المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مشاكل البنوك الإسلاميةمحاورإعدادبيت التمويل الكويتي - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ٨

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد الثامن

- ‌الأخذ بالرخص الشرعية وحكمهإعدادالدكتور: وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌موضوع: " الأخذ بالرخص الشرعية وحكمه

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادالدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادالشيخ خليل محيي الدين الميس

- ‌الرخصة (التلفيق)إعدادالشيخ خليل محيي الدين الميس

- ‌التلفيق والأخذ بالرخصة وحكمهماإعدادحجة الإسلام الشيخ محمد علي التسخيري

- ‌الأخذ بالرخص الشرعية وحكمهإعدادمحمد رفيع العثماني

- ‌حكمالرخصة وتتبع الرخصفي الفقه الإسلامي

- ‌الأخذ بالرخصةإعدادأ. د. حمد عبيد الكبيسي

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادالشيخ مجاهد الإسلام القاسمي

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادأ. د. عبد العزيز عزت الخياط

- ‌الرخصةإعدادالشيخ محمد الشيباني بن محمد بن أحمد

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهتتبع الرخص – التلفيق ورأي الفقهاء فيهإعدادفضيلة الشيخ مصطفى كمال التارزي

- ‌الأخذ بالرخص وحكمهإعدادالشيخ الطيب سلامة

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادالدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين

- ‌الأخذ بالرخص وحكمهإعدادالدكتور أبو بكر دوكوري

- ‌بيع العربُونإعدادفضيلة الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌بيع العربُونإعدادالدكتور وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌بيع العربونإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌بيع المزايدةإعدادفضيلة الشيخ محمد المختار

- ‌عقد المزايدةبين الشريعة الإسلامية والقانوندراسة مقابلةمع التركيز على بعض القضايا المعاصرةإعدادعبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان

- ‌قواعد ومسائلفيحوادث السيرإعدادالقاضي محمد تقي العثماني

- ‌ موضوع "حوادث السير

- ‌حوادث السيرإعدادد. عبد الله محمد عبد الله

- ‌حوادث السيرإعدادالشيخ عبد القادر محمد العماري

- ‌حوادث السيرإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌التطبيقات الشرعيةلإقامة السوق الإسلاميةإعدادالدكتور علي محيي الدين القره داغي

- ‌التطبيقات الشرعيةلإقامة السوق الإسلاميةإعدادالأستاذ الدكتور / علي السالوس

- ‌الائتمان المولد على شكل بطاقةمع صيغة مقترحة لبطاقة ائتمانية خالية من المحظورات الشرعيةإعدادسعادة الدكتور محمد القري بن عيد

- ‌بطاقات الائتمانإعدادالشيخ حسن الجواهري

- ‌سر المهنة الطبية بين الكتمان والعلانيةإعدادالدكتور أحمد رجائي الجندي

- ‌مسؤولية الطبيبإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌مداواة الرجل للمرأةوالمرأة للرجلإعدادالدكتور محمد علي البار

- ‌نقص المناعة المكتسبة (الإيدز)الأحكام المتعلقة بالمرضى والمصابينإعدادأ. د. مصطفى عبد الرؤوف أبو لسان

- ‌بعض المشاكل الأخلاقية والاجتماعيةالناتجة عن مرض الإيدز(نقص المناعة المكتسبة)إعدادالدكتور محمد علي البار

- ‌مرض الإيدز(نقص المناعة المكتسبة)أحكامه وعلاقة المريض الأسرية والاجتماعيةإعدادالدكتور سعود بن مسعد الثبيتي

- ‌التداوي بالمحرماتإعدادالدكتور محمد علي البار

- ‌بحوث مجمعية

- ‌حُسن وفاء الديونوعلاقته بالربط بتغير المستوى العام للأسعارإعدادالدكتور صالح بن زابن المرزوقي البقمي

- ‌ربط الأجور بتغير المستوى العام للأسعارفي ضوء الأدلة الشرعيةإعدادد. حمزة بن حسين الفعر

- ‌الربط القياسي للأجور بالمستوى العام للأسعارتحليل من منظور إسلامي لمشكلة الأجورفي ظل التضخم والعلاج المقترحإعدادد. عبد الرحمن يسري أحمد

- ‌التضخم والربط القياسيدراسة مقارنة بين الاقتصاد الوضعيوالاقتصاد الإسلاميإعدادالدكتور شوقي أحمد دنيا

- ‌ربط الأجور بتغير المستوى العام للأسعاربين الفقه والاقتصادإعدادد. محمد أنس الزرقا

- ‌ندوة قضايا العملةالربط القياسي للديون بعملة اعتباريةإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌ملاحظات أساسيةفي مسألة ربط الأجور والمستحقاتإعدادالدكتور سيف الدين إبراهيم تاج الدين

- ‌مشاكل البنوك الإسلاميةمحاورإعدادمجموعة دلة البركة

- ‌مشاكل البنوك الإسلاميةمحاورإعدادبيت التمويل الكويتي

- ‌الصعوبات التي تواجه البنوك الإسلاميةوتصورات لكيفية مواجهتهاإعدادأ. د. إسماعيل حسن محمد

- ‌مشاكل البنوك الإسلاميةعقد السلم ودوره في المصرف الإسلاميإعدادالشيخ صالح الحصين

- ‌مشكلات البنوك الإسلامية في الوقت الحاضرإعدادد. محمد نجاة الله صديقي

- ‌في مشكلات المصارف الإسلاميةإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌حكم المشاركة في أسهم الشركات المساهمةالمتعاملة بالرباتجربة مجموعة دلة في أسلمة الشركاتعن طريق شراء أسهمهاإعدادالشيخ صالح عبد الله كامل

- ‌المشاركة في شركات تتعامل بالحرامإعدادالشيخ عبد الله بن بيه

الفصل: ‌مشاكل البنوك الإسلاميةمحاورإعدادبيت التمويل الكويتي

‌مشاكل البنوك الإسلامية

محاور

إعداد

بيت التمويل الكويتي

الكويت

بسم الله الرحمن الرحيم

إن ما تواجهه البنوك الإسلامية من مشكلات يتطلب من العلماء المتخصصين أن يتدارسوا السبل والمخارج التي تكفل التغلب على هذه المشكلات، ونود أن نضع بين أيديكم المسائل الآتية، وكلنا أمل ورجاء أن تظفر بنصيب وافر من عنايتكم وعناية الباحثين وهي:

أولاً- مؤشر قياس للربحية بديل عن سعر الفائدة:

تقوم الدول الأجنبية –بحكم سيطرتها على التجارة الدولية - بوضع الأنظمة والمقاييس للتعامل التجاري ومن هذه المقاييس سعر الفائدة الذي يستعمل كمقياس تسعيري للصفقات التمويلية.

وتتنافس المصارف الإسلامية في مجال الاستثمار والتمويل مع مصارف ومؤسسات ربوية، تقرض وتمول اعتماداً على سعر الفائدة أساساً لقياس عوائدها.

لذلك تضطر المصارف الإسلامية لاتخاذ نفس القياس كأساس لتسعير منتجاتها وتسويق استثماراتها، وإلا تعذر عليها المنافسة في السوق المالي العالمي.

ولعدم مشروعية الأخذ بسعر الفائدة من وجهة النظر الإسلامية فإن الحاجة تدعو إلى اعتماد مؤشر لقياس الربحية في أعمال المصارف الإسلامية لتتمكن من تسعير استثماراتها وتقوى على المنافسة في أسواق المال والاستثمار.

ثانياً- مخاطر الاستثمار والتمويل في الدول الإسلامية:

إن المتوقع من المصارف الإسلامية أن توجه عنايتها واهتمامها نحو تنمية الدول الإسلامية وتحسين المستوى المعيشي لشعوبها، ويحول دون تحقيق هذه الرغبة المشكلات الناجمة عن مخاطر الاستثمار والتمويل في بعض الدول الإسلامية بسبب المديونيات الكبيرة على تلك الدول وكذلك ضعف وضعها الائتماني.

ص: 1667

وعندما يمول مصرف إسلامي صفقة لشراء سلعة ما لدولة إسلامية تعاني من تلك المشكلات السالفة الذكر فإنه قد يتعرض لمخاطر أكبر من تلك التي يتعرض لها، إذا مول صفقة من هذا النوع في إحدى الدول الصناعية.

والحاجة –كما ترون- تدعو إلى دراسة نظام حوافز يشجع على الاستثمار في الدول العربية والإسلامية.

ومن هذه الحوافز على سبيل المثال:

أ- منح حسم عن سداد الدين لتشجيع تلك الدول على الالتزام والوفاء مما يقلل نسبة التأخر في سداد الدين ويخفف من مخاطر الاستثمار.

ب- إنشاء شركات تأمين وإعادة تأمين إسلامية لضمان السداد.

ثالثاً- إيجاد بحوث شرعية لبدائل استثمارية:

تحل محل اقتراض الدول الإسلامية بفائدة عن طريق سندات خزينة.

رابعاً- دراسة المعوقات - التعليمات القانونية:

التي تصدر من البنوك المركزية في الدول الإسلامية والتي تمثل حرجاً للمصارف الإسلامية، على سبيل المثال فرض مبالغ نقدية على المصارف الإسلامية تودع لدى البنوك المركزية مقابل فائدة يمتنع على المصارف الإسلامية أخذها، ووضع سقوف ائتمانية تضيق من أنشطة المصارف الإسلامية، أو الإلزام باحتياطات كبيرة تحت شعار مراعاة كفاية رأس المال.

آملين أن تعرض هذه المشكلات ضمن ندوة مشكلات البنوك الإسلامية

ص: 1668

عرض لبعض مشكلات البنوك الإسلامية

ومقترحات لمواجهتها

إعدد

سعادة الدكتور محمد القري بن عيد

مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي – جدة

المحتويات

- مقدمة.

- مشكلة المماطلة في تسديد الديون.

- مشكلة الارتباط بأسعار الفائدة العالمية.

- مشكلة عدم تقبل الناس لفكرة الخسارة في الحسابات الاستثمارية.

- مصاعب إعادة تشكيل المحافظ الاستثمارية.

- مشكلة المخاطرة الأخلاقية.

- مشكلة تمويل الحكومة.

- مشكلة الاستثمار في العملات الأجنبية.

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة:

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته، وبعد:

فإن العمل المصرفي الإسلامي قد نجح بحمد الله نجاحاً باهراً، وقد صارت صيغ التمويل الإسلامية القائمة على بدائل للتمويل بالفائدة هي محط الاهتمام ليس فقط عند المصرفيين وأرباب المال والأعمال، بل لدى المتخصصين من العلماء والباحثين في كل مكان، ما ذلك إلا لأنها تتمتع بمزايا تتفوق بها على صيغ التمويل الربوية على المستويين الفردي والاجتماعي، ومع أن أكثر هذه المزايا واضحة جلية على المستوى النظري إلا أنها في التطبيق العملي تبدو باهتة مهينة، ولقد كان ذلك بسبب عدد من المشكلات والمصاعب التي ترتب على محاولة حلها أن انحصر نشاط البنوك الإسلامية في البيوع، وصارت أصولها لا تتكون إلا من الديون التي تولدها عمليات المرابحة، ومع أننا يجب أن نتذكر دائماً أن المصرف وسيط مالي، وأن من غير المفيد وربما من غير الممكن أن ينهض بهذه الوظيفة إذا صار يقوم بنشاط مشابه لأعمال التجار، مع ذلك فإننا نعتقد جازمين أن تجارة الديون هي مصيبة العمل المصرفي التقليدي التي يجب أن نبعدها عن نظامنا الإسلامي، وأن نخلص البنوك الإسلامية منها، ولذلك يجب أن تجتهد هذه البنوك في البحث عن حلول لجميع المشكلات التي تبعدها عن الصورة المثالية وأن تتجه إلى صيغ المشاركة والمضاربة كأساس لعمليات التمويل وإلى التقليل إلى أقل الحدود من صيغ البيع التي تولد الديون، لاسيما بيع المرابحة للآمر بالشراء.

ص: 1669

وهذا الذي بين يديك هو محاولة لإلقاء الضوء على بعض المشكلات ومقترحات لحلها، والله أسأل أن يوفق العاملين المخلصين في هذه البنوك وأن يسدد خطاهم ويكلل بالنجاح مسعاهم، إنه سميع مجيب.

1-

مشكلة المماطلة في تسديد الديون:

تعد مشكلة المماطلة في تسديد الديون من أهم المشكلات التي تواجهها البنوك الإسلامية في الوقت الحاضر، ولعل مما يزيد من خطورة هذه المشكلة تبني أكثر البنوك الإسلامية صيغ التمويل التي يترتب عليها ديون، مثل بيع المرابحة للآمر بالشراء، ولذلك كانت الديون تمثل نسبة عالية من أصول البنوك الإسلامية تصل في بعض الأحيان إلى ما يزيد عن 90 % من مجمل الأصول، ومن ثم كانت مشكلة المماطلة في تسديد الديون تؤثر على هذه المؤسسات تأثيراً بالغاً. (1)

1-

1- وصف المشكلة:

من المعلوم أن النشاط الرئيسي للبنوك –بما فيها البنوك الإسلامية- هو الائتمان، وبينما تعتمد البنوك التقليدية صيغة القرض كأساس لتوفير الائتمان للجمهور، تمارس أكثر البنوك الإسلامية البيوع الآجلة لتحقيق نفس الغرض، والزيادة في الصيغة الأولى هي عين ربا النسيئة المحرم، والزيادة في الصيغة الثانية هي ربح جائز، ولكن الزيادة الثانية في كليهما هي بلا شك من ربا الجاهلية الموصوف بصيغة (أمهلني أزدك) أو (أتقضي أم تربي) وبرغم أن الزيادة الأولى في البيع مقابل الأجل لا تظهر منفصلة عن ثمن البيع إلا أن الثمن ملحوظ فيه بلا شك طول الأجل، فالبنوك تحدد لنفسها –في بيوع المرابحة- ما يسمى بهامش المرابحة وهو يمثل نسبة مئوية تحسب سنوية، تزيد بطول الأجل وتنقص بقصره.

(1) علمت أن بعض البنوك الإسلامية تفرض الغرامات على المماطلين عند مماطلتهم فهذه البنوك لا ينطبق عليها ما ذكرناه من وصف أن تعاني من هذه المشكلة ولكنها بلا ريب ترتكب مخالفة شرعية لا تقبل

ص: 1670

والذي تسعى إليه البنوك، شأنها شأن كافة مؤسسات القطاع الخاص، هو تحقيق الأرباح، لكن هذه الأرباح لا تتحقق إلا إذا التزم العميل بتسديد دينه في أجله المحدد وبدون مماطلة؛ ذلك لأن الائتمان الذي أشرنا إليه آنفاً مرتبط بالزمن، فإذا ماطل العميل في السداد لم يتحقق ذلك الربح المتوقع حتى لو سدد الدين بكامله، وقد اتسم العصر الحاضر كما هو معلوم بالسرعة، الأمر الذي جعل لوفاء الديون في مواعيدها أهمية كبيرة لم تكن لها قديماً، فالتجار يرتبطون بعقود شراء بمواعيد متوافقة في مواعيدها مع ما لهم من استحقاقات ناتجة عن البيوع، فإذا تأخرت الثانية أربكت الأولى وربما أدت إلى مشكلة تؤثر على حسن سير المؤسسة وعلى نشاطها.

ورب قائل: إن هذه الديون تكون دائماً موثقة بضمانات عينية وشخصية ورهون

إلخ، فما على المصرف إذا ماطل العميل في السداد إلا التنفيذ عليها واستخلاص ديونه، لكن الأمر خلاف ذلك؛ إذ من المعروف أن قوة الضمانات ليست هي الأساس في التمويل بل الأساس هو الثقة في العميل، أضف إلى ذلك أن جميع هذه الضمانات لا يمكن التنفيذ عليها –في حال المماطلة- إلا بحكم من المحكمة، وهو أمر يستغرق وقتاً طويلاً، وفي كثير من الأحيان لا تجد البنوك أن من الملائم أن تهرع إلى المحاكم في أول لحظة يتأخر فيها العميل عن السداد، بل هي تفعل ذلك عندما تفشل الوسائل الأخرى في إقناعه بالتسديد، هذا يعني أنه عندما يصل الأمر إلى التحاكم إلى الجهات القضائية يكون الربح قد فات على البنك بمضي الوقت وطول الأجل.

ومعلوم أن الزيادة الطارئة على الدين بعد ثبوته في الذمة هي عين ربا الجاهلية المجمع على تحريمه، فلا يجوز أن يزيد الدين عند مماطلة العميل لتعويض الدائن عما فاته بسبب تأخير السداد، ولا يعني هذا أنه يجوز للمدين أن يماطل، فقد حرصت الشريعة على حفظ الحقوق، فجعلت المماطلة من الأمور المستقبحة بل حرمتها وأجازت معاقبة فاعلها كما قال عليه الصلاة والسلام:((مطل الغني ظلم)) .

بيد أن هنا مسألتين: الأولى: أن هذه العقوبة التي أجازتها الشريعة هي عقوبة معنوية وجسدية وليست مالية، الثانية: أنها لا توقع على المماطل إلا بحكم من القاضي بعد أن يتحقق أنه - أي المماطل - مليء؛ لأن للمعسر أن ينظر إلى الميسرة كما نص الكتاب الحكيم.

ص: 1671

إن أمانة وأخلاقيات العامة في المجتمعات المعاصرة هي بلا شك، دون المستوى المثالي، التجربة العملية عند كثير من البنوك الإسلامية تدل على أن الأفراد إذا ترك لهم الحبل على الغارب ركبوا العظائم، ومال أكثرهم إلى المماطلة في تسديد الديون لأمنهم العاقبة، فإذا قلنا للبنوك الإسلامية أن تتجاهل هذه الحقيقة فقد جعلناها في وضع لا تستطيع معه أن تجاري أو تنافس البنوك التقليدية؛ لأن الأخيرة لديها الوسيلة لدفع المدينين على السداد في الوقت، لعلمهم أن التأخير محسوب عليهم وذلك بزيادة وتراكم الفوائد التأخيرية، بينما تعدم الأولى الوسيلة لخلق مثل تلك الحوافز.

الآثار السلبية لهذه المشكلة على العمل المصرفي الإسلامي:

لهذه المشكلة آثار سيئة على العمل المصرفي لعل أهمها:

1-

اتجاه البنوك الإسلامية إلى المبالغة في طلب الرهون والضمانات، الأمر الذي يضيق فرص الاستفادة من التمويل ويجعلها محصورة في فئة الأثرياء وذوي الغنى؛ لأن تلك هي الفئة القادرة على تقديم الضمانات الممتازة، وهذا من أعظم الخطر لأنها تؤدي إلى جعل المال دولة بين الأغنياء، وتلك بلا شك أسوأ مساوئ الصيغ المصرفية الربوية التي ما جاءت البنوك الإسلامية إلا للقضاء عليها.

2-

نظراً إلى أن احتمال المماطلة موجود دائماً (وربما برجحان) في كل عملية تمويل، فقد اتجهت البنوك الإسلامية إلى افتراض أن كل عميل هو مظنة المماطلة، وترتب على هذا اتجاهها إلى رفع هوامش الربح حتى تعوض عن تلك المماطلة إذا حصلت؛ لأنه لا يمكنها الحصول على تعويض عن ذلك بعد ثبات الدين في ذمة العميل، ولقد أدى هذا إلى أن أصبح التمويل بالصيغ الإسلامية أعلى كلفة بالمقارنة بالفوائد الربوية، ولطالما انتقدت البنوك الإسلامية كثيراً على هذه الظاهرة، ولذلك سيكون لوجود وسيلة حاسمة لمعالجة المشكلة أثرها الحسن على هذه المشكلة، فيعاقب بالزيادة المماطلون فحسب.

3-

ومما يتفرع عن المشكلة المشار إليها في (2) أعلاه أن البنوك صارت عاجزة عن اجتذاب العملاء الممتازين الذين لا يماطلون؛ وذلك لأنها عاجزة عن التفريق بين الأمين الملتزم والمماطل؛ وذلك لأنها تحدد هامش الربح بافتراض أن الجميع من النوع الثاني، فكانت النتيجة أن صار أكثر عملائها من ذلك النوع، وهذه بلا شك من أسوأ ما تواجهه هذه البنوك من مشكلات.

ص: 1672

1-

2- مقترحات لمعالجة المشكلة: (1)

لقد حثت الشريعة على حسن القضاء، وأمرت بأداء الأمانات والديون إلى أصحابها ومنعت المماطلة في تسديد الديون، إلا أن يكون المدين معسراً عاجزاً عن الوفاء، أما المليء القادر فقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله المماطلة بالظلم؛ فقد قال عليه الصلاة والسلام:((مطل الغني ظلم)) (2) وعنه صلى الله عليه وسلم ((لي الواجد يحل عرضه وعقوبته)) كما أباحت أنواعاً من العقوبات التي يمكن أن توقع على المليء المماطل.

إن مبدأ معاقبة المدين المليء المماطل هي بلا شك مبدأ مقبول في الشريعة، وبينما أجازت الشريعة الإجراءات التي تعاقب المذنب وتردع أمثاله، فقد منعت التعويض المالي للدائن عما يلحقه من ضرر متمثل في فوات فرص الاستثمار والربح (3) ومعلوم أن الفوائد التأخيرية التي تحسبها البنوك التقليدية على المدين المماطل تشبه العقوبات التي أقرتها الشريعة في أوجه وتختلف عنها في أوجه أخرى، فهي تشبهها من حيث إنها عقاب للمدين المماطل، وأنها رادع لمن تسول له نفسه المماطلة في تسديد الدين، وتختلف عنها في أنها أي الغرامات التأخيرية تعويض للدائن وهو أمر ممنوع في الشريعة وتختلف عنها في أنها لا تأخذ باعتبارها ملاءة المدين أو إعساره.

وتدل الخبرة المصرفية قديماً وحديثاً على ضرورة وجود عنصر العقاب والردع؛ إذ بدون ذلك تضيع الحقوق وتضيع الالتزامات، وجلي ما يؤيد إليه ذلك من الفوضى وعدم الاستقرار في المعاملات المالية ومن التظالم بين الناس.

(1) انظر بحثنا مع (د. أنس الزرقا) في مجلة جامعة الملك عبد العزيز: الاقتصاد الإسلامي مجلد 3/ 1411هـ بعنوان: التعويض عن ضرر المماطلة في الدين في الشريعة والاقتصاد

(2)

رواه الشيخان

(3)

ولعل مما يلفت النظر أن أول استخدام لتحريم الربا عند المسيحيين كان اجتهاد المصلح الديني المشهور عندهم المسمى كالفن عندما أجاز للدائن هذه الزيادة فصارت البنوك تقرض بدون اشتراط الفائدة لمدة قصيرة ثم تفرض الغرامات التي تؤول إلى ذلك، انظر كتابنا: حوار موضوعي حول الفوائد المصرفية في الشريعة والاقتصاد، جدة، دار حافظ، 1410 هـ

ص: 1673

ورب قائل: إن الإجراءات التي أجازتها الشريعة كافية لتحقيق المراد من العقوبة. وهذا –بلا شك- قول سديد، لكن المشكلة تكمن فيما يلي:

أ- أن هذه العقوبات الشرعية لا يمكن توقيعها إلا بأمر القضاء، وهذا يعني أن كل قضية تتضمن المماطلة تستغرق –حتى تصل إلى فرض العقوبة على المماطل- زمناً طويلاً، وربما يترتب عليها تكاليف باهظة على الدائن لاسيما في وقتنا الحاضر الذي أصبحت فيه المعاملات القضائية بالغة التعقيد وباهظة التكاليف والمحاكم مثقلة بأنواع القضايا والمشاكل.

وليس جديداً أن نقول: إن العائد على الاستثمار للمصرف الدائن محسوب على أساس الزمن، فلا يتحقق الربح للبنك بمجرد استرداد الدين، بل يجب أن يتحقق هذا الاسترداد عند الأجل المحدد، فإذا امتد هذا الأجل أو ترتب على المماطلة تكاليف إضافية على المصرف أضحت العملية خاسرة، حتى لو تم تسديد جميع الأقساط فيما بعد.

ب- لما كانت الشريعة قد أعفت المدين المعسر من العقوبة عن المماطلة في السداد، واقتصر العقاب على المدين المليء المماطل، كان على الدائن (المصرف في هذه الحالة) أن يتحرى حال المدين، فإن كان ممن يتصف بهذه الصفة، أي الإعسار، لزم إنظاره إلى الميسرة كما قال تعالى:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] ، بيد أن البنوك إذا ألزمت بضرورة إثبات ملاءة المماطل حتى يمكن مجازاته على المماطلة، أضحت العقوبات على المدين المماطل أمراً بعيد المنال، وأمن المماطلون العقوبة مما يشجعهم على التمادي فيما هم فيه، كل ذلك يضحي نتيجة مؤكدة إذا علمنا حال البنوك الإسلامية في الوقت الحاضر وكون أن أكثرها يعمل ضمن قوانين لا تقدم الحماية الكافية لنشاطاته ولا تأخذ باعتبارها خصوصيات العمل المصرفي الإسلامي الذي يحتاج إلى أنواع من الإجراءات القانونية التي لا تحتاج إليها المصارف التقليدية.

ص: 1674

1-

والاقتراح الأول المطروح للبحث لمعالجة المشكلة المذكورة إنما يعتمد على الفكرة التالية: إن الشريعة قد أجازت مبدأ عقوبة المدين المماطل، وإنما منعت العقوبة المالية على شكل غرامات تأخير حتى لا تنقلب المعاملة، التي هي في أصلها حلال كالبيع بالتقسيط أو المرابحة للآمر بالشراء إلى ربا الجاهلية المقطوع بحرمته بصيغة: أتقضي أم تربي، أو أمهلني أزدك.

ولذلك كانت الفكرة هي تصميم مجموعة من الإجراءات التي تتضمن العقوبة التي تؤدي إلى ردع المماطلين، ولكنها لا تؤول إلى الصيغة المحظورة، فكان أن قامت هذه الفكرة على فرض الغرامات التأخيرية على كل مماطل، وإنشاء صندوق خاص تصب فيه هذه الغرامات، فلا يستفيد منها الدائن، حتى لا تؤول إلى الربا، بل يوجه ما اجتمع في ذلك الصندوق إلى أعمال البر والخير ومساعدة المحتاجين، فهنا تحقق هدف الردع الذي هو ضروري لحسن سير المعاملات المالية دون أن يتحقق ربا الديون الذي هو ممنوع من الناحية الشرعية.

أما فيما يتعلق بالإعسار فإن الفكرة لا تتجاهل الأمر الشرعي بإمهال المعسر إلى الميسرة ولكنها تقوم على تحويل عبء إثبات الإعسار من الدائن إلى المدين، فتفترض دائماً توفر الملاءة عند المدين، فإن كان في غير تلك الحال كان عليه أن يثبت ذلك بالوثائق والشواهد التي يرضاها البنك، فإن فعل ردت إليه غرامات التأخير، بهذه الطريقة يدرك كل مستفيد من تمويل البنوك أن المماطلة مكلفة فلا يقدم عليها، وبالنسبة إليه، أي المدين، لا فرق –بعد أن تفرض عليه الغرامات- أن تذهب لأغراض الخير والبر أم إلى طريق آخر، فإن عنصر الردع متحقق فيها بلا شك، وذلك هو مقصود الإجراء المقترح.

2-

والاقتراح الثاني يقوم على فكرة معاقبة المدين المماطل بإلزامه بإقراض الدائن (المصرف) مبلغاً مساوياً للدين الذي ماطل في تسديده ولمدة مساوية لمدة المماطلة، وتفصيل هذا الاقتراح معروض في بحث (التعويض عن ضرر المماطلة في الدين بين الفقه والاقتصاد) ، د. محمد أنس الزرقا، ود. محمد علي القري، مجلة جامعة الملك عبد العزيز، الاقتصاد الإسلامي المجلد 3 سنة 1411هـ، ص 25- 57.

ص: 1675

2-

مشكلة الارتباط بأسعار الفائدة العالمية:

يجد المراقب لنشاط البنوك الإسلامية أنها قد تبنت البيوع –وليس المشاركات- كبديل لصيغ التمويل التقليدية، والبيع الآجل –لاسيما بيع المرابحة للآمر بالشراء –يترتب عليه دين، فصارت أصول البنوك الإسلامية (1) شبيهة بأصول البنوك التقليدية.

ولما كانت وظيفة البنوك هي التمويل والائتمان، كانت الأثمان في البيوع الآجلة تتكون من جزئين: الأول هو تكلفة الشراء (على البنك) والثاني هو الزيادة مقابل الأجل والتي تسمى أحياناً بهامش المرابحة، وهامش المرابحة هو نسبة مئوية سنوية تزيد بطول فترة التسديد وتنخفض بقصرها، وهي من هذا الجانب ذات شبه بسعر الفائدة بحكم كونها نسبة مئوية سنوية محسوبة على مبلغ دين متعلق بذمة العميل.

وبرغم أن بينهما اختلافاً جذرياً يتمثل في أن الفائدة هي زيادة مشروطة في قرض بينما أن هامش المرابحة هو جزء من ثمن بيع آجل صحيح؛ برغم ذلك فهي مرتبطة بأسعار الفائدة العالمية، ولا يعني ذلك أنها مساوية لها بالضرورة، ولكنها تتغير معها نزولاً وصعوداً، الأمر الذي يوحي بأنهما صنوان، ولطالما انتقدت البنوك الإسلامية، وشكك المشككون فيها بناء على ما يرون من ارتباط بين هامش الربح وأسعار الفائدة العالمية، ولعل من المفيد هنا أن نستعرض بعض أسباب الارتباط المذكور بين أسعار الفائدة وهوامش الربح في المرابحة:

أ- تمارس أكثر البنوك الإسلامية نشاطها المصرفي في بيئة تتنافس فيها مع البنوك التقليدية، ويمثل الجميع أعضاء في سوق واحد، وسواء كانت هذه البنوك تمارس نشاطها بصفة أساسية داخل بلدانها أو على نطاق دولي فإنه يبقى أن البديل لصيغ تمويلها المقبولة شرعاً هو الاقتراض بالفائدة، ولذلك فهي مضطرة في تحديد هوامش الربح (والتي تمثل ببساطة ثمن الخدمة التي تقدمها) أن تأخذ في اعتبارها هذه الحقيقة، فهي لا تستطيع أن تحدد هامش ربح يزيد كثيراً على أسعار الفائدة السائدة؛ لأنها إذا فعلت تركها الناس ومالوا إلى البنوك التقليدية (إلا من رحم ربك) ، وهي لا تستطيع أن تحدد هامش مرابحة يقل كثيراً عن أسعار الفائدة؛ لأنها عندئذٍ سوف توزع على المودعين لديها وملاك البنوك أرباحاً تقل عن أسعار الفائدة التي يمكن أن يحصلوا عليها في البنوك التقليدية فيتركونها إلى البنوك التقليدية (إلا من رحم ربك) ، لا شك في أننا نعيش في أوضاع غير مثالية، ولذلك لا نستطيع أن نفترض أن جميع المسلمين سوف يتجاهلون هذين العاملين لأنهم في الواقع لن يفعلوا، لذلك تجد البنوك الإسلامية نفسها مضطرة إلى ربط معدلات أرباحها بأسعار الفوائد الدولية.

(1) بمعناها المحاسبي

ص: 1676

والبنوك التقليدية تربط معدلات الفوائد لديها بالمعدلات العالمية، ولكن لديها أسباباً أخرى لارتباط أسعار فوائدها الإقراضية مع أسعار الفائدة العالمية، ويتمثل ذلك – في أكثر الدول- في كون أسعار الفائدة العالمية هي البديل القريب (1) لتوظيف أموال البنك، بمعنى أن البنك يستطيع أن يحصل على عائد مساوٍ للفائدة العالمية لو أنه استثمر أمواله في الأسواق المالية العالمية ولذلك فإنه يجب أن يحصل من القرض على زيادة عن ذلك السعر لتتحقق الجدوى في عملية الإقراض.

ولكن لما كان ذلك خيارا غير مطروح بالنسبة للبنوك الإسلامية، لأنها لا تستطيع توظيف أمواله في أسواق النقد الدولية بالفائدة، صار ربط هامش الربح بأسعار الفائدة غير ذي معنى في هذا الباب.

ب- إن الممارسة المصرفية تحتاج إلى معيار (2) تقاس عليه فرص التمويل المختلفة، وليس هذا خاصاً بالأعمال المصرفية، إذ من المعروف أن جميع الأسواق يتولد فيها سعر يمثل أساس جميع الأسعار الأخرى، ففي سوق البترول نجد أن سعر نفط برنت في بحر الشمال –مثلاً- يمثل هذا المعيار، كما يمثل سعر زيورخ معياراً في سوق الذهب.. إلخ، ويؤدي هذا المعيار وظيفة مهمة في تحقيق الاستقرار للأسواق وتوحيد اتجاهات الأسعار، وفي العمليات المصرفية نجد أن ليبور (Libor) وهو سعر الفائدة على القروض بين البنوك في لندن، وبرايم ريت (Prime Rate) وهو سعر إقراض بنوك نيويورك لأفضل عملائها.. إلخ، تمثلان معايير تربط البنوك الأخرى أسعار فوائدها بها، ولا يوجد للبنوك الإسلامية معيار مستقل له فعاليات ومبررات غير ربوية، ولذلك نجدها تتبنى ذات أسعار الفوائد الدولية فترتبط بها هوامش المرابحة لكي تتأكد أنها تسير في نفس الاتجاه العام السائد في الأسواق.

(1) Opportunity Cost

(2)

Bench Mark

ص: 1677

2-

1- هل يجوز استخدام معدلات الفائدة العالمية لتحديد هامش الربح؟

لا يوجد في الشريعة –بحسب ما نعلم- طريقة لحساب الربح، والمعول في المعاملات هو على صيغة العقد لا على طريقة الحساب، فإذا كان بيعاً وجب أن يكون مكتمل الأركان تام الشروط خالياً من الربا والغرر والغش والغبن

إلخ، فإذا توفر ذلك فلا أهمية للطريقة التي حسب بها الربح، وهذا يعني أن ربط هامش الربح بأسعار الفائدة مقبول إذا كانت صيغة البيع صحيحة، ولكننا يجب أن ننبه هنا إلى أن ربط هامش الربح بأسعار الفائدة يحتمل معنيين: الأول هو استخدام سعر الفائدة للتوصل إلى تحديد ربح البنك، ثم يصير هذا الربح جزءاً من ثمن بيع يمثل مبلغاً مقطوعاً يدفع منجماً أو دفعة واحدة، والمعنى الثاني: هو تحديد هامش الربح بحيث يتغير مبلغ القسط مع مرور الزمن بتغير أسعار الفائدة، فيكون هامش الربح زيادة متغيرة على الثمن، إن المعنى الثاني غير مقبول بلا شك لأنه يدخل في عقد البيع غرراً فاحشاً مفسداً للعقد، أضف إلى ذلك أن الزيادة التي تحدث إذا ارتفعت أسعار الفائدة هي زيادة في دين ثابت في ذمة المدين وهي من ربا الجاهلية، أما المعنى الأول فهو مقبول لأنه لا يؤثر على صحة البيع؛ إذ للبائع أن يتبنى أي طريقة يراها لحساب الربح.

ومع ذلك لا ننكر أن استخدام أسعار الفوائد الدولية كطريقة لحساب الربح في البيوع وإن كان غير محرم فإنه مناف للذوق الإسلامي ومتعارض مع ما هو مفترض في المسلمين من تأدب مع أحكام دينهم، ونقدم فيما بعد الحلول المقترحة لهذه المشكلة.

2-

2- الآثار السلبية لهذه المشلكة على عمل البنوك الإسلامية:

مما لا شك فيه أن ارتباط هوامش المرابحة، ومن ثم ارتباط العائد على الحسابات والودائع الاستثمارية مع أسعار الفائدة العالمية كانت له آثار سلبية كثيرة على البنوك الإسلامية، فأولها تشكك كثير من المسلمين في (إسلامية) هذه البنوك، وتقوية حجة من يدعي بأن تلك البنوك إنما يقتصر عملها على جمع الأموال من أفراد المودعين ثم إيداعها في البنوك الخارجية، وهو أمر غير صحيح، ومنها اضطرار كثير من البنوك الإسلامية إلى (حيل) يكون بعضها غير مقبول لإدخال عنصر يؤدي إلى تغير عائد الاستثمار عندما تتغير أسعار الفوائد الدولية، لحرصها على عدم الانفصال عن مستويات تلك الفائدة، مثل ربط أقساط التأجير بمعدل ليبور

إلخ، ومنها أن هوامش الربح في البيوع لا تتغير تبعاً لأنواع السلع لأنها مرتبطة بثمن خدمة الائتمان وهي الفائدة العالمية، بينما المعتاد في عالم التجارة أن يكون معدل الأرباح في قطاع السيارات مثلاً مختلفاً عنه في قطاع الأدوية أو الأسمدة الكيماوية أو مواد البناء والأسمنت..إلخ، ولما كان يفترض أن نشاط البنك الإسلامي هو نشاط التجار ينطحون الأسواق ويبيعون بأسعار منافسيهم من الباعة، كان المتوقع أن يكون هامش الربح في كل سلعة ذا علاقة بهامش الربح في سوق تلك السلعة، ولكن ذلك لا يحدث في عمل البنوك الإسلامية؛ إذ إن هامش المرابحة مرتبط بأسعار الفائدة السائدة وربما يزيد أو ينقص قليلاً تبعاً لملاءة العميل وثقة البنك به، ولا يرتبط بهوامش الربح أسواق السلع الحقيقية.

ص: 1678

2-

3- الحلول المقترحة لمواجهة هذه المشكلة:

أ- إن أول الحلول المقترحة لهذه المشكلة هو بلا ريب تقليص صيغ التمويل التي تؤدي إليها ألا وهي الديون، وقد ذكرنا آنفاً كيف أن النموذج المثالي للمصرف الإسلامي هو ذلك الذي يعتمد في التمويل على صيغ الشركة وأنواع المشاركات وليس الديون، وفي صيغ التمويل بالمشاركة لا يحتاج المصرف إلى تحديد عائد ثابت ومن ثم يستغني عن الارتباط بأسعار الفائدة العالمية.

وقد اتجهت بعض البنوك الإسلامية بعيداً عن بيوع المرابحة إلى التأجير والمضاربة.. إلخ، وهذا بلا شك هو الحل الأنجع للمشكلة المذكورة.

ب- إن حاجة صيغ التمويل بالفائدة والقروض الربوية إلى الارتباط بأسعار الفائدة العالمية إنما مرده أن سعر الفائدة المذكور يعد خياراً بديلاً عن كل فرص إقراض يقوم بها المصرف لذلك كان طبيعياً أن يحسب فائدة القرض اعتماداً على مستوى الفائدة العالمي.

ولكن الفائدة العالمية ليست بديلاً أو خياراً مطروحاً أمام البنوك الإسلامية، ومن ثم فلا معنى لربط نسبة الربح في البيوع بتلك الفوائد؛ إذ لا يتصور أن عدم حصول فرص البيع المذكورة سيؤدي إلى إيداع أموال البنك في المراكز المالية الدولية والحصول على الفوائد العالمية، ولكن يبقى أن هذه البنوك بحاجة إلى مؤشر ومعيار، لذلك فمن المفيد تطوير معايير للقياس تكون ذات صلة بطبيعة عمل ونشاط المصرف الإسلامي، مثل تطوير مؤشر للأرباح المصرفية، أي متوسط ما تحققه البنوك من عملياتها بحيث تعني عملية ربط مستوى الربح في عمليات التمويل به (أي بذلك المتوسط) أنه الخيار البديل للمصرف، ويؤدي تطوير مثل ذلك المؤشر إلى تحقق التماثل في سوق المال الإسلامي؛ لأنه يقدم المعيار الذي يوحد عملية قياس المخاطر في التمويل بمعايير موحدة، وهذا شبيه بما تحققه الفائدة العالمية في أسواق المال الدولية.

ص: 1679

3-

مشكلة عدم تقبل الناس لفكرة الخسارة في الحسابات الاستثمارية:

حاولت البنوك الإسلامية عندما بدأت نشاطها قبل نحو عقدين من الزمان أن تقدم نفسها إلى الجمهور كبديل للبنوك التقليدية، وحرصت على أن تعرض أنواعاً من الخدمات شبيهة بما تقدمه تلك البنوك، ومن المعروف أن أهم أنواع الحسابات (الودائع) التي تقدمها البنوك التقليدية هي الحسابات الجارية وحسابات التوفير والحساب لأجل، لذلك كان جانب الخصوم في البنك الإسلامي يتضمن أيضاً الحسابات الجارية، ودائع التوفير، والحسابات الاستثمارية، مع اختلاف في المسميات بين البنود المختلفة، فجاءت الأولى شبيهة بالحسابات الجارية لتكون بديلاً عنها، وجاءت الثانية بديلاً عن حسابات التوفير فصممت بشروط مشابهة عدا أن ما يتحقق لصاحبها هو الربح لا الفائدة، وجاءت الثالثة بديلاً عن الودائع لأجل، فحددت فيها الآجال متوسطة وطويلة

إلخ.

لقد أدى هذا الهيكل الذي تبنته البنوك الإسلامية لأنواع الحسابات فيها إلى نجاح كبير، ولكنه زرع في أذهان الجمهور أن تلك الحسابات هي شبيهة بالحسابات التقليدية في جوانبها المختلفة بما فيها درجة المخاطرة، ولكنها ارتبطت في أذهان الجمهور بفكرة (العائد الثابت) المضمون الذي هو أساس العمل المصرفي التقليدي.

ومعلوم أن البنك الإسلامي –وإن كان بإمكانه أن يتوقع مقدار ما سيتحقق من ربح بصفة دقيقة في أكثر الأحيان- لا يمكنه أن يقطع بذلك؛ لأن الربح –بخلاف الفائدة- ليس مضموناً، ولا يعلم تحققه إلا في نهاية المدة، لاسيما بالنسبة لتلك البنوك الإسلامية التي لا تقتصر في أصولها على الديون، بل تمارس أنواع المشاركات والمضاربات والاستثمار المباشر في العقار وخلافه، والمفترض أن هذا أمر معلوم للناس، فهم عندما يودعون أموالهم في حسابات استثمارية إنما يفعلون ذلك لغرض الحصول على الربح، وإنهم سيتقبلون الخسارة لو تحققت لأن الغنم بالغرم.

لكن تجارب البنوك الإسلامية تدل على خلاف ذلك، فإن العملاء لا يتقبلون أن يقال لهم: إن حسابات الاستثمار لم تحقق أرباحاً هذا العام، أو أنها لحقت بها بعض الخسائر، حتى لو كانت تلك هي الحقيقة، وقد وقعت بعض البنوك الإسلامية في حرج شديد عندما حاولت أن تحمل المستثمرين الخسارة التي تحققت في مشاريع مولتها أموالهم المودعة لدى البنك، الأمر الذي اضطرها إلى تحميل الجزء الأكبر من تلك الخسائر على رأس المال بنسبة تزيد كثيراً عن نسبة مساهمة أموال ملاك البنك في الاستثمارات المذكورة.

ص: 1680

3-

1- الآثار السلبية المترتبة لهذه المشكلة على البنوك الإسلامية:

لهذه المشكلة آثار سلبية متعددة على عمل البنوك الإسلامية، منها عدم الاستقرار، ذلك أن عدم تقبل الناس لفكرة الخسارة يعني أنهم سيتجهون إلى سحب ودائعهم إذا علموا (أو ظنوا) أن هذا ما سيحدث لأموالهم، ومنها أن ذلك سوف يدفع إدارة المصرف إلى أن تكون محافظة أكثر مما يجب فتقتصر على أنواع الاستثمارات ذات السيولة العالية وذلك حتى تكون مستعدة على الدوام لرد أموال الناس إليهم بسرعة وبمجرد مطالبتهم بها، ومنها أنها سوف تقتصر على الديون حتى تتفادى أثر تقلبات الأسواق وتغيرات الاقتصاد على معدلات العائد على استثماراتها؛ لأن العائد في الدين عائد ثابت، فمن المعروف أن الإدارة المصرفية الحازمة تقتضي المواءمة بين سيولة الأصول والخصوم، فإذا كانت خصوم المصرف تتسم بالسيولة العالية بسبب المشكلة التي أشرنا إليها، اضطرت إدارات المصرف إلى الاتجاه إلى الأصول عالية السيولة بالابتعاد عن المشاركات وعن الاستثمارات المباشرة.

3 -

2- الاقتراح المطروح لمواجهة هذه المشكلة:

لقد كانت البنوك الإسلامية في بداية نشأتها في حاجة إلى أن (تتقمص) شكل البنوك التقليدية وطريقة عملها وأنواع خدماتها لتثبت أن الأعمال المصرفية يمكن أن تقوم بدون الفائدة الربوية، أما وقد ترعرعت وانتشرت وعظم شأنها فهي أحوج ما تكون الآن لأن تختط لنفسها مساراً متميزاً يأخذ باعتباره أوضاعها الخاصة وطريقة عملها، وطبيعة الصيغ التي يعتمد عليها نشاطها المصرفي، ومن ذلك أن تقتصر الحسابات التي تقدمها للجمهور على الحسابات الجارية فحسب، أما فرص الاستثمار فإنها لا تكون على شكل حسابات مشابهة للحسابات بأجل التي تعرضها البنوك التقليدية، بل تكون على صفة صناديق (محافظ) استثمار متخصصة مثل صندوق الاستثمار العقاري، صندوق التأجير، الاستثمار في الأسهم..إلخ، ولهذه الطريقة ميزات، منها:

ص: 1681

أ- أن عميل البنك عندما يودع أمواله في هذه الصناديق يكون على علم كامل بالغرض من الاستثمار، ومن ثم تتكون لديه فكرة واضحة عن المخاطر المتضمنة واحتمالات الربح والخسارة، فمثلاً العميل الذي يشارك في صندوق الاستثمار العقاري يعلم بجلاء ما يتعرض له العقار من هبوط وصعود، وهو يفعل ذلك بناء على توقعاته حول اتجاهات أسواق العقار، ومن ثم سيكون أكثر تقبلاً لما يترتب على ذلك من خسائر؛ لأنه يكون مشاركاً في اتخاذ قرار الاستثمار ولو بصفة غير مباشرة، وبما أنه يعلم أن أمواله مستثمرة في مجال العقار تنمحي من ذهنه فكرة العائد الثابت إلى الربح المعتمد على تقلبات الأسواق.

ب- من المعروف أن القطاعات الاقتصادية تختلف في فعالياتها، فتجد بعضها ينتعش ويحقق الاستثمار فيه أرباحاً عالية، بينما تظهر قطاعات أخرى مستوى أدنى من الأرباح.. إلخ، وفي أحيان تكون الخسائر المتحققة في الاستثمارات متركزة في قطاع أو قطاعات محددة، بينما أن ما بقي من أوجه الاستثمار في الاقتصاد الوطني تحقق معدلات مرضية من الأرباح، ولذلك يؤدي تبني الطريقة المقترحة إلى حصر الخسائر (إن حصلت) في صندوق أو صناديق محددة هي التي تستثمر في القطاعات ذات الركود، فلا تؤثر على جميع عائدات الاستثمار، كما تشجع المصرف على توزيع استثماراته بطريقة تحقق تشتت المخاطر وتنويع مصادر الربح، وما يهمنا هنا هو الآثار النفسية لدى العملاء في حالة تحقق الخسائر، ذلك أنهم سيعرفون –عندما يتبنى المصرف الفكرة المطروحة- أن الخسائر لن تلحق كل أموال الاستثمار؛ بل ستكون محصورة في الصندوق الموجهة أمواله إلى النشاط الذي حقق الخسارة، مما يدخل الطمأنينة في قلوب أكثرهم فلا يهرعون إلى سحب أموالهم من المصارف.

4-

مصاعب إعادة تشكيل المحافظ الاستثمارية:

تقتضي الإدارة المصرفية الحازمة أن يتم تشكيل أصول البنك بحيث تتضمن درجات من المخاطرة والسيولة، ذلك أن طبيعة العمل المصرفي تستلزم أن يكون البنك قادراً على الدوام على الوفاء بالتزاماته تجاه عملائه، ويتحقق له ذلك بالتركيز على أنواع الاستثمارات ذات السيولة العالية والابتعاد عن تلك الأنواع التي يصعب تسييلها، كما يجعله حريصاً على تفادي المخاطر الاستثمارية فيقتصر على الحد الأدنى منها، ولكن السيولة العالية والمخاطر المتدنية لا تحقق إلا أدنى العوائد، بينما أن البنك يسعى إلى تحقيق أعلى معدل ممكن من الأرباح لملاكه وللمودعين فيه، ومن هنا كانت إدارة البنوك عملية بالغة الدقة محتاجة إلى أعلى درجات الحذر، بحيث توازن على الدوام بين هذين الهدفين المتناقضين.

ص: 1682

ومعلوم أن الظروف الاقتصادية وأحوال البيئة التي يعمل فيها البنك تتغير وتتبدل، الأمر الذي قد يحتاج معه البنك إلى إعادة تشكيل محفظة الاستثمار بالاتجاه نحو معدل أدنى (أو أعلى) من المخاطر، ودرجة أقل (أو أكثر) من السيولة.. إلخ.

وقد تطور العمل المصرفي التقليدي فأوجد لهذه المشكلة حلاً يتمثل في بيع الدين، فطورت له أسواق ووجد له وسطاء وأصبحت محفظة البنوك التقليدية عالية السيولة؛ لأن الديون فيها، حتى ذات الأجل الطويل، قابلة للبيع في أي وقت، فالبنك الذي تبنى هيكلاً محدداً لمحفظة الاستثمار فرتب درجات المخاطرة والسيولة بحيث تحقق له أعلى عائد ممكن عند أدنى مستوى ممكن من المخاطرة، عندما تتغير الظروف فيجد أن قروضه العقارية مثلاً أصبحت ذات مخاطرة عالية بسبب الكساد، أو أن تمويله لدولة معينة على سبيل المثال صار غير مضمون لعدم استقرارها السياسي

إلخ، يستطيع بسهولة أن يبيع ذلك الدين ويستبدله بآخر متوافق مع التركيبة التي يرغب في الاحتفاظ بها (1)

وقد بلغ حجم أسواق الديون في الدول المتقدمة (حيث تتوفر الإحصاءات) مئات بل آلاف البلايين من الدولارات، الأمر الذي أعطى مرونة عالية لعمل البنوك عندهم، وحقق كفاءة مرتفعة في إدارته تجعله قادراً على الصمود أمام الصدمات المتمثلة في تغير الظروف الاقتصادية المحلية والدولية.

4-

1- الآثار السلبية لهذه المشكلة على البنوك الإسلامية:

إن البنوك الإسلامية التي اتجهت إلى المرابحة كصيغة تمويل رئيسية وجدت أن أصولها تتمثل في جملتها من الديون، وسواء كانت عمليات المرابحة قد مولت من المصرف مباشرة أم من صناديق أو محافظ الاستثمار المخصصة، فإنها تواجه وضعا لا تجد فيه وسيلة لإعادة تشكيل محتويات محفظة الاستثمار في حال تغير الظروف لعدم جواز بيع الدين، فمن المعروف أن الدين لا يجوز بيعه إلا لمن هو عليه، أما لغير من هو عليه فيجوز فيه الحوالة، ولا يجوز البيع، فإذا أخذه بأنقص مما فيه أو بأزيد منه فهو بيع لا يجوز، وإذا أخذه بنفس مبلغه أمكن اعتباره حوالة جائزة، ولا يتصور –في ظل المعاملات المعاصرة - تصرفاً يصلح لما ذكرناه ويحقق الغرض الذي أشرنا إليه إلا البيع؛ إذ الحوالة لا تفي بالمقصود، وهو مقصود على إعادة تشكيل المحافظ الاستثمارية عند الحاجة.

(1) الذي سيشتري منه ذلك الدين مؤسسة أخرى وجدت أن محفظة الاستثمار عندها متدنية المخاطر فاشترت ذلك الدين لزيادة معدل العائد

ص: 1683

4-

2- بعض المقترحات لمعالجة هذه المشكلة:

إن مسألة بيع الدين هي من القضايا الفقهية الشائكة التي لم تحرر صورها المعاصرة، ولم نطلع على كتابات معاصرة؛ عنيت بهذه القضية وحاولت أن تحدد الصيغ الجائزة التي يمكن للدائن أن يحول مخاطرة الدين إلى جهة ثالثة (1) قبل حلول الأجل، وهناك أنواع من الديون أجاز بعض الفقهاء بيعها مثل جواز بيع دين السلم قبل قبضه عند المالكية (2) ولكن الديون النقدية (غير العينية) أمر مختلف؛ ولذلك لم يجز بيعها إلا ممن هي عليه، والاقتراحات التي نقدمها أدناه لا تغني من الحاجة الماسة إلى دراسات فقهية لمحاولة الوصول إلى الصيغ المقبولة شرعاً لما أشرنا إليه أعلاه:

أ- تصميم محافظ الاستثمار بحيث تكون صناديق مفتوحة وليست مغلقة، وذلك أن دخول أو خروج مستثمر من الصناديق المغلقة لا يكون إلا ببيع حصته (عند الخروج) أو شراء حصة من يخرج (عند الدخول) ، فإذا كانت أموال هذه الصناديق تستثمر في البيوع التي يترتب عليها ديون كانت عملية الخروج والدخول من هذه الصناديق في محصلتها بيعا لديون، أما لو كانت هذه الصناديق مفتوحة فإن الخروج يعني استرداد المستثمر لأمواله، والدخول يعني توسيع الصندوق لتستوعب أموالاً إضافية، وفي الأمر تفصيل يتعلق بالقضايا الفنية لعمل مثل هذه الصناديق، ليس هذا مجال الاستطراد فيه.

ب– الحرص دائماً على حصر الديون في صناديق الاستثمار عند أقل من النصف، وما بقي يكون أصولاً حقيقية مثل الآلات والعقارات والمعدات.. إلخ، فإذا أعملنا قاعدة الغلبة التي قال بها بعض الفقهاء فإن الغالب في هذه الصناديق هو الأصول الحقيقية وليس الديون، فالبيع (إذا بيعت) يكون كله معدات وآلات

إلخ وليس ديوناً؛ فحكمه الجواز، والله أعلم.

(1) ولعل من أفضل الكتابات المعاصرة بحث للدكتور نزيه حماد عنوانه (بيع الكالئ بالكالئ) نشره مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي في جامعة الملك عبد العزيز، جدة

(2)

التاج والإكليل حاشية علي خليل

ص: 1684

5-

مشكلة المخاطرة الأخلاقية:

المخاطرة الأخلاقية إحدى أهم المشاكل التي تعاني منها صيغ التمويل في البنوك الإسلامية، وتعود هذه المشكلة ليس لطبيعة عمل المؤسسات المصرفية القائمة، بل إلى صيغة الوساطة المالية التي يقدمها البديل الإسلامي، وقد أشار أكثر من كاتب إلى هذه المشكلة وعدها بعضهم المشكلة الأساسية لنموذج البنك الذي لا يعمل بالفائدة (1)

5-

1- وصف المشكلة:

يقوم النشاط الاقتصادي في كل المجتمعات على التعاون بين الأفراد والمؤسسات في علاقات إنتاجية أو استهلاكية أو تبادلية، وتعتمد صيغ هذا التعامل على أنواع التعاقدات المختلفة من بيع وشركة ووكالة

إلخ، ويمكن القول: إن جميع العلاقات التي تنشأ بين الأفراد في مجال النشاط الاقتصادي هي عقود تكون أحياناً مكتوبة وموثقة، وتكون أحياناً مقصودة غير ملفوظة ولكنها معروفة عرفاً وعادة.

وفي كل مرة ينخرط طرفان في عقد فإن لدى كليهما معلومات اعتمد عليها في اتخاذ القرار، وتتعلق هذه المعلومات بمحل العقد وبالثمن والأثمان الأخرى وبالظروف الحالية والمتوقعة

إلخ، وكذلك تتعلق بالطرف الآخر في العقد، ومع ذلك يبقى أن هذه المعلومات ناقصة، حيث يستطيع كل طرف أن يظهر من المعلومات عن نفسه وعن نواياه وقدراته وأغراضه الحقيقية فقط القدر اللازم لإقناع الطرف الآخر في الانخراط في العقد المذكور.

وهنا تأتي المخاطرة الأخلاقية؛ ذلك لأنه إذا ظهر بأن المعلومات المتوفرة للطرف الأول عن الطرف الثاني غير صحيحة أو غير كافية فإن السلوك المتوقع منه سوف لن يتحقق، ومن ثم يضحى القرار الذي اتخذه الطرف الأول قراراً خاطئاً، وكانت نتيجته الخسارة لذلك الطرف.

(1) من المراجع المفيدة في هذا الموضوع في الكتابات الاقتصادية: 1- A Theory of Predation based on agency Problems in Financial contracting p. Bahem and d. Scharfstein. 2- M. Katz: Gameplaying agents: contracts as pre- commetment princeton. Princeton Univ. press ومن الأبحاث التي تناولت الجوانب الميدانية وأظهرت تدني مستوى الأمانة عند بعض العمال في عقود المضاربة في نشاط المصارف الإسلامية: عبد الحليم إبراهيم محيسن (تقييم تجربة البنوك الإسلامية) دراسة تحليلية، رسالة ماجستير في كلية الاقتصاد والعلوم، الجامعة الأردنية 1989م

ص: 1685

ولذلك يتجه الأطراف في التعاقد –دائماً- إلى تبني أنواع من الضوابط التي تهدف إلى ثلاثة أمور: الأول كشف الحقيقة حول الطرف الآخر، والثاني خلق الحوافز التي تشجع ذلك الطرف على التصرف بطريقة مماثلة لما تكشفه المعلومات المتوفرة عنه (1) والثالث هو صياغة العقد بحيث لا تعتمد نتيجته النهائية إلا إلى الحد الأدنى على الجزء من المعلومات الذي لا يمكن التعرف عليه أو التأكد من صحته، بمعنى آخر أنها تسعى بهذه الإجراءات إلى تقليل حجم المخاطرة الأخلاقية المتضمنة في عقد العمل المذكور.

وعقود التمويل هي أنواع من هذه العلاقات الاقتصادية التي يسعى أطرافها إلى تقليل حجم المخاطرة الأخلاقية فيها بإدخال أنواع الضوابط المختلفة التي تحقق الأغراض الآنف ذكرها.

وعند مقارنة صيغ التمويل الإسلامية (غير الديون) وصيغ التمويل المعتمدة على الإقراض بالفائدة على هذه الأرضية، نجد أن الأولى تتضمن قدراً من المخاطرة يزيد على الثانية، ذلك أن صيغ القرض بالفائدة يكفي فيها لاتخاذ القرار الصحيح من قبل المقرض الاعتماد على المعلومات التي يسهل الحصول عليها والمتعلقة بشكل عام بملاءة العميل وجودة الضمانات التي يقدمها، أما المعلومات المتعلقة بصدق العميل وأمانته ونواياه الحقيقية فإنها لا تؤثر تأثيراً كبيراً على تحقق النتيجة النهائية وهي استرداد القرض مع الفائدة المترتبة عليه.

ولو نظرنا إلى صيغة التمويل بالمضاربة –على سبيل المثال- فسوف نجد أن النتيجة النهائية وهي تحقق الربح واقتسامه مع رب المال (أي البنك) لا تعتمد فقط على توفر الظروف الاقتصادية المواتية، بل ستعتمد أيضاً على أمانة المضارب وصدقه وحسن نواياه وإخلاصه، وهي أمور يصعب التحقق منها عند التعاقد، ولا تنكشف للطرف الآخر (رب المال) بسهولة، كما لا يمكن أن ندخل في العقد أنواعاً من الضوابط التي تؤدي إلى إلغاء تأثير الأمانة والصدق والإخلاص كما هو الحال في عقود الإقراض بالفائدة (2)

(1) فعلى سبيل المثال نجد أن عقود العمل تبدأ بتقديم العامل لشهادات الخبرة وخطابات التوصية وسؤال رب العمل للآخرين عن سلوك ذلك العامل والإجراءات المماثلة التي تهدف إلى التأكد من أمانة وقدرة ذلك العامل، ثم نجد العقود تتضمن المكافآت والترقيات والجوائز.. إلخ التي تهدف إلى خلق حوافز تدفع ذلك العامل إلى سلوك مماثل للمتوقع منه، وهكذا

(2)

لاحظ أن صاحب المال (البنك) في القرض القائم لا يهتم بمقدار الربح الذي حققه المقترض ولذلك ليس لدى الأخير حافز لإخفائه، كما أن رأس المال مضمون له وتقابله الضمانات، ولذلك لا يحتاج المقترض إلى إظهار الخسارة للتهرب من دفعه، بينما أن الأمر خلاف ذلك في كلا الحالين في المضاربة

ص: 1686

هذه بلا شك نقطة تفريق رئيسية ليس بين المصرف الإسلامي والمصرف الربوي فحسب، بل هي بين النظام الإسلامي والنظام الرأسمالي، ذلك أن النظام الاقتصادي الإسلامي هو بناء قوامه الأخلاق والقيم، ولذلك نجد أن جميع أنواع العلاقات والتعاقدات التي جاءت بها الشريعة إنما تفترض توفر هذه البيئة الإسلامية في مجتمع يكون أكثر أفراده من المتقين، وتقوم فيه المؤسسات التربوية والتعليمية والإعلامية وكذلك أجهزة القمع والأمن ومؤسسات القضاء بالمساعدة على توفر البيئة المذكورة.

لكن الواقع خلاف ذلك تماماً، فهذه الهيمنة الرأسمالية على الحضارة الإنسانية كان من نتائجها انتشار أنواع السلوك الفردي الذي يقوم على أن الممنوع هو فقط ما لا يستطيع الإنسان ارتكابه، فلا يمتنع تعففاً ولا يرتدع خوفاً من الله، وليس للصدق والإخلاص عنده أبعاداً اقتصادية وأثراً على عقود المعاوضة المالية.

5-

2- الآثار السلبية لهذه المشكلة على عمل البنوك الإسلامية:

إن من أهم آثار هذه المشكلة أن اتجهت البنوك الإسلامية بعيداً عن التمويل بالمضاربة والمشاركة وأنواع الشركة الأخرى لما ثبت لها بالتجربة من تدني مستوى الأمانة لدى أكثر المتعاملين مع المصارف، وفي العقود التي هي بطبيعتها عقود أمانة (يكون الطرف الآخر فيها مؤتمناً على أموال البنك) نجد أن النتيجة هي الخسارة أو الربح القليل غير الواقعي.

ص: 1687

لقد تصور المنظرون لنموذج البنك الإسلامي عندما ظهرت الكتابات الأولى في هذا الموضوع منذ الخمسينات أن عقود الشركة والمضاربة هي البديل الحقيقي للتمويل بالفائدة (1) وهي القادرة على أن تقدم للمجتمع النتائج الحميدة لصيغ التمويل الإسلامي، من عدالة في توزيع الدخول والثروات ومحاربة للفقر، واستقرار اقتصادي.

ولكن النتيجة كانت خلاف ذلك؛ إذ اتجهت البنوك الإسلامية بعيداً عن أنواع المشاركات إلى التمويل بالدين، حتى أصبحت البيوع التي تتحول إلى ديون (كالمرابحة والاستصناع) هي أساس نشاط هذه المؤسسات.

لذلك صارت الطبيعة المصرفية للبنوك الإسلامية مشابهة للبنوك التقليدية، فكلاهما وظيفته الأساسية هي الديون، والفرق أن الديون في الأولى ناتجة عن بيوع، أما الثانية فهي قروض، هذا فرق لا يستهان به بلا شك، ومع ذلك يبقى أنها مختلفة عن النموذج النظري الذي بهر به الاقتصاديون –مسلمين وغير مسلمين- بما يمكن أن يؤدي إليه من نتائج عظيمة وآثار اجتماعية كبيرة، وبقدرته (نظرياً على الأقل) على معالجة المشاكل التي يعاني منها النظام المصرفي التقليدي.

5-

3- كيف تتفادى صيغ التمويل التقليدية مشكلة المخاطرة الأخلاقية:

تقوم عقود التمويل في البنوك التقليدية على صيغة القرض الموثق برهون وضمانات عينية وشخصية، ولا ترتبط حقوق البنك أو التزامات العميل تجاه البنك بنتائج استخدامه للنقود التي هي محل العقد؛ إذ إن أصل القرض والزيادة عليه (الفائدة) مضمونة على العميل، ومن هنا لا يكون لأمانة هذا العميل وسلوكه القويم وأخلاقه العالية أي تأثير على حقوق البنك؛ لأنها حقوق معروفة ومحددة عند التعاقد، وهي دين ثابت في ذمة العميل وموثق بالرهن والضمانات، وهذا بخلاف التمويل بالمضاربة أو المشاركة حيث إن رأس مال البنك وربحه معتمد على أمانة العميل ومهارته وحسن أدائه، الأمر الذي يدخل عنصر المخاطرة الأخلاقية في العقد المذكور.

(1) ومن أول من طرح فكرة المضاربة أساساً لعمل مصرفي إسلامي، محمد عبد الله العربي في بحثه (المعاملات المصرفية ورأي الإسلام فيها) في المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر المنعقد في القاهرة 1385هـ / 1965م

ص: 1688

5-

4- مقترحات لمعالجة هذه المشكلة:

لابد من العمل على إعادة توجيه البنوك الإسلامية نحو المشاركة (وصيغ الشركة الأخرى) كأساس لعمليات التمويل، ولابد من العمل على معالجة مشكلة المخاطرة الأخلاقية بكل سبل ممكنة ومقبولة من الناحية الشرعية.

إن العلاج لمشكلة المخاطرة الأخلاقية هو خلق الحوافز التي تدفع طرفي العقد –لاسيما الطرف المشكوك بالتزامه- إلى سلوك يماثل المفترض فيه، فإذا كان المفترض في المضارب أن يتحلى بالأمانة، جاءت هذه الحوافز لتجعل للخيانة ثمناً باهظاً يتردد هذا المضارب قبل أن يركب مركبه الصعب، ذلك أن هذا المضارب هو إنسان عاقل يعرف ما فيه نفعه وضرره، وهو بلا شك حريص على أن لا يذهب في سلوكه مذهباً يؤدي إلى نفع عاجل قليل وضرر آجل كبير، ومن هذه الإجراءات ما يلي:

1-

العمل على سن القوانين التي تحمي أطراف العقود المستمدة من الشريعة الإسلامية، ذلك أن أكثر القوانين في بلاد المسلمين مبنية على أصول غير إسلامية ولذلك نجدها ترسي قواعد للتعاقد معتمدة على إلغاء المخاطرة الأخلاقية بصياغة تعاقدية غير جائزة، بحصر صيغ التمويل المصرفية بالقروض والعوائد الثابتة المضمونة. ولذلك كان على المسلمين السعي الحثيث إلى سن القوانين التي تحمي الحقوق في عقود المضاربة والمساقاة والمزارعة وأنواع المشاركات، وذلك بمعاقبة من تثبت خيانته عقاباً يكون رادعاً لأمثاله؛ لأنهم خطر يهدد البنية الأخلاقية في المجتمع.

2-

إعطاء الأفضلية في التعاقد مع المؤسسات التي تحرص على ضبط حساباتها ودفاترها بإشراف المراجعين ذوي السمعة الحسنة، ذلك أن توفر المعلومات الصحيحة والدقيقة يقلل من المخاطرة الأخلاقية.

ص: 1689

3-

الحرص عند صياغة العقود التي تتضمن قدراً كبيراً من المخاطرة الأخلاقية على تضمينها جزاءات مناسبة تدفع المتعاقد إلى الالتزام بنوع السلوك المفترض في أمثاله؛ إما بسبب أخلاقه العالية أو خوفاً من العقاب، مثال ذلك:

أ – فرض عقوبات على المماطلة في رد رأس مال المضاربة إلى البنك، أو التأخر في دفع الأرباح المتحققة حسب ما اتفق عليه (ونورد في مكان آخر من هذه الورقة تفصيل هذه الجزاءات) .

ب- الاشتراط بأنه إذا جاءت الأرباح –في عقد المضاربة - أدنى مما توقعته دراسات الجدوى وبدرجة غير مقبولة لرب المال، انقلب عقد المضاربة إلى عقد مشاركة وصار رأس مال المضاربة حصة شريك في شركة عنان يشارك المضارب في نشاطه التجاري بحيث يمكن لرب المال عندئذٍ أن يشارك في إدارة الأعمال وأن يتدخل مباشرة في اتخاذ القرارات، فيعلم المضارب عندئذٍ أن لا جدوى من إخفاء الربح؛ لما يترتب على ذلك من نتائج.

4-

تشجيع الطرف الآخر في العقد (المضارب مثلاً في عقد المضاربة) على الالتزام بالأمانة وذلك بالنص على أن ما تحقق من ربح يزيد على النسبة المتوقعة في دراسة جدوى المشروع سيحقق ربحاً قدره 20 % سنوياً، يمكن للمصرف أن يقول للعميل المضارب: ما تحقق من ربح يزيد على 20 % فإني متبرع لك بحصتي فيه، هذا بلا شك يدفع العامل إلى مضاعفة الجهد وفي نفس الوقت لا يضطره إلى المراوغة والخداع لإخفاء ما زاد عن النسبة المتوقعة، ليس في هذا الإجراء خسارة للبنك؛ لأن إثبات تحقق نسبة تزيد على المتوقع ليس بالأمر السهل، ومن ثم فإن رب المال (البنك) لن يعمد –في الوضع الطبيعي- إلى استقصاء الأمر إذا تحقق من الربح ما توقعته دراسات الجدوى، فكان الأولى التنازل عن ذلك تشجيعاً لهذا المضارب.

5-

تبني صيغة لتوزيع الأرباح تولد حافظاً على الجد والاجتهاد لدى الطرف الآخر، ففي عقد المضاربة مثلاً، يمكن النص على أن نصيب المضارب من الربح يكون متدرجاً، فإذا تحقق ربح قدره 10 % كان نصيبه منه الثلث، وإذا تحقق ربح قدره 20 % كان نصيبه الثلثين

إلخ (1) بهذه الطريقة يعلم المضارب أنه سيستفيد من كل جهد إضافي يبذله في إدارة المشروع، فلا داعي للتهاون ولا حاجة لإخفاء جزء من الربح.

6-

العمل على بناء قاعدة معلومات تتوفر فيها كافة البيانات عن عملاء المصارف وأرباب الأعمال الذين هم مظنة الانخراط في العقود مع البنوك، وتصنيفهم بناء على تاريخ التعامل معهم، بحيث يستفيد كل مصرف من تجارب الآخرين، وبهذه الطريقة يتردد الخائن قبل ارتكاب خيانته؛ لأنه يعلم أنه سيدفع ثمناً باهظاً لها يتمثل في وضع اسمه على قائمة سوداء يصعب عليه معها أن يحصل على تمويل لمشاريعه في المستقبل، ومن جهة أخرى يعلم الأمين الملتزم أنه سيستفيد من أمانته؛ لأنها ستسهل عليه في المستقبل أن يحصل على مزيد من التمويل من المؤسسات المصرفية التي تتبنى عقود المضاربة وأنواع المشاركات.

(1) وقد أفتت بجواز ذلك الهيئة الشرعية في شركة الراجحي المصرفية للاستثمار في قرارها رقم 77 في 29/8/1411هـ

ص: 1690

6-

مشكلة تمويل الحكومة:

تعتبر الحكومات – في كل بلد- أكثر الجهات استفادة من التمويل الذي توفره المؤسسات والأسواق المالية، ففي الولايات المتحدة – مثلاً- تمتص الديون الحكومية نحو 50 % من مجموع المدخرات في تلك البلاد (1) وقد بلغ من عظم تلك الحاجة في بعض البلدان أن مثلث الديون في إيطاليا نحو 105 % من الناتج القومي الصافي (2) مرد ذلك بلاشك هو عظم دور الحكومات في حياة المجتمعات المعاصرة، تقتصر وظيفتها على حفظ الأمن وإقامة العدالة والدفاع عن الحدود وسك العملة، بل صارت مصدر خير كثير ومنافع متعددة يستفيد منها كل أفراد المجتمع، متمثلة في رعاية الصحة والتعليم والاتصالات والمواصلات ووسائل الثقافة والترفيه

إلخ، كل ذلك دليل على أن الحكومة في حاجة بالغة إلى التمويل.

وتسد حاجة الحكومة إلى التمويل في البلدان المختلفة في الوقت الحاضر بمواردها المختلفة كالضرائب والرسوم وإيرادات ممتلكاتها، ولكنها تحتاج دائماً إلى الاقتراض، حيث تقترض الحكومة من البنوك ومن عامة جمهور الناس بواسطة طرح السندات في أسواق المال.. إلخ.

ومثل ذلك حال الحكومات في مجتمعات الإسلام، فهي تحتاج إلى التمويل كحاجة أية حكومة معاصرة، وتحصل عليه بطرق شبيهة بما وصف أعلاه.

ومع ما وصلت إليه البنوك الإسلامية من نجاح وتوسع،، ومع ما استطاعت أن تصل إليه من كفاءة في العمل وتطوير لصيغ التمويل لتفي بكافة حاجات الناس وأغراضهم، تبقى عاجزة عن الوفاء بهذه الحاجة الأساسية، فإذا استعرضنا البنوك الإسلامية التي تمارس نشاطها في مجتمعات المسلمين وجدناها غير قادرة على النهوض بهذه الحاجة الماسة، ومن فاضل القول أن نؤكد أنه لا سبيل لتحقيق سيادة النظام الإسلامي في أي مجتمع إذا بقيت الحكومات فيه تقترض بالربا ولا تجد لهذه القروض بديلاً يفي بحاجتها ضمن المباح.

(1) Wall Street Joumal، March 2- 93، p. 6

(2)

jan 12- 93، p. 7

ص: 1691

6-

1- اختلاف تمويل الحكومة عن سائر التمويل:

رب قائل: لا خصوصية لتمويل الحكومة عن سائر أنواع التمويل، وما صلح من صيغ وطرق لتمويل القطاع الخاص (مثل بيع المرابحة للآمر بالشراء) فإنه صالح لتمويل الحكومة.

الواقع أن الأمر غير ذلك؛ فإن لتمويل الحكومة خصوصيات تتمثل فيما يلي:

أ- أن الحكومة لا تحقق ربحاً من نشاطها، ولذلك صارت صيغ التمويل المعتمدة على اقتسام الأرباح مثل المضاربة والمشاركة.. إلخ، غير صالحة لتمويل الحكومة.

ب- أن أكثر حاجة الحكومة إلى التمويل هي لأغراض تشغيلية، مثل صيانة المشاريع أو صرف رواتب الموظفين.. إلخ، وهي حاجة لا يمكن توفيرها حتى بصيغ البيوع المعروفة.

ج- مع أن الحكومات لا تفلس (إلا في حالات نادرة جداً) إلا أنها تميل دائماً إلى المماطلة في سداد الديون، وبينما يسهل مقاضاة مدين من القطاع الخاص والحجز على ممتلكاته والتنفيذ على رهونه، ما أصعب أن يفعل الشيء ذاته في حكومة مدينة، لاسيما في بلدان العالم الثالث، ولذلك يميل أكثر البنوك إلى التزام جانب الحذر بالابتعاد عن تمويل الحكومة.

6-

2- مقترحات لحل هذه المشكلة:

يجب على البنوك الإسلامية أن تسعى إلى تطوير صيغ تمكنها من تمويل الحكومة؛ إذ إن حاجة الحكومات إلى التمويل حاجة مشروعة لا يحسن لتلك البنوك تجاهلها، ولن تكتمل جوانب النظام المصرفي الإسلامي إلا بنجاحه في هذا الجانب المهم في الحياة المعاصرة، وما نقترحه فيما يلي لا يتعدى أن يكون الخطوط الرئيسية لما يمكن أن يتطور إلى صيغ صالحة للغرض المطلوب من ذلك:

ص: 1692

أ- إن جزءاً لا يستهان به من حاجة الحكومة إلى التمويل هو لأغراض إنشائية، مثل بناء الجسور والطرق وإنشاء المدارس والمستشفيات.. إلخ، ويقدم عقد الاستصناع صيغة قابلة للنهوض بحاجة الحكومة إذا أمكن أن تتضمن تلك الصيغة الصفات التالية:

- أن يكون عقداً لازماً للطرفين منذ الابتداء.

- أن يجوز للمستصنع دفع الثمن مقسطاً بعد التسليم.

- أن يشتري الصانع السلعة من السوق أو يستصنع سواه.

- أن يلزم الصانع الأول (البنك) الصانع الثاني (أي الصانع من الباطن) بنفس الضمانات التي قدمها إلى المستصنع من ناحية الجودة والصيانة

إلخ

فإذا تحقق ذلك استطاعت هذه البنوك تقديم صيغة قابلة للتنفيذ وصالحة لتمويل حاجة الحكومة إلى المنشآت كالطرق والمدارس والمستشفيات.

- وبرغم أن الحكومات تتصور دائماً أن حاجتها إلى التمويل لا يطفئها إلا الحصول على المال على صفة القرض، فإن جزءاً من هذه الحاجة هو لغرض شراء الآلات والمعدات والسيارات والأجهزة.. إلخ، وكل ذلك قابل أن يمول بواسطة بيع المرابحة للآمر بالشراء، ولكن قوانين المناقصات الحكومية في أكثر البلدان لا تأخذ باعتبارها إمكانية دخول البنوك كمورد لتلك السلع، ولا إمكانية دفع الحكومة الثمن مقسطاً بدلاً من الاقتراض للتسديد، ومن هنا كان ضرورياً السعي نحو تعديل تلك القوانين لتسمح بما ذكر.

ج- ولعل العقبة الكأداء التي تحول دون دخول البنوك الإسلامية كممول للحكومة هو التخوف من المماطلة، فبينما يمكن للبنوك التقليدية بيع ديون الحكومة لاسيما إن كانت على صفة سندات قابلة للتداول، ليس ذلك للبنوك الإسلامية، فلا غرابة أن نجد الأولى تُقدم بلا تردد على إقراض الحكومة بينما تحجم الثانية عن ذلك، ويصرف النظر عن صيغة التمويل، ففي كل مرة يتعلق الدين بذمة الحكومة من البيع، يواجه البنك الإسلامي هذه المشكلة.

إن الحل الممكن لهذه المشكلة يتمثل في ضرورة ربط تسديد الدين المذكور بمصدر دخل حكومي محدد، فمثلاً تصدر الحكومة للبنك البائع سندات لأجل (كمبيالات) مقبولة لدى شركة البترول الحكومية، فإذا تأخرت وزارة المالية في تسديد أقساط الدين قام البنك فوراً بالحصول على قيمة تلك الكمبيالة من الشركة المذكورة إما نقداً أو بما يقابلها من البترول، ويمكن أن تكون تلك شركة لإنتاج القمح أو النحاس أو الفوسفات أو أي سلعة قابلة للبيع أو نشاط يولد دخلاً مستمراً لتلك الشركة.

ص: 1693

7-

مشكلة الاستثمار في العملات الأجنبية:

يعد الاستثمار في العملات الأجنبية، لاسيما عملات الدول الصناعية القوية، أحد أهم مجالات الاستثمار التي تجني منها البنوك التقليدية عائدات ضخمة، والمتصور –من الناحية النظرية- أن الغرض من عمليات بيع وشراء العملات هو تسهيل التبادل التجاري الذي هو مبعث الحاجة إلى العملات الأجنبية، لكن الواقع هو أن التحويلات المالية البحتة (أي التي لا تكون لغرض تمويل التجارة) هي أضعاف أضعاف قيمة السلع المتبادلة عبر الحدود بين الدول، لقد صار للصرف أسواق عالمية عظيمة، وصار بحد ذاته نشاطاً مالياً له مؤسساته، والمتخصصون فيه، وأضحى اختلاف أسعار العملات وتقلباتها مصدراً للدخل ومورداً لعائد استثماري.

والصرف من النشاطات التي عرفها المسلمون منذ القدم، وقد كان من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمل بالصرف، ثم جاءت الشريعة لتبين قواعد الصرف وشروط صحته وصيغه المقبولة وحدود التعامل فيه، فجعلت التقابض شرطاً في صحة الصرف ومنعت تأجيل أحد البدلين أو المواعدة عليه بوعود ملزمة يتأجل فيها البدلان، وبينما جاءت أحكام الصرف في الشريعة الإسلامية منصبة على الدرهم والدينار، والذهب والفضة؛ لأن تلك كانت هي عملاتهم في ذلك الزمن، كان إجماع علماء العصر الحاضر على تنزيل هذه الأحكام على العملات الورقية، واعتبار كل عملة جنساً مستقلاً، فالدولار جنس والريال جنس والجنيه جنس.. إلخ، وينطبق على تبادل جنس مع جنس ما ينطبق على تبادل الدرهم والدينار من أحكام شرعية.

7-

1- وصف المشكلة:

إن المشكلة الأساسية التي تواجهها البنوك الإسلامية في مجالات الاستثمار في الصرف هو أن أكثر الأرباح التي تتحقق في هذا النشاط إنما هي في معاملات لا يتوفر فيها شروط الصحة الشرعية؛ ذلك أن الباعث على أكثر نشاط الاستثمار في العملات هو اختلاف معدلات الفائدة بين البلدان، لاسيما البلدان الصناعية، فإذا كانت أسعار الفائدة في ألمانيا مثلاً أعلى منها في الولايات المتحدة، اتجه المستثمرون إلى نقل أموالهم إلى الأولى للاستفادة من ذلك، ولكنهم لن يحققوا ما توقعوا من عائدات إذا تغير سعر الصرف عندما يقومون بإعادة أموالهم إلى موطنها الأصلي، بل ربما يخسرون خسائر فادحة بسبب ذلك التغير، ولذلك احتاجوا حتى تكون عمليتهم تلك مربحة ومجدية إلى إلغاء هذه المخاطرة بعملية صرف مؤجلة، فيبيعون اليوم ما اشتروا من عملة ألمانيا مع تأجيل التسليم إلى وقت إعادتهم أموالهم إلى أمريكا، ثم يحسبون ما سوف يحصلون عليه من فائدة ثابتة في ألمانيا ويحسبون سعر بيعهم لعملة ألمانيا في التاريخ المستقبلي، فإذا وجدوا أنه لا يزال هناك ربح، أي أنهم سيحققون عائداً يزيد على أسعار الفائدة في أمريكا خلال تلك الفترة؛ أقدموا على العملية المذكورة.. وهكذا.

ص: 1694

ومما يزيد الأمر تعقيداً أن مثل تلك العمليات لا تظهر لأطرافها بهذا الوضوح؛ لأن البنوك الدولية ومؤسسات الوساطة تتولى بنفسها دقائق الأمور المتعلقة بهذه المضاربات، فلا يظهر للمستثمر إلا أنه يشتري عملة ألمانيا اليوم فيقبض ما اشترى ويدفع ثمنه حالاً، ويبيع اليوم أيضاً عملة ألمانيا التي اشترى ولكن على أن تسلم إلى المشتري بعد تسعين يوماً أو ستة أشهر أو أقل أو أكثر.

وقد بدا لمن قال بجواز مثل هذه المعاملات أن المرحلة الثانية (أي بيع عملة ألمانيا في المستقبل) هي مواعدة يتأجل فيها البدلان، ولكنها غير ملزمة، والواقع خلاف ذلك؛ فإن المستثمر عند شرائه لعملة ألمانيا لا يقبضها إلا بأن تسجل في حساب مصرفي باسمه، وليس له حرية التصرف فيها، فهو حساب مجمد طوال مدة العقد، ويترتب على ذلك أن الإلزام لم يعد له معنى؛ لأن البائع لم يزل مسلطاً على تلك النقود ومتأكداً من وفاء المستثمر بوعده (إن جاز أن نسميه وعداً) ؛ لأن أمواله تحت يده، فهي إذن ليست مواعدة غير ملزمة يتأجل فيها البدلان، بل هي عملية صرف تأجل فيها بدل واحد فهي غير جائزة، ولا وجه للقول بغير ذلك؛ لأن البنوك الدولية التي تقوم بهذه العمليات لابد أن تحتفظ بأموال المستثمر خلال هذه الفترة حتى تحقق لنفسها أسعار الفائدة الألمانية التي هي مربط الفرس في العملية المذكورة.

الدكتور محمد القري بن عيد

ص: 1695