الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بحوث مجمعية
السنة النبوية في العصر الحديث
بين أنصارها وخصومها
إعداد
الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة
الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي بجدة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته، ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله، وصفيه وخليله، سيدنا ومولانا محمد، الذي بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فدعا وقضى، ووعظ وهدى، وأمر ونهى، وحثنا على اتباع سبيله بقوله:((تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة نبيه)) . (1)
طوبى لنا بميراث النبوة تمتد إليه أيدينا، وتتدبره عقولنا، وتتطلع إلى أسراره نفوسنا، وتمتلئ به صدورنا، وتجري به ألسنتنا، فلا نفتر عن ذكره، ولا ننتهي من الرجوع إليه في مجالسنا، وفيما قل أو جل من أمورنا، وإن الوحي، الظاهر والباطن، ليزكي النفس، ويشرح الصدر، ويهدي إلى الحق، ويبني الفرد، ويقيم الجماعة، ويشيد النهضة الإسلامية، ويمد الأمة بطاقات الحزم والجد والعمل الدؤوب من أجل التنمية في عالمنا المعاصر، واسترجاع معاني العزة وأسباب الريادة.
وإن هذا الميراث العظيم الجليل بقرآنه وسنته ليصدر عن مشكاة واحدة هي الوحي بنوعيه. وإنهما لمتلازمان، وإن السنة لتطبيق مثالي للإسلام، وعملي للقرآن، وتفصيل بياني لآياته، وتقرير لما لا التواء فيه ولا معارضة منه لروحه وأحكامه، وهي أيضاً منهج رسمه نبينا صلى الله عليه وسلم، بسيرته المثلى وعلاقاته بربه ومع نفسه وبالخاصة والعامة. وإن السنة لهي المرجع والفيصل عند اختلاف المتأولين لنصوص القرآن، وإن صاحبها صلى الله عليه وسلم لأدرى بمعاني الكتاب وأسراره، وأفضل وأعلم من صدر عنه التأويل العملي لتعاليمه. فهو الذي أوحى له به، وقام بتبليغه لحينه بأمر من ربه عز وجل في قوله:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] . وقوله: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل: 64] .
(1) ط: 899
وإن في هذا القرآن المبين لشهادة صريحة بتعبد الله خلقه بسنة نبيه، واقتضائه منهم العمل بها، والامتثال لأمره ونهيه فيها. قال تعالى:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]، وقال:{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النور: 54]، وقال:{وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] . قال الشيخ ابن عاشور: (وهذه الآية جامعة للأمر باتباع ما يصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم، من قول أو فعل، فيندرج فيها جميع أدلة السنة) . (1) والإسلام الذي هو تسليم لله واستسلام له، واعتراف للخالق بالوحدانية المطلقة في كل شيء وللرسول بالتبليغ لأمر ربه والدعوة لدينه، جملة حقائق وتعاليم يدين بها المرء، فلا تقبل زيادة ولا نقصاناً، ولا يكون له معها خيرة في الأمر من أوامر الله أو رسوله، إن شاء فعل، وإن شاء ترك؛ لقوله جل وعلا:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36] .
وإن إخلاص الدين لله لا يكون إلا بالانقياد الكامل، والامتثال التام، والاتباع المطلق لما أمر به الله ورسوله، وإن أوامر هذا الدين ونواهيه لجارية على اعتبار مقاصد شرعية جليلة ودقيقة، تحقق للمؤمنين ما فيه صلاحهم الروحي والاجتماعي، وتقيهم المفاسد والمخاطر.
وهذا ما نبه إليه القرآن الكريم في قوله: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] . والرسول الكريم هو الداعي إلى الخير، والقائد إلى الخير، وهو الأسوة الحسنة. ومتى ما ثبتت سنته، وصحت الأحاديث المنقولة عنه، ساعدت الآخذين بها من المتبعين لسبيله على بلوغ أسباب الهداية، وإدراك المحجة البيضاء التي ليلها كنهارها، والتي بوأها صلى الله عليه وسلم أصحابه وتابعيهم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وذلك ما عناه عليه الصلاة والسلام عند تعريفه للفرقة الناجية بقوله:((ما أنا عليه وأصحابي)) (2)
(1) التحرير والتنوير: 27/87
(2)
حديث ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل. ت: 5/26، 41 كتاب الإيمان، 18 باب ما جاء في افتراق هذه الأمة، ح 2641
وهكذا يتضح لنا، ولكل من فقه الإسلام وأدرك مقوماته وخصائصه ومميزاته، أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان بسنته من أقواله وأفعاله وسلوكه المثال الصادق، واللسان الناطق بتلك الحقائق المميزة الفاضلة جميعها. وإن الخبراء وأهل الحق والمعرفة ليعتبرون لذلك السنة هيكل بناء الإسلام، ويجدون فيها، مدى الدهر، الغذاء الروحي والعلاج النفسي والسلوكي الكامل للمؤمنين، وهي عندهم، وعند الصادقين من غيرهم، ممن عرفوا بالنزاهة الفكرية، والتزموا فيما صدروا عنه من بحوث ودراسات بالموضوعية العلمية، الطريق الوحيدة لإدراك أسباب النهضة والعزة في العصور الأولى للتاريخ الإسلامي، ومعرفة دواعي التخلف والانهزام والانحلال والتبعية فيما لحقها من أطوار.
وإنا لنزداد إيماناً بذلك، وإيقاناً بالإسلام، واعتداداً بسنة نبينا صلى الله عليه وسلم متى سبرنا أغوار الرسالة المحمدية، وعلمنا إلى أي حد كان اهتمام رسولنا شديداً بالحياة الإنسانية واتجاهاتها المكتشفة في المظهرين: الروحي والمادي، ولمسنا تطرق هديه في الحياة كلها في مظاهرها الخلقية والعملية الفردية والاجتماعية بما يخرج الناس من الحيرة، ويرفع عنهم القلق، ويملأ قلوبهم طمأنينة ورحمة، ويبني لهم أكرم حياة مدنية وأكمل نظام اجتماعي، هو النظام الإسلامي المتميز.
ولنتمكن من تصور هذا النظام، في الدقيق والجليل من جزئياته وفرائده، يكون حتماً علينا أن نعود إلى ذلك التراث النبوي الفريد الذي جمعه لنا أصحاب رسول الله، ورواه عنه أتباعهم ومن سلك سبيلهم؛ قصد الاستمداد منه، والتحلي به، والتخلق بآدابه، والعمل بحسبه في كل الشؤون والتصرفات. فلقد أقاموا بصنعهم الجميل للإسلام دولته الزاهرة، وللأمة الإسلامية حضارتها الباهرة، وإن هؤلاء وأولئك لنجوم الاهتداء، وطريقنا إلى معرفة السنة، والسند القائم بيننا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي يصلنا بها ويجليها لنا، ويقدم عن طريقها للخلف فيوضات الحكمة النبوية وتعاليمها الشريفة السنية.
و (إن الصحابة، رضوان الله عليهم، وكلهم عدول، قد سمعوا كما قال ابن القيم من النبي صلى الله عليه وسلم، الأحاديث الكثيرة، ورأوا من الأحوال المشاهدة، وعلموا بقلوبهم من مقاصده ودعوته ما يوجب فهم ما أراد بكلامه ما يتعذر على من بعدهم مساواتهم فيه. فليس من سمع وعلم ورأى من حال المتكلم كمن كان غائباً لم ير ولم يسمع، أو سمع وعلم بواسطة أو وسائط كثيرة. وإذا كان للصحابة من ذلك ما ليس لمن بعدهم، كان الرجوع إليهم في ذلك دون غيرهم متعيناً قطعاً) . (1)
وعن هؤلاء الأئمة المتقدمين حملة الكتاب ورواة السنة، الذين لا يدانيهم أحد في المنزلة والرتبة أخذ التابعون وأتباع التابعين، ومن انخرط في سلكهم من العلماء المحدثين، والحفاظ المعتمدين، والأثبات المدققين، ممن شهد لهم الخاص والعام بالثقة والإتقان والحفظ والضبط، وأطبق جمهور علمائنا على كونهم:(من أعظم الناس صدقاً وأمانة وديانة، وأوفرهم عقولاً، وأشدهم تحفظاً وتحرياً للصدق ومجانبة للكذب، وإن أحداً منهم لا يحابي في ذلك أباه ولا ابنه ولا شيخه ولا صديقه، وأنهم حرروا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحريراً لم يبلغه أحد سواهم، ولا من الناقلين عن الأنبياء، ولا من غير الأنبياء. وهم شاهدوا شيوخهم على هذه الحال وأعظم، وأولئك شاهدوا من فوقهم كذلك وأبلغ، حتى انتهى الأمر إلى من أثنى الله عليهم أحسن الثناء وأخبر برضاه عنهم واختياره لهم، واتخاذ إياهم شهداء على الأمم يوم القيامة)(2)
فإذا جاء عن طريق هؤلاء من الأخبار والسنن ما تم نقده وتمحيصه، ووصلنا من الأحاديث الثابتة عنهم ما عرف صدقه وصحت روايته، لزم العمل به؛ لما فيه من تزكية للنفوس، وتلقين للحكمة، وبيان لأسباب نزول القرآن، وتفسير لألفاظه ومعانيه، وتفصيل لأغراضه، وغوص على أسراره ودقائقه، وشرح لمجمله، وتقييد لمطلقه، وتخصيص لعمومه، وتعيين لمبهمه. وقد ورد عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، بيان وجه الأخذ بالسنة عند مجادلة الضالين وتحريف المبطلين، وذلك قوله:(سيأتي ناس يجادلون بشبهات القرآن، فخذوهم بالسنن؛ فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله) . (3)
(1) ابن القيم: الصواعق المرسلة: 559
(2)
ابن القيم: الصواعق: 569 - 570
(3)
الدارمي، المسند (ص 28) . البغوي، شرح السنة: 1/202. علي حسب الله، أصول التشريع الإسلامي (ص 38)
وقد أجمعت الصحابة ومن بعدهم على العمل بالسنة، وكذلك أئمة الدين وعلماء الأمة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية:(فهؤلاء يعتمدون السنة ولا يتعمدون مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من سنته دقيق ولا جليل، وإنهم متفقون اتفاقاً يقينياً على وجوب اتباعه، وعلى أن كل واحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم . (1)
فهو الهادي الذي أقام الله به الدين، وأنقذ به الأمة، وهو المرجع في الأفهام والأحكام، وفيما أغلق إدراكه على الناس، وهو النبي الذي أطلعه الله على أسرار حكمته وخصائص خلقه، وأفاض على قلبه من الأنوار ما سما به على الأفئدة الواعية والعقول الراجحة، وهدى به الإنسانية كلها إلى ما فيه صلاحها وعلو شأنها، فلا خير إلا في اتباعه، ولا هداية إلا بملازمة سبيله:{قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) } [المائدة: 15 – 16] .
فلا بدع بعد ذلك إذا رأينا العلماء يُقبلون على السنة تعريفاً وتقعيداً، رواية ودراية، ضبطاً ونقداً، تصحيحاً وتضعيفاً. ولا بدع أن نجد لهم في ذلك الدواوين النافعة المقيدة: من الموطآت، والمسانيد، والصحاح، والسنن، والأمالي، والفوائد، والأجزاء، والفرائد، والمجالس ونحوها، ونراهم يبحثون أسانيد الأخبار ومتونها، يُذهبون عنها الزيف، وينفون عنها تحريف الضالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، ونقف لهم على ما صنفوه من كتب الطبقات والمعاجم والمشيخات، تعريفاً بالرجال، وتمحيصاً للأحاديث، إلى جانب ما ابتكروه من كتب علم السنة ومصطلحاتها، أو وضعوه في التجريح والتعديل.
(1) ابن تيمية، رفع الملام.
وبفضل هذه العناية الفائقة، اتضح الحق وذهب الشك، ودُوِّنَ الحديث تدويناً لا يزيد الناظرين فيه إلا اطمئناناً وثقة بما اعتمده المحدثون من المصادر الموثوق بها، واستدلوا به من الأخبار الصحيحة، كما تَسَنَّى للفقهاء وعلماء الشريعة والمجتهدين في كل عصر أن يمتثلوا سنة نبيهم ويُحَكِّموها فيما بينهم، ويتركوا أقوال الناس لها ويعرضوها عليها، فما وافقها أخذوا به، وما خالفها طرحوه. وذلك ما يتحقق به قيام أمر الإسلام وتميزه عن غيره من الشرائع والأديان. وهو ما دعا سبحانه إليه المؤمنين في قوله:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]، وقوله في وجوب الاحتكام إلى الكتاب والسنة والرضا بما جاء فيهما من تشاريع وأحكام:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] . وإنك لن تجد عند البحث في كتاب الله والتدبر له والاستنباط منه إماماً من أئمة الفقه، أو مذهباً من المذاهب الفقهية في مختلف الأصقاع والأمصار، إلا واعتماده على الحديث أساسي، لا يكاد يتخلف في فرع من الفروع أو مسألة من المسائل. وإن للكثير منهم مسانيد تجمع أدلتهم، وتشير إلى وجه الحكم فيما عرضوا له أو عرض لهم من القضايا. ولم يتخلف الأصوليون أيضاً عن الاهتمام بالسنة وتفصيل القول فيها، فكتبوا في حجيتها وثبوتها، وفصلوا القول في دلالتها وشروط قبولها وأقسامها. وهؤلاء وأولئك لا يعنون بها ولا يحفلون منها إلا بما ورد مورد التشريع، مما يكلف الناس باتباعه والعمل به. وقد نبه على هذا جماعة من علماء الشريعة في القديم والحديث منهم:
النووي في باب وجوب امتثال ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم شرعاً، دون ما ذكره من معايش الدنيا على سبيل الرأي. (1)
والقرافي في الفرق السادس والثلاثين عند تصنيف الحديث إلى ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم، منه بوصف الإمامة أو القضاء أو الفتوى والتبليغ. (2)
وفي الإحكام في تمييز الفتاوى من الأحكام في السؤال الخامس والعشرين. (3)
وابن القيم في زاد المعاد في سياق الحديث عن غزوة حنين. (4)
(1) شرح مسلم: 15/116
(2)
الفروق: 1/205 - 209
(3)
الإحكام: 86 - 109
(4)
زاد المعاد: 3/489
وفي تفصيل هذين الإمامين القول في السنة التشريعية لم يتعرض واحد منهما لما ليس منها من باب التشريع.
وشاه ولي الله الدهلوي في كتابه حجة الله البالغة، حيث قسم الحديث إلى ما سبيله تبليغ الرسالة، وفيه قوله تعالى:{وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] ، وما ليس من باب تبليغ الرسول، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم:((إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به. وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر)) . (1)
ومحمد رشيد رضا في تفصيله حكم اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، عند تفسير قوله تعالى:{وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158]، (2) وتفسير قوله عز وجل:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3](3)
ومحمود شلتوت في تقسيمه السنة إلى تشريع وغير تشريع (4)
ومحمد الطاهر ابن عاشور في حديثه عن انتصاب الشارع للتشريع. (5)
ومن هذه المقالات المفصلة والتقريرات العلمية يتبين أن الهدي النبوي للأمة وتعليمها وتأديبها غير منحصر في شرح السنة للقرآن، وفي ما ورد منها من تشاريع وأحكام أوضحتها أو انفردت بها، بل إننا نجد هذا الوصف المميز للوحي الخفي أو الباطن يتجلى في مختلف الأغراض التي وردت بها السنة، وفيما وقع ذكره في دواوينها من أحاديث الهدي، والصلح، والإشارة على المستشير، والنصيحة، وتكميل النفوس، وتعليم الناس الحقائق العالية، والتأديب، كما نجده في السيرة العطرة التي كانت محل الائتساء وسبيل الاقتداء، اقتداء أئمة الصحابة، رضوان الله عليهم، بالرسول الأعظم والنبي الأكرم صلى الله عليه وسلم.
(1) م. 43 كتاب الفضائل، 38 باب وجوب امتثال ما قاله شرعاً: 2/1835 ح 1400؛ حجة الله البالغة: 1/128
(2)
تفسير المنار. الأعراف: 158
(3)
تفسير المنار: 9/317
(4)
الإسلام عقيدة وشريعة: 499 - 505
(5)
مقاصد الشريعة: 28 - 39
وإن بناء الفرد المسلم بتعليم الرسول له، وتربيته إياه، وتزكية خلقه، وتركيز معاني الإيمان والإسلام والإحسان في خلده، وتعهده بالحكمة والموعظة الحسنة، قد أينع ثمره بتكوين الرعيل الأول من المسلمين ومن بعدهم من الخلفاء الراشدين والأئمة المجتهدين والأتقياء الصالحين والأولياء المقربين. فما من أحد منهم إلا آخذ قواعد الإسلام ونظمه وآدابه وأحكامه، يتدبرها ويتعهد نفسه بها تدبراً وتعهداً يضعانه في كل حين أمام الصورة الكاملة للمسلم التي أوضحها لهم الرسول صلى الله عليه وسلم، بسيرته الشريفة وأقواله وأفعاله السنية وتصرفاته الموحية الملهمة البليغة. وهذا ما تقتضيه طبيعة التربية الإسلامية التي قامت كما يقول الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور: (على الأصول الثلاثة من التلقين والتمثيل والتمرين، التي جاء بها الوحي الإلهي، وكان استمدادها من القرآن والسنة. ولئن شاركت السنة القرآن في الأصل الأول بما قرراه من مبادئ، وبسطاه من دعوات، ورسخاه من قواعد، فإن السنة النبوية قد انفردت بتحقيق الأصلين الآخرين اللذين هما التمثيل والتمرين. وينبغي أن يعلم أن أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وإقراراته موفية بالأصول الثلاثة.
فالأقوال هي تلقين، وإلقاء للحقائق، وتعريف بالواجبات، وإرشاد للقواعد.
وأفعال النبي صلى الله عليه وسلم هي تمثيل ليكون فيها النبي صلى الله عليه وسلم المثال الصالح للأمة، فيما يأتي من الأعمال وما يترك، وما يحقق من امتثال الواجبات، وما يحقق من اجتناب النواهي. وقد قال الله تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] .
وأما الإقرارات فإنما هي عبارة عن أعمال غير النبي صلى الله عليه وسلم من المؤمنين، التي تكون محلاً لمراقبته ورضاه عنها، إذا كانت مرضية، أو إنكاره إياها إذا كانت منكرة، فإن هذا يرجع إلى معنى التمرين) . (1)
وهكذا امتلأت النفوس إيماناً وإيقاناً، ووعياً كاملاً بالدين وبمنهجه، كما ارتكزت حركاتها على اليقظة الشديدة وضبط النفس. فلا تصدر عنها الأعمال غالباً إلا عن إرادة وقصد، ولا تكون منها إلا خاضعة لرقابة دينية ذاتية دائمة.
(1) محاضرة مسجلة عن التربية الإسلامية.
وإن أفراد ذلك الجيل لا يأتون من الأمر شيئاً إلا أن يكون فيه رضا لله أو خير لمن حولهم من الناس. وعلى هذا الأساس قام المجتمع الإسلامي الأول في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ورغم ما كان بين العرب من تفاوت وتمايز في الثروة والجاه والقبيلة والمكانة الأسرية، تمكنت سياسة المربي العظيم، والقائد الحكيم، والرسول الرحيم صلى الله عليه وسلم من أن تقتلع من القلوب كل معاني الجاهلية، وتسوي بين الناس جميعاً. فاتحدت الطباع والعادات، وتماثلت وتدانت بالإسلام المراتب والدرجات، وأصبح المؤمنون كما ورد في السنة ((عباد الله إخواناً، تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم)) (1) .
وبهذا الوصف الجامع بين أفراد الأمة والمميز لهم عن أهل الضلالة والغواية، نطق القرآن الكريم مصوراً حقيقة المؤمنين في موكب الرسالة:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29) } [الفتح: 29] .
ومن كانت هذه أحوالهم، كانوا على الحق وعلى صراط مستقيم. ولن يكون الحفاظ على الإسلام وقوته، وعلى سيادة المسلمين وعزتهم، وعلى تقدمهم وريادتهم، أو القدرة على بعثهم وتجديد أمرهم، إلا إذا كانوا منوطين بالحفاظ على السنة والإقبال عليها، والعمل بها، والحرص على الائتساء بالرسول الكريم.
فمن تبع ذلك فقد رشد، ووصل ما بينه وبين هذا الدين، ومن صدف عنه فقد غوى وقطع ما بينه وبين العلم والإيمان.
وشواهد هذا قائمة على مدار التاريخ الإسلامي. فالإسلام لا يسود ولا يهيمن ولا يقوى على تخليص المسلمين مما تردوا فيه من الانهيار والانهزام العقلي والمهانة والضعف والفشل الذريع، إلا متى تحققت لهم منه مقوماته، وأخذوا بسبيله، وأوثقوا صلتهم بالله وبرسوله، واتخذوا من هذا الدين منهج حياة وطريقاً للسعادة والفوز في الدنيا والآخرة.
ولذلك فإن أول ما يجب الاحتكام إليه والعمل به والالتزام بتطبيقه شرع الله الذي وردت به نصوص الكتاب والسنة، وتضمنته آيات الأحكام والأحاديث الصحيحة، فكانت موضع النظر والدرس والتفسير والتحليل والاستنباط والتأويل، كما كانت سبيل الدعوة إلى الحق والتوجيه إلى الرشد من أئمة الاجتهاد وعلماء الأمة.
(1) د: جهاد 174، ديات: 11؛ ن: قسامة 7، 13؛ جه: ديات 31؛ حم: 6/119، 122، 2/180، 192، 211، 215
تلك سبيل المؤمنين. وأما الذين {يَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [النور: 47] فهم منافقون، لتوليهم وإعراضهم عما التزموا به علناً من الإيمان والطاعة، ولصدور ما يقابل ذلك منهم ويؤكده من أعمالهم وتصرفاتهم المخالفة للدين. وقد ذيل تعالى هذه الآية بالتعرية لحقيقتهم، والتنبيه على مروقهم من الإيمان والإسلام بقوله:{وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} [النور: 47 – 48] .
وقد تقع ألوان من المخالفات لما أنزل الله في كتابه أو حكم به رسوله، كأن يتساءل المرء، غير قاصد الصدوف أو الإعراض، عن وجه آخر للحكم مثلاً، مريداً إما الاستفسار، وإما محاولاً إبداء الرأي، فيتعرض من الأئمة لأعنف الرد وشديد الإنكار. فعن عثمان بن عمر قال: جاء رجل إلى مالك فسأله عن مسألة، فقال له: قال رسول الله كذا وكذا. فقال الرجل: أرأيت؟ فقال مالك: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63](1) ووقع مثل هذا مع الإمام الشافعي. روى البخاري قال: سمعت الحميدي يقول: كنا عند الشافعي فأتاه رجل فسأله عن مسألة. فقال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا. فقال الرجل للشافعي: ما تقول أنت؟ فقال: سبحان الله، تراني في كنيسة؟ تراني في بيعة؟ ترى على وسطي زناراً؟ أقول: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا وأنت تقول لي: وما تقول أنت! (2)
وإنما كانت هذه المواقف شديدة وعنيفة؛ قصد حمل الناس على التقوى، وتجنيبهم الاحتكام إلى الطاغوت أو إلى الهوى، فيهلكون ويهلكون، ولكونهم بما هموا به أو فكروا فيه يشاقون الله ورسوله، ويخالفون ما في الكتاب والسنة من أحكام:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115] .
(1) السيوطي: مفتاح الجنة: 49
(2)
ابن القيم. الصواعق: 2/563
ومشاقة الرسول أن يأخذ المتولي عن المنهج الرباني شقاً وجانباً وصفاً غير الشق، والجانب والصف الذي دعا إلى الالتزام به الرسول. فيكون بسلوكه هذا مناقضاً له، ومعارضاً لما جاء يحمله من عند الله من منهج كامل للحياة يشتمل على العقيدة وعلى الشعائر التعبدية، كما يشتمل على الشريعة والنظام الواقعي لجوانب الحياة البشرية كلها. (1)
وفي هذه المشاقة إزهاق لروح الإيمان، وتقويض لهيكل الدين، واختيار للضلالة، وإصرار على الانحراف، وعلى العدول عن الحق والهدى.
وقد أشارت دواوين السنة إلى ما توقع رسول الله صلى الله عليه وسلم حصوله بعد موته. فذكر ذلك البيهقي في دلائل النبوة (2) وأخرج الأئمة في كتب الحديث ما رواه أبو رافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: ((لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه)) . وقد روى هذا الحديث غير واحد من طرق متعددة: رواه مع أبي رافع المقدام بن معد يكرب، والعرباض بن سارية، وأبو هريرة، ومحمد بن المنكدر بألفاظ متقاربة يعضد بعضها بعضاً. (3)
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبر عنه وحذر منه، وصادف التخويف والتحذير محله في القرون الأولى بسبب ما كان من غفلة أو جهل، وظهرت طوائف في صدر الإسلام وبالخصوص في القرن الثاني، قامت على أساس عقدي أو سياسي أو مزيج منهما. وتفرعت عن قضية الإمامة، وعدالة الصحابي، ومشكلة الوضع، ونظرية التحسين والتقبيح عدة مذاهب واتجاهات مالت عن الحق والهدى، لهوى أو تعصب أو شبهات لم تقو على دفعها. وقد كان من بينها المعتزلة والزنادقة الذين وجدوا في أطراف البلاد وخاصة في المدن في زمن الأئمة الأربعة فمن بعدهم.
(1) سيد قطب. في ظلال القرآن: 2/759
(2)
البيهقي: 1/24
(3)
حديث أبي رافع. ش. المسند، الاعتصام بالكتاب والسنة؛ د. كتاب السنة، باب لزوم السنة؛ ت. كتاب العلم، باب ما نهي عنه أن يقال عند حديث النبي صلى الله عليه وسلم؛ جه المقدمة، باب تعظيم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والتغليظ على من عارضه؛ حم؛ ك، الذهبي، المختصر. كتاب العلم؛ ابن وهب؛ الليث بن سعد؛ حديث المقدام؛ د، حم، ت، دي؛ حديث ابن المنكدر؛ ش، ت؛ حديث العرباض: د؛ حديث أبي هريرة: حم.
وتصدى لهم ولغيرهم الأئمة وأصحابهم في دروسهم ومناظراتهم وتصانيفهم للرد عليهم. (1) وقد ترك لنا رجال تلك الفترة مصنفات هامة تقف في وجه الافتراءات والإفك، وتبطل مزاعم الغواة الضالين المحاربين لدين الله وسنة رسوله، كما تشحذ العقول بما فيها من علم وتحقيق وبيان وتفصيل، مثل كتاب اختلاف الحديث للشافعي، وتأويل مختلف الحديث لابن قتيبة، ومعاني الآثار، ومشكل الآثار للطحاوي، وتآليف أخرى كثيرة، مثل دواوين السنة، والمعاجم، والمشيخات، والمسلسلات، والطبقات، والموضوعات، وعلوم الحديث والمصطلح، وما تعاقب ظهوره على مر العصور من تصانيف في السنة وفي الدفاع عنها، إلى جانب مجموعة معتبرة من المؤلفات في الفرق والمذاهب الكلامية.
وقد أغنى، بحمد الله، ذلك جميعه عن الوقوف عند أهل هذه النزعة الباطلة من السابقين المتقدمين زماناً، لانكشاف أمرهم وتمام المعرفة من العلماء والمثقفين بهم، فحملنا هذا الواقع على الالتفات في هذا المقام إلى الموجة الحديثة لهذا التيار الهدام، والتي بدأ ظهورها في القرن الثالث عشر على أيدي المستشرقين في الشرق والغرب، وعلى أيدي أتباعهم ومقلديهم من المتغربين بالبلاد العربية والإسلامية.
وإذا كان من الطبيعي أن يجاري الدرس والبحث هذه القضية في مراحلها المتعددة وأطوارها المتلاحقة، فيبدأ بالنظر في المقدمات للخلوص إلى النتائج، وفي القواعد والأصول للانتهاء إلى التفاصيل والاتجاهات، فإن الحديث عن المستشرقين في هذه المسألة يعتبر المدخل إلى معرفة أسباب الفتنة في العصر الحديث، والمنطلق لظهور الآراء والأفكار التي انتشرت بانتشار مدارس المستشرقين وكتبهم، وبفضل هيمنتهم على الحياة الثقافية ومرجعيتهم فيها في ديارهم وخارج ديارهم، على الأقل فيما يعود إلى ما عكفوا عليه وتخصصوا فيه من موضوعات التراث العربي الإسلامي. وقد حصل لهم ذلك من جهة بما لبسوه على الناس، وتظاهروا به من منهجية، وبما حاولوا الاتصاف به من موضوعية في البحث، واستقلال في النظر، ومن جهة ثانية بخلو المجال لهم من أية منافسة تقطع عليهم الطريق، وتعوقهم عن تحقيق أهدافهم، لا سيما مع من يتعامل معهم من العامة أو من الخاصة الذين لم يشدوا من العلم الإسلامي والثقافة الإسلامية شيئاً.
(1) السيوطي. مفتاح الجنة: 6- 7
فإذا تحولنا من هذا إلى التحقيق في أمر هذه الفئة المضلة، فإنا مع التسليم بجهودها الكبيرة، وبانقطاعها للبحث فيما تشتغل به من قضايا أو تتفرغ له من أعمال، لا نجدها إلا سطحية التكوين، خفيفاً وزنها فيما تحذق من علوم أو تتخصص فيه من فنون؛ لأنها كما قال عنها أحمد فارس الشدياق:(لم تأخذ العلم عن الأشياخ، وإنما تطفلت عليه تطفلاً وتوثبت فيه توثباً) . والذي ساقها إلى الانحراف عن الحق والدس للإسلام، مع ما وقعت وتقع فيه من أخطاء في التصورات والآراء، الوهم الغفلة والجهل الناشئ جميعه عن التوجيهات المدبرة والأحكام المسبقة.
وإنه ليس من الخفي على أحد، وخاصة على المهتمين بالاستشراق والمعنيين بتاريخه وآثاره، أن جهود هذا النوع من الباحثين قام في الأكثر من البداية على أكتاف الرهبان والمبشرين وثلة من اليهود، ثم اتصل بعد ذلك بالاستخبارات وبالسياسة الغربية الحاقدة المغرضة، فكان بالطبع ينبعث بصورة عامة في الدول الاستعمارية من الكنيسة ووزارة الخارجية، ويحمل بذور العصبية الدينية وتيارات الغزو الفكري والثقافي، مستهدفاً تقويض المجتمعات الإسلامية، وتجريدها من مقوماتها، واستلاب هويتها. فلا بدع إن رأيناه يدأب على توهين قوى الإسلام، وتمزيق شمله، وتضليل سعيه، وبعثرة العوائق أمام أممه، وبذل الجهود الماكرة الذكية لجعل المنتمين إلى الدين الإسلامي ينحرفون عنه، ويضيقون به. (1)
(1) محمد الغزالي. دفاع عن العقيدة والشريعة: 342
وهكذا كما قرره الحذاق من علمائنا بالسنة في العصر الحاضر نجد هذه الطائفة من أمثال جولدزيهر صاحب العقيدة والشريعة في الإسلام، وكتاب دراسات إسلامية، ومن تبعه من أصحاب البحوث المدخولة المدسوسة والموجهة ضد الإسلام والمسلمين كمرغليوث وشاخت وربسون وأندرسون وشبرنجر ومويير وويل ودوزي يسير جميعهم على خطة واحدة تقوم، بسبب الغرور والتحامل، على سوء الظن والفهم لكل ما يتصل بالإسلام في أهدافه ومقاصده، وعلى الاحتقار والاستخفاف بعظماء المسلمين وعلمائهم، وعلى تشويه الحضارة الإسلامية تهويناً لشأنها وصرفاً عن معالمها وآثارها، وعلى تصوير المجتمع الإسلامي في مختلف عصوره، وخاصة في العصر الأول بالمجتمع المتهافت المتفكك. وقد كان هذا التحامل المكشوف مبنياً على الجهل بحقيقة المجتمعات الإسلامية، والحكم عليها من خلال تصوراتهم المحدودة الضيقة المتأثرة بما نشئوا عليه من أخلاق وعادات.
وقد زاد عملهم سوءاً واضطراباً المنهج الذي درجوا عليه والتزموا به، من إخضاعهم النصوص لأفكارهم المسبقة وأهوائهم المتحكمة، يختارون منها ما يقبلون، ويرفضون ما يجدونه مناقضاً لما يريدون، ثم تحريفهم لما يعتمدون منها بسبب سوء الفهم وفساد التأويل، أو تحريفهم لها تحريفاً مقصوداً يخدم أغراضهم ويقوي مزاعمهم.
وإن من أغرب ما لا يتفق مع المنهج العلمي المعروف تحكمهم في المصادر التي ينقلون منها.. فهم ينقلون مثلاً من كتب الأدب ما يحكمون به في تاريخ الحديث، ومن كتب التاريخ ما يحكمون به في تاريخ الفقه، ويصححون ما ينقله الدميري في كتاب الحيوان، ويكذبون ما يرويه مالك في الموطأ. كل ذلك انسياقاً مع الهوى، وانحرافاً عن الحق. (1)
(1) السباعي: السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي: 188
وعن هؤلاء المستشرقين انتشرت حول الحديث دعاوى وشبهات كلها أو أكثرها يتصل بقضية الوضع والوضاعين. ونحن نعلم أن علماء الحديث كانوا أشد عناية بهذه المسألة، وأكثر بحثاً فيها، وتمحيصاً للأخبار من أجلها، وتأليفاً في الموضوعات والوضاعين، بما لم يدعوا معه مجالاً لقائل. فبحثوا أسباب الوضع التي كانت في الغالب سياسية أو عقدية دينية، وذكروا ما وجدوا منها له علاقة بعصبية الجنس والقبيلة، واللغة والبلد والإمام، أو كان مما افتتن به القصاصون والإخباريون، أو استزاد منه الوعاظ والدعاة قصد الترغيب أو الترهيب، أو كان له ارتباط واتصال بالخلافات الكلامية والمذهبية، أو كان الباعث عليه التقرب من الحكام والتزلف إليهم ابتغاء تحقيق أغراض دنيوية، أو سببه الإغراب في الرواية أو نحو ذلك. قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة:(خالط الحديث كذب كثير صدر عن قوم قصدوا به الإضلال وتخبيط القلوب والعقائد، وقصد بعضهم التنويه بذكر قوم كان لهم في التنويه بذكرهم غرض دنيوي. ولم يسكت المحدثون الراسخون في علم الحديث عن هذا، بل ذكروا كثيراً من الأحاديث الموضوعة وبينوا وضعها، وأن رواتها غير موثوق بهم) . (1) كما وضعوا لعلم الحديث قواعد وأصولاً، وصنفوا التصانيف وكتب الرجال، وتكلموا عن التجريح والتعديل، ونوهوا بالإسناد وجعلوه من الدين. قال الشاطبي:(ولا يعنون بالإسناد (حدثني فلان عن فلان) مجرداً، بل يريدون من ذلك لما تضمنه من معرفة الرجال الذين يحدث عنهم، حتى لا يسند عن مجهول ولا مجروح ولا متهم، إلا عمن تحصل الثقة بروايته؛ لأن روح المسالة أن يغلب على الظن من غير ريبة أن ذلك الحديث قد قاله النبي صلى الله عليه وسلم لنعتمد عليه في الشريعة ونسند إليه الأحكام) (2) ولا خشية على الحديث بإذن الله من وضع الوضاعين لما قدمنا، ولما يشهد له قول الخليفة العباسي الرشيد، وقد أراد الفتك بأحد الزنادقة الذي قال له:(يا أمير المؤمنين، أين أنت من أربعة آلاف حديث وضعتها فيكم! أحرم فيها الحلال وأحلل فيها الحرام، ما قال النبي صلى الله عليه وسلم منها حرفاً! فقال له الرشيد: أين أنت يا عدو الله من أبي إسحاق الفزاري وعبد الله بن المبارك! ينخلانها نخلاً، فيخرجانها حرفاً حرفاً)(3) وإنما قام علماء السنة بهذا الدور الجليل ابتغاء تنقية الحديث، ودفع الزيف عنه، والاطمئنان إلى ما هو مثبت في الدواوين من الأحاديث الصحيحة للوثوق والاحتجاج به في الدين والعمل بموجبه.
(1) ابن أبي الحديد: 2/134
(2)
الشاطبي. الاعتصام: 1/225
(3)
الذهبي. التذكرة: 1/273؛ ابن حجر. التهذيب: 1/252؛ السيوطي. تاريخ الخلفاء: 194؛ علي القاري. الموضوعات الكبرى: 14.
أما المستشرقون فقد كان غرضهم الأول التشكيك في الأخبار، والإبطال للسنة، وحمل الناس وبخاصة من خالطهم ومن ليس له حظ من العلم الديني على القول بأنها كلها موضوعة حتى المتواتر منها، أو على اعتقاد أن أحاديث كثيرة نبوية زائفة لا تقبل، أو أن أسانيد الحديث النبوي عملية ملفقة، أو أن نصف الأحاديث النبوية في صحيح البخاري ليست أصيلة وغير موثوق بها. وهي لعمري دعاوى واتهامات خطيرة بعضها أشد من بعض، يؤكد بعضها بعضاً، وهي كلها في الواقع متفقة على القدح في الأخبار والصرف عن العمل بها. فإذا تم لهم ما يريدون انهد المصدر الثاني من مصادر الشريعة الإسلامية الذي يقوم على سيرة الرسول وهديه وبيانه، والذي بينا أهميته، وألمعنا إلى عظيم منزلته، وشديد اهتمام السلف وعلماء الملة به، الذين أطلقوا عليه اسم العلم، وقصروه عليه عهداً، وبذلوا ما بذلوا من جهود في خدمته وضبطه.
ومن أجل تأصيل ما دعا إليه وروجه المستشرقون من المفتريات، وتسويغ أفكارهم أدنى تسويغ ذهب جولدزيهر ومن لف لفه إلى إشاعة بعض الآراء في أوساطهم، وبين طلبتهم ليتلقفها عنهم المهتمون بالدراسات الإسلامية في المشارق والمغارب. فكان من هذا القبيل قولهم:(إن القسم الأكبر من الحديث ليس صحيحاً ما يقال من أنه وثيقة للإسلام في عهده الأول عهد الطفولة، ولكنه أثر من آثار جهود المسلمين في عصر النهضة) . (1)
وهذه الجملة المتكونة من شقين، وإن قامت على إنكار صحة الأحاديث واعتبارها موضوعة في جملتها تدس عن طريق ذلك:
أولاً: عدم تمثيل ما كان يجري في العصر الأول الإسلامي من التحمل للحديث وروايته عن الرسول أو الصحابة، وعدم صحة ما نعرفه من طرق الرواية للسنة من أسباب صدورها عن النبي أو ملابساتها. فلا الأقوال ولا الأفعال ولا التقريرات على هذا الأساس بمسلمة أو مقبولة. ولا الجانب التاريخي الذي تسجله وتشهد له تلك الأخبار بواقع.
(1) علي حسن عبد القادر، نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي: 127
وثانياً: ادعاء أن المتأخرين عن العصر الأول في مرحلة النضج هم الذين وضعوا الأحاديث واخترعوها تلفيقاً وابتداعاً ليقيموا بذلك ديناً ويكتبوا للعرب المسلمين تاريخاً.
ومثل هذا القول باطل ومردود، ينكره العقل والمنطق؛ لما يقتضيه الأمر من صلة قائمة بين صاحب الرسالة ومن حوله ممن أرسل إليهم، ومن بيان وتوجيه ودعوة اضطلع بها فيهم، وبلغها لمن وراءهم عن طريقهم.
ولا نظر لما قد يكون حصل من تزيد في الأخبار مما وصفه القصاصون وأصحاب النحل والأهواء لانكشاف أمرهم وتبين النقاد موضوعاتهم، وتحريهم في النقل، وتنبيههم على كل ما تشوبه أدنى شائبة من الوضع في مروياتهم.
وقالوا: (إن تعاليم القرآن تجد تكملتها واستمرارها في مجموعة من الأحاديث المتواترة، وهي وإن لم ترو عن النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة تعتبر أساسية لتميز روح الإسلام) . (1)
وفي هذا القول، وإن صح ما يشير إليه من اتحاد النسق بين القرآن والسنة باعتبارهما وحياً منزلاً متلواً، وغير متلو، إبعاد في إنكار السنة وعدم الوثوق حتى بالمتواتر منها.
وزادوا تأكيداً لهذا المعنى حين خلصوا إلى القول (بأن الإسلام نما على يد رجاله، وسبيل نمائه الإضافات التي جعلت كيان هذا الدين يكبر إلى حد لم يعرفه محمد نفسه، فإن ألوف الأحاديث التي ثبت أن الرسول نطق بها هي من صنع العلماء الذين أرادوا أن يجعلوا من الإسلام ديناً كبيراً شاملاً، فخلقوا هذه الأحاديث. (2)
(1) محمد الغزالي: دفاع عن العقيدة والشريعة: 75
(2)
محمد الغزالي دفاع عن العقيدة والشريعة: 75
فإذا ولى المتحاملون على السنة النبوية وجوههم قبل الحياة الاجتماعية والظروف السياسية قالوا:) سار الحديث في القرن الأول سيرة المعارضة الساكنة، بشكل مؤلم ضد أولئك المخالفين، يعنون الأمويين، للسنن الفقهية والقانونية ((1) فأساءوا) للعلماء الأتقياء الذين كانوا يجمعون الحديث والسنة حين اتهموهم بالكذب على الرسول، وهم يعلمون وعيد النبي على ذلك في قوله:((من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)) ، (2) وحين نسبوا إليهم (اختراع أحاديث كثيرة كانوا في أشد الحاجة إليها لمحاربة خصومهم، ومقاومة الطغيان والإلحاد، والبعد عن سنن الدين) . (3)(ووقعوا في الخطأ مرة أخرى حين اتهموا الحكومة الأموية بأنها لم تقف ساكنة إزاء ذلك، فإذا أرادت أن تعمم رأياً، أو تسكت هؤلاء الأتقياء، تذرعت أيضاً بالحديث الموافق لوجهات نظرها. فكانت تعمل ما يعمله خصومها، فتضع الحديث أو تدعو إلى وضعه، وإذا ما أردنا أن نتعرف على ذلك كله، فإنه لا توجد مسألة خلافية، سياسية أو اعتقاديه، إلا ولها اعتماد على جملة من الأحاديث ذات الإسناد القوي)(4) .
وهذا الوصف وإن قامت عليه شواهد مما ذكره الأئمة النقاد، مما تبارى فيه الوضاعون من أهل هذا العصر، لكننا لا نجد في الثابت من مدونات السنة، مع كثرتها، سنداً فيه عبد الملك أو يزيد أو الوليد أو أحد عمالهم؛ كالحجاج وخالد القسري وأمثالهم، ولا دليلاً واحداً على طلب الحكومة من يصنع لها الأحاديث. (5)
ولفقوا التهم لتمرير هذه المقولة، ونسبوا للأمويين استغلالهم للزهري في هذا الأمر الجلل. وطعنوا في الإمام طعوناً، وحرفوا قوله:(إن هؤلاء الأمراء أكرهونا على كتابة الأحاديث) بقولهم: (على كتابة أحاديث)، وكل المؤرخين يعرفون منزلة هذا الإمام ومقامه العظيم في علم السنة. فهو الذي حفظ عنه:(ما عبد الله بشيء أفضل من العلم. وإن هذا العلم أدب الله الذي أدب به نبيه عليه الصلاة والسلام، وهو أمانة الله إلى رسوله ليؤديه على ما أدى إليه. فمن سمع علماً فليجعله أمامه حجة فيما بينه وبين الله عز وجل ، كما روي عنه قوله: (إن للتعليم غوائل، فمن غوائله أن يتركه العالم حتى يذهب علمه، ومن غوائله النسيان، ومن غوائله الكذب فيه، وهو أشد غوائله) .
(1) علي حسين عبد القادر. نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي: 127
(2)
خ. كتاب العلم، باب إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث مشهور أخرجته أكثر المصادر
(3)
علي حسين عبد القادر، نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي: 127
(4)
علي حسين عبد القادر، نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي: 127
(5)
السباعي. السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي: 205
ومن افتراءاتهم نسبة الكذب للصالحين، والتدليس للمحدثين، مجرين ما تلقفوه من الأوصاف على غير مدلولاتها عند أهل هذه الصناعة من طلبة الحديث ورواته.
فإذا أرادوا الطعن في الفقه الإسلامي وأحكامه نسبوا إلى المجتهدين والفقهاء (اختراع جملة من الأحاديث ليتأيدوا بها، وزعموا أن هذه الأحاديث وغيرها من النصوص المماثلة لها، والتي يسهل علينا جمعها، لا تمثل وجهات نظر خاصة بطبقة سامية الأخلاق فحسب، بل إنها لتعبر عن العاطفة العامة لفقهاء الإسلام) . (1)
ولإبطال دعاوى المستشرقين هذه وغيرها التي لا تحمل إلا مكراً، ولا تفيض إلا غيظاً وحقداً، ننوه بجهود عدد كبير من الباحثين، ونحيل على جمهرة من المحققين والمؤرخين أمثال السباعي والغزالي والمودودي والندوي، وعلى أصحاب الدراسات العلمية الجامعية من المختصين في دراسات السنة والسيرة. وذلك اختصاراً للقول لضيق المقام عن الاستقراء والتفصيل في هذه المناسبة الكريمة.
(1) محمد الغزالي. دفاع عن العقيدة والشريعة: 76
وأما الفريق الثاني الذي ظهر في هذا العصر فهو فريق ضال مضل، نشأ على أيدي المستشرقين، وتأثر بهم، فسار على منوالهم، وهو أشبه بمن عرفناهم في القرن الثاني بالزنادقة المتأثرين بالفلسفات القديمة، والمبارزين للإسلام المحاربين له والعاملين على تقويض أصوله وهدم أركانه.
ولقد تعاون الاستعمار الغربي وعلماء الاستشراق على التخطيط لغزو العالم الإسلامي فكرياً، وترسيخ مفاهيم الغرب فيه، وتصورات الحضارة المادية بين أفراده ومجتمعاته. فكان التفسخ والتمزق والانحلال في المجتمع والفكر والسلوك في حياتنا، وعلى امتداد العالم الإسلامي تغذي ذلك كله وتقوم به مؤسسات ودوائر ظاهرة ومستخفية، جعلت من الدروس العلمية ذريعة لغايات سياسية ودينية. وهذا الغرض العام من السياسة الاستعمارية في البلاد الإسلامية هو الذي يعلن شاتلي عنه في مجلة العالم الإسلامي في بداية هذا القرن، العشرين، ويصرح:(بأنه لا يمكن الوصول إليه إلا بالتعليم الذي يكون تحت الجامعات الفرنسية، نظراً لما اختص به هذا التعليم من الوسائل العقلية والعلمية المبنية على قوة الإرادة) . ويمضي فيقول: (وأنا أرجو أن يخرج هذا التعليم إلى حيز الفعل ليبث في دين الإسلام التعاليم المستمدة من المدرسة الجامعة الفرنسية.. ولا ينبغي أن نتوقع من جمهور العالم الإسلامي أن يتخذ له أوضاعاً وخصائص أخرى إذا هو تنازل عن أوضاعه وخصائصه الاجتماعية؛ إذ الضعف التدريجي في الاعتقاد بالفكرة الإسلامية، وما يتبع هذا الضعف من الانتقاص والاضمحلال الملازم له سوف يفضي بعد انتشاره في كل الجهات إلى انحلال الروح الدينية من أساسها، لا إلى نشأتها بشكل آخر)(1)
وجاء هؤلاء المتغربون بعد التخرج على تلك المناهج، سواء في ديارهم أو في الدول الاستعمارية، مع قلة معرفتهم بدينهم، وإساءتهم الفهم والتصور لأصوله ومبادئه، وقيمه وأخلاقه، فتفلسفوا ونظروا، وأخضعوا كل شيء لما تلقوه أو شدوا جزءاً منه في تلك الجامعات، أو مارسوه في الحياة العملية في تلك المجتمعات، وتحقق على أيديهم أكثر مما تحقق على أيدي أساتذتهم ومعلميهم الأجانب.
(1) الغارة على الإسلام: 9 - 18
وفتنت المدنية الغربية وبخاصة الأمريكية قلوب هذه الفئة، فأصبحت تقارن بها كل ما تراه خيراً من أوضاع العالم الإسلامي وأحواله في القديم والحديث، كما تعتبرها معيار التقدم، فلا تتردد أن تقول في جرأة على لسان أحمد زكي أبو شادي:(ولذلك قلنا مراراً: إن مبادئ الإسلام نظرياً وعملياً هي أقرب ما تكون لمبادئ الحضارة الأمريكية والحياة الأمريكية تفكيراً وسلوكاً. فهل يتنبه المسلمون إلى هذه الحقيقة الراسخة فيفلحوا!)(1) وتقول أخرى على لسانه أيضاً وهو يتحدث عن الحرية والدفاع عنها: (وما الدفاع الذي تقوم به أمريكا على العالم الحر إلا صنو الدفاع الذي رفع لواءه محمد في قتاله الجبابرة المتقدمين) . (2)
وبعد تصوير هذا التقارب أو التجانس قارنوا مقارنة ثانية بين حاضر الغرب وحاضر العالم الإسلامي، وبارتفاع شعورهم بالانهزام الفكري والعقلي أخذوا في تحقير علومهم وآدابهم، وفي التنكر للصفوة من علماء الإسلام ومفكريه. ثم بشكل إيحائي دعوا إلى الاعتبار بهذه الأوضاع وإلى وجوب التغيير قائلين:(ومع علم أولئك المستشرقين كعلم المستنيرين من المسلمين بأن الجمهرة من الأحاديث النبوية مختلقة اختلاق الإسناد نفسه الذي لم يكن معروفاً في فجر الإسلام، فإن حظهم هو التعلق بكل سخيف حقير منها) . (3)
ثم يمضي في حقد وتهجم كأنه مدفوع أو موكل بنقض مصادر الثقافة الإسلامية، وما تركه المفسرون والمحدثون من آثار تشهد بأعمالهم وجهودهم واجتهاداتهم فيقول: (وأما التغني بأبي داود والترمذي والنسائي إلخ
…
وترديد الأحاديث الملفقة التي لا تنسجم وتعاليم القرآن، وأما سوء تفسير آيات الكتاب العزيز، وأما الجهل بروح القرآن التي تشع من وراء هذه الآيات، وأما التنازل عن صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان فبمثابة الخيانة لرسالة الإسلام الخالدة) . (4)
(1) ثورة الإسلام: 57
(2)
ثورة الإسلام: 61
(3)
ثورة الإسلام: 17
(4)
ثورة الإسلام: 25
وربما أوضح المراد من هذه الجملة ما أورده الندوي في وصف هذا الفريق، وما ذكره من عوامل فكرية صاغت تصوراته وأغراضه حين قال:(إنها ترتكز على أساس تقليد الحضارة الغربية وأسسها المادية واقتباس العلوم العصرية بحذافيرها على علاتها، وتفسير الإسلام والقرآن تفسيراً يطابق ما وصلت إليه المدنية والمعلومات الحديثة في أواخر القرن التاسع عشر، يطابق هوى الغربيين وآراءهم وأذواقهم، والاستهانة بما لا يثبته الحس والتجربة، ولا تقرره علوم الطبيعة في مبادئ النظر من الحقائق الغيبية وأمور ما بعد الطبيعة)(1)
وما من شك في أن هذا الاتجاه كان وما يزال يعتمد في مجال التغيير والتحديث على دعوة المسلمين إلى تقليد الغربيين في أمور الدنيا والدين. فذلك سبيل التقدم والرقي والحضارة، وهو سبيل اللحاق بركب الدول المتحضرة. فلا بدع إذا أصبح من أصول هذا الاتجاه في التفكير والعمل، في العقيدة والسلوك، إنكار ما تنكره الثقافة الغربية ولو كان ديناً، وقبول ما تدعو إليه وتقره تلك الثقافة ولو كان مخالفاً للدين ولما عليه جمهور المسلمين.
ولتأكيد هذا المعنى يعود أحمد زكي إلى تفسير هذه الظاهرة فيصدر فتواه في القضية قائلاً: (ومن البداية أقر الإسلام بأن شرحه في أيدي أهل العلم المتخصصين، لا في أيدي رجال من الكهنوت؛ إذ لا كهنوت في الإسلام، وبذلك كان ديناً تقدمياً إلى أبعد الحدود وإلى ما شاء الله) . (2)
ولإقناع الناس بهذا المنهج التبعي الانهزامي قام المتغربون في الأول بهجومهم على الإسلام ومصادره بالخصوص، وعلى السنة الشريفة النبوية بطريقة ماكرة:(متقنعين بستار العلم والبحث، متجنبين المصارحة، مفضلين عليها المواربة والمخاتلة) . (3)
ولما افتضح أمرهم وكثرت الردود عليهم، وصودرت كتبهم ورسائلهم، نصحهم أحد كبرائهم بقوله:(إن الأزهر لا يقبل الآراء العلمية الحرة، فخير طريقة لِبَثِّ ما تراه مناسباً من أقوال المستشرقين ألا تنسبها إليهم بصراحة، ولكن ادفعها إلى الأزهريين على أنها بحث منك، وألبسها ثوباً رقيقاً لا يزعجهم مسها)(4)
(1) الندوي: الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية: 71
(2)
ثورة الإسلام: 63
(3)
السباعي. السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي: 236.
(4)
السباعي. السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي: 238
وبهذه النصيحة أخذ المضللون هنا وهناك يدعون إلى موالاة الأعداء على حساب ثقافتهم الإسلامية، والروح الديني المميز لجماعتهم. وكأنهم لا يذكرون ما نبههم إليه القرآن في قوله تعالى:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 73] .
قال الأستاذ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور: (إن لا تفعلوا قطع الولاية معهم، أي المشركين، تكن فتنة
…
والفتنة اختلال أحوال الناس التي تحصل من مخالطة المسلمين مع المشركين
…
وقد كان الإسلام مثيراً لحنق المشركين عليه. فإذا لم ينقطع المسلمون عن موالاة المشركين يخشى على ضعفاء النفوس من المسلمين أن تجلبهم تلك الأواصر، وتفتنهم قوة المشركين وعزتهم، ويقذف بها الشيطان في نفوسهم، فيحنوا إلى المشركين ويعودوا إلى الكفر) . (1)
وقال سيد قطب: (ومن ثم لا يملك الإسلام أن يواجههم إلا في صورة مجتمع آخر له ذات الخصائص، ولكن بدرجة أعمق وأمتن وأقوى. فإذا لم يواجههم بمجتمع ولاؤه بعضه لبعض، فستقع الفتنة لأفراده من المجتمع الجاهلي – لأنهم لا يملكون مواجهة المجتمع الجاهلي المتكافل أفراداً- وتقع الفتنة في الأرض عامة بغلبة الجاهلية على الإسلام بعد وجوده، ويقع الفساد في الأرض بطغيان الجاهلية على الإسلام، وطغيان ألوهية العباد على ألوهية الله، ووقوع الناس عبيداً للعباد مرة أخرى، وهو أفسد الفساد)(2)
وقد ظهرت بالمشرقين الأدنى والأقصى من بداية هذا القرن الميلادي ثلة من هذا الرهط الأفاك ذي البضاعة المزجاة من الثقافة الإسلامية، المتعالم فيها، الموالي بروحه وعقله ووجدانه لقادة الفكر الاستعماري والاستشراقي. فسارت على غرارهم تشكك في مصادر الإسلام، وتطعن في الدين، وتنقض أصوله وقوانينه، مستجيشة بذلك قلوب المؤمنين الذين وثبوا مسارعين من جديد إلى رعاية الإسلام ومصادره، فكره وفقهه، أدبه وتاريخه، يدعون إلى ربهم، ويثبتون أفئدة أهل ملتهم كاشفين ما يضمره أعداؤهم من الممالاة والمناوءة، حتى افتضح أمر المتغربين، وخسئوا بما فعلوا {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32] .
(1) ابن عاشور. التحرير والتنوير: 10/88
(2)
سيد قطب. في ظلال القرآن: 3/1559
وطلائع هذه الفتنة في البلاد العربية من المتغربين كثر، قامت دعوتهم على إنكار السنة والتهوين من شأنها؛ إبطالاً لحجيتها ودفعاً لوجوب العمل بها، والتنويه بأن الإسلام يمثله القرآن وحده لأنه الوحي والذكر، ولأنه متواتر، ولأن الله التزم بحفظه، وعني الرسول من أول الأمر بتدوينه:{وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) } [فصلت: 42] . وهذه الدعوة أو المقارنة بين الكتاب والسنة جهل وإفك وتضليل وتعطيل. وهي وإن راجت على طائفة من الناس زمناً قصيراً، غير أن ما قامت عليه من دلائل وشبه لم ينهض أمام النظر، ولم يلبث أن تبدد وانحسر عند التأمل والفحص.
قالوا: إن في القرآن لوفاء وغنية وتبياناً لكل شيء. أكدت ذلك آياته وأجمع المسلمون كلهم على اعتقاده. قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] . وقال جلت حكمته: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] . فهل يحتاج بعد هذا إلى مزيد تفصيل أو إلى إضافات تكمل الوحي المنزل؟
بل ألم يعلم هؤلاء أن القرآن اشتمل على أصول الدين كلها، وعلى قواعد الأحكام العامة، فنص على بعض هذه الأحكام بصراحة، وترك بيان البعض الآخر للرسول المبلغ عن الله، والواجب اتباعه وطاعته بأمر من الله. قال الشافعي: (فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها. قال الله تبارك وتعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم: 1]
…
فكل من قبل عن الله فرائضه في كتابه، قبل عن رسول الله سننه بفرض الله طاعة رسوله على خلقه، وأن ينتهوا إلى حكمه، ومن قبل عن رسول الله فعن الله قبل لما افترض الله من طاعته) . (1)
وقالوا: إن الله أحاط كتابه بأسباب العناية والحفظ، فقال جل ذكره:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] . فهل وجدت السنة مثل ذلك أو حظيت بشيء مما اختص به الكتاب؟ أجل إن السنة علم تلقاها المؤمنون عن الرسول صلى الله عليه وسلم وتعلموها منه، وتم على مر السنين جمعها وتدوينها، كما قيض الله لها من يحرسها من الزيادة والوضع، والغلو وفساد التأويل، فأوكل بها أئمة حفظوها ورووها وبلغوها عن نبيهم لما فيها من هداية وحكم. وقد أمر الله عباده للخروج من الحيرة واللبس، بطلبها ممن اختص بمعرفتها فقال سبحانه:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] . وهل الذكر إلا كل وحي نزل من عند الله. فهو واقع على الكتاب والسنة جميعاً. وهي وحي غير متلو، تولى نبينا صلى الله عليه وسلم بيان القرآن للناس بها.
(1) الرسالة: 20/48، 33/102
(وفي القرآن مجمل كثير كالصلاة والزكاة والحج وغير ذلك مما لا نعلم ما ألزمنا الله فيه بلفظه، لكن ببيان النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان بيانه عليه السلام لذلك المجمل غير محفوظ، ولا مضمون سلامته مما ليس منه، فقد بطل الانتفاع بنص القرآن، فبطلت أكثر الشرائع المفترضة علينا منه، فإذن لم ندر صحيح مراد الله تعالى منها) . (1)
وحاولوا إثبات موقفهم من السنة، وتأكيد آرائهم الموروثة فيها عن السابقين، وبخاصة المستشرقين، بالاستناد إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر بكتابة الحديث، بل نهى عن ذلك، وأن الصحابة والتابعين لم يولوه العناية اللازمة من أجل جمعه وتدوينه، فصار بسبب ذلك ما وصل إلينا منه بعد التدوين ظني الثبوت، لا يصح الاحتجاج به. ويؤيد هذا الموقف ويدعو إلى الالتزام به قوله جل وعلا في الرد على المشركين:{إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} [الأنعام: 148] وتوجيهه أمره سبحانه لنا بقوله: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] .
وهذا الكلام ظاهر البطلان؛ لأن النهي عن كتابة الحديث في زمن الرسول كان من أجل عدم اختلاط الكتاب بالسنة، والأصل المنزل به القرآن بما يتصل به من بيان أو تفسير من الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو قاعدة عامة اقتضاها ظرف خاص وحالة معينة. وقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم أذن لبعض الصحابة بكتابة الحديث، والشواهد على هذا مثبتة في كتب العلم. أما الصحابة والتابعون فكانوا يتلقون ويتحملون مباشرة عن النبي، أو عن الصحابة، وكانوا يعتمدون الحفظ في ذلك الزمان أكثر من الكتابة والخط، وكانوا يتعاونون على الرواية والحفظ، فلم يحتاجوا إلى الجمع ولا إلى التدوين. فلما خشي المؤمنون على ذهاب السنة بذهاب حفاظها أقبلوا على طلبها، وبذلوا في ذلك كل الجهد مع الضبط والتحري. ويكفي ذلك للتأكد من صحة المرويات من الحديث؛ إذ لا يلزم لثبوت الأخبار والجزم بصدورها عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن تكون مكتوبة مدونة، بل يكفي في ذلك أن تكون متواترة أو منقولة عن العدول الثقات الأثبات. وفي الحفظ والضبط في ذلك الوقت غنى عن الكتابة.
ولا يقال: إنها ظنية لا تفيد علماً ولا يجب العمل بها؛ لأن الظن، وبخاصة في الدين، لا يغني عن الحق شيئاً؛ لأن هذا الشرط وإن كان معتمداً في أصول الدين لكفر من جحدها أو شك فيها كالوحدانية والرسالة وأركان الإسلام وما علم من الدين بالضرورة، فإنه غير لازم في الفروع والأحكام كما هو مقرر عند الأصوليين.
(1) ابن حزم: الإحكام: 6/121
وربما سعوا بعد ذلك إلى تأكيد مزاعمهم بأحاديث، فركنوا إلى السنة نفسها يبحثون عن أدلة منها تقتضي عدم اعتماد الحديث إذا كان مخالفاً للقرآن، فتوجب عرضها على القرآن. وذلك مثل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله:((إن الحديث سيفشو عني، فما أتاكم يوافق القرآن فهو عني، وما أتاكم عني يخالف القرآن فليس مني)) (1) وأحاديث أخرى تشبهه. وقد تبين بالرجوع إليها كلها أن أسانيدها منقطعة وأن فيها رجالاً مجهولين ومتهمين، وأن طالب العلم لا يتردد في الجزم بتهافتها وضعفها. وهي معارضة لما ثبت من السنة مما تقدمت الإشارة إليه من أحاديث أبي رافع والعرباض والمقدام بن معد يكرب ومحمد بن المنكدر.
تلك هي الشبهات التي وجهها قالة هذه الفئة إلى السنة. وقد فصلها تفصيلاً الطبيب المصري توفيق صدقي في مقالتين نشرتا له بعنوان (الإسلام هو القرآن وحده) . (2)
وذكر لنا بعض من ترجم له، أنه آب إلى رشده ورجع عن آرائه في آخر عمره. (3)
(1) قال البيهقي: رواه خالد بن أبي كريمة عن أبي جعفر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخالد مجهول، وأبو جعفر ليس بصحابي. فالحديث منقطع؛ السيوطي. مفتاح الجنة: 15
(2)
مجلة المنار س 9، عدد 9/12
(3)
محمد طاهر حكيم، السنة في مواجهة الأباطيل: 57
وقد انضم إليه أحد الأدباء اللامعين خريج القضاء الشرعي وعميد كلية الآداب بالجامعة المصرية سابقاً الدكتور أحمد أمين، ففتح الباب على مصراعيه لنشر آراء جولدزيهر، وبتزويقها أدنى تزويق مع البعد عن المنهجية العلمية، روج بين العامة في حديثه عن السنة (1) آراء وأفكاراً لم يكن أحد يتصور صدورها عن مثله من رجال الأدب العربي والفكر الإسلامي. وهو في اعتقادي لم يتناول جوانب لم يتعرض إليها أسلافه بقدر ما تفلسف فيما وقف عليه منها، أو حاول شرحه وتفصيل القول فيه، بطريقة تجعله في تصور أهل عصره من الباحثين المجددين.
كانت أهم القضايا التي تعرض إليها في فصل الحديث ستة: تدوين الحديث، عدالة الصحابي، الوضع، البخاري وصحيحه، ابن المبارك، النقد. وهذه الموضوعات بعضها آخذ برقاب بعض لشدة الاتصال بينها. وهو في كل واحدة منها، وإن كان أمرها غير خفي، يحاول أن يجعل منها متكأ، بل منطلقاً إلى التشكيك أو ترويج شبهة.
فالتدوين بالقطع لم يكن في عهد الرسول، بمعنى أن الحديث لم يكتب ولم يوضع له كتاب خاص به في ذلك الوقت. وكان الاعتماد فيه على الذاكرة؛ أي: على الحفظ، فلم يكن من الصحابة إلا قليل يكتب لنفسه. ورواية الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته كانت تكثر وتقل بحسب أمزجة الناس، وما اشتهروا به من كراهة التحديث أو رغبتهم في الإكثار منه. وبدل أن يقف أحمد أمين عند هذه المسألة فيبين مدى اعتماد الناس على الذاكرة، وعادة العرب في ذلك، وطرق التحمل للعلم، والاحتياط في الرواية والضبط والحفظ للحديث، يسرع إلى القول بما يؤكد أن الكتابة قيد، وأن الذاكرة خؤون، وأن الصحابة لا يسلمون بصحة حديث حتى يجدوا من الرواة من يشهد له. وقع ذلك كثيراً في عهد الشيخين أبي بكر وعمر، وإذا قامت الرواية في هذا العهد حسب ظنه على الريبة وقلة الاطمئنان، فالأمر يرجع بدون شك في التقدير إلى المحدث الصحابي الذي تتلقى منه الأخبار ويتحمل عنه الحديث، وإلى ما انتشر وينتشر في ذلك الزمان من أحاديث وأخبار لا تعد ولا تحصى كثرة في مختلف الموضوعات والأغراض وما يحتاج الناس إلى معرفته من أمور دينهم ودنياهم.
ومن هذه الجزئية ننتقل إلى أول الأمرين لنرى موقف الكاتب من الصحابة ومدى جواز الاعتماد على ما يروونه ويحدثون به من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول:(وأكثر هؤلاء النقاد، يعني نقاد الحديث، عدلوا الصحابة كلهم إجمالاً وتفصيلاً، فلم يتعرضوا لأحد منهم بسوء، ولم ينسبوا لأحد منهم كذباً، وقليل منهم أجرى على الصحابة ما أجري على غيرهم.)(2) وفي هذه الجملة وما تضمنته من حكم مغالطة؛ لأن نقاد الحديث جميعهم لا أكثرهم مطبقون على عدالة الصحابي. قال الذهبي: (فأما الصحابة رضي الله عنهم فبساطهم مطوي وإن جرى ما جرى
…
إذ على عدالتهم وقبول ما نقلوه العمل، وبه ندين الله تعالى) (3) وقال ابن كثير:(والصحابة كلهم عدول عند أهل السنة والجماعة) . (4)
فالقليل الذي أجرى عليهم ما أجري على غيرهم لم يكن يعد من النقاد ولا من العلماء الصادقين الذين نهضوا بتنقية الحديث مما خالطه وتمييز جيده من رديئة كما زعم أحمد أمين، ولكنه من الفرق السياسية المعروفة بمواقفها من الصحابة وتقسيمها لهم.
(1) فجر الإسلام: 225 - 274
(2)
فجر الإسلام: 265
(3)
رسالة في الرواة الثقات المتكلم فيهم بما لا يوجب ردهم: 4
(4)
اختصار علوم الحديث: 220
وبعد هذا التمهيد ينتقل صاحب فجر الإسلام من الحكم العام الذي دس له وأراد إثباته إلى صورة تطبيقية تلقفها عن أستاذه جولدزيهر فجعل منها مثالاً للطعن والمؤاخذة، يستدل بها أولاً على ما أراده من كون الصحابة مثل غيرهم من الناس، وأن بينهم تفاوتاً، وأن بعضهم ينتقد بعضاً، فيورد دسائسه حول أبي هريرة رضي الله عنه للتهوين من شأنه، وحمل الناس بعد ذلك على الصدوف عن الرواية والشك في الحديث بصفة عامة.
وجملة ما ذكره من ذلك: أن بعض الصحابة كابن عباس وعائشة ردوا عليه بعض حديثه وكذبوه.
وأن بعضهم أكثر من نقده وشك في صدقه.
وأنه لم يكن يعتمد في روايته على الكتابة ولكن على الذاكرة وحدها.
وأنه كان يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويروي عن الصحابة ما قد يكونون انفردوا به من الرواية عنه.
وأن الحنفية تركوا حديثه إذا عارض القياس لأنه لم يكن فقيهاً.
وأن الوضاع استغلوا شهرته بسعة الرواية فزوروا عليه أحاديث كثيرة.
وهذه المطاعن الملفقة لا تثبت بعد فحصها والإمعان فيها. فردود ابن عباس وعائشة على أبي هريرة هي من النقاش العلمي المحض المبني على اختلاف الأنظار في استنباط الأحكام والاجتهاد، وزعمهم مجانبة أبي هريرة الصدق لكثرة ما روي عنه يبطله ما رواه مسلم من قوله:(إن إخواني من الأنصار كان يشغلهم عمل أراضيهم، وإن إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وكنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني، فأشهد إذا غابوا وأحفظ إذا نسوا)(1) وإن في هذه الملازمة لحرزاً وغنى، واعتماده على السماع دون الكتابة هو الظاهرة الغالبة على أهل ذلك العصر، ورواية السماع عند أهل الحديث أولى، وهي مقدمة على الكتابة؛ لبعدها عن طور التصحيف والغلط. وسماعه من الصحابة ما يروونه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو مرسل الصحابي، وحكمه حكم المرفوع. وقد أجمعوا على الاحتجاج به، ورد خبره عند الأحناف يخضع لقاعدة عندهم وليس خاصاً بأبي هريرة. قال فخر الإسلام:(إن كان الراوي من المجتهدين كالأربعة والعبادلة وغيرهم قدم الخبر، وإن كان من الرواة وعرف بالعدالة دون الفقاهة كأبي هريرة فلا يترك خبره بمعارضة القياس إلا عند انسداد باب الرأي كحديث المصراة)(2)
(1) م: 2/1940 – 44 كتاب فضائل الصحابة ح 2492
(2)
نقل السباعي عن مسلم الثبوت. السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي: 315
وأما تزوير الوضاعين فليس مقصوراً عليه، فقد زوروا على عمر وعلي وعائشة وابن عباس وابن عمر وجابر وأنس وغيرهم. فلا حجة فيه.
ولا تنال هذه الدعاوى من مكانة أبي هريرة رضي الله عنه فقد قال الشافعي: (أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره)(1) وقال البخاري: (روى عنه نحو الثمانمائة من أهل العلم، وكان أحفظ من روى الحديث في عصره)(2)
وأما الأمر الثاني المتمثل في انتشار الرواية وكثرة ما يروى من الأحاديث. فهو حجر الزاوية عند بحث قضية الوضع لدى المتقدمين والمتأخرين جميعاً، وهو يضع أمامنا عند تتبع مقالة أحمد أمين عدة أسئلة، نقتصر على ثلاثة منها:
الأول: متى بدأ الوضع؟
الثاني: ما هو القول المعتمد بشأن أحاديث التفسير؟
والثالث: من أين جاءت هذه الأحاديث الكثيرة التي انتقى منها البخاري جامعه الصحيح؟
وهذه الأسئلة أو التساؤلات هي التي تكشف عن مكمن الخطأ وموضع الارتياب الذي يعالج به صاحب فجر الإسلام قضية الحديث والرواية.
فللإجابة عن السؤال الأول يقول المؤلف عن نشأة وضع الحديث: (ويظهر أن هذا الوضع حدث في عهد الرسول، فحديث ((من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)) يغلب على الظن أنه إنما قيل لحادثة زور فيها على الرسول) (3) وهذا الافتراض باطل من وجوه: أولها أن الوحي محفوظ مما قد يداخله أو يختلط به ما دام القرآن ينزل والرسول يبلغ. وقد تكفل الله تعالى لذلك بحماية دينه وسلامة أصول تشريعه من الكتاب والسنة.
(1) الرسالة: 281/372
(2)
الذهبي. التذكرة: 1/33
(3)
فجر الإسلام: 258
فلا يتصور، كما هو يقين هذه الأمة، حدوث الوضع في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو حصل ذلك لبلغ إلينا متواتراً لشناعته وسوء أثره، ولوجوب التنبيه عليه من الرعيل الأول القوي الإيمان الشديد التمسك بالدين. فلا يسكت عن مثله حتى يأمن الناس بوائقه. وعلى صحة هذا الافتراض فأين سبب ورود هذا الحديث؟ ولم لم يتحدث المؤرخون والمحدثون عن ملابساته؟ فكل ما أمكننا الوقوف عليه أن هذا الحديث قاله الرسول صلى الله عليه وسلم عندما طلب من أصحابه أن يبلغوا عنه. فأوصاهم بالتحري، وحذرهم من التقول عليه. وقد جاء هذا الحديث في سياقات مختلفة: رواه البخاري من حديث المغيرة، وهو في الجنائز، ومن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو في أخبار بني إسرائيل، ومن حديث وائلة بن الأسقع وهو في مناقب قريش، (1) ومسلم من حديث علي وأنس وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري، (2) والترمذي من حديث ابن مسعود وعلي وأبى بكر وعمر وعثمان والزبير وسعيد بن زيد وعبد الله بن عمرو وأنس وجابر وابن عباس وأبي سعيد وغيرهم، (3) وأحمد بن حنبل من حديث أبي موسى الغافقي. (4) وليس فيها جميعها دليل يشهد لما ذهب إليه صاحب فجر الإسلام. ولا تنهض دليلاً على ما ادعاه الروايتان الأخريان التي ذكر إحداهما الطحاوي في مشكل الآثار، (5) وثانيتهما التي أوردها الطبراني في الأوسط، (6) وذلك لضعف سنديهما، ونكارة متنيهما، وتعلق الحديث فيهما بتزوير حادث دنيوي خاص بالمزور، ولكون من يروى عنه حصول هذا الحادث له مجهولاً.
أما أحاديث التفسير فإن النتيجة التي توصل إليها المؤلف بعد النظر والبحث هي قوله: (وحسبك دليلاً على مقدار الوضع أن أحاديث التفسير التي ذكر عن أحمد بن حنبل أنه قال: (لم يصح عنده منها شيء) قد جمع آلاف الأحاديث) . (7) فبين ما يروى من أحاديث في هذا الباب وبين حكم الإمام أحمد وهو من هو معرفة بالحديث، بل بين ما يرويه هذا الإمام نفسه في مسنده من أحاديث التفسير، وبين ما نقله عنه أحمد أمين من رأي أو حكم بشأن هذه الأحاديث تقابل مطلق وتناقض كامل.
ولتصوير الحقيقة على الوجه الصحيح لا بد أن نذكر أن من وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم كما صرح بذلك القرآن أن يبين للناس ما نزل إليهم من ربهم. ولا شك في كونه قد قام بذلك على الوجه الأكمل. فكان يبين لأصحابه معاني القرآن كما يبين لهم ألفاظه. روى عنه من تلقى ذلك منه، واتخذوه لهم شرحاً وتفصيلاً وبياناً وتوجيهاً. فلا غرو إذا نقلت عنه أحاديث كثيرة في هذا المعنى. ونحن نعلم تقيد العلماء بها وبالخصوص في المتشابه من القرآن حتى روي عن الشافعي أنه قال:(لا يصح تفسير المتشابه إلا بسنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أو خبر عن أحد أصحابه أو إجماع العلماء)(8) وقال الطبري في شروط التفسير والمفسر: (إن مما أنزل الله من القرآن على نبيه صلى الله عليه وسلم ما لا يوصل إلى علم تأويله إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك تأويل جميع ما فيه من وجوه أمره - واجبه ونهيه وندبه وإرشاده- وصنوف نهيه، ووظائف حقوقه وحدوده ومبالغ فرائضه ومقادير اللازم بعض خلقه لبعض، وما أشبه ذلك من أحكام آيه التي لم يدرك علمها إلا ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته) . (9)
(1) ابن حجر. فتح الباري: 1/164
(2)
ابن حجر. فتح الباري: 1/164
(3)
ت: 5/35 – 42 كتاب العلم، 8 باب ما جاء في تعظيم الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(4)
حم: 4/334
(5)
الطحاوي: 1/164
(6)
السباعي. السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي: 240
(7)
فجر الإسلام: 529
(8)
مختصر البويطي.
(9)
الطبري. جامع البيان عن تأويل القرآن: 1/74
ونعلم أيضاً أن بعض العلماء المتقدمين كان يرى فيما نقله عنه السيوطي: (أنه لا يجوز لأحد أن يتعاطى تفسير شيء من القرآن إلا بما ورد عن الرسول، وإن كان عالماً أديباً متسعاً في معرفة الأدلة والفقه والنحو والأخبار والآثار، وليس له إلا أن ينتهي إلى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم (1) وكل هذا يفسر إقبال أصحاب دواوين السنة على جمع أحاديث التفسير وتدوينها في مصنفاتهم وبين مروياتهم.
والذي يتبين من هذا كله أن ما نقله الكاتب في فجر الإسلام عن الإمام أحمد غير صحيح، إنما صح عنه قوله:(ثلاثة ليس لها أصل: التفسير والملاحم والمغازي)، أو:(ثلاثة كتب لا أصل لها: المغازي والملاحم والتفسير) روايتان.
وفي هذا القول المنقول عنه نفي للصحة لا يستلزم الوضع ولا الضعف. ومن هذا الباب روي عنه قوله: (لا أعلم في التسمية - أي بالوضوء - حديثاً ثابتاً) . قال ابن حجر: (لا يلزم من نفي العلم ثبوت العدم، وعلى التنزل: لا يلزم من نفي الثبوت ثبوت الضعف لاحتمال أن يراد بالثبوت الصحة فلا ينتفي الحسن)(2) وقد يكون المراد من قول الإمام نفي كتب خاصة لهذه العلوم، أو أن ما صح في هذا الباب من الأحاديث قليل وأن الذي يغلب على سائرها، وهو الأكثر، الوضع أو الضعف.
وأما أحاديث البخاري التي انتقى منها صحيح جامعه فإن الاتهام والشك مسلطان على وفرتها وتحديدها بستمائة ألف، كما هو واقع بشأن الصحيح منها. وتساءل الناقد: كيف يصح ذلك؟ وأين ذهبت تلك الأحاديث كلها؟ والجواب عنه: أن أبا زرعة كان يحفظ أكثر من ذلك. قال أحمد بن حنبل: (صح من الأحاديث سبعمائة ألف وكسر، وهذا الفتى قد حفظ سبعمائة ألف)(3) ولا يلزم أن تكون هذه الأحاديث كلها متصلة مرفوعة؛ فقد يكون فيها أخبار وموقوفات وآثار. وقد لا تكون الأحاديث مع هذه الكثرة مختلفة المواضيع ولكنها بضم طرقها المتعددة إليها يزداد عددها ويتضاعف أضعافاً كثيرة.
(1) الإتقان: 2/180
(2)
نتائج الأفكار في تخريج أحاديث الأذكار
(3)
الخطيب البغدادي. تاريخ بغداد: 10/332؛ السمعاني. الأنساب: 6/36
أما زعمه أن ما صح عند البخاري هو أربعة آلاف حديث من غير المكرر لا غير فترده أقوال العلماء. ذكر ابن الصلاح في مقدمته: (فقد روينا عن البخاري أنه قال: ما أدخلت في كتاب الجامع إلا ما صح، وتركت من الصحاح لملال الطول)(1) وروينا عن مسلم أنه قال: (ليس كل شيء عندي صحيح وضعته هاهنا، إنما وضعت هاهنا ما أجمعوا عليه)(2)
وقال ابن كثير: (إن البخاري ومسلماً لم يلتزما بإخراج جميع ما يحكم بصحته من الأحاديث؛ فإنهما قد صححا أحاديث ليست في كتابيهما كما ينقل الترمذي عن البخاري تصحيح أحاديث ليست عنده بل في السنن وغيرها)(3)
ولا يقف كما قدمنا مكر أحمد أمين عند هذا الحد من توجيهه الطعون للسنة وترويجه الشبهات حولها، فيقفز إلى شنعة أخرى يرددها عن المستشرقين هي اتهامهم علماء المسلمين بقصر النظر، والاكتفاء من العلم بالكتاب والسنة والتدبر لهما والتعمق في دراستهما، آخذين في كل شيء بالمنقول أو العلم النقلي دون ما يمكن أن تهدي إليه مسالك المعقول أو النظر العقلي. وقبل القيام بدراسة موضوعية تعينه على تصور مناهج المحدثين في النقد ودراستها يسبق، كما هي عادة من في قلوبهم مرض ممن يريدون فرض تصوراتهم بأي شكل ومن أي طريق، إلى اتهام الأئمة والطعن في مكاناتهم والقدح في أحكامهم، إضعافاً لشأنهم وصرفاً للطلاب والباحثين عنهم.
(1) ابن الصلاح. علوم الحديث: 19
(2)
المقدمة: 20؛ م: 1/304 – 4 كتاب الصلاة، 16 باب التشهد في الصلاة، ح 63.
(3)
اختصار علوم الحديث: 9 -10
فقد أورد في كتابه بشأن عبد الله بن المبارك، الذي عده ابن مهدي أحد الأئمة الأربعة مع الثوري ومالك وحماد بن زيد، وقال عنه النسائي:(لا نعلم في عصر ابن المبارك أجل من ابن المبارك ولا أعلم منه ولا أجمع لكل خصلة محمودة منه)(1) وذكره ابن معين: (ما رأيت من محدث لله إلا ستة، منهم ابن المبارك. وكان ثقة عالماً متثبتاً صحيح الحديث، وكانت كتبه التي حدث بها عشرين ألفاً)(2) قال عنه في معرض حديثه عن الوضاعين: (وبعضهم كان سليم النية يجمع كل ما أتاه على أنه صحيح، وهو في ذاته صادق، فيحدث بكل ما سمع، فيأخذه الناس عنه مخدوعين بصدقه، كالذي قيل في عبد الله بن المبارك إنه ثقة صدوق اللسان، ولكنه يأخذ عمن أقبل وأدبر)(3)
وبهذه الشهادة التي لفقها، وتبرع بها، قصد نقد مقالات الأئمة السابقين في ابن المبارك، أراد أن يركز في أذهان معاصريه ومن يأتي بعدهم أن هذا العالم الناقد كان من الوضاعين وأن به غفلة، وأن سلامة نيته مع صدقه كانا سبباً في رواية الباطل عنه، وانخداع الناس به.
وقد تولى الدكتور السباعي الرد عليه في ذلك، وخطأه فيما أدلى به من كلام مسلم الذي حرفه عن أصله الذي ورد به. وقال: إن عبارة مسلم في الصحيح هكذا: (حدثني ابن قهزاد قال: سمعت وهباً يقول عن سفيان عن ابن المبارك قال: بقية صدوق اللسان، ولكنه يأخذ عمن أقبل وأدبر)(4) و (بقية) لا ثقة هنا هو أحد المحدثين في عصره. فالكلام المستشهد به كان في ترجمة رجل آخر هو بقية، لا مقالة لمسلم يصف بها ابن المبارك. وإذا كان هذا التلاعب أو الخطأ في النقل أصلاً لما يبني عليه من تصورات وأحكام، فإن المترتب على الفاسد فاسد. وتكفي للوقوف على وجوه الرد على هذه المقالة العودة إلى كلام السباعي. (5)
أما اعتماد الحديث بكثرة في الأحكام الشرعية وعدم اللجوء إلى المصادر العقلية في ذلك فالكلام فيه يطول. وهو مبسوط في كتب أصول الفقه، يعرفه كل من شدا مبادئ هذا الفن، أو ألم بصورة مجملة مما حرره العلماء والمؤرخون في كتب التشريع الإسلامي.
(1) ابن أبي حاتم. الجرح والتعديل. المقدمة: 262 - 280
(2)
السيوطي. طبقات الحفاظ: 123 رقم 249
(3)
فجر الإسلام: 260
(4)
السباعي. السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي: 252
(5)
كتاب السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي: 250 - 254
وزعمه أن نقد متون الحديث لم يحظ بكبير اهتمام من علماء السنة كالأسانيد، واقتراحه في هذا العرض وجوهاً وملاحظات لا بد من اعتبارها والالتفات إليها للوثوق بالأخبار تعوزه النظرة الفاحصة، والوقوف على ما كتبه علماء هذا الفن، والاستقراء لما اعتمده النقاد من أصول في علمي التجريح والتعديل، ولما وضعوه في كتب الحديث من قواعد. ولعل الذي حمله على سلوك هذا المنهج حرصه على بث الشك والريبة في قلوب قرائه وعقولهم، لذا أتبع مقالته تلك بأمثلة وشواهد من الأحاديث الصحيحة يعرضها على طريقته في النقد، للحمل على استنكارها وردها، توصلاً إلى هدفه وبلوغاً إلى مقصده من حديثه عن السنة.
وذهب أحمد أمين بعد ذلك بخيره وشره، وترك بمواقفه التي ألمعنا إليها وناقشناها القول في بعضها مدرسة تذهب مذهبه وتردد أقواله من أبرز أعلامها كاتبان:
أولهما د. إسماعيل أدهم الذي أحدث كتابة (تاريخ السنة) ضجة كبرى في الأوساط العلمية والإسلامية، وهو كتاب خطير كذب فيه أحاديث الكتب الصحاح، وتولى د. محمد مصطفى الأعظمي تعقب أقواله والرد عليه في كتابه دراسات في الحديث النبوي (1)
وثانيهما د. محمود أبو رية صاحب كتاب (أضواء على السنة المحمدية) ، وقد اشتهر أمره وكثر الحديث عنه، وقال عنه السباعي:(فلما اطلعت على كتابه هالني ما رأيت فيه من تحريف للحقائق، وتلاعب بالنصوص، وجهل بتاريخ السنة، وشتم وتحامل على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من كبارهم كأبي بكر وعمر وعثمان إلى صغارهم كأنس وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما جميعاً، وقد امتلأ قلبه بالحقد على أكبر صحابي –هو أبو هريرة - حفظ سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ونقلها لأهل العلم من صحابة وتابعين حتى بلغوا كما قال الشافعي ثمانمائة، كل واحد منهم جبل من جبال العلم والفهم والهداية)(2) .
وهو رغم فساد رأيه وخطره على المسلمين في دينهم وعلى الناشئة لم يأت بجديد، فهو يستقي أفكاره وآراءه من مواقف المتقدمين من الزنادقة والمعتزلة وأهل الأهواء، ويستمد اتجاهاته من مواقف المتأخرين من المستشرقين ومن تبعهم من دعاة التحرر من الدين والقول بالرأي فيه، ومن أجل ذلك فلسنا في حاجة إلى مناقشته، بعد كل ما تقدم، ولكننا نكتفي بعرض آرائه ملخصة لحصرها، وتبيين إضافاته لتقرير ما أوحي له بها منها.
(1) دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه: 27
(2)
السباعي، السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي: 464
فهو يبدأ بذكر حقيقة معلومة من الناس جميعاً، هي عدم تدوين السنة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ويستنتج من ذلك أن غيبة التدوين في هذه الفترة أدت إلى انقسام الناس إلى فرق، وإلى اختلاف بينهم في المذاهب، وقد شجع ذلك كله وجود كثير من الأخبار وانتشار الوضع بين أصحاب تلك الفرق.
فإذا عاد بعد ذلك إلى التراث النبوي، وهو الحديث أو السنة جعله نوعين: السنة العملية، والسنة القولية، فالعملية عنده هي السنة المتواترة، وما أجمع عليه المسلمون في الصدر الأول، وما كان معلوماً من الدين بالضرورة، وموقع هذه السنة العملية تال لمحل القرآن، وهما بحسب ما يظهر من قوله مصدرا الشريعة، أما السنة القولية فهي في الدرجة الثالثة، ولا يلزم العمل بها لأنها وإن ثبتت أو صحت لا ترقى إلى القرآن وإلى السنة العملية، فهذان يضعان الدين العام الذي يلزم اعتقاده واتباعه، بخلاف القولية فإنها لا تحدد ذلك، وعلى هذا الأساس فارق كلام العلماء والمجتهدين واعتبر أخبار الآحاد غير ملزمة بالعمل إلا لمن صحت عنده رواية ودلالة، فلا تكون تشريعاً عاماً تلزم به الأمة إلزاماً، تقليداً لمن ثبتت عنده وأخذ بها.
وفي كتابه يعود إلى بعض رجال العصر الأول ممن ورثنا عنهم علماً وحكمة وشريعة وأدباً نبوياً، فيسلك مسلك المستشرقين ومن تبعهم مع أبي هريرة رضي الله عنه، ويصف صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا بكل منقصة وضعة، ويقول: فهو ليس في العير ولا في النفير، وأنه كان مصانعاً في حياته العملية للحاكمين، وأنه حين سئل عن موقفه منهم قال:(علي أعلم ومعاوية أدسم والجبل أسلم)(1) وأنه حدث بأحاديث كثيرة أنكرها عليه معاصروه من الصحابة، ويبطل هذه المقالة ما رواه ابن كثير عن طلحة بن عبد الله من قوله عنه:(والله ما نشك أنه قد سمع من رسول الله ما لم نسمع وعلم ما لم نعلم، إنا كنا قوما أغنياء، لنا بيوت وأهلون، وكنا نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار ثم نرجع، وكان هو مسكيناً لا مال له ولا أهل، وإنما كانت يده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يدور معه حيثما دار، فما نشك أنه علم ما لم نعلم وسمع ما لم نسمع)(2)
(1) أبو رية، أضواء على السنة المحمدية: 156-157
(2)
تاريخ ابن كثير: 8/ 109
وقال الشيخ أحمد محمد شاكر في أول مسند أبي هريرة عندما رد على خصومه ومن تحرش به قديماً وحديثاً: (وما كانوا بأول من حارب الإسلام من هذا الباب، ولهم في ذلك سلف من أهل الأهواء قديماً، والإسلام يسير في طريقه قدماً، وهم يصيحون ما شاؤوا، لا يكاد الإسلام يسمعهم بل هو إما يتخطاهم لا يشعر بهم، وإما يدمرهم تدميراً (1) وينقل إثر ذلك كلمة لأبي بكر بن خزيمة في الرد على من تكلم في أبي هريرة، قال:(إنما يتكلم في أمر أبي هريرة، لدفع أخباره، من قد أعمى الله قلوبهم فلا يفهمون معاني الأخبار)(2) .
فإذا بحثنا عن أسباب هذه المواقف أدركنا أن العامل الدافع له لاتخاذها هو التوصل إلى القول بأن السنة ليست موضع ثقة، وأن كثيراً مما اشتملت عليه يطعن في صحتها، ويرفض كل ما رواه أئمة الحديث المتثبتون وأئمة الفقه المجتهدون من حقائق لا تعجبه، فلا يعتد بجهود العلماء والنقاد في ضبطها وتنقيتها ويتهمهم بالعجز والتقصير قائلاً في سياق التظاهر بعنايته بالحديث:) إن العلماء والأدباء لم يولوه ما يستحق من العناية والدرس وتركوا أمره لمن يسمون رجال الحديث يتناولونه فيما بينهم ويدرسونه على طريقتهم (3) وهو يؤاخذ هؤلاء بقلة سبرهم لغوامض المعقول، ويقدح في علمهم، مفضلاً عليهم الأدباء وعلماء الكلام من المعتزلة، داعياً إلى وجوب عرض نصوص السنة على العقل الصريح لتلافي التقصير والغفلة.
وقد قيض الله للسنة في هذا العصر من يذود المارقين عنها ويبطل مقالاتهم ويرد عليهم الأباطيل والشبه، فكان منهم الشيخ مصطفى حسين السباعي بكتابه: السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي.
محمد عبد الرزاق حمزة بظلمات أبو رية أمام أضواء السنة المحمدية.
عبد الرحمن المعلمي اليماني بالأنوار الكاشفة لما في كتاب أضواء على السنة من الزلل والتضليل والمجازفة.
محمد الغزالي بدفاع عن العقيدة والشريعة.
محمد أبو شبهة بدفاع عن السنة.
عبد المنعم صالح العزي بدفاع عن أبي هريرة.
محمد مصطفى الأعظمي بدراسات في الحديث النبوي.
(1) مسند أحمد، تحقيق أحمد محمد شاكر: 12/ 84-85
(2)
الحاكم المستدرك: 3/ 513
(3)
انظر السباعي، السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي: 7، 27، 34
وقد نال المسلمين في الهند وباكستان مثل ما نال العرب أو أشد منه في ديارهم من حكم استعماري واستغلال أجنبي وخاصة بعد إخفاق ثورتهم التحررية 1857، فأصابهم الانقسام، وشغلتهم الفتن عن حماية معتقداتهم والكفاح عن دينهم، وضعف المدارك وقل العلم العصري وحتى الديني، واخترقت الاتجاهات الفكرية الغربية الاستعمارية وما تولد عنها من حركات وجماعات تكيد للإسلام في تلك القارة، فمن مذاهب وثنية تنتشر عن طريق الهندوس، إلى حركات تنصيرية سافرة العداء،، ومن قاديانية مضللة مبتدعة مفارقة للملة، إلى بريلوية وجراكلوية تقوم على تعطيل مفاهيم الإسلام، وتحريف تعاليمه، وما من شك في أن للمستشرقين في ذلك يداً كما للسياسة الاستعمارية، ذكر السباعي في ملحق: متى نسد هذه الثغرة، (أن هذه الفئة المسخرة من قديم لمحاربة الإسلام عقدت منذ بضع سنوات مؤتمراً للدراسات الإسلامية في لاهور بباكستان دعت إليه فيمن دعت تلاميذها الفكريين في الهند وباكستان، وكان أشد المستشرقين تعصباً وأكثرهم جهلاً الأستاذ الكندي سميث.. وكان مما ألح عليه المستشرقون يومئذ بحث السنة والوحي النبوي، ومحاولة إخضاعهما لقواعد العلم كما يزعمون، وقد انتهى بعض تلامذتهم إلى إنكار الوحي كمصدر للإسلام واعتبار الإسلام أفكاراً إصلاحية من محمد صلى الله عليه وسلم (1)
وإذا أردنا تتبع مسلسل هذه الفتنة في بلاد الهند يكون من الضروري، قبل الحديث عن تلك الحركة العلمية الثقافية التقدمية التي كانت تريد أن تؤلف بين الإسلام والحياة العصرية فأخطأت الطريق وانحرفت عن الكتاب والسنة- أن نشير إلى مؤسسي هذا الاتجاه وهما السيد أحمد خان ومولوي جراغ علي.
(1) السباعي، السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي: 460
1-
الأول: 17/ 10/ 1817 بدلهي – 27/ 3/ 1898 بعليكره، عمل بعد وفاة والده بشركة الهند الشرقية، وتوثقت صلته بالحكم الإنجليزي، فعين مساعداً للقاضي البريطاني بالمحكمة الإنجليزية، وتميزت حياته العلمية بتصنيف الكتب وإصدار المجلات الثقافية والعلمية، كما قام بتأسيس المدارس والمعاهد وجامعة عليكره الإسلامية ونوادي العلوم.
ومن كتبه التاريخية أسباب الثورة في الهند، وكان موالياً فيه للدولة الأجنبية الحاكمة، وله تفسير للقرآن، ومقالات دينية نفث فيها كثيراً من آرائه، فانقسم الناس في شأنه: بعضهم يقصر به عن المقدار الذي يستحقه وينسب إليه العظائم، والبعض الآخر يلقبه بالمجدد الأعظم والمجتهد الأكبر، وإنه في واقع الأمر لكبير الفكر قليل العلم، ليس ملتزماً بتعاليم دينه ولا يقوم بواجباته الدينية (1) فلا غرو بعد ذلك أن ثار بينه وبين علماء عصره ذلك الجدل الحامي لما رأوا من تعاونه مع الإنجليز، ودعوته إلى الأخذ بثقافتهم، وإبدائه في الدين آراء منكرة تتفق وعقليته واتجاهه، ففسر القرآن بهواه، غير ملتزم بدلالات ألفاظه وتراكيبه، وفارق ما أجمع عليه علماء المسلمين في كل العصور بإنكار عدد من الغيبيات، وشتم الفقهاء والمحدثين (2) ولم تكن آراؤه في السنة قائمة إلا على التشكيك في صحتها، وعلى عدم وجوب العمل بما ورد فيها من أحكام؛ لأنها لا تعدو أن تكون أحكاماً اجتهادية لا نصية ولا حتمية.
2-
والثاني وهو مولوي جراغ علي 1844- 1895، من أتباع السيد أحمد خان وتلاميذه، استعان به المستعمرون حين انتبهوا إلى خطورة الجهاد، فسار سيرتهم مع القادياني يطعن في أحاديث الجهاد ويؤولها، كما أول نصوص الإسلام بما يتلاءم مع الحياة الأوربية، ووقف مواقف غريبة من أحاديث كثيرة تتعلق بالحرب، والأسر، والمرأة، مركزاً رأيه في السنة على أساسين:
الأول: (أن القرآن كامل من كل الوجوه، ويواكب سير الحضارة وتطورها، ويرفع متبعيه إلى أعلى درجات الرقي والتمدن، فإن أحسنا تفسيره وتعبيره سلك بنا هذا المسلك، وإن قيدناه بآراء المفسرين ومنهجهم وحصرناه في الروايات فإن الوضع ينقلب رأساً على عقب، فنسير في الهبوط والهاوية بدلاً من التقدم ومسايرة الركب؛ لأن الروايات لم يصح منها إلا القليل، بل جلها فرضيات وأوهام للعلماء، أو أنها دلائل قياسية وإجماعية، وهذا المسلك هو ما يسير عليه قانون الشريعة والفقه، ولا شك أن مثل هذا المسلك يحجز عن الرقي والتقدم ومسايرة ظروف الحياة (3)
(1) بخش، فرقة أهل القرآن: 74- 76
(2)
بخش، فرقة أهل القرآن: 76- 77
(3)
تحقيق الجهاد: 121
والأساس الثاني يكشف عنه هذا الداعي الداعية بقوله: إن المحققين الذين جمعوا الأحاديث وميزوا بين سقيمها وصحيحها خرجوا بأن الحديث مهما قوي سنده لا يمكن الاعتماد عليه، وما ذكر فيه غير حتمي قطعاً، فلو أمعنا النظر في هذه الحقيقة لاضطررنا أن نقول: إن معايير الصدق والأصول العقلية لا حاجة لإقامتها لتميز الحديث؛ لأن الحديث في حد ذاته شيء لا يمكن الاعتماد عليه ولا اعتبار فيما يتحدث عنه) ((1)
فالأستاذ وتلميذه سارا من منتصف القرن الماضي التاسع عشر على منهج في الدراسة والدعوة، فيه زلزلة لقواعد الإسلام ودك لأصوله بالصرف عن السنة صرفاً تاماً، والطعن في الدراسات الإسلامية وبخاصة الشرعية، والدعوة إلى تفسير جديد للقرآن يتأول به على نحو يجعله متماشياً مع أنماط حياة المجتمعات المعاصرة المتطورة، خاضعاً لأهوائها، تحكمه ولا يهيمن عليها، وتغير أفهامه فيفقد روحه وسلطانه، وتبيد مبادئ الإسلام وقيمه عن طريق التحريف، ويصير تابعاً لإرادة الطاغوت محكوماً بها منحرفاً عن الحق، بعيداً عن أداء رسالته الخالدة التي جاء بها محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ربه، ودعا إليها الناس كافة ليملأ الأرض طهراً وعدلاً، ويقيم الموازين بالحق من أجل إسعاد الإنسان والسمو به والصون لكرامته والتحقيق لعزته.
وتلك المحاولة الماكرة التي نلمس آثارها إلى اليوم في الشرق والغرب وتنشرها باستمرار أقلام دعاة الفكر المتحررين، المتقمصين للإسلام خدعة، وللتجديد الديني شعاراً من غير أن يكون لهم به أي ارتباط أو صلة، مضت تغالط العامة وتضلل السذج، في وقت انعدم فيه الوازع من النفوس، وضعفت فيه الثقافة الدينية أو زالت من كثير من الأوساط، واستمرت يرعاها ويسهر على امتداد آثارها في بلاد الهند وباكستان ثلة من المفكرين تلقوا باليمين لواء الضلالة عن السيد أحمد خان ومولوي جراغ علي المتقدمين، برز منها في شرقي الهند ببهار محب الحق عظيم أبادي، وبلاهور من بلاد باكستان غلام نبي عبد الله الجكرالوي.
(1) أعظم الكلام: 1/ 20
3-
ولد الأول في أواخر السبعينات من القرن التاسع عشر وتوفي في أواخر الخمسينات من القرن العشرين، كان في الأول سنياً حنفياً، وانتسب إلى الطريقة النقشبندية، ثم ما لبث أن تحول إلى عضو بارز في حركة القرآن الهدامة، وهو بمكره لم يجابه الناس في سلوكهم الديني، وبقي محافظاً على مظاهر الارتباط بقومه إلى أن ظهرت بعد ذلك نزعته الجديدة، بما نشره من مقالات في مجلة البيان ومجلة طلوع إسلام، وبما صدر عنه من كتب دلت على تذبذبه الفكري العقدي كـ (منهاج الحق) أو على مفارقته للجماعة ومروقه وهو (بلاغ الحق) ، وهذا الداعية وإن كان من الجراكلوي كفرسي رهان إلا أنه لم يشتهر شهرته ولا ذاع صيته مثله، وإن تشكلت، بعد وفاته ومنذ عقد من السنين، فرقة تقتفي أثره وتدعو إلى منهجه الفكر العقدي بأواسط الهند.
4-
أما غلام نبي عبد الله الجكرالوي وليد جكراله بالبنجاب بباكستان في أواخر العقد الثالث من القرن التاسع عشر والمتوفى بميان والي، فقد كان أشد خطراً من محب الحق، وكان أول أمره من طلاب الحديث، تخرج فيه على يد ميان نذير حسين، وبعد مناظرة حصلت بينه وبين ابن عمه القاضي قمر الدين خرج عن قومه متأثراً بالبلبلة الفكرية والعقدية التي أحدثتها ببلده الفرق المتعددة، وأظهر مخالفته لما عليه المسلمون في كثير من أصول عقائدهم، وتبع حسب ما نشره محمد علي مقصوري بمجلة الاعتصام الأسبوعية التوجيهات السياسية البريطانية التي استغلته كما استغلت المرزا غلام أحمد القادياني لإحداث ما أحدثاه من فتنة واضطراب في البلاد، وفي هذه الآونة اتخذ المشروع الإنجليزي نوعاً جديداً من المناورات المناوئة للإسلام، فضمت صفوفه السياسية كثيراً من القساوسة المبشرين، مما مكنها من اصطياد بعض الشخصيات الإسلامية، وإيقاعها في شبكة التحريف ضد الإسلام، كما انضم إلى هؤلاء بعض من يريد الدنيا فحرضتهم السلطات الإنجليزية على أن يقوموا بأعمال تبعد الثقة عن النفوس تجاه الحديث الشريف، ويستغلوا الضمائر المنافقة من المسلمين، وكان على رأس هؤلاء جميعاً عبد الله الجكرالوي، وقد اختاره المسيحيون لأداء هذه المهمة، فرفع صوته بإنكار السنة كلها، وأخذ يدعو إلى هذا المشروع الهدام، وبدأت كتب التأييد والرسائل تصل إليه من المبشرين بالمسيحية، وتعده بالمساعدات المالية، وتشكره على هذا المجهود الجبار (1)
(1) مجلة الاعتصام الأسبوعية، فبراير 1956، 65- 66
ومما يشهد لهذا الاتجاه الذي جرى عليه الجكرالوي قوله معلناً عن موقفه من السنة: (هذا هو القرآن الموحى به وحده من عند الله إلى محمد، وإن ما عداه فليس بوحي) ، ولنشر آرائه أسس 1902 فرقة أهل الذكر والقرآن المحاربة للسنة بلاهور، وألف الكتب بالأردية، نحو أربع عشرة رسالة أو مصنفاً منها: تفسير القرآن بآيات الفرقان، وترجمة القرآن بآيات الفرقان، وصلاة القرآن، وما علم الرحمن بآيات الفرقان، وإشاعة القرآن، والزكاة والصدقات كما جاء في آيات بينات،
…
إلى غير ذلك من الضلالات التي عززت مقالاته في الصحافة والمجلات، وقد كانت مكتبة ربوة القاديانية هي الوحيدة التي احتفظت بكتبه، أما فيما وراء ذلك فقد صودرت وأحرقت فلا تقع اليد عليها في أي مكان، وسبب ذلك الحملة الشديدة التي قام بها علماء الإسلام في الرد عليه؛ دفاعاً عن الملة والدين، ولما أحدثته أقواله وتصريحاته ومقالاته ومحاوراته من تغيير لجوهر الدين وإفساد له، تبرأ المسلمون منه وأنكروا دعوته، وما أحدثه من صفة الصلاة التي جعلها ثلاثاً من غير عصر ولا مغرب، وقصرها في كل مرة على ركعتين، واعتبر ما زاد على ذلك من تعيين الناس لا من تعيين رب الناس، وجعل تكبيرة الإحرام أن تذكر أن (الله كان علياً كبيراً) ، ونقص من الصلاة الرفع من الركوع، وإنما هي ركوع فسجود، ولا يتعدد السجود في الركعة الواحدة، وتنقضي الصلاة بالانتهاء من أذكار السجود، ويصف محمد رمضان الجكرالوي كيفية الصلاة: بالشروع بتكبيرة الإحرام، وقراءة خمس وعشرين آية حصرها لهم من مختلف سور القرآن، ثم يركع بتكبيرة إحرامه الخاصة ويقرأ في الركوع ثلاث آيات، ثم يسجد ويقرأ خمس آيات مختلفة، فإذا تمت الركعة الأولى قام بثانية مثلها، فإذا سجد فيها انقضت الصلاة (1)
ومن أجل ذلك أفتى بكفره أكثر علماء القارة الهندية في باكستان والهند وبنجلاديش، وقامت مجلة إشاعة السنة بنشر توقيعات علماء الدين الذين وقفوا هذا الموقف منه، وحكموا بخروجه عن بوتقة الإسلام، وأنه مقطوع الصلة عن الدين والمسلمين (2) ولم يصده كل ذلك عن محاربة دينه ومحاولة تحريف عقيدة المسلمين من حوله.
(1) بخش، فرقة أهل القرآن: 232
(2)
مجلة إشاعة السنة، مجلد 19 ملحق 7/ 211
5-
وقد خالط الجكرالوي رجل متميز يسايره في الاتجاه، ويعمل مثله لإبطال حجية السنة نظرياً وتطبيقاً هو الخواجة أحمد الدين الأمرتيسري (1861) بأمر تسر بالهند- 1936، تعلم هذا الرجل القرآن في طفولته، وأخذ بحظ من العلوم الإسلامية ثم دخل مدرسة المبشرين فدرس الكتاب المقدس وتعلم الاقتصاد والتاريخ والجغرافيا والرياضيات والفلك والمنطق وعلم النبات وطبقات الأرض، وأصبح بذلك التخرج عجيب التكوين متفهماً لكل الميول، متقبلاً لكل الاتجاهات، يستمد أصول منهجه الفكري من أحمد خان، ويحاور عبد الله الجكرالوي، ويجالس القادياني، ومهما اختلفت الآراء من حوله واشتدت الفتنة استمر الدعامة القوية لتفكير أهل القرآن، فبليونة طبعه استمال الأثرياء والنبغاء والنبهاء الذين انقادوا لنظرياته، وشجعوه على تكوين حزبه أو جماعته الموالية لجماعة أهل القرآن 1926، والتي كان يسميها (أمة مسلمة) ، وبكتابه معجزة القرآن وغيره من المؤلفات مثل أصل مطاع، وتفسير بيان للناس، وبرهان الفرقان، وريحان القرآن، وبمقالاته في مجلة البلاغ، التي أصدرها باسم الجماعة، نشر نظرياته الخاصة وأفكاره، فقامت من حوله جماعة من المحاضرين وأساتذة الجامعات وأعضاء السلك القضائي، كما أيده وناصره وشد أزره محب الحق عظيم أبادي المتقدم الذكر، وكان في صلاته على سنن عبد الله الجكرالوي (صلاة القرآن كما علم الرحمن) والمفروض عنده منها اثنتان في اليوم والليلة لا يتعداهما، ولفرقة أهل القرآن في شؤون الزكاة آراء خاصة تختلف بين جماعاتهم، فمن رأي الجكرالوي إلى رأي أصحاب البلاغ، ومن رأي الخواجة أحمد الدين إلى رأي برويز، ولهم في الصيام أقوال منها أنه لا يلزم حصره في شهر رمضان ويجوز صيام أي شهر شمسي بحسب الظروف والحاجات (1)
وتتميز فرقة الأمرتسري بإنكارها قانون الميراث (الفرائض) ، ودعوتها إلى توريث ابن الابن مع وجود الابن للميت، وجعل الوصية فرض عين على المتوفى لمن شاء من ورثته، وإعطاء الإرث لمستحقه بقطع النظر عن ديانته وحريته، كما لها مواقف خاصة من المعاملات والحدود وغيرها (2)
(1) بخش، فرقة أهل القرآن: 254-255
(2)
بخش، فرقة أهل القرآن: 284-295
6-
الحافظ محمد أسلم جراجبوري 1880 بجراجبور بالهند –28/12/ 1955، ظهر على عقب سلفه الخواجة أحمد الدين الأمرتسري، تعلم القرآن في صغره وحفظه ولذلك لقب من طفولته بالحافظ، وحذق اللسان الفارسي لسان العلوم الإسلامية في بلده وكذا الإنجليزية والعربية، ودرس الرياضيات، وقد ساقته مواهبه في الأول إلى جريدة بيسة اللاهورية 1903 واشتغل بالكتابة فيها، ثم تدرج من مدرس للعربية والفارسية بثانوية عليكره 1906، إلى أمين عام لمكتبتها، ومن هذا العمل الإداري 1921 إلى محاضر بجامعة عليكره الإسلامية، ثم تحول للتدريس بالجامعة الملية، وهو ممن لم يسلم بفرائض الله ونظام المواريث الإسلامي، وكان متأثراً جداً بالخواجة أحمد الدين، يدل على ذلك ترجمته لكتابه معجزة القرآن إلى العربية، ووضعه كتاب محجوب الإرث على غرار ما فعل سابقه، والوراثة في الإسلام، ونشر كتباً كثيرة أخرى بعضها في دقائق القرآن، وتعليم القرآن، وتاريخ القرآن، وعقائد الإسلام، وبعضها الآخر في مكانة السنة في الإسلام، وفي نقد العلوم المستنبطة لخدمة السنة، وبعضها في التاريخ الإسلامي بالأردية وكذا تاريخ نجد وحياة حافظ الشيرازي ونحوها.
وهو إلى جانب دعوته لجماعة أهل القرآن وموالاته لها وإعلانه ذلك في كتبه ومقالاته التي كان ينشرها في عدد من المجلات مثل بلاغ وبيان الأمرتيسريتين والجامعة، وأهل الحديث، وطلوع إسلام، والمعارف، كان اشتراكياً يعتقد أن هذا الاتجاه الفكري السياسي مرتبط أي ارتباط بالإسلام، وكان يدعو إلى تحويل ملكية الأرض إلى الدولة وينوه بالاتحاد السوفيتي قائلاً:(إن الملة الروسية جددت العمل الإسلامي الذي وجد في العهود السابقة، بل أجود منه؛ إذ أطاحت بالرأسمالية وملاك الأرض وأصحاب الإمارات الصغيرة، وهذا معنى لها من كلمة لا إله إلا الله، وهي أول لبنة في الإسلام، وهذا العمل هو عين الامتثال لمبدأ الشهادتين (1)
7-
وقد برز على إثره واشتهر بين أصحاب جماعته غلام أحمد برويز 1903 بتالة القريبة من قاديان بالبنجاب الشرقية، وهو رجل لم يدرس طويلاً ولا تخرج من المعاهد العلمية ولا الجامعة، ولكنه كان نشيطاً وذكياً، انتسب في الأول إلى المطبعة الحكومية واستمر على العمل بها إلى أن أصبح مديراً لها، ورعى مجلة طلوع إسلام التي أصدرها صديقه السيد نذير أحمد 1938، ثم استحوذ عليها فنشر بها الأفكار الإسلامية في الأول.
(1) نوادرات: 115
وكان بها يذب عن الجامعة الإسلامية التي دعا إليها محمد علي جناح، وعمل على دعمها، وبعد الاستقلال تحول من الهند إلى باكستان مع مجلة طلوع إسلام، واستقر بكراتشي حيث أمدته الحكومة بالإعانة، ولم يظهر في الساحة أحد من المعارضين، فكون لطلوع إسلام مراكز ونوادي هنا وهناك، والتفت من حوله نخبة من المفكرين من مثقفين وقضاة وجامعيين ومهندسين، فعقد الاجتماعات والمؤتمرات، وبرزت دعوته لجماعة أهل القرآن في الآفاق متجاوزة حدود الهند إلى البلاد العربية والأوربية وأمريكا، وعين 1956 عضوًا بلجنة التقنين بباكستان ولو لم يستمر بها طويلاً بسبب الانقلاب العسكري الذي قام به أيوب خان، وحين عهد إليه بخطبة الجمعة لحسن نواياه السابقة بمسجد سكرتارية دلهي) أخذ أسلوبه يتلون من يوم لآخر، فبدأ بالتأويل في السنة فالتعريض بها، وأخيراً إنكار حجيتها وعدم الاعتماد عليها في شرع الله عز وجل، ولم يمض وقت طويل على ظهور هذه الأفكار منه حتى استولى الحماس الديني على موسى الفراش بالسكرتارية، فأخذ بتلابيب الخطيب وهدده، ونهاه عن إلقاء مثل هذه الترهات، فلم يعد إلى الخطابة مرة ثانية بذلك المسجد (1)
وإن انتساب برويز الفكري إلى أحمد خان، وعلاقته الوطيدة بالجكرالوي وحركته ليبرزان في وضوح من خلال مقالاته في طلوع إسلام ومعارف، وعن طريق كتبه الكثيرة التي نذكر منها: الأصول القرآنية، والأقضية القرآنية، ومطالب القرآن، ومفهوم القرآن، ولغات القرآن، ولقد اشتعلت الفتنة في لاهور 1958 باتخاذه إياها مقراً دائماً لدعوة طلوع إسلام، ولمواجهة هذه الحركة اتخذ أبو الأعلى المودودي نفس المدينة مقراً للجماعة الإسلامية، فناقش برويز وحذر الناس من اتباعه، وأفتى أركان المدرسة العربية الإسلامية بكراتشي، بعد عرض آرائه وأفكاره على أكثر من ألف عالم من علماء الدين بباكستان والهند والشام والحجاز، بكفره وخروجه عن ربقة الإسلام (2)
ويقول صاحب فرقة أهل القرآن، مجملاً القول في ثقافته ومنهج دعوته:(والحق أن فكر برويز يمتاز بالاطلاع الواسع على الأفكار الأوربية، ويرى وجوب صبغ الإسلام بها، وهو بالإضافة إلى ذلك يعتقد أن النظريات العلمية لا تقبل الجدل والمناقشة، بل يجب تفسير القرآن بمقتضاها، كما أن أسلوبه المشرق في مؤلفاته يخلب قارئه من حيث يذهل عما يدس فيها من الأباطيل، أما التأويل وصرف الكلمات عن معانيها الحقيقية في كتبه فحدث عنه ولا حرج، فما من معتقد إسلامي إلا مسه، قلم برويز بالتأويل بأسلوب لا يفطن إليه إلا متعمق في دراسة العلوم الإسلامية)(3)
(1) قول فيصل: 15
(2)
برويز شاهكار رسالت: 446
(3)
بخش، فرقة أهل القرآن
هذه سلسلة الإفك والضلال، التي توالت حلقاتها ببلاد الهند من أحمد خان إلى برويز، تعطينا صورة عما بذلوه من جهود في محاربة الإسلام، وقد أسس كل واحد منهم بطانة من حوله، وأفسد بتلك البطانة أفواجاً من الناس وأجيالاً، داخل البلاد وخارجها، تأولت الإسلام، وحرفت معاني القرآن، وأنكرت السنة، وغيرت أصول الدين وقواعده، إتلافاً لروح الأمة، وقضاء على الجماعة الإسلامية، وتفكيكاً لوحدتها، وإن قادة الضلال والفكر هؤلاء وإن ولوا بالعار والخزي، وباؤوا بالخسران دنيا وأخرى، قد التقوا جميعاً على الطعن في السنة ومحاربتها مثيرين الشبه الكثيرة من حولها، وهي شبه قد سبقت الإجابة عن أكثرها، لا تحتاج من المؤمن الصادق إلى كبير جهد لدفعها وإبطالها، ولكن {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 1] ، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9) } [محمد: 8-9] .
فمما دعوا إليه الاكتفاء بالقرآن وحده، قالوا: حسبنا كتاب الله، قال الجكرالوي:(إن الكتاب المجيد ذكر كل شيء يحتاج إليه في الدين مفصلاً ومشروحاً من كل وجه، فما الداعي إلى الوحي الخفي؟ وما الداعي إلى السنة؟)(1)
وأنكروا مصدرية السنة وكونها وحياً من الله فقالوا: (يعتقد أهل الحديث أن نزول الوحي من الله عز وجل إلى نبيه عليه السلام قسمان: جلي متلو وخفي غير متلو، والأول هو القرآن، والثاني هو حديث الرسول عليه السلام، غير أن الوحي الإلهي هو الذي لا يمكن الإتيان بمثله، بيد أن وحي الأحاديث قد أتى له مثيل بمئات الألوف من الأحاديث الموضوعة)(2) ، (وأنا لم نؤمر إلا باتباع ما أنزله الله بالوحي)(3)
(1) مجلة إشاعة القرآن، العدد 3/ 49؛ إشاعة السنة: سنة 1902، عدد 19/286؛ حشمت علي خليفة عبد الله، مجلة إشاعة القرآن، ديسمبر: 1927/4
(2)
مجلة إشاعة القرآن سنة 1903، عدد 4/ 35؛ مجلة إشاعة السنة: 1902، 19/235؛ الحافظ محب الحق، بلاغ الحق: 19
(3)
المباحثة: 81؛ مقام حديث: 139
ونفوا حجيتها إخلاصاً منهم لدين الله، وبعداً عن الشرك به، وقالوا:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 57]، قال الخواجة أحمد الدين:(قد وضع الناس لإحياء الشرك طرقاً متعددة، فقالوا: إنا نؤمن أن الله هو الأصل المطاع غير أن الله أمرنا باتباع رسوله، فهو اتباع مضاف إلى الأصل المطاع، وبناء على هذا الدليل الفاسد يصححون جميع أنواع الشرك)(1)
وزعموا أن السنة لم تكن شرعاً عند النبي نفسه وعند صحابته، قال برويز:(ولو كانت السنة جزءاً من الدين لوضع لها الرسول صلى الله عليه وسلم منهجاً كمنهج القرآن، من الكتاب والحفظ والمذاكرة، ولا يفارق الدنيا إلا بعد راحة بال على هذا الجزء من الدين.. فلم يفعل شيئاً لسنته، بل نهى عن كتابتها، وبهذا الرأي صدع الحافظ أسلم ومحب الحق عظيم أبادي من قبل)(2)
وقالوا: (إن المخاطبين من الصحابة هم المطالبون بطاعة الرسول فيما أمرهم به أو نهاهم عنه)، قال الخواجة:(اعلم أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت طاعة مقيدة بزمنه، وامتثال أحكامه لا تتجاوز حياته، وقد أوصد هذا الباب منذ وفاته عليه السلام (3)
وفي توجيه النقد للسنة سنداً ومتناً ما ينفي الالتزام والتدين بها، قال الحافظ أسلم:(إن الأحاديث قد انتقدت علمياً بما أفقدها صفة التدين؛ لأن الأمور الدينية لا يدخلها النقد وآراء الرجال، ولأن الاعتراضات الموجهة للإسلام من غير أهله لا تأتي إلا من الأحاديث التي أقر المسلمون بصحتها، وهي موضوعة الأصل لا صلة لها بالدين)(4)
(1) الجكرالوي. المباحثة: 42
(2)
مقام حديث: 7، 104، 110؛ مطالعة حديث سيد مقبول أحمد: 10
(3)
مجلة البيان، عدد أغسطس: 1951، 32
(4)
مقام حديث: 154
وادعوا أن في اتباع السنة ما يفرق الجماعة المسلمة ويصرف بعضها عن بعض، قال الجكرالوي:(لا ترتفع الفرقة والتشتت عن المسلمين، ولن يجمعهم لواء ولا يضمهم مكتب فكر موحد، ما بقوا متمسكين بروايات زيد وعمرو)(1)، وقال برويز:(قد فاق تقديس هذه الكتب –كتب السنة- كل التصورات البشرية، مع أنها جزء من مؤامرة أعجمية استهدفت النيل من الإسلام وأهله)(2)
ولم يثقوا بنسبة الأحاديث إلى صاحب الرسالة، قال أسلم:(قد كان للعواطف البشرية يد في تصحيح السنة وتضعيفها، وإنا لنرى توثيق الرواة لم ينحصر في الصدق فحسب بل تجاوزه إلى التلمذة والتشيخ، والمشاركة الفكرية، والعواطف والميول الوجدانية)(3)
وقال عبد الله الجكرالوي: (بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بمئات السنين نحت بعض الناس هذه الهزليات من عند أنفسهم، ثم نسبوها إلى محمد صلى الله عليه وسلم وهو منها براء)(4)
وقال أسلم أيضاً: (لا تتجاوز السنة مرحلة أخبار الآحاد طبقاً للأصول التي أقرها المحدثون، ولا تبلغ رواية من رواياتها إلى المتواتر المفيد للعلم واليقين)(5)
ولم تنقطع هذه الدعاوى عن الانتشار في كثير من البلاد الهندية وحتى الغربية والأوروبية بعد انقضاء زعمائها وموتهم.
ويتلخص من هذه الآراء والأفكار اتجاهان اثنان هما: القول بالاكتفاء بالقرآن وحده في أمور الدنيا والآخرة كلها، وإلغاء حجية السنة النبوية في الدين؛ إذ لا مجال لإقحامها فيه.
(1) مجلة إشاعة القرآن، عدد نوفمبر 1906/39
(2)
شاهكار رسالت: 446
(3)
مقام حديث: 125
(4)
ترك افتراء تعامل: 12
(5)
تعليمات قرآن: 102؛ مجلة أهل حديث، أبريل 1936/309
وتتالى أمر هذه الجماعة في العصر الحاضر أربع فرق: فرقة أمت مسلم أهل الذكر والقرآن، وفرقة أمة مسلمة، وفرقة طلوع إسلام، وتحريك تعمير إنسانيت، والمركز الرئيسي لكل واحدة منها بلاهور، ولها مراكز فرعية أخرى كثيرة موزعة على المدن.
والفرقة الأولى فرقة أمت مسلم أهل الذكر والقرآن هي فرقة أهل القرآن التي أسسها الجكرالوي من قبل، جدد نشاطها وبعثها باسمها الجديد من بعده أخص تلامذته به محمد رمضان المتوفى 1939، وهو الذي أصدر باسمها مجلة بلاغ القرآن التي كانت تحمل إلى آفاق باكستان آراء فرقة أهل القرآن، وأكثر أتباعها من العامة والمرضى المعوقين والشيوخ، وقد قام بالإشراف عليها بعد وفاة مجددها محمد علي رسول فكري الشديد العداء للسنة، ولهذه الفرقة الآيلة إلى الانقراض مساجد خاصة بها تؤدي فيها ثلاث صلوات في اليوم والليلة، وما يصدر عنها وعن جملة الأقلام فيها من الكتب والمقالات لا يحمل أسماء أصحابها، ولكنها تنشر جميعها باسم إدارة بلاغ القرآن.
والفرقة الثانية، فرقة أمة مسلمة، هي فرقة الخواجة أحمد الدين التي أسسها بأمر تسر بالهند ثم انتقل بها إلى لاهور بعد الاستقلال 1947، وهي متميزة بفئات من كبار الكتاب والمثقفين، وكانت تصدر مجلتين: الأولى البلاغ التي توقفت عن الصدور 1939، والثانية البيان التي تعطلت في الستينات، وقد انقسم قادة هذه الفرقة، ونضبت مواردها المالية، ولكنها عرفت في الفترة الأخيرة تجديداً لأطرها وتجمعات لأتباعها بكل المدن بباكستان، وهي أكثر أتباعاً من الفرقة الأولى، وكان يذود الخطر عنها مجاملتها للمسلمين في الظاهر وإبقاؤها على الصلوات الخمس وعلى صيام شهر رمضان بأكمله، ودورها الهجومي عنيد عن طريق مجلة فيض الإسلام، وبواسطة الاجتماعات وما يقوم به أتباعها الشبان والمثقفون من جهود في سبيل دعوتهم وخاصة في الإرساليات التي تضطلع بمهمة النصح والإرشاد، وتستعد هذه الفرقة لإعادة إصدار مجلتها السابقة البيان.
والفرقة الثالثة، فرقة طلوع إسلام، هي أنشط الفرق المعاصرة وهي التي أسسها من قبل غلام أحمد برويز بدلهي، وقد أضعفها هجوم علماء الإسلام على قائدها وتكفيرهم له، وبعد فترة استعادت نشاطها وذاع صيتها وأصبح لها بأوربا وغيرها أتباع ودعاة. ويقوم راعيها في العطلة من كل أسبوع منذ أكثر من ثلاثين عاماً بإلقاء درس في التفسير تحضره جمهرة من المثقفين رجالاً ونساء. وتصل أشرطة تسجيل الدروس إلى سائر مراكز الفرقة بأكثر من عشرين مدينة. ولها مجلتها طلوع إسلام التي لم تتوقف عن القيام منذ أكثر من أربعين عاماً، وقد عرفت هذه الفرقة توافد عناصر كثيرة من الفرق الأخرى عليها مثل الأمرتسريين، وأهل الذكر والقرآن. وهي أكبر الحركات أتباعاً؛ ينتسب إليها جمهرة من المثقفين وعدد من أصحاب النفوذ والسلطة.
والفرقة الرابعة، وهي أحدث الفرق نشأة وتكويناً. وتعرف بحركة تعمير إنسانيت، يتزعمها عبد الخالق فالوادة، وينفق عليها من أمواله الخاصة. وقد اشتهر من بين قادتها خطيبها القاضي كفاية الله، وهي حركة متميزة عن غيرها، غير تابعة لأية فرقة من الفرق الأخرى القديمة، وبما تبذله من جهود وتقوم به من نشاط تريد أن تهيمن وتسيطر على غيرها من حركات القرآن السابقة الأخرى. ومما يفسر اتجاه الحركة قول خطيبها القاضي عن الجكرالوي:(إن أفكاره حول السنة لم تتجاوز ما أمر الله به من اتباع ما أنزل الله، وإن لأفكار عبد الله اليد الطولى في القضاء على الجمود العقلي الذي كان مفروضاً على المسلمين قبله) وللقاضي عدة كتب ومؤلفات، منها: القرآن والعقل، وتفسير القرآن بالقرآن، والقرآن والعلوم. وكتبه كلها تطبع طبعاً أنيقاً وتوزع على الناس مجاناً. وليست للحركة صحيفة أو مجلة، وإن كانت تخطط لإصدار صحيفة أسبوعية. وهي تكتفي في الوقت الحاضر بنشر مقالاتها في صحيفة المشرق اليومية. (1)
(1) بخشن. فرقة أهل القرآن: 39-48
ومن هذا الاستعراض المجمل للحركات التي ظهرت ببلاد الهند وباكستان، والتي انتشرت آراؤها وتعاليمها في العالم الغربي وبعض البلاد العربية، لتعود إلينا باللغة العربية وبغيرها من اللغات الحية، مورية نار الفتنة التي أوقدت ببلاد المسلمين عامة، يزداد الخطر المحدق بالإسلام والمسلمين فظاعة، وتظهر من خلاله النوايا المبيتة التي يعمل من أجل تحقيقها أعداؤه.
وهكذا باسم البحث العلمي الذي يدعونه لأنفسهم باطلاً وباسم الإسلام والدراسات الإسلامية التي لا يلمون بشيء منها، يوجهون للفكر الإسلامي أخطر القوارع لدكه من أساسه، وإلغاء ما بينه وبين غيره من مميزات وفروق، قصد طي آثار الحضارة الإسلامية، وإذابة المجتمع الإسلامي، والقضاء على هويته ومقوماته. ودليل ذلك أن حركة إنكار السنة في الشرق والغرب لم تقف عند القول بعدم حجيتها، أو عند الدعوة إلى عدم العمل بها، وإن كان ذلك في ذاته منكراً من القول، وكفراً وتعطيلاً لأحكام الله وشريعته، ولكنها تجاوزت ذلك إلى تأويل القرآن وتفسيره بغير علم، وإخضاعه لما يرونه أو يعتقدونه من اتجاهات أو أفكار، وتصوير الإسلام بما يتفق وأغراضهم، ويخدم ميولهم ومصالحهم، لا بما أراده الله من إرساء قواعد العدل والأمن والسلم والمساواة، وبناء الحياة الإنسانية على المنهج الرباني الذي دعت إليه الرسالة، وحققه الوحي في الصدر الأول من تاريخ الأمة الإسلامية. وكان فيه الإعلان القولي والبيان العملي للناس كافة يردد عليهم النداء:{يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآَمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32) } [الأحقاف: 31 – 32] .
ولعل المؤمنين الصادقين والمسلمين الواعين يقدرون هذه الأوضاع، فيتقدمون بما فرضه الله عليهم من دعوة الناس إلى الحق وإلى صراط مستقيم. قال جل وعلا:{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33] . وإذا وجدوا معارضة أو جحوداً، أو مخالفة قاطعة ونزاعاً في الدين، فإن أمر الله لهم بالمضي في الدعوة قائم:{فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) } [الحج: 67 – 69] . وقد حدد تعالى منهج الدعوة وسبيلها الناجعة في قوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] .
والأمر في هذا المجال غير مقصور على طائفة دون أخرى، أو جهة دون غيرها، بل هي مسؤولية وواجب على المسلمين جميعاً، على الدول الإسلامية وحكوماتها، وعلى أجهزة الثقافة والإعلام بالدول الإسلامية، وعلى الجامعات الإسلامية ومراكز البحث بها، وعلى أئمة الدين والدعاة والخطباء. كل في النطاق الذي يستطيع منه أن يتحرك لحماية الملة؛ ليدافع عن الذين آمنوا بالطريق المتعينة للدفاع:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) } [النساء: 44-45] . وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة
مراجع البحث
- القرآن.
- أحمد أمين. فجر الإسلام. ط. 3، مصر.
- الأعظمي (محمد مصطفى) دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه. الرياض. 1396.
- بخش (خادم إلهي حسين) . فرقة أهل القرآن بباكستان وموقف الإسلام منها. رسالة جامعية. جامعة أم القرى.
- برويز (غلام أحمد) . شاهكار رسالت.
ـ برويز (غلام أحمد) . مقام حديث. ط. 1976.
- البغوي (الحسين بن مسعود) . شرح السنة. تحقيق زهير الشاويش وشعيب الأرناؤوط. ط2. بيروت.
- بلاغ الحق. الهند.
- (يوسف) البويطي. المختصر الأكبر.
- البيهقي. دلائل النبوة. بيروت. 1405.
- ابن تيمية. رفع الملام.
- ت = الترمذي (أبو عيسى محمد بن عيسى بن سودة) . اسطنبول 1981. 5 أجزاء.
- جراجبوري (الحافظ محمد أسلم) . تعليمات قرآن.
- جراجبوري (الحافظ محمد أسلم) . نوادرات.
- جراغ علي. تحقيق الجهاد، ترجمة غلام حسين وعبد الغفور. لاهور. 1312- 1913.
- جراغ علي ونواب يارجنك. أعظم الكلام في ارتقاء الإسلام. ترجمة مولانا عبد الحق. لاهور. 1911.
- الجكرالوي (عبد الله) شرك افتراء تعامل. لاهور.
- الجكرالوي (عبد الله) . المباحثة. لاهور.
- ك = الحاكم النيسابوري. المستدرك على الصحيحين. 4 أجزاء.
- ابن حجر (أحمد بن علي) تهذيب التهذيب. ط1. الهند. 12 مجلد.
- ابن حجر (أحمد بن علي) نتائج الأفكار في تخريج أحاديث الأذكار.
- ابن أبي الحديد. شرح نهج البلاغ. دار إحياء الكتب العربية، مصر 1381.
- ابن حزم. إحكام الأحكام في أصول الأحكام. مصر.
- حكيم (محمد طاهر) . السنة في مواجهة الأباطيل. جدة.
- ابن حنبل (أحمد) حم = المسند؛ تحقيق أحمد محمد شاكر. مصر 20 جزءاً.
- ابن حنبل (أحمد) حم = المسند؛ ط. اسطنبول 1982، 6 أجزاء.
- الخطيب البغدادي (أبو بكر أحمد بن علي) تاريخ بغداد. مصر 1349.
- الدارمي. المسند.
- د = أبو داود (سليمان بن الأشعث السجستاني) . السنن. ط. اسطنبول، 5 أجزاء.
- الدهلوي (شاه ولي الله) حجة الله البالغة. بيروت. جزآن.
- الذهبي (محمد بن أحمد بن عثمان) تذكرة الحفاظ. ط. الهند، 5 أجزاء.
- الذهبي (محمد بن أحمد بن عثمان) . رسالة في الرواة الثقات المتكلم فيها بما لا يوجب ردهم.
- الذهبي (محمد بن أحمد بن عثمان) المختصر.
- الرازي (ابن أبي حاتم) الجرح والتعديل ط. الهند. 1375.
- رشيد رضا (محمد) تفسير المنار.
- أبو رية (محمود) أضواء على السنة المحمدية. مصر.
- السباعي (مصطفى حسني) السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي. مصر، ط. 4.
- السمعاني (أبو سعيد عبد الكريم بن محمد) . الأنساب. ط. بيروت 1980، 10 أجزاء
- سيد قطب. في ظلال القرآن، مصر، 6 أجزاء.
- سيد مقبول أحمد. مطالعة حديث. الهند. 1952.
- السيوطي (جلال الدين عبد الرحمن) . الإتقان في علوم القرآن. مصر. 1354.
- السيوطي (جلال الدين عبد الرحمن) تاريخ الخلفاء. دمشق 1974.
- السيوطي (جلال الدين عبد الرحمن) طبقات الحفاظ. ط1 بيروت، 1983.
- السيوطي (جلال الدين عبد الرحمن) مفتاح الجنة. مصر.
- الشاطبي (أبو إسحاق) . الاعتصام ط. بيروت. جزآن.
- أبو شادي (أحمد زكي) ثورة الإسلام.
- الشافعي (محمد بن إدريس) الرسالة، تحقيق أحمد محمد شاكر، بيروت.
- الشافعي (محمد بن إدريس) المسند بيروت.
- شلتوت (محمود) الإسلام عقيدة وشريعة. مصر.
- ابن الصلاح (أبو عمرو عثمان الشهرزوري. مقدمة علوم الحديث، تحقيق نور الدين عتر، دمشق 1986.
- الطبري (ابن جرير) التفسير. جامع البيان في تأويل القرآن آي القرآن. ط. مصر.
- ابن عاشور (محمد الطاهر) التحرير والتنوير. تونس، 30 جزءاً.
- ابن عاشور (محمد الطاهر) مقاصد الشريعة. تونس.
- ابن عاشور (محمد الفاضل) محاضرة عن التربية مسجلة.
- علي حسب الله. أصول التشريع الإسلامي. مصر.
- علي حسن عبد القادر. نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي. ط. 2، مصر 1956.
- الغارة على الإسلام.
- الغزالي (محمد) دفاع عن العقيدة والشريعة ضد مطاعن المستشرقين. ط. 2. 1383/1963.
- القادري (ماهر) قول فيصل. لاهور 1960.
- القاري (علي) . الموضوعات الكبرى. شركة الصحافة العثمانية، اسطنبول بعد 1308.
- القرافي (شهاب الدين أحمد) ، الإحكام في تمييز الفتاوى من الأحكام.
- القرافي (شهاب الدين أحمد) . الفروق ط. مصر، 4 أجزاء.
- ابن قيم الجوزية (محمد بن أبي بكر) زاد المعاد في هدي خير العباد.
- ابن قيم الجوزية (محمد بن أبي بكر) الصواعق المرسلة.
- ابن كثير (أبو الفداء) اختصار علوم الحديث.
- ابن كثير (أبو الفداء) البداية والنهاية. بيروت، 14 جزءاً.
- جه = ابن ماجه (محمد بن يزيد) السنن ط. اسطنبول 1981، جزآن.
- مجلة الاعتصام اللاهورية.
- مجلة إشاعة السنة اللاهورية.
ـ مجلة إشاعة القرآن اللاهورية.
- مجلة أهل حديث الأمرتسرية.
- مجلة البيان الأمرتسرية، اللاهورية.
- مجلة المنار.
- م = مسلم (بن الحجاج القشيري النيسابوري) . الصحيح. ط. اسطنبول، 3 أجزاء.
- مالك (بن أنس) . ط = الموطأ. ط. اسطنبول، جزآن.
- الندوي. الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية ط. 3، القاهرة.
- ن = النسائي (أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب) . السنن ط. اسطنبول 1981، 8 أجزاء.
- النووي (محيي الدين أبو بكر بن شرف) شرح مسلم. 18 جزءاً.