كثر في الداخل والخارج، على تطويع الشرع لرغباتهم في الانتصار للحضارة المادية المعاصرة التي أحلت الزنا والربا والجنس في أبشع صوره وأقذرها، والخمر والمخدرات والحرابة والغصب و
…
و.... إلخ.
خصوصًا ولم يعد هؤلاء – كما كانوا – يظهرون العداء للإسلام بل غيروا من طرقهم، وصاروا يعلنون مناصرتهم للإسلام، كما يصدعون بتوليهم أمره، وهم يخفون ما لا يظهرون ويسرون ما لا يعلنون {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون: 4] ومن تعليل هؤلاء الحكم المنع الذي اختاروه قولهم:
إن الشرع جاء ينهى عن اتباع الهوى، ويأمر برد ما تنازعتم فيه إلى الله والرسول:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] وقد نقل عن أبي إسحاق المروزي القول بفسق متتبع الرخص بسبب أن عمله مؤد إلى إسقاط التكاليف في كل مسألة مختلف فيها كما نقل ابن عبد البر المالكي وابن حزم الظاهري الإجماع على منع تتبع الرخص في المذاهب.
ولم يتلق العلماء النقلين بالرضى والقبول، بل ناقشوهما كما ناقشوا أصحاب هذا القول بالمنع بأنه لم يأت في الكتاب والسنة ولا في عمل المسلمين منذ عهد الصحابة إلى زمن تدوين المذاهب الفقهية، دليل يفيد لمنع، أو إنكار من منكر.
أقول – وبالله التوفيق -: هذا الرد على المانعين فيه نظر لأن العمل بسد الذرائع واقع، ولأن اتباع التشهي وهوى النفوس من المحظورات التي قام عليها أكثر من دليل، ثم لأن التلاعب بالديانة، وحل رباط التكليف عن طريق أي عمل كان أو يكون، لا أحد يقول بجوازه فهو إجماع وإن لم تجر فيه ترتيبات الإجماع على المنع وهو عمل لا يقدم عليه إلا فاسق، ولا يندفع نحوه المندفعون إلا متأثرين بنزعة الإباحية، وما أكثرهم اليوم في ظل مدنية المال والجنس.
كما لا أعتقد أن هؤلاء العلماء القائلين بالمنع، هم من هواة التشديد على الناس، حاشاهم أن يكونوا مدفوعين بسوى دافع الغيرة على الإسلام والمسلمين، ولو ضمن لهم ضامن أن تتبع الرخص لا يدخله التلاعب وهوى النفس، ولا يفضي أبدًا إلى الإباحية وحل رباط التكاليف الشرعية، ما ركب واحد منهم قاعدة سد الذرائع ولا قال بمنع التتبع للرخص، ولا بتفسيقه من أجل هذا العمل، والله أعلم وأحكم.
2-
المجيزون لتتبع الرخص
هم جماعة من العلماء راعوا قيام الشريعة الإسلامية على مبدأ التيسير والرافة بالمؤمنين كما نظروا إلى العمل الإسلامي منذ عهد الصحابة، فقد كان الناس يسألونهم ويستفتونهم فيما يحدث لهم من القضايا والمسائل، ولا يلتزمون صحابيا دون سواه، ولا يميزون بين فاضل ومفضول: بل يستفتون من شاؤوا كما نظروا إلى عمل الأئمة المجتهدين في كراهتهم حمل الناس على اتباع مذاهبهم، فقد عرض الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور على مالك أن يحمل الناس على كتابه الموطأ فأبى مالك ذلك.
استنادًا إلى هذه المرجحات وإلى غيرها قال جماعة من العلماء بالجواز، منهم الحنفية في الراجح من مذهبهم، ومنهم أغلب أصحاب الشافعي، ومنهم بعض المالكية أمثال الإمام القرافي، وهم يدلون بدليلهم القائم، بل هي أدلة كثيرة أسلفنا ذكرها في مبحث تأصيل الرخصة، ومن هذه الأدلة حديث البخاري عن أم المؤمنين عائشة الصديقة رضي الله تعالى عنها أنها قالت:((ما خير صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا اختار أيسرهما ما لم يكن مأثمًا)) (1) .
قلت: مما لا شك فيه أن هؤلاء القائلين بالجواز تيسيرًا للمقلد على نفسه بتتبع الرخص في المذاهب، لأن مبدأ التيسير مشروع، لا يقولون بجواز هذا التتبع إذا أفسدوا به دينهم، وحلوا به رباط تكليفهم!
حاشاهم أن يقولوا بهذا، وحينئذ هم – عندي – على بساط واحد مع القائلين بالمنع.
(1) وأخرجه الترمذي كذلك بلفظ مقارب.
2-
القائلون بالتفصيل في جواز تتبع الرخص:
القائلون بالتفصيل في قضية تتبع الرخص في المذاهب، هم الذين نظروا إلى مقصد القائلين بالمنع، ومقصد القائلين بالجواز، وذلك حين قالوا – كما هو ملاحظ من خلال أقوالهم وتفصيلاتهم – بما قال به المانعون والمجيزون جميعا، وهو ما نلخصه فيما يأتي:
أ - التصدي لما قد ينجم عن فتح الباب بإطلاق، من عبث بالشريعة أو علم بهوى النفوس، أو إقدام على فك رباط التكليف، وعلى التلاعب والتحيل، وخصوصًا فيما يرجع لحقوق العباد.
ب - الإبقاء على هذا العمل بمقصد التيسير الذي جاءت به الشريعة، وعمل به المسلمون منذ عهد الصحابة دون نكير، ودون مانع لا شرعًا ولا عقلاً.
لذا جاء تفصيلهم تفريقًا بين المقبول والمرفوض من تتبع الرخص، وأحيانا بوضع شرط أو شروط لدرء المحظورات التي قد تنجم عن تتبع الرخص.
* أما الواضعون للشرط تقييدًا للجواز وإخراجًا للمنوع، فمنهم:
- الإمام القرافي من المالكية.
اشترط أن لا يترتب على عمله في تتبع الرخص بطلان عند جميع من قلدهم، مثال ذلك:
متوضئ توضأ دون ذلك (تقليدًا للشافعي) ودون نية (تقليدًا لأبي حنيفة) وصلي بهذا الوضوء بعد أن لمس امرأة دون قصد.
فوضوؤه وصلاته باطلان عند جميع من قلدهم.
فهذه الصورة من تتبع الرخص ممنوعة عند القرافي لاختلال الشرط، ولكنها صورة من صور التلفيق المفضي إلى كيفية لا يقول بها مجتهد، كما سيأتي في مبحث التلفيق.
- ومثال الصورة التي يتوفر فيها شرط القرافي.
أن يتوضأ المالكي دون ذلك للأعضاء (كما هو واجب في مذهبه) مقلدًا في ذلك الإمام الشافعي، ثم يصلي بذلك الوضوء.
فإن صلاته صحيحة على مذهب الشافعي الذي لا يري وجوب الدلك، وهي صحيحة عند مالك، لأن مالكًا لا يمتنع من الصلاة خلف شافعي ولا يقول ببطلان صلاة الشافعية من أجل ترك الدلك.
- ومنهم الآمدي وابن الحاجب وقد اشترطًا أن يكون قبل العمل لا بعده حتى لا يستلزم الرجوع عما عمل به وتم من قبل.
مثاله: من توضأ دون نية على مذهب إمامه وصلي، ثم سال منه دم فقال: أبقي على وضوئي أخذًا بمذهب مالك، لم يجز لأن تقليده الثاني جاء متأخرًا.
أو كمن قال لزوجته: هي طالق البتة، ورأى أنه الثلاث فأمضاه، ثم وجد من يقول: إنها طلقة رجعية فلا ينقض الحكم الأول ولا يرجع إلى ما رآه ثانية.
- ومن القائلين بالشرط ابن دقيق العيد، وله في الحكم بالجواز ثلاثة شروط:
1-
أن ينشرح صدره للمذهب الذي انتقل إليه.
2-
أن لا يقصد التلاعب.
3-
أن لا يكون ناقضًا لما قد حكم عليه به.
وهي شروط واضحة ومعقولة يفرضها صدق العزم والإخلاص في العمل.
* أما القائلون بالجواز مع التفصيل:
- فمنهم: إمام الحرمين الذي قال: إن كان بعد الحادثة التي قلد فيها غير إمامه لم يجز له الانتقال، وإلا جاز، وكلامه شبيه بما يقدم من الشروط.
- ومنهم القدوري الحنفي الذي قال: إن غلب على ظنه أن مذهب غير إمامه أقوى في تلك المسألة جاز، وإلا فلا يجوز ومنهم العز بن عبد السلام الذي قال: إن كان المذهب الذي أراد الانتقال إليه ينقض الحكم، لم يجز له الانتقال، وإلا جاز.
الحكم بفسق المتلاعبين بأحكام الشريعة:
لم يزل العلماء يحثون على حسن الامتثال لأحكام الشرع، ويحذرون الذين يخالفون عن أمره أن ينالهم وبال أمرهم.
ولقد حكموا صراحة بفسق المتلاعبين بأحكام الشرع العزيز:
- قال الإمام أحمد:
" لو أن رجلاً عمل بقول أهل الكوفة في النبيذ، وأهل المدينة في السماع، وأهل مكة في المتعة، كان فاسقًا ".
ووضع العز بن عبد السلام قاعدة في تفسيق الطالب للسهولة عن طريق تتبع الرخص فقال:
" ينظر إلى الفعل الذي فعله، فإن كان مما اشتهر تحريمه في الشرع أثم، وإلا لم يأثم ".
وعن الإمام الأوزاعي أنه قال:
" من أخذ بنوادر العلماء خرج عن الإسلام ".
كما نبه إلى الرخص التي لا يعتد بها، لأنها نوادر – كما سماها الأوزاعي تلطفًا – وهي في الحقيقة أخطاء وزلات، فقال:" يترك من قول أهل مكة المتعة والصرف، ومن قول أهل المدينة السماع وإتيان النساء في أدبارهن، وقول أهل الشام الحرب والطاعة، ومن قول أهل الكوفة النبيذ ".
والحاصل من هذه الأقوال للعلماء في تتبع الرخص، أنهم مجمعون على المنع إذا كان الدافع هوى النفس أو الهروب من أداء الواجب أو التلاعب بالأحكام والتحيل فيها.
ولا يمنعون صاحب المقصد الحسن – والأمور بمقاصدها – من تقليد غير إمامه فيما حدث له، طلبًا للتيسير على النفس ودفعًا للمشقة الزائدة التي تعوق عن الاستمرار والمواصلة، وخير العمل عند الله ما كان دائما كما ورد في السنة المطهرة: كالمالكي يشق عليه العمل بمذهب إمامه في انتقاض الوضوء بمس الذكر ولو بطرف الإصبع من غير قصد، فيقلد أبا حنيفة الذي لا يرى ذلك ويقول: إن هو إلا بضعة منك.
فإذا خلص العمل، وصفا المقصد، واستقام الفعل، لا أحد يمنع من الاستعانة على القيام بالواجب بالبحث عن وجه من أوجه التخفيف واليسر في المذاهب الأخرى، وهذا ما عناه ودلل عليه العز بن عبد السلام في الفتاوى إذ قال:
" لا يتعين على العامي إذا قلد إماما في مسألة، أن يقلده في سائر مسائل الخلاف، لأن الناس من لدن الصحابة إلى أن ظهرت المذاهب يسألون – فيما يسنح لهم – العلماء المختلفين، من غير نكير، سواء تبع الرخص في ذلك أو العزائم.
التلفيق
التلفيق لغة: هو ضم شقتي الثوب أحدهما إلى الآخر ليخيطهما الخياط، وهو من فعل (لفق) الثلاثي من باب ضرب – ثم ضعفت العين.
والتلفيق في اصطلاح الفقهاء والأصوليين هو: الإتيان بالعمل الذي صار بعد تقليد المذاهب على كيفية لا يقول بها واحد من المجتهدين.
المثال: من توضأ من غير دلك الأعضاء، وبمسح بعض الرأس، ثم صلى بعد أن لمس امرأة دون قصد ولا شهوة فصلاته بهذا الوضوء الملفق باطلة عند الأئمة:
باطلة عند الشافعي لنقض الوضوء باللمس.
باطلة عند أبي حنيفة لعدم مسح ربع الرأس على الأقل.
باطلة عند مالك لعدم الدلك ولعدم مسح جميع الرأس.
باطلة عند أحمد لعدم مسح جميع الرأس أيضا.
رأي العلماء في التلفيق وحكمه عندهم:
التلفيق ظاهرة من ظواهر الحركة العلمية في العالم الإسلامي نشأت عند المتأخرين، ولم تكن معروفة عند الأئمة المجتهدين ولا عند من جاء بعدهم من أهل التخريج على المذاهب الفقهية، وينسب الشيخ السنهوري إلى القاضي نجم الدين بن علي الطرسوسي (المتوفى سنة 758هـ) أنه أول من تكلم في التلفيق بسبب وقوفه على حكم لحسام الدين الروي (المتوفى سنة 681هـ) حكم فيه بصحة وقف المحجور للسفه، وهو حكم قد أشكل عليه، لأنه مركب من مذهبي أبي حنيفة وأبي يوسف، ورأى مثل هذه الواقعة المركبة من مذهبين، وقد نفذت من طرف بعض القضاة وتبعهم بعض من جاء بعدهم من العلماء، كما أجازه كل من الكمال بن الهمام، والسيد الشريف محمد أمين (الشهير بأمير بادشاه) شارح التحرير (المتوفى سنة 972هـ) .
- أما عن حكم التلفيق فالاختلاف فيه أشد من المسألة قبله وهي مسألة تتبع الرخص في المذاهب، ومنهم المانعون، ومنهم المجيزون، ومنهم من يفصل:
المانعون:
- أغلب الفقهاء والأصوليين قد درجوا على منع التلفيق حتى ادعى بعض الحنفية قيام الإجماع على المنع (1) ودليلهم في المنع: أن التلفيق طريق إلى تحليل الحرام مثل تحليل الزنا والخمر ونحوهما.
- أن الدافع إليه هوى النفس وحب التحلل من التكاليف الشرعية.
- أنه ينقض حكم الحاكم الذي به دفع الخلاف وإقامة العدل.
المجوزون:
حجتهم في هذا كحجتهم في تجويز تتبع رخص المذاهب، ولا يزيدون.
المجيزون مع التفصيل:
قلة من العلماء يضعون القيود والشروط لتجويز التلفيق، وقصدهم الإبقاء على ما فيه من تيسير على الناس في إقامة دينهم مع استبعاد ما فيه من استهانة بأحكام الشرع أو تحيل على التحلل منها، أو تكييفها للوصول إلى أغراض، من ورائها الشيطان، كالاعتداء على الآخرين وأكل أموال الناس بالباطل.
(1) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام، للقرافي: ص 250 وما بعدها (ط حلب: سوريا) .
ترجيح ما هو أحق بالاتباع خصوصًا في عصرنا
والخلاصة: أن إطلاق الحكم بالمنع أو الجواز في العمل بالتلفيق فيه شيء من عدم الاطمئنان إزاء مسئولية العالم والمفتي في هذا العصر، لأن ذلك لا يكفي ولا يوضح للناس سبيلهم، وإنما السبيل إلى الحق أن نقول بالمنع المشدد في قضايا التلاعب والاستهتار بالدين كمن يلفق فيتزوج امرأة، صورة زواجه لا تختلف البتة عن صورة زناه بها.
فمثل هذه القضايا والأحكام، قد قام الإجماع على تحريمها وبطلانها، وإذا لم يكن إجماعا قوليا فهو سكوتي.
والسبيل أن نقول بعدم المنع وعدم التقيد بمذهب فقهي واحد في مجابهة ما يستجد – دون توقف – من قضايا العصر، اعتبارًا لكون التعدد في المذاهب الفقهية رحمة للأمة، وتوسعة من الله على العباد
…
فمن يمنع عن الناس رحمة ربهم؟
وماذا نفعل – إذا قلنا بمنع العمل بالتلفيق – في المجامع العلمية أنخصص كل مذهب بمجمع؟ ثم ماذا نفعل بالاجتهاد الجماعي أنصنف العلماء بحسب مذاهبهم ويصبح الاجتهاد الجماعي ربع جماعي – أو خمس جماعي لأن المذاهب أربعة أو خمسة أو أكثر من ذلك؟
إن من أخطر مسؤوليات العلماء في هذا العصر، أن لا ينفلت زمام الأمر من بين أيديهم، فينسى الناس أو يتناسون أن لهم دينًا يجب الرجوع إليه لحل قضاياهم المعاصرة والمعقدة في سائر مجالات الحياة سواء منها الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية أو العلمية أو التقنية، وبهذا يكون الوفاء للإسلام لا بالانطواء والرفض وترك الخلق للخالق كما يقال، ولكن بالتدليل في كل يوم على أن الإسلام دين الحياة المعاصرة بما في المعاصرة من مفهوم صحيح نظيف، نعم هو دين يحب الخير والمصلحة الصحيحة ويأمر بهما، ويكره الشر والفساد في الأرض وينهى عنهما.
لقد وجد الفكر الإسلامي في المذاهب الفقهية الجماعية زادًا عظيمًا وثراء نادرًا منحه النضج والعمق وسعة النفاذ والامتداد، مما أكسبه دورًا فعالاً – منذ وجد هذا الفكر الإسلامي – فيما حوله وفي الفكر الإنساني على العموم.
فعلى السادة العلماء في هذا المجمع، وهم المتكلفون بأمر الاجتهاد الجماعي للمسلمين، أن يستعملوا هذا الزاد الذي اكتسبه الفكر الإسلامي من المذاهب الجماعية في سد حاجة المسلمين كلما تطوروا وجد لديهم الجديد، ولا يستطيع أحد أن ينكر قانون الحياة الذي قدره الله وهو قانون التطور والتجديد، يجتهدون في غير الثوابت التي جاءت بها نصوص الشريعة الصريحة مثل أصول العقيدة وأصول العبادات من صلاة وزكاة وصوم وحج، ومثل أصول الحلال والحرام، مثل جملة من المبادئ العامة الثابتة المصلحة، كمبدأ رعاية المصالح والواجبات، ومبدأ سد الذرائع الموصلة إلى المفاسد والشرور، ومبدأ منع الظلم والاعتداء على الغير، ومبدأ حق كل إنسان في المحافظة على الكليات الخمس: الدين والعقل والنفس والنسل والمال، ومبدأ الأهلية وعدم الإكراه في المعاملات.
فهذه كلها ثوابت كفانا الله تعالى عناء الاجتهاد فيها كأصول، وإن جاز لنا البحث والاجتهاد فيما يدخل تحتها من جزئيات وما لا يدخل، علينا – بما لنا من فكر إسلامي عتيد – أن نجتهد اجتهادًا جماعيا أو نرجح ما ينبغي الأخذ به من الأحكام التي تواكب سنة التطور وتراعي مصالح الناس في جميع بلاد الإسلام.
ومجال هذا الاجتهاد أو الترجيح واسع ومعروف لدى العلماء فهو يشمل:
- المسائل التي وردت فيها نصوص ظنية الثبوت أو الدلالة.
- والمسائل المستجدة التي لم يرد فيها نص ولا إجماع.
- والمسائل القياسية.
- والمسائل المصلحية (المصالح المرسلة والمستحسنة) .
- والمسائل العرفية.
ولن تعدم هذه الأمة من علمائها رجالاً وهبهم الله الشجاعة وحسن الإيمان ليصدعوا بالحق، ولو كان للحق أعداء مخاصمون، والله في عون العبد ما كان العبد في عون ربه أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
ملخص البحث
موضوع " الأخذ بالرخص الشرعية " له مكانته وتأثيره بين الناس في هذا العصر إذ الناس مع الرخص على ثلاثة أقسام:
الأول: المجانبون لها خوفًا وجهلاً وهم الواقعون تحت الاتجاه التصوفي الذي يحذر من اللجوء إلى الرخص طلبًا لمزيد الثواب بفعل العزيمة في زعمهم.
الثاني: التاركون للرخص جملة ويكادون لا يؤمنون بها حتى أنك ترى الواحد منهم – وهم في الغالب من العامة أو أشباهم – يترك الطهارة لعدم القدرة عليها، ويترك بتركها الصلاة، ولا يتيمم، ولم يعرف التيمم في حياته.
الثالث: الآخذون بالرخص العالمون بمنزلتها، وهم أهل الذكر وعددهم في هذا العصر في تناقص، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قد رأينا أن نقدم للموضوع بمدخل لا غنى عنه يؤصل الرخصة في الشريعة الإسلامية ويبين مكانتها ووزنها في تيسير أحكام الشريعة على المكلفين.
وألححنا في هذا المدخل على جانبين:
أ- لزوم الأخذ بالرخصة والعمل بها لأنها تيسير من الله، وخير من لدنه، وليس لأحد أن يرد خير الله، وليس لأحد أن يترك حمده على ما أنعم.
كما بينا في هذا الجانب أن الآخذ بالرخصة ليس أقل فضلاً وثوابًا من الذي يعمل بالعزيمة كيف؟ وقد تكون الرخصة واجبة كما بينا أن التوجه الصوفي في التحذير من الأخذ بالرخص يتنافى مع التوجه الشرعي في التيسير والتخفيف، كما علم ذلك من نصوص الكتاب والسنة ومن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونضيف هنا: أن التوجه الصوفي في الحذر من الرخص يوافق توجها مسيحيا يقر رهبانية ابتدعوها، تؤمن بإدخال المشقة على الجسم وتعذيبه ابتغاء الثواب وانتصارًا للروح، لأن الإنسان بروحه لا بجسمه الفاني، كما يقولون، كما بينا أنه ما ترك أحد الرخص، وشاد الدين إلا غلبه.
ب- عدم التهاون بأحكام الدين، واللجوء إلى الرخص لأدنى الأسباب ولأخف المشقة والإنسان في ذلك موكول إلى إخلاصه لله، وعليه أن يستفتي قلبه، ولا يفتيه أحد غير قلبه، ولا ينسين المؤمن أن الوسطية والعدل يقوم عليهما كل حكم، وكل أمر شرعه الإسلام.
فليكن الموقف من الرخصة موقف الأخيار العدول لا موقف المتنطعين ولا موقف المتحليين.
مبحث تعريف الرخصة مبحث هام لأنه يكشف عن أنواع الرخص، التي منها الحقيقية وقد عرفها الشاطبي بقوله:" ما شرع لعذر شاق استثناء من أصل كلي يقتضي المنع مع الاقتصار على موضع الحاجة فيه "، ومنها الرخص المجازية أو رخص المصالح العامة المطردة كالعقود المستثناة من قاعدة المنع والتي يرى الشيخ ابن عاشور أنها أولى بالاعتبار لأن مصلحتها عامة والحاجة إليها قائمة.
أما مبحث أنواع الرخص: فهو المبحث الذي تبسط فيه أقسام الرخص باعتبارات مختلفة، وأهم هذه التقسيمات تقسيمان.
التقسيم الذي باعتبار حكم الرخصة أي حكم الأخذ بها فقد ينتقل المكلف من حرام إلى واجب؛ كأكل الميتة لمن خاف الهلاك ولم يجد سواها.
التقسيم باعتبار الأسباب الداعية للرخصة: وهي أسباب أوصلناها إلى العشرة، وإن كان من العسير حصرها، ومن خاصية هذه الأسباب أنها من علوم الحياة وتحتاج إلى فطنة ودقة نظر لأنها قد أقامها الشارع مقام العلة حين يصعب ضبط العلة أو تحديدها كما هو الحال في المشقة التي تتفاوت تبعًا لاعتبارات كثيرة.
وقد يقوم هذان التقسيمان بدور تحديد الضوابط التي تبيح الأخذ بالرخصة أو تمنع.
أما تتبع الرخص في المذاهب والتلفيق في الأحكام فهما كالسيف ذي الحدين ينفع ويضر، ولكي نمنع المضرة يجب أن تعطى القوس باريها، يعني يقتصر في العمل بهما في مجال الاجتهاد الجماعي عن طريق المجامع العلمية المشهود لها - دون الفتوى أو الاجتهاد الفردي – وبذلك نضمن الاستفادة منهما تيسيرًا وجلبًا للمصالح كما نضمن درء مشتهيات النفوس، ونزوات الهوى، وإغراءات الميول الشهوانية المعادية للدين ولأحكامه الرافضة للشر والفساد.
ودعوت مجمعنا المكرم – بعناية المشرفين عليه – لتغطية الحاجات المتزايدة للعالم الإسلامي في هذا العصر، والخوف كل الخوف أن ينساق المسلمون وراء رمزي حضارة العصر وهما المال من كل طريق، والجنس. ولو أدى إلى الإيدز أو السيدا أو فقدان المناعة المكتسبة عفى الله الجميع.
التوصية المقترحة
1-
العمل بالرخصة أمر مشروع لا ينبغي تحاشيه أو التساهل فيه، بل يؤخذ بصدق واعتدال كلما وجدت العلة وهي العسر أو المشقة، أو وجد السبب الذي أقامه الشرع العزيز مقام العلة كالسفر والمرض.
2-
للرخصة حكمها مثل العزيمة تقريبا فقد يكون الأخذ بالرخصة واجبًا، أو مندوبًا، أو مباحًا، أو خلاف الأولى.
3-
التلفيق في الأحكام، وتتبع الرخص في المذاهب يعتبران عند أكثر العلماء مزالق خطيرة، مع أنهما لا يخلوان من مصلحة كالتيسير والتوسعة على الناس، وخاصة ما يمكن أن تستخدم فيه من إيجاد أحكام لقضايا العصر المستحدثة والتي لا سبيل لتجاهلها لكن نظرًا للتجاوزات التي قد تؤدي إليها طريقة التلفيق وتتبع الرخص في المذاهب يوصي المجمع بعدم جواز العمل بهما سواء للعامة أو للخاصة بصورة منفردة، وقد تدعو الضرورة إلى التلفيق أو تتبع المذاهب لتقرير المنافع والمصالح العامة عند الاجتهاد الجماعي فقط.
4-
على العلماء المسئولين عن الاجتهاد الجماعي في هذا العصر أن لا يألوا جهدًا في مزيد النصح لأولي الأمر من حكام المسلمين وأن يستعينوا بهم ويتعاونوا معهم لمقاومة الحملات المغرضة على الإسلام والمسلمين خصوصًا في هذه الفترة التي بانت فيها الأحقاد العرقية.
الطيب سلامة