المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الأخذ بالرخص وحكمهإعدادالدكتور أبو بكر دوكوري - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ٨

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد الثامن

- ‌الأخذ بالرخص الشرعية وحكمهإعدادالدكتور: وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌موضوع: " الأخذ بالرخص الشرعية وحكمه

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادالدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادالشيخ خليل محيي الدين الميس

- ‌الرخصة (التلفيق)إعدادالشيخ خليل محيي الدين الميس

- ‌التلفيق والأخذ بالرخصة وحكمهماإعدادحجة الإسلام الشيخ محمد علي التسخيري

- ‌الأخذ بالرخص الشرعية وحكمهإعدادمحمد رفيع العثماني

- ‌حكمالرخصة وتتبع الرخصفي الفقه الإسلامي

- ‌الأخذ بالرخصةإعدادأ. د. حمد عبيد الكبيسي

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادالشيخ مجاهد الإسلام القاسمي

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادأ. د. عبد العزيز عزت الخياط

- ‌الرخصةإعدادالشيخ محمد الشيباني بن محمد بن أحمد

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهتتبع الرخص – التلفيق ورأي الفقهاء فيهإعدادفضيلة الشيخ مصطفى كمال التارزي

- ‌الأخذ بالرخص وحكمهإعدادالشيخ الطيب سلامة

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادالدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين

- ‌الأخذ بالرخص وحكمهإعدادالدكتور أبو بكر دوكوري

- ‌بيع العربُونإعدادفضيلة الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌بيع العربُونإعدادالدكتور وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌بيع العربونإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌بيع المزايدةإعدادفضيلة الشيخ محمد المختار

- ‌عقد المزايدةبين الشريعة الإسلامية والقانوندراسة مقابلةمع التركيز على بعض القضايا المعاصرةإعدادعبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان

- ‌قواعد ومسائلفيحوادث السيرإعدادالقاضي محمد تقي العثماني

- ‌ موضوع "حوادث السير

- ‌حوادث السيرإعدادد. عبد الله محمد عبد الله

- ‌حوادث السيرإعدادالشيخ عبد القادر محمد العماري

- ‌حوادث السيرإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌التطبيقات الشرعيةلإقامة السوق الإسلاميةإعدادالدكتور علي محيي الدين القره داغي

- ‌التطبيقات الشرعيةلإقامة السوق الإسلاميةإعدادالأستاذ الدكتور / علي السالوس

- ‌الائتمان المولد على شكل بطاقةمع صيغة مقترحة لبطاقة ائتمانية خالية من المحظورات الشرعيةإعدادسعادة الدكتور محمد القري بن عيد

- ‌بطاقات الائتمانإعدادالشيخ حسن الجواهري

- ‌سر المهنة الطبية بين الكتمان والعلانيةإعدادالدكتور أحمد رجائي الجندي

- ‌مسؤولية الطبيبإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌مداواة الرجل للمرأةوالمرأة للرجلإعدادالدكتور محمد علي البار

- ‌نقص المناعة المكتسبة (الإيدز)الأحكام المتعلقة بالمرضى والمصابينإعدادأ. د. مصطفى عبد الرؤوف أبو لسان

- ‌بعض المشاكل الأخلاقية والاجتماعيةالناتجة عن مرض الإيدز(نقص المناعة المكتسبة)إعدادالدكتور محمد علي البار

- ‌مرض الإيدز(نقص المناعة المكتسبة)أحكامه وعلاقة المريض الأسرية والاجتماعيةإعدادالدكتور سعود بن مسعد الثبيتي

- ‌التداوي بالمحرماتإعدادالدكتور محمد علي البار

- ‌بحوث مجمعية

- ‌حُسن وفاء الديونوعلاقته بالربط بتغير المستوى العام للأسعارإعدادالدكتور صالح بن زابن المرزوقي البقمي

- ‌ربط الأجور بتغير المستوى العام للأسعارفي ضوء الأدلة الشرعيةإعدادد. حمزة بن حسين الفعر

- ‌الربط القياسي للأجور بالمستوى العام للأسعارتحليل من منظور إسلامي لمشكلة الأجورفي ظل التضخم والعلاج المقترحإعدادد. عبد الرحمن يسري أحمد

- ‌التضخم والربط القياسيدراسة مقارنة بين الاقتصاد الوضعيوالاقتصاد الإسلاميإعدادالدكتور شوقي أحمد دنيا

- ‌ربط الأجور بتغير المستوى العام للأسعاربين الفقه والاقتصادإعدادد. محمد أنس الزرقا

- ‌ندوة قضايا العملةالربط القياسي للديون بعملة اعتباريةإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌ملاحظات أساسيةفي مسألة ربط الأجور والمستحقاتإعدادالدكتور سيف الدين إبراهيم تاج الدين

- ‌مشاكل البنوك الإسلاميةمحاورإعدادمجموعة دلة البركة

- ‌مشاكل البنوك الإسلاميةمحاورإعدادبيت التمويل الكويتي

- ‌الصعوبات التي تواجه البنوك الإسلاميةوتصورات لكيفية مواجهتهاإعدادأ. د. إسماعيل حسن محمد

- ‌مشاكل البنوك الإسلاميةعقد السلم ودوره في المصرف الإسلاميإعدادالشيخ صالح الحصين

- ‌مشكلات البنوك الإسلامية في الوقت الحاضرإعدادد. محمد نجاة الله صديقي

- ‌في مشكلات المصارف الإسلاميةإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌حكم المشاركة في أسهم الشركات المساهمةالمتعاملة بالرباتجربة مجموعة دلة في أسلمة الشركاتعن طريق شراء أسهمهاإعدادالشيخ صالح عبد الله كامل

- ‌المشاركة في شركات تتعامل بالحرامإعدادالشيخ عبد الله بن بيه

الفصل: ‌الأخذ بالرخص وحكمهإعدادالدكتور أبو بكر دوكوري

‌الأخذ بالرخص وحكمه

إعداد

الدكتور أبو بكر دوكوري

ممثل بوركينا فاسو الدائم في

مجمع الفقه الإسلامي

التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي

الدورة الثامنة في بروناي (دار السلام)

بسم الله الرحمن الرحيم

الأخذ بالرخص وحكمه

اعلم أن تقسيمات الحكم الشرعي كثيرة، ومن تقسيماته " باب الرخصة والعزيمة " وهو تابع للحكم التكليفي عند الجمهور باعتبار كونه على وفق الدليل أو خلافه. واختار الآمدي كونه من أقسام الحكم الوضعي (1) .

يقول الكمال بن الهمام (2) : " وقيل للشارع في الرخص حكمان: كونها وجوبًا أو ندبًا أو إباحة فهو من أحكام الاقتضاء، وكونها مسببة عن عذر طارئ في حق المكلف يناسب تخفيف الحكم عليه مع قيام الدليل على خلافه، فهو من أحكام الوضع "(3) .

فعلمنا أن من قال: إن الرخصة من خطاب الوضع فإنه نظر إلى جهة من جهاتها، ومن قال: إنها من خطاب التكليف، فباعتبار جهة أخرى.

ومقتضى الرخصة: الانتقال مما هو مطلوب على وجه الحتم والإلزام إلى جواز تركه في أمد معلوم أو الانتقال من موضع النهي والتحريم إلى الإباحة لسبب يبرر ذلك ولتوضيح كل ذلك نقول:

إن الرخصة في اللغة عبارة عن السهولة واللين، ومنه يقال رخص السعر إذا تيسر وسهل (4) يقول الشاعر العربي (5) :

وثديًا مثل حق العاج رخصًا

حصانًا من أكف اللامسينا

(6)

.

أما في اصطلاح الأصوليين فقد عرفها بعض الشافعية بأنها: " ما أبيح فعله مع كونه حرامًا " وقد انتقد الآمدي هذا التعريف باعتباره متناقضا (7) .

(1) راجع الإحكام في أصول الأحكام للآمدي 1 /131، وجمع الجوامع مع حاشية البناني 1 /119.

(2)

هو أحد الأحناف المشهورين.

(3)

راجع التقرير والتحبير 2 /153.

(4)

راجع لسان العرب 1/ 1146 والقاموس المحيط 2 /304.

(5)

هو الشاعر الجاهلي عمرو بن كلثوم التغلبي، راجع ترجمته في كتاب الشعر والشعراء لابن قتيبة 1 /340.

(6)

هذا البيت من معلقته المشهورة.

(7)

راجع الإحكام للآمدي 1 /68.

ص: 387

وقد ورد في تعريف الرخصة عدة تعريفات لم يسلم معظمها من الانتقاد، إما لكون التعريف غير جامع، وإما لما فيه من التورية. (1) .

والذي اختاره كثير من محققي الأصوليين أن الرخصة هي: " الحكم الشرعي المتغير من صعوبة إلى سهولة لعذر مع قيام السبب للحكم الأصلي "(2) . وفي هذا المعنى يقول صاحب مراقي السعود (3) :

للعذر والرخصة حكم غيرا

إلى سهولة لعذر قررا

مع قيام علة الأصلي

وغيرها عزيمة النبي

(4)

.

ومن هذا التعريف نعرف أن الرخصة ليست حكمًا أصليا ولا حكما عامًّا كما هو الحال في العزيمة؛ لأن الأحكام الشرعية التكليفية قد طالبت المكلفين بأفعال، وطالبتهم كذلك بالكف عن أفعال أخرى وقد يعرض للمكلف ما يجعل التكليف شاقا غير قابل للاحتمال أو لا يمكن أداؤه إلا بمشقة غير عادية ولكن يستطيع المكلف أداءه في الجملة، فيرخص الله له ترك هذا الفعل رحمة منه لعبده ومصداقًا لقوله تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] .

ذكر الإمام الشاطبي (5) رحمه الله تعالى: أن الرخصة قد تطلق على ما استثني من أصل كلي يقتضي المنع مطلقًا دون اعتبار كون ذلك لعذر شاق كما هو الحال في القراض والمساقاة ورد الصاع من الطعام في مسألة المصراة، وبيع العرية بخرصها تمرًا، ونحو ذلك مما استثني من أصل ممنوع نظرًا إلى حاجة الناس (6) .

نلاحظ هنا أن هذا النوع من الرخصة يظل مشروعًا وإن زال العذر، فيجوز للإنسان مثلاً أن يقترض وإن لم يكن له حاجة إلى الاقتراض، فهذا هو الفرق بين ما شرع من الحاجيات الكلية، وبين ما شرع من الرخص الحقيقية، فإن هذه الأخيرة يقتصر فيها على موضع الحاجة لأن شرعيتها جزئية، كالمسافر فإنه إذا انقطع سفره وجب عليه الرجوع إلى الأصل من إكمال الصلاة ولزوم الصوم.

وتطلق الرخصة كذلك على ما وضع عن هذه الأمة من التكاليف الغليظة والأعمال الشاقة التي يدل عليها قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286] وقوله: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] نظرًا إلى أن معنى الرخصة في اللغة يرجع إلى اللين فيكون ما جاء في الشريعة الإسلامية من المسامحة واللين رخصة لهذه الأمة بالنسبة إلى الأمم الأخرى التي حملت مثل هذه العزائم الشاقة.

وقد اعتبر الإمام الغزالي إطلاق الرخصة على هذا النوع من قبيل المجاز (7) .

(1) راجع المحصول 1 /121، وشرح الأسنوي 1 /69- 70، والإحكام 1 /68.

(2)

راجع جمع الجوامع مع شرح المحلى 1 /119 – 120، والمستصفى 1 /98.

(3)

هو العالم الجليل سيدي عبد الله بن إبراهيم العلوي الشنقيطي واضع أرجوزة في علم الأصول وشرح الأرجوزة في كتابه نشر البنود.

(4)

راجع نشر البنود 1 /55 ومذكرة أصول الفقه لأستاذنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ص 61.

(5)

هو الإمام أبو إسحاق بن موسى الغرناطي الشهير بالشاطبي، الأصولي المفسر له مؤلفات كثيرة أشهرها كتابه العظيم " الموافقات " ومن كتبه المهمة كذلك كتاب " الاعتصام " توفي سنة 790هـ، راجع ترجمته في كتاب طبقات الأصوليين 2 /204-205.

(6)

راجع الموافقات 1/ 207 – 208.

(7)

راجع المستصفى ص 98.

ص: 388

وتطلق الرخصة كذلك على ما كان من المشروعات توسعة على العباد مطلقًا مما هو راجع إلى نيل حظوظهم وقضاء حاجاتهم، وبيانه أن الناس كلهم خلقه وعبيده وما خلقوا إلا لعبادته بموجب قوله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] فيجب على العباد التوجه إليه وبذل كل ما في وسعهم لعبادته، وذلك بامتثال جميع أوامره واجتناب جميع النواهي وترك ما يشغل عن ذلك، فإذا أذن الله للعبد أن ينال حظًّا من حظوظ نفسه فإن ذلك يكون كالرخصة له (1) .

أنواع الرخص:

بعد أن عرفنا المعنى اللغوي والشرعي للرخصة، وكذلك إطلاقاتها الحقيقية والمجازية، بقي أن نشير إلى أننا باستقرائنا وتتبعنا للرخص الشرعية، تبين لنا أنها ليست على درجة واحدة، وإنما هي على أنواع مختلفة فمنها:

1-

ما هو واجب، كأكل الميتة للمضطر فقد اختار الجمهور وجوبه لكونه سببًا لإحياء النفس التي هي حق الله تعالى، كما أنها أمانة يجب على الإنسان المحافظة عليها وعدم التفريط فيها ليستوفي الله حقه منها بالعبادات والتكاليف الشرعية لأن ذلك سبب خلق الإنسان حيث يقول الله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] .

ومن الأدلة على وجوب حفظ النفس قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] وقوله: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] .

ولا شك أن من كان على وشك الموت بسبب الجوع ولا يجد ما ينقذ به نفسه سوى الميتة فيمتنع من تناولها حتى يموت فإنه يكون بمثابة من قتل نفسه.

لذلك رأى بعض العلماء (2) أن حكم التناول هنا عزيمة وليس رخصة لأن الميتة ما حرمت إلا لخبثها، ضرورة حفظ النفس أولى مما يؤدي إلى تلفها وإن كان محرمًا فيكون الميتة هنا واجبا لا يسع المكلف الامتناع عنه، ولو امتنع حتى مات لكان آثمًا.

ومن هذا المنطلق رأى البعض (3) أن اعتبار التناول هنا رخصة إنما هو من باب المجاز لأن الواجب مأمور به حتما لا خيرة فيه بخلاف الرخصة.

ويمكن أن نقول بأن وجوب أكل الميتة لإحياء النفس لا ينافي كون ذلك رخصة للمكلف، لأنه لم يضيق عليه بإلزامه ترك الأكل منها حتى يموت، فإذا نظرنا إلى هذا التوسيع وهذا التسهيل عليه فهو رخصة، وإذا نظرنا إلى وجوب الأكل لإنقاذ نفسه فهو عزيمة لأن الواقع بالشخص يجوز أن يكون له جهتان والله أعلم.

(1) الموافقات 1 /207 – 208.

(2)

قاله الكيا الهراسي من الشافعية كما في البحر المحيط.

(3)

صرح به الفخر البزدوي وهو اختيار الشاطبي، راجع كشف الأسرار 2 /321، والموافقات 1 /210.

ص: 389

2-

ومنها ما هو مندوب كقصر المسافر الصلاة بعد استيفاء الشروط المعروفة فإنه رخصة لمشقة السفر وهذا عند الجمهور.

أما الحنفية: فإنهم يرون القصر واجبا في حق المسافر وليس له أن يصلي أربعًا فيكون القصر في حقه عزيمة، فإن سمي رخصة فمن باب المجاز، وذلك حتى لا يلزم الجمع بين متنافيين وهو الأمر المقتضي للوجوب والرخصة التي تفيد الاختيار (1) .

وقد أطال الإمام الشاطبي الكلام حول هذه المسألة ووضع لها افتراضات ورد عليها ولا مجال لذكرها ههنا (2) .

3-

ومنها ما هو مباح، كالجمع بين الصلاتين في غير عرفة ومزدلفة فإنه رخصة للمكلف عند الجمهور في حالة السفر أو المطر خلافًا للحنفية الذين يمنعون الجمع إلا في مزدلفة (3)، وكإباحة السلم الذي هو بيع غائب موصوف في الذمة؛ وحكمه الأصلي: الحرمة بسبب الغرر وهو قائم، ولكن نظرًا إلى حاجة الناس الماسة إلى ثمن الغلات قبل إدراكها أبيح هذا النوع من البيع (4) .

قال في شرح الكوكب المنير بعد ذكر هذه الأنواع الثلاثة: " وفهم مما تقدم أن الرخصة لا تكون محرمة ولا مكروهة (5) "، وهو ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم:((إن الله يحب أن تؤتى رخصه)) (6) .

ونحن وإن كنا نوافقه بأن الرخصة لا تكون محرمة لأن الحرمة تنافي الرخصة وهذا محل اتفاق بين العلماء ولكن لا نوافقه في كون الرخصة لا تكون مكروهة فقد صرح بعض العلماء (7) أن الرخصة تكون مكروهة واعتبروها – أي الرخصة المكروهة – نوعًا رابعًا من أنواعها.

ومن أمثلتها عندهم: إنشاء السفر فقط من أجل الترخص، أو قصر الصلاة في أقل من ثلاثة مراحل (8) .

أقول إن التمثيل بهذا الأخير لا يخلو من نظر لأن مسافة القصر عند الجمهور بما فيهم الأئمة الثلاثة – مالك والشافعي وأحمد – أربعة برد وهي مسيرة يوم بالسير الوسط، فالقصر عند هؤلاء لا يصح إن كانت المسافة أقل من ذلك وإن كانت مسيرة يوم فأكثر صح القصر، إذن فلا كراهة إطلاقا عند هؤلاء سواء كانت المسافة أقل من ثلاثة مراحل أو أكثر، وعند الإمام أبي حنيفة وأتباعه، لا تقصر الصلاة في أقل من ثلاثة مراحل، ومعلوم أن المرحلة هي المسافة التي يقطعها المسافر في يومه، فإن قصر في أقل من ثلاثة مراحل لم يصح، فلا أرى وجه الكراهة في هذا المذهب أيضا وكذلك الحال عند الظاهرية القائلين بأن القصر إنما هو في كل سفر سواء كان السفر قريبا أو بعيدًا (9) .

(1) راجع أصول السرخسي 1 /122 وكشف الأسرار 2 /324.

(2)

راجع الموافقات 1 /190.

(3)

راجع نهاية السول 1 /190.

(4)

راجع أصول السرخسي 1 /121، وكشف الأسرار 2 /322، وهامش المحصول 1 /122، وأصول الفقه للشيخ أبي زهرة ص 54.

(5)

راجع شرح الكوكب المنير 1 /441.

(6)

رواه الطبراني والبيهقي وأحمد عن كل من ابن عمر وابن عباس وابن مسعود وضعفه بعض العلماء؛ راجع فيض القدير 2 /292.

(7)

ذكره البعلي في " القواعد والفوائد الأصولية " ص 118-119، وذكره كذلك السيوطي في كتابه " الأشباه والنظائر " ص 171.

(8)

ذكره الأستاذ القاسمي في بحثه نقلاً عن كتاب الأشباه والنظائر ص 171.

(9)

راجع بداية المجتهد لابن رشد 1 /131.

ص: 390

وهناك نوع خامس من أنواع الرخصة التي هي بخلاف الأولى كالمسح على الخف، وفطر المسافرين في رمضان فإن حكمه الأصلي: الحرمة وسببه: شهود الشهر – وهو قائم – والعذر: مشقة السفر (1) .

وهذا المنهج في تقسيم الرخصة هو منهج الشافعية أو المتكلمين وهو كما نلاحظ يقوم على اعتبار أحكامها الشرعية.

أما الأحناف فإن لهم تقسيما آخر للرخصة حيث تنقسم عندهم إلى أربعة أنواع: نوعان من الحقيقة أحدهما أحق من الآخر.

ونوعان من المجاز أحدهما أتم من الآخر في كونه مجازًا.

أما النوع الأول:

فكما يقول السرخسي: " هو ما استبيح مع قيام السبب المحرم وقيام حكمه جميعًا فهو الكامل في الرخصة مثل المكره على إجراء كلمة الكفر فإن حرمة الشرك قائمة لوجوب حق الله تعالى في الإيمان به، ومع هذا أبيح لمن خاف التلف على نفسه عند الإكراه إجراء كلمة الكفر رخصة له؛ لأن في الامتناع حتى يقتل تلف نفسه صورة ومعنى، وبإجراء الكلمة لا يفوت ما هو الواجب معنى، فإن التصديق بالقلب باق والإقرار الذي سبق منه مع التصديق، فصح إيمانه، واستدامة الإقرار في كل وقت ليس بركن، إلا أنه في إجراء كلمة الشرك هتك حرمة حق الله تعالى صورة، وفي الامتناع مراعاة حقه صورة ومعنى، فكان الامتناع عزيمة، لأن الممتنع مطيع ربه مظهر للصلابة في الدين فيكون أفضل لما فيه من الجهاد، والمترخص بإجراء الكلمة يعمل لنفسه من حيث السعي في دفع سبب الهلاك عنها، فهذه رخصة له، إن أقدم عليها لم يأثم، والأول عزيمة حتى إذا صبر حتى قتل كان مأجورًا "(2) .

النوع الثاني:

ما استبيح مع قيام السبب المحرم موجبًا لحكمة إلا أن الحكم متراخ عن السبب فلكون السبب القائم موجبًا للحكم كانت الاستباحة ترخصًا للمعذور حقيقة " ولكون الحكم متراخيا عن السبب كان هذا النوع دون الأول (3) .

مثاله: الصوم في شهر رمضان للمسافر والمريض، فإن السبب الموجب شرعًا للصيام وهو شهود الشهر قائم، لذلك لو أديا الصوم كان المؤدى فرضًا،؛ ولكن الحكم لما تراخى إلى عدة من أيام أخر لم يلزمهما شيء لو ماتا قبل إدراك ذلك، إذ لم يثبت الوجوب عليهما، فلو ثبت للزمهما الأمر بالفدية عنهما؛ لأن ترك الواجب بعذر يرفع الإثم ولكن لا يسقط الخلف وهو القضاء أو الفدية.

والتعجيل بعد تمام السبب مع تراخي الحكم صحيح كتعجيل الدين المؤجل، وحكم هذا النوع: أن الأخذ بالعزيمة أولى لكمال سببه، فمثلاً لو أخذنا بعزيمة الصوم في السفر فإنها تؤدي معنى الرخصة أيضا لتضمنها لسر موافقة المسلمين في الصيام لأن صومه وحده في عدة من ايام أخر – أي بعد مضي شهر رمضان – والعالم كله مفطر فيه مشقة (4) .

(1) راجع جمع الجوامع مع شرح المحلى 1/ 123، وهامش المحصول 1 /122.

(2)

راجع أصول السرخسي 1/ 118.

(3)

المصدر السابق.

(4)

راجع أصول السرخسي 1 /120.

ص: 391

النوع الثالث

وهو أتم نوعي المجاز، فما وضع عنا من الإصر والأغلال التي كانت على من قبلنا من الأمم، وقد وضعها الله تعالى عنا كما قال تعالى:{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] وقوله: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286] مع ثبوت الإجابة فهذا النوع غير مشروع في حقنا أصلا لا باعتبار وجود عذر شرعي في حقنا وإنما بسبب التيسير والتخفيف علينا، فكانت رخصة مجازًا؛ لأن الرخصة الحقيقية في الاستباحة مع قيام السبب المحرم، وهو منعدم هنا (1) .

النوع الرابع

ما سقط عن العباد مع كونه مشروعًا في الجملة فمن حيث سقط أصلاً كان مجازًا ومن حيث بقي مشروعًا في الجملة كان شبيهًا بحقيقة الرخصة إلا أنه دون القسم الثالث.

مثاله: العقود الاستحسانية التي جاءت على خلاف القياس، مثل عقد السلم، فقد ورد ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الإنسان ما ليس عنده)) (2) ورخص في السلم، فاعتبرت صحة عقد السلم رخصة من باب المجاز، قال فخر الإسلام البزدوي:" وذلك أن أصل البيع أن يلاقي عينا، وهذا حكم باق مشروع لكنه سقط في باب السلم أصلا تخفيفًا حتى لم يبق تعيينه في السلم مشروعًا ولا عزيمة "(3) .

وبعض الحنفية يقسم الرخصة إلى قسمين: رخصة إسقاط، ورخصة ترفيه.

فالأولى: أن يسقط حكم العزيمة ويكون حكم الرخصة وحده هو المشروع.

مثاله عندهم: قصر الصلاة في السفر حتى أنه لا يصح أداؤه من المسافر، أي أداء ما سقط عنه وهو الأربع؛ إذ لو صلاها كانت الركعتان الأخيرتان نافلة.

والثانية: أن يكون الحكمان ثابتين مثل الفطر في رمضان لعلة السفر فإن حكم العزيمة باق ودليله قائم (4) .

فهذا هو منهج الأحناف في تقسيمهم للرخصة الشرعية وذكر أنواعها.

حكم الرخصة وضوابط العمل بها:

قلنا: إن الرخصة الحقيقية أصلها التخفيف عن المكلف ورفع الحرج عنه ليكون في سعة من ثقل التكليف، فيكون مخيرًا بين الأخذ بالعزيمة وبين الأخذ بالرخصة كالمسافر في رمضان فإنه مخير بين الأخذ بالعزيمة وهو الصوم وبين الأخذ بالرخصة وهي الإفطار، وذلك لأن النصوص الشرعية جعلت الرخصة في موضع الإباحة والتخيير بعد التكليف اللازم لأن اليسر من مقاصد الشريعة الإسلامية مصداقًا لقوله تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] .

وهذا لا ينافي وجوب الرخصة أو ترجح الأخذ بها في بعض المرات، وذلك لاعتبارات خارجية تقتضي ذلك فكان الأنسب أن تفسر الإباحة المنسوبة إلى الرخصة برفع الحرج وتجويز الفعل ليكون المعنى أعم من أن يكون بالتساوي بين الفعل والترك كما هو في الإباحة الحقيقية أو بدون التساوي ليتناول الوجوب والندب، وقد ثبت أن الرخصة قد تكون واجبة وقد تكون مندوبة وهذا المعنى العام هو الظاهر من نصوص الرخص.

(1) راجع أصول السرخسي 1/ 120، وكشف الأسرار 2/ 319 – 320.

(2)

كما في حديث حكيم بن حزام الذي رواه الخمسة، راجع نيل الأوطار 5 /175.

(3)

راجع كشف الأسرار 2 /322، واصول السرخسي 1 /120 – 121.

(4)

راجع كشف الأسرار 2 /324، وأصول الفقه لأبي زهرة ص 55.

ص: 392

ضوابط العمل بالرخصة

إذا تقرر أن حكم الرخصة جواز العمل بها في موضع الجواز، وأن المكلف مخير في هذه الحالة بين الأخذ بالرخصة والأخذ بالعزيمة؛ إذن فما هي ضوابط العمل بالرخصة؟

فقد أجاب الإمام الشاطبي على هذا السؤال بما يشفي الغليل؛ ويعتبر معيارًا دقيقا ينبغي أن يعول عليه كل من أراد الترخص حيث قال: " إن الرخصة إضافية لا أصلية، بمعنى أن كل أحد في الأخذ بها فقيه نفسه ما لم يوجد فيها حد شرعي فيوقف عنده "(1) .

وتوضيح ذلك أن سبب الرخصة المشقة، ومعلوم أن المشقات تختلف قوة وضعفًا، وتختلف بحسب الأحوال والأزمان والأعمال كما تختلف بحسب قوة العزائم وضعفها، فمثلا: إن سفر الإنسان في زمن الشتاء حيث يكون النهار قصيرًا وبدون حرارة، ويكون السفر في أرض مأمونة ويكون مع المسافر رفقة مأمونة كذلك وبمركب مريح فإن هذا السفر لا يكون كالسفر على الضد من ذلك في الفطر والقصر.

وكذلك فإن الناس ليسوا على درجة واحدة في الصبر وتحمل الشدائد فقد يقوى إنسان على تحمل ما لا يقوى غيره عليه فعلمنا أن المشقة المعتبرة في التخفيفات ليس بها ضابط مخصوص ولا حد محدود يطرد في جميع الناس، ولذلك أقام الشرع في جملة من الرخص السبب مقام العلة، فاعتبر السفر لأنه أقرب مظان وجود المشقة، وترك كل مكلف على ما يجد إن قصر أو أفطر في السفر، وترك كثيرًا منها موكولا إلى الاجتهاد كالمرض، وكثير من الناس يقوى في مرضه على ما لا يقوى عليه غيره فتكون الرخصة مشروعة بالنسبة إلى أحد الرجلين دون الآخر.

إذن فليست أسباب الرخص بداخلة تحت قانون أصلي ولا ضابط مأخوذ باليد بل هو إضافي بالنسبة إلى كل مخاطب في نفسه " (2) .

وبهذا نجد أن الشاطبي قد أناط الحكم في الترخص إلى اجتهاد المترخص لأنه أدرى بحاله فدينه وفقهه يمنعانه من الترخص إلا إذا اطمأن قلبه وأيقن أنه أهل للترخص.

(1) راجع الموافقات 2 /213.

(2)

راجع الموافقات 2 /213 – 214 بتصرف

ص: 393

حكم تتبع الرخص:

الرخصة هنا يقصد بها المعنى اللغوي الذي هو السهولة، وهو أعم من المعنى الاصطلاحي للرخصة (1) .

فالرخصة المعروفة عند الأصوليين والمقابلة للعزيمة فلا خلاف في حكمها لأنها ثابتة بالنصوص الشرعية فلا يسع أحدًا إنكارها إذا تحققت دواعيها، فيكون المقصود في هذه المسألة تتبع رخص المذاهب الاجتهادية بأن يختار الإنسان من أقوال الفقهاء المجتهدين في كل مسألة ما يكون أخف وأيسر عليه ولا يتقيد بمذهب إمام من الأئمة المعروفين.

وهذه المسألة تنبني على القول بجواز الأخذ بقول غير إمامه في مسألة من المسائل وذلك إذا كان له إمام والتزم بمذهبه.

فقد اختلف العلماء في ذلك فقال قوم بجوازه لأن التزامه لمذهب معين غير ملزم له، وممن اختار جواز الانتقال مطلقا الإمام السيوطي (2) وابن القيم الجوزية حيث قال:" ولم يوجب الله ولا رسوله على أحد من الناس أن يتمذهب بمذهب رجل من الأمة فيقلده دون غيره "(3) .

وذهب علماء آخرون إلى المنع من ذلك لأن المذهب يكون لازمًا له بعد التزامه له.

والمذهب الثالث في هذه المسألة: التفصيل؛ أي إذا اتصل عمل المكلف في مسألة بمذهب إمامه الأول فليس له تقليد الغير فيها وإن لم يتصل عمله بها فلا مانع من اتباع غير إمامه فيها وهذا التفصيل اختاره كثير من العلماء بما فيهم الآمدي (4) .

وشرط القرافي في تقليد مذهب غير إمامه ألا يكون موقعًا في أمر يجتمع على إبطاله الإمام الذي كان على مذهبه والإمام الذي انتقل إلى مذهبه فمن قلد مالكًا مثلاً في كون اللمس الخالي عن الشهوة لا ينقض الوضوء وقلد الشافعي في عدم فرضية دلك أعضاء الوضوء والغسل فإنه إذا توضأ ولمس امرأة بلا شهوة وصلى فإنه صلاته تصح عند مالك إذ كان قد دلك أعضاء الوضوء وإن لم يدلك فصلاته باطلة عند كل من الإمام مالك والشافعي (5) .

وبعض العلماء جوز الانتقال إلى مذهب غير إمامه إذا كان أحوط من مذهب إمامه أو كان دليله قويًّا راجحًا (6) .

(1) راجع حاشبة البناني 2 /400.

(2)

راجع كتابه الحاوي للفتاوى 1 /296

(3)

راجع إعلام الموقعين 4 /231.

(4)

راجع الإحكام للآمدي 3 /174، ومنتهى السول في علم الأصول له أيضا ص 72.

(5)

راجع نهاية السول مع الإبهاج 3 /190 – 191.

(6)

راجع تيسير التحرير 4 /255.

ص: 394

ويتخرج على القول بجواز الانتقال وأنه لا يجب عليه الاستمرار على مذهب إمامه جواز اتباعه رخص المذاهب، وفي هذه المسألة ثلاثة مذاهب:

المذاهب الأول – الجواز:

وقد اختار هذا المذهب بعض الأحناف (1) قال في فتح القدير: " ولا يمنع منه – أي تتبع الرخص – مانع شرعي؛ إذ للإنسان أن يسلك الأخف عليه إذا كان له إليه سبيل بأن لم يظهر من الشرع المنع والتحريم، وكان عليه الصلاة والسلام يحب ما خف عليهم (2) " أي على أمته.

وقد نسب ابن السبكي الجواز كذلك إلى ابن إسحاق المروزي (3) ، وهذا يتعارض مع ما نسب إليه من قوله أن متتبع الرخص يفسق بذلك كما سيأتي (4) .

قال سلطان العلماء العز بن عبد السلام: " وللعامي أن يعمل برخص المذاهب وإنكار ذلك جهل ممن أنكره لأن الأخذ بالرخص محبوب ودين الله يسر وما جعل عليكم في الدين من حرج "(5) ولكن قد ورد عنه ما يدل على أن هذا الكلام ليس على إطلاقه فقد قال: إنه ينظر في الفعل الذي فعله فإن كان مما اشتهر تحريمه في الشرع أثم وإلا لم يأثم (6) .

وبعد التحقيق يظهر أن هذا التفصيل يعتبر تحصيل حاصل إذا لا يتصور من عالم مسلم القول بجواز تتبع الرخص فيما يشتهر تحريمه في الشرع.

المذهب الثاني – المنع منه مطلقًا:

نقل عن ابن عبد البر قوله:" إنه لا يجوز تتبع الرخص إجماعا "(7) وقيل: إن دعوى الإجماع لا تصح لأنه قد نقل عن الإمام أحمد روايتان في تفسيق متتبع الرخص، وممن فسقه كذلك أبو إسحاق المروزي (8) وقال ابن أبي هريرة (9) :" لا يفسق لأنه متأول "(10) .

وقد تبين من هذا أنه لا إجماع ولعل رواية التفسيق إنما هو فيما إذا قصد من تتبع الرخص التلهي فقط وخص بعض الحنابلة التفسيق في حق المجتهدين الذي لم يؤد اجتهاده إلي الرخصة. (11) .

(1) الكمال ابن الهمام وابن أمير الحاج راجع التحرير 3/ 350، وحاشية العطار على جمع الجوامع 2/ 442.

(2)

راجع فواتح الرحموت 2 /406.

(3)

راجع جمع الجوامع مع شرح المحلى 2 /400 وأبو إسحاق المروزي هو إبراهيم بن أحمد بن إسحاق فقيه كبير من أصحاب المزني ومن مؤلفاته " الفصول في معرفة الأصول " توفي بمصر سنة 340 هـ، راجع ترجمته في وفيات الأعيان 1/ 4 ومعجم المؤلفين 1 /3.

(4)

راجع إرشاد الفحول ص 272.

(5)

راجع فتح العلي المالك لمحمد عليش مفتي المالكية في مصر 1/ 78.

(6)

راجع إرشاد الفحول ص 272.

(7)

راجع فواتح الرحموت 2 /406.

(8)

راجع إرشاد الفحول ص 272

(9)

هو أبو علي الحسن بن الحسين البغدادي المعروف بابن أبي هريرة، درس في بغداد وتخرج عليه خلق كثير منهم الدارقطني، توفي سنة 345 هـ، راجع ترجمته في وفيات الأعيان 1 /161.

(10)

راجع إرشاد الفحول ص 272.

(11)

راجع المصدر السابق ص272

ص: 395

وكثير من العلماء استدل بإحدى روايتي أحمد بعدم تفسيق متتبع الرخص في منع الإجماع الذي ذكره ابن عبد البر في تحريم تتبع الرخص، ولا يخفى ما فيه، إذ لا يلزم من عدم التفسيق القول بالجواز، فالأولى عندي منع هذا الإجماع بأقوال العلماء المصرحين بالجواز والله أعلم.

ومن أدلة هذا المذهب – أعني مذهب المنع – أنه يلزم على تقدير الأخذ بكل مذهب احتمال الوقوع في خلاف المجمع عليه، إذ ربما يكون المجموع الذي عمل به مما لم يقل به أحد فيكون باطلاً إجماعًا، كمن تزوج امرأة بلا صداق اتباعا لقول الإمامين أبي حنيفة والشافعي وبلا شهود اتباعًا لقول الإمام مالك وبلا ولي اتباعًا للإمام أبي حنيفة؛ فهذا النكاح باطل اتفاقًا.

وأجيب بأن هذا مندفع لعدم اتحاد المسألة، والإجماع على تحريم القول الثالث إنما يكون في حالة اتحاد المسألة حقيقة أو حكمًا (1) .

أقول وهذا مثال للتلفيق الذي سيأتي حكمه قريبا.

وقد بالغ الإمام الشاطبي في إنكار تتبع الرخص لما يترتب عليه من المفاسد فقال في الموافقات: " وقد أذكر في هذا المعني جملة مما في اتباع رخص المذاهب من المفاسد سوى ما تقدم ذكره في تضاعيف المسألة كالانسلاخ من الدين بترك اتباع الدليل إلى اتباع الخلاف، وكالاستهانة بالدين؛ إذ يصير بهذا الاعتبار سيالاً لا ينضبط، وكترك ما هو معلوم إلى ما ليس بمعلوم، لأن الخارجة عن مذهب مالك في هذه الأمصار مجهولة، وكانخرام قانون السياسة الشرعية بترك الانضباط إلى أمر معروف، وكإفضائه إلى القول بتلفيق المذاهب على وجه يخرق إجماعهم وغير ذلك من المفاسد التي يكثر تعدادها "(2) .

(1) راجع فواتح الرحموت 2 /407.

(2)

راجع الموافقات 4 /96.

ص: 396

المذهب الثالث – التفصيل:

وهذا المذهب يقوم على جواز تتبع الرخص ولكن ليس بإطلاق وإنما في حالة توفر بعض الشروط:

1-

ألا يكون الدافع إلى ذلك مجرد التشهي والتلهي واتباع الهوى.

2-

ألا يؤدي إلى ترك العزائم بحيث يخرج المكلف عن ربقة التكليف الذي هو إلزام ما فيه كلفة.

3-

أن يكون اتبع في المسألة المدونة المجتهدين الذين استقر الإجماع عليهم دون غيرهم.

4-

ألا يكون التتبع موقعًا في أمر يجمع على إبطاله إمامه الأول وإمامه الثاني كما ذكره الإمام القرافي المالكي (1) .

مسألة التلفيق بين المذاهب:

التلفيق في اللغة: هو ضم شيء إلى آخر تقول: لفقت الثوب ألفقه لفقًا وهو أن تضم شقته إلى أخرى فتخيطهما (2) .

أما في اصطلاح الأصوليين: فهو تركيب مسألة من مذهبين أو أكثر ويكون في جزئيات المسائل، وفي أجزاء الحكم الواحد.

فالأول جائز على الراجح، والثاني محظور باتفاق العلماء وفيه يقول ابن عابدين:" وإن الحكم الملفق باطل بالإجماع؛ مثاله: متوضئ سال من بدنه دم ولمس امرأة ثم صلى فإن صلاته ملفقة من المذهب الشافعي والحنفي والتلفيق باطل فصحته منتفية "(3) .

أما تتبع المذاهب في جزئيات المسائل فإن ابن عابدين لا يرى مانعًا منه وفي ذلك يقول: " أما لو صلى يومًا على مذهب وأراد أن يصلي يومًا آخر على غيره فلا يمنع منه فيحصل مما ذكرنا أنه ليس على الإنسان التزام مذهب معين، وأنه يجوز له أن يعمل بما يخالف ما عمله على مذهبه مقلدًا فيه غير إمامه مستجمعًا شروطه ويعمل بأمرين متضادين في حادثتين لا تعلق لواحدة منهما بالأخرى، وليس له إبطال عين ما فعله بتقليد إمام آخر؛ لأن إمضاء الفعل كإمضاء القاضي لا ينتقض.

بل ذهب ابن عابدين إلى أبعد من ذلك في أمر الانتقال من مذهب إلى مذهب فأجاز بعض العمل إذا لم يؤد إلى نقضه كما إذا صلى ظانا صحتها على مذهبه ثم تبين بطلانها في مذهبه وصحتها على مذهب غيره فله تقليده ويجتزئ بتلك الصلاة " (4) .

(1) راجع هذه المسألة في الكتب التالية: الحاوي للفتاوى للسيوطي 1 /296، وحاشية العطار على جمع الجوامع 2 /422، وشرح تنقيح الفصول 432.

(2)

راجع لسان العرب 3 /382 والقاموس المحيط 3 /381.

(3)

راجع حاشية ابن عابدين 1 /77.

(4)

راجع حاشية ابن عابدين 1 /78.

ص: 397

ولما كان لموضوع التلفيق صلة بمسألة جواز التقليد أو منعه وكذلك بمسألة جواز التزام مذهب معين وعدمه؛ فكثيرًا ما يخلط العلماء بين موضوع التلفيق وبين موضوع تتبع الرخص حتى إن بعضهم ليمثل لهما بنفس الأمثلة ويعطيهما نفس الحكم (1) .

ولكن لا يخفى أن التلفيق الذي تقدم تعريفه لا يدخل في الخلاف؛ أعني أن يلفق في قضية واحدة بين قولين أو أكثر فيتولد منهما – أو منها – حقيقة مركبة لا يقول بها أحد، كمن توضأ فمسح بعض رأسه مقلدًا للإمام الشافعي الذي يجتزئ بذلك، ثم بعد وضوئه لمس امرأة أجنبية مقلدًا للإمام أبي حنيفة في عدم نقضه الوضوء بذلك، فإن وضوءه على هذه الهيئة حقيقة مركبة لم يقل بها كلا الإمامين.

ولا شك في بطلان هذا النوع من التلفيق لأنه يفضي إلى محظور في الشرع، أما إذا قصدنا من التلفيق تتبع المذاهب في جزئيات المسائل فإن العلماء اختلفوا في ذلك فمن أجاز التقليد وأوجب الالتزام بمذهب معين منع التلفيق، ومن لم يوجبه جوز التلفيق.

وبعض العلماء جوز التلفيق بشروط هي:

ألا يخالف الإجماع أو القواعد الشرعية أو النص أو القياس الجلي.

فكل ما خالف ذلك وأدى إلى تقويض دعائم الشريعة والقضاء على حكمتها ومصالحها فهو محظور.

والذي نراه في هذا الموضوع جواز تتبع الرخص والتلفيق بين الأحكام الشرعية بالشروط المذكورة، وإذا كان الاجتهاد جماعيا كالذي يجري في مجمعنا الفقهي هذا وما شابهه من المجامع التي يبحث فيها علماء معتمدون لحل قضايا الأمة وخاصة في هذا العصر المعقد الحافل بالمسائل والقضايا المتجددة في المجتمع من جميع مجالات الحياة، وهذا الذي يتمشى مع شريعتنا السمحة التي تهدف دائما إلى تحقيق مصالح العباد، لذلك نرى فيها دائما ملحظًا للعصر والبيئة والعرف.

وهذا المذهب هو اختيار كثير من فقهائنا المعاصرين إما بالتصريح وإما من خلال أعمالهم العلمية، يقول الأستاذ فرج السنهوري:" ولم يلتزم واضعو قانون الوقف أحكام المذاهب الأربعة ولا أحكام مذهب معين، وأخذوا من كل مذهب ما تبينوا أن الحاجة ماسة إلى الأخذ به، وإذا كانت أحكام هذا القانون قد كونت مزيجًا فقهيا لا نجده في مذهب من هذه المذاهب فإن ذلك نتيجة حتمية للتخير من هذه المذاهب، لكنك لا تجد حكمًا منها غريبًا عن الفقه الإسلامي، ولا يعدو أي حكم منها أن يكون قولاً قال به إمام من أئمة المسلمين، أو رأيا قال به فقيه يعتد به أو يكون مركبًا من هذه الأقوال والآراء "(2) .

وبهذا الكلام الشامل الجامع تم هذا البحث. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العاملين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الدكتور أبو بكر دوكوري

(1) راجع أصول الأحكام للدكتور حمد الكبيسي ص2.

(2)

راجع أصول الأحكام لأستاذنا الدكتور حمد بن عبيد الكبيسي.

ص: 398

المناقشة

بسم الله الرحمن الرحيم

الأخذ بالرخص

الرئيس

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

نبتدئ جلسات العمل للدورة الثامنة مستعينين بالله تعالى ونسأله التوفيق والسداد في القول والعمل والصواب في الرأي، بين يديكم جدول أعمال الدورة الثامنة فلعلكم استعرضتموه فإن كان ثمة ملاحظة وإلا فيكون إقراره.

الشيخ علي التسخيري:

بسم الله الرحمن الرحيم

أود أن أهنئ السيد الرئيس وهيئة الرئاسة وكل الإخوة بتوفيقهم لعقد هذه الجلسة المباركة، في هذه الأرض المباركة إن شاء الله، أعتقد أن موضوع حقوق الإنسان موضوع حيوي وقد حدثت السيد الرئيس حول العالم اليوم دوامة حقوق الإنسان إذا صح هذا التعبير، وهو ينتظر منا أيضا أن نقول كلمتنا في هذا المجال، والموضوع أيضا استكتب فيه وكتب فيه عدد لا بأس به، أعتقد أننا لو خصصنا وقتًا ولو نصف وقت للاستماع إلى المقارنات التي تمت بين اللائحة الإسلامية واللائحة الدولية وذكرنا هنا على الأقل الميزات التي تمتاز بها اللائحة الإسلامية، وقد كنتم سيدي الرئيس أنتم أشرفتم على بعض مراحل إعدادها، فإن في ذلك أثرًا إثباتيًّا وثبوتيًّا، يعني له أثر حتى على المجال العملي وله أثر في المجال العالمي وشكرًا.

الرئيس:

فى الواقع أن الشيخ علي أثار معي الموضوع هذا بالأمس وأوضحت له أن موضوع حقوق الإنسان أجل إلى الدورة القادمة إن شاء الله تعالى لعدة أسباب منها أن هذا الموضوع لا بد من عقد ندوة فقهية له، لأن هذا الموضوع سيال فلا بد من تحديد معالمه ومنهجيته، الأمر الثاني أنه حصل مجددًا الدراسات – التي تمت في بنك التنمية الإسلامي – وهي الدراسات الاقتصادية التي كانت مؤجلة من الدراسات السابقة، والأمر الثالث أن هناك مشروعًا الذي سبق أن اشتركنا فيه سويًا في منظمة المؤتمر الإسلامي منذ ست سنين أو خمس لم يأت ملموسًا إلى هذه الأعمال ولم يكن عرضه على الباحثين حتى يضمنوه بحوثهم، فلهذا واستكمالا للموضوع رؤي تأجيله أو رأت الأمانة تأجيله إلى الدورة القادمة، وعلى كُلٍّ كُلُّ آت قريب إن شاء الله تعالى.

ص: 399

الشيخ عبد الله البسام:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد.

إن لم تكن هذه الملاحظة سابقة لأوانها فأنا أحب أن أعرضها، نحن الآن لدينا بحوث كثيرة في مسألة واحدة، فمثلاً الرخصة فيها أكثر من 15 بحثًا، هذا إتخام مع أنه يوجد قضايا ويوجد وسائل معاصرة تحتاج إلى البحث، فلو وزع كثرت المسائل فلو وزعت البحوث على الأعضاء والمراقبين وغيرهم مسبقًا بوقت كاف، كان أقوى وأجدى فالآن ماذا نقرأ من الرخصة، وماذا نبحث وماذا نناقش وأيها يبنى عليه

أنا أرى إن شاء الله تكون هذه الملاحظة للمستقبل. وشكرًا.

الرئيس:

على كل لن يغير في جدول الأعمال، إذن تمت الموافقة على جدول الأعمال، تفضل يا شيخ يوسف المنياوي.

الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجة:

بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. التوقيت وقع ضبطه من اليوم الأول قبل الجلسات، ولكن وقع السهو عن تعديله في الأوراق التي وزعت على حضراتكم، فالاجتماع يكون، أعني ابتداء الاجتماع هنا يكون الساعة الثامنة والنصف صباحًا وينتهى الساعة الثانية عشر والنصف، وبعد الظهر من الرابعة والنصف إلى الساعة السابعة والنصف، هذا هو الوقت الذي وقع الاتفاق عليه وشكرًا.

الشيخ عمر جاه: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أود أن أتقدم بالشكر إلى دولة سلطنة بروناي ووزارة الشؤون الدينية على استضافتها لهذه الدورة، وأشكر أيضا أمانة المجمع على الترتيبات الجيدة التي نحظى بها دائمًا في مثل هذه اللقاءات، وليس لدي تعليق على جدول الأعمال ولكن لي ملاحظات على قائمة الأعضاء المنتدبين لهذا المجمع؛ من المعروف أنني أجلس أمام دولة جامبيا، ولكن لاحظت أن اسم جامبيا ليس مدرجا في قائمة الأعضاء ولا اسمي مدرجًا في قائمة الأعضاء المنتدبين، وأريد أن ألفت النظر لهذا إن كان الاسم غائبا في النص الإنكليزي، لكنني أيضا وجدته مدرجًا تحت اسم المملكة العربية السعودية، ومن المعروف أن للمملكة مندوبًا، وإن كنت أقيم في المملكة لست مندوبًا عنها في هذه الجلسة وألفت النظر لهذا للأهمية، وشكرًا.

الرئيس:

إذن ندخل في الموضوع، تفضل يا شيخ

الشيخ وهبة الزحيلي:

نظرًا لأنه في كل مرة يكون هناك صيغ ما بين المقررات التي تتم في الدورة والمقررات السابقة، وأعتقد أنه لا بد أن تضم إذا سمحتم مقررًا مساعدًا يربط الماضي بالحاضر؛ وأقترح أن يكون الدكتور عبد الستار أبو غدة مقررًا مساعدًا للمقرر العام لتحقيق الانسجام بين قراراتنا الحالية والقرارات السابقة إذا شئتم.

ص: 400

الشيخ الحبيب ابن الخوجة:

يا سيدي النظام الذي نسير عليه كل سنة هو أن نختار مقررًا عاما. وقد وقع الاختيار على المقرر العام وهو سماحة الشيخ عبد الحميد بن باكل، وبالنسبة لكل موضوع مقرر، ومن أراد أن ينضم إلى لجنة الصياغة أو لجنة المقررين فلينضم، بالنسبة للجان المقررين الذين يرجعون إلى كل موضوع أخذنا واحدًا ممن كتبوا في تلك الموضوعات، وهذه المسائل تنظيمية. وشكرًا.

الرئيس:

كان المفترض أن يكون العارض الشيخ خليل الميس، لكن ما رأيت الشيخ خليل، والمقرر كذلك الشيخ محمد شقرة لم يصل فلعل الشيخ القبيسي.

الشيخ عبد العزيز الخياط:

أرى أن يكون الشيخ وهبة الزحيلي عارضا والشيخ القبيسي مقررا.

وهو يعني تسجيل رؤوس المداولات والاتجاهات التي حصلت فيها.

الشيخ وهبة الزحيلي:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد.

فإنه من حسن الطالع أن يكون بداية هذه الدورة هو بحث الأخذ بالرخص الشرعية وحكمه، وهو من الموضوعات المهمة التي نحتاج إليها، لا سيما ونحن نعاني جميعًا من أسفار طويلة، كلنا وقعنا في هذا الموضوع، ووجدنا أنفسنا بحاجة ماسة للأخذ بالرخص الشرعية، وتقليد المذاهب المختلفة فيما يعود على الواحد منا باليسر والسماحة والسهولة، ولذلك فإن هذا الموضوع ذو شقين، الشق الأول يتناول بحث الرخصة، والشق الثاني يتناول بحث التلفيق بين المذاهب، أما ما يتعلق بالرخصة فقد دمجت فيه ما تكلم فيه الفقهاء والأصوليون في مكان واحد وكان لكل منهم بحث مستقل في قضية العزيمة والرخصة عما هو موجود في نقاط العلم الآخر، ولذلك وجدت من الضرورة بمكان أن أدمج بين هذين الجانبين من حقلي هذا العلم في هذا الموضوع، وأوضحت أن الرخصة تقابل العزيمة وأن الرخصة هي التي تكون في مجال الأحكام الاستثنائية في مقابل العزيمة التي هي الأحكام الشرعية العامة التي تقرر لجميع المكلفين في جميع الأحوال كأداء فرائض الصلاة والزكاة والشعائر الإسلامية، أما الرخص في استثناءات يكون المسلم بأشد الحاجة إليها في حالات طارئة سواء ما يتعلق في قضايا العقيدة كالتلفظ بالكفر عند الإكراه أو ما يتعلق بممارسة العبادة كقضايا القصر والجمع والأعذار المرضية وقضايا السفر والأكل من المحرمات في حال الضرورة، وبينت مناهج العلماء في تقسيمات الرخصة والعزيمة.

وهذه المناهج في الحقيقة متقاربة فمنهم من يجعل الرخصة واجبة كأكل الميتة للمضطر ونحوها كشرب الخمر أيضا للمضطر عند الغصص وعند العطش الشديد، ومنهم من يجعلها مندوبة كقصر الصلاة للمسافر إذا قطع مسافة معينة، ومنه من يجعل الرخصة مباحة؛ فالعقود المقررة في الشريعة، العقود الاستثنائية من القواعد العامة كعقود السلم وبيع العرايا؛ يعني بيع الرطب على رؤوس النخيل بما يقابله من التمر خرصًا وعقود الإيجارات والمساقاة والمزارعة والمغارسة وغير ذلك؛ وهذا النوع الذي هو من الرخص المباحة، نجد الحنفية توسعوا في هذا الأمر فقسموا أيضا الرخصة المباحة إلى تقسيمات؛ منها تقسيم الفعل المحرم عند الضرورة أو الحاجة، ومنها تقسيم إباحة ترك الواجب إذا كان في فعله مشقة كإباحة الفطر في رمضان، ومنها إباحة العقود والتصرفات يعني مما يتفق مع غيرهم كذلك، فإذن الحنفية يرون الرخصة لا تعني أن تكون إما مباحة أو واجبة، الشاطبي من المالكية جعل أربعة إطلاقات للرخصة هي في الحقيقة تدخل في الغالب تحت إباحة الأحكام في حال الاستثناءات الضرورية، وأما ما يذكره الحنفية من رخصة الترفيه ورخصة الإسقاط فهي لا تعدو أن تكون فلسفة وقوع الإذن طرافية، إذ لا يترتب في الغالب على هذا التقسيم من استثناءات أو أحكام.

ص: 401

وبينت قضية ضوابط الأخذ بالرخصة، وهذا هو العمود الفقري في هذا الموضوع؛ لأنه لا ينبغي أن نأخذ بالرخص على إطلاقها وإنما نبيحها إذا وجد هناك عذر، والعذر يشمل المشقة والحاجة، وهناك أمثلة للعذر مثل حال الضرورة وحال الحاجة والإكراه والسفر والمرض والخوف الشديد وبينت أن المشاق تتفاوت بحسب ما يتعرض له الإنسان من أحوال مما يقتضي أن يكون هناك إلحاح في تخفيف الحكم الشرعى بالنسبة لشدة المشقة أو خفتها فبينت ما ذكره ابن نجيم في قضية تصادم المشقة مع النص، وأوضحت أنه مع النص لا يجوز التخفيف بالمشقة إلا في حال الضرورة التي نص عليها القرآن الكريم أو ما هو في معنى الضرورة.

ثم بينت موضوع الشائع العمل به بين الناس في قضية تتبع الرخص، وأما تتبع رخص المذاهب الفقهية فهو محل خلاف شديد بين العلماء، ومعنى تتبع الرخص أن يأخذ الشخص في كل مذهب ما هو أهون عليه وأيسر فيما يطرأ عليه من المسائل، ومتأخرو العلماء شرطوا أن لا يؤدي التقليد إلى تتبع الرخص، وآراؤهم في هذا تتفاوت بين مراحل أو مراتب ثلاثة فمنهم المشدد ومنهم الضيق ومنهم المتوسط.

فالمشددون في تتبع الرخص قالوا: لا يجوز تتبع الرخص، وهم كثيرون؛ لأنه اتباع للهوى وعمل بالشهوة وأن اتباع الهوى لا يجوز ولذلك منعوا تتبع الرخص وحكى بعضهم كابن عبد البر وابن حزم الإجماع في ذلك، ولكن سنبين أن هذا الإجماع أو حكاية هذا الإجماع محل نظر لأن كثيرًا من العلماء نازعوا فيه مما يدل على عدم ثبوت الإجماع في منع تتبع الرخص.

والمخففون – وهم أكثر الشافعية وأكثر الحنفية – أجازوا تتبع الرخص لأنه لم يوجد في الشرع ما يمنع منه، وأوضحوا أن الإسلام يقوم على مبدأ السماحة واليسر، وأنه سواء في نصوص القرآن والسنة ما يدل صراحة على أن هذه الشرعية دائمًا تتجاوب مع مبدأ اليسر في الأحكام والتنفير من التشديد على الناس.

وبعضهم توسط في الموضوع – وهو القرافي – فقال: يجوز تتبع الرخص بشرط ألا يترتب عليه العمل بما هو باطل عند جميع من قلد. وهذا القول في الحقيقة الذي ذكره القرافي لا نجد دليلاً عليه من نص أو إجماع وإنما هو اصطلاح ذكره بعض المتأخرين، وكذلك قول ابن عبد البر: لا يجوز تتبع الرخص إجماعًا؛ أيضا لا نسلم صحة النقل عنه وإن نقل. فإن هذا متأول لأن فيه تفسيق متتبع الرخص

وحمل القاضي أبو يعلى الرواية المفسقة على غير متأول ولا مقلد. ورأيت في النهاية أن الراجح جواز تتبع الرخص للضرورة أو الحاجة دون أن يكون هناك قصد التعمد وقصد العبث أو التلهي وبشرط ألا يؤدي تتبع الرخص إلى التلفيق الممنوع؛ لأن هناك حظرًا في بعض أحوال التلفيق.

ص: 402

ثم انتقلت إلى بحث التلفيق الذي يقع فيه العوام حكمًا، فما من عامي إلا وهو ملفق، لأنه يسأل العلماء دون أن يعرف مذهب مفتيه فيقع في الواقع في التلفيق، لأنه مضطر إلى أن يعرف الحكم الشرعي حينما يجاب عن قضية من القضايا، ثم يسأل عبر هذا المفتي وهو من أنصار أتباع مذهب آخر نجده يأخذ بالرأي الآخر فيقع في التلفيق حكمًا، والتلفيق هو الإتيان بكيفية لا يقول بها المجتهد إذا عرضت عليه؛ كأن يقلد أحد مذهب الإمام الشافعي في الاكتفاء بمسح بعض الرأس، ثم يقلد مذهبًا آخر كالحنفية والمالكية في عدم نقض الوضوء بلمس المرأة ثم مع أن أبا حنيفة يطالب بضرورة مسح ربع الرأس، والإمام مالك والإمام أحمد يطالبان بضرورة مسح جميع الرأس، وكذلك قضية دلك الأعضاء؛ في النتيجة يكون قد وصل هذا الشخص إلى حالة إذا عرضت على كل إمام من الأئمة لا يقرها، وهذا أعتقد من التلفيق الذي لا أجد فيه منعًا. لكن هناك تلفيق ممنوع مثل التلفيق في الأحوال الشخصية بأن يتزوج رجل امرأة بلا ولي ولا مهر ولا شهود مقلدًا كل مذهب فيما لا يقول به الآخر فهذا يؤدي في النتيجة إلى استباحة الأبضاع والخروج من قيود الشريعة؛ فلذلك أجد هذا من التلفيق الممنوع، وقد نص العلماء على ذلك. كذلك قضية التحليل أن يطلق المرأة البائن بينونة كبرى تطلق فيما تزوج بابن عمره تسع سنوات مقلدًا في هذا الزواج مذهب الشافعية من أجل تحليل المرأة مع أن هذا التقليد غير صحيح لأن الشافعية لا يجيزون تزويج الابن القاصر إلا من قبل ولي عدل وأن يكون في هذا الزواج مصلحة فلذلك هذا التلفيق أيضا ممنوع، للتلفيق مجال في الأحكام الفرعية العملية الاجتهادية الظنية، أما ما يتعلق في العقائد وأصول الدين، وما علم من الدين بالضرورة والأمور المجمع عليها والتي يكفر جاحدها فلا مجال للتلفيق فيها.

العلماء انقسموا في قضية التلفيق إلى قسمين، منهم من يرى، وهم أكثر المتأخرين، يرون منع التلفيق، ورأي آخر لجماعة كثر يرون جواز التلفيق، والمانعون يستدلون على ما قرره علماء الأصول في قضية الإجماع من منع إحداث قول ثالث إذا اختلف السابقون في مسألة على رأيين؛ فقال أكثر العلماء: إن وجود قول ثالث في هذا الموضوع مثل عدة الحامل المتوفى عنها زوجها فيها رأيان: وضع الحمل وأبعد الأجلين، فلا يجوز إحداث قول ثالث بأن عدتها بالأشهر فقط؛ استندوا على هذا المنع.

فقرروا عدم جواز التلفيق، وبينت أن هذا غير سديد لأن تقليد كل إمام في قضية ليس من قبيل إحداث قول ثالث وإنما التقليد في جزئية تختلف عن الجزئية التي قلد فيها ذلك الإمام، ونقضت أدلة هؤلاء المانعين ونقلت عن كثير من العلماء سواء الحنفية والمالكية والشافعية ما يدل على جواز التلفيق.

وهذا كما أوضحت في أن تتبع الرخص يتفق مع المبدأ الذي قام عليه الإسلام وهو أنه شريعة اليسر والسماحة وليس في ذلك حظر يقوم على التشديد والإعنات وإيقاع الناس في الحرج، لكن ليس كل تلفيق جائزًا، وإنما التلفيق منه ما هو جائز ومنه ما هو ممنوع، وقد حصرت التلفيق الممنوع في ثلاثة أنواع؛ النوع الأول: تتبع الرخص عمدًا وهو ما قلت سابقًا في قضية جواز تتبع الرخص: يجوز بشرط ألا يؤدي إلى التلفيق الممنوع. ثم النوع الثاني: التلفيق الذي يستلزم نقض حكم الحاكم، ثم النوع الثالث: التلفيق الذي يستلزم الرجوع عما عمل به تقليدًا أو عن أمر مجمع عليه لازم لأمر آخر قلده، وأتيت بالأمثلة على هذا.

ص: 403

ثم أوضحت أن للتلفيق حكمًا في كل التكاليف الشرعية وأوضحت أن للتكاليف الشرعية أقسامًا ثلاثة، منها ما بني في الشريعة على اليسر والسماحة كالعبادات المحضة وهذه يجوز فيها التلفيق للضرورة أو لحاجة؛ ومنها قسم يقوم على الورع والاحتياط، وهو المحظورات، فهذه لا يجوز التلفيق فيها إلا عند الضرورات الشرعية لأن الضرورات تبيح المحظورات؛ وأما النوع الذي مناطه في هذه الشريعة على مبدأ رعاية المصالح ودرء المضار والمفاسد فهو قضايا المعاملات والحدود وأداء الأموال، فهذه بينت وجود التلفيق فيها، لكن المبدأ وإطار عام هذا المبدأ وهو أن كل ما أفضى إلى تقويض دعائم الشريعة والقضاء على سياستها وحكمتها فهو محظور، وخصوصًا الحيل الشرعية، وأما ما يؤدى إلى تحقيق مقاصد الشريعة ورعاية حكمها وسياستها وإسعاد الناس في الدارين لتيسير العبادات عليهم وصون مصالحهم فهو جائز ولا مانع من ذلك. فإذن التلفيق الجائز عند الحاجة أو الضرورة وليس من أجل العبث أو تتبع الأيسر والأسهل.

ثم أوضحت ما ينبغى ترجيحه في عصرنا الحاضر في قضايا المذاهب، وبينت المبدأ أن الحق لا يتعدد وأنه لا بد أن يكون من خلال هذه الآراء التي قررتها المذاهب أن يكون الرأي الحق واحدًا منها بعينه ولكننا لا نعرفه وحينما لا نعرف سبب القطاع الوحيد فحينئذ يجوز أن يقلد الناس هذه الآراء من دون حرج، لكن إذا وصل العالم إلى مرتبة يتمكن فيها من الترجيح بين آراء المجتهدين فحينئذ لا يجوز له أن يعمل بالقول الضعيف ويترك الرأي الذي شهد له الكتاب والسنة الصحيحة بضرورة العمل به.

لذلك الترجيح بين المذاهب ينبغي أن يكون على وفق ما يأتي وهو العمل بالنصوص القطعية أو الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة، أما ما يتعلق بالأمور الاجتهادية وهي التي وردت فيها أحكام ونصوص ظنية الثبوت والدلالة، أو ظنية الدلالة وحدها، فهذه الأحكام التي لم يرد فيه نص ولا إجماع كالأحكام القياسية والمصلحية والعرفية، فهذه هي مجال الترجيح بين العلماء، وخصوصًا في عصرنا الحاضر حيث اتجه العلماء إلى وضع التقنيات المستمدة من الشريعة الإسلامية إلى هذا الاتجاه وأخذوا بالمذاهب المختلفة واستفادوا من جملة المذاهب ولم يتقيدوا بالمذاهب الأربعة في بعض القوانين السائدة والمعمول بها في مصر وسوريا وغيرها من البلاد الإسلامية؛ أخذوا بقوانين الأحكام فيها ليست من المذاهب الأربعة، مما يدل على أنهم ارتأوا الاتجاه نحو العمل بما يحقق مصالح الناس والامتناع عن كل ما يلحق بهم الضرر أو يوقعهم في الحظر.

ص: 404

خاتمة البحث أخيرًا: بينت أن العمل بالرخصة أمر مباح مساو للعمل بالعزيمة وقد تكون مندوبة لحاجة أو واجبة إذا كانت سببًا للحفاظ على الحياة، فقد تكون خلاف الأولى عند الحاجة، المبدأ الثاني: أن العذر المبيح للأخذ بالرخصة هو الضرورة أو الحاجة أو المشقة أو الإكراه أو السفر أو المرض أو الخوف الشديد ونحو ذلك مما لا يتلاءم أو مما يتفق مع مقاصد الشريعة وسماحتها، والمشقة ضابطها يختلف بحسب كل عبادة تؤسس فيها إشفاقًا أو تخفيفًا، هذا في العبادات تتفاوت؛ أما في المعاملات فالمشاق بالمرتبة الواحدة، والمشقة أو دفع الحرج تعتبر في موضع لا نص فيه. المبدأ الخامس: لا مانع من تتبع الرخص أو الأخذ بما هو أهون وأيسر على المكلف للضرورة أو الحاجة.

سادسًا: فالتلفيق الممنوع أنواع ثلاثة: تتبع الرخص عمدًا، والذي يستلزم نقض حكم الحاكم، والذي يستلزم الرجوع عن الحكم بعد العمل به، أو الأمر اللازم لأمر آخر مجمع عليه.

سابعًا: التلفيق جائز للضرورة أو الحاجة في أحكام الشريعة المبنية على اليسر والسماحة كالعبادات المحضة، وفي الأحكام المبنية على مصالح العباد وسعادتهم وهذا ما ألمح إليه سعادة الأمين العام في خطابه في الجلسة الافتتاحية أن هذه الأحكام التي نعمل بها إنما هي جائزة في هذه القيود، ثم بينت أن المفتي والمجتهد يلزمه أن يعمل بثوابت الشريعة وأما المتغيرات فعليه أن يعمل بظواهر الكتاب والسنة ويفتي بالراجح من آراء المذاهب، والترجيح يكون إما باتباع الحديث الصحيح ثم مراعاة المصالح الزمنية والأعراف الصحيحة التي لا تصادم نصوص الشريعة. كما يلاحظ مبدأ سد الذرائع إلى الفساد والشروع والميزان لأن العمل بالراجح أمر يوجبه الشرع والعقل.

أخيرًا وهذا من مبادئي منذ أن توليت التدريس في الجامعات، دائمًا أنادي بنبذ العصبية المذهبية التي تفرق ولا تجمع وتضر ولا تنفع وعلينا أن نلتزم بمبدأ وحدة الإسلام، ووحدة الشريعة، عند الإمكان، وألا نجنح إلى التطرف أو التعصب الذي يؤدي إلى التفريق وإلى الخصام والنزاع، والتزمت بتوجيهات جيدة في كتابة البحث طلبت منا عند كتابة البحوث من أمانة المجمع وهي أن يضم في آخر كل بحث التوصية المقترحة الصادرة عن المجمع بحسب ما يرى، قد يختلف عند وجود صياغة ولكن التزمت التوصيات، وهذا منهج حكيم، هذا العام وضعت خطة الأمانة العامة للمجمع عندما استكتب السادة الأعضاء كتبت إليهم خطة في ضرورة اتباعها وهذا من ضمن الخطة فالتزمت بذلك ورأيت أن تكون التوصية تتضمن الفقرات الخمسة التالية:

أولاً: لا حرج ولا جناح على أحد بالعمل بالرخص الشرعية، ويترك أمر تقدير المشقة للمكلف بالعبادات، وأما في المعاملات فيكتفى بأدنى المشاق وقد تكون الرخصة أمرًا مندوبًا أو واجبًا أو خلاف الأولى.

ص: 405

ثانيًا: لا مانع من تتبع رخص المذاهب الشرعية للأخذ بالأهون والأيسر والأخف للضرورة والحاجة دون قصد تتبع الرخص عمدًا من غير مسوغ أو بقصد العبث والتلهي بشرط أن لا يؤدي إلى التلفيق الممنوع شرعًا لإخلاله بواجب احترام الشريعة الأصلية.

ثالثًا: التلفيق الممنوع هو ما ذكرته مرارًا وأدى إلى تتبع الرخص عمدًا أو استلزام نقض حكم الحاكم أو الرجوع عن أمر مجمع عليه أو بعد العمل بأمر من الأمور التي قلد فيها.

رابعًا: التلفيق جائز للضرورة أو الحاجة في أحكام الشريعة المبنية على اليسر والسماحة كالعبادات المحضة غير المالية وفي أحكام المعاملات القائمة على مبدأ رعاية المصالح ودفع المضار والمفاسد؛ ما لم يؤد ذلك إلى تقويض دعائم الشريعة والقضاء على سياستها وحكمتها لإسعاد الناس في الدارين.

أخيرًا، على المفتي أو المجتهد أو المقلد التزام ثوابت الشريعة وأحكامها الأساسية وله في مجال الأحكام القياسية المصلحية أو العرفية مراعاة المصالح الزمنية والأعراف التي لا تصادم نصًا شرعيًا، كما له أن يلاحظ سد الذرائع والمفاسد والمضار، ولا بد في الترجيح بين الآراء من التزام ظاهر القرآن والسنة والعمل بالحديث الصحيح وعدم الخروج عن الإجماع ولا داعي للعصبية المذهبية بعد هذا المنهج الذي ارتأيته والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وشكرًا.

الشيخ علي التسخيري:

بسم الله الرحمن الرحيم

أود أولاً أن أشكر كل الذين كتبو في هذا الموضوع فقد كانت كتاباتهم مفيدة حقًا، إلا أني أود أن أعتذر إلى كثير ممن كتبوا فيه بأنهم لم يحرروا محل النزاع بدقة وربما خرجوا عن الموضوع، الموضوع المطروح هو مسألة تتبع الرخص، والتقسيمات التي ذكرت أحيانا في بعض المقالات وصلت إلى أربعين صفحة هي أنواع الرخص الشرعية، والذي يدل على أنه لا علاقة بين الأمرين أنه لا خلاف مطلقًا في أنه لو ثبتت رخصة من أي طريق كانت وبظروفها الحالية فلا شك في جواز اتباع هذه الرخصة، الكلام ليس في الرخص بمعنى الأحكام الثانوية التي تعرض على الأحكام الأولية العامة، الكلام كله في مسألة اتباع رخص المذاهب وأنه لو كانت أمام فرد فتويان فإحداهما ملزمة والأخرى تفقد عنصر الإلزام، أو يقل فيها عنصر الإلزام، فهل له أن يتبع الفتوى التي تفقد عنصر الإلزام أم لا؟ إذا تم هذا فأود أن أقول إن الموضوع في مسألة اتباع الرخص يتوقف على التلفيق بالمعنى الأعم، إن كان التلفيق بين الآراء الاجتهادية أو بين المذاهب وعندما قلنا التلفيق العام أنه معنى عام هو الجمع بين فتويين وأسميته أنا التبعيض فرارًا من كلمة التلفيق التي فيها معنى سلبي بصفة أن يكون التلفيق مصطلحا هل للإنسان أن يتبع فتويين في عملين مستقلين، أو في عمل واحد مركب وأسميه العمل الارتباطي كالصلاة؟ هذا المعنى العام يشمل الأمرين وربما أجاز أحد أن يتبع الإنسان فتويين في عملين مستقلين ولم يجز اتباع فتويين في عمل واحد باعتبار أن هذا العمل واحد يرفضه صاحبا الفتويين معًا. أما إذا كان العملان مستقلين فأتبع فتوى هذا المجتهد في هذا العمل وذلك المجتهد في العمل الآخر.

ص: 406

على أي حال إذن يجب أن نحقق إمكان التلفيق. التلفيق لا يتم إلا من قبل المجتهد تمت عليه الحجة، هو عليه أن يستنبط، المقلد والعامي وغير المجتهد هو الذي يطرح في حقه إن كان التلفيق بين الفتاوى فهل يمكن التلفيق أم لا؟ قلت في بحثي إن هذا يتوقف على مسألة خلافية بين العلماء وهي هل يجب تقليد الأعلم إذا كان هناك أعلم وعالم وكانا مختلفين في الفتوى؟. هل يجب علينا اتباع الأعلم أو أنهما معًا طريقان إلى الحكم الشرعي السائد، لدى الفقه الإمامي هو اتباع الأعلم ولذلك مسألة التلفيق والتبعيض غير معروفة لديهم إلا إذا تصورنا أن هناك رجلين في القمة من العلم متساويان، أما بعد بحثي أن اشتراط الأعلمية غير تام رغم أن هذا يخالف مشهور العلماء لدينا، ورغم أن هذا هو رأي مجمع فقه أهل البيت لكن ما توصلت إليه لا يجب أن يكون المقلد أعلم، وحينئذ ينفتح باب التلفيق على مصراعيه بشكل واضح، الذين يؤمنون بأن الآراء الاجتهادية كلها طرق إلى الحقيقة الواحدة وهي الحكم الشرعي وهي طرق مشروعة فإن أمام العامي طرق عديدة يمكنه أن يسلك أيًا منها للوصول إلى الحكم الشرعي باعتبار التزامها بالقوانين أو الضوابط والملاحظات المطروحة للاجتهاد والمذاهب هكذا ما دامت كذلك فهي طرق لنا إلى الواقع الشرعي وحينئذ إذا أمكن التلفيق يمكن اتباع الرخص، رخص المذاهب، وأود أن أؤكد أن التلفيق غير اتباع الرخص فالتلفيق عام قد يتبع الإنسان حكمين إلزاميين لأنهما منسجمان مع بعضيهما، أما اتباع الرخص فهو اتباع الحكم الأسهل والأكثر والأقل إلزامًا للمكلف.

وحينئذ سيدي الرئيس أعتقد أن محور البحث هو هذا، يعني دعنا نترك أقسام الرخصة رغم أنها مفيدة، كل التركيز على مسألة اتباع الرخص، ومسألة اتباع الرخص متوقف على مسألة التلفيق بكلا المعنيين، وقد ناقشت هذا المعنى، ومسألة التلفيق متوقفة على رفض اشتراط الأعلمية إذا اختلف الأعلم مع العالم في موضوع ما، وبعد أن حققت هذا المعنى رأيت من الممكن التلفيق وكذلك من الممكن اتباع الرخص على ضوء التلفيق إلا أن هناك موانع دفعت العلماء للوقوف في وجه اتباع الرخص. منها ما يستعمل أحيانا للهوى ومما يؤدي إلى مخالفة جزمية قطعية للحكم الشرعي، وإذا أدى هذا العمل إلى مخالفة قطعية فكل الطرق إليه منعت، ومنها ما قد يؤدي أحيانا إلى التساهل في أمر الدين إذا تجاوزنا هذه الحالات، ودعنا من عبث الشعراء وما يطرحونه في أشعارهم ورأينا المسألة بحالتها الطبيعية دونما هوى ودونما هجوم فلا مانع من تتبع رخص المذاهب.

ص: 407

وقد ذكرت في بحثي، وأرجو أن يطالع السادة آخر البحث، فوائد التلفيق في ثلاث نقاط.

النقطة الأولى: هي مسألة التسهيل وتأتي في المجالات الفردية والاجتماعية، والنقطة الثانية سيدي الرئيس: في مسألة ما لو وجد الحاكم أن هناك فتاوى حتى لو كانت إلزامية أكثر انسجامًا في تشكيل نظام اجتماعي يمكن تطبيقه في هذه الحالة فيمكنه أن يلفق بين الفتاوى، ومنها أيضا ما فعله المرحوم الشهيد الصدر عندما أراد أن يكتشف المذهب الاقتصادي الإسلامي فراح يبحث عن الاجتهادات المشروعة التي تشكل خطا اقتصاديا واحدًا ليشكل عناصر من النظرية الاقتصادية العامة، أعتقد أنها فوائد يمكنها أن تترتب على التلفيق إذا أخذناه بحالته الطبيعية؛ هذا وأعتذر إذا كنت قد أطلت في التعليق، وشكرًا.

الشيخ محمد تقي العثماني:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الكريم وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد:

فالواقع أن الموضوع المطروح لدينا، في هذه الجلسة هو موضوع الأخذ بالرخص، موضوع شائك وخطير من حيث إنه قد حدث في عصرنا هذا وجهتان للنظر في هذا الموضوع؛ وجهة جامدة تجمد على العصبية المذهبية، ووجهة أخرى قد تستغل موضوع تتبع الرخص، وموضوع المأخذ بالرخصة للإباحية المطلقة وللتطرف ولاستباحة المحرمات الشرعية، فيجب علينا أن نحذر كل الحذر عند الأخذ بقرار في هذا الموضوع والذى يؤدي إليه نظري هو أن هذا الموضوع ينقسم إلى قسمين كما تفضل أخونا الشيخ محمد علي التسخيري؛ أن الأخذ بالرخصة الأصولية التي ذكرها الفقهاء والتي ذكرها الأصوليون، فهذا الموضوع قد فرغ منه وليس هناك من شيء جديد نأتي به في هذه الجلسة في هذا الموضوع.

أما الموضوع الثاني وهو موضوع تتبع الرخص أو الأخذ بالرخص في المذاهب الفقهية والأخذ بالرخص بين المذاهب و، الثاني تتبع الرخص من المذاهب. أما الأخذ بالرخص فإنما أعني به أن يأتي رجل عالم عند قدرة من المقارنة بين أدلة الفقهاء؛ فيرجح نظرية فقهية على نظرية أخرى على أساس الدليل فهذا لا مانع منه أبدًا، وهو الذي أخذ به الفقهاء وذكروا أن ذلك من الواجبات الشرعية، أما أن يكون الإنسان يتتبع الرخص في مختلف المذاهب لمجرد التشهي ولاتباع هواه فهذا مما لم يبحه أحد، وإن كلمة التتبع حينما نستعمل كلمة التتبع تتبع الرخص فإنما يراد بها المعنى الثاني، ولهذا لم أجد فيما قرأته وقلبت النظر أن أحدًا من الفقهاء الحنفية أجازوا ذلك، وقد ذكر الدكتور وهبة أن الراجح عند الحنفية هو أنه يجوز التتبع بالرخص عند المذاهب، ولم أر عند فقهاء الحنفية من أجاز تتبع الرخص بهذه الكلمة إنما أجازوا الأخذ بالرخصة أو الأخذ بالمذهب الفقهي الآخر على أساس الدليل أو على أساس الحاجة الاجتماعية للضرورة.

ص: 408

فالذي يتلخص في نظري أنه يجوز الأخذ بالمذهب الفقهي الآخر في حالات ثلاث؛ الأولى: إذا كان الراجح من حيث الدليل هو ذلك المذهب في نظر ذلك الفقيه فحينئذ يجب عليه أن يأخذ به. والثانية: أن تكون هناك حاجة أو ضرورة اجتماعية داعية للأخذ بذلك المذهب، ووقع المسلمون في الأمة الإسلامية في حرج شديد فحينئذ يأخذون بمذهب أيسر وأهون عليهم فهذا مما لاشك في جوازه. الثالثة: هو أن يقع الإنسان شخصيا في عذر شخصي ويأخذ بالرخصة الشرعية من المذهب الآخر فهذا أيضا مما لا حرج فيه، أما أن يكون الإنسان يتتبع الرخص من حيث إنه يلتقط الرخص من المذاهب لتكون الحياة عليه أيسر أو ليتبع هواه؛ فهذا مما قال فيه الإمام الأوزاعي رحمه الله: من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام، فلو التقطنا مثلاً مذهب ابن عمر رضي الله تعالى عنه في الصرف وأخذنا مذهب بعض أهل مكة في الإتيان في الدبر ومذهب فلان في مسألة الصورة ومذهب فلان في مسألة أخرى فهذا يعنى ربما يجعل الإسلام لعبة بأيدي المتطفلين، فهذا مما يجب أن نحذر منه.

وفيما ذكره الدكتور وهبه حفظه الله تعالى مجهولاً عن كثير من البحث، ولكنه ذكر أن الراجح عند الحنفية أنه يجوز عند تتبع الرخص من المذاهب، وهذا لا أعتقد أن الحنفية رجحوا هذا القول ولكن ما ذكره في آخر القرار بأنه تتبع الرخص عمدًا من حيث اتباع الهوى فهذا لا يجوز، فهذا مما أثبته وأثنى عليه، ولكن عبارته في مقدمة بحثه مما قد يوحي إلى أن الإنسان يجوز أن يلتقط الرخص من شتى المذاهب مع قطع النظر على الدليل ومع قطع النظر عن الحاجة فهذا مما ينبغي أن نبعد الاحتمال، وأقول قولي هذا، واستغفر الله لي ولكم، وشكرًا.

الشيخ عبد الله محمد:

بسم الله الرحمن الرحيم

شكرًا سعادة الرئيس، اسمي الصحيح عبد الله محمد وفي الواقع الدكتور العارض الدكتور الشيخ الزحيلي وفى الموضوع حقه، لأنني قلت كلمة أخيرة وهي التي اختتمت بها بحثي وهي أن فائدة الرخص والتلفيق ترجع في زمننا الحاضر إلى ما استقر عليه العمل في مختلف البلاد الإسلامية وهي وضع قوانين تعالج موضوعات مختلفة كالقانون المدني، والقانون الجزائي، والقانون التجاري، وهكذا ففائدة البحث ترجع إلى هذه المسألة وإلا فالبحث الفقهي أو الأصولي لن نأتي بجديد فيه، فكل البحوث تقريبًا تلتقي حول المسائل المقررة في كتب الأصول، إنما الجديد في الموضوع هو في هذه الناحية من صياغة القوانين، وموقف علماء المسلمين من هذه الخطوة التي اتخذتها الآن كل البلاد تقريبًا لأنني وجدت في كثير من بعض البلاد الخليجية من يعارض وضع قوانين لأن فيها إلزامًا للقضاة والأصل في القاضي أن يكون مجتهدًا ولا يخضع لرأي أحد، هذه المسألة في الواقع تحتاج إلى كثير من النقاش حتى تستقر الأمور، وجدت في الواقع أنه سبقني إلى هذه الفكرة الشيخ أحمد فرج السنهوري رحمه الله في بحث تقدم به إلى مجمع البحوث، وأنا ما وجدت البحث إنما وجت ملتقطات أو متفرقات نشرت في مجلة الأزهر، وأشرت إلى العديد منها، فقسم الموضوع إلى ثلاثة أقسام: أي الاجتهاد: التلفيق في الاجتهاد والتلفيق في التقليد، والتلفيق في التشريع، ونختصر على الموضوع الأخير وهو التلفيق في التشريع بمعنى أن يتخير ولي الأمر من أقوال مختلف المذاهب لصياغة قانون موحد، كقانون الأحوال الشخصية أو القانون المدني أو القانون التجاري أو القانون الجزائي. ما موقف العلماء من هذه المسألة أو ما موقف الفقه الإسلامي أو الشريعة الإسلامية من هذه المسألة؟

ص: 409

فى الواقع مجلة الأحكام العدلية في العهد العثماني أخذت بقدر يسير، يعني المجلة وضعت على وفق المذهب الحنفي، ولكن الذين وضعوا المجلة وجدوا أن الخروج في بعض المسائل على القول الراجح في المذهب الحنفي وأخذوا بالقول المرجوح فيه. كما أنهم أحيانا خرجوا عن المذهب الحنفي وأخذوا مذهب ابن شبرمة فيما يتعلق بالشروط وقالوا: إن ذلك أوفق وأصلح لمصلحة الناس، وفي العصور المتأخرة بدأت لجان بمصر بوضع قانون الأحوال الشخصية خرجت فيها أيضا عن المذهب الحنفي وأخذت في بعض الأقوال بمذهب المالكية خصوصًا فيما يتعلق بتطليق المرأة وبالإعسار وبالإعسار في النفقة، وهكذا ففي الواقع خلاصة الأمر أن الثمرة المرجوة من هذه البحوث؛ من هذا الموضوع، هو هذا وأرجوا أن نتفق على رأي يسهل الأمور للناس ويبعدهم عن العبث وعن المشقة وما إلى ذلك، لأن التقيد بمذهب واحد فيه مشقة وفيه نوع من التضييق على الناس، إن الانتفاع والاستفادة من الفقه الإسلامى كله يحقق المصلحة ويحررنا ويحرر الشعوب الإسلامية الذين ساروا خلف التشريع الوضعي، لأنهم رأوا في بعض الأقوال أو في بعض المسائل ما لا يتفق مع ظروف العصر خصوصًا فيما يتعلق بالمعاملات فلجؤوا إلى الاقتباس أو الأخذ من التشريعات الوضعية، وأنا أجد أن الفقه الإسلامي بمذاهبه المختلفة يحقق هذا الغرض ويحمينا من التبعية التشريعية للقوانين الأجنبية وأكتفي بهذا وشكرًا.

الشيخ عبد الله البسام:

بسم الله الرحمن الرحيم

نشكر فضيلة الدكتور الزحيلي على هذا البحث القيم، وكذلك إخواني الذين تطرقوا إلى هذا البحث فإنهم قد أجمعوا تقريبًا على هذه الملاحظة التي أريد أن أعرضها على الدكتور وغيره من الباحثين للرخصة جعلوا باب السلم وباب الإيجار والمساقاة وكذلك العرايا جعلوها أنها مستثناة من الرخص، أما العرايا فهذا لا شك في ذلك لأن بيع التمر في رؤوس النخل هذا ممنوع بيعه بتمر آخر إلا أنه استثنى هذا من أجل التفكه وأكل الرطب استثنى من ذلك، وأما موضوع السلم فالسلم هذا جعلوه مستثنى من المانع من بيع المفقود أو المعدوم، وهذا أمر غير وجيه لأن بيع السلم إنما هو بيع موصوف في الذمة والبيع الموصوف بالذمة لا يوصف بأنه معدوم ولا يوصف بأنه موجود؛ وإنما هو أمر موصوف بالذمة والرخصة هي نوع من التخصيص تخصيص للعموم، والمخصص لابد أن يكون متأخرًا عن العموم وعليه أن السلم وبيع السلم سابق للنهي عن بيع المعدوم، ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة وجد الناس يسلفون في الثمار العام والعامين فقال ((من يسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)) معناه أن هذه المعاملة سبقت الإسلام وأن الإسلام أقرها وأنها لم تكن مستثناة من بيع المعدوم، وكذلك أيضا الإيجارات وهي بيع ممنوع ولا نصفها بالعدل وإنما هي مقابل لبيع العيان والذي أحب أنا أن ألاحظ عليه هو بيع السلم لأن من أراد أن يقول إنه بيع معدوم يريد أن يقول إنه على خلاف القياس، والسلم على قياس وهو حكم مستقل وليس مستثنى من بيع المعدوم وكذلك الإيجارات نفسها بيع منافع، أما المساقاة فلا توصف بأنها مشاركة بل هي نوع من المشاركات لأن هذا منه مثلاً النخل ومنه الأرض وهذا منه العمل كالمضاربة شبيهة بالمضاربة وبناء عليه أرى وإن كان الإخوان أجمعوا على نقل العبارات من تلك المراجع إلا أني أرى إعادة النظر في هذا الباب وشكرًا.

ص: 410

الشيخ علي محيي الدين القره داغي:

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين.

أؤكد شكري لبروناي شعبًا وسلطانًا وحكومة وإلى رئاسة المؤتمر وأمانته وإلى فضيلة الباحث والعارض والمتداخلين قبلي وجزاهم الله خيرًا وبعد:

فلي بعض ملحوظات بسيطة:

أولاً: إن بعض أصحاب البحوث قد توسعوا تمامًا في مفهوم الرخص، فمع أن الأصل العزائم والاستثناء رخص، ومع ذلك أدخلوا فيها كثيرًا من الأحكام، فكأن غالب الشريعة رخص، فمثلاً أدخلوا درء الحدود بالشبهات في الرخص حتى إسقاط الحج على غير المستطيع أيضا أدخلوه في باب الرخص مع أن الحج أساسًا لم يجب عليه بل أدخلوا ما أسقط عن هذه الأمة من تكاليف أظن أدخلوها في الرخص، وهكذا توسعت بعض البحوث توسعًا غريبًا.

ثانيًا: نحتاج في تعريف الرخصة إلى تعريف وضوابط دقيقة والتمييز بينها وبين التيسير ورفع الحرج وعدم الغلو في الدين، وأرى بعض البحوث حينما تتحدث عن الرخصة تتحدث عن التيسير وعن رفع الحرج وعن الآيات التي وردت في التيسير ورفع الحرج وعدم الغلو، فحتى لا يقع لبس أو خلط أو غموض لابد أن نحدد التعريف للرخصة والتمييز بين الرخصة وبين هذه المصطلحات التي أرى أن التيسير ورفع الحرج أعم من الرخصة، ولذلك نرى بعض البحوث تدخل في الرخص كل تيسيرات الشريعة وطبعًا لا أريد أن أذكر أصحاب هذه البحوث وهي موجودة بين يدي، مع أن التيسير ورفع الحرج أعم – كما قلنا – من الرخصة.

ص: 411

ثالثًا: بعض البحوث قسمت الرخص إلى رخص أو إلى رخصة مؤقتة ورخصة عامة مطردة ورخصة عامة مؤقتة، ثم انتقدت منهج الأصوليين في حصرهم الرخص على النوع الأول، وبالتالي أدخلت هذه البحوث كما تفضل قبلي الشيخ عبد الله أدخلوا السلم والإيجار والمغارسة والمساقاة والجعالة وغيرها حتى من النوع الثاني باعتبارها استثناءات من الأصول وأنها مخالفة لأصل نصوص الشريعة وأنها مستثناة من ممنوع لما فيه من الغرض، وقد تحدث في هذه المسألة شيخ الإسلام ابن تميمة رحمه الله والعلامة ابن القيم، وأشار إلى ذلك فضيلة الشيخ عبد الله فلا حاجة للتفصيل في هذه المسألة فلا بد من التحرير.

رابعًا: عند التحدث عن الرخص لا بد أن يكون الحديث منصبًا على أن الأصل هو العزيمة كما قال فضيلة الدكتور الزحيلي، وكذلك ينبغي التحدث عن قضية الشدائد والتشدد فنحن اليوم إذا كنا نتحدث عن تتبع الرخص فلا بد كذلك أن نتحدث عن من يتتبع الشدائد ويصدر الفتوى ويأخذ كل فتوى شديدة، ومن هنا أيضا لا أن يتبع هذا القرار في قضية الرخص، القرار بأن الفتوى الصحيحة لا يجوز إنكارها لأنني أرى اليوم ظاهرة الهجوم على كل عالم ثقة إن شاء الله يفتي برأي ولا سيما من أنصاف المتعلمين أي المتفيقهين، فلا بد أن يوضع في هذا المجمع الموقر معيار للفتوى الصحيحة، وبالتالى عدم مهاجمة صاحبها.

خامسًا: عند حديثنا عن الرخص لا بد أن لا ننسى موضوع القدوة حيث ذهب بعض الفقهاء إلى عدم جواز الأخذ بالرخص في بعض الأمور لمن هو في محل القدوة مثل حالات الإكراه على الكفر والغش، ويترتب على الأخذ بالرخصة ضياع القدوة والدين فحينئذ لا بد من الأخذ بالعزيمة مثل ما حدث للائحة الذين وقفوا أمام الظلم والطغيان كالإمام أحمد والبهوتي وغيرهما.

سادسًا: بعض البحوث عند حديثها عن الإكراه صرحت بأن النفس مقدمة على الدين، وبهذا الإطراق وهذا الكلام صحيح في مجال الفرد، أما في مجال المجموع والجماعة والأمة فالدين إذا تعرض للخطر فيقدم على الأنفس؛ وما الجهاد فرض إلا لأجل حماية الدين.

سابعًا: وأخيرا في تقسيم الرخصة إلى واجبة ومندوبة ومباحة مسألة خلافية، ولكن الراجح الذي أراه هو أن الرخصة لا تشمل الواجب لأنها حينئذ تصبح عزيمة كما قال بعض الأصوليين.

ثامنًا: عفوًا وليس هذا الأخير لا بد أن نميز عند حديثنا عن التلفيق بين التلفيق عن اجتهاد والتلفيق بدون اجتهاد، وأخيرًا لابد أن ننظر في عصرنا الحاضر إلى أنه عصر حدث فيه تغيرات كثيرة ونبحث عن هذه المتغيرات، وأن الأنظمة الإسلامية اليوم والأحكام الإسلامية لا تطبق في كثير من البلاد، ولذلك إذا أخذ بأي رأي صحيح – حتى ولو كان لواحد من العلماء الثقات ما دام يتفق مع مقاصد الشريعة ويحقق مصلحة حقيقية - رأي مقبول، وشكرًا وجزاكم الله خيرًا.

ص: 412

الشيخ عجيل جاسم النشمي:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الهادي الأمين وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.

أنا أميل إلى تقسيم الرخص إلى قسمين فقط، ولا أرى حاجة إلى التقسيمات الكثيرة التي وردت في بعض البحوث، من الرخص ما مرجعه إلى أصل كلي ودليل، وهذه في الحقيقة حكمها حكم العزيمة وهذه الرخص بالتتبع لها حسب ما وردت في الأبحاث هي الرخص الشرعية كالفطر خوف الهلاك، المرض الذي يعجز المكلف عن أداء الصلوات بشكلها الأكمل، ومن أجل هذا قرر الفقهاء وجوب العمل بالرخصة عند الاضطرار وإن لم يكن فإنه يأثم؛ فهذه في الحقيقة ليست رخصة وإنما هي عزيمة كما ذكر البعض هذا النوع هو من الرخص التي تكون في مقابل المشقة التي لا قدرة للمكلف على الصبر عليها بحكم الطبع والعادة.

النوع الثاني: هو الرخص التي للمكلف قدرة على الصبر عليها وتحملها؛ لكن هل المكلف مخير بين هذين أو هاتين الرخصتين بين الأخذ وعدم الأخذ؟ يرجح عندي الثاني وهو الأخذ بالعزيمة، الذي نراه أن الأخذ بالرخصة على الإطلاق كما هو مفهوم في بعض الأبحاث لا يجوز المصير إليه لأنه في الحقيقة يؤدي إلى مفاسد عديدة.

وكما قال الشيخ علي: الناس اليوم لا يحتاجون من يفتح لهم باب الرخص فإن كثيرا منهم يتفلتون من العزائم ويتصيدون الحجج الواهية، فكيف الحال إذا فتح لهم باب الرخص على مصارعه؟ وليس معنى هذا سد باب الرخص والتيسير، فإن الرخص المبنية على الدليل مطلوب الأخذ بها، بل الأخذ بها أفضل من الأخذ بالعزيمة إذا وجدت الحاجة، وقد يكون الأخذ واجبًا إذا كان هناك ضرورة، ولا شك أن التيسير في ذات الوقت من مبادئ ديننا وشريعتنا لقوله تبارك وتعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وقوله عز وجل: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] . وينبغي حقيقة في تقديري حصر الرخص في هذا ففيما ورد فيه النص تحصر في ذلك، أما ما كان مبنيًّا على الاجتهاد فينبغي تضييق مجاله ولا يكون إلا لحالات خاصة وظروف خاصة لأن الرخص إنما شرعت بناء على أعذار وظروف وأحوال المكلفين.

ص: 413

أخيرًا في تعليق على كلمة الأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي حينما قال: في المعاملات يكتفى بأقل المشاق لتشريع الرخص، الذي أراه أن مجال المعاملات هو أخطر أبواب الرخص فينبغي التضييق فيه وعدم الأخذ بأقل المشاق، والواقع العملي يشير إلى خطورة فتح هذا الباب، فعلى سبيل المثال المصارف الإسلامية وإن لم تأخذ بالرخص وإنما أخذت بترجيح بعض أقوال الفقهاء على البعض الآخر وهذا أقوى من الأخذ بالرخص، مع ذلك فإن فتح تلك الأبواب فتحًا أدى إلى إثارة الشبهات، على سبيل المثال: التوسع في بيع المرابحة مثلاً؛ توسعوا فيه من حيث التطبيق إلى أن خرجوا عن كثير من ضوابطه التي وضعها الفقهاء، فما بالنا إذا فتحنا باب الرخص كجانب عملي أرى ان باب الرخص في المعاملات ينبغي أن يكون في أضيق نطاق ولا يكتفى بأقل المشاق، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الشيخ عبد الوهاب أبو سلمان:

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

سيدي الرئيس: مع بداية أعمال هذه الدورة المباركة أود أن أستفسر استفسارًا واحدًا وهو وظيفة العارض هل هي عرض لبحثه خاصة أم هي تلخيص للبحوث المقدمة في ذلك؟

الرئيس:

العارض المخصص تغيب الذي هو الشيخ خليل فاضطررنا أن نأخذ أحد الباحثين وإلا فالعارض المفروض أن يعطينا ملخصًا لجميع البحوث، وهذا سيوفر علينا كثيرًا جدًّا، وهو كما تعلمون في دورات سابقة معمول به، ولكن بعض الإخوان يلتزم به والآخر لا يلتزم به فعلى كل حال هذا هو الأصل، نعم، تفضل.

الشيخ عبد الوهاب:

الشيء الثاني: أن كلمة تتبع الرخص، كما يقول علماء الأصول وصف عن التلفيق، فالأخذ بالرخصة من حيث هو أمر مشروع، ولكن عملية التتبع الانتقاء والاختيار هذا هو موضوع الإشكال وليس الأخذ بالرخصة موضوع إشكال فهو معروف وهو من موضوعات الأصولية المكشوفة لكل فقيه. إلا أن العملية عملية تتبع والصياغة وصف كاشف – هو مقصود فهي عملية انتقائية اختيارية وهذا هو الذي حظره العلماء أو هو موضوع نقاش العلماء وشكرًا.

ص: 414

الشيخ علي السالوس:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله

موضوع التلفيق بحث في وقت مبكر منذ سنوات مما يقرب من ربع قرن في مجمع البحوث الإسلامية وقدمت فيه أبحاث ممتازة وصدر فيه قرار وأرجو أن يضم هذا إلى مؤتمرنا هذا بحيث لجنة الصياغة تتطلع على القرار وقد تستفيد منه إن شاء الله.

الأمر الآخر نود أن نفرق بين تتبع الرخص بمعنى تتبع ما يرى المكلف أسهل له وبين الرخص الشرعية المعروفة، فكثير من الأبحاث خلط بين الأمرين، وأعتقد أن الأخذ بالرخصة هذا ليس مجال البحث وإنما مجال البحث هو تتبع ما يرى أنه أسهل له وأيسر، وسيتتبع هذا التلفيق بين المذاهب، وفي هذه الحالة نريد أن يكون قرار المجمع واضحًا بالنسبة لمن يجوز له أن يقوم بهذا، هل هو العامي، لأي مسلم أن يأخذ من هذا المذهب ومن ذاك المذهب لأن هذا يرى أنه أيسر له؟، أم أن العالم الذي يستطيع أن يبحث ويرجح ويصحح ويضعف؟ لابد أن يكون هذا الأمر واضحًا في القرار، بمعنى لما نقول هنا بالنسبة للمجمع مثلاً مؤتمرات علمية لها قوانين، لوضع القوانين للدول الإسلامية يجوز أن نأخذ من المذاهب المختلفة، ويجوز أن نقوم بالتلفيق بين المذاهب، ويجوز أن نأخذ بشيء من الرخص، ما دام هذا يتفق مع الأدلة ومقاصد الشريعة الإسلامية، أما الإنسان الذي لا يستطيع أن ينظر ويجتهد ويبحث ويصحح ويرجع ويضعف مثل هذا الإنسان لا يجوز أبدًا أن نقول له: لك أن تأخذ بالرخص كيفما شئت وأن تأخذ من أي مذهب كما شئت هكذا بغير ضوابط، فأرجو بإذن الله تعالى أن يكون في القرار الضوابط التي تبين متى يجوز تتبع الرخص والتلفيق بين المذاهب والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.

الشيخ عبد الله بن منيع:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:

أولاً: أشكر الله سبحانه وتعالى أن يسر لهذه البلاد المضيافة هذا الشرف الكريم الذي شرفت به باستضافة هذا الجمع المبارك، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل ذلك في موازين أصحاب أهل هذه البلاد وأن يثيبهم على هذا المقام المحمود.

ص: 415

الأمر الثاني: كذلك أشكر رئاسة هذا المجمع وأمانته على هذا التيسير المبارك وهذا التنظيم الذي نرجو أن تكون ثمرته الخير الكثير.

في الواقع عندي ثلاث ملاحظات وهي خفيفة؛ إحدى هذه الملاحظات هي في الواقع أنني قرأت بعض البحوث المتعلقة بالرخصة وما يتبعها ويستلزمها من أحكام من التلفيق وغيره ومن ضوابط الرخصة؛ فوجدت أن كثيرًا منهم في الواقع خلط أو لم يعط القول الواضح عن التلفيق، فهو يصف التلفيق بوصف جامع شامل لكنه حينما يتطرق إلى شرح هذا الصنف يتناول أشياء في الواقع ما تكون من التلفيق إلا على سبيل المجاز، فمثلاً يقول: من التلفيق الانتقال من مذهب إلى مذهب، أو من التلفيق أن يأخذ بمسألة إمام غير إمامه في مسألة معينة ليست مركبة، وهذا في الواقع لا يظهر لي أنه من التلفيق، وإنما التلفيق هو في الواقع ما جاء في تعريف فضيلة الدكتور وهبة في الصفحة الرابعة عشرة فهو في الواقع جعل التلفيق هو أن تكون مسألة واحدة ذات أجزاء يأخذ برأي هذا الإمام في هذه الجزئية ويأخذ برأي الإمام الآخر في الجزئية الأخرى وأحد الإمامين لا يقول بكامل هذه الجزئية، فهذا في الواقع - على كل حال - هو التلفيق الذي يظهر لي أنه منطبق على معناه، وأرى ضرورة أن يصاغ تعريف التلفيق بطريقة أو بصيغة جامعة شاملة.

والأمر الثالث: أشكر فضيلة الدكتور وهبة على بحثه القيم إذا كان فيه ملاحظات فلا شك أن الملاحظات هي من باب أن كل عمل بشري لا يخلو من ملاحظات وكفى المرء نبلاً أن تعد معايبه، فهو بحث قيم نلاحظ عليه ملاحظتين:

الملاحظة الأولى: هو في الواقع أنه وصف الفطر لمسافر بأنه خلاف الأولى واستدل على ذلك بقوله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] وفي الواقع هذا الدليل ليس منطبقًا على الفطر أو الصوم في السفر وإنما هو منطبق على الفطر مع الاستطاعة قبل النسخ، والآية تدل على ذلك وحينما يرجع إليها سيجد أن ما ذكرته هو صحيح إن شاء الله.

الملاحظة الثانية: ذكر - جزاه الله خيرًا - أن الضرورة أو الحاجة تنزل منزلة الضرورة للجماعة والفرد أو قال: للعامة والخاصة، وأعتقد أن الخاصة المقصود بها الفرد فإذا سوى هذا في الواقع خلاف ما نعرفه عن علماء رحمهم الله فهم يقولون: إن الحاجة تنزل منزلة الضرورة بالنسبة للجماعة أما الفرد على كل حال، فلا يتصور في حقه أن تكون الحاجة ضرورة له، أو تكون الضرورة حاجة له، بل على كل حال الحاجة حاجة الضرورة، والضرورة ضرورة فيما يتعلق بالفرد، شكر الله لكم.

ص: 416

الشيخ خليل:

بسم الله الرحمن الرحيم

أولاً: ما قدر الله شاء وفعل، سهرت حتى الفجر في التحضير ولكن حصل ما حصل فأعتذر عن العرض ماذا أفعل.

الرئيس:

خيرًا إن شاء الله.

الشيخ خليل الميس:

فى الحقيقة ومن خلال عرضي للأبحاث كلها توصلت إلى شيء وهو ما قاله الزركشي في قواعده وانتهى إليه، حيث يقول: نقل عن السيوطي عن جماعة كثيرة من العلماء أنهم كانوا يفتون الناس بالمذاهب الأربعة لا سيما العوام الذين لا يتقيدون بمذهب ولا يعرفون قواعده ونصوصه ويقولون: حيث وافق فعل هؤلاء العوام قول عالم فلا بأس به، الحقيقة هل هي قضية بيد العوام أو بيد العلماء؟ ما دامت بيد العلماء فنحن نركن إلى جبل، وهنا من يفتي من؟ هل العامي يفتي نفسه أو أن العامي يستفتي عالمًا؟ إذن ما دام يقول: إن العلماء يفتون العوام خارج نطاق مذاهبهم فإذن القضية مادامت بيد العالم فنحن على اطمئنان، وعقب الشعراني قائلاً: كانوا أي أولئك العلماء لا يأمرون قويا برخصة ولا ضعيفًا بعزيمة وهذا شيء واضح. وقال: تفتي كل أحد بما يناسب حاله ولو لم تفعل أنت به كذلك لأنه هو الذي خوطبت فيه فاعلم، من أجمل ما قيل في هذا الباب "لأنه هو الذي خوطبت فيه فاعلم ذلك واعمل عليه وأفت غيرك بما هو أهله" هذا من جهة، ونجد في نهاية الكلام حقيقة أن الشاطبي رحمه الله هو الذي وقف موقفًا مبرزًا وربما متشددًا؛ ولكن عندما نرى قول الشاطبي في تتبع الرخص الحقيقة هذا الكلام ليس على إطلاقه يقول المنع مطلقًا للإمام الشاطبي، لماذا؟ متى خيرنا المقلدين في المذاهب ينتقون منها أطيبها عندهم؟ الحقيقة نحن نخاطب فقهاء وليس مقلدين، نحن عندما يستفتينا عندما يستفتي المقلد العالم ماذا يفعل؟ هذه الضوابط كأنها في وجه المقلدين حتى لا يتفلتوا من المذاهب ولكن نحن ينبغي أن نحسن الظن بالعلماء أو بالمفتين. يقول: متى خيرنا المقلدين في المذاهب لينتقوا منها أطيبها عندهم لم يبق عندهم مرجع إلا اتباع الشهوات في الاختيار، وهذا مناقض لقصد الشريعة فلا يصح القول بالتخيير على حال وإن ذلك يؤدي إلى إسقاط التكليف في كل مسألة مختلف فيها.

ص: 417

طبعًا لا يقول أحد من العلماء بهذا، إذن هذه ضوابط في وجه العوام وكأنها للعوام الذين يتتبعون الرخص على كل حال، وعلى هذا النهج يسير ابن القيم فيقول: فلا يجوز العمل والإفتاء في دين الله بالتشهي والتخير وموافقة الغلو، إذن القول ليس على إطلاقه إنه التشهي وليس من عالم يفعل هذا، وتتبع الغلو؟ وليس من عالم يفعل هذا، كأن هذا الكلام في وجه العامة وكلنا يعلم أن المجتهد يجتهد في الأدلة وأن العامي يجتهد في الرجال، فإذن الذين أوصدوا الباب بالكلية كأني بهم يوصدونه في وجه العوام لا العلماء، إذن هذا الذي قالوه، ولكن العلماء بينوا التلفيق الباطل، قالوا: المحظور أو تتبع الرخص عمدًا هذا واحد.، وقال الغزالي: ليس لأحد أن يأخذ بمذهب المخالف بالتشهي وليس للعامي

، وهنا قول الغزالي في الحقيقة واضح، ميز بين فقيه وبين عامي قال: ليس لأحد أن يأخذ بمذهب المخالف بالتشهي وليس للعامي أن ينتقي من المذاهب في كل مسألة أطيبها عنده،

والثاني: التلفيق الذي يستلزم نقض حكم الحاكم هذا هو.

والثالث: التلفيق الذي يستلزم الرجوع عن أمر مجمع عليه لازم لأمر قلده، ومنها كما قالوا كمن يقلد الإمام الشافعي في مسح بعض الرأس، والإمام مالكًا رضي الله عنه في طهارة الكلب في صلاة واحدة. ولكن السؤال: كل من حج ولا أقول اعتمر، هل يمكنه أن يتم حجه ونسكه على مذهب واحد؟ قد يكون الأمر متعذرًا عن ازدحام الناس. في هذا إذن ما دام هناك فتاوى لم نستحدثها، قول يقول به إمام متبع: هل الأخذ به للتيسير على الناس؟ وهذا هو الذي قد وصلت إليه في بحثي في باب المناسك ، هل القول بهذا الذي قال به إمام متبع هو تتبع للرخص وتخفيف على عباد الله والله أعلم.

ص: 418

الشيخ عبد الستار أبو غدة:

بسم الله الرحمن الرحيم

هناك كما تبين من الأبحاث موضوعان: أحدهما: الرخص الشرعية، والثاني: الرخص الفقهية أو المذهبية، أما الرخص الشرعية فلا حرج في الأخذ بها بل هناك تحبيب لذلك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يجب أن تأتى عزائمه)) وإن كانت العزائم تزيد في تزكية النفس وفي تحصيل التدين الكامل ومن هنا وصف النبي صلى الله عليه وسلم النساء بنقص الدين لقلة فرص التعبد بسبب ما يطرأ عليهن من أعذار، أم الرخص الفقهية فأريد أن أبين فيها نظرة أظنها إن شاء الله صائبة وهي أن الحكم على أمر بأنه رخصة فقهية أمر نسبي بالنسبة للأئمة المجتهدين، فإذا ذهب معظم المجتهدين إلى تحريم أمر وذهب بعضهم إلى القول بجوازه فإن هذا يعتبر ترخيصًا أو قولاً بأن فيه رخصة، فإذا كان المنفرد عن المجتهدين واحدا ولن يقبل قوله بل رد عليه وشذذ فحينئذ تندرج هذه المسألة في شواذ العلماء، وليس كل خلاف صح معتبرًا إلا خلافا له حظ من النظر وإلا خلافًا إذا كان القائل بالإباحة وبالحل لم يرد عليه ولم يشذذ، فهذا يكون رخصة ويكون ترخيصًا، ويدل على هذا قول الإمام سفيان الثوري: إنما الفقه. الرخصة عن ثبت وأما التشديد فيحسنه كل أحد، أفأعتبر ما يرد عن قول فقيه عدل مقبول؟ القبول رخصة لأنه قال بأن شيئًا من الأمور هو جائز، حين قال غيره بتحريمه، فالرخص الفقهية أمر نسبي بالنسبة للأئمة بحسب اندراج هذا القول في الجواز أو في المنع، والأخذ بالرخص الفقهية إذا كان للأفراد فإنه سائع في حال المشقة لأن المشقة تجلب التيسير، وأما في حال الجماعة فإن الأمر يحتاج إلى ضبط وتنظيم، ويقوم بهذا الإمام والحاكم الذي به وبتصرفاته تناط المصلحة. فإذا وجد المصلحة في الأخذ ببعض هذه الرخص، لأن فيه صلاح عام للناس فذلك له، وليست مراعاة المصلحة دائمًا بالأخذ بما فيه جواز أو حل أو إباحة فقد يكون بالمنع والحظر كما فعل الخليفة الثاني حين أمضى. الطلقات الثلاث ثلاثًا على قائليها لأنه وجد في ذلك المصلحة، فمراعاة المصلحة هي الضابط في الأخذ بالرخص في مجال الجماعة، وأما في مجال الأفراد فهو دفع المشقة ودفع الحرج والله أعلم.

ص: 419

المستشار محمد بدر يوسف المنياوي:

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.

البحوث القيمة التي قدمت لهذه الندوة المباركة فيما يتصل بالتلفيق هي بحوث قيمة تستحق الثناء العطر، ولا أريد أن أكرر شيئًا مما ورد في هذه البحوث مما سبقني إليه السادة الزملاء، وإنما أريد أن أركز على أمر في منتهى الأهمية بالنسبة للتلفيق بين المذاهب، والتلفيق بين آراء الفقهاء هذا الأمر هو ما يتصل بالتشريع. وقد سبقني بالإشارة إلى ذلك الأستاذ الشيخ عبد الله والأستاذ الشيخ علي السالوس وإنما أريد أن أركز بعض الشيء على هذه النقاط، التشريع - كما تعلمون حضراتكم - يختلف عن فتوى العالم أو الجاهل، ذلك لأنه ملزم بالعالم وبالجاهل كليهما، وهو عادة لا يستند إلى قوة الدليل فيقال بين الآراء المختلفة ليختار رأيًا يراه أنه دليل أقوى، وإنما يستند عادة إلى المصلحة.

الأمر الثالث: أن التشريع لا يختص بموضوع دون آخر، وهذا معيار من المعايير التي اتخذتها بعض الأبحاث التي قدمت للتفرقة في الحكم بين موضوع وآخر فباستثناء العبادات يرد التشريع في كافة المسائل المتصلة بحياة الناس وأمورهم، قد يكون اتصال التشريع بهذه الأمور في إحدى صور ثلاث، والصورة الأولى: أن يلفق التشريع بين المذاهب المختلفة في عدة مواضيع وعدة أمور كأن يختار المذهب الشافعي مثلاً نظام المتعة المطلقة، أو يختار من خارج المذاهب الأربعة رأيًا يراه جديرًا بالتطبيق متفقًا مع المصلحة، كأن يختار نظام الوصية الواجبة ليطبقها إلزاميًّا في نظام الميراث أو ما يتصل بنظام الميراث، الصورة الثانية: أن يلفق المشرع بين أمور مختلفة تعتبر متصلة اتصالاً وثيقًا بأمر واحد كما إذا لفق في شروط الزواج فأباح الزواج بغير ولي وبلا شهود وبلا صداق، وهذا ما تطرقت إليه الأبحاث القيمة التي قدمت، وانتهوا فيها إلى آراء بعضها يجيز وبعضها يمنع، والأمر بالنسبة إلى التشريع في حاجة إلى تركيز في هذه النقطة وهل نأخذ بما قاله البعض؟ أتصور بأن هذا الأمر يحتاج منا إلى دراسة حتى نستطيع أن نضمن توصياتنا – بإذن الله – ما يشير إلى جواز هذا أو عدم جوازه.

ص: 420

الصورة الثالثة: هي أدق الصور، وهي التلفيق بشرع بين عدة مذاهب أو عدة آراء فقهية، لا أقول في موضوع واحد فحسب، ولكن في صميم هذا الموضوع كأن يختار المشرع رأيًا في التقليد كتطليق الضرر، يأخذه من غير مذهب الأحناف، ثم يبيح إثبات هذا التطليق بطريقة لا يرضاها صاحب لهذا المذهب، تطليق الضرر يراه المالكية، والمالكية لا يجيزون الإثبات في النكاح وأمثاله، بل يجب مرتين. بينما يجيز ذلك الأحناف، فهل إذا أخذنا تشريعيًّا بالتطليق للضرر، وهو أمر لا يقره الأحناف، هل يجوز لنا إثبات هذا التطليق أو هذا الضرر بما يراه الأحناف أم لا؟ هذا الأمر كان محل جدل قضائي في مصر، فاتجهت محاكم النقض في أول الأمر إلى القول بأنه لا يجوز إثبات رأي شخص أو رأي مذهب بطرق مذهب آخر، لأن النتيجة لا تكون مقبولة، إلا أن الأمر استقر بعد ذلك في عدة أحكام قضائية في محكمة النقض، على أن إثبات التطليق للضرر إثبات الضرر الموجب بالموجب للتطليق، أخذا بمذهب المالكية. كما ورد في المذكرة الإيضاحية للمشروع للقانون، وإنما يجوز إثباته بطريق الأحناف. أي أنه يجوز إثبات الضرر الموجب للتطليق استنادًا إلى شهادة رجل وامرأتين، وهذا أمر يحتاج منا للفصل، هل من المستساغ بالنسبة لمثل هذا الموضوع وفي موضوع واحد دقيق بهذا الشكل، هل يجوز إثبات هذا الأمر على خلاف ما يراه صاحب الرأي أم لا؟ أتصور أن الاتجاه للتشريع كما قال من سبقوني، جدير بهذا المجمع، وجدير بأن نهتم به في توصياتنا، ولذلك أتصور أنه من الأفضل أن نضيف إلى التوصيات التي تفضل بذكرها بعض الباحثين وعلى الأخص فضيلة الأستاذ وهبة، أن نضيف إليها توصية تنص على أن التشريع مقيد بعدم الخروج على رأي من يقولون بهذا الرأي والاستناد بالإثبات أو ما اتصل بذلك إلى رأي آخر لا يقره ولا يرضاه، وشكرًا.

الشيخ يوسف عبد الله القرضاوي:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد، فمع شكري لجميع الإخوة الذين بحثوا هذا الموضوع والذين عقبوا وناقشوا، أريد أن أبدي بعض الملاحظات السريعة، أولاً: هناك ملاحظات جزئية على البحوث، وأنا أنصح بأن من وجد مثل هذه الملاحظات الجزئية أن يكتبها في ورقة وإما أن يسجلها للباحث أو للأمانة العامة مثل ماذكر فضيلة الشيخ عبد الله بن منيع مثلاً بالاستدلال بقوله:{وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] في غير موضعه، هذا يجعلنا نعيد كثيرًا ولا يتسع الوقت للكلام عنه في هذه الجلسة والوقت المحدد. ثم أقول بالنسبة للرخصة: أنا أعتقد أن المجمع حينما طلب البحث في مسألة الرخص لم يكن المقصود بالذات هو الرخصة من حيث تكلم عنها الأصوليون وأنواعها إلى آخره فهذا أمر معلوم، إنما الرخصة، أعتقد أن المطلوب في عصرنا، والذي يهتم به المجمع الرخصة في مقابل الشدة كما هو معروف في تراثنا، شدائد ابن عمر ورخص ابن عباس أي بمعنى التيسير، أعتقد هذا هو المقصود، الأقوال التي فيها نوع من التيسير والترخيص للناس وهو ما أشار إليه الأخ الشيخ عبد الستار، وهو الكلام الذي نقله الإمام النووي في مقدمة مجموع الإمام سفيان بن سعيد الثوري وهو إمام في الحديث أمير المؤمنين في الحديث؛ وهو صاحب مذهب اتبع قرنين من الزمان، وهو أيضا في الورع والزهد، مع هذا يقول: إنما الفقه الرخصة من ثقة، أما التشديد فيحسنه كل أحد، فالرخصة هنا تعني فعلاً التيسير على الناس، ونحن في عصرنا الحقيقة أحوج ما نكون إلى هذا التيسير.

أخي الشيخ خليل نقل عن الزركشي في قواعده، وإن كانت لي ملاحظة أن يكون الزركشي نقل عن السيوطي لا أدري ولكن السيوطي متأخر عن الزركشي، فالعبارة فيها شيء، إنما المهم مراعاة حال المخاطب ومن يفتي له أو من يجتهد له، ونحن في عصرنا في عصر أحوج ما يكون إلى الترخيص والتيسير لرقة الدين وضعف اليقين والهجمة على الإسلام من كل ناحية، فنحن في حاجة إلى أن نعرض الوجه السمح الميسر، ومن هنا إذا كان هناك قولان متكافئان أو متقاربان أحدهما أحوط والآخر أيسر، بماذا نفتي عموم الناس؟ نفتي عموم الناس بالأيسر، وقد أفتي الشخص القوي بالعزيمة وبالأشد، ولكن الشخص العادي أو عموم الناس وخصوصًا حدثاء العهد بالإسلام، وحدثاء العهد بالتوبة، والأمور الاجتماعية العامة، والأمور التي عمت بها البلوى أعتقد أن الفتوى بالأيسر هي الأولى، وحجتنا في هذا ((أن النبي صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما.))

ص: 421

نأتي إلى موضوع التلفيق، وهنا القصد من أمر التلفيق موضوع تتبع الرخص، تتبع الرخص هنا كانوا يعبرون عنه بمتتبع زلات العلماء، ما زل فيه العلماء، ولكل عالم هفوة ولكل جواد كبوة، وكل شيء ثبت أنه زلة وليس له وضع ما، هذا يرفض؛ وهو الذي قالوا فيه: إذا أخذت برأي أهل العراق في النبيذ، وأهل مكة في الصرف، وأهل المدينة في مسألة الأجبار فقد اجتمع فيك الشر كله، ولكن أيضا هناك أحيانا ينفرد بعض العلماء برأي ولكنه موجه معتبر، ما قاله الأخ الشيخ عبد الستار إن الرأي الذي رد عليه وشذذ، هذه مسألة نسبية، آراء الشيخ ابن تيمية رد عليها وشذذت وحوكم من أجلها ودخل السجن من أجلها ورفضت في العالم الإسلامي قرونا، ثم أصبحت هي عماد الفتوى وعماد الأحوال الشخصية في بلاد كثيرة، فهذه أيضا مسألة ليست قاطعة، وإنما الأمر الذي ليس له وجه من الشرع بحال؛ وترده الأدلة الصحيحة الصريحة هو الذي يمكن أن يرد، مسألة التلفيق، أيضا الأخ الدكتور وهبة سمعته يقول: إنه ما من عامي إلا وهو ملفق، أعتقد أن العامي لا يلفق وإنما يلفق له، فأما العامي فمذهبه في الحقيقة مذهب من يفتيه.

التلفيق إذا كان القصد هو كما ذكر في اتباع الهوى فقط وليس هناك وجه شرعي أو اعتبار شرعي ما للأخذ من هذا المذهب ومن هذا المذهب، إنما إذا أخذه بعض العلماء؛ بعض الأخوة في بحوثهم قسموا المجتهدين إلى مجتهد مطلق، ومجتهد مقيد. هناك المجتهد الجزئي، والمجتهد الترجيحي، وأعتقد أن معظمنا يشتغل في هذا الميدان، اجتهاد في مسائل جزئية واجتهاد في مسائل ترجيحية، انتقاء لأقوال بعض العلماء ومحاولة ترجيحها ببعض الاعتبارات، ما موقفنا نحن إذا أخذنا بمذهب ما أو رأي ما لا لاتباع الهوى لكن لأننا نرى هذا أليق بالعصر وأوثق بتحقيق مقاصد الشرع ومصالح الخلق؟ كما فعل الإخوة في البنوك الإسلامية حينما أخذوا بمرابحة مما ذكره الإمام الشافعي في الأم، ولكنهم أو كثير منهم أخذوا برأي الإمام مالك في الإنزال في الوعد، أو برأي ابن شبرمة، أو برأي غيره. فأخذوا هنا لا لاتباع الهوى ولكنهم وجدوا أن هذا أصلح وأليق بالناس، وأرفق بالناس وأبعد عن التلاعب بمصالح الناس، فلا أرى في هذا شيئًا، يعني التلفيق الذي ذكره عنه هو عندما يكون التقليد مطلقًا في المذاهب، وأعتقد أننا في حالة مثل هذا المجمع، هذا المجمع لا يوجد فيه من يقول بالتقليد المطلق بل نحن نبحث في كل المسائل التي تعرض علينا من خلال المذاهب المتبوعة، وحتى من خارج المذاهب المتبوعة، هناك مذاهب ليست متبوعة ولكن هناك أقوال الصحابة والتابعين، فنحن من خلال هذا التراث الضخم كله نبحث ونأخذ ببعض المسائل، قد لا تكون موافقة لمذهب ما، وقد توافق بعض المذاهب وليس من الضروري أن توافق رأي الجمهور؛ مذهب الإمام أحمد عنده مسائل انفرد بها، وألفت فيها كتب خاصة ونشرت بمفردات المذهب فلا مانع أن ينفرد مذهب أو ينفرد رأي عن بقية المذاهب والأقوال ويكون فيه الصلاح ويكون فيه الخير للناس، في عصر ما قد يضعف رأي في عصر ويرد عليه ويشذذ، ويأتي عصر آخر يقوي هذا الرأي، كم من أراء في المذاهب كانت مهجورة فشهرت، وكم من أقوال كانت ضعيفة فصححت؛ لأن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والحال والعرف كما هو معروف، وشكرًا.

ص: 422

الشيخ محمد المختار السلامي:

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد.

فلقد أفدت كما أفاد كل واحد من الحاضرين بالبحوث التي قدمت من التعمق في تناول هذه الموضوعات، وأعتقد أن القضية تبدأ من هذه النقطة، هو أن المسلمين ينقسمون إلى علماء ومقلدين، وأن العالم أو المقلد كلاهما إنما يعود أو يبحث عن حكم الله حتى يطمئن أنه عبد لله في حياته، يعود العالم إلى الأدلة التي يستنبط منها الأحكام ويعود العامي إلى العالم ليفتيه، وكل ذلك لإخراجه عن داعية هواه إلى أن يكون عبدًا لله في حياته. فإذا كان العالم يعمل بفتواه على إخراج مستفتيه من العبودية لله إلى موافقة هواه، أو أن المقلد يبحث عن طريق للخروج من العبودية لله إلى اتباع هواه فذلك هو الضلال المبين، فإذا رجع المستفتي المقلد إلى العالم فأفتاه، ثم ذهب إلى عالم آخر ليفتيه فأفتاه برأي آخر، ثم إلى ثالث فأفتاه برأي آخر فتخير من هذه الأقوال ماهو أوفق لهواه فذلك هو التقليد أو التلفيق الذي لا يقبل في الشريعة، وهو ما تحدث عنه الشاطبي؛ لأن في الواقع الشاطبي قد وقع عليه الهجوم في هذا اليوم بكثرة وأنه من المشددين، لا أعتقد أن الشاطبي مشدد ولكن ما يقوله الشاطبي يقوله الجميع، وكذلك العالم إذا رجع إلى النصوص التي بين يديه واستروح من أقوال من سبقه، فإذا به ينتهي إلى البحث عما يوافق هوى مستفتيه دون مصلحته ودون المصلحة الأساسية التي جاء من أجلها التشريع، فهذا ما لا يقوله أصلاً، أما أن العالم يخرج عن قول مشهور إلى قول آخر فهذا هو الذي يعبر عنه في ميدان الفقه بالعمل عند القضاة، فالعمل عند القضاة هو ما يتحول فيه الفقه من مشهور أو من راجح إلى نظر في المصلحة التي تطلبها الأوضاع الخاصة في المجتمع في عهده، فإذا حكم به القاضي العادل وحكم به من بعده أصبح من نوع العمل، وقد ألفت العمليات سواء أكانت العملية عامة أم العملية خاصة وخاصة في الفقه المالكي وفي المغرب، يوجد في ذلك التآليف الكثيرة التي تدل على أن للقاضي أن يخرج في أحكامه عما هو معروف وعن المشهور إلى طرق أخرى وأحكام أخرى تحقق للناس مصالحهم، فهنا أعتقد أن القضية ليست هي قضية تخير الهوى ولكنه البحث عن المصلحة، والمصلحة هو أن يكون الإنسان عبدًا لله ومتى خرج المستفتي المقلد أو المفتي العالم عن هذه الدائرة ودائرة تحقيق العبودية لله كاملاً والبحث عن المصلحة الحقيقية من التشريع، فإنه يصبح كلامه أو فتواه أو تلفيقه أو جمعه بين المذاهب مردودًا عليه لأنه اتبع بذلك هواه، والهوى ضال مضلل.

ص: 423

ولذا فإني أرجو أن يعود البحث أو يقعد البحث على أساس أنه لا يجوز التلفيق إذا كان هذا التلفيق سببه أو الدافع إليه هو البحث عما يوافق هوى الشخص الباحث، أما إذا كان هذا يحقق المصلحة من صلاح الفرد أو صلاح المجتمع فذلك هو الأصل ولا يعبر عنه بالخروج عن قواعد الكتب وشكرًا.

الشيخ عبد العزيز الخياط:

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصبحه أجمعين.

أتقدم أولاً بالشكر الجزيل لإخوتنا في بروناي لاستضافتهم للدورة الثامنة للمجمع، وثانيًا، مع تقدير لكل البحوث التي قدمت، أود أن أقترح على الرئاسة الكريمة أن يكلف الدكتور الأستاذ خليل بأن يقدم تلخيصًا للبحوث إلى الرئاسة لتدرج في أعمال المجمع، ليست هذه عقوبة له، وإنما هو اقتراح أقدمه لإعداد بعض الملحوظات على ما أورده الإخوة في مناقشاتهم ولا أطيل فيها.

أولاً: إن ذكر أنواع الرخص المتعددة فيما ذكره الأصوليون أنه في رأيي أمر ضروري، ذلك لأننا لا نستطيع أن نتوصل إلى بيان الرأي وخلاصة الرأي في موضوع الرخصة وتتبع الرخص وموضوع التلفيق إلا إذا استعرضنا ما قاله العلماء وما فصله العلماء وما بينوه، فالعلماء الذين فصلوا في أنواع الرخص من حيث الحكم ومن حيث الأداء ومن حيث التخفيف والتيسير إلى الوجوب وعدم الوجوب ورخصة الفعل أو رخصة الترك، وكذلك رخصة الإسقاط أو رخصة الترفق أو ما ذكره الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى من أنواع الرخص وإسقاطاتها، هذا كله أمر في رأيي ضروري، وما ذكره علماء الأحناف في أن الرخصة حقيقية أو شبه حقيقية وأن الرخصة مجازية هذا أمر لا بد من بيانه في البحوث، وبهذا أخالف ما ذكره بعض الإخوة في هذا، لأننا نعرف الحكم الشرعي عندما نعرف نوع الرخصة هذه واحدة، والأمر الثاني أن ضوابط الرخص لم يتعرض إليها بعض الإخوان، وقد ذكرت في بحثي بعض هذه الضوابط ملخصة مبينة وإن كان قد تعرض إليها الباحثون بشكل عام.

فأول هذه الضوابط ألا يكون الأخذ بالرخصة لغرض فاسد، ومن هنا جاء منع تتبع الرخص عند جماعة من العلماء لكف الناس عن الجري وراء الأسهل من غير دليل، والأصل أنه يجوز للعامي أن يأخذ من كل مسألة بقول مجتهد هو أخف عليه، لما روي عن عائشة ((عن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب ما خف على الناس.))

ص: 424

ثانيًا: ألا يجمع بين الرخص على صورة تخالف الإجماع كمن تزوج بغير صداق ولا ولي ولا شهود، لأن هذه الصورة على ما أعتقد لم يقبل بها أحد من العلماء.

ثالثًا: ألا يأخذ برخص متناقضة في الأمر الواحد وهو ما تعرض إليه إخواننا العلماء مما ذكروه في أبواب التلفيق من اختلافات الفقهاء في اجتهاداتهم في مسألة واحدة كأن يأخذ بعدم نقض الوضوء بلمس المرأة وهو رأي أبي حنيفة، ويأخذ بعدم نقض الوضوء بنزول الدم، ويأخذ كذلك بنقض الوضوء باللمس إلى آخر ذلك

رابعًا: أنا أقول أيضا لا يجوز الأخذ بالأهون من كل مذهب مجتهد، لأن هذا يحل ربقة التكليف عن عنق المكلف، ونقطة أخرى، أنا أفرق بين الاتباع والتقليد، قد لا يكون هذا اصطلاحًا تعرض له العلماء ولكني أرى أن الاتباع هو أخذ رأي المجتهد عن دليل وهذا يكون لعالم أو لمن له اطلاع على آراء الفقهاء وأدلتهم فيأخذ الرأي في هذا، بينما التقليد هو أخذ الرأي بغير دليل، كما هو عند جميع عامة الناس، فالعامي يسأل المفتي ويسأل العالم فيجيب، وكما قالوا: العامي على رأي مفتيه، قد يأخذ في المسألة الواحدة أو في عدة مسائل بآراءٍ كثيرة من الأئمة الذين استفتاهم.

ومن هنا أقول: تقليد العامي جائز، وإذا أخذ برأي أي من هؤلاء العلماء فهو على مذهب فيه، ولو أدى في بعض الأحيان إلى أن يجمع بين آراء مختلفة في الموضوع الواحد، وهذا هو الفرق بين الاتباع والتقليد.

ثم الأخذ بالتلفيق أيضا، أقول: يجوز الأخذ بالتلفيق اتباعًا لمن قال من العلماء للأسباب التالية:

1-

لم يثبت نص في رأيي في منع التلفيق، وبحثت لأجد نصًّا فلم أجد نصًّا في ذلك.

2-

الذين منعوا التلفيق هم عدد من العلماء المتأخرين والذين أجازوه كذلك فالأخذ بالأيسر لرفع الحرج جائز.

أختم هذه الكلمة بقول لأحد العلماء في التقليد يقول: وحيث لم يقم للمخالف على التقليد بعدم التلفيق استدلال، فاتق الله في تحريم ما دل إطلاق الدليل على أنه حلال، وكن ممن يعرف الرجال بالحق لا ممن يعرف الحق بالرجال، فماذا بعد الحق إلا الضلال. وهي بصوت صاحب القول السديد في أحكام التقليد، وشكرًا.

ص: 425

الشيخ إبراهيم بشير الغويل:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الأخوة السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أولاً: باعتبار أنني آخذ الكلمة لأول مرة فلا بد أن أحيي هذا البلد على استضافته لهذه الدورة شعبًا وحكومة وملكًا، ولا بد لي أيضا أن أعبر عن سروري لتحقيق رؤيتي ولقياي بإخواني الذين اضطررت أن أتغيب عن لقياهم في جلسات سابقة لظروف لا تخفى عليكم، ثانيًا: أود أن أقدم الشكر والتقدير لكل الباحثين الذين أثروا هذا البحث وهذا الموضوع ببحوثهم ودراساتهم، ولكن لي بعض الملاحظات لا بد أن أبديها:

أولاً: إن دين الله كله يسر وكله موافق للفطرة وكله لا حرج فيه، وهو يرفع الإصر والأغلال عن الناس، وحين نتحدث عن الرخص فنحن نتحدث عن الأيسر، ولكن الله سبحانه وتعالى لم يكلف عباده أن يعبدوه بما لا يطيقونه، فالأصل في عزائم هذا الدين أيضا أنها يسر ورفع للحرج عن الناس ومنع للإصر ودفع للأغلال والقيود عنهم، إذن الرخصة هي مزيد من التيسير لظرف استثنائي يخص حالات استثنائية، ولذلك وددت أن ألاحظ هنا هذا المعنى لكي يتأكد أن الأخذ بعزائم هذا الدين هي أيضا يسر وهي أيضا رفع للحرج وهي دفع للإصر والأغلال عن الناس، فهذا الدين موافق للفطرة ويأخذ بما هو معروف وينكر ما هو منكر كما تنكره الفطرة السليمة، وتستحسنه الفطرة السليمة، وهذا المعنى لا بد أن يتأكد كما قال الشيخ السلامي: الأصل في هذا الدين أنه يرى أن الإنسان قد تعبده الله بما هو موافق لفطرته وطبعه، والعبودية من معانيها تهيئة الشيء لما يصلح له، وفي لسان العرب حينما نقول: عبَّد الطريق أو عبَّد الإبل أو عبَّد الفرس: هيأه لما يصلح له. ومن العبودية التي تعبدنا الله بها أن هيأنا لما هو موافق لفطرتنا، ولذلك فإن الأخذ بالعزائم هو الأصل لأنه هو الذي يدفع الإصر والأغلال عن الناس، والترخيص استثنائي لظروف معينة، ولذلك كنت أتمنى حينما يتم الحديث عن تتبع الرخص إنما يقال: إنه هو نوع من البحث عن اليسير من الأمور لظروف تخص تلك الحالات.

كذلك أود أن أعقب على كلمة التلفيق، وهو بالنسبة لي إنما هو اختيار الأيسر، وهو أدخل بموضوع يتصل بالاجتهاد أو الاجتهاد الجزئي أو الترجيحي منه من الحديث عن مجال الرخص، والبحث في نظري يتناول قضية إمكانية الاجتهاد أو الاكتفاء باجتهادات سابقة والترجيح بينها، وقد يتصل بموضوع الإجماع، وهل يجوز لأهل عصر متأخر الخروج عن إجماع عصر سابق لعصره؟ وإذا صح التعبير فيما يتعلق بالترجيح الاجتهادي أو اختيار الأيسر فإنني هنا أقول: إنه اجتهاد، وقد يعتمد على الأدلة، فقد يترجح لدينا أن المهر أثر من آثار العقد، وبالتالى ليس ركنا يبطل العقد، وقد يترجح لدينا القول بعدم اشتراط الولي، وقد قال الفقيه المالكي ابن رشد حينما تحدث عن أدلة الأحناف وأدلة المالكية: أرى أدلتهم أقوى، وقد يترجح لدينا القول بعدم اشتراط الشاهدين، فإذن هنا الأمر يتوقف على اجتهاد وترجيح بين جوانب معينة، وقد يذهب التشريع إلى الأخذ بكل هذه الجوانب، إذن الأمر المهم للمسلمين اليوم هو ما يمكنهم من استقلالهم التشريعي، وهذا المجمع أعتقد أنه حينما بحث هذا الأمر إنما يبحث عن الاستقلال التشريعي لهذه الأمة بعد أن أخذت زمنا من تاريخها تتبع تشريعات ما أنزل الله بها من سلطان، وأدخلتها في متاهات لا أول لها ولا آخر، وإذا صح ذلك فلابد أن ندرك أن البحث يتعلق بأمر هام يهم أمة المسلمين، وكيف يمكنهم العودة إلى تشريعهم بما يوافق مصالحهم، ولكن بقيد أساسي أنه حيث شرع الله فهناك المصلحة وليس العكس، حيث شرع الله فهو الذي يرفع الحرج وييسر أمور الناس.

ص: 426

وإذا رأى البعض أنه يستطيع أن يحقق المصالح باجتهاداته الخاصة وبنظراته الخاصة وبتقديراته لظروف معينة وباتباعه لحكم الغلبة لمذاهب الآخرين وأسلمتها وموافقتها وتخريجها على أي وجه فتأكدوا أن هذا هو التأثير وهو الفساد وهو عدم مراعاة المصلحة للمسلمين ولغيرهم. نحن أمة دعوة ولعل هذا التذكير أردت أن أضعه أمام إخواني وشكرًا. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه.

الشيخ محيي الدين قادي:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.

في هذا الموضوع عدة ملاحظات واستيضاحات:

الإيضاح الأول: أن الرخصة شيء، وأن التيسير هو أصل الرخصة ودليله، قد وقع فيما قرأت من بعض البحوث عن عدم وضوح التفريق بين الدليل والمستدل عليه، فالشريعة مبنية على رفع الحرج والشريعة مبنية على التيسير، هذا أصل من أصول الشريعة، والرخصة: هي الانتقال من صعوبة إلى سهولة لمانع شرعي حدد بالمشقة ومظنة المشقة، وهنا تتفرع المشقة ومظنة المشقة إلى الضرورة والحاجة والإكراه والجهل في بعض المسائل، هذا هو المعروف في تحديد الرخصة.

النقطة الثانية: ربما هي التي أثارت تدخلي وهي قضية الرخص في العقيدة. قضية أن اليسر من عند الله عز وجل في عقيدتنا، هذا صحيح، أم الرخص في العقيدة وهي الانتقال من شيء إلى شيء، فهذا ما لم يمكن أن يعتقده شخص، العقيدة محلها القلب لعل ذلك يرجع إلى ما جاء في قوله تعالى:{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] وقد نزلت في سيدنا عمار بن ياسر بعد أن أكرهه أبو جهل على ما أكره عليه بقية الأسرة، لكن الواقع العقيدة موجودة والشكل فقط هو الذي تغير عند النطق بالسب، ولهذا نجد كثيرا من الفقهاء شددوا على قضية الممارسة للعمل ويقولون: الممارسة للعمل الذي يوجب الكفر، وإن مارسه فهو أيضا شكلي، أما العقيدة فلا يمكن الترخيص فيها لأن محلها القلب، فربما يكون الترخيص في العقيدة أيضا يسر كما قلت، هذا من حديث البخاري رضي الله عنه، حديث الأمة السوداء التي أقسم مالكها أن يعتق رقبة مؤمنة، وحار هل هي مؤمنة أم ليست بمؤمنة ((وسأل الرسول صلى الله عليه وسلم فقال لها: أين الله؟ فأشارت إلى السماء، فقال: من أنا؟ فقالت: رسول الله، فقال: أعتقها إنها مؤمنة. هذا يسر.))

قضية الانتقال بالرخصة، على كل لا يوجد أحد من الأئمة لا يقول بالترخيص، وإنما هم يختلفون في الفروع، هل هذه رخصة أو ليست رخصة؟ هي رخصة عند إمام وليست رخصة عند إمام آخر، كشرب الخمر للعطش أجازه البعض ومنعه آخر، فالمانع يرى أنها لا تروي، والمجيز يرى أنها تروي من العطش، فالاختلاف فيه هو تحقيق الهدف، أما النتيجة على تحديد الهدف فهذا جائز، الشيء الذي أريد أن أضيفه هو قضية أن ما تعرضنا إليه من الرخص كان بالنسبة إلى الرخص الفردية، الرخصة التي ينتقل فيها الفرد من صعوبة إلى سهولة.

ص: 427

وهنالك نوع من الرخص هو أهم وأكثر وهو الرخص العامة، وقد تعرض سماحة الأستاذ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور إلى ذلك في كتابه مقاصد الشريعة الإسلامية. وقال: هذا النوع من الرخص، وهو الرخص العامة من الفقهاء من احتفل به، والرخص العامة، هي المشكلة التي تعتري مدينة بأسرها أو شعبًا بأسره أو أمة أو إنسانًا وتكون مشكلة عويصة بالنسبة إليها. ومثل لها الشيخ العزيز بمثالين، مثال مأخوذ من المذهب المالكي ومثال مأخوذ من المذهب الحنفي، فالمثال المأخوذ من المذهب المالكي قد وقعت دراسة هذا المشكل في المجمع وهو ما يسمى بالكراء المؤبد وجاء منه بدل الخلو، وقد أفتى به من علماء الأندلس ابن منظور وابن سراج، والمثال المأخوذ من المذهب الحنفي هو أيضا مسألة وقعت دراستها في العام الفائت وهو ما يتعلق ببيع الوفاء الذي ارتآه علماء بخارى وسمرقند عندما حلت مشكلة بمزروعات العنب عندهم ومشكلة الديون، وقضية الرخص العامة هي التي محل حاجة ملحة اليوم من المجتمعات الإسلامية، وأيضا نرى القدماء من قبل أكدوا عليها فيما سمي بالسياسة الشرعية، فقضية السياسة الشرعية والمأمور فيها المفتي بالتوسيع على ولي الأمر وولي الطاعة، إنما هي محل الاهتمام اليوم، وقد أوسع القرافي الكلام في هذه النقطة، كما نقلها ابن فرحون أيضا في التبصرة، وهي عمدة الصحابة في جمعهم للمصحف وبما دونوه من الدواوين وفيما فعلوه من الأمور التي لا تهم فردًا، وإنما تهم المسلمين أجمعين، فهذا نوع من مراعاة المصلحة ومن التيسير على الناس والترخيص.

الذى هو نتيجة الاجتهاد والاستنباط، ولم يقع التعرض إليه فيما اطلعت عليه من البحوث والوقت قصير.

بقيت كلمة وهي التعقيب على جزئية، قد وردت كلمة الاعتماد الصحيح، الفقه كما يعتمد على الحديث الصحيح يعتمد على الحديث الحسن ووقع الاعتماد في بعض المذاهب على الحديث الضعيف فيما إذا صحت طرقه هذه ملاحظة بسيطة تتعلق بأمر جزئي ولكنها هامة، لأننا لو اقتصرنا على الاعتماد على الأحاديث الصحيحة لأضعفنا كثيرًا من الفروع، هذه ملاحظة أردت أن أعقب على الاعتماد على الحديث الصحيح، وجزاكم الله خيرًا.

ص: 428

الشيخ مصطفى كمال التارزي:

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.

أشكر كل من تعرض إلى موضوع الرخصة والتدخلات التي وقعت، وبنظرتي أمس إلى كل المواضيع لم أجد في الواقع قضية اعتبار الرخص العامة في الشريعة الإسلامية، وهو ما تعرض إليه الأستاذ قادي، وقد تعرضت إليه بالاعتماد في بحثي المقدم إليكم، ولا فائدة من أن أرجع إلى كله، ولكن أردت أن أقدم له بمقدمة، وهي الرخص العامة المؤقتة لأنها هي الرخص التي وقعت عليها دائمًا، واعتمدت أيضا على كتاب الشيخ ابن عاشور في "مقاصد الشريعة الإسلامية" ولكن أردت أن أبين أنني استطعت أن أستعرض مسائل تسع وقع فيها التعرض إلى المصالح العامة وهي: الكراء المؤبد، وقد اعتمدت فيها فتوى ابن سراج وابن منظور، وبينت أيضا الترخيص في تغيير الحبس الذي يتعطل منفعته تحصيلات للمنفعة بوجه آخر، وقد ذكر الونشريسي في المعيار أشياء كثيرة وفتاوى متعددة في هذا الموضوع، وكذلك أجازوا أن يستغل ناظر الوقف غلات الحبس التي يتعطل عمله فيتحقق بها مصلحة مشابهة، وكذلك أجازوا للناظر أن يصرف من أموال الأحباس لمساجد إذا كانت زائدة على الحاجة في بعض وجوه البر كالتدريس وإعانة طلبة العلم وتحفيظ القرآن العظيم، وأجازوا أيضا بيع عقار الحبس وتعويضه بآخر، وجاء في المعيار للونشريسي وفي نوازل سحنون: لم يجز أصحابنا بيع الحبس إلا دارًا جوار مسجد ليوسع بها ويشترى بثمنها دارًا مثلها تكون حبسًا، وذكرت عدة أنقال عن ابن القاسم وابن رشد وكذلك عن مالك، ورخصوا في معاوضة الحبس للضرورة أيضا والترخيص في بيع الخلو كما تقدم لنا منذ سنتين في مجمع الفقه الإسلامي هنا، وبينت أيضا فتاوى متعددة، وكذلك أيضا الترخيص في بيع الوفاء وقد ذكرنا هذا في السنة الماضية، وإباحة رمي الأسرى المسلمين الذين تترس بهم العدو متى علمنا أن الكف عنهم نتيجته انهزام المسلمين وإيقاف المد الإسلامي، وهذا يعتبره الغزالي من باب الإقدام على الفعل الممنوع ضرورة لتحقيق مقصد شرعي فيه سلامة الأمة، وهو مدعو إليه من أجل المحافظة على الإسلام وعموم المسلمين.

وقال الغزالي: وليس في معناها جماعة في سفينة لو طرحوا واحدًا منهم لنجوا، وإلا غرقوا بجملتهم لأنها ليست كلية، إذ يحصل بها هلاك عدد محصور، وليس ذلك كاستئصال كافة المسلمين، وهو المقصود بإباحة رمي أسرى المسلمين. هذه مسائل متعددة ذكرها الشيخ ابن عاشور في مقاصد الشريعة الإسلامية.

ص: 429

أردت أن أتعرض إلى جزئية صغيرة لم أسمع إلى شيء منها، وهي قضية إباحة الرخص لرفع الحرج، والمراد برفع الحرج: ما أدى إلى مشقة زائدة في البدن أو النفس أو المال حالاً أو مآلاً، وقد نبه الفقهاء إلى أن المشقة إذا كانت معارضة بما هو أشد منها مما يتعلق بحقوق الله والمصالح العامة فإنه لا يكون حرجًا شرعيًّا بالنظر إلى ما هو أشد منها مما يتعلق بحقوق الله والمصالح العامة فإنه لا يكون حرجًا شرعيًّا بالنظر إلى ما هو أشد منها مما يتعلق بحقوق الله والمصالح العامة فإنه لا يكون حرجًا شرعيًّا بالنظر إلى ما هو أشد منه، وذلك كالجهاد في سبيل الله دفاعًا عن بيضة الإسلام أو نشر الدين لأن الله تعالى لما طلبه وحض عليه أعقبه بنفي الحرج، وذلك في قوله تعالى:{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] . فالحرج اللاحق بالمجاهد ليس من الحرج الشرعي الموجب للترخيص نظرًا لسمو غايته وما يترتب عليه من عظيم المصالح في حماية الدين وأهله. فالموضوع طويل جدًّا وقد كتبنا فيه ولكن أردت أن أتكلم عن بعض الأشياء.

فيما يتعلق بالتلفيق بالتشريع، التلفيق بالتشريع، هذا الموضوع قسمه بعض العلماء إلى أقسام ثلاثة: إلى التلفيق بالاجتهاد، ومثلوا له بظهور رأيين، والتلفيق في التقليد والتلفيق في التشريع، مثلوا له بما وقع في المجلة العثمانية، ورأيت في بداية البحث في المجلة العثمانية: أنهم قالوا: هذا البحث بني على فتوى بمذهب أبي حنيفة، وقالوا: قد احتجنا في بعض الأحيان إلى الأخذ بالآراء الضعيفة مثل قضية قول أبي يوسف في الاستصناع واعتبروا إدخال قول أبي يوسف هو من نوع التلفيق في المجلة العثمانية، وكذلك ما صدر في تونس من إصدار مجلة الأحوال الشخصية من المذهبين المالكي والحنفي، وقد اجتمعت لجنة علمية في تونس من علماء المذهبين للاختيار من المذهبين وهو نوع من التلفيق في إبراز المجلة، وما نحن بصدده الآن في هذا المجمع حيث لا نلتزم بمذهب معين ولكننا نختار من المذاهب ما تملي به المصلحة، وما تتحقق به المصلحة واعتباري لهذا أن ما نقوم به الآن هو ما يسمى بالتلفيق في التشريع. وشكرًا لكم والسلام عليكم.

ص: 430

الشيخ محمد الشيباني:

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

كما ذكر الإخوان نشكر الدولة المضيفة على ما قابلتنا به، فجزاهم الله أحسن الجزاء، لقد تكلمت في بحثي عن النقاط التي وردت في السؤال، وهي الرخصة وأنواعها وضوابط الأخذ بها وتتبع الرخص وحكم التلفيق، والذي أتكلم عنه في هذ الدقائق المعدودة هو الحكم في تتبع الرخص والحكم في التلفيق، لأنه هو لب المسألة، وأقول: إن الرخص على نوعين: نوع ورد في النص ورغب الشارع في اتباعه؛ هذا لا حرج من اتباعه، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:((عليكم برخصة الله التي رخص لكم)) أخرجه مسلم، وقد بينا هذا القسم وأقوال العلماء فيه، ثانيًا: النوع الآخر هو النوع الاجتهادي الذي اجتهد به أحد الأئمة، هذا النوع أكثر العلماء على منعه من غير ضرورة ملحة، حتى حكى بعضهم الإجماع على منعه، فقد نقل ابن عبد البر في كتابة بيان العلم وفضله عن سليمان التميمي أنه قال لخالد بن الحارث: إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله، قال أبو عمر بن عبد البر: هذا إجماع لا أعلم فيه خلافًا، ونقل ابن حزم الإجماع أيضا على أن تتبع الرخص في المذاهب من غير استناد إلى دليل فسق، وقال ابن القيم في إعلام الموقعين: لا يجوز للمفتي تتبع الرخص لمن أراد نفعه، فإن تتبع ذلك فسق وحرام، ويحرم استفتاء من فعل ذلك فإن حسن قصده في حيلة جائزة لا شبهة فيها ولا مفسدة لتخليص المستفتي من حرج جاز، بل استحب.

ثم قال: وأحسن المخارج ما خلص من المآثم، وأقبح الحيل ما أوقع في المحارم أو أسقط ما أوجب الله ورسوله من الحق اللازم انتهى.

هذا كله مشار إليه ومشار إلى المراجع.

وقال المحلي في شرحه جمع الجوامع: (والأصح أنه يمنع تتبع الرخص في المذاهب بأن يأخذ من كل منها ما هو الأهون فيما يقع من المسائل، وخالف أبو إسحاق المروزي فجوز ذلك) .

كما أن ابن عبد السلام – بعد أن ذكر حكاية ابن حزم الإجماع على منع تتبع الرخص من المذاهب – قال: لعله محمول على من يتبعها من غير تقليد لمن قال بها أو على الرخص المركبة في الفعل الواحد.

وذكر القرافي أيضا مثل ذلك، فقال: إن الممنوع من تتبع الرخص هو ما كان فيه تلفيق بين مذهبين فأكثر في مسألة واحدة. هذه كلمة قصيرة عن الرخص.

وأما التلفيق فأكثر العلماء على منعه لغير ضرورة حتى حكى بعضهم الإجماع على منعه، قال صاحب الدر المختار: إن الحكم بالقول المرجوح جهل وخرق للإجماع وأما الحكم الملفق باطل بالإجماع، حاشية ابن عابدين. وقال ابن عابدين في حاشيته: مثال ذلك متوضئ سال من بدنه دم ولمس امرأة وصلى، فإن هذه الصلاة ملفقة من مذهب الشافعي والحنفي، والتلفيق باطل وصحته منتفية.

ص: 431

ونقل محمد سعيد الباني في عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق: "إن المعتمد عند الشافعية والحنفية والحنابلة عدم جواز التلفيق، لا في العبادة ولا في غيرها، وأن القول بجوازها ضعيف جدًّا، حتى حكى ابن حجر وغيره أنه خلاف الإجماع " وعقب على ذلك فقال: "وأراد بالإجماع اتفاق الأكثر" لكن محمد بن عرفة الدسوقي قال: إن للمالكية طريقتين في التلفيق في العبادة الواحدة، إحداهما طريقة للمصريين، والأخرى للمغاربة ورجحت.

هذا ملخص ما قلت في الموضوع، وهو موجود، إذن نحن الآن إما أن نتبع المذاهب أو نجتهد، إذا كنا تتبع المذاهب فأكثر المذاهب بل جمهور المذاهب وجمهور أقوالهم على منع التلفيق، وكذلك تتبع الرخص، لكن يبدو أن تتبع الرخص أخف من التلفيق، لأن بعض الذين منعوا تتبع الرخص قيدوه بما إذا لم يكن فيه تلفيق، أما التلفيق فيكادون يجمعون، غير ما ذكر ابن عرفة الدسوقي في العبادة أو بعض آخرون، إذن رأيي أن تتبع الرخص وكذلك التلفيق لا يجوز إلا لضرورة، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

الشيخ الطيب سلامة:

بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

أشكر جميع الأخوة الذين سبقونى بإبداء ملاحظاتهم حيال الموضوع، ولي بعض الملاحظات أرجو أن تتسع صدوركم لسماعها، من هذه الملاحظات أن موضوع الرخص كما اقترحته الأمانة العامة علينا مشكورة، من قيام الجميع بالكتابة فيما سمي بموضوع الرخص، وأنا شخصيًّا تتبعت الموضوع كما وضعته الأمانة عنصرًا عنصرًا وتكلمت فيه، ولم أعتقد أني خرجت إلا فيما وضعته من مدخل سميته: مدخل لتأصيل الرخصة في الشريعة الإسلامية وقصدت بهذا ما رأيته بعيني رأسي وما عشته، حتى بين العلماء الجامعيين، من قضية عدم الاعتداد بالرخصة في الشريعة الإسلامية، لو تأملنا اليوم في عالمنا على نطاق الرخصة والترخص والنظر إلى هذا الموضوع من خلال الشريعة الإسلامية لوجدنا الناس منقسمين إلى قسمين متباعدين، قسم منهم هو الذي يشدد على نفسه في الأخذ بالرخصة وكأن الرخصة ليست من الدين، وهذا ما عشته مع أحد الزملاء الجامعيين، كنا في يوم من الأيام في مؤسسة دولية لبعض الواجبات فحان وقت العصر وكاد يخرج وقته ولم نصل الظهر والعصر، كنت أنا على وضوء، وقلت له: نصلي، قال: أنا على غير وضوء، فقلت له: حل المشكل بيدك فتيمم، فقال: الماء موجود، فقلت: إذن توضأ، فقال: كيف أتوضأ وهذا الماء ملك للمؤسسة، لا أقدر على استعماله؛ هذه صورة لمشكل الرخص وهو قائم، الرخصة بالمعنى الشرعي، وهي الرخصة التي ينتقل فيها من حكم العزيمة مع بقاء حكم العزيمة قائم حتى يقدر للرخصة مقدار الضرورة ثم يعود للعزيمة، هذه هي الرخصة الشرعية الحقيقية هذه الرخصة نفسها محل الأخذ في حين نجد من المسلمين في عدة أقطار إسلامية أنهم يستعملون الرخص بتساهل كبير إلى درجة أن ربقة التكليف قد انحلت عندهم ويحتمون بكلمة:"دين الله يسر".

ص: 432

فالحقيقة أن البحث في موضوع الرخصة – كما وضعته الأمانة العامة مشكورة – أصل الموضوع أي الرخصة الشرعية الحقيقية التي تحدث عنها الأصوليون ضروري، ولا أعتقد أنه من المعلوم في الدين بالضرورة بدليل أن الغير معلوم لدى عامة الناس، فبحثه من طرف المجمع وخاصة في تأكيد الأخذ بالرخصة، أعتقد أنه ضروري ولا بد منها، وليس خارجًا عن الموضوع، ونحن مهما بلغنا في تقدير الرخصة فالحديث الشريف الذي رواه جابر رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الحديث الذي يقص علينا خروج الرسول صلى الله عليه وسلم عام الفتح في شهر رمضان فصام الناس حتى بلغوا كراع الغميم (اسم لواد أمام عسفان) فصام الناس فبلغه – أي الرسول صلى الله عليه وسلم – أن الناس قد شق عليهم الصيام، فدعا بقدح من الماء بعد العصر، فشرب والناس ينظرون، فأفطر بعض الناس وصام بعض فبلغه أنا ناسًا صاموا، فقال:((أولئك العصاة)) واستعماله لكلمة العصاة إما عصيان لاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وهو قدوتهم في الدين، أو عصاة بمعنى أنهم رفضوا ما منحهم الله تعالى من رحمة وتوسعة، وهو من جور الإنسان بأنه لا يقبل رحمة الله لأنه لم يقبل عطية الله بالعصيان، هذا مما لا شك فيه، هذا الحديث يكاد ينسى وهو حديث صحيح رواه النسائي أي حديث جابر، وهو من أبدع ما تضمنته السنة وفيه توضيح أمور ديننا، ولذلك مثل هذه القضية أعتقد أنه لا يمكن أن نتجاوزها بدعوى أن قضية الرخصة معلومة ولا تبحث، هذا أولاً.

وثانيًا: أن الرخصة التي نتحدث عنها حين نقول تتبع الرخص وحين نقول التلفيق ليست سياسة شرعية، هي الرخصة بمعنى المجاز، يعني الرخصة بمعنى التيسير بمعنى تتبع قول عالم من العلماء أو مفت من المفتين الذي جنح إلى التيسير ويطرح قول الذي شدد حين يظن إطلاق الرخصة، وإطلاق الرخصة له عدة معان، فمن الضرورة أن نبين أن كلمة الرخصة لها عدة معان، من جملة إطلاقات الرخصة أن هناك رخصة عامة ورخصة خاصة، رخصة لأفراد ورخصة للأمة أو للجماعة، المستحدثون من العلماء قد ذكروا أن الرخصة العامة كثيرًا ما غفل عنها الأصوليون والفقهاء في حين أنها جديرة بالرعاية، لأن الأمة اليوم في عصرنا هذا واقعة أمام حاجات تحتاج فيها إلى هذا النوع من الترخيص لأنه آكد، ولأنه أكثر انسجامًا لحاجات العصر.

تتبعت هذا الموضوع ورأيت أن الفرق بين تتبع الرخص وبين التلفيق ما ذهب إليه القرافي في جعل أن تتبع الرخص يكون عادة في مسائل متعددة، ويعني أن تتبع الإنسان المذهب الأيسر في مسألة كذا ثم في مسألة أخرى يتتبع مذهبًا أيسر آخر أو هو نفس المذهب، هنا يرى العلماء أنه لا مانع منه مع التقييد بالضرورة والحاجة وعدم التلاعب أو عدم العبث وحل ربقة التكليف، عدم قصد هذا، في حين أن قضية التلفيق هي الجمع بين الأخذ بعدة مذاهب في مسألة واحدة، كالذي مثلوا له، بأن الإنسان يستطيع أن يجعل من الزنى نكاحًا شرعيًّا، فيعمل على مذهب كذا بدون ولي وعلى مذهب كذا بدون صداق وعلى مذهب كذا بدون شهود، فاختلى بامرأة وزنى بها وقال: إن هذا نكاح شرعي، إذا أدى إلى هذا، وهو ما يسمى بالتلفيق، فهذا مما لا شك محظور وبالإجماع لأنه لا يوجد من يقول بحلية هذا أبدًا من العقلاء فضلاً من المسلمين المؤمنين، نعم قد نكون في التلفيق أو في استعمال التلفيق محتاجين إلى بعض القضايا العامة، لأننا أمام مستجدات وأمام أحداث تتجدد يوميًّا في عصرنا هذا، ولا بد أن نكون مسلمين بمعنى أن يكون ديننا صالحًا ليغطي جميع الأحداث، أي صالحًا لكل زمان ومكان، والدين في حقيقته هو هذا، وإذا وقع خلل في هذا فهو خلل منا، وليس من الدين.

ص: 433

أعتقد أن قضية تتبع الرخص في التلفيق، بما أنه سيف ذو حدين كما سمعته أو بما أن فيه مزالق كثيرة، أعتقد هذا أمر يترك للأفراد ولا يجب أن يكون بأيدي جماعة الاجتهاد الجماعي إنما هو اليوم بأيدي المجامع العلمية ومن ضمنها هذا المجمع، حيث إن قضايا التلفيق والعمل بها لا يسمح به إلا إذا أخذ به المجمع، لأن المجمع لا يأخذ بمثل هذا الأمر إلا في المصالح العامة وفي الحاجيات التي يراها ضرورية للأمة.

بالنسبة للتوصيات، تعرضت إلى توصيات كما جاءت الطلبات من المجمع المحترم، وذكرت جملة من التوصيات في بحثي، أرجو أن ينظر إليها بعين الاعتبار، وشكرًا على حسن استماعكم.

الشيخ عبد اللطيف الفرفور:

بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.

سأختصر بقدر الإمكان - إن شاء الله تعالى - على دقائق معدودات، باعتبار أنني في أول حديث أدلي فيه بدلوي في نقاش علمي وانطلاقا من الحديث الشريف: لم يشكر الله من لم يشكر الناس، أرفع إلى الدولة الكريمة المعطاء في هذا البلد الطيب ملكا وشعبا وحكومة خالص الشكر والتقدير لحسن الوفادة وحفاوة الاستقبال وإلىرئاسة المجمع الموقرة والأمانة العامة للمجمع الكريم كل الاعتراف بالفضل لأهله وللإخوة الباحثين والمقررين والمناقشين مثل ذلك.

لي أربع ملحوظات صغيرة جدا:

الملحوظة الأولى: تدور حول الرخصة أنها كما ذكر الإخوة نوعان: شرعية والأخذ بها مشروع بالاتفاق وفقهية اجتهادية فمختلف فيها ولا مجال للحديث في هذا الاختلاف لأنه قد سبق وأشبع بحثا، والراجح أنها إذا وردت عن ثبت فالأخذ بها مشروع عند الحاجة لكن أزيد هذا شيئا وهو المعيار. ماهو المعيار؟ المعيار في ذلك التوسط بين الإفراط والتفريط بين التشدد والانحلال فالوسط أم الكتاب، وكما ذكر إخوتنا لا شدائد ابن عمر ولا رخص ابن عباس، والضابط الأكثر أهمية في نظري دخولها تحت أصل المشروع هذه الملحوظة الأولى.

والثانية: الاتباع - كما تفضل أخي الأستاذ الدكتور الخياط - مرتبة مقبولة معروفة أثبتها العلامة ابن القيم في كتابه، وهي مرتبة غير التقليد والاجتهاد وهي أخذ الحكم بدليله، فالمتبع وسط بين المجتهد والمقلد وهذا أمر معروف ذكره ابن القيم وأرجو أن يرجع إلى كتابه القيم في ذلك.

الملحوظة الثالثة: والأصل في قضية الإفتاء والرخص الفقهية الاجتهادية في غير التلفيق مراعاة حال المستفتي فقد يصح لفلان ما لا يصح لفلان، وقد يصح في قطر ما لا يصح في قطر آخر، وهذا ما أثبته العلامة ابن عابدين في حاشيته رد المحتار على الدر، وفي كتابه العظيم أو رسالته العظيمة شرح عقود رسم المفتي فيرجى الرجوع إلى ذلك ففيهما شرح مطول حول قضية مراعاة حال المستفتي حال الإفتاء بالرخص من العلماء للمقلدين.

الملحوظة الرابعة: وهي مسك الختام أن حاجة المعتنين بالشريعة اليوم هي الأخذ بقول إمام مجتهد صح دليله ولا اعتبار بأن تكون من المذاهب الأربعة أو غيرها، بل الشريعة أكبر من ذلك وأوسع وكما قال العلامة ابن القيم في كتابه القيم: الشريعة رحمة كلها وعدل كلها ومصلحة كلها فكل مسألة خرجت عن الرحمة والعدل والمصلحة فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل، وهذه ثلاث دقائق بالضبط.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لى ولكم.

الشيخ وهبة مصطفى الزحيلي:

بسم الله الرحمن الرحيم

لا بد لي وقد كلفت بتلخيص هذا البحث على عجلة أن أجيب بإجابات سريعة عن بعض الاستفسارات والتعليقات التي تمت، ووجهت إلى بحثي.

ص: 434

من هذه التعليقات ما هو عام ومنها ما هو خاص، أما ما يتعلق بالعموميات فأنا أؤيد الإخوة الذين تكلموا في موضوع الحاجة إلى التلفيق في التشريع، وإلى الاهتمام بكل ما يفيد المسلمين في الوقت الحاضر بالأخذ بالتلفيق في القضايا الاجتماعية، وفيما نحتاجه في القضايا الاقتصادية، فهذا أمر ضروري لابد منه، كذلك أيضا من العموميات أنهم ذكروا أن التيسير أعم من الرخصة وأن التيسير هو الدليل، وهذا واضح في أغلب البحوث، ولكن التوسع أيضا في قضية الرخصة فيما ذكره الدكتور القرضاوي من العرض لقضايا درء الحدود وإسقاط الحد، فهذا في الحقيقة لا داعي ولا سبيل إلى إدخاله في الرخصة، كذلك من القضايا العامة أن هناك اختلافًا في التكييف؛ ففقهاؤنا يعرضون لهذه الشريعة حصرا بأن هناك أدلة عامة وهناك أدلة خاصة، وما يعترض بتكييف على آخر عملاً بالقاعدة المتفق عليها لا مشاحة في الاصطلاح، فالحنفية مثلاً عرضوا لتقسيمات الرخصة، وأن نقطة الدليل العام هو عدم جواز بيع المنافع وعدم جواز بيع المعدوم وعدم جواز بيع الشيء بمثله مما فيه ربا أو شبهة الربا، ثم قالوا: إن الأدلة التي وردت في الشرع استثناء من هذه الأدلة هو ما أدخلوها في قضية الرخصة المباحة، فهذه قضية اصطلاح وقضية تكييف للبحث، وإذا اعترض بعض إخوتي على هذا الاصطلاح فقضية مزاجية وقضية لا تخرج عما قرره الأصوليون صراحة وخصوصًا الحنفية في تقسيمات الرخصة، كذلك قضية الفرق بين الأخذ بالرخصة وتتبع الرخصة أيضا هذا ما لم يذكره فقهاؤنا ولا الأصوليون إطلاقًا، وهي أيضا قضية استحسان من بعض الإخوة الكرام، والمراد لا يدفع الإيراد صحيح هذا الكلام، ولكن في الحقيقة الأصوليون حينما يتكلمون عن تتبع الرخصة يقصدون الأمرين معًا، قضية الأخذ بالرخصة وقضية تتبع الرخصة، وذلك إذا كان للتشهي أو للعبث أو للتلهي أو ما شاكل ذلك، فكلام الإخوة الكرام يتفق مع هذا.

أيضًا من العموميات قضية أنه لا مجال في بحث التلفيق لموضوع الانتقال من مذهب إلى مذهب ولا الخروج في بعض الجزئيات إلى مذهب آخر على سبيل التقليد، فهذا في الحقيقة ليس من التلفيق بمكان.

ص: 435

أيضًا من العموميات التي تفضل بها الإخوة الكرام بجواري، وهذه قضية الرخصة العامة واستندوا إلى كتاب العلامة الشيخ ابن عاشور في أنه لم يجد أحدًا تكلم في موضوع الرخصة العامة، الحقيقة لا داعي لهذا، فهو مجرد اصطلاح، لا أن نسمي هذا رخصة عامة، هي في الحقيقة مبدأ مقرر عند الفقهاء المالكية، وهو العمل بالمصالح المرسلة، فسواء سمينا ذلك رخصة عامة أو عملاً بالمصالح المرسلة، والدليل على ذلك كل الحوادث التي تفضل بها الإخوة الكرام في هذا الموضوع داخل تحت مصطلح المصالح المرسلة، فسواء سميناها رخصة عامة أو مصالح مرسلة ففقهاؤنا تعرضوا لها بصراحة ولا يمكن أن نغض من شأنهم حينما أدخلوها في جانب ولم يدخولها في جانب آخر، وأنا أميل إلى اصطلاح المالكية أن هذا من قبيل المصالح المرسلة وليس فيما سموه الرخصة العامة.

بقيت هناك جزئيات بعد هذه العموميات، فضيلة الشيخ تقي العثماني قال: إن الحنفية لم يرجحوا جواز الأخذ بالرخصة كما ذكرت، فأرجو أن يعود إلى الجزء الثاني من كتاب مسلم الثبوت الصفحة على الشمال لمحب الله بن عبد الشكور في ص369، يقول: يجوز تتبع الرخص عندنا، نحن الحنفية، وكتاب مسلم الثبوت حجة عند الأصوليين من الحنفية.

كذلك نقطة مشابهة لهذه النقطة أيضا ما اعترض به فضيلة الشيخ ابن منيع وأيده فضيلة الشيخ الدكتور القرضاوي من أن الاحتجاج بجواز الفطر للمسافر الذي لم يتضرر بالصوم أن هذا خلاف الأولى، نص أيضا الشافعية والحنابلة على هذا، والصفحة أيضا على الشمال في شرح الإسنوي في الجزء الأول ص90 قالوا: والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] فكلامي ليس خروجًا عن النص القرآني ولا استدلالاً بغير دليل تقبله علماؤنا بشكل واضح.

أيضًا ما يتعلق بالتقسيمات التي ذكرها بعض الإخوة في استثناء العقود، تكلمت عنها أيضا ما تكلموا به في قضية التلفيق لفتوى العالم، هذا ما ذكره الشيخ خليل هو سليم وهو ما نريده، والحقيقة العامي لا يستطيع أن يفعل شيئًا بدون فتوى العالم، وكلامنا كله منصب للعلماء، العامي إذا كان مبعثرًا وجاهلاً فهو في الحقيقة ملفق من حيث الواقع، وهو ملفق له بدون قصد، لم يقصد هذا المفتي أن يلفق للعامي، بحسب ما يتهيأ له، مرة يجد عالمًا في حي فيسأله عن قضية ثم ينتقل إل حي آخر في نفس المدينة فيجد عالمًا من مذهب آخر فيسأله عن قضية لها صلة بالقضية الأولى فيفتيه، فإذا هو وقع في التلفيق بدون قصده الملفق له، فلذلك التلفيق في الحقيقة كما أشار العلماء هو جائز، لأنه تلفيق ليس في مسألة واحدة، وإنما هو تقليد لكل إمام مذهب في مسألة جزئية غير المسألة الأخرى التي قام بها إمام مذهب آخر. فإذن القضية ليست في مسألة واحدة، وهذا هو الدقة في بيان تحديد معنى التلفيق، فهما مسألتان جزئيتان وإن كان ذلك ضمن عبادة واحدة.

ص: 436

كذلك الإخوة الذين قالوا: لا يوجد تعريف للرخصة، أستغرب هذا، يعني كلمة لطيفة، فالحنفية قالوا: الرخصة ما شرع على خلاف الدليل لعذر، أي تعريف أجمع وأدق من هذا التعريف، الذين قالوا: لا توجد تعريفات للرخصة، التعريف للرخصة موجود وواضح وبشكل سليم، وعلماؤنا في غاية الدقة في هذه الموضوعات وإن كان هناك بعض الانتقاد على هذا.

أيضًا ما تفضل به فضيلة الشيخ المختار أن هناك بعض الإخوة تهجموا على الشاطبي، الحقيقة ليس هناك هجوم، الشاطبي قال: الأصل في الرخصة الإباحة، وما عدا ذلك مما سماه بعض العلماء الرخصة قال: هو عمل بالعزيمة، فإذن هذا تكييف، خلاف في التكييف، والقانونيون يقولون: الخلاف في التكييف لا ضرر فيه، أنا أرى هذه القضية تدخل تحت إطار معين، وعالم آخر يراها تحت إطار آخر، وهو كلام العلماء: لا مشاحة في الاصطلاح، فإذن الشاطبي في الحقيقة كان جليًّا في هذا الموضوع وموسعًا، وكتابه الموافقات من أوسع دائرة للعمل بالمصالح في عصرنا الحاضر. فكيف يقول: إن الرخصة غير جائزة، فهذا متناقض يعد متناقضًا مع كتابه برمته، ولذلك الحقيقة: الكل يحترمون الشاطبي ويعترفون بفضله ويقرون بما أدلى به في هذا المجال بحيث لا يتسع لمزيد عليه حينما قال: مناط الأحكام الشرعية المصلحة، هذا أوسع ما وجدته عند العلماء قاطبة، لم أر ذلك لغيره من العلماء، فالمصلحة هي أساس التشريع، فقال: مناط الحكم هو المصلحة، فإذن كيف نقول: إن الشاطبي يشدد في الرخص؟ .

أيضًا ما اعترض أن العمل في المعاملات بأدنى المشاق، الأخ الدكتور عجيل اعترض على هذا، هذه كلمة العز بن عبد السلام، قال: وأما في المعاملات فالعمل بأدنى المشاق مشقة، ولكن عمل المشارب هذا ليس مشقة، فإذن ينبغي أن نضبط قضية المشقة حتى نقول: إن كلام العز بن عبد السلام كلام واضح وسليم ودقيق.

وهناك أمور أخرى تفضلت الرئاسة بضرورة الاختصار نرجئها إلى قرار الصياغة، وشكرًا.

الرئيس:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

من هذه المداولات المباركة يظهر أن الاتجاه العام هو أن ما دار في الرخص الفقهية وفي التلفيق هو على التحقيق الذي لا يصادم نصًّا من كتاب ولا من سنة ولا من إجماع، وأما الأخذ بالرخص أو بالتفليق للتشهي أو لطلب الأيسر على الناس حتى ولو كان فيه غض طرف عن دليل، فإن الاتجاه العام على عدم تجوير ذلك، مع ما يحيط بهذا الموضوع من ضوابط وشروط أشار إليها فضيلة الشيخ وهبة، وفضيلة الشيخ عبد العزيز الخياط وعدد من الباحثين.

ص: 437

القرار

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على

سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله صحبه

قرار رقم: 74 /1 /د8

بشأن

الأخذ بالرخصة وحكمه

إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سيري باجوان، بروناي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414 هـ الموافق 21 – 27 يونيه 1993م.

بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: "الأخذ بالرخصة وحكمه".

وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله.

قرر ما يلي:

1-

الرخصة الشرعية: هي ما شرع من الأحكام لعذر، تخفيفًا عن المكلفين، مع قيام السبب الموجب للحكم الأصلي.

ولا خلاف في مشروعية الأخذ بالرخص الشرعية إذا وجدت أسبابها، بشرط التحقق من دواعيها، والاقتصار على مواضعها، مع مراعاة الضوابط الشرعية المقررة للأخذ بها.

2-

المراد بالرخص الفقهية: ما جاء من الاجتهادات المذهبية مبيحًا لأمر في مقابلة اجتهادات أخرى تحظره.

والأخذ برخص الفقهاء، بمعنى اتباع ما هو أخف من أقوالهم، جائز شرعًا بالضوابط الآتية في (البند 4) .

3-

الرخص في القضايا العامة تعامل معاملة المسائل الفقهية الأصلية إذا كانت محققة لمصلحة معتبرة شرعًا، وصادرة عن اجتهاد جماعي ممن تتوافر فيهم أهلية الاختيار ويتصفون بالتقوى والأمانة العلمية.

4-

لا يجوز الأخذ برخص المذاهب الفقهية لمجرد الهوى، لأن ذلك يؤدي إلى التحلل من التكليف، وإنما يجوز الأخذ بالرخص بمراعاة الضوابط التالية:

أ – أن تكون أقوال الفقهاء التي يترخص بها معتبرة شرعًا ولم توصف بأنها من شواذ الأقوال.

ب – أن تقوم الحاجة إلى الأخذ بالرخصة، دفعًا للمشقة سواء أكانت حاجة عامة للمجتمع أم خاصة أم فردية.

ج – أن يكون الآخذ بالرخص ذا قدرة على الاختيار، أو أن يعتمد على من هو أهل لذلك.

د – ألا يترتب على الأخذ بالرخص الوقوع في التلفيق الممنوع الآتي بيانه في (البند 6) .

هـ- ألا يكون الأخذ بذلك القول ذريعة للوصول إلى غرض غير مشروع.

و– أن تطمئن نفس المترخص للأخذ بالرخصة

5-

حقيقة التلفيق في تقليد المذاهب هي أن يأتي المقلد في مسألة واحدة ذات فرعين مترابطين فأكثر بكيفية لا يقول بها مجتهد ممن قلدهم في تلك المسألة.

6-

يكون التلفيق ممنوعًا في الأحوال التالية:

أ – إذا أدى إلى الأخذ بالرخص لمجرد الهوى، أو الإخلال بأحد الضوابط المبينة في مسألة الأخذ بالرخص.

ب- إذا أدى إلى نقض حكم القضاء.

ج – إذا أدى إلى نقض ما عمل به تقليدًا في واقعة واحدة.

د – إذا أدى إلى مخالفة الإجماع أو ما يستلزمه.

هـ - إذا أدى إلى حالة مركبة لا يقرها أحد من المجتهدين.

والله أعلم

ص: 438