المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌بطاقات الائتمانإعدادالشيخ حسن الجواهري - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ٨

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد الثامن

- ‌الأخذ بالرخص الشرعية وحكمهإعدادالدكتور: وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌موضوع: " الأخذ بالرخص الشرعية وحكمه

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادالدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادالشيخ خليل محيي الدين الميس

- ‌الرخصة (التلفيق)إعدادالشيخ خليل محيي الدين الميس

- ‌التلفيق والأخذ بالرخصة وحكمهماإعدادحجة الإسلام الشيخ محمد علي التسخيري

- ‌الأخذ بالرخص الشرعية وحكمهإعدادمحمد رفيع العثماني

- ‌حكمالرخصة وتتبع الرخصفي الفقه الإسلامي

- ‌الأخذ بالرخصةإعدادأ. د. حمد عبيد الكبيسي

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادالشيخ مجاهد الإسلام القاسمي

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادأ. د. عبد العزيز عزت الخياط

- ‌الرخصةإعدادالشيخ محمد الشيباني بن محمد بن أحمد

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهتتبع الرخص – التلفيق ورأي الفقهاء فيهإعدادفضيلة الشيخ مصطفى كمال التارزي

- ‌الأخذ بالرخص وحكمهإعدادالشيخ الطيب سلامة

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادالدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين

- ‌الأخذ بالرخص وحكمهإعدادالدكتور أبو بكر دوكوري

- ‌بيع العربُونإعدادفضيلة الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌بيع العربُونإعدادالدكتور وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌بيع العربونإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌بيع المزايدةإعدادفضيلة الشيخ محمد المختار

- ‌عقد المزايدةبين الشريعة الإسلامية والقانوندراسة مقابلةمع التركيز على بعض القضايا المعاصرةإعدادعبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان

- ‌قواعد ومسائلفيحوادث السيرإعدادالقاضي محمد تقي العثماني

- ‌ موضوع "حوادث السير

- ‌حوادث السيرإعدادد. عبد الله محمد عبد الله

- ‌حوادث السيرإعدادالشيخ عبد القادر محمد العماري

- ‌حوادث السيرإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌التطبيقات الشرعيةلإقامة السوق الإسلاميةإعدادالدكتور علي محيي الدين القره داغي

- ‌التطبيقات الشرعيةلإقامة السوق الإسلاميةإعدادالأستاذ الدكتور / علي السالوس

- ‌الائتمان المولد على شكل بطاقةمع صيغة مقترحة لبطاقة ائتمانية خالية من المحظورات الشرعيةإعدادسعادة الدكتور محمد القري بن عيد

- ‌بطاقات الائتمانإعدادالشيخ حسن الجواهري

- ‌سر المهنة الطبية بين الكتمان والعلانيةإعدادالدكتور أحمد رجائي الجندي

- ‌مسؤولية الطبيبإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌مداواة الرجل للمرأةوالمرأة للرجلإعدادالدكتور محمد علي البار

- ‌نقص المناعة المكتسبة (الإيدز)الأحكام المتعلقة بالمرضى والمصابينإعدادأ. د. مصطفى عبد الرؤوف أبو لسان

- ‌بعض المشاكل الأخلاقية والاجتماعيةالناتجة عن مرض الإيدز(نقص المناعة المكتسبة)إعدادالدكتور محمد علي البار

- ‌مرض الإيدز(نقص المناعة المكتسبة)أحكامه وعلاقة المريض الأسرية والاجتماعيةإعدادالدكتور سعود بن مسعد الثبيتي

- ‌التداوي بالمحرماتإعدادالدكتور محمد علي البار

- ‌بحوث مجمعية

- ‌حُسن وفاء الديونوعلاقته بالربط بتغير المستوى العام للأسعارإعدادالدكتور صالح بن زابن المرزوقي البقمي

- ‌ربط الأجور بتغير المستوى العام للأسعارفي ضوء الأدلة الشرعيةإعدادد. حمزة بن حسين الفعر

- ‌الربط القياسي للأجور بالمستوى العام للأسعارتحليل من منظور إسلامي لمشكلة الأجورفي ظل التضخم والعلاج المقترحإعدادد. عبد الرحمن يسري أحمد

- ‌التضخم والربط القياسيدراسة مقارنة بين الاقتصاد الوضعيوالاقتصاد الإسلاميإعدادالدكتور شوقي أحمد دنيا

- ‌ربط الأجور بتغير المستوى العام للأسعاربين الفقه والاقتصادإعدادد. محمد أنس الزرقا

- ‌ندوة قضايا العملةالربط القياسي للديون بعملة اعتباريةإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌ملاحظات أساسيةفي مسألة ربط الأجور والمستحقاتإعدادالدكتور سيف الدين إبراهيم تاج الدين

- ‌مشاكل البنوك الإسلاميةمحاورإعدادمجموعة دلة البركة

- ‌مشاكل البنوك الإسلاميةمحاورإعدادبيت التمويل الكويتي

- ‌الصعوبات التي تواجه البنوك الإسلاميةوتصورات لكيفية مواجهتهاإعدادأ. د. إسماعيل حسن محمد

- ‌مشاكل البنوك الإسلاميةعقد السلم ودوره في المصرف الإسلاميإعدادالشيخ صالح الحصين

- ‌مشكلات البنوك الإسلامية في الوقت الحاضرإعدادد. محمد نجاة الله صديقي

- ‌في مشكلات المصارف الإسلاميةإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌حكم المشاركة في أسهم الشركات المساهمةالمتعاملة بالرباتجربة مجموعة دلة في أسلمة الشركاتعن طريق شراء أسهمهاإعدادالشيخ صالح عبد الله كامل

- ‌المشاركة في شركات تتعامل بالحرامإعدادالشيخ عبد الله بن بيه

الفصل: ‌بطاقات الائتمانإعدادالشيخ حسن الجواهري

‌بطاقات الائتمان

إعداد

الشيخ حسن الجواهري

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله وصحبه الميامين.

بطاقات الائتمان

نبذة تاريخية للبطاقات المصرفية:

إن البطاقات المصرفية (أعم من بطاقات الائتمان) مثل بطاقة الاعتماد والملاءة كان وجودها نتيجة لتطلع المجتمع إلى إيجاد نظام متطور ومأمون لتسديد الديون والمقاصة وإنجاز التبادلات التجارية.

وكان هذا الحديث قد زامن مطلع القرن التاسع عشر، وقد ابتكرته شركات عالمية مثل شركة "سترن يونين" في أمريكا سنة 1913م لتسهيل أعمال عمالها، ثم تبعتها على ذلك شركات النفط وسكك الحديد وبعض الفنادق والمحلات التجارية، ولكن ضمن حدود خاصة ولبعض العمال.

وفي سنة 1923م قامت شركة "جنرال بتروليوم كوربويشن" في كاليفورنيا بإصدار أول بطاقة ائتمان حقيقية، توزع على الجمهور لدفع قيمة البنزين المهم على أن تسدد المبالغ المترتبة عليهم في تواريخ لاحقة.

ص: 1063

ثم تقدمت البنوك – نتيجة نجاح فكرة الدفع بالبطاقة الائتمانية - لإصدار بطاقات الائتمان، وتشكلت منظمة غير ربحية ينضوي تحت لوائها البنوك التي ترغب بإصدار بطاقة خاصة بها وسميت هذه المنظمة "الفيزا"(1)

وكانت مهمة منظمة الفيزا ما يلي:

1-

قبول طلبات البنوك في إصدار بطاقة خاصة بها أو رفضها.

2-

تزويد البنوك الأعضاء بالخبرة الفنية لإصدار البطاقات.

3-

تقديم الخدمات بين البنوك الأعضاء في حالات المراسلة الخاصة بالمنظمة والمقاصة والتسديد وفي عمليات التفويض.

4-

تطور خدمات البطاقات مع تزويد البنوك الأعضاء بها.

والخلاصة: أن "منظمة الفيزا" تسعى لخدمة البنوك الأعضاء التي تصدر البطاقة لهم من الناحية الإدارية والفنية والخدماتية وتتكون إدارتها من ممثلي البنوك الأعضاء.

(1) الفيزا: منظمة تقبل بطاقة الائتمان المرتبطة بها أكثر من مائة وستين دولة في العالم، وبعبارة أخرى: تقبل بطاقة الائتمان المرتبط بهذه المنظمة أكثر من ستة ملايين مؤسسة، تشمل شركات الطيران والفنادق والمطاعم والمحلات التجارية والنوادي ووكالات تأجير السيارات وغير ذلك

ص: 1064

ما هي بطاقات الائتمان؟

إن بطاقة الائتمان: هي سند يعطيه مصدره لشخص طبيعي أو اعتباري بناء على عقد بينهما يمكنه من شراء أو بيع السلع، أو غيرها من الحصول على الخدمات أو تقديمها.

ومن فوائده: سحب النقود من البنك على حساب المصدر.

وهذا التعريف لبطاقات الائتمان عبارة عن عقدين:

1-

عقد بين المصدر للبطاقة وبين الحامل لها، يتضمن حدًّا أقصى للائتمان وشروط العلاقة بينهما، فالبنك تعهد بإعطاء ما يشتريه عميله بالبطاقة مثلًا (من حساب العميل إن وجد، أو من حساب البنك المصدر إن لم يوجد للعميل رصيد كافٍ عند البنك) ، وفي مقابل ذلك تعهد حامل البطاقة (العميل) بالسداد في وقت محدد كشهر مثلًا.

ومن الواضح هنا أن هذا العقد هو عقد صحيح (يشمله){أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} لعدم اختصاص الآية بالعقود التي كانت وقت نزوله بل تشمل كل ما يراه العقلاء عقدًا وعهدًا ما لم ينه عنه من قبل الشارع، والمفروض عدم النهي هنا لعدم الضرر (الخطر) وعدم الجهالة اللذين يبطلان العقد؛ حيث إن البطاقة مشتملة على سقف ائتماني معين لا تتعداه، فلا خداع ولا خطر في البيع، فإن حصل الشراء أو تلقى الخدمة أو سحب نقدًا معينًا فإن الوثائق التي تدل على هذه الأمور قد تبودلت بينهما وعلم كل منهم بما هي وظيفته، وثانيًا: أن هذا التعهد من البنك للحامل هو عبارة عن أداء دين شخص نيابة عنه، فإذا تعهد البنك أداء دين حامل البطاقة بمال نفسه أو بمال البنك المصدر ويرجع عليه بعد ذلك، مع أجرة على هذا التسديد والأداء، وقد قبل حامل البطاقة هذا التعهد، فإن هذه العملية هي من مصاديق العقد العقلانية، وقد قام الارتكاز العقلاني على أن كل عقد بما أنه عقد وعهد وجب الوفاء به ما لم يندرج تحت أحد النواهي المعينة.

ص: 1065

وبعبارة أخرى: إن هذا التعهد من البنك لحامل البطاقة هو عبارة عن جعل مالية المال المشترى مثلًا في عهدة مصدر البطاقة، وهذا معنى مشروع للضمان يمكن إنشاؤه مستقلًّا.

2-

عقد بين المصدر للبطاقة وبين من يعتمدها من مؤسسات وشركات ومصارف، يتضمن شروط العلاقة بينهما، والعلاقة هي أن يقوم البنك بإعطاء التاجر ثمن البضاعة أو الخدمة التي قدمها إلى حامل البطاقة، محسومًا منها نسبة معينة، وقد تبلغ البطاقة حدًّا من الاعتبار تبيح بيع السلع أو تقديم الخدمات لحامل البطاقة بلا حاجة إلى عقد ينشأ بينهما، ويكون الدافع لثمن البطاقة نائبًا عن المصدر لها حسب ضمانه لقيمتها.

وقد ذكروا (1) عدم وجود أي صلة بين حامل البطاقة والمؤسسة التجارية بحيث لو فرضنا أن المؤسسة التجارية لم تحصل على الثمن من المصدر للبطاقة، فلا يحل لها أن ترجع على الحامل للبطاقة لتسديد حقها، وسوف يتضح أن العمل الخارجي لهذه البطاقات ليس كذلك، بل هناك ارتباط ثالث بين المؤسسة التجارية والعميل لم يظهر للخارج لوجود البنك الذي يتولى التسديد بما أنه ضامن للعميل (أو محال عليه من قبل العميل) قيمة ما أخذه، وهنا لابد لنا من تفسير الضمان (أو الحوالة) بما قاله الإمامية من أنه عبارة عن نقل الدين من ذمة العميل إلى ذمة البنك المصدر للبطاقة حتى يكون العميل بعد شرائه أجنبيًّا وليس مدينًا للمؤسسة التجارية، أما على تفسير أهل السنة الذي يقول بأن الضمان عبارة عن ضم ذمة إلى ذمة، فيبقى العميل له ارتباط بالتاجر، ويتمكن التاجر أن يرجع عليه في تسديد الثمن.

أطراف بطاقات الائتمان:

ذكروا أن لبطاقات الائتمان أطرافًا هي:

1-

شركة عالمية أو بنك عالمي يرعى البطاقة.

2-

وكالات محلية للشركة العالمية، أو فروع للبنك العالمي تستخدم للوساطة بين الشركة العالمية والعملاء.

(1) هو الدكتور عبد الستار أبو غدة عند عرضه لبحث بطاقات الائتمان في مجمع الفقه الإسلامي في دورته السابعة لسنة 1412هـ في ذي القعدة الحرام، المنعقدة في جدة

ص: 1066

3-

أصحاب المتاجر (المؤسسات التجارية) والخدمات (وهم من يتعاملون مع هذه البطاقة) .

4-

حملة البطاقة، وهم العملاء الذين يشترون أو يحصلون على خدمات البطاقة قدر حاجتهم.

والعلاقة بين هذه الأطراف الأربعة بصورة مجملة كالآتي:

أ- تتفق الشركة العالمية مع الوكالات المحلية (أو يتفق البنك العالمي مع فروعه) لإصدار البطاقة لكل من يتعامل بها سواء كان عضوًا مشتريًا، أو طالبًا لخدمة، أو عضوًا بائعًا أو عارضًا للخدمة.

ب- يتقدم حامل البطاقة (المشتري) إلى صاحب المتجر (البائع) أو يتقدم من يريد الخدمة فيتسلم ما أراد لقاء الالتزام بالدفع عن طريق الشركة أو البنك بتوقيع القسيمة مع إعطاء صورة البطاقة (مشخصاتها) .

ج- يتقدم صاحب المتجر أو الخدمة بالإشعار الموقع من حامل البطاقة إلى البنك (1) أو الشركة، وحينئذ يتسلم من البنك العالمي أو الشركة العالمية أو فروعها ثمن البضاعة أو الخدمة.

(1) قد يكون بنك التاجر الذي يضع التاجر قسيمة البيع عنده ليتسلم ثمنها هو بنك المصدر أيضًا، فيكون العميل والتاجر كلاهما قد ارتبط بالبنك المصدر للبطاقة، وأحيانًا يكون بنك التاجر غير البنك المصدر للبطاقة، ولكنه مخول من قبل البنك المصدر للبطاقة بتسديد دين التاجر والرجوع عليه، فحينئذ يقوم بنك التاجر غير البنك المصدر للبطاقة، ولكنه مخول من قبل البنك المصدر للبطاقة بتسديد دين التاجر والرجوع عليه، فحينئذ يقوم بنك التاجر بتسديد قيمة القسيمة ويرجع على البنك المصدر في الاستيفاء، وحينئذ يقسم ما يخصمه بنك التاجر (من ثمن البطاقة) بينه وبين البنك المصدر كأجر على عملهما

ص: 1067

د- تقوم الشركة أو البنك بإرسال صورة المشتريات بالبطاقة للعميل مطالبة إياه تسديد ثمن ما دفعته الشركة أو البنك على شكل دفعات منتظمة أو غير منتظمة، أو يقوم البنك بخصم ذلك المبلغ من حساب عميله إذا كان صاحب حساب دائن عند البنك.

هـ- إذا تأخر حامل البطاقة (المستفيد) عن سداد التزاماته في الفترة المحددة المسموح بها في العقد، فإنه يحسب عليه فائدة من أجل التأخير وهي فائدة مركبة.

و إذا لم يسدد حامل البطاقة التزاماته وما ترتب عليه فسوف توضع البطاقة في قائمة منع الاستخدام إلى أن تتم المحاسبة بين البنك والعميل.

أقسام بطاقات الائتمان

وتقسم بطاقات الائتمان تقسيمات متعددة بملاحظة أخذ رسوم في مقابلها، أو اشتراط فتح حساب لدى البنك، أو تحديد زمن التسديد، أو غير ذلك، وعلى هذا فقد تقسم بطاقات الائتمان إلى:

1-

بطاقات يؤخذ رسوم اشتراك في مقابلها.

2-

بطاقات لا يؤخذ رسوم اشتراك في مقابلها.

وقد تقسم بطاقات الائتمان إلى:

1-

بطاقات تطلب فتح حساب في البنك الذي يصدرها.

2-

بطاقات لا تطلب فتح حساب في البنك الذي يصدرها.

وقد تقسم بطاقات الائتمان إلى:

1-

بطاقات توجب الدفع خلال شهر واحد من الاستفادة منها.

2-

بطاقات لا توجب الدفع خلال شهر واحد من الاستفادة منها ولا تحدد عليه الدفع فورًا، بل إذا دفع فورًا فهو، وإلا وضعت عليه فوائد.

وقد تقسم بطاقات الائتمان إلى:

1-

بطاقات توجب الدفع الفوري لكل المبلغ لمدة معينة.

2-

بطاقات لا توجب ذلك، بل تقسط دفع المبلغ إلى آجال متعددة.

وهناك بطاقات تقسم حسب امتيازها العالي والمتوسط والعادي، مثل البطاقة الذهبية والماسية والخضراء، فالذهبية تمنح لمن يتمتع بكفاءة عالية من العملاء، وليست محدودة بسقف ائتماني محدد، وتتميز بكون صاحبها مضمونًا من قبل المصدر لها والذي عنده حساب دائن فيه.

ص: 1068

فائدة بطاقات الائتمان:

لقد أصبح لبطاقات الائتمان في المجتمعات الحديثة شأن كبير، ومن الأساسيات، أما في البلاد الإسلامية فهي على مستوى بعض الأفراد مهمة في سفره حيث تحقق له فوائد كبيرة سوف نذكرها فيما بعد، وهي مهمة جدًّا بالنسبة للتاجر الذي يعرض سلعته وخدماته، كما أنها مفيدة للبنك الذي يصدرها، وإليك الفوائد مفصلة شيئًا ما:

أ- فائدة البطاقة للعميل:

1-

تحقق للعميل سهولة وأمانًا على الأموال من حملها معه، فتتعرض للسرقة أو الفقدان، أو يتعرض هو للهجوم والسطو المسلح.

2-

تمكنه من شراء ما يبدو له شراؤه في ظروف مفاجئة لم يستعد لها، بحمل ما يقابلها من الأموال.

3-

تيسر لحاملها السداد بأي عملة كانت، وبهذا يستريح العميل من إجراءات دخول العملات وخروجها في بعض البلاد التي بها قيود على تحويل العملة أو منع خروجها أو دخولها.

4-

أنها تحمل معها وسيلة المحاسبة وضبط المصاريف وتوثيق السداد للمطالبات.

5-

تزود حاملها بتسهيلات نقدية في أي دولة كانت ضمن حدود ممنوحة له عند طلبه.

6-

إن بعض بطاقات الائتمان تخول العميل سحب نسبة من النقد من فروع البنك الذي يتعامل معه أو بنوك أخرى تتعامل معه، بمراجعة البنك أو أجهزة الصرف الآلي أو أنظمة التحويل الإلكتروني، وهنا تؤخذ عملة تقسم بين شركة البطاقة والبنوك التي لها دور في عملية الاستخدام إن وجدت، وهذه العملية تقلص الوقت الذي يبذل في تحقيق الخدمة نفسها يدويًّا عن طريق البنوك الفرعية أو التي تتعامل مع البنك العالمي لمصدر البطاقة الائتمانية.

7-

قد يلتزم التاجر بتخفيض ثمن السلعة (لحامل البطاقة) عن السعر السوقي، حسب الالتزام مع الجهة المصدرة للبطاقة.

ص: 1069

8-

إن بعض البطاقات تمنح صاحبها التأمين على الحياة كالبطاقات الذهبية، وتمنحهم إضافة إلى ذلك حدودًا ائتمانية عالية، وخدمات أخرى دولية فريدة كأولوية الحجز في مكاتب السفر والفنادق والتأمين الصحي والخدمات القانونية.

9-

إن بعض البطاقات تدفع جوائز وهدايا لعملائها بطريقة القرعة ترغيبًا لهم على الحصول على بطاقة الائتمان عند هذا البنك المصدر لها، فيدفع البنك لمن أصابته القرعة مبلغًا من المال بعنوان الجائزة.

10-

إن ضياع بطاقة الائتمان يوجب ضمان مسؤولية محددة فقط كمبلغ من المال، إذا أبلغ الجهة المصدرة بضياع البطاقة فورًا، حتى لا تستخدم هذه البطاقة من قبل الآخرين بصورة غير مشروعة، وطبعًا في حالة الاطمئنان بعدم وجود تواطؤ بين حامل البطاقة ومن استخدمها بصورة غير مشروعة، وهذا الشرط لا حاجة له، إذ أن عنوان ضياع البطاقة أو سرقتها يكفي لذلك.

ب- فائدة البطاقة للتاجر:

هناك فوائد كثيرة للتاجر يمكن تلخيصها على النحو التالي:

1-

يستقطب التاجر عملاء جددًا، وبنوعية جيدة، وثقافة عالية.

2-

تخفف على التاجر مخاطر الاحتفاظ بمبالغ نقدية كبيرة في متجره، فيأمن من السرقة أو السطو المسلح.

3-

البنك يضمن للتاجر تغطية المبالغ الناشئة من استعمال بطاقة الضمان عند تقديم المستندات بصورة صحيحة.

ج- فائدة البطاقة للبنك:

إن البنك التجاري يحصل من البطاقة على دخل له، وذلك من خلال:

1-

استيفاء رسوم إصدار البطاقة (رسوم العضوية) ، ومنحها.

2-

استيفاء رسوم تجديد البطاقة حيث تكون صلاحيتها لسنة واحدة.

ص: 1070

3-

رسم تبديل البطاقة عند الضياع أو التلف أو السرقة.

4-

رسم التجديد المبكر، وذلك عند طلب العميل تمديدها قبل موعد الانتهاء بسبب سفره عند حلول التجديد.

5-

تحصيل البنك على نسبة من ثمن البضاعة يستوفيها من التاجر (حسب الاتفاق معه) عند تسديده لقيمة قسيمة البيع أو الخدمة، كما قد يحصل على نسبة من الثمن عند تسديد العميل ما كان عليه كأجر على تسديد البنك دينه الذي للتاجر.

6-

الحصول على فرق سعر العملة الأجنبية (إذا كان التسديد بها) عند تحويله عملته المحلية إليها، فهو يأخذ فائدة بيع الصرف عندما يسدد بالدولار ويستلم بالدينار.

7-

يأخذ أجرًا على وفاء دين العميل خارج البلد أو مطلقًا (حسب قرارات البنك) .

8-

غرامات التأخير عند عدم سداد ما على العميل حسب الوقت المحدد (الفائدة) .

9-

البنك يحصل على نسبة من الثمن في مقابل استخدام جهازه الآلي، أو نظام تحويله الإلكتروني عند سحب نقود معينة بواسطة البطاقة الائتمانية إذا كانت مخولة لذلك، وهذه النقطة بالذات توفر إمكانات ائتمانية جديدة للعملاء، مما يؤدي لزيادة عائدات البنك المصدر للبطاقات الائتمانية.

10-

يأخذ البنك عمولة على دفعه النقود لبطاقة ائتمان أجنبية مرتبطة بمنظمة الفيزا.

كيف تتم المعاملات التجارية ببطاقة الائتمان؟

ونعرض عليك صورة مفصلة بعض الشيء عن المعاملات التجارية التي تتم بواسطة بطاقة الائتمان وهي تتم ضمن مراحل:

المرحلة الأولى: عند شراء حامل البطاقة سلعة أو تلقي خدمة في أي مكان كان، فإن التاجر أو صاحب الخدمة الذي يقبل التعامل بالبطاقة يقوم بتسجيل العملية على قسيمة البيع، ويعطي نسخة منها إلى حامل البطاقة مع وضع علامة البطاقة على جميع نسخ القسيمة بواسطة آلة بسيطة.

ص: 1071

المرحلة الثانية: يقوم التاجر بإيداع أصل القسيمة التي حصل بها في حسابه لدى البنك الذي يتعامل معه لأجل أن يحصل قيمتها (سواء كان هو البنك المصدر للبطاقة أو لا، كما في بنك التاجر الذي يقوم بعملية تحصيلها من البنك المصدر لها) فإن بنك التاجر يقوم بتقاضي نسبة من ربح التاجر متفق عليها، بعد أن يضع في حساب التاجر قيمة القسيمة (مخصومًا منها النسبة التي يتقاضاها من التاجر حسب الاتفاق) ضمن ثلاثة أيام ويتبع المصدر نفسه مباشرة أو عن طريق منظمة (الفيزا) لتسوية الحساب مع عميله، فيرسل بيان قسيمة البيع مفصلة فيذكر وقتها ومكانها وكميتها، ويطلب من بنك المصدر للبطاقة التسديد.

وأما إذا كان البنك واحدًا وهو بنك المصدر للبطاقة فهو الذي يضع في حساب التاجر المبلغ مخصومًا منه نسبة من الثمن حسب الاتفاق كأجر على عمله مثلًا.

تنبيه:

إذا كانت بطاقة الائتمان لها حد أعلى مشار إليه، وكان مبلغ قسيمة البيع يزيد على الحد المشار إليه، أو كان هناك تردد في صحة الأمور المذكورة في بطاقة الائتمان لاحتمال التلاعب فيها أو أشباه ذلك، فإن هذا يستلزم من التاجر أن يأخذ الموافقة من البنك المصدر للبطاقة على إنجاز هذه العملية، بواسطة نظام الاتصالات المتبع والذي يتم خلال عدة دقائق بواسطة شبكة إلكترونية، بشرط سرعة الرد على طلب الموافقة.

وقد تزود نقاط البيع وتقديم الخدمات بآلات التفويض وهي أجهزة إلكترونية قارئة للشريط المغناطيسي على البطاقة، ومربوط بالجانب الآلي (ترمينال) ، إذ يقوم هذا الجهاز بمجرد إمرار البطاقة فيه، ووضع الرقم السري للعميل بالاتصال بمركز التفويض في بنك التاجر الذي يقوم بدوره بتحويل الاتصال آليًا إلى البنك المصدر مباشرة أو بتوسط "منظمة الفيزا"، وذلك للحصول على التفويض بقبول العملية أو رفضها وفق معايير البنك المصدر، ويأتي الرد آليًّا من نفس القنوات.

نعم هناك تفويض عالمي لاستخدام البطاقة الائتمانية وقبولها من قبل التاجر، دون الرجوع إلى البنك المصدر لها، لأجل الحصول على تفويض بقبولها بشروط هي:

1-

أن لا يكون تاريخ البطاقة قد انتهى.

2-

أن يكون توقيع وشخصية العميل مطابقة لبيانات البطاقة (أي غير محتملة التزوير) .

3-

أن لا تكون البطاقة مذكورة في نشرة البطاقات المطلوب حجزها.

المرحلة الثالثة: وعند وصول بيان قسيمة البيع للبنك المصدر للبطاقة فإنه تجري عملية التسديد يوميًّا، فلو فرضنا أن بنك التاجر غير البنك المصدر للبطاقة، فإن بنك التاجر سوف يضع في حسابه قيمة القسيمة ويخصم من حساب بنك المصدر هذا المبلغ في اليوم نفسه، وهذا يتم وفق نظام كفءٍ ودقيق.

وهنا لا بأس بالإشارة إلى أن البنك المصدر للبطاقة يأخذ عمولة (1 %) أو أكثر (1) أو أقل على قسيمة الشراء الصادرة من حامل البطاقة. وقد تكون هذه العمولة على حصوله عملية الشراء خارج البلاد الذي فيه البنك المصدر فقط، وقد تكون شاملة.

(1) ذكر البعض أن هذه العمولة تتراوح بين (4 – 6 %) من قيمة القسيمة. وقد ذكر بيت التمويل الكويتي أخذ العمولة من العميل في صورة وقوع الصفقة خارج البلاد فقط. راجع بحث بطاقات الائتمان الصادرة عن دار التمويل الكويتي.

ص: 1072

المرحلة الرابعة: إذا سحب صاحب البطاقة نقدًا من فروع بعض البنوك الخارجية المرتبطة مع بنكه (مباشرة أو عن طريق أجهزة الصرف الآلي المشتركة) يقوم البنك المصدر للبطاقة بتسديد المبلغ المسحوب من البنك الخارجي نيابة عن العميل، على أن يحصلها من حساب العميل (صاحب البطاقة) فيما بعد، ويأخذ البنك المصدر عمولة (1 %) أو أكثر أو أقل لقاء سحب النقود في الخارج بواسطة البطاقة.

التكييف الشرعي لبطاقات الائتمان هل يوجد تكييف شرعي لهذه البطاقات؟

الجواب: إن هذا البحث هو الأساسي في هذه الورقة التي نقدمها، فنقول: إننا نؤمن بأن صيغ المعاملات المالية في الفقه الإسلامي تتسع لاستيعاب المستجدات العصرية بشرط دخولها في صيغة واحدة معروفة، أو دخولها في صيغ مركبة، أو شمول القواعد في العقود لها إذا توفرت أركانها، ومنه أي محذور يؤدي إلى بطلانها أو حرمتها.

وهنا نريد أن نعرف أن ما يدفعه التاجر أو المقدم للخدمة، وما يدفعه حامل البطاقة للبنك، أو ما يأخذه البنك منهما معًا في حالات مختلفة هل يدخل تحت عنوان معروف محلل، أو صيغة مركبة تجمع أكثر من عقد محلل، أو يدخل تحت القواعد العامة للعقود، أو لا يدخل في شيء من هذه الصيغ المحللة، بل يدخل في الصيغ المحرمة الربوية؟

ونحن نحتاج هنا إلى سرد عمليات، البنك المستفيد من هذه البطاقات لنرى حكمها:

1-

رسم العضوية (الاشتراك) :

وهذا هو المبلغ الذي يدفعه العميل عند منحه بطاقة الائتمان، ويدفع مرة واحدة فقط.

ويمكن تكييف هذا على أساس أنه أجر على عمل أو منفعة تؤديه شركة البطاقة ووكلاؤها لحامل البطاقة، فهو عبارة عن تقديم خدمة مصرفية لقاء أجر معلوم (والخدمة هي تمكين العميل من شراء وبيع السلع أو الحصول على الخدمات أو تقديمها، وعملية سحب نقدي باليد من فروع البنوك الأعضاء المشتركة في مؤسسة الفيزا أو من أجهزة الصرف الآلي التابعة للبنوك المشتركة) .

وبعبارة أخرى: إن رسم الاشتراك هو أجر مقطوع لقاء إجراءات قبول طلب العميل للحصول على البطاقة، وإجراءات فتح الملف، وتعريف الجهات الخارجية التي سيحتاج التعامل معها، وما إلى ذلك من أمور تتعلق بالخدمة للعميل، فهو يقدم أجرًا ثابتًا على هذه الخدمات والتسهيلات التي تقدم له. وقد ذكر البعض أن هذا الرسم في بعض البنوك يكون عبارة عن مائة وعشرين دولارًا في السنة.

ص: 1073

5-

أخذ البنك نسبة من ثمن البضاعة أو الخدمة:

إن البنك (حسب اتفاقه مع التاجر) يخصم نسبة من أثمان البضائع والخدمات التي يستوفيها التاجر من البنك عند تسديد البنك قيمة قسيمة البيع أو الخدمات، سواء أكان عند العميل رصيد في البنك أم لم يكن، وهنا يأتي التساؤل عن التكييف الشرعي الفقهي لذلك؟

وقد عرضت هنا عدة تكييفات شرعية لذلك، نعرض أهمها:

التكييف الأول (قرض من مصدر البطاقة للعميل وعمولة من التجار) : قيل "إن بطاقة الائتمان عبارة عن فتح اعتماد للعميل لشراء ما يحتاجه على أن يقوم بسداد القيمة في محدد، فيكون المبلغ قرضًا من مصدر البطاقة لعميله لقاء عمولة من المحلات والتجار". (1)

نقول: إذا كان الأمر كما ذكر سابقًا (من أن البنك يأخذ نسبة من ثمن البضاعة أو الخدمات عند التسديد للتاجر، سواء كان في رصيد العميل ما يكفي لثمن البضاعة أو لا) ، فهو يدل دلالة واضحة على أن ما يأخذه البنك ليس هو في مقابل قرض العميل في صورة عدم وجود حساب دائن عند البنك للعميل، وإلا فلم إذا يأخذ البنك النسبة نفسها إذا كان لدى العميل حساب دائن عند البنك يكفي لثمن البضاعة؟

نعم إذا كان هذا التكييف هو في صورة عدم وجود رصيد دائن لدى العميل عند البنك فيمكن أن يكون ما أخذه البنك من ثمن البضاعة في مقابل القرض كما يمكن أن تكون عمولة من أصحاب المحلات والتجار للبنك على قيامه بعملية تسديد الدين وكالة عن العميل.

ولكن يرد على هذا التوجيه ارتكازية أن تكون العمولة على تسديد الدين هي من قبل المدين الذي قام البنك بالتسديد عنه، بينما نجد أن العمولة يدفعها التاجر للبنك فإذا أضفنا إلى ذلك عدم إعطاء التاجر هذه العمولة للبنك إن لم يقم بعملية الإقراض للعميل، يتضح أن ما يأخذه البنك من ثمن البضاعة هو في مقابل القرض للعميل، وقد استفدنا من أدلة حرمة القرض الربوي عدم جواز الزيادة على المال المقترض للمقرض سواء كانت الزيادة من المقترض أو غيره، وسواء كانت الزيادة للمالك أو لغيره؛ إذ أن الروايات اشترطت إرجاع نفس المال المقترض ليس إلا.

(1) بطاقة الائتمان وتكييفها الشرعي: د. عبد الستار أبو غدة، ص 5.

ص: 1074

التكييف الثاني (عمولة على تحصيل الثمن من العميل لدفعه إلى أصحاب المحلات) : إن هذه النسبة التي تحصل عليها شركة البطاقة من أصحاب المتاجر والخدمات هي عمولة على تحصيل الثمن من العميل حامل البطاقة لدفعه إلى أصحاب المحلات والخدمات، مع مراعاة أن العملية فيها تقديم وتأخير، اقتضتهما سهولة أداء المهمة المزدوجة وهي (تحصيل قسيمة البيع وأداء المبالغ لمستحقها) ، فقد بادرت شركة البطاقة بالدفع – من طرفها- لقيمة قسيمة البيع إلى أصحاب المحلات والخدمات، ثم تقوم بتحصيلها من حاملي البطاقات، وهذه المبادرة من شركة البطاقة لأجل ضبط التزامها مع أصحاب البضائع والخدمات، إذ لا تستطيع شركة البطاقة ضبط مواعيد التحصيل من العملاء، في حين أنها يمكنها التحكم فيما تدفعه من عندها ثم تقوم بتحصيله. ومن الواضح شرعًا جواز أخذ أجر معلوم متفق عليه مع كل من تحصيل الدين من المدين لدائنه، أو توصيله إلى الدائن من قبل المدين؛ وما يجوز أخذه من الطرفين، يجوز أخذه من أحدهما كما هو الحال في عمولة السمسرة، إذ يجوز اشتراطها على كل من البائع والمشتري، أو على واحد منهما فقط. (1)

(1) بطاقة الائتمان وتكييفها الشرعي: د. عبد الستار أبو غدة، ص 5

ص: 1075

أقول: أولًا: إن هذا الوجه خارج عن العلاقة التي ذكرناها بين البنك والعميل من كون البنك ضامنًا لما يشتريه أو يتلقاه العميل، بل أفترض هذا الوجه أن البنك ليس ضامنًا ولا متعهدًا لما يشتريه العميل، بل البنك يقوم بعملية إقراض للتاجر ويسعى لتحصيل ما دفعه من العميل للتاجر.

وثانيًا: إن هذا التكييف يتوجه لصورة ما إذا لم يكن لدى العميل رصيد دائن كاف لما اشتراه ببطاقته، فيقوم البنك المصدر بالدفع إلى التاجر كقرض حسن، ثم يحاول استيفاء ثمن البضاعة من العميل للتاجر.

وعلى كل حال، لا بد لنا من معرفة أن القصد الحقيقي للبنك هل هو أخذ النسبة من ثمن البضاعة في مقابل تحصيل الدين من العميل إلى التاجر، وليس له أي ارتباط بالثمن الذي قدمه للتاجر، أو أن الأمر بالعكس؟ إذ يكون مرتبطًا بالثمن الذي قدمه للتاجر وكان عنوان العمولة على تحصيل الدين عنوانًا يتستر تحته الربا.

نقول: قد تذكر منبهات على أن القصد هو ربوي تستر تحت الأجرة، منها:

1-

إننا إذا قبلنا أن تحصيل الثمن من العميل صاحب البطاقة وتسليمه إلى أصحاب المحلات عملية لها أجر يقوم بها البنك لإمكاناته المتوفرة والعالية، وأن ما يقوم به البنك من تسديد الثمن إلى أصحاب المحلات قبل حصوله عليه هو لأجل ضبط التزامات البنك مع أصحاب البضائع والخدمات، فيكون دفع البنك للثمن مقدمًا إلى أصحاب البضائع والخدمات هو قرض حسن، وقبلنا أن الأجرة يمكن أن تكون نسبة من الثمن حيث إنها مرتبطة بالمنفعة التي يقدمها البنك للتاجر. إننا إذا قبلنا كل هذا ولكن لنا أن نتساءل فنقول: هل تؤخذ هذه النسبة من التاجر حتى في صورة عدم تقديم البنك قرضًا إلى التاجر، وأن هذه النسبة إنما قبلت (كأجرة على تحصيل الدين من العميل) في صورة تقديم البنك القرض إلى التاجر؟

ص: 1076

والجواب: فإن كانت الأجرة واحدة في الصورتين، فالقصد هو غير ربوي، أما إذا اختلفت الأجرة في الصورة الأولى عن الثانية، فيتبين أن العملية ربوية، فيخرج القرض عن كونه قرضًا حسنا"ً، بل يكون قرضًا جر نفعًا، حيث إن القرض إذا لم يكن موجودًا تكون الأجرة على تحصيل الدين من العميل أقل بكثير من صورة وجود القرض للتاجر من البنك، ومثل هذا ما إذا أجرت بيتي إليك بأقل من ثمن المثل، فهو عقد صحيح، لكنه إذا اقترن بقرضي كمية من النقود على وجه الالتزام (بحيث لولا القرض لم أؤجر بالأقل) يكون ربويًّا، فهنا كذلك.

وبعبارة أخرى: إن أخذ البنك نسبة من ثمن القسيمة إذا اقترن بعملية قرض للتاجر بحيث لولا هذه العملية القرضية لا يقدم التاجر على إعطاء هذه النسبة من الثمن إلى البنك، ينبهنا إلى أن النسبة من الثمن هي مرتبطة واقعًا بالثمن الذي قدمه البنك إلى التاجر، ولكنها غطيت تحت ألفاظ عمولة تحصيل الدين من العميل إلى التاجر.

2-

إذا فرضنا أن البنك لم يتمكن من تحصيل الثمن من العميل، فهل يسترجع البنك ما أقرضه فقط، وهو أقل من ثمن البضاعة، أو يأخذ من التاجر ثمن البضاعة كاملة؟

الجواب: فإن أخذ ما دفعه فقط، فقصده هو قصد حسن ليس فيه شائبة الربا، أما إذا أخذ الثمن كله من دون خصم أجرة تحصيل الدين، فهو منبه واضح على أن الذي خصمه بعنوان أجرة تحصيل الدين هو ربا تستر بالأجرة.

ص: 1077

3-

إذا افترضنا أن العميل على قسمين:

1-

قسم يحمل بطاقة يسدد فيها ثمن ما يشتريه في ضمن شهر واحد من حين الشراء.

2-

قسم يحمل بطاقة يسدد فيها ثمن ما يشتريه في ضمن ثلاثة أشهر.

فهل البنك يوافق على القرض للتاجر في كلتا البطاقتين من دون أن تزداد النسبة التي يأخذها من التاجر عند البيع لكل منهما حتى يكون ما يدفعه البنك إلى التاجر هو قرض حسن، وما يأخذه من ثمن البضاعة منهما هو أجرة على تحصيل الدين من العميل إلى التاجر، أو أن البنك يفاوت بين القسمين، فيأخذ من التاجر في الصورة الثانية نسبة أعلى على تحصيل الدين من الصورة الأولى؟

فإذا اختلفت الأجرة في الصورتين، فمعنى هذا أن العملية ليست كما صورت من القرض الحسن، بل النسبة التي أخذت من ثمن البضاعة هي فائدة على تقديم الثمن إلى التاجر.

إن خلاصة كلامنا: لابد من توجيه هذه الأسئلة للبنك فينظر في إجاباته، حتى نعرف قصد البنك الحقيقي عند أخذه للنسبة من الثمن بعنوان الأجرة على تحصيل الدين مع تقديمه القرض للتاجر، وعلى إجابات البنك يكون الحكم الشرعي واضحًا.

ص: 1078

التكييف الثالث:

(أجر على قبول البنك لضمان العميل) : قيل: إن البنك إنما يقدم ثمن البضاعة إلى التاجر لأنه تعهد من الأول أن يدفع ثمن السلعة المشتراة من قبل حامل البطاقة، فهو يكون ضامنًا لما يتلقاه العميل من المؤسسة التجارية، فينتقل ما في ذمة العميل من الدين إلى البنك المصدر للبطاقة، وعلى هذا فلا توجد هنا عملية إقراض للتاجر؛ بل في الحقيقة هي عملية إقراض للعميل بقبول البنك ضمانه مع طلبه، فيرجع البنك على العميل بما دفعه إلى التاجر، وعلى هذا يكون أخذ البنك المصدر للبطاقة نسبة من ثمن البضاعة أجرًا على قبول البنك للضمان، وليس هو تنازلًا من التاجر إلى الضامن حتى يقال بأن البنك لا يتمكن أن يرجع على العميل إلا بما أداه إلى التاجر.

وقبول الضمان هذا، وإن كان عقدًا إرفاقيًّا للعميل لا يجوز أخذ الأجرة عليه، إلا أنه ليس عقدًا إرفاقيًّا للتاجر، فيمكن للبنك أن يأخذ نسبة من الثمن لقاء قبوله الضمان للتاجر عن العميل.

وهذا الوجه لا يفرق فيه بين أن يكون للعميل رصيد عند البنك يكفي للمشتريات ولتلقي الخدمات أم لا، لأنه حتى إذا كان عند العميل رصيد عند البنك فهو دائن للبنك، إلا أن الدائن يتمكن أن يضمن المدين لغيره –وسوف تأتي مناقشة هذا الوجه فيما بعد-.

التكييف الرابع (أجر على قبول البنك للحوالة من العميل على البنك للمحال وهو التاجر) : وقد يقال: إن العميل عندما يشتري من التاجر ويوقع قسيمة البيع، فيكون قد أحال التاجر على البنك المصدر للبطاقة، ومن حق البنك المصدر للبطاقة أن يقبل الحوالة عليه بشرط أن يأخذ نسبة من الثمن، أي للبنك أن لا يقبل الحوالة إلا إذا التزم التاجر بأداء مبلغ إلى البنك عمولة على قبوله الحوالة، وبما أن التاجر له نفع في قبول البنك للحوالة عليه، فمن حق البنك أن يأخذ أجرة مقابل هذا النفع الذي قدمه للتاجر (1)

(1) إن هذا التكييف قبله أكثرية أعضاء مجمع فقه أهل البيت (ع) وهو رأي ارتآه رئيس المجمع آية الله الشيخ محمد المؤمن عند بحثه لبطاقات الائتمان في مجلس درسه في قم المقدسة

ص: 1079

وهنا أيضًا نقول كتتميم لهذا الوجه: إن قبول الحوالة من قبل البنك وإن كان عقدًا إرفاقيًّا للمشتري لا يحق أن يأخذ منه في قباله أجرًا، إلا أن هذا العقد ليس إرفاقيًّا بالنسبة للتاجر، فيحق للبنك أن يأخذ في مقابل قبوله الحوالة أجرًا من المحال.

ويرد على هذا الوجه بالخصوص: ما إذا كان للعميل رصيد دائن عند البنك، فمن حق العميل أن يحيل التاجر على البنك ليأخذ من حساب العميل، وفي هذه الصورة يقول الفقهاء:"يجب على البنك أن يدفع إلى التاجر من حساب العميل لأنه مدين للعميل، ويجب على البنك أداء الدين للعميل أو إلى من يحوله عليه" وعلى هذا فلم إذا يأخذ البنك عمولة على قبوله الحوالة حتى في هذه الصورة؟

وقد يجاب على هذا الإشكال بأن يقول البنك الذي هو مقترض من صاحب الحساب حسب الفرض: "إنما أقبل منك أيها العميل الاقتراض بشرط أن لا تحيل علي" وبهذا لا يجب على البنك قبول الحوالة بحسب الشرط، فإذا أحال العميل على البنك، فللبنك أن يقول للمحال: أنا أقبل الحوالة علي بشرط أن تلتزم بدفع نسبة من الثمن.

والخلاصة: فإن هذا الوجه يجوز للبنك أن يأخذ أجرًا من المحال على قبوله الحوالة التي حولت عليه من قبل العميل.

ويرد على هذا الوجه والوجه الثالث ما يلي:

1-

أن هذا التسهيل الذي أعطاه البنك للتاجر حين صدور البطاقة، وتعهد بضمان العميل وقبول حوالته، قد أخذ عليه أجرًا سميناه رسم صدور البطاقة، فإن البطاقة تصدر لها خدمات مصرفية، منها: أن البنك ضامن لما يشتريه العميل من المؤسسات التجارية، وما يستفيده من أصحاب الخدمات، أو قل: إن البنك يقبل حوالة العميل إذا حول على البنك التجار أو أصحاب الخدمات، وعلى هذا فكيف يجوز للبنك أن يأخذ على نفس هذا العمل نفسه أجرًا مرة ثانية؟

ص: 1080

ولو أجيب عن هذا الإشكال بأن رسم الاشتراك ليس هو في مقابل الخدمة الممنوحة ومقدماتها المتمثلة في (شراء السلع والخدمات وعملية السحب النقدي من فروع بعض البنوك الأعضاء أو من أجهزة الصرف الآلي التابعة لها، ومن قبول طلب العميل وإجراء فتح الملف وتعريفات الجهات الخارجية التي سيحتاج التعامل معها وبيان حدود الاستخدام، وما إلى ذلك من أمور تتعلق بالخدمة)(1) بل إن رسم الاشتراك يكون في مقابل مقدمات الخدمة الممنوحة بالبطاقة، أما الخدمة نفسها الممنوحة بالبطاقة لقبول الحوالة من قبل البنك فهو عمل يصح أخذ الأجرة عليه، فيأتي الإشكال الثاني.

2-

أن الإرتكاز العرفي والعقلائي يقول: إن عملية الاقتراض أو قبول الحوالة على المحال عليه، أو قبوله لعملية الضمان ليست مما تقابل بالمال لا من المقترض ولا من قبل المسدد له، بل إن العمولة حقيقة هي بإزاء المال المقترض لا في مقابل الاقتراض نفسه أو الضمان نفسه أو قبول الحوالة، وجعل العمولة في مقابل عملية الإقراض وقبول الحوالة والضمان هي مجرد لفظ فقط.

3-

ثم لو فرضنا أن البنك والتاجر قد تحررا من الارتكاز العقلائي المتقدم، وجعلت نسبة الثمن في مقابل قبول الحوالة والضمان، فهل هي صحيحة؟

الجواب: إنها غير صحيحة، وذلك لأن النسبة من الثمن التي هي أجر إنما تصح إذا كان في مقابلها عمل قام به البنك قابل للضمان، أما ما لا ضمان له من الألفاظ والأعمال فلا يصح أخذ الأجرة في مقابله، وهنا نقول: إن مالية قبول الضمان وقبول الحوالة هي نفس مالية المال المعطى إلى المؤسسة التجارية، وليس لقبول الحوالة والضمان مالية مستقلة زائدة عن المال المعطى إلى التاجر، وهذا المال المعطى إلى التاجر مضمون على العميل، فلا يصح أخذ أجرة على نفس عملية قبول الضمان أو الحوالة.

إذن تبين أنه ليس عندنا إلا مالية واحدة وهي (المال الذي يعطيه البنك المصدر للتاجر) وهذه المالية تضاف إلى قبول الحوالة أو الضمان باعتبار نفس المال الذي يعطى إلى التاجر، وحينئذ ليس عندنا إلا ضمان واحد وهو ضمان المال المقترض للعميل وقد سدد إلى التاجر، إذن لا يصح أخذ أجرة عليه ولو من قبل التاجر، فإنه إما آكل للمال بالباطل أو أنه قرض لعميل مع أخذ فائدة من التاجر وهو محرم؛ لأن القرض لا يشترط فيه إلا إرجاع نفس المال المقترض.

التكييف الخامس (أجرة سمسرة إلى البنك المصدر للبطاقة) : إن البنك المصدر للبطاقة للعميل، وللمؤسسة التجارية، يقوم بجملة أعمال تنفع الطرفين فهو يقوم بعملية ترويج التعامل مع المؤسسات التجارية، إذ يؤمن لهم زبائن من الدرجة الأولى ويحصل لهم الدين، كما هو يقوم بتقديم منفعة للعميل، إذ يمكنه من شراء أو تلقي الخدمات في أماكن بعيدة من دون أن يقوم النقد لهم بالفعل، ويسهل عليه كثيرًا من الصعوبات التي تنجم من حمل النقود معه، فالبنك يتمكن أن يأخذ عمولة سمسرة من الطرفين أو من التاجر فقط لقاء هذه المنافع التي يقدمها لهم إذا حصلت صفقات بيع أو تلقي الخدمات في الخارج، أما الضمان الذي يوجد في بعض الحالات (كما إذا كان العميل ليس له حساب دائن لدى البنك) فلا أثر له وذلك لأنه لا تزداد العمولة في مقابله.

(1) راجع بطاقات الائتمان، بيت التمويل الكويتي، ص 30- 31

ص: 1081

إذن يكون ما يأخذه البنك من المؤسسات التجارية هو أجرة سمسرة عن كل عميل يقوم بالانتفاع من هذه البطاقة بالفعل، وفي هذا الوجه يصح أيضًا ما يأخذه البنك من العميل كنسبة على مشترياته وانتفاعاته أيضًا، وهذه الأجرة تختلف عن أجرة رسم الاشتراك التي هي ثمن للبطاقة وخدماتها الممكنة سواء استفاد منها التاجر أو العميل أم لا، أما هنا فإن السمسرة هي أجرة على وقوع الانتفاع بالبطاقة في الخارج فعلًا.

أقول: إن هذا الوجه جيد إذ اطمأننا بأن التاجر يقوم بدفع هذه النسبة من قيمة القسيمة حتى إذا لم يدفع البنك المصدر للبطاقة قيمة البضاعة إلى التاجر، ويمكن أن نتأكد من هذا في حالة ما إذا كان هناك عميلان للبنك وقد استفادا من هذه البطاقة وكان أحدهما له رصيد دائن لدى البنك، بينما لم يكن الآخر مثله، وقد قام البنك بأخذ هذه النسبة من التاجر ومن العميل على حد سواء، فبهذا يثبت أن الضمان الذي ضمنه البنك لمن لم يكن عنده حساب دائن لدى البنك، وتسديد قيمة القسيمة كان قرضًا حسنًا، ولا أثر له في ازدياد العمولة.

التكييف السادس (عقد بيع بين المصدر والتاجر على أن يبيعه بأقل من الثمن، وعقد بين المصدر والعميل على أن يبيعه بأكثر من الثمن) : إلى هنا كان مسير البحث ينظر إلى العميل على أنه هو المشتري الحقيقي من المؤسسة التجارية، ويكون البنك متعهدًا لتسديد قيمة القسيمة، أما هنا نريد أن نغير مسير البحث بادعاء أن الحقيقة والوقع تقول بأن البنك هو المشتري الحقيقي للبضاعة التي يريدها العميل، ويشهد لهذا بأن المؤسسة التجارية لا تعرف العميل ولا تطمئن إليه، بل هي تعرف البطاقة الائتمانية بواسطة مصدرها، كما أن الذي يدفع قيمة قسيمة البيع هو البنك المصدر للبطاقة، وإذا ما افترضنا أن المؤسسة التجارية لم تتمكن أن تحصل على قيمة قسيمة البيع أو الخدمة من البنك فلا يحق لها أن ترجع على العميل الذي اشترى بواسطة البطاقة، فإن هذه الأمور الثلاثة تشير إلى أن المشتري الحقيقي هو البنك، وعلى هذا نتمكن من تكييف أخذ البنك لحصة من الثمن، باتفاق بين البنك المصدر والمؤسسة التجارية مفاده: تعهد المؤسسة التجارية للبنك في صورة شراء البنك لما يريده عميله؛ بأن البيع يقع بالسعر اليومي مخصومًا منه نسبة من الثمن، وبهذا صححنا أخذ البنك لحصة من الثمن بعد عقد صفقة البيع.

ثم يقوم العميل بشراء هذه السلعة من البنك على أن يسدد الثمن في ضمن شهر واحد مثلًا، ومفاد هذا العقد الثاني هو: أن العميل يشتري هذه السلعة من البنك بزيادة على ثمنها اليومي بنسبة معينة، وهكذا نقول بالنسبة لتقديم الخدمات؛ فإن الحقيقة وجود عقدين:

1-

عقد بين المصدر والتاجر: مفاده إذا أرسلت لي أتباعك لتستفيد من خدمات فأنا أعطيك نسبة من الثمن الذي أستلمه منك أو أقدم لك خدماتي بأنقص من الثمن اليومي بنسبة معينة.

ص: 1082

2-

عقد بين المصدر والعميل؛ مفاده: إذا استفدت أيها العميل من الخدمات التي أهيئها لأتباعي فأنا أريد منك ربحًا بنسبة كذا من ثمنها اليومي، بشرط أن تسدد الثمن في ضمن شهر واحد مثلًا.

وهذا الفرض السادس وإن كان خلاف ما هو المشهود من أن المشتري الحقيقي هو العميل، إلا أن المشهود كان عبارة عن اندماج عقدين مستقلين، كان نتيجتهما حصول العميل على ما أراد، ولكن الدقة في مراحل العمل بالبطاقة الائتمانية يمكن أن تكون عبارة عن عقدين مستقلين الأول منهما كون المشتري الحقيقي هو البنك (لما يريده عميله) بواسطة عميله، والثاني منهما هو بيع البنك ما اشتراه إلى عميله، بزيادة معينة لمدة شهر واحد مثلًا، ولا بأس بأخذ نسبة من الثمن من التاجر ومن العميل معًا.

ومما يؤيد هذا الوجه السادس ما ذكروه من قولهم: بعد إتمام عملية الشراء ببطاقة الائتمان إذا رغب العميل أن يعيد كل البضاعة المشتراة إلى التاجر، ووافق التاجر على ذلك، فإن التاجر في هذه الحالة لا يقوم بدفع وإرجاع قيمة البضاعة المرتجعة نقدًا إلى العميل (حامل البطاقة) بل يحرر له قسيمة دفع بقيمة البضاعة المرتجعة، يحتفظ العميل بنسخة من هذه القسيمة للمتابعة، بينما يقوم التاجر بإيداع هذه القسيمة لدى بنك التاجر الذي يتعامل معه، وذلك حتى يتم خصم القيمة من قسيمة البيع الأصلية، وإيداع القيمة الصافية المستحقة له في حساب التاجر، وحينئذ إذا كان بنك التاجر قد سحب هذا المبلغ من البنك المصدر، فيرجع إليه قيمة القسيمة الثانية، ويبقى البنك المصدر يطالب العميل بتسديد القيمة الصافية فقط (1)

فإن إعادة البضاعة لو كان المشتري حقيقة هو العميل كان من حقه أن يتسلم المبلغ الذي يساوي البضاعة المرتجعة، إلا أننا نرى أنهم لا يسلمون إلى العميل قيمة البضاعة المرتجعة مما يؤيد القول القائل بأن المشتري حقيقة من المؤسسة التجارية هو البنك؛ لذا يوضع في حساب البنك المصدر قيمة البضاعة المرتجعة.

والخلاصة:

إن بعض الوجوه المتقدمة كالخامس والسادس تجوز أخذ البنك المصدر للبطاقة نسبة من ثمن قسيمة البيع من التاجر ومن العميل أيضًا، بشرط أن لا يرتبط هذا بالقرض الذي يحصل من البنك في بعض الحالات ولا بالأجل الذي يشترط فيه تسديد القرض، فمع هذين الشرطين يكون ما يأخذه البنك من المؤسسة بل من العميل أيضًا جائزًا (2)

(1) بطاقات الائتمان، بيت التمويل الكويتي، ص 25

(2)

قد يقال: إن النسبة المأخوذة (من التاجر إلى البنك المصدر للبطاقة مثلًا) هي عبارة عن بيع الدين بأقل منه، وهو صحيح للعمومات الدالة على جواز بيع الدين بأقل منه، فإن العميل عندما يشتري يكون مدينًا إلى التاجر، وقد أعطى سند الدين وهو توقيعه على القسيمة، ويتمكن التاجر أن يبيع هذا الدين على البنك أو غيره بالأقل، ولا مانع منه شرعًا؛ لأن المانع أن يأخذ الدائن على دينه أكثر مما أعطى، وهنا الدائن أخذ الأقل فهو عكس الربا مثلًا. ولكن هذا التوجيه بالإضافة إلى أنه غير الذي يجري في الخارج من تعهد البنك المصدر لأداء دين العميل لا يقبله بعض الفقهاء لوجود روايات تقول بوجوب أن يأخذ المشتري لهذا الدين ما دفع إلى الدائن لا أكثر

ص: 1083

عمولة تحويل البنك المصدر لما استفاده العميل خارج البلاد:

قد يقال: أن التاجر إذا اشترى سلعًا خارج البلاد، فالبنك وإن كان ضامنًا له، إلا أن التسديد في هذه الصورة يستوجب جهدًا زائدًا على مجرد دفع المال للسلع المشتراة، فيصح للبنك أن يأخذ عمولة على التسديد من العميل كما يصح له أن يأخذها من التاجر، وهذا الكلام يأتي أيضًا فيما إذا استفاد العميل من خدمات خاصة أو سحب نقدًا معينًا خارج البلاد.

ولكن هنا لابد من أن تكون العمولة المأخوذة هي عملة التحويل والتسديد فقط، وهي تختلف عن الفائدة، إذا قبلنا أن البنك قد ضمن العميل أو قبل حوالته، فهو قد أصبح مدينًا للتاجر، ويمكن أن يقول للتاجر: أن الدين الذي كان على العميل قد انتقل إلى ذمتي، وأنا حاضر لدفع المال إليك في بلدي (بلد الضمان) ، فإذا أردت أن أدفع لك المال في بلدك، فأنا آخذ منك نسبة من الثمن، وحينئذ يقوم بنك التاجر بالموازنة بين ما يطلبه البنك المصدر للبطاقة من العمولة وما يطلبه بنك آخر على عمولة تحويل الثمن، فإن كانت العمولة واحدة فإن بنك التاجر أو التاجر سوف يوافق على إعطاء العمولة التي هي عمولة التحويل، أما إذا كانت العمولة كبيرة تختلف عن عمولة تحويل المبلغ نفسه من قبل بنك آخر، فإن التاجر سوف يقول للبنك المصدر: أعطني المبلغ في بلدك، ثم يأمر بنكًا آخر بتحويل المبلغ إليه في مقابل أجر التحويل الذي هو يختلف عن الفائدة لزهادته.

ص: 1084

6 – فرق تحويل العملة:

وهي أخذ البنك فرق تحويل عملته إلى عملة أجنبية:

كما إذا سحب العميل ببطاقته مبالغ نقدية من فروع بعض البنوك الخارجية المرتبطة ببنكه بواسطة منظمة الفيزا مثلًا، مباشرة أو من طريق أجهزة الصرف الآلي، فإن البنك المصدر يقوم بتسديد الدين الذي أخذه عميله (صاحب البطاقة) ، وعملية التسديد تقتضي أولًا أن يقرض البنك عميله عملة محلية أو أن العملة المحلية موجودة لدى حساب العميل ثم يقوم بتحويلها إلى العملة الخارجية، فيستحق البنك المصدر الفرق في تحويل هذه العملة وهو ما يسمى بالصرف، فيبيع نقده الذي هو دينار إلى العميل بدولار ثم يسدد دين عميله في الخارج بواسطة الدولار، فيحصل البنك على فائدة الصرف، وهو أمر مشروع إذا كان بهذا القدر.

ثم لا يخفى أن هذا السحب المالي من البنك الخارجي هو عبارة عن إذن من المصدر للبطاقة لبنك خاص أو لكل أحد في أن يؤدي قرضًا عليه لمن يحمل بطاقته، فحامل البطاقة يأخذ النقد على ذمة المصدر وهو مأذون في التصرف فيه، ويتملكه الساحب إما بعنوان أداء الدين الذي له على المصدر (استيفاء) فيما إذا كان الساحب صاحب حساب دائن لدى البنك المصدر للبطاقة وهو أمر لا بأس به، أو بعنوان الاقتراض من البنك المصدر أن لم يوجد له حساب دائن لدى البنك المصدر للبطاقة.

ص: 1085

7-

أجرة نقل وحفظ المال:

ولو أضيف إلى فائدة بيع الصرف، جرة نقل وحفظ المال من البلد الذي فيه البنك إلى البلد الذي استخدم حامل البطاقة بطاقته فيه، فإن هذا يدخل تحت عنوان الحوالة بأجر، بشرط أن لا يرتبط هذا الأجر بالأجل الذي يجب على العميل التسديد فيه، وإلا كان الربا مستترًا تحت عنوان الحوالة بأجر كما إذا كانت النسبة تكثر إذا كانت البطاقة تجوز التسديد لمدة أطول.

ومن أجل الاطمئنان بأن الأجر الذي يحصل عليه البنك المصدر هو أجر على الحوالة فيجب أن تكون النسبة التي يأخذها البنك كأجر على حوالته هي النسبة التي تحول بها هذه الكمية من الثمن إلى الخارج في بنوك أخرى، أو أن يسمح البنك المصدر للعميل في أن يحول هذا المبلغ بواسطة أي بنك آخر إذا كان يتقاضى أجرًا على حوالته أكثر من البنوك الأخرى، فإنا في هذين الأمرين نكشف عن القصد الحقيقي للبنك المصدر للبطاقة ونجزم بأنه بعيد عن شائبة الربا.

أما إذا كانت هذه النسبة التي تؤخذ كأجر على الحوالة هي أكثر بكثير من قيمة الحوالة التي تحول بها هذه الكمية من الثمن إلى الخارج في بنوك أخرى، ولم يسمح البنك المصدر بتحويل ما أقرضه لعميله إلى البنك الخارجي، فإن هذا يكشف عن أن القصد الحقيقي هو مستتر وراء الأجر على الحوالة أو الوكالة لقضاء الدين، وهو أخذ النسبة من الثمن في مقابل المال الذي يقرضه البنك المصدر للعميل ويحوله إلى البنك الخارجي.

وقد يقال: أن هذه النسبة هي قيمة قبول الحوالة من قبل العميل على البنك المصدر للبطاقة، وهي حوالة على مدين إذا كان لدى العميل حساب دائن عند البنك، أو على بريء إذا لم يكن لدى العميل حساب دائن عند البنك.

ولكن نقول: أن قبول الحوالة ليس معناه إلا إقراض المحيل أن لم يكن له حساب عنده وهو لا يقابل بالمال، وأما إذا كان عند المحيل حساب دائن لدى البنك، فلم يبق إلا ثمن حوالة المبلغ إلى خارج البلاد.

8-

الفائدة:

قد يأخذ البنك المصدر للبطاقة غرامات على تأخير العميل عن سداد ما عليه حسب الوقت المحدد، وهذا فائدة صريحة محرمة، ولا بأس بالتنبيه إلى أن بعض بطاقات الائتمان لا تأخذ أي غرامة على تأخير العميل عن سداد ما عليه كما في بطاقة بيت التمويل الكويتي.

9-

أجرة استخدام الجهاز الآلي أو نظام التحويل الإلكتروني:

يأخذ البنك نسبة من الثمن المسحوب في مقابل استخدام جهازه الآلي أو نظام تحويله الإلكتروني عند سحب نقود معينة بواسطة البطاقة الائتمانية إذا كانت مخولة بذلك.

ص: 1086

وطبعًا أن هذه النسبة من الثمن تقسم بين البنك الخارجي الذي قدم للعميل النقد بعد استعمال أجهزته الآلية أو نظام تحويله الإلكتروني وبين البنك المصدر للبطاقة حيث يكون البنك المصدر للبطاقة وكيلًا عن العميل لقضاء دينه.

وهذه النسبة كأجر على هذا النفع الذي حصل عليه الساحب للنقد، وهي أجرة معقولة مرتبطة بالنفع الذي يحصل عليه العميل، بشرط أن لا ترتبط هذه النسبة بالأجل وليست عوضًا عما أدى إلى حامل البطاقة الذي يدفع العميل فيه ما سحبه من البنك الخارجي إلى بنكه الذي أصدر البطاقة، ولأجل أن نطمئن إلى أن النسبة ليست مرتبطة بالأجل، لابد من أن يكون البنك المصدر للبطاقة يأخذ هذه النسبة من الثمن ممن عنده حساب دائن لدى البنك وممن ليس له حساب دائن لدى البنك بلا فرق بينهما.

10-

أجرة الاتصالات الخارجية للحصول على تفويض:

يأخذ البنك عمولة من الذي يحمل البطاقة المرتبطة بمنظمة الفيزا الصادرة عن بنوك أجنبية، إذا سحب عميل البنك الأجنبي ببطاقته من بنك آخر كمية من المال، فيقوم البنك المقدم للدفعة النقدية بأخذ نسبة من الثمن المقدم كأجر على الخدمة المصرفية التي يقدمها، وهذه الخدمة تشمل على تولية عملية التفويض والمتابعة والتحصيل والتسويات.

أقول: قد نقول بجواز ذلك في مقابل الخدمة التي يقدمها البنك المعطي للصفقة النقدية، حيث يكون قد نفع العميل منفعة كبيرة بهذه الخدمات، فهو يستحق أجرًا على خدماته حتى وإن كان نسبة مئوية على ما حصل عليه الساحب، ولكن بشرط أن لا ترتبط هذه النسبة بالأجل الذي يدفع فيه الساحب ما حصل عليه.

تنبيه: إذا كان بين التاجر والبنك المصدر للبطاقة واسطة تؤدي إلى التاجر قيمة قسيمة البيع وهي ما تسمى (بنك التاجر) فإذا هذا البنك يقوم بتسديد قيمة القسيمة ثم يستوفي ذلك من البنك المصدر للبطاقة مقابل نسبة لبنك التاجر، وهذه العملية قد تتم بواسطة تعاقد بين البنك المصدر وبنك التاجر، وقد تتم استنادًا إلى الإذن العام من البنك المصدر بتسديد قيمة القسيمة والرجوع عليه، وتكييف أخذ نسبة من الثمن لبنك التاجر استنادًا إلى قيامه بالتسديد للتاجر وهو عمل يزيد في اعتبار البنك المصدر للبطاقة؛ فصح أن يأخذ بنك التاجر هذه النسبة لقيامه بهذه الخدمة، ولعل هذه جعالة من البنك المصدر لمن يسدد قسيمة البيع نيابة عنه، ولا حاجة للتنبيه على أن بنك التاجر في هذه الحالة يأخذ نسبة من ثمن القسيمة، قد يكون 3 % ولكن يحسم منه نسبة 1 % على عمله الذي قام به نيابة عن المصدر للبطاقة ويبقى 2 % هي للبنك المصدر للبطاقة، يدفعها له عند مطالبته بتسديد ثمن القسيمة.

ص: 1087

والخلاصة: لقد تبين لنا أن ما يأخذه البنك من التاجر أو العميل إذا لم يكن مرتبطًا بالأجل الذي يسدد فيه العميل الدين، وكان في مقابل عمل له نفع للتاجر أو العميل فهو أمر مسموح به شرعًا، ولكن لابد لنا من الاطمئنان بأن البنك لم يربط ما يأخذه بعنوان الأجر على عمله بالأجل الذي يسدد فيه العميل ما عليه، نعم إذا لم يسدد العميل ما عليه في الوقت المحدد، فلا يجوز للبنك أن يحسب عليه فوائد فإنه ربا صريح وواضح، وقد تخلت عنه بعض البنوك الإسلامية.

العمليات البنكية الترغيبية

1-

جوائز البنك:

هناك بعض العمليات التي يقوم بها البنك كترغيب لعملائه في أخذ بطاقة الائتمان منها الجوائز، فيدفع البنك لمن أصابته القرعة من الذين استلموا بطاقات الائتمان مبلغًا من المال، فهل يجوز للبنك القيام بهذه العملية الترغيبية؟

الجواب: إذا كان البنك هو المقترح لهذه العملية بقصد التشويق والترغيب في فتح بطاقات الائتمان من دون أن يكون لعملائه أي شرط عليه، فهو أمر جائز، أما إذا اشترط عملاء البنك في ضمن عقد قرض البنك وفتح الحساب لديه وأخذ بطاقة الائتمان أن يقيم لهم جوائز بعملية القرعة، فهذه الجوائز تكون محرمة حيث تدخل عند إصابة أحدهم تحت عنوان القرض الذي جر نفعًا لصاحبه بواسطة الشرط.

2-

التأمين على الحياة:

إن بعض البنوك تعطي البطاقات الائتمانية الذهبية التي فيها حدود ائتمانية عالية إلى العملاء ذوي الكفاءة المالية العالية، وتمنحهم إضافة إلى الخدمات المتقدمة المتوفرة للبطاقة تأمينًا على الحياة وخدمات أخرى دولية فريدة كأولوية الحجز في مكاتب السفر والفنادق والتأمين الصحي والخدمات القانونية، كما أن بعض البطاقات تتضمن تأمينًا على حياة المسافر حال سفره إذا اشترى بطاقة السفر.

والمهم هنا: وجود تصور عند البعض في عدم تطابق هذا المنح من قبل البنك أو الشركة للتصور الإسلامي (1)

فنقول: أن عقد التأمين هو اتفاق بين المؤمن (الشركة أو البنك مثلًا) وبين المؤمن له على أن يدفع المؤمن عليه مبلغًا من المال معينًا شهريًا أو سنويًا لقاء قيام المؤمن بتدارك خسارة ما (كالحياة) أن حدثت على المؤمن عليه، وقد يكون الشرط هو أن يطلب المؤمن فتح بطاقة الائتمان ويدفع الرسم على ذلك، وأن يكون له حساب من الدرجة الأولى في البنك، فهنا يكون عقد التأمين قد اشتمل على أركان أربعة:

1-

الإيجاب من المؤمن له.

(1) بحث عن بطاقات الائتمان المصرفية لبيت التمويل الكويتي، ص 27

ص: 1088

2-

القبول من المؤمن.

3-

المؤمن عليه (الحياة)

4-

قسط التأمين الشهري أو السنوي.

وواضح أن الأركان الأربعة متوفرة هنا حيث أن المؤمن له يوجب، ويقبل المؤمن ويكون المؤمن عليه هو (خطر الموت) ، وقسط التأمين هو الرسم الذي يدفعه أو فتح حساب من الدرجة الأولى لدى البنك ليحصل على خدمات منها التأمين على الحياة، وبما أن البطاقة تنتهي إلى سنة فإن بداية ونهاية التأمين أيضًا معينة، وعلى هذا يمكننا أن ننزل عقد التأمين منزلة الهبة المعوضة حيث أن المؤمن له يهب مبلغًا معينًا من المال سنويًا في مقابل ما يحصل على خدمات بواسطة بطاقة الائتمان، ومنها التأمين على الحياة، وحينئذ يجب على المؤمن الوفاء بهذا الشرط؛ وعلى هذا فيكون التأمين بجميع أقسامه صحيحًا شرعًا، لأنه تأمين تجاري عقدي، حيث يقابل بجزء من الاشتراك السنوي.

الخصم من التاجر للعميل:

قد يعلن البنك المصدر للبطاقة عن فائدة للبطاقة تكمن في خصم المؤسسة التجارية نسبة تتراوح بين (5- 30 %) وهذا أمر قد تقوم به بعض المؤسسات التجارية لبعض السلع، وهو يعد من فوائد العميل المستهلك، وهو أمر لا بأس به شرعًا لأنه عبارة عن تخفيض للثمن من قبل البائع، ولا بأس بأن يقول البائع: أن الثمن مائة أو أن يقول: (إن الثمن مائة وعشرون مع تخفيض عشرين لمن يحمل البطاقة الائتمانية) .

تنبيهات:

إن هنا عدة تنبيهات متفرعة على صحة العمل بالبطاقة الائتمانية حيث كيفت الأعمال المنتسبة إليها على أنها أجور على خدمات قام بها البنك المصدر أو البنك الواسطة (بنك التاجر) للتاجر، وللعميل، وهذه الخدمات تستحق أجرًا، وهذا الأجر غير مرتبط بالقرض الذي يحصل في التعامل بهذه البطاقات، حيث أن هذا الأجر يؤخذ –مثلًا- على حد سواء من المتعامل بالبطاقة الائتمانية سواء كان له حساب دائن لدى البنك المصدر أم حساب مدين، فعلى هذا الأساس توجد عدة تنبيهات لا بأس بالإشارة إليها، وأهمها:

1-

قد بيع المؤسسة التجارية حاجتها لحامل البطاقة بثمن أعلى من الاشتراء نقدًا، وكذا المؤسسة التي تقدم خدماتها لحملة البطاقات، فهل يصح هذا التعامل أو أنه يحتوي على شائبة ربوية؟

الجواب: أن المؤسسة التجارية قد تنظر إلى أن الثمن الذي تبيع به أحد حاجياتها بواسطة بطاقة الائتمان يحتاج إلى خدمات معينة من أجل الوصول إليه، فقد تصمم من الأول أن السلعة التي تباع ببطاقة الائتمان يكون ثمنها أعلى من السلعة التي تباع نقدًا لعدم احتياج أي خدمات للحصول على الثمن النقدي بخلاف الثمن الذي يكون ببطاقة الائتمان، فهو وإن كان مضمونًا من قبل البنك المصدر، إلا أن الحصول عليه يحتاج إلى خدمات معينة، فتكون هذه الخدمات المعينة داعية لزيادة ثمن السلعة التي تباع بالبطاقة الائتمانية وليست هذه الزيادة هي في مقابل لأجل، بل في مقابل السلعة التي يحتاج الحصول على ثمنها إلى جملة من الخدمات.

ص: 1089

2-

إذا كان مصدر البطاقة قد تضمن عقده نصًا ربويًا، كما إذا شرط المصدر في عهده مع الحامل للبطاقة دفع فوائد ربوية إذا تخلف حامل البطاقة عن الدفع في فترة معينة، فهل الدخول في هذا العقد إقدام على قبول إعطاء الربا الذي هو حرام؟

الجواب: أن حامل البطاقة إذا أقدم على قبول هذا الشرط بصورة جدية فيكون قد أقدم على التعامل بإعطاء الربا، أما إذا دخل فيه بانيًا على دفع قيمة القسيمة نقدًا، أو في خلال المدة المتفق عليها مع مصدر البطاقة، أو كان قاصدًا عدم قبول الشرط المذكور وعدم دفع الفائدة من تلقاء نفسه إذ يعتقد بحرمتها، فيكون هذا العميل قد قبل العقد ولم يقبل الشرط فلا يكون دخوله في هذا العقد حرامًا.

3-

أ- إذا امتنع حامل البطاقة من دفع قيمة القسيمة إلى البنك المصدر، فهل يتمكن المصدر للبطاقة من الرجوع على معتمد البطاقة لاسترجاع الثمن منه؟

الجواب: لا يتمكن مصدر البطاقة من الرجوع على معتمدها لاسترجاع الثمن منه وذلك لأن المصدر كان متعهدًا بالأداء، وبهذا التعهد فقد اشتغلت ذمته بالثمن ووجب عليه أداء ما أخذه العميل من التاجر، وبهذا تكون ذمة العميل مشغولة للبنك المصدر، فإن امتنع العميل من الدفع فقد ضاع مال البنك المصدر أن لم يكن للبنك المصدر إجراء آخر لأخذ دينه من قبله، ومن جملة الإجراءات التي يتمكن البنك من أخذها لعدم ضياع حقه هو "اشتراط البنك المصدر للبطاقة في ضمن تعهده للبائع رجوعه على البائع لو امتنع العميل عن السداد، فهو شرط صحيح بمقتضى قاعدة: المسلمون عند شروطهم ".

ب- إذا أخذ التاجر قيمة القسيمة من بنك التاجر الذي هو مأذون من البنك المصدر للبطاقة بالدفع، ثم امتنع البنك المصدر من التسديد لإفلاسه مثلًا، فلا يتمكن البنك الواسطة (بنك التاجر) من الرجوع على التاجر ولا على العميل؛ لأن الدين قد انتقل إلى ذمة البنك المصدر حسب التعهد الذي تعهد به، وقد دفع البنك الواسطة هذا الدين بإذن من البنك المصدر، إذن يكون البنك الواسطة –وهو بنك التاجر- دائنًا إلى البنك المصدر ليس إلا، فلا يتمكن أن يرجع على التاجر ولا على العميل.

ص: 1090

نعم، إذا اشترط على التاجر الرجوع عليه إذا امتنع البنك المصدر من التسديد، فهو شرط صحيح يتمكن بواسطته من الرجوع على التاجر في هذه الصورة.

ج- إذا امتنع بنك التاجر والبنك المصدر من دفع الثمن إلى التاجر لإفلاسهما مثلًا أو لأي شيء آخر فهل يجوز للتاجر الرجوع على العميل؟

الجواب: أن التعهد الذي صدر من المصدر يقضي بأن المال في ذمة المصدر، فيبقى التاجر يطالب المصدر، وليس له الرجوع على العميل، إلا أن يشترط التاجر على العميل الرجوع عليه أن لم يتسلم المبلغ من المصدر فهو شرط صحيح.

خلاصة البحث

إن خلاصة بحثنا المتقدم –بعد معرفة حقيقة بطاقة الائتمان وأقسامها وفائدتها وكيفية المعاملات التجارية بها- يكمن في التكييف الشرعي لها، وقد كانت خلاصته هي:

أولًا: لا إشكال في أخذ رسم العضوية من باب الأجر على عمل أو منفعة تؤديها شركة البطاقة لحاملها، وكذا لا إشكال في رسم التجديد، ورسم التجديد المبكر ورسم الاستبدال عند الضياع أو التلف أو السرقة، للسبب المتقدم نفسه.

ثانيًا: أن أخذ نسبة من ثمن قسيمة البيع للبنك المصدر إنما تصح (وتكون أجرًا على عمل قام به البنك المصدر، ومن قبيل أجر السمسرة مثلًا) إذا كان غير مرتبط بالقرض الذي قدمه البنك وغير مرتبط بالأجل أو بزيادته ونقصانه، ولأجل التأكد من ذلك؛ هو أخذ الأجرة من قبل البنك المصدر للبطاقة حتى إذا كان للعميل حساب دائن لدى البنك المصدر للبطاقة، ولا يفرق في أخذ الأجرة بين العميل الذي له حساب دائن والعميل الذي له حساب مدين لدى البنك المصدر، كما يمكن التأكد من أن القصد هو أجر سمسرة، هو إقدام البنك على أخذ هذا الأجر حتى إذا لم يقدم قرضًا إلى التاجر.

ثالثًا: أن أخذ نسبة من ثمن البضاعة من قبل العميل، وأخذ نسبة من الثمن المسحوب نقدًا خارج البلاد وأمثال ذلك من العمليات التي يتم بها الاستفادة من بطاقة الائتمان كله جائز بشرط أن لا ترتبط هذه النسبة بالأجل أو بالعوض الذي أدي إلى حامل البطاقة، وحينئذ تكون هذه النسبة مرتبطة بالنفع الذي قدمه إليه البنك الخارجي والبنك المصدر للبطاقة غير القرض الحسن الذي زامن هذا النفع، وللتأكد من صحة هذا القصد للقرض الحسن؛ هو أخذ النسبة نفسها من الذي لا حساب دائن لدى البنك المصدر للبطاقة.

ص: 1091

رابعًا: إذا لم يسدد العميل ما يجب عليه في ضمن مدة معينة، فلا يجوز للبنك المصدر أن يأخذ منه غرامات على التأخير، فإنها فائدة صريحة محرمة.

خامسًا: يجوز للبنك أن يجعل عمليات ترغيبية للعملاء من قبيل الجوائز أو التأمين على الحياة لمن يسافر إذا اشترى بطاقة سفر معينة، فإن الأول: يجوز إذا كان اقتراحًا من قبل البنك، ولم يشترط عليه العملاء ذلك، وأما الثاني: فهو داخل في عقد بين المصدر والعميل توفرت فيه أركان هذا العقد بصورة صحيحة.

سادسًا: قد تبيع المؤسسة التجارية سلعتها بثمن أكثر من الشراء النقدي لحامل بطاقة الائتمان، وهو أمر جائز وإن كان الداعي إليه هو قيام المؤسسة بخدمات معينة من أجل الحصول على الثمن، وهو أمر جائز حيث أن السلعة قد قوبلت بالثمن الأكثر حين البيع وإن كان الداعي هو تقديم الخدمات للحصول على الثمن.

سابعًا: قد تبيع المؤسسة حاجاتها لحامل البطاقة بأقل من السعر السوقي، وهو أمر جائز بلا كلام، إذ لا فرق بين أن يقول: بعتك السلعة بمائة، أو بمائة وعشرين مع خصم عشرين مثلًا.

ثامنًا: أن استقرار الضمان يكون على البنك المصدر للبطاقة ولا علاقة بين العميل والتاجر أو بنك التاجر، كما لا علاقة بين (بنك التاجر والتاجر) بالعميل.

تاسعًا: يجوز للعميل أن يتعامل مع شركة البطاقة حتى إذا تضمن عقدها معه أيضًا ربويًا بشرط أن يقصد دفع قيمة القسيمة نقدًا أو في خلال المدة المتفق عليها مع مصدر البطاقة، أو كان قاصدًا عدم قبول الشرط الربوي وعدم دفع الفائدة طوعًا، إذ يكون هذا العميل قد قبل العقد ولم يقبل الشرط الفاسد فلا يكون دخوله في هذا العقد حرامًا.

هذا خلاصة ما ذكرناه في بطاقة الائتمان، والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين وصحبه الميامين.

حسن الجواهري

ص: 1092

المناقشة

بسم الله الرحمن الرحيم

بطاقات الائتمان

الرئيس:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الواقع أن البحثين الذين قتدما بين أيدينا درسا الموضع دراسة مستفيضة، وأود أن أنوه بالتصوير الواقعي الاقتصادي لسعادة الأخ الدكتور محمد على القري، وهو رجل اقتصادي معرفو في المملكة العربية السعودية ومن الاقتصاديين الإسلاميين ذوي الغير، فهنا قسم بطاقة الائتمان إلى ثلاثة أقسام، ولهذا لا يمكن أن نعطي أو نصدر حكما عاما على البطاقات جميعها لأنها ثلاثة

موضوع بطاقة الائتمان هو موضوع جلسة العمل هذه، والعارض هو الشيخ محمد علي التسخيري، والمقرر هو الشيخ عجيل جاسم النشمي.

الشيخ محمد علي التسخيري:

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على سيد الأنبياء محمد وآله الطاهرين وصحبه.

سيدي الرئيس، كتب في الموضوع ورقتان من الأستاذين: الأستاذ الشيخ حسن الجواهري، والأستاذ الدكتور محمد القري بن عيد. سأحاول هنا تتبع ما كتباه مع فهرسة تنسجم مع ما استكتبت به الأمانة العامة.

أعطى الأستاذ القري نبذة تاريخية سار فيها مع تطور التبادل من المقايضة إلى النقود السلعية إلى النقود الائتمانية إلى استعمال البنوك للشيكات، وأخيرًا هو يعتبر بطاقة الائتمان دورًا جديدًا وأداة مالية، جاء دور بطاقات الائتمان ولكل هذه مميزات وخواص. ويعتقد أن عدد البطاقات على مستوى العالم بلغ نحو ثمانمائة مليون بطاقة، كما بلغ الائتمان الذي ولدته هذه البطاقات في أمريكا فقط سنة 1986م مائتين وخمسة وسبعون بليون دولار، وقد ظهرت هذه البطاقات في بداية القرن العشرين بسيطة وتطور العمل بها كما تطورت أنواعه.

ص: 1093

صيغة البطاقة الائتمانية:

تقسم هذه البطاقة إلى ثلاثة أنواع بشكل عام، ويجمعها أنها تشكل علاقة بين ثلاثة أطراف، وهذه الثلاثة سوف تمشي معنا، وهي:

الأول: مصدر البطاقة وهو في الغالب بنك.

الثاني: حاملها.

الثالث: التاجر.

فالمصدر يصدر بطاقات ذات مواصفات، والحامل يدفع رسم عضوية ليحصل على هذه البطاقة، وعندما يرغب حامل البطاقة في شراء السلعة أو خدمة يبرز البطاقة فيقوم التاجر بتسجيل رقمها وتوقيعه على قسيمة يوضح فيها ثمن السلعة أو الخدمة، ثم يقوم التاجر بتقديمها إلى المصدر ليحصل على مبلغ القسيمة مطروحًا منه مبلغ يتراوح بين 1 % إلى 8 % من الثمن، والمصدر يضمن ذلك للتاجر؛ طبعًا هذا المعنى بغض النظر عن وجود رصيد للحامل لدى المصدر أم لا، ولكنه يرسل الفاتورة كل شهر مرة ليدفعها حامل البطاقة، فإذا لم يدفعها وتأخر جاءت عليه فوائد. ويبين عقد الإصدار كل الشروط بما فيها الحد الأعلى من الائتمان ورسم الإصدار ومدة الصلاحية. أما أنواعها فهي على ثلاثة أنواع (المشهور منها) :

النوع الأول: ما يسمى ببطاقة الخصوم المدينة، حيث يدعم البطاقة رصيد، فهو أشبه بالضمان النقدي، وتسحب المبالغ –يعني المبالغ التي تأتي في القسائم التي تحصل بعد شراء الحامل من التاجر- من هذا الرصيد، وهذه تشبه الشيك، وهي ما تعمل به بعض البنوك الإسلامية كشركة الراجحي.

ص: 1094

النوع الثاني: بطاقة الائتمان العادية ولا ترتبط برصيد لحاملها لدى المصدر، يلتزم الحامل فيها بتسديد مبلغ الفاتورة خلال مدة أقصاها ثلاثون يومًا وإلا – كما قلنا- تمت ملاحقته ملاحقة قضائية، وأشهر أنواعها (أمريكان اكسبرس) .

النوع الثالث: بطاقة الائتمان القرضية، وتمتاز بأن حاملها لا يجب عليه الدفع خلال مدة، بل يمكنه جعل المبلغ بذمته ودفع فوائد التأخير، وأشهر أنواعها (الفيزا والماستر كارد) .

وقد أشار الشيخ الجواهري إلى صيغ أكثر تفريعًا وتعقيدًا نسبيًّا. فمن ناحية المصدر هذه صيغ أكثر تعقيدًا، نجده تارة يوقع عقدًا مع شركة أو شخص خاص نسميه التاجر، وأخرى يصل الأمر به من الشهرة بحيث لا يحتاج الأمر إلى عقد، كما أن المصدر قد يقوم بتوقيع عقد مع بنك أو جهة أخرى حقيقية أو حقوقية تشكل واسطة بين المصدر وبين التاجر، تتعهد بدورها بأداء مبلغ الفاتورة ثم تعود على المصدر بالمبلغ. وقد تبلغ شرهة المصدر حدًّا تجعل البنوك الأخرى تقدم على هذا دون ما حدوث عقد بينها وبين المصدر ثقة منها بأنها ستعود عليه بما دفعته. كما أن ما يأخذه المصدر من الحامل تارة يكون نفس قيمة الفاتورة وأخرى يزيد عليه بنسبة معينة، وربما كانت تتراوح بمقدار المدة المسموح بها للدفع، فإذا تأخر بعدها أخذت نسبة إضافية. كما أن إصدار البطاقة لمن يريدها قد يكون مجانًا وقد يكون في قبال رسوم سنوية وقد يكون ببيعها ممن يرغب فيها، كما أن ذلك قد يشترط بفتح حساب لدى المصدر وأخرى لا يشترط. ثم إن البطاقات قد توجب الدفع خلال شهر واحد وأخرى لا توجبه ولا تحدد الدفع الفوري، فإذا دفع فورًا فهو، وإلا وضعت عليه فوائد مباشرة. كما أن البطاقات قد توجب الدفع الفوري خلال مدة أو تسقط دفع المبلغ إلى آجال متعددة. وهناك بطاقات كثيرة منها البطاقة الذهبية والبطاقة الماسية والبطاقة الخضراء. سماوية أو برونزية بعضها.

ص: 1095

أما بالنسبة إلى فوائد البطاقة، الفوائد يقال: إنها تعود على المصدر والحامل والتاجر وعلى المجتمع أيضًا، أما المصدر فيحصل على رسوم إصدار البطاقة وتجديدها، وتجديدها المبكر، وعلى نسبة من ثمن السلعة أو الخدمة يستوفيها من التاجر وربما من الحامل أيضًا، وعلى فرق سعر العملة الأجنبية إن سدد بها وربما أخذ أجرة على وفاء الدين خارج البلد، وكذلك على غرامات التأخير، ويحصل على نسبة من الثمن في مقابل استخدام نظام تحويله الإلكتروني، وربما أخذ عمولة على دفعه النقود لبطاقة ائتمان تصدرها شركة الخدمات، هناك شركات خدمات فقط مثل شركات الفيزا الائتمانية، وربما أمكن تصور حوض من السيولة لديه بسبب تدفق المدفوعات قبل التسديد، كما يمكن تصور دخول أخرى كدخول الحجوزات وأمثال ذلك، هذا بالنسبة للمصدر.

أما حامل البطاقة فتشكل لديه وسيلة دفع جاهزة مأمونة تمكنه من الشراء في أية ظروف جاهزة، كما تيسر له الدفع بأية عملة كانت فيستريح من مسألة خروج العملات من البلد وإدخالها إلى البلد وذلك في البلدان التي تفرض قيودًا على العملة، كما أنها تحمل معها وسائل المحاسبة؛ بل قد يلتزم التاجر بتخفيض ثمن السلعة أو تقسيطها له. وبعض البطاقات تمنح صاحبها التأمين على الحياة، وحدودًا ائتمانية عالية وخدمات دولية كأولوية الحجز في مختلف الأماكن، وبعضها يدفع جوائز وهدايا، وضياعها لا يوجب إلا مسؤولية محدودة، كما ذكر الشيخ القري المباهاة فائدة لذلك أي أنه يقول: أنا أحمل هذه البطاقة أي أنها نوع من المباهاة. وكذلك مسألة توزيع الدخل يستطيع حامل البطاقة أن يوزع دخله الشهري بشكل منظم. أما التاجر فيستفيد من الحوافز التي توجدها البطاقة يعني حتى المفلسين إذا كانوا يحملون بطاقة يمكنهم أن يشتروا. وربما أضاف إلى قيمة الفاتورة، بل وإلى كل القيم حتى تلك التي تدفع نقدًا، أضاف الفرق إلى القيمة؛ لأن الدول التي تقبل هذه البطاقات لا تسمح بسعرين للسلعة. ثم إن التقسيط عن طريق البطاقة يتفوق على التقسيط من التاجر مباشرة، كما أنه قد يستفيد من حملات الدعاية التي ينظمها المصدرون يعني أنهم يذكرون اسمه في حملة الدعاية، وكذلك يستقطب عملاء جددًا وعملاء من النوع الممتاز مثلًا، كما يسلم من مخاطر الاحتفاظ بمبالغ نقدية كبيرة في المحل. أما الآثار الاجتماعية فهي تارة إيجابية وأخرى سلبية، فمنها:

أ- توسع السوق –السوق تتحرك وتتوسع- وزيادة حجم الطلب ما ينسجم مع العرض على السلع والخدمات مما يزيد في نظر الاقتصاديين معدل النمو الاقتصادي، وأثره السلبي هو تقليل معدل الادخار وتراكم الديون، وأضيف إليه أنا أيضًا مسألة اتساع الطلب الكاذب أو ما نسميه (الإسراف في الشراء) . الإسراف في عملية الشراء أي طلب كاذب يعني أنه هو ليس لديه قدرة لكن عنده كارت وعندها يشعر بشيء من المباهاة، يشتري أكثر فيصير إسرافا في عملية الشراء.

ص: 1096

ب- تقليل التعامل بالنقود وتوفير قدر أكبر من الأمان للأفراد.

ج- يؤدي انتشارها إلى تحول الائتمان الخاص ببيع السلع والخدمات من الشركات المنتجة إلى البنوك، ومعناه استتباع ذلك نمو القطاع المالي واتجاه الأرباح نحو النشاطات المالية دون الإنتاجية، وأنا أعتبر هذا الاتجاه منحى سلبيًّا إلا أن يفسر بتفسير آخر.

د- يؤدي إلى زيادة حجم السيولة في الاقتصاد من خلال زيادة قدرة المؤسسات المالية المصدرة على خلق الائتمان بدون حدود، يعني هذا الكارت يمكن بالاتفاق يخلق ائتمانًا عاليًّا جدًّا.

هذه الفوائد التي ذكرت في البحثين جمعتها بشكل كامل.

المهم هو أنواع التكييف أو التخريج الفقهي لهذه العملية. جاءت في البحثين تكييفات فقهية أمر عليها مع بعض التعليق مؤكدًا على أن أهم إشكال يورد على نفس العملية هو ذلك الخصم الذي يأخذه المصدر من الفاتورة التي يصدرها التاجر ويوقع عليها الحامل، لكن هذا سيكون آخر حديثي، أذكر الإشكالات الأخرى يعني موارد الإشكال التي هي سهلة الحل حتى نصل إلى هذا المورد. منها موضوع رسم الاشتراك وذلك عندما يريد أن يشترك يجب أن يدفع رسمًا، أو العضوية، أو التجديد المبكر يريد أن يجدد بشكل مبكر قبل انتهائها، أو التبديل. أشكل عليه بأنه لا يعلم –أشكل عليه الدكتور القري- بأنه لا يعلم أن دفعه يتم مقابل أي شيء؟ فإن كان لمجرد العضوية وحصوله على القدرة وعلى المباهاة، فهو كما يبدو في رأيه أكل للمال بالباطل، وإن كان في قبال عدد المرات التي سوف يستفيد بها فيها من هذه البطاقة التي يتمتع بها، ففي العقد جهالة أو غرر، هذا العقد يعني في مقابل رسم العضوية جهالة أو غرر.

ص: 1097

جوابه: أعتقد أنه واضح في بحث الشيخ الجواهري الذي يؤكد على أنه أجر على عمل أو منفعة يؤديها المصدر تمكنه من القيام بهذه العملية النافعة.

من الإشكالات موارد الربا المسلمة كما في فوائد تأخير الدين، يعني إذا تأخر حامل البطاقة عن التسديد إلى المصدر عن المدة المعينة، وهي في الحقيقة أعتقد أنها مسألة لا تمس صميم موضوع البطاقات وإنما تعرض عليها من خلال هذا التأخر فيجب على حامل البطاقة ألا يتأخر. وحينئذ وقع هنا بحث جديد في مسألة التوقيع على عقد فيه شرط من هذا القبيل، الشركات الأخرى تشترط إذا تأخرت عليك، بدفع كذا، معلقًا على التأخير، فهل هو عمل فاسد ومفسد أيضًا؟ إذا وقع على العقد الذي فيه مثل هذا الشرط الفاسد فاسد بنفسه أو فاسد ومفسد لعقد؟.

تردد الدكتور القري –حفظه الله- في الإجابة لاختلاف الأقوال، وأجاب الشيخ الجواهري بعدم الضرر إذا كان قد قرر هذا الحامل عدم التأخير من الأول فتوقيعه توقيع صوري في الواقع.

من الإشكالات ما يقوم به بعض المصدرين من تسييل الديون التي لهم على الحاملين بتحويل ما بذمة الحملة إلى أدوات مالية تعرض للبيع على بنوك أخرى. وقد أشكل الدكتور القري عليه أنه من باب بيع الدين لغير من هو عليه وقال: إنه باب من أبواب بيع الكالئ بالكالئ، الصحيح هذا الأمر حتى لو تم أيضًا يعد من عوارض البطاقة، يعني ما تقوم به يقوم به المصدرون، والتي يجب أن ينتهي عنها المصدرون، على أن في مسألة بيع الدين لغير من هو عليه بحثًا مفصلًا، وهل يدخل تحت بيع الكالئ بالكالئ؟ أنا أعتقد أنه لا يدخل تحت هذا البيع، هذا في محله أيضًا.

ص: 1098

هذا وقد قلنا: إن أصل الإشكال في تكييف العلاقة بين الاثنين بما يحقق إمكانية خصم جزء من ثمن الفاتورة لصالح المصدر، كما يحقق الالتزامات والخصائص الأخرى للبطاقة. هذا هو أصل الإشكال. من هنا جاءت تكييفات فقهية أشار إلى بعضها الدكتور القري بإشارة عابرة، ولكن بشكل غير مباشر عندما قدم مقترحاته للبديل. ذكر الشيخ الجواهري مجموعة منها بالتفصيل، - فهذا هو التكييف الأول- من قبل الحامل للتاجر على المصدر. فلنلاحظ هذا التكييف وتفصيلاته ثم نستعرض تكييفات أخرى.

التكييف الأول: الإيرادات التي تذكر على تكييف الحوالة والتي ذكرها الشيخ:

أولًا: قيل: إن أحد أطراف الحوالة لم يدخل في العقد وهو المصدر فلا يعلم رضاه أثناء عقد الحوالة، المصدر لا يعلم بتحقق هذا، متى يتحقق هذا المعنى؟ وأجاب بأنه وإن كان هناك اختلاف بين الفقهاء في اعتبار رضا المحال عليه إلا أنه حتى لو قلنا باعتباره، كما هو الأقوى لو كانت على مليء فإن المصدر أعلن رضاه منذ قبوله بإعطائه الكارت أو البطاقة.

ص: 1099

ثانيًا: تم الإشكال في صحة الحوالة على المليء في حالة ما إذا لم يكن للحامل رصيد لدى المصدر حتى مع رضاه، وأجاب عن ذلك بأنه المشهور لدى علماء الإمامية، وعقب هو بأننا لو بقينا والعمومات الشرعية فإنها تصححها باعتبارها عقدًا عرفيًّا ولم يتعرض لرأي العلماء الآخرين.

الشيخ الجواهري يقول: هذا مؤشر على أن هذه النسبة عندما كانت مئوية فهي ربوية، وأضاف الشيخ الجواهري مؤكدًا على أن قبول الحوالة ليس مما يقابل بالمال فمالية قبول الضمان أو الحوالة هي نفس مالية المال المعطى للتاجر، فالعمولة ليست إلا بإزاء المال المقترض فهي ربا. والحقيقة هي أننا لو لاحظنا مجمل الخدمات والتسهيلات التي قدمها المصدر كخدمات التحويل وتسهيل التعامل والخبرة ومنها أيضًا مسألة قبول الحوالة برمتها وما يترتب عليها لرأينا أن أخذ عمولة عليها لا يعد عرفًا أكلًا للمال بالباطل ولا يعد في مقابل القرض ليعود ربا.

التكييف الثاني: ملخصه أن المصدر أقرض الحامل ثمن السلعة وأخذ من التاجر العمولة، وربما كان ذلك في قبال تسديد المصدر لدين التاجر. يعني التاجر يطالب الحامل، المصدر هو يسدد دين التاجر وفي مقابل هذا التسديد وهذه الخدمة يأخذ أجرة، لا في قبال القرض المقدم للحامل، فهو يؤخذ حتى ممن له حساب دائن لدى المصدر، أي لو كان الحامل له حساب دائن لدى المصدر، مع ذلك يؤخذ من التاجر هذا المقدار. وقد رده الشيخ الجواهري بأن الواقع يقرر أن المبلغ مأخوذ في قبال القرض وإلا فإن التاجر لن يقدم على تقديم عمولة لو لم يقدم المصدر على الإقراض، فهو إذن قرض جر نفعًا فهو محرم. والحقيقة هي أن هذا التصوير غير واقعي في نفسه، أي أنه لا ينطبق على الواقع القائم، ولكنه لو كان واقعيًّا فلا مانع من أن يتصور التاجر كل عمليات التسهيل التي يقدمها المصدر ويلاحظ منافعه ثم يقدم على دفع العمولة.

ص: 1100

التكييف الثالث: إن هذه العمولة تؤخذ على تحصيل الثمن من الحامل المدين للتاجر هنا على تحصيل الثمن، طبعًا مع ملاحظة أن في العملية تقديمًا وتأخيرًا، يعني البنك هو يقدم رأسًا ثم هو يذهب ويحصل، هذا التقديم والتأخير لا يضر.. اقتضته سهولة دفع المصدر ليكون التزامه منضبطًا، ولا مانع من أخذ أجرة لقاء تحصيل الدين أو توصيله، والمصدر هنا ليس ضامنًا للحامل وضمانه إنما هو لضبط التزاماته، وإذا لم يكن للحامل لدى المصدر حساب كانت العملية عملية إقراض له دون فائدة، فهي عملية إقراض للحامل وأخذ هذا المبلغ من التاجر لتحصيل دينه. وقد رده الشيخ الجواهري أيضًا ذاكرًا بعض المنبهات على القصد الحقيقي للعملية. حقيقة هذه المنبهات لم تنبهني فبقيت مع صحة هذا المعنى، ولا أريد أن أذكرها كلها إلا أن الظاهر أن المعمول به في الخارج لا ينسجم مع هذا التكييف ولو انسجم فلا بأس به.

التكييف الرابع: إن العمولة أجر على قبول البنك لضمان الحامل، فينتقل ما في ذمة الحامل إلى المصدر عند إقراضه الحامل، وقبول هذا الضمان وإن كان عقدًا إرفاقيًّا للحامل فلا يمكن أن يأخذ أجرة من الحامل باعتبار أنه عقد إرفاقي، فلا يجوز أخذ نسبة من الثمن منه، لكنه ليس كذلك بالنسبة للتاجر فيمكنه أن يدفع الأجرة لقاء قبول الضمان. وقد ناقشه الشيخ الجواهري أيضًا باعتبار أن الارتكاز العرفي يرى أن قبول الضمان لا يقابل بمال، بل ماليته هي مالية المال المعطى للتاجر؛ وسبق أننا لم نقبل مثل هذا الاستدلال.

التكييف الخامس: ملخصه أن ما يأخذه المصدر من ثمن البضاعة هو أجرة سمسرة، وبطبيعة الحال هو دلال، وبطبيعة الحال هو يقوم بجملة خطوات تسهل العملية وتنفع التجار والعملاء. وقد ذكره الشيخ الجواهري وهو وجه وجيه كما أعتقد.

هذا وقد ذكر تكييفا سادسا أعرض عنه لأنه غير واقعي، يعني يجعل الحامل في الواقع نائبًا عن المصدر في الشراء. وهكذا نجد أن كل الوجوه المذكورة تامة لتصحيح العملية في رأينا، وإن لم يتم بعضها في رأي بعض الباحثين الكرام. بقيت هنا مسائل فرعية نتركها اختصارًا للوقت. إلا أن من الضروري أن نلاحظ أن البطاقة إذا كانت مما يسحب بها النقود والعملات من المصارف والشركات والأشخاص فلا محال هي حوالة عليهم، ولا تصدر إلا بعد قبول المحال عليه، والظاهر صحة الحوالة وجواز السحب بها. في الخاتمة ذكر الأستاذ القري بعض الخطوط العامة أذكرها سريعًا للوصول للصيغة المشروعة في رأيه، وهي:

أولًا: أن يكون الإصدار من جهة حكومية عامة وذلك لأسباب اقتصادية باعتبار أن الإصدار هو في الواقع في مثيل إصدار النقود.

ص: 1101

ثانيًا: بناء العلاقة بين المصدر والتاجر على أساس الحوالة، فإذا لاحظنا شرط المالكية باشتراط أن يكون للمحيل على المحال عليه دين، أي أنهم يرفضون الحوالة على مليء وإلا كانت حمالة، فالمقتطع هو أجرة الحمالة، وينص في العقد على عدم براءة ذمة المحيل.

ثالثًا: يجب حذف عملية القروض المتجددة، فإذا ماطل العميل يعاقب بإلغاء عضويته، ويهدد بظروف جزائية أو وضعه في القائمة السوداء، وما إلى ذلك.

رابعًا: ويحسن أن ينص في عقود الإصدار على أنه لا يسمح لحاملها – وهذا غريب إذا جاء هذا النص بعد

لا يصبح بطاقة- ببيع البضاعة على نفس البائع، وإلا فهي أداة للعينة ولا لسواه؛ لأن ذلك نوع من التورط، ففي الأول يقال: لا تملك الحق، أي لا تبعها للبائع ولا لغيره.

خامسًا: ويجب تقديم البطاقات دون مقابل، وهنا يجعل المصدر مجرد ضامن فليس له أخذ رسوم من الحامل؛ لأن أخذ الأجرة على الضمان باطل. ويمكن صياغة العلاقة بين المصدر والحامل ضمن عقد الضمان فلا يجوز الأجر على ضمان، كما يمكن صياغتها وفق الوكالة وحينئذ يستطيع أن يأخذ أجرًا على وكالته، ولكن بشكل خصم من فاتورة التاجر.

هذه هي سيدي الرئيس – وأعتذر إن كنت قد أطلت- الخلاصة، ولكني أعتبرها وافية جاءت بلب الموضوع، وأعتذر لكم، وأشكركم على حسن الاستماع، وشكرًا.

الرئيس:

شكرًا، في الواقع الشيخ أعطى ملخصًا جيدًا عن بطاقة الائتمان، لكن كان بودي لو ربطت بين الحاضر والماضي، وهو أن هذه البطاقة سبق أن درست في الندوة التي عقدت في البحرين وأن الندوة لم تصل إلى شيء بات فيها، وكان من أعضائها الحاضرين الشيخ المختار والشيخ الصديق، وكذلك درست في الدورة السابعة الماضية قريبًا ووزع على الجميع الآن القرار الذي حصل فيه التوقف، ثم هناك لفتة مهمة وهو أنه كان بودي لو ذكر ملخص أسباب التوقف التي حصلت في الدورة الماضية لأجل أن ينظر هل هي لا تزال قائمة؟ وحصلت بحوث استكتب أصحابها فغطت هذه الجوانب أم لا؟ هذه أشياء مهمة لأن بطاقة الائتمان أذكر أن الإخوة الاقتصاديين في الدورة قالوا: إنها غير مستقرة، يعني في كل وقت، من وقت لآخر يحصل لها أوصاف زيادة ونقصان، فعلى كل شكرًا للشيخ علي.

ص: 1102

الشيخ محمد علي التسخيري:

سيدي الرئيس، أنا أولًا: ما كان ينبغي أن أكون أنا العارض لأنني لم أكتب فيه، وعندما جئت إلى هنا فقط قيل لي. وثانيًا: لم توزع أو لم أعط السوابق حتى ندوة البحرين، وثالثًا: ما قلته تقريبًا فيه روح ما قيل في الموضوع، يعني فيه كل الإشكالات وفيه كل الأجوبة. معذرة هناك شيء، أصبح هذا مثل النقود، يعني هذه واقعة مرحلة نقدية فيجب أن نلحظ الأهمية، وعندما نقول ندرك أن الأثر السلبي قوي، والأثر الإيجابي قوي؛ يعني كلا الطرفين.

الدكتور محمد عطا السيد:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، اللهم صل على محمد عبدك ورسولك.

في الحقيقة نفس الملاحظة، لاحظت أن المرة الماضية عندما ناقشنا بطاقة الائتمان وصلنا إلى مشاكل معدودة، وبالتالي توقفنا عن إصدار قرار في هذه المسألة، وبكل أسف لاحظت أن هذه البحوث –أيضًا- لم تتغلب على هذه الصعوبات التي توقفنا عندها المرة الماضية، وهذه الصعوبات بالتحديد، وأنا أريد أن أذكر بعضها:

الأولى: أن بطاقة الائتمان بالطريقة المعمول بها الآن، أن الذي يحمل البطاقة يذهب إلى التاجر أو المحل التجاري ويشتري البضاعة وذلك ببطاقة الائتمان ولا يدفع نقودًا، ولكن بالبطاقة يحول المبلغ إلى البنك، ثم بعد ذلك يدفع البنك هذا المبلغ ويأخذ عمولة من التاجر. التاجر لا يضع أسعارًا معينة منفصلة لأصحاب البطاقات ولكن هذه الأسعار عامة، فمعنى ذلك أن التاجر يأخذ في حسبانه النسبة التي يأخذها البنك من أصحاب البطاقة ويضيف ذلك السعر في أسعاره؛ يعني هذا المبلغ في حساباته للأرباح في جملة التجارة الموجودة في المحل التجاري. ولذلك أرى أن في هذا إجحافًا كبيرًا جدًّا ببقية المشترين الكثر الذين لا يمتلكون بطاقة الائتمان يأتون إلى المحل، ويشترون وهم الناس الضعاف الذين لا يستطيعون أن يتحصلوا على بطاقة الائتمان؛ لأن بطاقة الائتمان لا تعطى إلا للذين يستطيعون أن يدفعوا، أي عندهم دخل عال، وعندهم مصدر كبير ولذلك يعطيهم البنك هذه البطاقات. فإذا معنى ذلك أن الأشخاص الذين لا يمتلكون ذلك الدخل يشترون البضاعة بأثمان أكثر، والسبب في ذلك هو العمولة التي يأخذها البنك من أصحاب بطاقات الائتمان، فلا بد أن ذلك يؤثر في زيادة الأسعار في السوق، وفيه خطورة على التضخم –لا شك في ذلك- وظلم وإجحاف ببقية الناس الذين لا يحملون بطاقة الائتمان.

ص: 1103

الناحية الثانية: بطاقة الائتمان بالطريقة المعمول بها الآن، العقد فيه ناحية ربوية لا شك فيها؛ لأن البنك يريد من الذين يحملون بطاقة الائتمان أن يشتروا البضائع، يعني يمكن لهم أن يشتروا ما شاءوا، ودائمًا البنوك تبتغي أن يدفعوا هذا المبلغ بالتقسيط وتضع عليهم أرباحًا بناء على هذا التقسيط، وهذه الفائدة التي تبنى على هذا التقسيط في دفع ثمن البضاعة هذا التقسيط هو بعينه الربا، حتى أنه ذكر في أحد البحوث أنه قد يمضي هذا البنك هذا العقد الربوي ويكون في نيته أن يدفع المبلغ بدون تأخير، لكن قد يحصل – وهذا شيء متوقع- أنه في يوم من الأيام نسبة للمشغوليات لا يدفع المبلغ، فإذن يضع عليه البنك أتوماتيكيًّا فائدة ربوية يكون مجبرًا، ولا مخرج له إلا أن يدفع هذه الفائدة أو أن تلغى بطاقة الائتمان.

فإذن معنى ذلك توقيعه على هذا العقد من البداية توقيع على عقد ربوي، وفي رأيي هذه المسألة غير مقبولة، أنا لا أعارض على مبدأ بطاقة الائتمان، لكن الأخذ به بصورته الحالية الموجودة بين البنوك والمتعاملين – أصحاب البطاقة- غير مقبول إسلاميًّا في رأيي.

ولذلك أرى أنه إذا كنا نريد أن نقدم هذا النظام في وضعنا الإسلامي الشرعي يجب أن نكيف بطاقة الائتمان بطريقة مختلفة تمام الاختلاف عما هي عليه الآن في البنوك التجارية التي في بلادنا، وشكرًا.

ص: 1104

الشيخ وهبة مصطفى الزحيلي:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحقيقة أؤيد جملة ما قاله الأخ الشيخ عطا في أن هذا العقد يشتمل على قرض جر نفعًا وفيه ربا؛ لأن احتمال ضم الفائدة على هذه الديون التي تستقر على صاحب البطاقة إنما هو من قبيل ضم الشرط الفاسد إلى العقد الأصلي، وهذا عند الإمام أبي حنيفة الشرط الطارئ يفسد العقد تمامًا كما لو كان مصحوبًا به أصل العقد، هذا شيء.

كذلك في حالة أخرى، هذا الذي يضم من البنك على نفس التاجر وهو الخصم من 1 % إلى 8 % هو يشبه أيضًا حالة خصم الكمبيالة، فخصم الكمبيالة أيضًا نحن لم نقر هذا العقد لأنه من قبيل دفع شيء في مقابل التأجيل، وذلك خاضع أيضًا للقواعد الربوية، إذن لا مجال لتصحيح هذه البطاقات إلا على أساس الحالتين اللتين ذكرهما فضيلة الشيخ التسخيري –وقد أجاد في عرضه- إما أن تكون هذه البطاقة كما تفعل مؤسسات الراجحي بحساب للعميل عند البنك وهذا لا إشكال فيه، وإما أن تكون من غير مقابل وهذا أمر مقبول. هذا شيء.

وأنتقل إلى شيء آخر له صلة بالقضايا العامة، وعودًا على بدء افتتاح هذه الجلسة المباركة والتي أهنئ فيها رئاسة المجمع وأمانته، إن هذه الجلسة كانت غنية بمواضيع ومستويات ارتقت عن كثير من الدورات السابقة وخصوصًا فيما يتعلق بالإعداد واختيار الموضوعات، وحبذا لو كنا سعداء لما حذفنا موضوع (حقوق الإنسان) لأن هذا العام عام حقوق الإنسان فلو صادفنا الحظ وكان لنا قرار في هذا العام يكون أوقع للاعتبارات العالمية. هذا ما يتعلق بموضوعات هذه الجلسة، أما ما يتعلق في جلسات الافتتاح فإني باعتبار أننا في آخر يوم من جلسات المؤتمر، أرجو كما هو المتبع حينما نوجه برقية شكر لسلطان هذه البلاد على استضافته لهذه الدورة أرجو أن نضمن أن المؤتمر يتعاطف ويؤكد على ما أبداه السلطان من الاتجاه نحو تطبيق الشريعة الإسلامية في بلاده والتسريع في هذا الأمر، هذا شيء.

ص: 1105

والشيء الآخر النقطة الهامة التي تشغل العالم الإسلامي أيضًا أن يكون هناك عمل رسمي من الدول الإسلامية في دعم جهاد إخواننا في البوسنة والهرسك وإن كان الغالب أن المجمع لا يتعرض للقضايا السياسية؛ لكن هذه قضية الساعة على الأقل إن لم يكن لنا فيها توصية أو قرار أن نضمنها في برقية للسلطان فهذا مهم؛ لأن العالم دائمًا يسألون ماذا فعلتم في قضية البوسنة والهرسك؟

القضية الثانية: إنني سعدت حينما قرأت خطاب معالي وزير الشؤون الدينية في أنه تضمن اقتراحًا يصلح أن يكون محلا لندوة مستقلة أو موضوعًا من الموضوعات المستقبلية للمجمع، وهو قضية العمل على وضع منهجية للفكر الإسلامي والعمل الإسلامي فقد أشار سعادة الوزير إلى أن هناك أناسًا كثيرين يرفضون العمل بالسنة ولا يعتبرون إلا القرآن الكريم وهذا فيه مسخ للشريعة. وهناك توضيح لا أريد أن أضيفه إلى ما قاله سعادة الوزير وهذا كلام في غاية الدقة. أمر آخر وهو أن المدرسة الحديثة ممن تربوا في أحضان الغرب وعلى أيدي المستشرقين ينكرون كل هذا العمل الذي نقوم به ويدعون لأنفسهم أنهم أنصار البحث الحر والتجديد وأننا نحن المتخلفون وهم المتقدمون، وهؤلاء يتربعون على كراسي مهمة في الجامعات العربية والإسلامية بحجة التجديد ولهم دعم وتأييد، ودائمًا نحن نتهم بأننا في مرتبة ثانية وهم في الطليعة، فهؤلاء أنكروا كثيرًا من العلوم منها: علم أصول الفقه – كما يذكر الوزير- ومنها علوم أخرى، فأرجو أن يضمن في موضوعاتنا المستقبلية إما ندوة أو بحث لهذا الموضوع وهو يدور حول المنهجية الإسلامية لنلقي حجر أولئك الذين يتطفلون على الفكر الإسلامي وعلى قضاياه وعلى أصوله وعلى أسسه، وحينئذ نكون قد أبرأنا الذمة أمام هؤلاء.

القضية الأخرى التي أشار إليها فضيلة الرئيس في العام الماضي وفي هذا العام في افتتاح كلتا الدورتين أن هناك سيلًا من الكتب التي تحمل السموم وفيها الزيف والانحراف والضلال، ويؤثر في تفريق وتمزيق الأمة الإسلامية وهذه الكتب كثيرة منها في تونس ومنها في مصر ومنها في سوريا ومنها في الحجاز وبلاد أخرى في الخليج وما أكثر هذه الكتب التي تدس السم في الدسم وتسيء إلى الفكر الإسلامي إساءة بالغة والتي كما أشار فضيلة الرئيس بالذات قضية الطعن في الصحابة وفي السلف الصالح، والحقيقة نحن كلنا تألمنا، وإذا كنا نطعن في أصول تاريخنا فلا خير فينا، والله لو حملنا وقلنا لأننا نحن الأوصياء على الإسلام في هذا العصر ونطعن في واحد من أصول سلفنا الصالح فلا خير في هذه الأمة

كتب تدرس وتنقح ويشار لها، ويكون لنا قرار يشجب هذه الكتب وأصحابها ونبين حكم الله وشرعه في أصحاب هذه الكتب التي لا تريد بالإسلام والمسلمين إلا شرًّا.

ص: 1106

وأشكر سلفًا كلا من معالي الرئيس والأمين العام على الاستجابة لهذين المقترحين أو الاقتراحات الثلاثة وشكرًا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأمين العام:

بسم الله الرحمن الرحيم

صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

أنا أشكر أخي فضيلة الدكتور وهبة الزحيلي على هذه الاقتراحات التي تفضل بالإعلان عنها وطلب من الأمانة العامة أن تضعها موضع الاعتبار بالنسبة للدورات القادمة، لكني أريد أن أبادر من الآن إلى القول بأننا في تخطيطنا هذه السنة وضعنا جملة ندوات من بينها ندوة حول الفكر الإسلامي وبنائه، هذا وقع الاتفاق عليه وسيقع الاستكتتاب لبعض المتسكتبين قريبا إن شاء الله. أما بقية الموضوعات فهي تشغل بال المسلمين عامة والمفكرين منهم والذين يهمهم أمر هذه الأمة وهذا الدين، لأنه قد نخره كثير من الأمراض والأدواء، ومن واجبنا أن نقف أمام هذه التيارات لنحد من شرها ولندعم البناء الإسلامي دعما حقيقيا، ولذلك فإن ما تفضلتم به من إشارة الشيخ حفظه الله العام الماضي وفي هذه السنة في مفتتح الدورة إلى هذه القضايا هو في الواقع شغل بال كثير من الإخوان أيضا، وقد أشرت إلى هذا عند الحديث عن السنة النبوية والرد على خصومها بأن هيئة تكونت في المملكة العربية السعودية لدراسة هذه القضايا من أطرافها- كل هذه الموضوعات- والإخوان الذين اجتمعوا في هذه الندوات قد تقاسموا الموضوعات، وكونوا ملفا لكل قضية من القضايا، ونحن ماضون- إن شاء الله - في دراستها، فهذا للتطمين.

وأنا أشكركم مجددا على هذا الاقتراح. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 1107

الشيخ إبراهيم فاضل الدبو:

بسم الله الرحمن الرحيم.

الأساتذة الأفاضل.

عندما قرأت الأبحاث التي قدمها الأساتذة عن بطاقة الائتمان تبين لي أن الإخوة يخرجون هذه البطاقة على عقود مالية - كما يدعون- شرعية بغية إيجاد المخرج الشرعي لها، فالذي فهمت من هذه الأبحاث ما يلي:

أولا: إن هذه البطاقة تعتبر من قبيل الكفالة أو ما يعبر عنه في الفقه الإسلامي بكفالة الدرك، وقد اختلف الفقهاء في جوازها بين مجوز وممانع، ولو أخذنا برأي القائلين بالجواز فكيف نسوغ للكفيل أخذ الأجرة على كفالته؟

ثانيا: إن هذه البطاقة تعتبر من قبيل الجعالة، وأيضا لا يمكن تخريج هذه البطاقة على الجعالة، لأن الجعالة من المعروف لدى حضراتكم أنها تصدر عن إرادة منفردة، يلتزم شخص بدفع شيء من المال لمن يأتي له بجعله من سيارة أو دابة أو ما أشبه ذلك.

وفي بطاقة الائتمان - كما يصورها الإخوة - هي عقد يتم بين أطراف ثلاثة. إذن لا يمكن أن نخرج هذه المسألة على الجعالة.

ثالثا: من الإخوة الباحثين من اعتبر أن المسألة هي عبارة عن حوالة. أقول: كذلك لا ينطبق على هذه المسألة مفهو الحوالة، لأن الحوالة تفترض وجود دين مسبق بذمة المحال عليه ولا بد هنا من رضا المحيل، وهنا لا يوجد دين على البنك لنعتبر المسألة من قبل الحوالة، ولا يتصور لنا في هذه المسألة أيضا رضا المحيل.

رابعا: الفوائد التي يجنيها البنك من جراء إصداره البطاقة، منها ما هو مقبول شرعا ومنها ما هو مرفوض، فالمقبول منها مثل استيفاء رسوم تجديد البطاقة أو رسوم تبديلها أو ما شابه ذلك، إذ أنه لا يعدو عن كونه فعلا كما ذكر الإخوة الباحثون أنه أجر على عمل أو منفعة تؤديه الشركة التي تصدر هذه البطاقة ووكلاؤها لحامل البطاقة.

أما تحصيل البنك على نسبة من مثمن البضاعة يستوفيها من التاجر حسب الاتفاق معه عند تسديده لقيمة قسيمة البيع أو الخدمة أو يحصل على نسبة من الثمن عند تسديد العميل ما عليه كأجر على تسديد البنك دينه الذي للتاجر وهذا لا يجوز. وما يقال: لدفعه إلى أصحاب المحلات التجارية، أقول: إن هذا التكييف غير مقبول شرعا أيضا، لأنه لو تصورنا بأن البنك كفيل أو وكيل بدفع الدين مثلا: فعلى أي أساس يجوز له أن يأخذ أكثر مما دفع؟ وعلى أي أساس يدفع له التاجر الذي هو دائن في الأصل جزءا من الدين؟ ففي هذه الحالة لا تعدو المسألة عن أن تكون إبراء للكفيل لجزء من الدين، وينبغي أن يكون ذلك إبراء للأصيل أيضا كما قرره الفقهاء في محله - رحمهم الله تعالى - والله الموفق، وشكرا سيادة الرئيس.

ص: 1108

الشيخ عبد الوهاب أبو سليمان:

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الواقع أن البحثين الذين قدما بين أيدينا درسا الموضوع دراسة متسفيضة، وأود أن أنوه بالتصوير الواقعي الاقتصادي لسعادة الأخ الدكتور محمد علي القري، وهو رجل اقتصادي معروف في المملكة العربية السعودية ومن الاقتصاديين الإسلاميين ذوي الغيرة، فهنا قسم بطاقة الائتمان إلى ثلاثة أقسام، ولهذا لا يمكن أن نعطي أو نصدر حكما عاما على البطاقات جميعها لأنها ثلاثة أنواع، منها التي تحدث عنها بطاقة الخصوم أو البطاقة المدينة وقال: إنها تمثل شيكا وذلك عندما يكون لصاحب البطاقة رصيدا في ذلك البنك، فالبنك يسحب من رصيده القيمة التي يشتري بها تلك السلعة، وقال: هذه تأخذ حكم الشيك، وهذه واضحة جدا.

البطاقة الائتمانية القرضية: وهذه الحكم فيها واضح، وذلك لأن حامل البطاقة يعتمد في مشترياته على البطاقة دون دفع للثمن ويوفر دخله للاستثمار في نواح أخرى، ويضع البنك على كل مبلغ يشتري به فائدة وعمولة، وهذا هو المعمول به في الغرب، وليس لهذه البطاقة - عادة - وجود في الشرق الأسلامي على الأقل أو في البلدان العربية.

تبقى البطاقة العادية وهي التي نعرف تصويرها تماما، ذلك أن البنك يدفع قيمة المشتريات إلى التاجر ويدفع العميل القيمة إلى البنك. أظن بهذا التصوير وبهذه الطريقة يمكن أن نصل إلى نتيجة.

البحثان نظرا إلى العملية، عملية واحدة، ابتداء من شراء العميل وانتهاء بتسديد البنك دون أن ينظر إلى جانب فقهي آخر، هذا الجانب الفقهي الآخر وهو ما يسمى في الفقه بـ"تفريق الصفقة"، والذين ذهبوا إلى تحريم هذه البطاقة ركزوا أو كل إشكالياتهم على العمولة التي يأخذها البنك المصدر من التاجر، ولذلك أبطلوا العمل بهذه البطاقة. هذا هو تحرير محل الإشكال، وهو العمولة التي يأخذها البنك المصدر من التاجر، كما قلت سابقا: إنهم نظروا إلى الموضع على أنه معاملة واحدة. عندنا في الفقه الإسلامي ما يسمى بـ"تفريق الصفقة"، وهو إذا تمضنت الصفقة قسما حلالا وقسما حراما فعندئذ تجوز الصفقة فيما هو حلال وتحرم فيما هو حرام وهذا هو مذهب الحنفية، وكذلك بعض المذاهب الأخرى لا أذكر ذلك أكانوا الحنابلة أم المالكية إنما أنا متأكد أن الحنفية يقولون بتفريق الصفقة. فعندئذ العلاقة بين العميل وبين البنك سليمة جدا خصوصا إذا سدد في الموعد المحدد. اشتريت السلعة بثلاثين ريالا أدفع للبنك ثلاثين ريالا دون زيادة أو نقص، فهنا العلاقة ما بين حامل البطاقة وبين البنك المصدر علاقة شرعية مئة بالمئة ولا غبار عليها، عندئذ العلاقة ما بين المصدر وما بين التاجر فالبنك المصدر يأخذ عمولة على ذلك.

فضيلة الأستاذ الجواهري بتكييفاته الستة رأى أن التكييف الخامس والسادس تكييفان جائزان، وحمل أحدهما على أساس السمسرة، وجعل هذين الوجهين صحيحين- الذي هو التكييف الخامس والسادس - وعندئذ كما هي القاعدة عند الحنفية " إذا احتمل العقد وجها للصحة ووجها للبطلان فيجب أن يحمل على وجه الصحة " وشكرا.

ص: 1109

الشيخ عجيل جاسم النشمي:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى وآله وصحبه وسلم.

لا شك أن موضوع بطاقات الائتمان موضوع هام، وأخشى إن انتظرنا إلى الدورة القادمة ربما يتوسع في تطبيقاته، لأن الاتجاه في كثير من البنوك الإسلامية هو التوسع في بطاقات الائتمان. وأعتقد أن الصورة الأولى صورة ليس عليها إشكال، وهي أن يفتح العميل له حسابا في البنك ويسحب منه عن طريق البطاقة، وهذه حكمها حكم الشيك.

لكن الإشكال في الحالة الثانية والثالثة. فالحالة الثانية - حقيقة- أخف من الحالة الثالثة، وإشكالها هو الدخول في عقد فيه شرط ربوي. أنا أميل إلى أنه لا يجوز الدخول في عقد فيه شرط ربوي ابتداء، وإن التزم بينه وبين نفسه بأن يسدد قبل أن تترتب عليه فوائد.

الإشكال في البطاقة الثالثة؛ وهي التي تتجدد فيها الفائدة كلما استعمل العميل البطاقة ولا يدفع - حقيقة - هو ما عليه من دين وإنما يدفع فوائد التأخير. وإذا أخذنا بالاعتبار أن سعر الفائدة بالبطاقة هو ضعف سعر الفائدة في الحالات العادية وأحد الأبحاث ذكر أن سعر الفائدة وصل في بطاقة الائتمان إلى 23 % بينما هو سعر الفائدة لم يزد عن 10 % في ذلك العام. يضاف إلى أن مصدر البطاقة يحصل على رسوم، لكن هذه الرسوم في الحقيقة غير محددة قد تكون 1 % لكن هي في الحقيقة تزيد. فإذا كان عند استخدام البطاقة خارج البلاد تزيد النسبة وهو فرق تحويل العملة، وإذا كانت لسحب نقدي أيضا تزيد.

فمعنى هذا أن هذه الرسوم غير ثابتة.

وينبغي أنه ننتبه إلى الآثار السلبية التي وردت في بعض الأبحاث، لعل أهم هذه الآثار أنها بالنسبة للدول النامية كدولنا هي دول استهلاكية، فاستخدام البطاقة يرتب على مستخدمها ديونا وتتراكم عليه الديون، والمحصلة هو أن يصبح العملاء مدينين للبنوك؛ لذلك ليس من الحكمة في هذا أن نوجه دولنا إلى النوع الثالث بالصورة التي هي مطبقة في البلدان الغربية.

بالنسبة للعلاقة بين حامل البطاقة والتاجر، لعل الاتجاه إلى تكييف العلاقة على حوالة- هذا طبعا بالنسبة للصورة الأولى والثانية إذا أجزناها- هي أقرب التصورات المطروحة كتخريج فقهي. فالعميل الذي هو مستخدم البطاقة هو المحيل والتاجر هو المحال، ومصدر البطاقة أو البنك هو المحال عليه، إذا لم يكن هناك دين على المحال عليه، وهذا شرط عند المالكية فيمكن أن يخرج على الحمالة- كما أشار أحد الباحثين- ويكون ما يأخذه البنك أو مصدر البطاقة حينئذ أجرة على الحمالة.

أعتقد إذا استطعنا أن نخرج من هذه الدورة بتصور واضح حول البطاقة الثانية نكون قد قدمنا شيئا، والله أعلم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 1110

الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

الواقع أن الغالب على بطاقات الائتمان أنها تنتهي إلى غاية سيئة هي نوع من التعاون على الإثم والعدوان، وذلك أن الغالب على نهاية مديونية هذه البطاقات- في الواقع- تنتهي إلى البنوك الربوية، وهم يفرحون بتضخم أو بكثرة هذه المديونية حتى يكون لهم من الفوائد الربوية ما يعتبرونه ربحا لهم.

أما من حيث تعليل ذلك فهي أولا، أول ما تبدأ باختصاص حيث يعطي مصدر هذه البطاقة حاملها الاختصاص في أن يقوم باستعمالها في شراء وتبادل ما يريد شراءه دون أن يدفع ثمنا، وهذا- في الواقع- يبدأ بالاختصاص ثم بمزاولته هذا الاختصاص. ومزاولة هذا الاختصاص يعتبر في قوة الحوالة من حامل البطاقة نفسه إلى الدائن نفسه ثمن البضاعة التي اشتراها منه. ممكن أن يجاب على القول أن من شروط الحوالة أن تكون على دين مستقر، هذا ليس محل اتفاق بل هناك من أهل العلم من قال بأن الحوالة لازمة ومعتبرة، ولو لم يكن في ذمة المحال عليه شيء من المبلغ أو من الدين نفسه، لا سيما إذا كان راضيا بذلك إلا أنها تنتهي إلى ما ذكرته من أنه نوع من التعاون على الإثم والعدوان في إتاحة الفرصة للبنوك الربوية في أن تحصل على نشاطاتها الربوية، وهذا لا شك أنه وسيلة أو غاية سيئة، ولا شك أن للوسائل حكم الغايات.

الراجحي عالج هذه القضية وأصدر بطاقات ائتمان ولكن هيئة الرقابة الشرعية لديه ألزمته بأن من شروط هذه البطاقة ألا يطالب مزاول حق هذه البطاقة بأي فوائد ربوية أو أي حسومات تؤخذ عليه لقاء استعماله هذا الحق. وهذه على كل حال أبعدت هذا المحظور، فإذا أبعدت المحظور فهي تبدأ باختصاص، والاختصاص يجوز بيعه أو يجوز الاستعاضة عنه. تبدأ بحوالة، والحوالة هناك من لا يشترط أن تكون مستقرة؛ أي لا يكون الدين مستقرا في ذمة المحال عليه إذا لم يترتب على نهايتها ما هو محظور من شأنها أن تقي حاملها من الاعتداء على ما يملكه من مال أو ما يمكن أن يضيع عليه أو ما يمكن أن يكون سببا من أسباب قلقه.

هذا هو رأيي، وشكرا لكم.

ص: 1111

الشيخ رضا عبد الجبار العاني:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم.

لقد اطلعت على البحثين المقدمين، ومجمل الرأي في البحثين أن جهودا محمودة قد بذلت في إعدادهما ويشكر صاحباهما عليهما.

بالنسبة للشيخ الجواهري، أخذ الإجراءات واحدة بعد الأخرى ثم بدأ يخرجها صورة صورة، وكأن التصرف مستقل أو كأن هذه التصرفات مستقلة عن بعضها ولكنها كلها مترابطة، وقد وقع في إشكالات حينما تعرض لمسألة التأمين فافترض أنها هبة بعوض مع أنه قرر أن التأمين يكون مؤقتا لمدة معينة، والهبة بعوض عند جماهير العلماء هي بيع، فأين العوضان هنا؟ ثم هل يجوز أن يكون العقد هنا مؤقتا؟ الهبة لا تكون مؤقتة، وخاصة الهبة بعوض هي بيع، والبيع لا يؤقت.

الدكتور القري أيضًا لم يحسم المسألة، لأنه في الحقيقة السؤال القائم في المجمع هو: ما هو تكييف هذه البطاقات؟ فلم يحسم المسألة، فتردد بين الحوالة وغيرها، وقد وقع في تجويز أخذ الأجر على الكفالة في بحثه حينما اعتبر جواز الأجر على الحمالة، والحمالة – كما نعرفها- هي الكفالة، والكفالة بأجر لا تجوز.

ص: 1112

الشيخ محمد المختار السلامي:

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.

لا أريد أن أكرر ما قلته في السنة الماضية وفي الندوة التي عقدت بإعدادها بالبحرين، ولكن ناحية جديدة بعد تتبعي لبطاقة الائتمان وهو في تكييف رسم الإصدار، فهل يصح أن رسم الإصدار هو مقابل خدمات لإعطاء البطاقة؟ هذا ما كنت أظنه وهذا ما بنيت عليه بحثي ومناقشاتي ولكن بعد النظر في حقيقة البطاقة الذهبية وجدت أنها تتضمن أيضًا تأمينًا على الحياة، وأن صاحب البطاقة إذا اشترى تذكرة سفره بالبطاقة فهو مؤمن على حياته وفي حدود معينة، ذلك التأمين إنما هو ناتج من تأمين عام لكل المشتركين، فإذن ارتبطت البطاقة بموضوع آخر وهو موضوع التأمين على الحياة الذي أظن أننا قد حسمناه وأنه لا يجوز.. وبناء على ذلك لابد من تكييف البطاقة تكييفًا من جميع نواحيها وزيادة البحث في كل مقوماتها، لأنه في كل يوم تظهر لنا ظاهرة.

ص: 1113

الدكتور عبد الله إبراهيم:

بسم الله الرحمن الرحيم

شكرًا لسيادة الرئيس بحيث إني لم أتمكن من الكلام إلا اليوم وأشكر العارض على عرضه القيم، ووأشكر جميع المناقشين قبلي الذين استفدت منهم الشيء الكثير.

فبالنسبة للموضوع المعروض للمناقشة أمامنا اليوم وهو بطاقة الائتمان، فإنني أعتقد بالنسبة لهذا الموضوع إنما يمكننا الرجوع إلى المبدأ الذي سار عليه الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قدم المدينة فوجد الناس يتعاملون في المعاملات التي منها ما يتفق ومبادئ الشريعة الإسلامية ومنها ما لا يتفق، فهنا عندما نسمع من المناقشات ومن العرض الواضح فإننا نجد هناك نوعًا من الأنواع وهو النقود، وهي بعض البطاقات التي أصدرتها بعض المؤسسات المالية كشركة الراجحي، حيث إننا يمكن أن نقبل هذه البطاقة على أساس عقد الإقالة بأجرة، ويفترض للإقراض عليه أن يكون الحاصل على هذه البطاقة على عقد واضح وهو عقد الوكالة بأجرة، إلا أن هذه البطاقة يمكن أن نتعامل بها في نطاق ضيق، ولا يمكن مثلًا بالنسبة للدول المتقدمة حيث إنها لا تقبل المعاملات إلا بالبطاقة، فحينئذ يمكن أن نأخذ بمبدأ الحاجة ويسمح على نطاق ضيق بالتعامل بأي بطاقة من البطاقات التي لا تتعارض مع مبادئ الشريعة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 1114

الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير:

بسم الله الرحمن الرحيم

كما هو واضح من البحثين المقدمين في هذه الدورة في البحوث السابقة أن بطاقة الائتمان ثلاثة أنواع، ولذلك فالحكم عليها من وجهة النظر الشرعية لا يمكن أن يكون حكمًا واحدًا كما قال أحد الذين سبقوني بالكلام، ولذلك رأيت أن أقسمها قسمين لإصدار الحكم على كل قسم:

القسم الأول: وهو ما إذا كان حامل البطاقة له رصيد في نفس البنك الذي أصدر البطاقة (عند المصدر) .

القسم الثاني: وهو ما عداه إذا كان حامل البطاقة ليس له رصيد في البنك.

والمرجع في هذا التقسيم هو هل في هذا العقد المركب عقد قرض أم ليس فيه؟

في الصورة الأولى ليس هناك قرض بين المصدر وحامل البطاقة، في الصورة الثانية التي تضمن صورتين، فيه قرض من المصدر إلى صاحب البطاقة، لأنه واضح في كل ما قلت في هذين النوعين أن المصدر (البنك) يدفع الثمن للتاجر ثم يحصله بعد شهر أو كيفما كانت المدة من حامل البطاقة وأحيانًا قد تأتيه الفرصة وهو يسحب على المكشوف حتى لو كان عنده حساب، وفرق بينهما لأن بعضها بأنه يأخذ فائدة، وهذه لا محل للكلام فيها، وبعضها سكت عن أخذ الفائدة.

رأيي في هذا النوع الثاني أنه لا يجوز لأنه إما فيه نص صريح على أخذ الفائدة صراحة أو بصفة ضمنية وفيه شبهة الربا، وهو أخذها ضمنيًّا مستترة في مبلغ آخر هو إما الرسوم التي تدفع أولًا أو النسبة التي يأخذها مصدر البطاقة من التاجر، لأنني أشك شكًّا كبيرًا في أن هذه النسبة تدفع من التاجر فعلًا، بل هي تدفع من التاجر ظاهرًا لكنها في واقع الأمر تدفع من حامل البطاقة، وقد رأيت بعض البحوث صرح بهذا، التاجر يحمل حامل البطاقة هذه النسبة 3 % أو 4 % ويضيفها إلى الأسعار، وإلا لا يفهم أنه يدفع من عنده، وخصوصًا أنا سألت في هذه الحالة هل التاجر يبيع لحامل البطاقة بنفس السعر الذي يبيع به لغير حاملها؟ فكان الجواب: نعم، فقلت: كيف إذن يدفع 3 % أو 4 % من الثمن الذي باع به لحامل البطاقة، معنى ذلك أنه يبيع لحامل البطاقة بأقل من الثمن الذي يبيع به لمن يدفع نقدًا وهذا بالطبع رأيي في عالم التجار.

ص: 1115

ولذلك الرأي الذي انتهيت إليه هو أن النوع الثاني والثالث والذين أدمجتهما في نوع واحد لا يجوز، النوع الأول هو الذي يمكن الأخذ به والذي هو أن حامل البطاقة له رصيد، المصدر يعطيه البطاقة ويقول له: اذهب فقدم هذه البطاقة إلى من شئت من الأماكن التي تتعامل معها وخذ ما شئت من السلع، ويقول له حامل البطاقة أيضًا: إذا جاءتك فاتورة وعليها توقيعي فادفع من المبلغ الذي عندك للتاجر، وتكييف هذه يسير، تكييفها وكالة واضحة، حامل البطاقة يوكل المصدر في أن يدفع من رصيده للتاجر، ما يتقدم به من الفواتير.

بقيت نقطة خاض فيها جميع الكاتبين وهي موضوع التكييف، والواقع أنه لم يعجبني أي واحد من التكييفات التي ذكرت لا حوالة ولا كفالة في الصور؛ لأن الذي استقر عندي أن حامل البطاقة ليس في ذمته شيء، هو يأتي ويقدم هذه البطاقة ويأخذ السلعة وليس مدينًا للتاجر، وبعض البحوث ذكرت صراحة أن البطاقة مملوكة لمصدرها، ولذلك الذي ترجح عندي أن العلاقة هي بين التاجر والمصدر، وحامل البطاقة هذا رسول فلا يمكن أن نقول: إن هناك كفالة أو حوالة لأنه لا يوجد أصيل؛ حامل البطاقة ليس أصيلًا بدليل أن البحوث جميعها متفقة على أن التاجر لا يستطيع أن يطالب حامل البطاقة، هو سيطالب مصدر البطاقة، فكيف تكون كفالة؟

على أي حال الذي توصلت إليه مما قرأته أن حامل البطاقة لا يطالب، والمعروف في الكفالة أن المكفول له يستطيع أن يطالب الكفيل، وهو في هذه الحالة يجب أن يكون حامل البطاقة ويستطيع أن يطالب الكفيل، وهذا غير متحقق في بطاقات الائتمان، فالمصدر لا يطالب حامل البطاقة إلا في حالة ما إذا كان هناك تزوير أو شيء من هذا القبيل، الموضوع ينقلب إلى موضوع آخر، لكن في أصل العقد لا يطالبه.

فمن هنا استبعدت التكييف بالحوالة والكفالة ولا أرى داعيًا للتكييف فيها، فلنقل معاملة جديدة بين ثلاثة أطراف بهذه الكيفية وليس فيها غرر، وأستغرب من الذين يتحدثون عن الغرر، لا أدري أين الغرر في هذا؟ لم يبينوا ذلك أكتفي بهذا.

ص: 1116

الرئيس:

شكرًا، يا شيخ الصديق، النقطة التي أثارها بعض الباحثين على أن حامل البطاقة لحملها أثر على التأمين على الحياة، هل تؤثر في الحكم؟

الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير:

لا، أنا رفضت هذا بتاتًا، هذا لا يكون إلا فيما يسمى بالبطاقات الذهبية وهذه تدخل في القسم الثاني الذي منعته، هذا بمجرد ما وجد عقد قرض في بطاقة الائتمان هذه أمنعها بتاتًا، لأنها تؤدي إما إلى الربا الصريح أو الربا المستتر، وقد تأتي هذه الإضافات إذا كان هناك تقييد، في الواقع هذا يكون نتيجة عقد جديد، كما لو أضيف فيها تأمين على الحياة، وهذا قطعًا كما قال الإخوة: المجمع فصل فيه وانتهينا منه، يعني قد يأتي السؤال: لو اشترط في النوع الأول التأمين على الحياة؟ قطعًا هذا ممنوع، وشكرًا.

ص: 1117

الشيخ تقي العثماني:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الرسول الكريم وعلى آله وأصحابه أجمعين.

الواقع أن الكلام في موضوع بطاقة الائتمان ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: وهو ما يتعلق بالعلاقة بين المصدر والحامل، وموضع النظر والإشكال في هذه العلاقة شيئان بين مصدر البطاقة وبين حاملها.

1-

هو رسوم الدخول أو الرسوم السنوية التي تدفع إلى المسلف من قبل حامل البطاقة، كيف تكيف هذه الرسوم؟ فالذي يتضح لي أن رسوم الدخول أو الرسوم السنوية في الواقع هي عوض عن بعض الخدمات التي يؤديها مصدر البطاقة، وليس فيه خدمة القرض فقط بل هناك خدمات أخرى، فإن حامل البطاقة يستطيع بفضل هذه البطاقة أن يحصل على عدة خدمات في عدة مجالات، فرسوم الدخول هذه رسوم أو عوض عن خدمات يقدمها المصدر، والنقطة التي أثارها فضيلة الشيخ المختار السلامي –حفظه الله- هو أن في البطاقة الذهبية تأمينًا وتأمينًا على الحياة، فالذي أراه أنه إذا كان هناك زيادة في رسوم الدخول لقصد التأمين فحينئذ لا يجوز بتاتًا لأننا قد انتهينا من موضوع التأمين على الحياة وأنها حرام وفيها قمار وفيها ربا، أما إذا لم يكن هناك إضافة أو زيادة في رسوم الدخول لغرض التأمين بل تكون رسوم الدخول كما هي للبطاقات العادية ولا أعرف ما هو الواقع ولكن إذا كانت رسوم الدخول هي هي وقد أفاد مصدر البطاقة بأنه أمن على حياة الحامل بدون اشتراط منه فحينئذ هي شيء قد فعله بنفسه، فحينئذ لا يحمل حامل البطاقة مسؤوليته ولكن لا يجوز له أن يأخذ ما تعطيه شركة التأمين إليه أو إلى ورثته بعد وفاته.

2-

النقطة الثانية في العلاقة بين المصدر والحامل هي أن المصدر يشترط على الحامل أنه إذا لم يؤد الثمن في موعد محدد فإنه يحمل فائدة، فهل يجوز للمسلم أن يدخل في مثل هذه المعاملة؟ والمخرج من هذا هو ما ذكره فضيلة الشيخ محمد الصديق الضرير أنه إذا كان هناك رصيد من قبل الحامل في نفس البنك ويأخذ البنك من ذلك الرصيد ويدفع به الثمن للتاجر، فهذا لا مانع منه شرعًا، أما إذا لم يكن هناك رصيد ولكن عزم حامل البطاقة وحصل على البطاقة بعزمه الصميم على أنه لا يتأخر في الأداء، ومن المعروف أن مصدر البطاقة لا يتقاضى الفائدة فورًا، وإنما يعطيه فرصة لمدة شهر أو شهرين أو ثلاثة أشهر، فإذا كان الرجل على العزم الصميم بأنه لا يتأخر في الأداء ولا يحمل الفائدة ولا يدخل في معاملة ربوية، فهل يجوز له ذلك أن يحصل على مثل هذه البطاقة أو لا يجوز؟ هذا أمر توقفت فيه لأن هناك ناحية ينبغي أن ننظر فيها وأنا أقول ذلك على سبيل التفكير بصوت عال، وهو أننا نجد في كثير من قوانين البلاد تفرض على المشارك أي مشتري الكهرباء أو مستخدم التليفون أنه إذا لم يؤد الفواتير في موعدها المحدد فإنه سيحمل الفائدة، فهل نقول: إنه لا يجوز لمسلم أن يشتري الكهرباء أو يشتري التليفون من أجل أنه قد دخل في هذا الشرط الربوي؟ فالظاهر أنه إذا كان على عزم صميم بأنه يدفع الفواتير في موعدها وقبل أن تفرض عليه الفائدة فإنه ينبغي أن يجوز له ذلك، فهل يجوز قياس هذه المسألة على مسألة البطاقة، بأنه إذا حصل على البطاقة بعزمه الصميم على أنه يدفع الفواتير في موعدها فإنه يمكن أن نقول: إنه يجوز.

ص: 1118

القسم الثاني: وهو العلاقة بين المصدر والتاجر، فمعروف أن المصدر يأخذ من التاجر نسبة معينة، ما هو تكييف هذه النسبة التي يأخذها المصدر من التاجر؟ فقد تحدث البحثان عنها، والذي أميل إليه هو أنه في الواقع ما يأخذه المصدر هو عمولة من التاجر لجلب الزبائن إليه؛ لأن هذه البطاقة توفر للتاجر زبائن ومن يكون حاملًا للبطاقة فإنه لا يذهب إلى تاجر إلا إذا قبل هذه البطاقة فييسر له الزبائن ويجلب له الزبائن، فيمكن تخريجه على هذا الأساس، أنه عمولة لجلب الزبائن.

أما ما ذكره فضيلة الشيخ الصديق الضرير –حفظه الله- أن التاجر يأخذ من الحامل نسبة، فهذا ليس موافقًا للواقع، هناك أكثر التجرة الذين يحملون هذه البطاقات لا يتقاضون شيئًا زائدًا على ذلك وهو موضوع آخر، ولكن لا نستطيع أن نقول: إن النسبة التي يتقاضاها المصدر من التاجر يأخذها التاجر من الحامل مرة أخرى، هذا ليس موافقًا للواقع.

والنقطة الثانية التي ذكرها فضيلة الشيخ الصديق الضرير وهي أنه لا يمكن أن يكون هناك كفالة؛ لأن الأصيل هو المصدر بفضل أن البطاقة مملوكة له، فهذا يخالف الواقع تمامًا؛ لأن عقد البيع عندما يقع بين الحامل وبين التاجر وحينما يدفع إليه التاج السلعة يوقع الحامل ويثبت على أنه هو المشتري، فالأصيل هو وليس المصدر، فإذا نظرنا من هذه النواحي ربما يظهر أنه إذا كان عند مصدر البطاقة رصيد للحامل، فلا مانع إذن ولا إشكال للمسلم أن يحصل على هذه البطاقة، أما إذا لم يكن عنده رصيد فأنا في ذلك متوقف والذي أميل إليه أنه يمكن القول بجوازه أيضًا.

هذا ما رأيت، والله سبحانه أعلم.

ص: 1119

الدكتور عبد الستار أبو غدة:

بسم الله الرحمن الرحيم

كنت قد قدمت بحثًا في ندوة البحرين عن هذا الموضوع وأشار إليه فضيلة الشيخ حسن الجواهري في بحثه، وهناك وقع التباس لأنه أورده مرتين، مرة في التكييف الأول على أنه قرض من مصدر البطاقة وعمولة من التجار، وأشار إليه ثانية في التكييف الثاني وهو أنها عمولة على تحصيل الثمن من العميل لدفعه إلى أصحاب المحلات.

فالتكييف الذي اخترته في البحث هو الثاني، أما الأول فقد أوردته نقلًا عمن حرمه أو منعها، لهذا اقتضى التنبيه.

التكييف الثاني الذي أوردته والذي ذكرته أورد عليه الشيخ حسن بعض الإيرادات وأريد الإجابة عنها.

الأول: أشار إلى أن هذا الوجه يفترض أنه ليس هناك ضمان ولا كفالة ولا تعهد بالسداد، هذا موجود في البحث بالإضافة للكفالة هناك وكالة بين التاجر وبين مصدر البطاقة، وبين حامل البطاقة وبين مصدرها، وتلخيصًا لهذا الأمر فإن العملية تتم هكذا.

ص: 1120

هناك علاقة بين مصدر البطاقة وحاملها وهي الوكالة في تقديم الخدمة سواء بإعطاء البطاقة وتنظيمها وفتح الملف والمرسلات التي تتم بين مصدر البطاقة وبين حاملها والتوكيل بالدفع عنه، وعلى هذا تستوجب الرسوم التي تؤخذ سنويًّا، وأحيانًا يتبرع مصدر البطاقة بهذه الخدمة لجلب الزبائن فلا يأخذ رسومًا على إصدار البطاقة. العلاقة الثانية بين التاجر وحامل البطاقة هي علاقة عادية شراء مع قبول كفالة المصدر، وأما العلاقة بين مصدر البطاقة وبين التاجر فهي علاقة كفالة، فمصدر البطاقة كفيل عن حاملها في مواجهة التاجر وملتزم ومتعهد بالسداد.

إذن هناك وكالة مع الكفالة وقد يقال: كيف تجتمع الوكالة مع الكفالة؟ الوكالة إذا كانت بعقد لا يجوز أن تجتمع مع الكفالة لأن هناك تنافيًا بين المفهومين فالوكيل أمين والكفيل ضمين، ولكن إذا كانت الوكالة بالقبض فيجوز أن تجتمع مع الكفالة وقد نص على هذا فقهاء الحنفية، لأنه مادام وكيلًا بالقبض فيمكن أن يختصر المراحل ويدفع ويجمع بين الكفالة وبين الوكالة، فالإيرادات الأخرى التي جاءت الإشارة إليها في ورقة الشيخ حسن وهي أن هناك نسبة يأخذها مصدر البطاقة من التاجر، هذه النسبة هي أجر عن الوكالة بتحصيل الدين لأن التاجر حينما يبيع لحامل البطاقة يبيعه بدون أن يتسلم منه الثمن، فهو عملية مداينة، والتاجر يكل إلى مصدر البطاقة أمر تحصيل هذه الديون فهو يدفع عمولة على تحصيل هذا الدين، ولكن قد ينغص على هذا كيفية تمام العملية في البطاقة، فالذي يتم في البطاقة ليس المطالبة لحاملها بثمن ما اشتراه بالأجل أو بالدين ثم أخذ هذه الفلوس وإيصالها إلى التاجر، وإنما تتم العملية معكوسة لأن مصدر البطاقة يريد أن ينظم أمر هذه البطاقة فهو يعلم أن هناك زبونًا اشترى، لأنه تأتي إليه القسيمة عن طريق التاجر فيقوم بالسداد والدفع قبل أن يحصل من حامل البطاقة لأنه يستطيع أن يضبط هذا الأمر لأن الدفع عمله، وأما التحصيل من التاجر فيحتاج إلى متابعة وظروف، وهذا كما لو وكلت إنسانًا بأن يشتري لك فإما أن يقول: هات الثمن حتى أشتري لك، وإما أن يدفع منه ثم يأتي إليك ويقول اشتريت وأعطني الثمن الذي قمت بتنفيذ الوكالة به، فهذا هو الترتيب الذي يتم، وهذه النسبة التي تؤخذ من التاجر هي نسبة موحدة لا تختلف بين عميل وآخر سواء تأخر السداد من العميل أو تقدم، وطريق السداد من العميل أنه يرسل إليه إشعارًا، وهذا كلامي كله عن النوع الثاني الذي فيه الجدل، أما النوع الأول الذي فيه ربط بحساب لحامل البطاقة فهذا أمره واضح، والنوع الثالث الذي فيه إقراض وكشف للحساب الذي هو النوع الربوي، وهذا أيضًا واضح، لكن النوع الثاني الذي فيه البحث والجدل والذي يأتي الإشعار إلى حامل البطاقة بالسداد، وهذا الإشعار يطلب منه أن يسدد ما تقاضاه أو ما استخدمه من البطاقة خلال الشهر الذي يؤرخ به الإشعار، فقد يشتري في أول الشهر فيستفيد فترة سماح إلى آخره، وقد يشتري في أوسطه فيستفيد فترة سماح إلى نصف الشهر، وقد يشتري في آخر الشهر وتدرج هذه المشتريات في الإشعار فيطالب بأن يدفعه ولا يمر إلا يوم أو يومان أو ثلاثة بحسب وسائل الاتصال؛ إذن ليس هناك أجل ممنوح قصدًا في هذه البطاقة وإنما هي تحت الطلب ولكن هناك فترة سماح بسبب المراسلات والإشعار، هذا بالنسبة للمدد والتساؤلات.

ص: 1121

الذي أراه أنها وكالة مع الكفالة.

من قبل هناك تساؤل لفضيلة الشيخ الصديق الضرير وهو هل يستطيع التاجر أن يطالب حامل البطاقة؟ الأصل أنه يستطيع أن يطالبه ولكن نظرًا إلى أن تصميم هذه البطاقة قائم على استخدامها من أناس متعددين ومن أقطار متباعدة وصفات كثيرة فهي كفالة مع عدم الرجوع على الأصل، ليس بصميم العقد وإنما بتنازل التاجر وعزوفه عن مطالبة الأصل، يعني كما لو جاء شخص اشترى من جهة –شخص نكرة غير معروف- وجاء بكفيل موثوق معروف وهو مصدر البطاقة، فالدائن يتغاضى عن الأصيل ويطالب الكفيل لأن له حق الرجوع على الطرفين كواقع عملي وليس كجزء من صميم البطاقة. والله أعلم.

ص: 1122

الشيخ علي التسخيري:

بسم الله الرحمن الرحيم، طبعًا بعض أصحاب البحوث –حفظهم الله- موجودون يمكنهم أن يجيبوا على بعض الإشكالات التي وردت على بحوثهم، ولكني أشير باختصار إلى أن الإشكالات كانت بعضه على القضايا التي تصاحب هذه العملية مثل مسألة التأمين على الحياة ومثل مسألة التأخير، التأخير أنا أعتبره عملًا عرضيًّا تأخير الديون والفوائد التي تأتي، هذا عمل عارض على نفس التكييف الموجود، خصوصًا إذا صمم حامل البطاقة على تسديد المبلغ في الموعد المناسب، أو مسألة بيع الدين على غيره، كل هذه المسائل عارضة تعتبر، أو مسألة تسييل الديون وأمثال ذلك وبعض الإشكالات انصب في صميم الموضوع، أنا اختار منها بعضها وأصل إلى نقطة أريد أن أوضحها في نهاية الحديث.

إشكال الشيخ عطا في الواقع فيه إجحاف يقول: هذا العقد فيه إجحاف، هذا المعنى يرده آخرون يقولون: لا، هذا العقد أولًا ليس فيه رفع للسعر بل بالعكس البائعون يخفضون أسعارهم لصالح المصدرين ولصالح الحاملين لكي يجلبوا زبائن أكبر لهم، فصحيح والدول تمنع من التسعيرتين في الأمر، فلا نستطيع أن نتبين وجه الإجحاف في مسألة السعر فيمكن أن يقول إنسان: هذا.... يقول: فيه إجحاف وذاك يقول: ليس فيه إجحاف. لا يمكن أن يشكل إشكالا شرعيا على صيغة العقد. كذلك إشكال الشيخ وهبة من هذا القبيل وأنه فيه ربا أو تعبير سماحة الشيخ وهبة: أن يشبه حالة خصم الكمبيالة. رأينا أن المسألة أبعدت عن مسألة بيع الدين والمسائل الأخرى طبق التكييفات التي طرحت.

ص: 1123

الشيخ الدكتور فاضل ركز على أن فيها ضمانًا والأجر أجر بضمان، وقد رأينا أن كل التخريجات ابتعدت تمامًا عن أن تكون العملة أجرًا للضمان أو في مقابل القرض، هي كلها تركيز على إبعاد هذه العمولة، وليس المهم رسم العضوية الأول البسيط الذي يؤخذ، وقد رأينا أن الشيخ ابن منيع أبعد في قوله: إنه بيع لحق الاختصاص وأمثال ذلك، والواقع أنا أراه التفت إلى هذه النقطة بشكل جيد، المشكل كله على هذه العمولة، البحوث كلها صرفتها عن مسألة أن تكون أجرة بالضمان أو زيادة على القرض مبلغًا في مقابل القرض.

الشيخ عجيل قبل ما عدا البطاقة القرضية السالفة، وإن كان أشكل في مسألة الدخول في عقد فيه شرط لو حقق هذا الرجل موضوعه لكان باطلاًَ، يعني لو تأخر فأخذ منه الربا لكان هذا الشرط باطلاًَ، ونبحث أيضًا الشرط الباطل الفاسد يفسد العقد أم لا؟ وأيضًا هناك كلام وقد أحسن سماحة الشيخ العثماني عندما أجاب على هذه النقطة بكل وضوح، ما أكثر العقود التي ندخل فيها – في داخل بلداننا وخارجها- فيها شروط نصمم على ألا نلتزم بها كما في قضية الكهرباء والماء والتليفون

إلخ.

ص: 1124

سماحة الشيخ الضرير – حفظه الله- جعل العلاقة قائمة بين التاجر والمصدر وجعل الحامل وسيطًا وهذا – كما يبدو لي وكما تفضل السادة- بعيد عن الواقع القائم، فعقد البيع يجزيه الحامل بشكل كامل هو والتاجر، إذن الشيخ الضرير هكذا تفضل، ونقطة أخرى عند الشيخ الضرير – حفظه الله- أنه هو يفرق في مرجع البحث هل فيه عقد قرض أم لا؟ يعني هل في هذه الصيغة عقد قرض أم لا؟ فإن كان فيها عقد قرض فهو باطل وإلا فلا، الواقع يجب أن نركز على أنه هل أخذت العمولة على القرض أم لا؟ وليس وجود القرض، قد يكون في التركيبة عقد قرض ولكن لم تؤخذ العمولة عليه، المرجع هو أن نركز أن الذي أخذ، هل هو في مقابل القرض أم لا؟ وليس المرجع أن نقول: هل هناك قرض أم لا؟ كثير من التكييفات قالت: هناك قرض لكن المأخوذ ليس في قبال القرض.

على أي حال الشيخ العثماني كأنه قبل البطاقة، وإن كان قد توقف في مسألة الدخول في عقد فيه هذا الشرط لكنه واضح أنه قبل هذا المعنى، والشيخ عبد الستار هو من أصله يبدو أنه موافق إذا صح لي أن أنسب له ذلك.

ص: 1125

الرئيس:

شكرًا، في الواقع بقي عدد قليل من الطالبين للكلام، وتعرفون أن اللجنة لا بد أن يكون عندها وقت قبل موعد الجلسة الختامية، فبهذا ننهي هذه الجلسة ونقول:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

سمعتم العرض والمناقشات المستفيضة حوله من بيان أنواع بطاقات الائتمان الثلاثة، بطاقة الخصوم والبطاقة العادية والبطاقة القرضية، وأهم الإشكالات التي ترد عليها من الرسوم والفوائد والتكييفات والتخريجات الفقهية التي يمكن لبعضها، وسمعتم من عرض الشيخ الضرير التحديد للحالتين أو تكييفهما في وعاءين، حالة لها رصيد حالة ليس لها رصيد، وتفصيله – جزاه الله خيرًا وجزى الجميع خيرًا- فيما يجوز وما لا يجوز، وكل هذه الأشياء مقيدة لدى مقر اللجنة، ولهذا فقد ترون مناسبًا أن تتألف اللجنة بالإضافة إلى العارض والمقرر من كل من: الشيخ الصديق الضرير، الشيخ تقي العثماني، الشيخ عطا السيد، الشيخ عبد الله بن منيع، الأستاذ عبد الحميد الغزالي.

وبهذا ترفع الجلسة،

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ص: 1126

القرار

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على

سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه

قرار رقم: 82 / 9 / د8

بشأن

بطاقات الائتمان

إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سيري باجوان، بروناي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414 هـ الموافق 21 – 27 يونيو 1993 م.

بعد إطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: "بطاقات الائتمان".

وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله..

ونظرا لأهمية هذا الموضوع وضرورة استكمال جميع جوانبه وتغطية كل تفصيلاته والتعرف إلى جميع الآراء فيه..

قرر:

أن تقوم الأمانة العامة للمجمع باستكتاب المزيد من البحوث فيه ليتمكن مجلس المجمع من اتخاذ القرار المناسب في دورة قادمة.

والله الموفق

ص: 1127

أخلاقيات الطبيب، مسؤوليته وضمانه

الأحكام المتعلقة

ببعض ذوي الأمراض المستعصية

إعداد

الدكتور علي داود الجفال

عميد كلية العين

خطة البحث

الباب الأول: سر المهنة.

- الفصل الأول: - المقصود بسر المهنة.

- متى يستثنى من وجوب كتمان السر.

- ما هي العقوبات التي تقع على من يكشف سر مريضه.

- الفصل الثاني: - مداواة الرجل للمرأة، والمرأة للرجل.

- الفصل الثالث: - التداوي بالمحرمات.

- الفصل الرابع: - واجبات الطبيب في السلم والحرب.

- الفصل الخامس: - استطباب غير المسلم.

الباب الثاني: مسؤولية الطبيب

- الفصل الأول: - الكلام على معنى المسؤولية ومشروعيتها في الفقه الإسلامي.

- الفصل الثاني: - الكلام على أسباب المسؤولية، وطرق رفعها وتضمين الطبيب الجاهل.

- الفصل الثالث: - هل يمكن أن تقوم نقابة الأطباء أو شركة التأمين بدور العاقلة؟

الخاتمة: في الآداب التي يجب على الطبيب أن يتحلى بها.

ص: 1128

الباب الأول

سر المهنة

بسم الله الرحمن الرحيم

الفصل الأول

المقصود بسر المهنة

المهنة:

مهن الرجل مهناً، ومهنة، ومهنة: اتخذ صنعة (1) المهنة: بالفتح الخدمة، وحكى أبو زيد والكسائي: المهنة بالكسر، وأنكره الأصمعي (2) .

والماهن: الخادم، وقد (مهن) القوم يمهنهم بالفتح فيهما (مهنة) أي خدمهم.

المهنة بالكسر والفتح والتحريك: الحذق بالخدمة والعمل، مهنه كمنعه ونصره، مهنا ومهنة، وبكسر: خدمه وضربه وجهده، وامتهنه: استعمله للمهنة (3) .

مهن الرجل مهناً ومهنة: عمل في صنعته، و

فلاناً: جهده و

الثوب: ابتذله.

امتهن: اتخذ مهنة، يقال: امتهن الحياكة مثلاً.

المهنة: العمل، العمل يحتاج إلى خبرة ومهارة وحذق بممارسته، ويقال: ما مهنتك هاهنا؟ عملك. وهو في مهنة أهله: في خدمتهم (4) .

السر: واحد الأسرار، وهو ما يكتم، والسريرة مثله، قال تعالى:{يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق: 9] ، أي يوم القيامة تختبر الأسرار وتعرف، وهو ما يسر في القلوب من النيات والاعتقادات وغيرها فيعرف الحسن منها من القبيح.

وتقول: أسررت إلى فلان إسراراً وساررته سراراً، إذا أعلمته بسرك، وأسرار الكف الخطوط بباطنها.

وفي قوله تعالى: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه: 7] .

السر ما حدث به الإنسان غيره وأسره إليه، والأخفى من السر ما حدث به المرء نفسه وأخطره بباله من غير أن يخبر به أحداً، وهذا من السر أيضاً، إلا أنه أشد الأسرار خفاء.

وإفشاء السر نشره وإظهاره، نقيض الحفظ والكتمان، وكل شيء انتشر فقد فشا، ومنه فشو الخير.

وجاء في قوله تعالى: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) } [التحريم: 3-4] .

(1) الوجيز ص 593

(2)

مختار الصحاح (م هـ ن) ص 638

(3)

القاموس المحيط مادة (مهن)

(4)

المعجم الوسيط 2/ 790

ص: 1129

والمتظاهرتان عليه في الآية هما أما المؤمنين عائشة وحفصة ((أسر إلى إحداهما أنه حرم على نفسه العسل، وقيل: إنه حرم على نفسه جاريته مارية)) ، فأفشت سره إلى الأخرى (1) ، فأنزل الله تعالى الآيتين وجعل إفشاءهما لسر رسوله جرماً ينبغي المسارعة إلى التوبة منه، وهكذا أدبهما الله تعالى بهذا الأدب الجم فأحسن تأديبهما.

كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن من أشد الناس عذاباً يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته، أو تفضي إليه ثم ينشر سرها)) (2) .

وقال صلى الله عليه وسلم: ((إذا حدث الرجل الحديث ثم التفت فهي أمانة)) (3) .

وعن ثابت عن أنس قال: ((أتى علي الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنا ألعب مع الغلمان، قال: فسلم علينا، فبعثني إلى حاجة، فأبطأت على أمي، فلما جئت قالت: ما حبسك؟ قلت: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة، قالت: ما حاجته؟ قلت: إنها سر، قالت: لا تحدثن بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً، قال أنس: والله لو حدثت به أحداً لحدثتك)) (4) .

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: ((احفظ سري تكن مؤمناً)) .

وقد ذهب بعض الفقهاء إلى أن إفشاء الأسرار يعد من الكبائر (5) ، وكان الخليفة الفاروق رضي الله عنه يختص المتميزين من الصحابة بالعلم والإيمان والرأي، فيختارهم ليكونوا أهل شوراه، وأدخل فيهم عبد الله بن عباس، على صغر سنه، فجعله من المقربين إليه، فقال له أبوه العباس:(إني أرى هذا الرجل قد اختصك بمجلسه، فاحفظ عني ثلاثاً: لا تفشين له سراً، ولا تغتابن عنده أحداً، ولا يجربن عليك كذباً)، فقال رجل للشعبي: كل واحدة منهن خير من ألف، فقال: بل كل واحدة منهن خير من عشرة آلاف.

من هذا نستنتج أن الشريعة الإسلامية قد أمرت بحفظ الأسرار وكتمانها وعدم إفشائها؛ لدوام الألفة ولصون حقوق الإنسان.

(وسر المهنة) أصل عميق الجذور من أصول المهنة الطبية، وقيمة من قيمها المطلقة التي لم تترك لتقدير الطبيب أو لاجتهاده أو استحسانه في كل حالة على حدة، وهي تلتقي تماماً مع تعاليم الإسلام، فهي بالإسلام تتقوى وتزداد رسوخاً.

والتفريط فيها يقوض صلاح المهنة الطبية، فيحرم الإنسانية مما لا غنى لها عنه، وفي هذا بلاء خطير وشر مستطير وخسارة فادحة.

إن قدسية سر المهنة الطبية تراث موغل في القدم، حصلته المهنة حتى في أدوارها الباكرة، ولا زالت تحرص عليه حتى الآن.

(1) أصل القصة في البخاري المظالم ب 25، ك النكاح ب 83

(2)

صحيح مسلم ص 106 حديث رقم (1437)

(3)

الترمذي في سننه شرح العون 6/ 92- 93

(4)

صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة ص 192 رقم الحديث (4282)

(5)

الكبائر لابن حجر العسقلاني 2/ 27

ص: 1130

كان الطبيب (أمحوتب) في مصر القديمة يأخذ العهد والقسم على طلابه ألا يذيعوا لمريض سراً، وجاء من بعده (أبقراط) اليوناني، وما زال قسمه سارياً على الخريجين من معظم كليات الطب حتى الآن، وفيه أن كل معلومات حصل عليها الطبيب خلال أدائه مهمته، سواء أكانت المعلومات طبية أم غير طبية، سواء أعرفها سماعاً أم مشاهدة أم مجرد استنتاج، فهو سر لا يفشى، مغطى بسر المهنة، حتى أشرقت على العالم شمس الإسلام عقيدة فشريعة فدولة فدعوة فحضارة، فإذا أمة الإسلام خير أمة أخرجت للناس وإذا حضارته خير حضارة استظلوا بها.

وإذا الإسلام يثبت مما سبقه من الأعراف ولو نشأت في وعاء الجاهلية ما يراه غير مجاف للشريعة أو العقيدة، ويعتبره من فضائل الإنسانية التي اكتسبتها على مدى التاريخ.. {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] .

فكان من جراء ذلك أن ازداد (سر المهنة) في مزاولة الطب ثباتاً واستقراراً، ذكر ذلك ابن أصيبعة في كتابه طبقات الأطباء، وأكده علي بن رضوان كبير أطباء مصر (453) هـ، وأوصى بالقسم على حفظ السر مهذب الدين بن هبل البغدادي، وكان من وظائف المحتسب أنه يأخذ على الأطباء قسم (أبقراط) في حفظ السر.

ولا نود أن يفهم أن الإسلام أوصى الأطباء وحدهم بصيانة الأسرار، بل أوصى بذلك أمته كلها؛ لأن الشريعة الإسلامية تأمر الناس بأن يحفظوا الأسرار، فيجب على المسلم أن يلتزم بها، وأن يحافظ عليها، وإن الشخص إذا علم سراً أو اؤتمن عليه أو عرفه بحكم مهنته عليه ألا يفشي السر.

والقاعدة في الشريعة الإسلامية هي حرمة الإفشاء متى كان من شأن ذيوع السر أن يلحق الضرر بصاحبه، وهو على قيد الحياة أو بعد موته، وقد سئل أديب: كيف تحفظ السر؟ قال: أنا قبره، وقالوا: صدور الأحرار قبور الأسرار، وقال آخر: أستره وأستر أني أستره.

ص: 1131

فدين الإسلام هو الدين الذي رعى الإنسان ورسم له طريق الحياة الآمنة المستقرة، رعاه في ظاهره وباطنه، رعاه في روحه وجسده، رعاه في يقظته وغفلته، رعاه في كل أموره، فشرع له ما يحافظ على مقومات إنسانيته؛ فحفظ له دينه، ونفسه وعرضه، وماله، وعقله من أن يمس إلا بحق، حتى يسير آمناً مطمئناً مستقراً، مؤدياً حق الله عليه وحقوق العباد، دون تقصير أو تهاون، فيسعد وتسعد بسعادته الإنسانية جمعاء.

فالإسلام أوصى بصيانة الأسرار للأمة كلها، وإنما كان الأطباء على رأس الهرم في ذلك؛ نظراً لأن مهمتهم ذات مساس مباشر بكيان الإنسان ذاته، وهي لا تقوم قائمتها إلا إن استقرت لدى الطبيب والمريض أن ما بينهما غير معرض للإفشاء أو الإفضاء، يستوي في ذلك ما كان خيراً أو شراً، أو قبيحاً أو حسناً، أو مشرفاً أو مخجلاً، وبغير هذا تهتز المهنة الطبية وتزلزل زلزالاً عنيفاً، لقد جعل الإسلام من الأخلاق العامة ألا تذكر أخاك في غيابه بما لا يحب، ولو كنت صادقاً، وحتى في الأمور ذات الخطر جعل للحصول على المعلومات ضوابط إجرائية لا ينبغي تجاوزها بدعوى الوصول إلى الحقيقة.

فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعتلي السور ليتحقق أن رجلاً في بستان داره يشرب الخمر، ويراه كذلك، ولكن الرجل يذكره بأنه تسور عليه والله يقول:{وَلَا تَجَسَّسُوا} [الحجرات: 12] ، ولا يملك أمير المؤمنين إلا أن يذعن لشريعة الإسلام، لا غرو إذن وهذه تعاليم الإسلام (العامة) أن تكون التعاليم (الخاصة) التي تحكم المهنة الطبية أقوى أشد؛ فلذا يجب على الأطباء ألا يفشوا الأسرار، وأن يغضوا الأبصار عن المحارم، ولا يهتكوا الأستار.

ولئن قضت سنة الله وعدالته بأن يتقهقر المسلمون عن مركز القيادة والريادة في العالم بتخليهم عن المواصفات والشروط التي فرضها الله عليهم وجعلها شرطاً لنصرهم، لقد صح كذلك أن أوروبا وهي تخرج من عصورها الوسطى المظلمة إلى عصر النهضة إنما فعلت ذلك بفضل حضارة الإسلام التي أقبلت عليها أوروبا وفرط فيها أصحابها الأصليون، وفي غمار الحياة التي كانت تزداد تعقيداً نظروا إلى سر المهنة الطبية كقيمة حضارية، وضرورة إنسانية، فلم يأتمنوا عليها قوة العرف والإلف والتقاليد، وإنما أحاطوها بسياج القانون، وسبق إلى ذلك القانون الفرنسي سنة ألف وثمانمائة وخمس وعشرين، فجعل خرقها جنحة تعاقب بالحبس والغرامة، وانتشر ذلك في كل البلاد.

وقد يظن البعض أن السر الجدير بالصيانة هو ما ينطوي على معلومات سيئة أو مهينة أو مشينة بالنسبة للمريض، وهو ظن خاطئ، وإن شاع، فحفظ المعلومات الخاصة بالمريض هو حفظ مطلق ومقصود لذاته، ولا يلزم إطلاقاً أن يكون المريض قد طلب من الطبيب صراحة ألا يدلي بهذه المعلومات، بل هو سر بطبيعته وبطبيعة المهنة، ولو لم يطلب المريض ذلك.

ص: 1132

متى يستثنى من وجوب كتمان السر؟

حفظ الأسرار شيء فطري ترشد إليه الطبيعة البشرية، فكل إنسان يحب أن يحفظ من الأسرار الكثير، سواء كانت خيراً لما ورد في الأثر:((استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان)) ، أو شراً كما ورد في الحديث:((الإثم ما حاك في الصدر وكرهت أن يطلع عليه الناس)) .

وقد عدد الناس من قديم الزمان كثيراً من الفضائل، وكان من أبرزها المحافظة على الأسرار والوعود والعقود، وخاصة إذا أمنهم الناس عليها، والأطباء في القديم والحديث من أوائل من ائتمنهم الناس على أسرارهم، وقد التزم من قاموا بهذه المهنة بحفظ الأسرار من أقدم العصور، التزم به أطباء مصر كما التزم به أطباء اليونان، وقد ضمنوا هذا الالتزام قسماً يقسمه الأطباء وعهداً يقطعونه على أنفسهم قبل ممارستهم هذه المهنة.

وسر المهنة أصل عميق الجذور من أصور المهنة الطبية، وقيمة من قيمها المطلقة التي لم تترك لتقدير الطبيب أو لاجتهاده أو استحسانه في كل حالة على حدة.

وهي تلتقي تماماً مع تعاليم الإسلام، فهي بالإسلام تتقوى وتزداد رسوخاً، فحثت تعاليم الإسلام على الالتزام بالقيم وإحياء ما اندثر منها وجعل هذا ديناً وعقيدة وأسلوب حياة.

وسار على ذلك أطباء المسلمين، وقد أثبت ابن أبي أصيبعة في كتابه (عيون الأنباء في طبقات الأطباء) بعضاً من العهود التي أخذت على الأطباء في زمانه، منها:

(وأما الأشياء التي أعاينها أو أسمعها وقت علاج المرضى أو في غير أوقات علاجهم مما لا ينطق به خارجاً فأمسك عنه) ، ويروي ابن أبي أصيبعة بعضاً من التعاليم التي كانت تعلم للأطباء ويطلب منهم التحلي بها، ومنها:

(كمال التخلق وتوافر العقل والحرص على كتمان أسرار المرضى، والعفة، والعزوف عن إسقاط الأجنة، إلى غير ذلك من مكارم الأخلاق)(1) . هذا وقد حبب الإسلام كثيراً في المحافظة على الشعور الإنساني والحس البشري؛ لأن ذلك من أسباب الرقي والصعود في حلقات السمو الإنساني على هذه الأرض، ولأنه من أسباب التكريم الإلهي للإنسان الذي وكلت إليه الخلافة عن الله في الأرض، لهذا أحاط الله كرامة هذا الإنسان بحصون واقيات؛ حتى لا يهتك له ستراً، ويفضح له سراً، فشرع له أموراً معينة في ذلك ينبغي اتباعها، منها المحافظة على سره وصون كرامته وعرضه.

(1) عيون الأنباء في طبقات الأطباء: 1/ 35

ص: 1133

فالتفريط بسر المهنة يقوض صرح المهنة الطبية، فيحرم الإنسانية مما لا غنى لها عنه، وفي هذا بلاء خطير وشر مستطير وخسارة فادحة.

على أن لكل قاعدة شواذاً تمليها ضرورة أقوى منها، وتحديد الشواذ من مهام الشارع لأمن مهام الطبيب أو السلطات الصحية، ومن منطلق الالتزام الخلقي أن تكون مواطن إفشاء السر معلنة للناس، موضحة لهم دائماً من قبل المهنة الطبية؛ حتى لا يظن الناس بها غرراً مقصوداً أو غير مقصود.

ولكن هناك حالات في الشريعة الإسلامية يكون فيها إفشاء السر واجباً، وذلك في الحالة التي يكون فيها كتم السر مؤدياً إلى مفسدة، فإذا عهد شخص بسر إلى آخر، مضمونه ارتكاب جريمة زنا أو سرقة أو قتل، أو حيازة رخصة قيادة مع ضعف البصر الشديد؛ فعلى من عرف هذا السر أن يفشيه، فقد يكون في إفشائه مصلحة ترجى عسى من سمع بالخبر قبل وقوع المفسدة يهب لمنع تلك المفسدة، أو إذا وقعت تلك المفسدة يساعد على كشف الحقيقة للمصلحة العامة، كما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال:((المجالس بالأمانة إلا ثلاثة: مجلس سفك دم حرام، أو فرج حرام، أو اقتطاع مال بغير حق)) (1) .

هذا وقد ورد في ندوة الرؤية الإسلامية لبعض الممارسات الطبية المنعقدة في الكويت بتاريخ العشرين من شعبان لعام ألف وأربعمائة وسبعة للهجرة الموافق الثامن عشر من إبريل لعام ألف وتسعمائة وسبع وثمانين بحث قيم للدكتور محمد سليمان الأشقر خبير الموسوعة الفقهية في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية الكويتية حول إفشاء السر في الشريعة الإسلامية، أورده بكامله لما له من أهمية في موضوعنا.

(1) إحياء علوم الدين: 5/ 960، ط الشعب

ص: 1134

إفشاء السر في الشريعة الإسلامية

للدكتور: محمد سليمان الأشقر

خبير بالموسوعة الفقهية – وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية

السر واحد الأسرار، وهو ما يكتم، والسريرة مثله، قال الله تعالى:{يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق: 9] ، أي يوم القيامة تختبر الأسرار وتعرف، وهي ما يسر في القلوب من النيات والاعتقادات وغيرها، فيعرف الحسن منها من القبيح.

وتقول: أسررت إلى فلان إسراراً، وساررته سراراً: إذا أعلمته بسرك، وأسرار الكف: الخطوط بباطنها.

وفي قوله تعالى: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه: 7] ، السر ما حدث به الإنسان غيره وأسره إليه، والأخفى من السر ما حدث به المرء نفسه وأخطره بباله من غير أن يخبر به أحداً، وهذا من السر أيضاً، إلا أنه أشد الأسرار خفاء.

وإفشاء السر: نشره وإظهاره، نقيض الحفظ والكتمان، وكل شيء انتشر فقد فشا، ومنه فشو الحبر في الورق الرقيق، وفشت الأنعام ترعى: انتشرت، ولذا تسمى السائمة: فاشية.

صور من الكتمان والإفشاء في الكتاب والسنة وآثار الصالحين:

- جاء في سورة التحريم: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 3-4] .

والمتظاهرتان عليه في الآية هما أما المؤمنين عائشة وحفصة أسر إلى إحداهما أنه حرم على نفسه العسل، وقيل: إنه حرم على نفسه جاريته مارية، فأفشت سره إلى الأخرى (1) ، فأنزل الله تعالى الآيتين وجعل إفشاءهما لسر رسوله جرماً ينبغي المسارعة إلى التوبة منه، وهكذا أدبهما الله تعالى بهذا الأدب الجم فأحسن تأديبهما.

(1) أصل القصة في البخاري المظالم ب 25، ك النكاح ب 83

ص: 1135

- عن عبد الله بن عمر: ((أن عمر بن الخطاب حين تأيمت حفصة (أي مات زوجها) قال عمر: فأتيت عثمان بن عفان فعرضت عليه حفصة، فقال: سأنظر في أمري، فلبث ليالي، ثم لقيني، فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا، قال عمر: فلقيت أبا بكر الصديق، فقلت: إن شئت زوجتك حفصة بنت عمر، فصمت أبو بكر فلم يرجع إلى شيئاً، وكنت أوجد عليه مني على عثمان، فلبثت ليالي، ثم خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر، فقال: لعلك وجدت علي حين عرضت علي حفصة فلم أرجع إليك شيئاً؟ قال عمر: قلت: نعم، قال أبو بكر: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت علي إلا أني كنت علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها، فلم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو تركها قبلتها)) (1) .

وفي رواية أحمد: وكان سراً فكرهت أن أفشي السر.

قال ابن حجر: يستفاد منه عذر أبي بكر في كونه لم يقل كما قال عثمان: قد بدا لي أن لا أتزوج.

- كان الخليفة الفاروق يختص المتميزين من الصحابة بالعلم والإيمان والرأي فيختارهم ليكونوا أهل شوراه، وأدخل فيهم عبد الله بن عباس، على صغر سنه. فجعله من المقربين إليه، فقال له أبوه العباس:(إني أرى هذا الرجل قد اختصك بمجلسه، فاحفظ عني ثلاثاً: لا تفشين له سراً، ولا تغتابن عنده أحداً، ولا يجربن عليك كذباً) فقال رجل للشعبي: كل واحدة منهن خير من ألف. فقال: بل كل واحدة منهن خير من عشرة آلاف.

- قال أنس بن مالك رضي الله عنه: ((أسر إلي النبي صلى الله عليه وسلم سراً، فما أخبرت به أحداً بعده، ولقد سألتني أم سليم فما أخبرتها به)) رواه البخاري (2)، وأم سليم هي أم أنس. وفي رواية أنها سألت أنساً عن حاجة النبي صلى الله عليه وسلم التي أرسل أنساً فيها فقال: إنها سر، فقالت له: لا تخبر بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً، وفي رواية أن أنساً قال لثابت البناني:(والله لو حدثت به أحداً لحدثتك يا ثابت) .

(1) رواه البخاري (فتح الباري 9/ 176) وغيره

(2)

فتح الباري 11/ 82 كتاب الاستئذان ب 46

ص: 1136

تحميل الأسرار:

الأولى بالعاقل أن يكون سره وعلانيته سواء، فلا يفعل في غيبة الناس ما يسوءه أن يطلع عليه الناس؛ لأنه وإن غاب عنهم فإن الله عليه شهيد، ولا يضمر في قلبه لأحد من المسلمين ضغينة تحمله على أن يسيء القول، وأن يعلم أن سره ما دام بين حنايا صدره فهو أمير نفسه، فإن أطلع غيره على سره خرج الخيار من يده وأصبح الخيار لغيره.

وإن لم يكن له بد أن يُحَمِّلَ أحداً سره، فلا يبثه إلى كل أحد، فإنه كما قيل:(لسان العاقل في قلبه، وقلب الأحمق في فمه) .

فيختار من يحمله سره اختياراً، بأن يكون عاقلاً ثقة أميناً، وليكن شخصاً واحداً إن أمكن لا أكثر، فإن انتشر السر عرف أن الذي نشره هو صاحبه هذا بعينه، فإن كانوا أكثر ضاع سره، كما قال الشاعر:

وسرك ما كان عند امرئ

وسر الثلاثة غير الخفي

بين حفظ السر وستر العورة:

عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو بهذا الدعاء: ((اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا)) ، وعنه أنه قال:((من ستر على مسلم ستره الله في الدنيا والآخرة)) رواه الشيخان.

وقال للمنافقين: ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه: لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإن من يتبع عورة أخيه يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته)) (1) .

والعورة ما يستقبح ظهوره للناس، حسياً كان كالعورة المغلظة والتشوهات الخلقية، أو معنوياً كسيئ الأفعال والأقوال والأخلاق، ثم إن كانوا يجهلونه منك فهو سر وعورة، وإن كانوا يعلمونه فهو عورة وليس بسر، وقد لا يكون السر عورة، وإن كان صاحبه يكره إظهاره؛ كصدقة السر وصلاة السر.

(1) رواه أبو داود بإسناد جيد، وللترمذي نحوه من حديث ابن عمر وحسنه، (الإحياء وتخريج أحاديثه للعراقي 5/ 1001)

ص: 1137

فضل كتمان السر:

إن كان السر مما يقبح ظهوره للناس فهو عورة كما تقدم، وفي حفظه فضل ستر العورة على المسلم، وقد تقدم الحديث:((من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة)) وهو حق من حقوق كل مسلم على أخيه.

وفي السنة في قصة ماعز الذي اعترف بالزنى، فأقام صلى الله عليه وسلم الحد عليه بالرجم، جاء هزال فقال: أنا أمرته أن يأتي فيعترف، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((يا هزال، لو سترته بثوبك لكان خيراً لك)) (1)

وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: (لو وجدت شارباً لأحببت أن يستره الله، ولو وجدت سارقاً لأحببت أن يستره الله) .

وإن لم يكن السر عورة، فإن المحافظة عليه من كمال المروءة، وكمال الأمانة، وقوة الإرادة.

ومن هنا الحكمة المأثورة: (صدور الأحرار قبور الأسرار) ، فالحر المسيطر على إرادته يموت السر في صدره، أما الذي هو عبد لهواه فإن السر لا يزال يختلج في صدره ويضطرب حتى يفر هارباً.

وحفظ الأسرار على أهل الإيمان من كمال الإيمان؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) قال الغزالي: لا شك أنك تنتظر من أخيك أن يستر عورتك، ويسكت عن مساوئك وعيوبك، ولو أنك ظهر لك من أخيك نقيض ما تنتظره إن اشتد غيظك وغضبك عليه، فما أبعدك إذ كنت تنتظر منه ما لا تضمره له ولا تعزم عليه لأجله، وويل لمن يفعل ذلك في نص كتاب الله، حيث يقول في سورة المطففين:{وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) } (2)[المطففين: 1-2-3] .

وفضل حفظ الأسرار التي في كشفها قبح ومساءة يكون فيه أحياناً معنى إقالة العثرة، والمعونة على استقامة من وقعت منه الزلة، قال النبي صلى الله عليه وسلم:((أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود)) (3) .

وفي حديث آخر: ((من رأى عورة فسترها، فكأنما أحيا موءودة)) (4) .

صفات كتمان السر:

الأولى بمن حمل السر لغيره أن يمحوه من قلبه، وأن يوحي إلى نفسه أنه قد أمات ذلك السر، حتى كأنه لم يسمع به، أو سمع به ونسيه، فذلك أدعى إلى أن يخفيه من أن يرى أنه سيبثه في فرصة آتية.

ثم إن سئل عن السر فليتجاهل أنه يعرفه، فإن عزم عليه فرأى أنه إن قال: إنها أمانة ولن أخبر بها اكتفي منه، فليقل ذلك، وإن رأى أن ذلك يزيد السائل ضراوة، ويحفزه على متابعة الكشف، فليترك ذلك القول وليتلمس أن يستعمل المعاريض، روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب)) (5) وروي قول ذلك عن بعض السلف، والتعريض: التورية.

ثم إن لم يتيسر التعريض واضطر إلى الجواب قسراً فقد قال بعض العلماء: إن له أن ينكر، وإن كان حمل السر أمانة أو يخاف على صاحب السر الضرر في نفسه أو أهله أو ماله بغير حق فله أن يكذب، وإن استحلف فله أن يحلف على الكذب، والإثم على من اضطره إلى ذلك بغير حق (6) .

(1) رواه أبو داود والنسائي والحاكم، وقال: صحيح الإسناد (تخريج أحاديث الإحياء 5/ 999) وانظر الزواجر لابن حجر الهيتمي: 2/ 120

(2)

الإحياء: 5/ 960

(3)

المنهاج في شعب الإيمان: 3/ 362

(4)

قال العراقي: رواه أبو داود والنسائي والحاكم من حديث عقبة بن عامر وقال: صحيح الإسناد (شرح إحياء علوم الدين: 5/ 216)

(5)

رواه ابن عدي، قال المناوي: في إسناده داود – تركه أبو داود

(6)

الغزالي: إحياء علوم الدين (شرح الإحياء: 5/ 216)

ص: 1138

قال ابن حجر الهيتمي: الكذب قد يباح، وقد يجب، والضابط كما في الإحياء: إن كان مقصود محمود لا يمكن التوصل إليه إلا بالكذب فهو مباح وإن كان واجباً وجب، كما لو رأى معصوماً اختفى من ظالم يريد قتله أو إيذاءه، فالكذب هنا واجب، أو سأل الظالم عن وديعة يريد أخذها، فيجب الإنكار، وإن كذب، بل لو استحلفه لزمه الحلف، ويوري، وإلا حنث ولزمته الكفارة، ولو سأله سلطان عن فاحشة وقعت منه سراً، كزنى أو شرب خمر، فله أن يكذب ويقول: ما فعلت، وله أيضاً أن ينكر سر أخيه، ثم قال: ينبغي أن يقابل مفسدة الكذب بالمفسدة المترتبة على الصدق، فإن كانت مفسدة الصدق أشد، فله الكذب، وإن كان العكس، أو شك، حرم الكذب.

ثم استشهد لصحة ذلك بحديث الترخيص بالكذب في الحرب، وفي الصلح بين الناس، وفي حديث الرجل زوجته ليرضيها (1)

ولنا فيما قاله الغزالي وأقره ابن حجر الهيتمي توقف، فليست كل مفسدة تترتب على الصدق يستباح بها الكذب، وليس كل مصلحة محمودة تتوقف على الكذب تبيحه، فإنه ما من كاذب إلا ويرى أن في الكذب مصلحة له أو درء مفسدة عنه أو عن غيره، والنبي صلى الله عليه وسلم أخرج كلامه مخرج الحصر عندما قال: ((إن الكذب لا يحل إلا في ثلاث

)) الحديث. والذي نراه وتقتضيه الأصول أن تكون القاعدة في ذلك: أنه لا يحل الكذب لجلب مصلحة أصلاً ما عدا الحرب، وأما لدرء المفاسد فلا يحل إلا للثلاثة المذكورة في الحديث، أو ما كان مثلها أو أعظم، لا ما كان دونها في العظم. والله أعلم.

وليحذر حامل السر ممن قد يستدرجه لفضاء بمضمون السر من حيث لا يشعر، فإن للناس في ذلك أساليب لا تخفى على ذوي الفطانة.

من يستحق الستر عليه ومن لا يستحق:

قال الحليمي: (الستر هو في الفواحش التي لا تخرج من الملة، فأما إذا سمع مسلماً يتكلم بكلام الكفر، فعرف به أنه من المنافقين، فلا ينبغي أن يستر عليه

ليعلم المسلمون أنه خارج من جملتهم، ولئلا يغتروا بما يظهره لهم فينكحوه، أو يأكلوا ذبيحته، أو يصلوا خلفه، أو يوصي أحد منهم إليه بولاية أطفاله، ولأن من أظهر الكفر زالت حرمته، فإن الحرمة فيما أوجبنا ستره، إنما كان لدين المتعاطي له، فإذا لم يكن دين فقد زالت العلة، والله أعلم) (2) .

وواضح أن هذا إنما هو فيما كان من الأسرار من قبيل ستر العورات، أما إن كان من قبيل حمل الأمانة فإن الخيانة لا تجوز، ولو كان من حملك الأمانة زنديقاً، إن التزمت له بحفظها.

لماذا حفظ الأسرار؟

أولاً- لما في كشف السر من الأضرار في أغلب الأحوال:

ولا ينبغي لمسلم أن يسعى فيما فيه ضرر أخيه المسلم، ولا يحل لمسلم أن يتعمد الإضرار بأخيه بغير حق، ولا أن يسعى في أمر يكون سبباً في إيقاع الضرر بأخيه؛ لقول الله تعالى:{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58] .

(1) الزواجر لابن حجر الهيتمي: 2/ 186، القاهرة، مصطفى الحلبي، 1370 هـ

(2)

الحليمي: المنهاج في شعب الإيمان 3/ 364

ص: 1139

والأضرار التي قد يسببها إفشاء الأسرار مختلفة، فمنها:

أ- الأضرار النفسية والمعنوية:

وذلك إن كان السر عورة يسترها أخوك على نفسه، من إثم ارتكبه، أو فعل شائن زلت قدمه فأقدم عليه، ثم استتر بستر الله تعالى، فإن كشفته عنه آلمته ألماً شديداً، فاستاء وحزن، وقد تسقط شهادته، وقد تسقط بذلك كرامته، ويجفوه بعض من كان يألفه، ويحقره من كان يعظمه، وقد يفسد ذلك ما بينه وبين أهله، فيكون في ذلك تحطيم الروابط الأسرية والعلاقات الاجتماعية.

وقال الحليمي: في هتك ستر أصحاب القروف تخفيف أمر الفاحشة على قلب من يشاع فيه؛ لأنه ربما كان يخشى أن يعرف أمره، فلا يرجع إلى ما قارفه أو يستتر منه. فإذا هتك ستره اجترأ وأقدم، واتخذ ما وقع منه عادة يعسر بعدها عليه النزع عنها، وهذا إضرار به (1)

وقد نهى الله تعالى عن التجسس: وهو تتبع ما يخفيه الناس من أمورهم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاوية رضي الله عنه:((إنك إن تتبعت عورات المسلمين أفسدتهم، أو كدت تفسدهم)) (2) . قال بعض السلف: (كلمة سمعها معاوية من النبي صلى الله عليه وسلم نفعه الله بها) ، يعني استقام له شأن خلافته مع الناس.

ب- الأضرار البدنية:

فقد يلزمه بكشف سره حد أو عقوبة.

ج- الأضرار المهنية:

فإن المتعاملين مع أصحاب الصنائع كالطبيب والمحامي، إذا شعروا بأن أسرارهم في خطر، يحجمون عن التعامل معهم، أو لا يطلعونهم بالقدر الكافي على ما يريدون الاطلاع عليه لينجحوا في مهماتهم، وبذلك يفقدون وتفقد المهنة ككل نسبة كبيرة من فرص النجاح، وهكذا المهن الأخرى، حتى السائق والخادم إذا كان حافظاً للأسرار التي يطلع عليها تزيد الثقة به، فإن كان عكس ذلك فقد نسبة كبيرة من فرص العمل، وخسر غالباً ما بيده منها.

د- الأضرار المالية:

فربما أفقده إفشاء السر فرصة كسب ينتظره، أو مصلحة خطط لتحصيلها، وكم يكسب أصحاب الصناعات من الحقائق التي اكتشفوها فأدرَّت عليهم الأموال الطائلة، واعتبروها أسراراً مملوكة لهم، فهم يستثمرونها وينعمون بخيراتها، ويحرصون عليها كما يحرص كل منا على ما ينفعه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((احرص على ما ينفعك واستعن بالله)) .

وربما أدى كشف أسرار الناس المالية إلى تسلط اللصوص وأشباه اللصوص حتى يعود الغني فقيراً، وتَؤُول الثروات التي جمعت بالكدح الدؤوب، والعمل الشريف، إلى الأيدي الظالمة، تعبث بها يميناً وشمالاً.

وربما لزمته بكشف سره غرامات وتكاليف مالية كان عنها في عافية.

وربما أفقده فضح السر منصباً يكتسب به رزقه.

وكم قد ثلت الفضائح عروشاً، وأوهنت حكومات، وأتلفت أمماً.

(1) الحليمي: المنهاج في شعب الإيمان 3/ 362

(2)

رواه أبو داود بسند صحيح (تخريج أحاديث الإحياء: 5/ 1000)

ص: 1140

ثانياً- لأنه قد يكون في إفشاء السر خيانة للأمانة:

وذلك في أحوال:

أ- أن يكون بين المرء وزوجته:

ففي خطبة حجة الوداع أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالنساء خيراً، وقال:((إنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله)) .

وروى مسلم وأبو داود عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى المرأة وتفضي إليه ثم ينشر سرها)) ، وفي رواية لمسلم: ((إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة

)) الحديث (1) .

جاء في أخبار بعض أهل الفضل أنه سئل عن حال زوجة له كان قد طلقها فتزوجت بعده، فلما سئل عنها قال:(ما لي ولزوجة غيري؟)

والمراد بما يكتم هنا تفاصيل ما يقع بين الزوجين في خلوتهما.

ب- أن يكون أخوك قد طلب منك كتمان سره قبل أن يفضي إليك به فالتزمت له بذلك، فإن أفشيته كنت قد خنت الأمانة ونقضت العهد (2) ، فكنت ظلوماً جهولاً شأن المنافقين الذين يظهر نفاقهم ويعلم، بمثل هذا الفعل الذميم.

وقد يستكتم الأخ أخاه سراً في حال دون حال أو وقت دون وقت، فيقبل، فتكون الأمانة بحسب ذلك، كأن يقول: لا تفش عني هذا الخبر إلى ثلاثة أيام، أو: ما دام فلان حياً، أو ما دمت حياً، أو نحو ذلك.

ج- أن يكون أخوك قد فاتحك في أمر خاص مما شأنه أن يكتم عن الناس ولو لم يستكتمك، وخاصة إن كان يستشيرك في أمر مما ينويه أو أمر يعزم عليه، فذلك أمانة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:((المستشار مؤتمن)) ويكون كشف خبايا ذلك الحديث خيانة لتلك الأمانة.

وفيما روي من الحكمة أن رجلاً وشى بأديب لدى بعض الخلفاء، فأراد الخليفة الانتقام منه، فقال: اجمع بيني وبين هذا الواشي، فلما جاء قال له:

وأنت امرؤ إما ائتمنتك خالياً

فخنت وإما قلت قولاً بلا علم

فأنت من الأمر الذي كان بيننا

بمنزلة بين الخيانة والإثم

كأن يقول للخليفة: كيف تأخذ في بقول من لا يخرج عن أن يكون خائناً أو كاذباً.

د- أن يكون السر كلاماً صدر في مجلس خاص، يثق الحاضرون فيه بعضهم ببعض، فالحديث الذي قالوه بمقتضى الثقة هو أمانة، ففيما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:((إذا حدث الرجل بالحديث ثم التفت فهو أمانة)) (3) قال شارح الإحياء: أي التفت يميناً وشمالاً؛ لأن ذلك يظهر أنه قصد أن لا يطلع على حديثه غير الذي حدثه (4) .

(1) صحيح مسلم بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي: ك 16 – النكاح، ح 123

(2)

انظر الحليمي: المنهاج في شعب الإيمان 3/ 28

(3)

قال العراقي: رواه أبو داود في الأدب، والترمذي في البر والصلة من حديث جابر، قال: حسن (شرح الإحياء: 5/ 216)

(4)

شرح الإحياء: 5/ 216

ص: 1141

هـ- أن تقضي الضرورة أو الحاجة الإنسان أن يكشف عما يسوءه أو يضره إظهاره، وما كان ليظهره لولا حاجته إلى المعونة، كمن يذهب إلى المفتي ليسأله عن حكم الشرع في أمر قد فعله، فإن لم يشرح الواقعة بالقدر الذي يبين به الحكم فيها لم يتمكن المفتي من إجابته والبيان له، فيكون الحديث الذي وصف به فعله إن كان مما يسوء إظهاره أمانة عند المفتي، فإن كشفه كان خائناً للأمانة، فلو شهد المفتي بعد ذلك أمام القضاء بما سمعه من الإقرار لم تقبل شهادته ولا عبرة بها؛ لأن الخائن للأمانة فاسق غير عادل، وهذا عند المالكية هو المعتمد من قولين لم يرويا عن مالك، وعليه العمل (1) .

ومثل ذلك الطبيب إذا أفضى إليه المريض بسبب مرضه، وقد يكون فعلاً شائناً، أو كشف للطبيب من بدنه ما يحتاج إلي كشفه للعلاج، ويكون فيه تشويه أو مرض منفر.

وربما أفضى إلى الطبيب النفساني بأوضاع خاصة به في حياته السابقة، أو أوضاع أسرته؛ ليتمكن من تشخيص المرض ومعرفة أسبابه وعلاجه، فيكون ذلك كله أمانة لدى الطبيب، ومن الخيانة أن يفشيها.

وكذلك المكلفون بالأبحاث الاجتماعية الذين يطلب منهم التحقق من الأوضاع المعيشية للمتقدمين بطلب المعونات الاجتماعية، أو معونة الزكاة والصدقات، فإن ما يفضي إليهم به من الشؤون الخاصة التي من شأنها أن تكتم هي أمانات لديهم ليس لهم تضييعها ولا بثها إلا بإيصالها لمن شأنه تقرير تلك المعونة.

غير أن هذا لا يمنع استخدام وقائع أو الوقائع الطبية أو نحو ذلك في الأبحاث العلمية، والاستشهاد بها في تأييد النظريات أو تزييفها، غير أنها إن كانت من قبيل الأسرار فلا يذكر أسماء أصحابها، ولا ما يكشف شخصياتهم، بل تستخدم الألفاظ المبهمة.

وسائر أمناء السر والموظفون في الدوائر الحكومية أو الأهلية حملوا الأمانة بحكم وظيفتهم، فعليهم كتمان كل ما يعلمون أن في إظهاره ضرراً حسياً أو معنوياً للجهة التي قلدتهم تلك المهمات، ومن الخيانة أن يكشفوا من ذلك شيئاً.

(1) تبصرة الحكام بهامش فتح العلي المالك، فتاوى الشيخ عليش: 1/ 217، في باب موانع الشهادة

ص: 1142

ثالثاً- لأن البوح بالأسرار فيه غالباً اتباع لهوى النفس ممن يفعله:

وقد قال تعالى: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26] ، فإن الذي يدعو الناس إلى فضح أسرار غيرهم أو كشف معايبهم أكثرها راجع إلى الهوى.

فمن ذلك:

أ- أن النفوس تنزع إلى كشف الخبايا، والتبسط بغيبة الناس وذكر معايبهم، وخاصة في المجالس التي لا يتقى فيها الله تعالى، فمن اتبع ما تنزع إليه نفسه من ذلك كان متبعاً للهوى، ومن جارى قائلي السوء وكشف لهم ما يعلم من أسرار إخوته، كان متبعاً للمتبعين للهوى من إخوان الشياطين، قال الحليمي: إنما يحمل على ذلك الدغل ورداءة الطبع وسوء النية (1)

فإن الصاحب إذا حل من خليله محل الفؤاد، فاطمأن كل منهما إلى الآخر وركن إليه، فائتمنه على أدق أسراره، وبث إليه أشياء مما في نفسه وأخباراً عن أشياء فعلها، وربما أفضى إليه برأي له في فلان من الناس أو فلانة، فحق حامل الأمانة أن يكون كفناً لها، فلا يفضي بشيء من ذلك إلى أحد، ولو أن حبل الوداد انفصم بين هذين الصاحبين ما كان لأحد منهما أن يخون ما ائتمن عليه، ولا أن يفشي سر صاحبه القديم، فإن فعل ذلك يدل على لؤم طبعه وخبث باطنه (2) وليس للآخر أن يقول: فضحني فأفضحه، وأذلني فأذله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول:((أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك)) .

ثم إن كان في فضح سر المسلم، وكشف الستر عنه، ضرر يلحقه في نفسه أو ماله أو بدنه أو مركزه الاجتماعي، فإن الغالب أن يكون ذلك عن عداوة باطنة أو حقد خفي أو حسد دفين، وذلك من الهوى؛ قال الغزالي:(منشأ التقصير في ستر العورة أو السعي في كشفها: الداء الدفين في الباطن، وهو الحقد والحسد، فإن الحقود الحسود يملأ باطنه الخبث، ولكنه يحبسه في باطنه ويخفيه ولا يبديه مهما لم يجد له مجالاً، وإذا وجد فرصة انحل الرباط وارتفع الحياء وترشح الباطن بخبثه الدفين)(3) .

ويزداد ذلك الهوى ضراوة إذا انحل رباط المودة فعاد عداوة، فإن لم يكن للصديق القديم عاصم من دين يعتصم به، استغل تلك الأسرار القديمة، وأصبحت في يديه سلاحاً يقتل به عدو اليوم أخاه بالأمس، وكان للهوى حينئذ الأمر والنهي، ولإبليس الكلمة التي لا ترد، لكنه ليس له سلطان على غير الغواة، بل إن هذه الحالة في الحقيقة هي التي تتبين فيها قدرة أهل الحفاظ على كتم الأسرار، فمن أفشى السر عند الغضب فهو لئيم؛ لأن إخفاءه عند الرضا تقتضيه الطباع السليمة كلها، وإنما محل الامتحان عند الغضب، فإفشاؤه عنده من علامات اللؤم وخبث الطبع وسوء السريرة، وقد قال بعض الحكماء: لا تصحب من يتغير عليك عند أربع: (عند غضبه ورضاه، وعند طمعه وهواه) ؛ بل ينبغي أن يكون صدق الأخوة ثابتاً على اختلاف هذه الأحوال (4) .

(1) المنهاج في شعب الإيمان 3/ 362

(2)

إحياء علوم الدين: 5/ 958، ط الشعب

(3)

إحياء علوم الدين: 5/ 960

(4)

الإحياء وشرحه: 5/ 218

ص: 1143

متى يجوز إفشاء الأسرار؟

لا يجوز البوح بالسر الذي يشرع كتمانه –على الوجه الذي تقدم- إلا في أحوال معينة، منها:

1-

انقضاء حالة كتمان السر:

إذا انتهت حالة السر من غير جهة الكاتم لها، فلا بأس أن يتكلم بذلك. ويكون انقضاء حالة السر بأمور:

أ- أن يبوح بالسر صاحبه نفسه؛ لأنه لا يعود سراً فيكتم، ولذا فيرتفع الحرج بذلك (1) ، ومع هذا فقد تبقى بعض التفاصيل التي لم يبح بها سراً إن كان يكره التصريح بها، أو يكون في إعلانها ضرر عليه، ومن هنا كان من يفعل الفواحش ويعلن بها خارجاً عمن يجب الكتمان عليه؛ لأنه كاشف ستر نفسه من أول أمره، ولأنه لم يبال أصلاً بما يقال فيه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:((كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله تعالى فيقول: عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه)) متفق عليه.

فإن الرجل إذا قارف السوء، ولم يره غير الله تعالى والكرام الكاتبين الذين يعلمون ما يفعلون، كان عليه أن يستتر بستر الله ويتوب إليه، ولكنه إذا ذهب يكشف ستر الله عنه ويحدث فلانًا وفلانًا بقبيح ما فعل، فكأنه يتمدح بالمذمة، ويتفاخر بالمعصية، فيزداد قبحا إلى قبح، ولم يكن للستر عليه معنى، وإنما تنصرف مشروعيته كتم السر والستر على صاحب المعصية إن كان ممن تبدر منه الزلة النادرة، وظاهره عند الناس حسن جميل.

وقد قال الله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15] .

فالظاهر أن طلب الشهداء ليشهدوا في هذه الحال إنما هو في المرأة التي كثر منها ذلك واشتهر، جمعاً بين ما في هذه الآية وبين ما علم في الشريعة من طلب الستر على من بدرت منه الزلة وأناب.

ب- انقضاء الأضرار والمفاسد التي يتضرر بها المكتوم عنه أو غيره من جميع نواحيها: بدنياً ونفسياً ومعنوياً ومالياً، وهذا إن كان سبب مشروعية الكتمان الضرر، فأما إن كان السبب حمل الأمانة فلا تنقضي بذلك، ما لم يأذن المكتوم عنه بإعلانها أو يعلنها هو بذاته.

ج- أن يأذن صاحب السر في إفشائه، فإن أذن فلحامل السر أن يحدث به، فإذا حدث به أحداً أداه على أحسن وجه، واختار أجود ما سمع.

د- أن يكون الالتزام بكتمان السر إلى أجل، فيأتي ذلك الأجل.

هـ- أن ينتقل حال المكتوم عنه ممن يشرع كتمان سره إلى من يشرع كشف ستره وفضح أمره، كأن ينتقل من حال الإيمان إلى النفاق والكفر والعياذ بالله، أو من حال التستر بالفواحش إلى الإعلان بها.

(1) فتح الباري: 9/ 177- 178

ص: 1144

2-

موت صاحب السر:

وذلك لأن ضرر البوح بالسر ينتفي بالموت غالباً، ولكن في المسألة تفصيلاً، فقد نقل ابن حجر: إذا مات لا يلزم من الكتمان ما كان يلزم في حياته، إلا أن يكون عليه غضاضة، ثم قال ابن حجر: والذي يظهر انقسام ذلك إلى أقسام: فيكون مباحاً، وقد يستحب ذكره ولو كرهه صاحب السر، كأن يكون فيه تزكية له من كرامة أو منقبة أو نحو ذلك، ويكون مكروهاً، وقد يحرم، كالذي على الميت فيه غضاضة، وقد يجب، كأن يكون فيه ما يجب ذكره كحق عليه. اهـ.

قلت: وقد يكون الحق في الأصل للميت، كوديعة أودعها عند غيره سراً واستكتم المودع، فوجب عليه ردها على الورثة.

3-

أن يؤدي الكتمان إلى ضرر أبلغ من ضرر الإفشاء:

ومن هنا كشف علماء الحديث أحوال الرواة ووقائع وقعت لهم تدل على فسق أو قلة دين أو تساهل في الكذب، أو نحوه، لا بغرض العيب على المسلمين، وإنما بغرض تفويت الفرصة على هؤلاء؛ لئلا يغتر الناس بأحاديثهم فيظنوها صحيحة، وهي ضعيفة أو مكذوبة، فإن استمرار الكذب، وبناء الأحكام الشرعية على أحاديث منسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو لم يتكلم بها أعظم ضرراً من كشف كذب الكاذبين.

وكذلك في الشهادة، فإن شهد المستور الحال أو الظاهر العدالة، بأن لمن يعلم باطن حاله أن يقدح فيه ويبين السبب لئلا يظلم المشهود عليه.

4-

دفع الخطر:

قال الزبيدي: يستثنى ما لو تعين (الإفشاء) طريقاً لإنقاذ مسلم من هلاكه أو نحوه، كأن يخبر ثقة بأن فلاناً قد خلا برجل ليقتله، أو امرأة ليزني بها، فيشرع التجسس كما نقله النووي عن الأحكام السلطانية واستجاده، وفي حديث جابر قال النبي صلى الله عليه وسلم:((المجالس بالأمانة، فلا يشيع حديث جليسه إلا فيما يحرم ستره من الإضرار بالمسلمين)) إلا أنه حديث ضعيف، وفي رواية عند أبي داود:((المجالس بالأمانة إلا ثلاثة مجالس: مجلس يسفك فيه دم حرام، أو يستحل فيه فرج حرام، أو مجلس يستحل فيه مال من غير حله)) قال الزبيدي: سكوت أبي داود عليه يدل على أنه عنده حديث حسن.

قال: والمراد بالحديث أن المسلم إذا حضر مجلساً، وجد أهله على منكر أن يستر على عورتهم ولا يشيع ما رأى منهم إلا أن يكون أحد هذه الثلاثة فإنه فساد عظيم وإخفاؤه ضرر كبير.

ص: 1145

وعلى ضوء ما تقدم يمكن أن يتبين حكم بعض الوقائع:

1-

تأكد الطبيب من أن الزوج عقيم، ولا يمكن أن ينجب، وحملت الزوجة بطريق أو بأخرى، وهم الطبيب بإفشاء السر بإخبار الزوج أو إخبار الجهات المسؤولة، فهل له أن يفعل ذلك؟

والذي نجزم به في هذا الشأن أنه ليس للطبيب أن يقول: إن هذه الزوجة قد حملت من الزنى؛ لأنه إن قال ذلك كان قاذفاً، ويستحق حد القذف وهو ثمانون جلدة إن طالبت بذلك المرأة ولم يأت الطبيب بأربعة يشهدون على ذلك.

لكن لو قال للزوج: (تبين من الفحص أنك عقيم لا تنجب) واقتصر على هذا القول فهذا حق، وليس بسر ولا بأمانة حتى يلزم ستره وكتمانه، ولكن من باب المحافظة على سلامة الأسرة إن علم أن ذلك وقع من المرأة على سبيل الزلة فقد يكون عدم الإخبار بذلك أفضل؛ إذ لا فائدة فيه بالنسبة إلى نسب الحمل؛ لأنه سيلحق بالزوج؛ إذ الولد للفراش ولو انتفى الزوج من الولد، ما لم يجبر اللعان لنفيه.

2-

إذا قام الطبيب بعمل يخل بآداب مهنة الطب، واكتشف ذلك زميل له، هل يقوم بإبلاغ وإفشاء السر؟

يختلف ذلك في نظري من حال إلى حال، فإن كان ذلك الطبيب قد اعتدى على الطرف الآخر أو استغل صغره أو جنونه أو نحو ذلك، فهنا ليس الستر على المعتدي أولى من تمكين المعتدى عليه من الوصول إلى حقه.

وإذا كان بموافقة الطرف الآخر، وهو تام التكليف، فإن كانت زلة وحصلت التوبة منها فينبغي الكتمان، وخاصة إذا كان الذي واقع الجرم قد استعان بالزميل الذي اكتشف أمره ليتم تلافي ما حصل.

أما إن كان مستمراً في غوايته واستغلال مركزه فيجب إيقافه عند حده.

3-

إذا تبين للطبيب أن رب الأسرة قد أصيب بمرض جنسي، فهل يبلغ الأسرة؟ الجواب عندي أنه إن كان المرض معدياً ويخشى أن ينتقل إلى زوجته أو سائر أفراد أسرته، فإن الضرر المتوقع بإصابته الأبرياء أعظم من الضرر الذي ينال المريض نفسه ببيان حاله، وحينئذ فينبغي للطبيب البيان إن سئل عن ذلك أو اقتضته الحال.

ص: 1146

4-

مريض أجريت له عملية في العين، أو أصيب فضعف إبصاره لدرجة يكون في قيادته للسيارة خطر عليه هو نفسه وعلى الناس، هل يجوز الإفضاء بأمره للمسؤولين؟

الجواب عندي أنه لا مانع من أن يفضي بذلك ليحصل منعه من القيادة مؤقتاً، إن كان ضعف الإبصار مؤقتاً، أو لسحب الرخصة منه إن كان الضعف دائماً؛ وذلك لأجل الخطر في القيادة.

5-

بذل طبيب العيون جهده، ولكن لم يفلح في إزالة الداء، وتلفت العين فهل هو مسؤول شرعاً، وهل يجب عليه إفشاء السر؟

الجواب: إنه إن كان متأهلاً، وقد بذل من الجهد ما يبذله أهل الخبرة، ولم يكن سبب التلف عمله هو، فلا ضمان عليه، وليس هناك سر فيحاول إخفاءه.

6-

أخطأ طبيب العيون فأتلف العين بآلة استعملها، أدخلها في جزء من العين لم يكن له إدخالها فيه، وتلفت من حيث يريد إصلاحها، والمريض لم يعلم أن سبب التلف خطأ الطبيب، فهل على الطبيب أن يفشي على نفسه، وهل عليه أن يدفع الدية؟

والجواب: إنه مادام الإتلاف سببه جناية يد الطبيب خطأ فعليه الضمان بدية العين، لأن الإتلاف لا يختلف عمده وخطؤه، بخلاف ما لو فعل ما له فعله، ثم سرى من حيث لا يريد، ولم يكن منعه فلا ضمان، ثم إذا لزم الضمان فعليه أن يخبر به لأنه حق آدمي لا يسقط إلا بالإبراء منه أو الأداء.

7-

إذا حضر رجل وامرأة مقبلان على الزواج، وطلبا فحص ما قبل الزواج، وتم اكتشاف مرض معين في أحدهما قد يؤدي إلى احتمال إنجاب طفل مشوه، فهل يقوم الطبيب بإخبار الطرف السليم، وهل يستتبع ذلك شرعاً مساءلة ما، وهل يتم إخبار الطرف المريض نفسه؟

الجواب: يبدو لي أن قدوم الطرفين جميعاً للفحص يقتضي إخبارهما بالنتيجة، وإلا فإن الطبيب يكون قد خدعهما ولم يؤد واجبه في إطلاعهما على حقيقة وضعهما.

8-

إذا عرف الطبيب من مريضه الذي يعمل في موقع حساس (طيار مثلاً) أنه مدمن مخدرات، وأن بعض زملائه مدمنون أيضاً، فهل يقوم الطبيب بإطلاع المسؤولين على ذلك السر؟ أم يقوم الطبيب بإخطار السلطات لاتخاذ اللازم؟

الجواب عندي أنه: يجب على الطبيب شرعاً أن يبلغ الجهات المسؤولة، ويبلغ السلطات أيضاً إن لم يكن في الأمر مانع من جهة إدارية، وذلك ليمكن تفادي الأخطار الفظيعة التي قد تترتب على قيادة الطائرة من قبل شخص واقع تحت تأثير المخدر.

ص: 1147

9-

إذا عرف الطبيب عن مريضته أنها قامت بترك وليدها غير الشرعي في الطريق العام، أو أي مكان آخر؛ تفادياً للفضيحة، فهل يقوم الطبيب بإبلاغ السلطات، أم يلتزم بكتمان السر؟

الجواب عندي أنه هنا يلتزم الطبيب بكتمان السر، وخاصة إذا كانت قد استكتمته السر، والتزم لها بذلك، وحتى لو لم يلتزم فلا يفشي السر، لشدة الخطورة على حياتها في غالب الأحوال، ولما في إفشاء السر من أضرار معنوية شديدة على المرأة نفسها وعلى أسرتها وعلى سائر أولادها.

10-

مريض فقد بصر عينه، ولكن أمكن إصلاحها حتى تبدو سليمة تماماً بحيث لا يعرف الناظر إليه بأنه لا يبصر إلا بعين واحدة، طلب المريض إلى الطبيب أن لا يخبر زوجته بذلك؛ لأنها ستطلب الطلاق إذا علمت بذلك، أو أن خطيبته سترفض الاقتران به؟

الجواب عندي أن: هذا السر ليس للطبيب أن يخبر به؛ لما فيه من الضرر على المريض، والله أعلم.

وصلى الله على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً.

ص: 1148

العقوبات التي تقع على الطبيب الذي يكشف سر مريضه

تمهيد مفيد في تحديد معنى العقوبة والسر:

أما (العقوبة) ، و (المعاقبة)، و (العقاب) : فتختص بالعذاب، قال الله تعالى:{فَحَقَّ عِقَابِ} ، {شَدِيدِ الْعِقَابِ} .

ويقال: عاقب الحاكم فلاناً على ذنبه عقاباً: أخذه به، والأحكام الشرعية المتضمنة للأجزية، تسمى (العقوبات) .

وأما (السر) فأفصح وأعلى ما قيل في معناه، هو قول الزمخشري:(ما حدث به الرجل نفسه أو غيره، في مكان خال) .

وكني به عن (النكاح) ، من حيث إنه يخفى، قال تعالى:{لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} أي: نكاحاً، وقال جرير في رثاء زوجته:

كانت إذا هجر (الحليل) فراشها

خزن الحديث وعفت الأسرار

قال الإمام الشافعي: (فإذا علم أن حديثها مخزون، وخزن الحديث: أن لا يباح به سراً ولا علانية، فلا معنى للعفاف غير (الأسرار)، والأسرار: الجماع.

والرجل الحازم: هو الذي يعامل الناس بالظاهر، فلا يضيق سره في صدره، ولا يتعداه إلى غيره.

قال الشاعر الحكيم (المتنبي) يمدح نفسه بكتم السر:

وللسر مني موضع لا يناله

نديم، ولا يفضي إليه شراب

ص: 1149

وإفشاء السر فعل ممقوت، وخلق ذميم، قال الحطيئة في هجاء أمه:

تنحي فاجلسي مني بعيداً

أراح الله منك العالمينا

أغربالاً إذا استودعت سراً

وكانوناً على المتحدثينا

حياتك ما علمت حياة سوء

وموتك قد يسر الصالحينا

ولعمري! إن المرء يصعب عليه كتم السر، ويرى بإفشائه راحة، خصوصاً إذا كان السر: مرضاً، أو هماً، أو عشقاً، قال بشار بن برد:

ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة

يواسيك، أو يسليك، أو يتوجع

وقال غيره:

لا تكتمن دائك الطبيبا

ولا الصديق بسرك المحجوبا

وبالجملة: فإن إفشاء السر إلى الغير، يدل على لؤم الطبع، وخبث الطوية، وسوء الخلق.

ص: 1150

وإذ قد تمهد لنا هذا، فلنشرع في الكلام على أحكام جريمة إفشاء الأسرار الطبية، ومدى المسؤولية الجنائية للطبيب إذا أفشى سراً من أسرار مهنته.

فأقول: إن الكلام في هذه القضية متشعب وطويل ومعقد؛ ذلك لأن مسؤولية إفشاء الأسرار عموماً: الطبية وغير الطبية، مسؤولية أدبية، قد تخطاها فقهاء الإسلام، إلى غيرها من العقوبات النصية المحددة، والذي حملهم على إغفال الكلام عليها صراحة، هو أنها تدخل في دائرة الآداب العامة والأخلاق، فهي بها أشبه وأقرب.

ولكنهم لم يغفلوا الإشارة إليها، فيما قعدوا من قواعد وفرعوا من فروع، والإشارة في بعض الأحيان تكون أبلغ من العبارة (والحر تكفيه الإشارة) ، فالباحث في كتب الفقه الإسلامي، لا يعدم وجود حكم لها.

يوضح ذلك: أن للشريعة الإسلامية، في تقسيم الجرائم والعقوبات، مسلكاً رفيعاً فريداً، فقد نصت على عدد من الجرائم، وفرضت لكل منها عقوبات محددة. كالحدود، والقصاص.

وأما باقي الجرائم، فلم تفرض لها عقوبات محددة، بل ترك الأمر فيها لأولي الأمر والقضاة، والمجتهدين يفرضون منها في كل حالة ما يناسبها من عقوبات تسمى في عرف الفقهاء بالتعزيرات.

وقد سماها الإمام الأكبر فضيلة الشيخ محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر (سابقاً) بالعقوبات (التفويضية) .

وأرى من المناسب، قبل أن أدخل في صميم الحديث، أن أذكر بعض المعلومات العامة ذات الصلة بالتعزير، ليتسنى لي إدراك ما أنا بصدده، والله ولي التوفيق.

ص: 1151

أ- عرف فقهاء المسلمين الجريمة بأنها: (محظور بالشرع زجر الله عنها بحد، أو: تعزير) . وذهب جمهور هؤلاء الفقهاء إلى أن التعزير مشروع في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة.

فما هي (المعصية) ؟

اتفق الفقهاء على أن ترك الواجب، وفعل المحرم؛ معصية فيها التعزير، إذا لم تكن هناك عقوبة مقدرة (1) .

وضربوا الأمثلة لترك الواجب: بمنع أداء الزكاة، وترك الصلاة المفروضة حتى يخرج وقتها، وخيانة الأمانة.

وضربوا الأمثلة لفعل المحرم، بالخلوة بالأجنبية، وتقبيلها، واليمين الغموس، وشهادة الزور، والتستر على المجرمين وإيوائهم.

ترك المندوب وفعل المكروه:

وإذا كان ترك الواجب، وفعل المحرم معصية تستوجب التعزير، إذا لم يكن هناك تقدير للعقوبة.

فما هو الحكم إذا كان الأمر مقصوراً على ترك المندوب أو فعل المحرم، أو بعبارة أخرى: هل يعزر تارك المندوب، وفاعل المكروه؟

لم يتفق الفقهاء في هذه المسألة، ففريق يرى جواز التعزير، وفريق لا يرى الجواز.

فمن قال بعدم الجواز استند على أن التعزير لا يجوز إلا إذا كان هناك تكاليف، وهنا في هذه المسألة، ليس التكليف موجوداً في حالة الندب أو الكراهة، ومن قالوا بالتعزير استدلوا بفعل عمر بن الخطاب –رضي الله عنه فقد عزر رجلاً أضجع شاة ليذبحها وأخذ يسن السكين والشاة تنظر إليه، ولما كان مثل هذا الفعل الذي أتاه هذا الرجل يعتبر مكروهاً فقد قالوا بجواز التعزير على فعله المكروه، ومثله (ترك المندوب)(2) .

(1) السياسة الشرعية (ص 55) ، والحسية في الإسلام (ص38) لابن تيمية، والأحكام السلطانية للماوردي (ص 210 وما بعدها) ؛ والأحكام السلطانية لأبي يعلى (ص 244 وما بعدها) ، وغيرها

(2)

راجع المستصفى للغزالي (1/ 75- 76) ، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي (1/ 60 وما بعدها) ، ومواهب الجليل (6/ 330) وغيرها

ص: 1152

التعزير لحماية الآداب العامة والأخلاق:

بقي –علاوة على ما تقدم- شيء آخر أجده لزاماً علي أن أذكره، وهو: أن الشريعة الإسلامية قد عنيت أشد العناية بحماية الآداب العامة، والأخلاق الكريمة، وذلك ابتغاء إيجاد أمة كريمة، ومجتمع فاضل، وشعب مثالي بعيد كل البعد عن الميوعة والتخنث، واللهو والعبث؛ ومن أجل ذلك تركت الشريعة الإسلامية المجال يتسع ويمتد حتى يشمل كل الصور، التي يتراءى فيها الأذى والضرر، وأوجبت التعزير على جميع الأعمال الموجهة ضد الأخلاق والآداب العامة، ومنها: إفشاء السر المصون، والحديث المكتوم، وخصوصاً السر بين الطبيب المعالج وبين مرضاه، فلا يجوز للطبيب إفشاؤه، ولا إذاعة أي شيء من المعلومات التي يحصل عليها من المريض، في أثناء علاجه، فالسر حجاب مستور، لا يجوز هتكه، وجانب من حياة المريض مقدس، لا ينبغي كشفه، وإن الطبيب الذي يذيع الأسرار، فيجرح عرض مريض يشهر به، ويسيء إلى سمعته، أو عرض امرأة يكشف سرها ويفضح أمرها ويلحق بها سبة تشينها وتشين ذريتها وذويها من حولها، هو ممقوت عند الله تعالى، وينبغي أن يكون ممقوتاً من كل نفس فاضلة، وكل قلب مؤمن رشيد.

ولقد توعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل هذا الإنسان أشد الوعيد، وأنذره أفظع إنذار، فذكر أنه مصنوع به كما يصنع هو بالناس، ومقضي عليه كما يقضي هو عليهم، فيقول صلى الله عليه وسلم:((من تتبع عورة أخيه، تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته، يفضحه ولو في جوف رحله)) ، يعني: يفضحه الله في المكان الذي يأوي إليه، ويأمن به، ويطمئن إليه، وهو بيته الذي ينزل فيه، وكما قيل:(كما تدين تدان، والجزاء من جنس العمل) .

ومن هذا نستطيع أن نخلص ونفضي إلى أن الطبيب الذي يذيع أسرار مرضاه، ولا سيما الأسرار الخاصة بينه وبينهم بحكم مهنته الطبية، يعتبر من الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات، ويلحق الضرر بهم وبأسرهم، ويشين سمعتهم، فيجب تعزيره وتأديبه والتنكيل به ومنعه من معاودة هذا الخلق الذميم الممقوت، هذا رأيي، والله سبحانه أعلم (1) .

(1) راجع شرح الزيلعي على الكنز (3/ 210) ، وتبصرة الحكام لابن فرحون (2/ 366 وما بعدها) ، ونهاية المحتاج (7/ 174) ، وكشف القناع (4/ 73 وما بعدها)

ص: 1153

ب- عقوبة إفشاء الأسرار الطبية (في القانون) :

ونزيد هنا (تحت هذا العنوان) كلمة أخرى، تكون رديفاً لما تقدم، فنقول: إن إفشاء السر في حد ذاته جريمة خلقية قبل أن يكون جريمة جنائية.

وهذا يفسر لنا سكوت العلماء عن تقرير عقاب للإفشاء في العهود الغابرة.. مع أن التزام الطبيب بأسرار مهنته، معروف منذ القدم، طالما أن الحياء العام يتأذى من الإفشاء، وطالما أن في ذلك ضرراً بالمصلحة العامة، عندما يمتنع المرضى عن عرض أنفسهم على الأطباء، خشية افتضاح أمراضهم؛ لما قد يترتب على ذلك من إساءة سمعتهم، والحط من كرامتهم.

ثم إن إفشاء السر قد يثير غضب صاحبه إلى حد الاقتصاص بالقتل، وهذا ما حدث سنة 1832م في إحدى الجامعات الأوروبية، حيث قتل أحد أساتذة كلية الطب، وكان دفاع القاتل أن الطبيب وضع له عقبة في سبيل زواجه.

وبعد: فما أطيل، وسيكون كلامي على هذا الموضوع منصباً على ناحيتين، أعالج في أولاهما (أركان جريمة إفشاء السر)، وفي ثانيتهما: أذكر الأحوال التي يباح فيها للطبيب إفشاء سر من أسرار مهنته، دون أن يقع تحت طائلة العقاب.

أولاً- أركان الجريمة:

تقوم جريمة إفشاء الأسرار إذا توافرت أربعة أركان:

1-

أن يكون هناك سر.

2-

أن يكون هذا السر، قد اؤتمن عليه طبيب.

3-

أن يفشي الطبيب هذا السر.

4-

أن يكون ذلك بقصد جنائي.

فقد نصت (المادة: 310) من قانون العقوبات المصري على أن: (كل من كان من الأطباء، أو الجراحين، أو الصيادلة، أو القوابل أو غيرهم، مودعاً إليه بمقتضى صناعته، أو وظيفته، سر خصوصي اؤتمن عليه، فأفشاه في غير الأحوال التي يلزمه القانون فيها تبليغ ذلك، يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ستة شهور، أو بغرامة لا تتجاوز خمسين جنيهاً) .

ص: 1154

الركن الأول: سر المهنة الطبية:

وقد وردت بشأنه عدة تعاريف، ترمي إلى تحديده بقدر الإمكان:

فعرفه بعض المستشارين الأوروبيين بأنه: (كل ما يعهد به المريض للطبيب، ولو كان معيباً أو مزرياً بالشرف)، ولم يكتف بعضهم بهذا التعريف فقال:(إن سر المهنة الطبية لا يقتصر على ما يعهد به إلى الطبيب، بل يتعداه إلى كل ما يشاهده الطبيب أو يسمع به، أثناء ممارسته مهنته) .

وأخيراً قد يتحدد السر بالوقائع، كما إذا أفضى المريض إلى الطبيب بأن الجرح الذي يعالجه قد نشأ عن عراك.

نخرج من هذا إلى أن (سر المهنة الطبية) : هو كل ما يعرفه الطبيب أثناء ممارسته مهنته، وكان في إفشائه ضرر لشخص أو لعائلة.

الركن الثاني: صفة من اؤتمن على السر:

وهذا الركن يعني: أن يكون قد اؤتمن على السر طبيب أو صيدلي أو قابلة.

الركن الثالث: إفشاء السر:

المراد بالإفشاء: إطلاع الناس عليه، سواء كان ذلك عن طريق المكاتبة أو المشافهة أو الإشارة، ولا يشترط أن يكون الإفشاء على ملأ من الناس، بل يكفي أن يكون إلى شخص واحد، فالطبيب الذي يفشي لزوجته سراً من أسرار مهنته يقع تحت طائلة العقاب، ولو طلب منها كتمانه. ولا يباح الإفشاء ولو كان من طبيب إلى طبيب، والحكمة من هذا: أن المريض لم يأتمن أي طبيب على سره، وإنما ائتمن طبيباً واحداً معيناً.

الركن الرابع: القصد الجنائي:

مجرد الإفشاء مع العلم به، كاف لتوفر هذا الركن، وعليه فالقانون لا يعاقب على الإفشاء إذا حصل بإهمال أو عدم احتياط من الطبيب.

فإذا توافرت هذه الأركان الأربعة، وجدت الجريمة، ووجب تطبيق المادة (310 عقوبات)(1) .

(1) راجع شرح قانون العقوبات –القسم الخاص- تأليف الدكتور محمود مصطفى (ص 424- 430)

ص: 1155

ثانياً- مسوغات الإفشاء:

هناك أحوال يخول فيها الطبيب إفشاء السر، دون أن يقع تحت طائلة العقاب.

ويمكن حصر المسائل التي أثير بشأنها مسوغات الإفشاء فيما يلي: (على خلاف وجدل كبير بين الفقه والقضاء، في فرنسا وغيرها) :

1-

هل يباح للطبيب أن يفشي السر في حالات الضرورة؟

2-

الإفشاء إلى شركة التأمين على الحياة إذا كان الطبيب ممثلاً لها.

3-

أداء الشهادة أمام المحاكم.

4-

رضاء صاحب السر بإفشائه.

5-

إفشاء السر المنطوي على ارتكاب جريمة.

6-

التبليغ عن الوفيات والمواليد والأمراض المعدية.

يطول بنا الكلام إذا أردنا شرح هذه المسائل فنجتزئ بهذا الإجمال، ومن أراد التوسع فليرجع إلى قانون شرح العقوبات –القسم الخاص تأليف أحمد أمين (القانوني. لا الأديب) ، والموسوعة الجنائية (الجزء الثاني) ، علاوة على ما ذكرته من مراجع سابقة.

ص: 1156

الفصل الثاني

مداواة الرجل للمرأة والمرأة للرجل

جعلت الأحكام الشرعية عامة، بحيث لا تنظر إلى حالة من الحالات، ولا إلى فرد من الأفراد، بل هي تنظر إلى جميع الحالات، وإلى جميع الأفراد.

إلا أن هذه الصفة قد تجعل من تطبيق الأحكام في بعض الأحيان حرجاً على بعض الناس، كما أن الإفراط في التمسك بالظاهر من النصوص يؤدي في بعض الأحيان إلى ظلم وضرر، أو كما قال الغزالي (1) :(كل ما تجاوز حده انقلب ضده) ، لذلك اقتضت حكمة التشريع التيسير على الناس، وعدم تطبيق الأحكام العامة في بعض الأحوال الاستثنائية، رفعاً للضرر، ودفعاً للمشقة.

وقد استند فقهاء الحنفية بذلك إلى (الاستحسان) ، واستند المالكية إلى التعليل بالمصالح المرسلة، ثم عارض بعض علماء الأصول بهذا الإسناد للمصلحة، أو على حد تعبير الإمام الغزالي بهذا الاستصلاح.

غير أن جمهور الفقهاء قبلوا به واستندوا بذلك إلى الكتاب والسنة، وسابقات عمر بن الخطاب –رضي الله عنه مثال ذلك في الكتاب الكريم:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 115] ، وفي الحديث الشريف:((الدين يسر)) ، ((أحب الدين عند الله الحنيفية السمحة)) (2) .

فهذه الأدلة وما إليها، وإن ذكرت الدين فحسب، لكنها عامة في الفقه الإسلامي؛ لأن هذا الفقه دين وقضاء في الوقت نفسه.

(1) كما نقله السيوطي في الأشباه والنظائر (ص59) ، مطبعة مصطفى محمد سنة 1936م

(2)

البخاري، وشرحه (عمدة القاري) للعيني: 1/ 234-235

ص: 1157

وكذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن قطع أيدي اللصوص في الغزو، بقوله:((لا تقطع الأيدي في السفر)) (1) .

ثم بالاستناد إلى هذا الحديث، أفتى المجتهدون، بوجوب رفع الحد والعقوبة في أرض العدو؛ لئلا يلتحق المحكوم عليهم بالأعداء.

وعلى هذا كله، بنى الفقهاء القاعدة الكلية (المشقة تجلب التيسير) وهي من القواعد الأربع التي قال عنها القاضي حسين الشافعي:(إن مبنى الفقه عليها)(2) .

وإن التيسير معناه الرخصة، أو التخفيف الشرعي بسبب المشقة، استثناء من القاعدة العامة.

والمشقة تشمل الاضطرار والحاجة، دون المصلحة الكمالية، فحالة الاضطرار أو الضرورة هي بعرف الأصوليين: ما التجأ فيها المرء إلى حفظ دينه أو نفسه أو ماله أو عقله أو نسله من الهلاك.

والحاجة: هي ما كانت لازمة لصلاح المعيشة، أما الكماليات: فهي ما وقعت موقع التزيين والتحسين.

والمقصود من هذا كله هو أن الأصل في تعاليم الإسلام الحنيف، عدم جواز معاينة ومعالجة الرجل المرأة الأجنبية، وذلك من أجل النظر والملامسة فيهما.

ويستثنى من ذلك حالات الضرورة، كعدم وجود طبيبة تثق المريضة أو ذووها بها، أو تجد طبيبة ولكنها ليست متخصصة كتخصص الطبيب المعالج لها، إذا كان مرضها يتطلب تخصصاً معيناً، أو أن معارك الجهاد تحتاج إلى توفير الرجال للقتال، وإلى فتح المجال أمام النساء لتمريض الرجال أو معاينتهم ومداواتهم، والقاعدة الفقهية تقول:(الضرورات تبيح المحظورات)، وقال الإمام الغزالي:(جميع المحرمات تباح بالضرورات)(3) .

وجاء في القواعد الكلية الواردة في الأشباه والنظائر والمنقولة في مجلة الأحكام العدلية (مادة رقم 31) أن: (الضرورات تبيح المحظورات) .

وإن الأمثلة على تطبيق هذه القاعدة عديدة ومتنوعة، ولكن هذه القاعدة ليست مطلقة، بل لها تقييدات عديدة، فالإباحة مقيدة بالنص، أو بالقدر، أو بالزمن، وها نحن نستعرض هذه التقييدات مع المواد الكلية التي ذكر بشأنها، ومع بعض الأمثلة التي تهمنا هنا.

(1) رواه أبو داود في كتاب الحدود – 37- باب 19 (في الرجل يسرق في الغزو، أيقطع؟) وهذا ترقيم المفتاح، أما نسخة أبي داود بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد: 4/ 200. وقال المحقق: وأخرجه الترمذي والنسائي: عن جنادة بن أبي أمية، قال: كنا مع بسر بن أرطاة في البحر، فأتي بسارق يقال له: مصدرة قد سرق الناقة، فقال: قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تقطع الأيدي في السفر، ولولا ذلك لقطعته، ورواه الترمذي في كتاب (الحدود) 15- باب (ما جاء أن لا تقطع الأيدي في الغزو) ، وقال: هذا حديث غريب، وقد رواه ابن لهيعة بهذا الإسناد ونحو هذا، انظر 3/5 من سنن الترمذي، وهو الجامع الصحيح بتحقيق عبد الرحمن محمد عثمان – مطبعة دار الفكر- بيروت. ورواه النسائي في كتاب 46 – باب 16 (القطع في السفر) عن بسر بن أرطاة بلفظ أبي داود السابق، انظر الجزء الثامن من سنن النسائي بشرح الحافظ السيوطي ص 91، طباعة دار الفكر – بيروت، قال السيوطي: وجاء في روايات الحديث (الغزو)

(2)

جمع الجوامع –شرح المحلى وحاشية البناني (2/ 373)

(3)

الوجيز (2/ 216)

ص: 1158

أولاً: التقييد بالنص:

قال ابن نجيم: (المشقة والحرج إنما يعتبران في موضع لا نص فيه)(1) .

ثانياً: التقييد بالقدر:

نصت المجلة على أن: (الضرورات تقدر بقدرها) كما في المادة رقم (22) .

والأصح أن يقال كما جاء في الأشباه والنظائر للسيوطي (2) : (ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها) ؛ لأن ما يقدر ليس هو الضرورة نفسها، بل هو ما أبيح بسببها، وبمعناه نصت مجلة الأحكام العدلية على أن (الضرر يدفع بقدر الإمكان) المادة رقم (31) .

ومعنى كل هذا أن الضرورة الملحة حالة استثنائية شاذة، والمستثنيات تفسر بتضييق، بمعنى أن الترخيص الذي تقتضيه الضرورة لا يكون على إطلاقه، بل يكون بالقدر اللازم لرفع المشقة.

(مثلاً) : إذا جاز للطبيب النظر إلى عورة المرأة المريضة للضرورة، فلا يجوز له أن يرى منها أو يكشف عنها إلى موضع الحرج، ويغض بصره ما استطاع؛ لأن الضرورات تقدر بقدرها

ثالثاً- التقييد بالزمن:

إن الترخيص والاضطرار أو الحكم الاستثنائي الذي تقتضيه يبقى ما دام العذر أو حالة الاضطرار موجودة، فإذا زالت هذه الحالة الاستثنائية، زال الترخيص، ورجع الأمر إلى القاعدة الأصلية.

وبمعناه جاء في مجلة الأحكام العدلية: (أن ما جاز لعذر بطل بزواله) ، (وإذا زال المانع عاد الممنوع) ، (المادتان رقم 23، 24) .

وبناء على ذلك على الطبيب أن يقدر الضرورة بقدرها، فلا يكشف من العورة إلا بقدر ما يستدعيه الكشف والمعالجة.

(1) في الأشباه والنظائر، ص 33

(2)

ص 60، ولابن نجيم ص 34

ص: 1159

هذا وإن في السنة النبوية المطهرة، من الأحاديث الصحيحة الثابتة، ما يفيد جواز معالجة المرأة الأجنبية للرجل الأجنبي للضرورة، وإليك نصوصها:

1-

كتب نجدة بن عامر الحروري إلى ابن عباس يسأله عن خمس خصال، فقال ابن عباس: لولا أن أكتم علماً ما كتبت إليه.

كتب إليه نجدة: أما بعد، فأخبرني، هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء؟ وهل كان يضرب لهن بسهم؟ وهل كان يقتل الصبيان؟ ومتى ينقضي يتم اليتيم؟ وعن الخمس لمن هو؟

فكتب إليه ابن عباس: كتبت تسألني: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء؟ وقد كان يغزو بهن، فيداوين الجرحى ويحذين من الغنيمة، وأما سهم؟ فلم يضرب لهن.... (1) .

ومعنى (يحذين) أحذيته أحذيه إحذاء، إذا أعطيته، والحذية: العطية.

2-

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بأم سليم ونسوة من الأنصار معه، فيسقين الماء، ويداوين الجرحى (2) .

3-

وعن الربيع بنت معوذ رضي الله عنها قالت: ((لقد كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لنسقي القوم ونخدمهم، ونرد القتلى والجرحى إلى المدينة)) (3) .

ففي هذه الأحاديث الشريفة، جواز معالجة المرأة الأجنبية للرجل الأجنبي لضرورة.

4-

ولتوفير الرجال للجهاد، تطوعت الصحابيات في غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم لخدمة المجاهدين وتمريضهم ومعالجة جرحاهم، وكيف لا يتطوعن وهم يرين رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرع بين نسائه، فأيتهن تخرج سهمها خرج بها في غزوته (4) .

ومن الواجب وجود شخص ثالث عند فحص الطبيب للنساء، وبالعكس، تجنباً للخلوة بهن، ولذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخير المرأة المتطوعة للتمريض في الغزوة بين أن تكون في رفقة قومها أو عشيرتها، وبين أن تكون في رفقة أم المؤمنين التي وقعت القرعة على خروجها معه صلى الله عليه وسلم (5) .

(1) راجع الحديث بطوله في صحيح مسلم، رقم 2812، في كتاب الجهاد –باب النساء الغازيات، يرضخ لهن ولا يسهم، وفي الترمذي رقم 1556 في السير، باب (من يعطى الفيء) ، وأبو داود رقم 2727 في الجهاد- باب (المرأة والعبد يحذيان من الغنيمة)

(2)

أخرجه الترمذي رقم 1575 في السير، باب (ما جاء في خروج النساء في الحرب) ، وأبو داود رقم 2531 في الجهاد –باب في النساء يغزون وغيرهما

(3)

أخرجه البخاري في كتاب الجهاد: باب (مداواة النساء الجرحى في الغزو) ، وباب (رد النساء الجرحى والقتلى) ، وفي الطب –باب (هل يداوي الرجل المرأة، والمرأة الرجل) : 6/ 60

(4)

التراتيب الإدارية أو نظام الحكومة الإسلامية، القسم التاسع، النساء الممرضات اللاتي كن يرافقن المصطفى في الغزوة، وصحيح البخاري –كتاب الجهاد، باب (حمل الرجل امرأته في الغزو دون بعض نسائه) ، 3/ 221، - المطبعة العامرية باستنبول 1315هـ

(5)

صحيح البخاري (9/ 290) في النكاح: باب (لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم) ، والطبقات الكبرى لابن سعد (ترجمة أم سنان الأسلمية)

ص: 1160

على أنه في الحالات الإسعافية المستعجلة، يجوز للجنس تطبيب الجنس الآخر، بغض النظر عن وجود شخص ثالث، فإن الضرورات تبيح المحظورات، والكلام هنا أطول من هذا، لكن هذا مفاده.

وقد بقي علينا أن نورد بعض النصوص الفقهية التي ذكرها الفقهاء في مؤلفاتهم، وتعرضوا فيها لحكم الكشف عن العورات في أثناء المعاينات والعمليات الجراحية فنقول:

1-

جاء في المغنى لابن قدامة الحنبلي (1) :

(فصل) فيما يباح له النظر من الأجانب:

يباح للطبيب النظر إلى ما تدعو إليه الحاجة من بدنها (يعني المرأة) من العورة وغيرها، فإنه موضع حاجة، وقد روي ((أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حكم سعد بن معاذ في بني قريظة، كان يكشف عن مؤتزرهم)) .

وعن عثمان أنه أتي بغلام قد سرق، فقال: انظروا إلى مؤتزره، فلم يجدوه أنبت الشعر، فلم يقطعه.

وللشاهد النظر إلى وجه المشهود عليها، لتكون الشهادة واقعة على عينها.

قال أحمد: لا يشهد على امرأة، إلا أن يكون قد عرفها بعينها، وإن عامل امرأة في بيع أو إجارة، فله النظر إلى وجهها، ليعلمها بعينها، فيرجع عليها بالدرك.

وقد روي عن أحمد كراهة ذلك في حق الشابة دون العجوز، ولعله كرهه لمن يخاف الفتنة، أو يستغني عن المعاملة؛ فأما مع الحاجة وعدم الشهوة فلا بأس.

2-

وجاء في المهذب وهو من أنفس كتب الشافعية (2) :

(باب ستر العورة) :

سترة العورة عن العيون واجب؛ لقوله تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا} [الأعراف: 28] .

قال ابن عباس: كانوا يطوفون بالبيت عراة، فهي فاحشة، وروي عن علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((لا تبرز فخذك، ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت)) (3) فإن اضطر للكشف، للمداواة، أو للختان؛ جاز ذلك لأنه موضع ضرورة.

(1) 7/ 459، طبع محمد رشيد رضا، وقد طبع معه الشرح الكبير على متن المقنع، تأليف شمس الدين ابن قدامة، وهو ابن أخ صاحب المغني موفق الدين

(2)

المهذب في فقه الإمام الشافعي تأليف أبي إسحاق الشيرازي (1/63) ، طبع دار الكتب العربية الكبرى بالقاهرة

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (1/ 330) تعليقاً ووصله أبو داود في سننه (4/ 58) في كتاب الحمام، وأخرجه الترمذي في سننه (5/ 97- 98) في كتاب الأدب حديث رقم 2769

ص: 1161

وهل يجب سترها في حال الخلوة؟ فيه وجهان:

أصحهما: أنه يجب؛ لحديث علي كرم الله وجهه.

والثاني: لا يجب؛ لأن المنع من الكشف للنظر، وليس في الخلوة من ينظر، فلم يجب الستر.

قال الإمام النووي في شرحه على (المهذب) : والمشهور بـ (المجموع)(1) :

(الشرح) : هذا التفسير مشهور عن ابن عباس رضي الله عنهما، ووافقه فيه غيره.

وحديث علي رضي الله عنه رواه أبو داود في سننه في كتاب الجنازة، ثم في كتاب الحمام، وقال: هذا الحديث فيه نكارة، ويغني عنه حديث جرهد –بفتح الجيم والهاء- الصحابي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:((غط فخذك؛ فإن الفخذ من العورة)) ، رواه أبو داود في سننه في كتاب الحمام والترمذي في الاستئذان (2) من ثلاث طرق، وقال في كل طريق منها: هو حديث حسن، وقال في بعضها: حديث حسن، وما أرى إسناده بمتصل.

عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، قال: قلت: يا رسول الله، عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك، قلت: يا رسول الله، إذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: إن استطعت أن لا يراها أحد، فلا يراها، قال: قلت: يا نبي الله، إذا كان أحدنا خالياً؟ قال: فالله أحق أن يستحي منه الناس (3)

ثم تابع النووي كلامه قائلاً:

أما (حكم المسألة) فستر العورة عن العيون واجب بالإجماع لما سبق من الأدلة.

وأصح الوجهين: وجوبه في الخلوة، لما ذكرنا من حديث بهز بن حكيم.

وممن نص على تصحيحه المصنف (يعني: الشيرازي صاحب المهذب) فإن احتاج إلى الكشف جاز أن يكشف قدر الحاجة فقط.

ثم أردف كلامه معلقاً على كلام أبي إسحاق الشيرازي قول المصنف، فإن اضطر محمولاً على الحاجة لا على حقيقة الضرورة.

ولو قال: احتاج، كما قال الأصحاب (يعني الأصحاب الشافعية) لكان أصوب؛ لئلا يوهم اشتراط الضرورة، فمن الحاجة: حالة الاغتسال، يجوز في الخلوة عارياً، والأفضل التستر بمئزر. اهـ. المقصود من كلام النووي والشيرازي.

3-

وجاء في كتاب الشرح الصغير المسمى أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك (4) ما يلي:

ويجب ستر العورة، عمن يحرم النظر إليها من غير الزوجة والأمة، إلا لضرورة، فلا يحرم، بل قد يجب، وإذا كشف للضرورة فبقدرها، كالطبيب، يبقر له الثوب على قدر موضع العلة في نحو الفرج إن تعين النظر، وإلا فيكتفى بوصف النساء؛ إذ نظرهن للفرج أخف من الرجل.

(1) المجموع (2/ 165-166) من الطبعة المنيرية بالقاهرة

(2)

هذا كلام الإمام النووي –رضي الله عنه في نسبة الحديث إلى الترمذي، وبالرجوع إلى سنن الترمذي 5/ 110، حديث رقم 2795، تبين أن الترمذي قد أخرج الحديث في سننه في كتاب الأدب –وليس في الاستئذان- باب (ما جاء أن الفخذ عورة) ، طبع مصطفى البابي الحلبي

(3)

تم تخريجه سابقاً

(4)

الشرح الصغير المسمى أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك تأليف العلامة أبي البركات أحمد الدردير (4/ 736) طبع دار المعارف بالقاهرة سنة 1974م

ص: 1162

4-

وقال العلامة الكاساني في بدائع الصنائع، وهو الكتاب الذي تميز عن سائر كتب فقه المذهب الحنفي بحسن التنظيم والترتيب مع الاستدلال والتعليل، واستيفاء الدليل من المعقول والمنقول:

بيان ما يحل ويحرم من الرجل من المس والنظر:

يحل للرجل أن ينظر من الرجل الأجنبي إلى سائر جسده، إلا ما بين السرة والركبة، إلا عند الضرورة، فلا بأس أن ينظر من الرجل إلى موضع الختان، ليختنه ويداويه بعد الختن.

وكذا إذا كان بموضع العورة من الرجل قرح أو جرح، ودعت الحاجة إلى مداواة الرجل، ولا ينظر إلى الركبة، ولا بأس بالنظر إلى السرة، فالركبة عورة، والسرة ليست بعورة عندنا.

وأما حكم المس، فلا خلاف في أن المصافحة حلال؛ لأن الناس يتصافحون في سائر الأعصار، في العهود والمواثيق، فكانت سنة متوارثة.

بيان ما يحل ويحرم من النظر والمس للمرأة من المرأة:

كل ما يحل للرجل أن ينظر إليه من الرجل، يحل للمرأة أن تنظر إليه من المرأة، وكل ما لا يحل له لا يحل لها، فتنظر المرأة من المرأة إلى سائر جسدها، إلا ما بين السرة والركبة؛ لأنه ليس في نظر المرأة إلى المرأة خوف للشهوة والوقوع في الفتنة، كما ليس ذلك من نظر الرجل إلى الرجل، حتى لو خافت ذلك تجتنب عن النظر، كما في الرجل.

ولا يجوز لها أن تنظر ما بين سرتها إلى الركبة، إلا عند الضرورة، بأن كانت قابلة، فلا بأس لها أن تنظر إلى الفرج عند الولادة، وكذا لا بأس أن تنظر إليه لمعرفة البكارة في امرأة العنين والجارية المشتراة على شرط البكارة إذا اختصما، وكذا إذا كان بها جرح أو قرح في موضع لا يحل للرجل النظر إليه، فلا بأس أن تداويها، إذا علمت المداواة، فإن لم تعلم تتعلم ثم تداويها، فإن لم توجد امرأة تعلم المداواة، ولا امرأة تتعلم، وخيف عليها الهلاك أو بلاء أو وجع لا تحتمله، يداويها الرجل، لكن لا يكشف منها إلا موضع الجرح، ويغض بصره ما استطاع؛ لأن الحرمات الشرعية جاز أن يسقط اعتبارها شرعاً، لمكان الضرورة، كحرمة الميتة وشرب الخمر، وحالة المخمصة والإكراه.

لكن الثابت بالضرورة، لا يعدو موضع الضرورة؛ لأن علة ثبوتها الضرورة، والحكم لا يزيد على قدر العلة (1) .

(1) بدائع الصانع للكاساني (5/ 123- 124) ، كتاب الاستحسان، وقد يسمى عند الحنفية بكتاب الحظر والإباحة، أو بكتاب الكراهة كما في حاشية ابن عابدين وغيرها من كتب الحنفية

ص: 1163

لباب القول بالنسبة إلى نظر الطبيب للمرأة الأجنبية:

بعد أن تتبعنا أقوال الفقهاء، فالذي نراه أن أمر العلاج ضرورة، ولئن بين التشريع أحكام العورات في الرجل والنساء، فلقد كان جلياً أن راعى العلاج أنه استثناء من القاعدة العامة.

ولم يجدوا في هذا الاستثناء حرجاً ولا غضاضة ولا مجافاة للدين، فلم يصروا على أن يجعلوه مجالاً للحرج أو الاحتجاج، وعلى ذلك جرى الفقه حتى الآن، فتظل عورة الرجل حراماً على الرجل والمرأة، وتظل عورة المرأة حراماً على الرجل والمرأة كليهما، ولا ينحسر هذا التحريم إلا في شأن العلاج مقام الطبابة.

وطالما توفر هذا الشرط، أي الحاجة الطبية، وتوفرت تقوى الله وصلاح النية؛ فلا إثم ولا بأس.

وآراء الفقهاء المسلمين على هذا الرأي، ولهم منذ مئات السنين أحكام تعد بمقاييس عصرنا، غاية في استنارة وسعة الأفق وتفهم روح الشريعة ونصوصها جامعين في ذلك ما بين العاطفة الإسلامية الدافئة والعقل السليم الرصين، ومن نصوصهم على ذلك:

قول ابن قدامة:

(ويباح للطبيب النظر إلى ما تدعو إليه الحاجة من بدنها من العورة، وغيرها، فإنه موضع حاجة)(1) .

ومن اللطيف ما قرأناه في كتاب الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي (2) حيث قال:

وقال المروزي: قلت لأبي عبد الله: المرأة يكون بها الكسر، فيضع المجبر يده عليها؟ قال: هذا ضرورة، ولم ير به بأساً، قلت لأبي عبد الله: مجبر يعمل بخشبة، فقال: لابد لي من أكشف صدر المرأة وأضع يدي عليها، قال طلحة:(يؤاجر) : فسألت رأي ابن مضرس، قال: هذه ضرورة، ولم ير به بأساً.

(1) المغني لابن قدامة (1/ 458)

(2)

الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي (2/ 464)

ص: 1164

وتورد الصفحة نفسها:

فإن مرضت امرأة، ولم يوجد من يطبها غير رجل جاز له منها ما تدعو الحاجة إلى نظره منه حتى الفرجين، وكذا الرجل مع الرجل.

قال ابن حمدان:

وإن لم يوجد من يطبه سوى امرأة، فلها نظر ما تدعو الحاجة إلى نظره منه حتى فرجيه.

وفي حاشية ابن عابدين (1) :

وينظر الطبيب إلى موضع مرضها بقدر الضرورة.

ويمكننا أن نقول أخيراً: إن الطبيب الذي يريد مداواة المريضة يجوز له النظر إلى موضع المرض بقدر الضرورة والحاجة إلى التطبيب؛ إذ الضرورات تقدر بقدرها، وكذا الحكم بالنسبة للمريض، يباح للطبيب أن يرى منه موضع العلة، ولكن بالشروط التي أوردها الفقهاء:

1-

أن يكون هذا بحضرة محرم أو زوج أو امرأة ثقة، خشية الخلوة؛ لجواز خلوة الرجل بامرأتين ثقتين عند كثير من العلماء، وذلك لاستحياء كل بحضرة الأخرى.

2-

أن لا تكون هناك امرأة طبيبة متخصصة تعالجها، وينبغي أن تعلم المرأة علوم الطب؛ لتقوم بمداواة النساء؛ لأن نظر الجنس إلى الجنس أسهل.

وهذا الأمر متوفر في زماننا هذا نوعاً ما، وإن كان على نطاق ضيق، لا يشمل جميع المستويات، أو لم ينتشر في أكثر الجهات، فإن لم يقدر أهل جهة على تعليم المرأة، أو لم يجدوا من تقوم بمداواتها، أو إذا وجد، لكن خيف عليها الهلاك، فيجب أن يستر منها كل شيء، سوى موضع المرض، ثم يداويها الرجل، فينظر ويغض بصره ما استطاع؛ لأن ما ثبت بالضرورة يقدر بقدرها (2) .

ولأن الحرمات الشرعية جاز أن يسقط اعتبارها شرعاً لمكان الضرورة، كحرمة الميتة، وشرب الخمر حالة اللقمة والإكراه، لكن الثابت بالضرورة لا يجوز أن يتجاوز موضع الضرورة؛ لأن علة ثبوتها بالضرورة، والحكم لا يزيد على قدر العلة (3) .

(1) حاشية ابن عابدين (5/ 237)

(2)

تكملة فتح القدير لقاضي زاده (10/ 26) ط مصطفى الحلبي، والفتاوى الهندية (5/ 330) ط بولاق

(3)

بدائع الصنائع (5/ 124) ط الجمالية

ص: 1165

قال الإمام الغزالي:

وتقدر الحاجة التي يجوز إظهار العورة معها، بحيث لا يعد التكشف بسببها هتكاً للمروءة (1) .

ولا فرق في هذا بين ذوات المحارم وغيرهن؛ لأن النظر إلى العورة لا يحل بسبب المحرمية (2) .

وأما إذا خافت الهلاك بسبب جراحة تقوم بها المرأة، فللرجل الأجنبي أن يقوم بإجراء مثل هذه الجراحة لها (3) .

وكذلك يشترط في معالجة المرأة للرجل، أن لا يكون هناك رجل يستطيع أن يقوم بمثل هذه المعالجة (4) .

قال الإمام النووي: هو الأصح، وبه قطع القاضي حسين والمتولي، وقالا زيادة على ذلك: والأولى أن لا يكون ذمياً مع وجود مسلم.

وكذلك لا يقدم للكشف على المرأة غير أمين مع وجود الأمين، وقد يحرم النظر دون المس، وذلك إذا تمكن الطبيب من معرفة العلة بالمس فقط (5) .

ويمكن إلحاق الأصناف التالية بالطبيب في حكم النظر:

أولاً: ممن ابتلي بخدمة مريض أو مريضة في وضوء أو استئجار أو غيرهما من وسائل التمريض، فيجوز له النظر إلى موضع الوضوء والعورة على قدر الحاجة.

ثانياً: الخاتن إلى ذكر المختون، والخافضة إلى فرج الأنثى، والقابلة إلى فرج المرأة التي تولدها، واستكشاف العنة والبكارة.

ثالثاً: الإنقاذ من المهلكة، كغرق، أو حريق، أو هدم، أو غيرهما، فيجوز للمنقذ النظر إلى عورة المنقذ من الهلاك للضرورة، ولأنه في حكم الطبيب بجامع إنقاذ النفس، فالمعالج ينقذ النفس، ومنتشل الغريق منقذ له (6) .

هذا والله سبحانه وتعالى أعلم

(1) كفاية الأخيار لتقي الدين الحصني الدمشقي الشافعي (2/ 47)

(2)

المبسوط للسرخسي (10/ 157) ، ومغني المحتاج (3/ 133) ط عيسى البابي الحلبي

(3)

الفتاوى الهندية (5/ 330) ، ونهاية المحتاج (6/ 197)

(4)

مغني المحتاج (3/ 133) ، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي الحنبلي (8/ 22) ط أنصار السنة المحمدية

(5)

نهاية المحتاج للرملي (6/ 195)

(6)

تفسير الفخر الرازي، المسمى (مفاتيح الغيب)(6/ 354) المطبعة الخيرية بالقاهرة سنة 1308هـ

ص: 1166

الفصل الثالث

التداوي بالمحرمات

اختلفت أنظار الفقهاء في ذلك، والراجح أنه يحرم الانتفاع بالخمر للمداواة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:((إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم)) (1) .

ولما روي أن طارق بن سويد سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر فنهاه –أو كره أن يصنعها- فقال: أصنعها للدواء؟ فقال: ((إنه ليس بدواء ولكنه داء)) (2) .

ويحد من شربها لدواء. وهذا محل اتفاق بين معظم المذاهب الفقهية (3) غير أن الشافعية قالوا: إن التداوي بالخمر حرام في الأصح إذا كانت صرفاً غير ممزوجة بشيء آخر تستهلك فيه.

أما الترياق المعجون بها ونحوه مما تستهلك فيه، فيجوز التداوي به عند فقد ما يقوم به التداوي من الطاهرات، فعندئذ يتبع حكم التداوي بنجس كلحم حية وبول وكذا يجوز التداوي بذلك لتعجيل شفاه بشرط إخبار طبيب مسلم عدل بذلك، أو معرفته للتداوي به، وبشرط أن يكون القدر المستعمل قليلاً لا يسكر (4) .

وبالجملة، فإن الجمهور الأعظم من علماء المسلمين، كالمجمعين على تحريم التداوي بالخمر، وعلى أنه لو غص بلقمة ولم يجد شيئاً يسيغها به إلا الخمر، جاز له إساغتها به.

(1) أخرجه البخاري في صحيحه (10/68) تعليقاً في كتاب الطب: باب شرب الحلواء والعسل

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه، وحديث رقم (1984) في كتاب الأشربة: باب (تحريم التداوي بالخمر) ، وأبو داود في سننه رقم (3873) ، والترمذي (رقم 2147) ، وصححه، وأحمد (4/ 311)

(3)

بدائع الصنائع (5/ 112 - 113) ، أحكام القرآن لابن العربي المالكي (1/ 59) ، والمجموع (9/ 51 و53) ، والمغني (10/ 330- 331) ، والبحر الزخار (4/ 351) ، وغيرها

(4)

مغني المحتاج (4/ 188) ، وشرح جلال الدين المحلي على المنهاج بحاشية القليوبي وعميرة (4/ 203)

ص: 1167

كذلك ترادفت كلمتهم على تحريم شربها للجوع أو للعطش إلا الحنفية، فإنهم رخصوا بشربها عند ضرورة العطش أو الإكراه.

هذا وقد شذ عن هؤلاء جميعاً الظاهرية، حيث ذهبوا إلى إباحة التداوي بالخمر عند الضرورة.

قال الإمام ابن حزم الظاهري: (الخمر مباحة لمن اضطر إليها، فمن اضطر لشرب الخمر، لعطش أو علاج، أو لدفع خنق فشربها فلا حد عليه) .

ويقول: إن التداوي بمنزلة الضرورة، وقد قال تعالى:{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] ، فما اضطر المرء إليه فهو غير محرم عليه من المآكل والمشارب (1) .

هذا وقد أثبتت الأبحاث الطبية أخيراً أن من الخطأ اتخاذ الكحول دواء لأي مرض من الأمراض، وكان ذلك من أهم النتائج التي توصل إليها المؤتمر الدولي الحادي والعشرون لمكافحة المسكرات والتسمم الكحولي، الذي عقد في هلسنكي عاصمة فنلندا سنة ألف وتسعمائة وتسع وثلاثين، ففي إيراد ذلك عبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وكانت النتيجة التي توصل إليها المؤتمر بإجماع الآراء ما يلي:

(يقر المؤتمر أن الطبيب الذي يصف لعليله شيئاً من الخمر على سبيل التداوي يعتبر في عرف هذا المؤتمر طبيباً متأخراً في فنه بضعة عشر عاماً، وأن الشخص الوحيد الذي ينتفع من رواج الخمر هو صانعها أو بائعها، وأما شاربها فهو الضحية والفريسة، وهو الذي يدفع ثمنها من ماله وصحته وعاقبة أمره)(2) .

إن الخمر محرمة لعينها، فلا تباح إلا لضرورة، وليس منها التداوي؛ لأن الخمر لا يغني طريقاً للعلاج، لأن هناك غيرها من الدواء الطاهر يفي بالغرض المطلوب. ومن قال منذ نشأ الطب إلى اليوم: إن في الخمر فائدة طبية لا توجد في غيرها (3) ؟!

(1) المحلى لابن حزم (7/ 404)

(2)

المسكرات وآثارها وعلاجها في الشريعة الإسلامية، (ص 185- 186) ، دكتور أحمد علي طه ديان، دار الاعتصام، منقولة من كتاب: آثار الخمور للدكتور أحمد غلوش، مطبعة الهنا للطباعة والنشر بمصر

(3)

العقوبة في الفقه الإسلامي: للمرحوم محمد أبو زهرة (ص 185)

ص: 1168

رأيي في المسألة:

بكل هذه النصوص الواضحة كان الإسلام حاسماً كل الحسم في محاربة الخمر وإبعاد المسلم عنها، فلم يفتح أي منفذ –وإن ضاق وصغر- لتناولها أو ملابستها.

أما بخصوص استعمالها كدواء، فالناظر في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم يجد التصريح بأن الخمر ليست بدواء، بل إن الأمر جاوزه إلى التصريح بأنها داء، إذن يحرم التداوي بها كما يحرم شربها، وقد أثبتت الأبحاث والتحاليل الطبية العالمية أخيراً أن من الخطأ اتخاذ الخمر دواء لأي مرض من الأمراض، ولا عجب أن يحرم الإسلام التداوي بالخمر وغيرها من المحرمات؛ فإن تحريم الشيء كما قال الإمام ابن القيم (1) يقتضي تجنبه والبعد عنه بكل طريق، وفي اتخاذه دواء حض على الترغيب فيه وملابساته، وهذا ضد مقصود الشارع.

وقال أيضاً: فإن في إباحة التداوي به – ولا سيما إذا كانت النفوس تميل إليه- ذريعة إلى تناوله للشهوة واللذة، وبخاصة إذا عرفت النفوس أنه نافع لها ومزيل لأسقامها، جالب لشفائها.

إذن فحرمة التداوي بالخمر هو الحق، وهو الصواب، وهو الرأي الذي أميل إليه.

ومع هذا فإن للضرورة حكمها في نظر الشريعة الإسلامية، فإن الإسلام الحنيف قد بنى تشريعه كله على اليسر والرحمة، ولم يقصد بتكاليفه –على وجه عام- عنتاً ولا إرهاقاً ولا مشقة:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] .

{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] .

ومن ذلك رخص لمن أكره بالكفر، أن ينطق بكلمته وقلبه مطمئن بالإيمان. ورخص لمن أشرف على الهلاك أو خاف الضرر بجوع أو عطش أن يأكل ويشرب مما حرم الله بقدر ما يحفظ عليه حياته، أو يدفع عنه ضرره.

(1) زاد المعاد في هدي خير العباد 4/ 154 لابن القيم الجوزية، هذا وقد أفاض العلامة ابن قيم الجوزية في كتابه القيم (زاد المعاد في هدي خير العباد 4/ 154 وما بعدها) طبع مؤسسة الرسالة في بيروت سنة 1982 م في فصل خاص في هديه صلى الله عليه وسلم في المنع من التداوي بالمحرمات، واستوعب الكلام في بدلائه، فمن أراد المزيد من الاطلاع فليرجع إليه

ص: 1169

ذلك أن الإسلام حرم شرب الخمر، حفظاً للعقول، وحرم الدم المسفوح والميتة ولحم الخنزير، حفظاً للصحة، وقد جاء ذلك صريحاً واضحاً في قوله عز وجل:{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] .

وقوله سبحانه: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] .

وقد جاء عقب تحريم هذه المطعومات قوله سبحانه: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 115] .

وفي آية أخرى: {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173] . ودل هذا التعقيب الذي هو بمنزلة استثناء على أنه إذا وجدت الضرورة التي تدعو إلى تناول شيء منه، أبيح تناول ما تدعو إليه الضرورة –وليس منها التداوي- إبقاء للحياة، وحفظاً للصحة، ودفعاً للضرر.

ولكن الرخصة في تناول الدواء المشتمل على محرم مشروطة بشروط:

أولاً: أن يكون هناك خطر حقيقي على صحة الإنسان إذا لم يتناول هذا الدواء.

ثانياً: ألا يوجد دواء غيره من الحلال يقوم مقامه، أو يغني عنه.

ثالثاً: أن يكون الطبيب طبيباً مسلماً عدلاً معروفاً بالصدق والأمانة.

على أنه في مجال الواقع والتطبيق العملي، ومن تقرير ثقات الأطباء أن لا ضرورة طبية تحتم تناول شيء من هذه المحرمات –دواء- ولكننا نقرر المبدأ احتياطاً لمسلم قد يكون في مكان لا يوجد فيه إلا هذه المحرمات.

ص: 1170

بيان حكم المخدرات

تعريف المخدر والمفتر:

إن تعريف المواد المخدرة، أمر مهم في فهم طبيعة هذه المواد وخصائصها، والنتائج المترتبة على تناولها.

وعليه فإنا نذكر (أولاً) – تعريف كل من المخدر والمفتر، فنقول: الخدر: هو الكسل والثقل، يقول: خدر خدراً: عراه فتور واسترخاء. المخدر: هو المادة التي تحدث في الجسم ثقلاً وشعوراً بالكسل. والتخدير في الطب: تعطيل الإحساس موضعياً. (1) .

والمفتر –بصفة الفاعل: الذي يرخي الأعصاب ويضعف الجفن ويكسر الطرف، والخدر في أطراف الأصابع، وهو مقدمة السكر، وقد عرف الإمام أبو سليمان الخطابي (المفتر) تعريفاً شرعياً، فقال:(المفتر: كل شراب يورث الفتور والخدر في الأطراف)(2)، وقد عرف الصاوي المخدر شرعاً بأنه:(الذي يغيث العقل دون الحواس لا مع نشوة وطرب)(3) وقد جاء ذكر (المفتر) في حديث شهر بن حوشب، عن أم سلمة قالت:((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر)) (4) والمواد المخدرة على أنواع كثيرة، وفصائل متنوعة؛ تحمل كل منها اسماً علمياً خاصاً.

ومن المتعذر إيراد حصر كامل لها. وسنذكر في هذا المبحث بعضاً منها على سبيل الذكر، لا الحصر.

(1) المصباح المنير، ومختار الصحاح، والمعجم الوسيط (مادة خدر) ودائرة معارف القرن العشرين (3/ 689) الطبعة الثانية

(2)

المصادر السابقة، مادة (فتر) ؛ ومختصر سنن أبي داود للمنذري؛ ومعالم السنن للخطابي (5/ 269) ؛ وتفسير الفخر الرازي (2/ 230)

(3)

الشرح الصغير على أقرب المسالك (1/47) طبع المعارف.

(4)

أخرجه أبو داود في سننه رقم (3686) : 3/449، في كتاب الأشربة: باب النهي عن السكر

ص: 1171

حكم تعاطي المخدرات بوجه عام:

عالج الفقهاء مسألة النباتات المخدرة أو المفترة مع الخمر وقاسوها عليها، وذلك في الحكم الشرعي لا في الإطلاق اللغوي، لأن اللغة لا تثبت بالقياس عند جمهور الأصوليين.

والمقصود هو: أنه كما يحرم شرب المسكرات، حتى من غير الخمر مهما كان نوعها كثيرها وقليلها، كما سبق بيانه، يحرم أيضاً تناول المخدرات التي تغشي العقل، ولكن لا تحدث الشدة المطربة التي هي من خصائص المسكر المائع.

وكما أن ما أسكر كثيره حرم قليله من المائعات، كذلك يحرم مطلقاً ما يفتر ويخدر من الأشياء الجامدة المضرة بالعقل، أو غيره من أعضاء الجسد؛ وذلك إذا تناول قدراً مضراً منها دون القليل النافع من أجل المداواة، لأن حرمتها ليست لعينها، بل لضررها.

وقد بدأ الفقهاء بقياس (الحشيشة على الخمر، ثم عددوا النباتات الأخرى) .

ومعظم الفقهاء تكلموا عليها في كتاب الأشربة. وقليل منهم ذكرها في كتاب حد الخمر أو حد السكر. وقد اعتبر الإمام الحطاب المالكي، الحشيشة والأفيون وأمثالهما من المخدرات. (1) ، كما ذكر العلامة ابن عابدين، جوزة الطيب، والعنبر والزعفران، وقال: هذه كلها مسكرة.

ومرادهم من الإسكار هنا: تغطية العقل، لا مع الشدة المطربة، لأنها من خصوصيات المسكر المائع، فلا ينافي أنها مخدرة، فما جاء في الوعيد على الخمر، يصدق فيها، لاشتراكهما في إزالة العقل المقصود للشارع بقاؤه.

بدء ظهور المخدرات في الدولة الإسلامية:

يقول الفقيه الجليل، العلامة ابن تيمية:(إنما ظهر في الناس أكلها – يعني الحشيشة- قريباً من نحو ظهور التتار، فإنها خرجت وخرج معها سيف التتار)(2)

وقد عرف متعاطيها بالحشيشي، لا الحشاش. وتسمى الحشيشة بالقنب، وقد ألف العكبري صاحب إعراب القرآن كتاباً في أكل الحشيشة، سماه: كتاب السوانح الأدبية في مدائح القنبية (3)

ويقول ابن عابدين: سئل شمس الأئمة عن حل البنج وحرمته، فقال: ما نقل عن أبي حنيفة فيه شيء إذ لم يشتهر في زمانه، ولم يرد عن السلف فيه أيضاً شيء إلى زمان المزني تلميذ الإمام الشافعي (4)

وقال في موضع آخر: (وإنما لم يتكلم فيها –يعني الحشيشة- الأئمة الأربعة؛ لأنه لم تكن في زمنهم، وإنما ظهرت في آخر المئة السادسة، وأول المئة السابعة حين ظهرت دولة التتار (5) وكان ذلك في القرن الثالث عشر الميلادي.

(1) شرح الحطاب على مختصر خليل (3/232) ؛ وينظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (4/352)

(2)

مجموعة فتاوى ابن تيمية (4/254) ، وينظر السياسة الشرعية له (ص 108) طبع دار الكتاب العربي بالقاهرة.

(3)

راجع كشف الظنون (1/960) من طبعة المعارف التركية؛ والمخلاة للعاملي (143) من طبعة الميمنة؛ النجوم الزاهرة (7/380)

(4)

حاشية ابن عابدين (4/326)

(5)

حاشية ابن عابدين (5/406)

ص: 1172

أنواع النباتات المخدرة:

تحدث الفقهاء عن الكثير من النباتات المخدرة، وقد ذكر كل منهم ما عرف في بلده، ووجد في عصره منها، كما يتضح من سرد ما قالوه فيها.

أولاً- البنج:

في أصله نبات مخدر يسمى باللغة العربية (شيكران) وهو يصدع ويسبت – أي ينوم - ويخلط العقل، ويورث الخبال، وربما يسكر إذا شربه الإنسان بعد ذوبانه. وقد ذكر القرطبي _البنج- على أنه شراب. (1)

ثانياً- الأفيون:

عصارة الخشخاش، تستعمل للتنويم والتخدير، وهو يكرب ويؤثر في شهوتي الطعام والجنس، ويتلف الأغشية ويخرقها، ويصعب تركه في مدة بسيطة عند الإدمان عليه. (2)

ثالثاً- الحشيشة:

نوع من ورق القنب الهندي، يسكر جداً إذا تناول الإنسان منه بقدر الدرهم (13/3 غرامات) حتى إن من أكثر من الحشيشة، أصيب بالرعونة واختلال العقل.

وقد ذكر له ابن حجر (3) مئة وعشرين مضرة دينية ودنيوية. والحشيشة من أعظم المنكر، وشر من الخمر في بعض الوجوه؛ لأنه يورث نشوة لذيذة وطرباً كالخمر، ويصعب الفطام عنه أكثر من الخمر. (4) وذكر ابن تيمية الحشيشة مراراً، وخصص مسألتين فيمن يأكل الحشيشة ما يجب عليه. (5)

وقال ابن البيطار- وهو الذي إليه المنتهى في معرفة خواص النبات والأشجار-: (إن الحشيشة، وتسمى القنب، توجد في مصر، وهي مسكرة جداً، إذا تناول الإنسان منها قدر درهم أو درهمين. (6)

(1) حاشية ابن عابدين (5/275 و276) وحاشية الحطاب على مختصر خليل (3/332) ، وتفسير القرطبي (5/203) ، والمعجم الوسيط (1/70) ، والروض النضير (4/163) .

(2)

المعجم الوسيط (1/21)

(3)

فتاوى ابن حجر المكي (234 – 224)

(4)

مغني المحتاج (4/187)

(5)

فتاوى ابن تيمية (255-257) و (5/262 – 264)

(6)

الجامع لمفردات الأدوية (مادة ح ش ي ش) وتاريخ العلم ودور العلماء العرب في تقدمه لعبد الحليم منتصر (ص 185) طبع المعارف بالقاهرة.

ص: 1173

آثار تعاطي المخدرات:

أشرنا فيما سبق إلى أن الفقهاء، قد قاسوا النباتات المخدرة على الخمر في الحرمة؛ لأنها تغطي العقل مثلها، وإذا كانت الخمر أشد فتكاً في الجسم من مرض السل، فإن المواد المعروفة الآن بالمخدرات كالحشيش، والأفيون والكوكايين، لها من المضار الصحية والعقلية والروحية والاقتصادية والاجتماعية فوق ما للخمر.

قال ابن عابدين: قال ابن البيطار: (ومن القنب الهندي نوع يسمى الحشيشة يسكر جداً إذا تناول منه قدر درهم أو درهمين، حتى إن من أكثر منه أخرجه إلى حد الرعونة، وقد استعمله قوم فاختلت عقولهم، وربما قتلت، بل نقل ابن حجر عن بعض العلماء أن في أكل الحشيشة مئة وعشرين مضرة دينية ودنيوية) .

كما قال عن الأفيون: إنه يكرب ويسقط الشهوتين إذا استمر عليه، ويقتل إذا تعاطى منه قدر درهمين، ومتى زاد أكله على أربعة أيام ولاء اعتاده، بحيث يفضي تركه إلى موته؛ لأنه يخرق الأغشية خروقاً لا يسدها غيره، كما ذكر داود الأنطاكي في تذكرته. (1)

ويقول الإمام ابن تيمية: هذه الحشيشة الملعونة تورث آكلها قلة الغيرة، وزوال الحمية، حتى يصير آكلها إما ديوثاً، وإما مأبوناً، وإما كلاهما.

وقد جعلت خلقاً كثيرا مجانين، وتجعل الكبد مثل السفنج، ومن لم يجن من تعاطيها، فقد أعطته نقص العقل، ولو صحا منها، فإنه لا بد أن يكون في عقله خبل، ثم إن كثيرها يسكر. (2)

وهذه الآثار العقلية والخلقية والاجتماعية للمخدرات قد أثبتها الطب الحديث، مما دعا بالحكومات كلها إلى تحريم تعاطيها والاتجار فيها، وفرض العقوبات المشددة على من يخالف ذلك.

(1) حاشية ابن عابدين (5/405) ، وقد وردت عبارة ابن عابدين نفسها في الروض النضير (4/163)

(2)

فتاوى ابن تيمية (4/275)

ص: 1174

حكم المخدرات كحكم الخمر:

من الواضح أن قوله صلى الله عليه وسلم: ((كل مسكر حرام)) لا يقصد منه مجرد التسمية فقط؛ ذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس واضع أسماء ولغات، وإنما القصد منه، أنه يأخذ حكم الخمر في التحريم والعقوبة.

فكل ما كان في معنى الخمر من المواد المعروفة الآن بالمخدرات يأخذ حكمها، ويلزم ثبوت تلك الأحكام في كل مادة ظهرت بعد عهد التشريع، وكان لها من الآثار الضارة مثل آثار الخمر أو أشد، إن لم يكن بحرفية النص فبروحه ومعناه ومعقوله، وبالقاعدة العامة الضرورية، وهي دفع المضار، وسد الذرائع.

وبذلك أجمع على حرمة المخدرات فقهاء المسلمين الذين ظهرت في عهدهم وتبينوا آثارها السيئة في الإنسان وبيئته ونسله، وعرفوا أنها مثل الخمر وأشد. فقرروا حرمتها، كما قرروا عقوبة تناولها والاتجار بها، وقرروا أن استحلالها كاستحلال الخمر. فابن عابدين الفقيه الحنفي:(1) نقل عن كتاب الجامع وغيره، أن من قال بحل البنج والحشيشة فهو زنديق مبتدع، بل قال نجم الدين الزاهدي: إنه يكفر ويباح قتله.

وعلل الحنفية تحريم تناول البنج والحشيشة والأفيون، بأن ذلك مفسد للعقل، فيحدث عند الرجل خلاعة وفساداً، ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة.

لكن تحريم ذلك ليس لعينه، بل لنتائجه، فإن أكل الشخص شيئاً من ذلك لا يقام عليه حد الشرب أو السكر، وإن تخدر منه؛ لأن الشرع أوجب الحد بالسكر من المشروب المائع لا المأكول، وإنما يعاقب بالعقوبات التعزيرية الأخرى. (2)

وبمثل قول الحنفية في حرمة الحشيشة ونحوه ومعاقبة متناولها بعقوبة تعزيرية رادعة دون الحد؛ قال فقهاء المالكية والشافعية والظاهرية، فإنهم حرموا تناول كل ما يؤثر في العقل، كالبنج والحشيشة والأفيون والقات المخدر المستعمل الآن في اليمن، لثبوت ضررها في البدن والعقل.

ولكن لا حد في تناول ذلك، وإنما يعزر متعاطيها بالعقاب الزاجر له ولأمثاله، وغير الحنفية قالوا: إذا وصل الحشيش المذاب إلى حد الشدة المطربة، فيجب فيه الحد كالخمر. (3)

(1) حاشية ابن عابدين (5/399) و (4/326)

(2)

راجع المبسوط للسرخسي (24/9) الطبعة الأولى، وفتح القدير لابن الهمام (4/184) طبعة مصطفى محمد، واللباب شرح الكتاب للميداني (3/352) طبعة صبيح.

(3)

راجع في هذا من المذهب المالكي: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (4/352) . ومن المذهب الشافعي: مغني المحتاج (1/77) ، (4/187) ، وحاشيتي قليوبي وعميرة على المحلى للمنهاج (1/69) ، (4/203) ؛ وفتاوى ابن حجر المكي (4/223 – 224)، ومن المذهب الظاهري: المحلى لابن حزم (7/563) طبعة الإمام بالقاهرة.

ص: 1175

وكذلك قال الحنابلة بحرمة تناول الحشيشة ونحوها من المخدرات.

وأما إقامة الحد على متعاطيها، فقد قال ابن تيمية: يجلد متعاطي الحشيشة كما يجلد شارب الخمر، وهي أخبث من الخمر من جهة أنها تفسد العقل والمزاج حتى يصير في الرجل تخنث ودياثة، وغير ذلك من الفساد.

والخمر أخبث من جهة أنها تفضي إلى المخاصمة والمقاتلة، وكلاهما يصد عن ذكر الله وعن الصلاة.

ثم قال: (وقد توقف بعض الفقهاء المتأخرين في حدها، ورأى أن آكلها يعزر بما دون الحد، حيث يظنها تغير العقل من غير طرب بمنزلة البنج، ولم يجد للعلماء المتقدمين فيها كلاماً) .

وليس كذلك، بل آكلوها ينشون عنها (يعني يعاودونها مرة بعد أخرى) ، ويشتهونها، كشراب الخمر وأكثر. (1)

أدلة تحريم المخدرات:

لاحظنا مما سبق أن فقهاء المذاهب اتفقوا على حرمة المخدرات. وأضاف بعض الحنابلة (ابن تيمية) أنه يجب الحد على متعاطيها. والأصل في تحريمها ما رواه أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه بسند صحيح، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت:((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر)) (2)

قال العلماء: المفتر: كل ما يورث الفتور والخدر في الأطراف.

قال ابن حجر: وهذا الحديث فيه دليل على تحريم الحشيش بخصوصه؛ فإنها تسكر وتخدر وتفتر، ولذلك يكثر النوم لمتعاطيها.

وحكى القرافي وابن تيمية الإجماع على تحريم الحشيشة.

قال ابن تيمية: ومن استحلها فقد كفر، وإنما لم تتكلم فيها الأئمة الأربعة رضي الله عنهم لأنها لم تكن في زمانهم.

وقال بعض الحنفية: يكفر من استحل الحشيش والبنج ويباح قتله.

ورد الرملي ذلك بأن لا التفات لهذا القول، ولا تعويل عليه؛ إذ الكفر بإنكار القطعيات الثابتة يقيناً من الدين، وهذا ليس كذلك. (3)

(1) السياسة الشرعية لابن تيمية (ص 108) طبع دار الكتاب العربي بمصر؛ وينظر مطالب أولي النهى (6/217) طبع المكتب الإسلامي بدمشق.

(2)

الحديث مضى تخريجه، وأضيف هنا: قال السيوطي وأقره المناوي: حديث صحيح، راجع الجامع الصغير (2/193) ، وسنن أبي داود (3/449) .

(3)

راجع المصادر المشار إليها في الهوامش السابقة.

ص: 1176

حكم التداوي بالمخدرات:

يقول العلامة (ابن عابدين) : قدمنا في الحظر والإباحة عن (التتار خانية) أنه لا بأس بشرب ما يذهب بالعقل لقطع نحو آكلة مرض جلدي كالجرب.

أقول: ينبغي تقييده بغير الخمر، وظاهره أنه لا يتقيد نحو بنج، وقيده به الشافعية، والله سبحانه أعلم.

وبالجملة يحرم تناول البنج والحشيشة والأفيون في غير حالة التداوي؛ لأن حرمتها ليست لعينها، وإنما لضررها.

هذا والموقف الآن هو: أن الخمر لم تعد تستعمل الآن كدواء، ولكن المشروبات الكحولية تدخل في صناعة كثير من الأدوية، وكذلك المخدرات.

ومن الواضح أن تعاطي المخدرات في أية صورة كانت غير هذه التي تدخل في الأدوية، يأخذ بحكم الخمر. ذلك أن دخولها في الأدوية يخرجها عن طبيعتها المحرمة، كما يقول بعض الفقهاء الأجلاء: خرج بصرفها ما عجن بها، كالترياق، فيباح التداوي به لاستهلاكها فيه.

قال الشربيني الخطيب: (1)

تنبيه: محل الخلاف في التداوي بصرفها، أما الترياق المعجون بها ونحوه مما تستهلك فيه، فيجوز التداوي به عند فقد ما يقوم مقامه، مما يحصل به التداوي من الطاهرات، كالتداوي بنجس كلحم حية وبول.

ويجوز تناول ما يزيل العقل من غير الأشربة، لقطع عضو. اهـ. المقصود.

أقول: وكذلك الحال بالنسبة إلى استعمال المخدر، إذا وجدت الضرورة الملحة التي تدعو إلى ذلك، وما دام الطبيب الحاذق الأمين يرى أن ذلك هو الدواء الوحيد المفيد الناجع. وذلك إبقاء للحياة، وحفظاً للصحة، ودفعاً للضرر.

وهذا هو أصل من أصول التشريع في الإسلام، يبنى عليه، حينما يحرم ما يحرم، وحينما يبيح ما يبيح، والله سبحانه أعلم.

(1) في مغني المحتاج (4/188) طبعة مصطفى الحلبي.

ص: 1177

الفصل الرابع

واجبات الطبيب في السلم والحرب

الحق أنه لا فرق بين واجبات الطبيب في السلم، وواجباته في الحرب، وإن كانت في الحرب أوجب وألزم؛ لأن مهمة الطبيب مهمة إنسانية قبل كل شيء، فسيان عنده التطبيب للمرضى والجرحى، في وقت السلم والحرب، فيجب عليه المبادرة من فوره لمعالجة المريض أو المصاب، وكلما كان المرض أو الإصابة أخطر، كان الإسراع منه أوجب.

أولاً- وإن من أول الواجبات عليه وأولاها: أن يكون عالماً بمهنة الطب، ماهراً بها، متقناً لها، ومشهوداً له بتفوقه فيها وانقطاعه إليها.

ومن لم يكن كذلك، فلا يحق له الإقدام على تطبيب يخاطر فيه، ولا ينبغي له التعرض لما لا علم له فيه، ولا التصدر لطب البشر قبل استكمال أهليته.

ومن هنا جاء الحجر على الطبيب الجاهل وتضمينه، عملاً بقول الرسول صلى الله عليه وسلم:((من تطبب ولم يعلم منه طب قبل ذلك فهو ضامن)) .

ثانياً- وكذلك من أوجب الواجبات عليه كتمان سر المريض؛ لأنه قد أمنه على نفسه وسره وعورته. وإفشاء سره غير جائز إلا برضاه وبإذنه، إلا إذا كانت هناك ضرورة قصوى.

ذلك لأن الطبيب ليس من مهمته التحقيق والتفتيش والمحاكمة، وإنما مهمته الأساسية هي العلاج والتطبيب فقط.

وقد جاء في الحديث الشريف: أن ((من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة)) .

وهذا الستر عام يشمل الصحيح والمريض، ما لم يكن هناك مجاهرة في المعاصي والتبجح بها والإعلان عنها، فإن ذلك من الجهر بالسوء من القول الذي لا يحبه الله ولا يرضاه، فيجب عندئذ كشف سره لكي يعرف الناس سلوكه السيئ فيهجرونه.

وكذلك يجب كشف بعض أسرار المريض، ولا سيما إذا كان مرضه خبيثاً، وداؤه عضالاً معدياً، وكان ينوي الزواج من فتاة بريئة لا علم لها بهذا المرض الخطير.

ص: 1178

ثالثاً- وأيضاً من الواجب عليه استعمال الحكمة والسياسة والكياسة مع المريض، وعدم التهويل والتهويش بحجم المرض وخطورته وأنه ليس لدائه دواء.

فقد مدح أحد الحكماء الشعراء، طبيباً حاذقاً لبقاً، فقال ما معناه: يكاد من رقة أفكاره، حتى أنه:

لو غضبت روح على جسمها

أصلح بين الروح والجسم

رابعاً- كذلك من الواجب عليه الرفق به، وأن يكون لين الجانب، واسع الصدر، رؤوفاً.

وإذا كان الرفق مطلوباً في كل شيء، فهو بالمريض آكد وأليق.

خامساً- كذلك من الحق عليه بذل النصح للمريض، وأن يظهر له الحقيقة في بعض الأحوال، حتى ولو كانت ضد رغبته ومزاجه.

وإذا رأى من المريض علامات الموت، لم يكره أن ينبه على الوصية بالقول اللين اللطيف.

سادساً- التأني في فهم حقيقة المرض، ومزاج المريض، فإن أكثر ما يقع فيه الطبيب من الأخطاء، هو الإقدام على المعالجة، دون الفحص الدقيق ومعرفة الداء، وقد قال بعض الشعراء الحكماء في ذلك:

أفنى وأعمى ذا الطبيب بطبه

وبكحله الأحياء والبصراء

فإذا نظرت رأيت من عميانه

أمماً على أمواته قراء

سابعاً وأخيراً: عليه أن يعتقد أن طبه لا يرد شيئاً من قدر الله تعالى. وأنه إنما يداوي المريض امتثالاً لأمر الشارع، الذي أنزل الداء والدواء. وما أحسن قول ابن الرومي:

غلط الطبيب علي غلطة مورد

عجزت موارده عن الإصدار

والناس يلحون الطبيب وإنما

غلط الطبيب إصابة الأقدار

وبالجملة: فإن الطبيب الذي يفقد هذه الواجبات والآداب، يكون قد فجع بأهم واجبات مهنته، وما عليه إلا أن يطلب العزاء على فقده إياها. (1)

(1) راجع في هذا: معيد النعم ومبيد النقم لتاج الدين السبكي (ص 123) ؛ وعيون الأنباء في طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة؛ ومعالم القربة في أحكام الحسبة لابن الإخوة القرشي؛ وغيرها.

ص: 1179

الفصل الخامس

استطباب الطبيب غير المسلم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد، طب القلوب وشفائها، وعلى آله وصحابته أجمعين.

وبعد: فإن الكلام فيمن يجوز ويعتمد على خبره وطبه من الأطباء، وهل يجوز الاعتماد في ذلك على طبيب غير مسلم، أم لا يجوز، كلام طويل الذيل، عميق السيل، يمكننا أن نلخصه ونختصره فيما يلي:

أولاً: ظاهر مذاهب الأئمة: الحنفي، والشافعية، والحنابلة، أنهم يشترطون في الطبيب الذي يعول على خبره وطبه؛ أن يكون مسلماً. فهو مقيد عندهم بقيد الإسلام.

ثانياً: وذهب المالكية إلى أن الاعتماد على الطبيب غير المسلم، لا يجوز إلا في حالة فقدان الطبيب المسلم، فإذا لم يوجد طبيب مسلم يضاهي غير المسلم في الحذق والمهارة والاختصاص، فيجوز حينئذ التداوي عند غير المسلم.

ثالثاً: هناك فقيهان حنبليان جليلان، هما: شيخ الإسلام (ابن تيمية) ، وتلميذه وناشر آرائه (ابن قيم الجوزية) ، هذان الفقيهان لا يريان وجوب كون الطبيب مسلماً، حتى في حالة وجود الطبيب المسلم. وقولهما هو الصحيح، وهو الذي نختاره ونميل إليه.

ذلك لأن المدار والمعول عليه في الطب، هو ما يوجب غلبة الظن.

وهذا كما يوجد ويتوافر في الطبيب المسلم، يوجد ويتوافر كثيراً في غير المسلم، وذلك بالتجربة والممارسة.

هذا، وليس قول هذين الفقيهين الجليلين من الكلام الملقى على عواهنه، بل هو قول سديد، ورأي أصيل، مدعم بالأدلة التطبيقية، والبراهين العملية في الشريعة الإسلامية.

ص: 1180

أ- قال (ابن مفلح) الحنبلي، في كتابه النفيس، (1) نقلاً عن شيخ الإسلام ابن تيمية، ما نصه:

(إذا كان اليهودي، أو النصراني، خبيراً بالطب، ثقة عند الإنسان، جاز له أن يستطب، كما يجوز له أن يودعه المال وأن يعامله. كما قال تعالى:{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75] .

وفي الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما هاجر استأجر رجلاً مشركاً هادياً خريتاً (أي: ماهراً حاذقاً يهتدي لمثل خرت الإبرة. كأنه ينظر في خرت الإبرة من دقة نظره) ، وائتمنه على نفسه وماله.

وكانت (خزاعة) عيبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: مسلمهم وكافرهم (والعيبة: موضع السر) .

وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يستطب (الحارث بن كلدة) وكان كافراً.

وإذا أمكنه أن يستطب مسلماً، فهو كما لو أمكنه أن يودعه أو يعامله، فلا ينبغي أن يعدل عنه، وأما إذا احتاج إلى ائتمان الكتابي، أو استطبابه، فله ذلك، ولم يكن من ولاية اليهود والنصارى المنهي عنها

إلخ) انتهى.

ب- جاء في كتاب بدائع الفوائد، ما نصه:

(في استئجار النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أريقط الديلي، هادياً في وقت الهجرة، وهو كافر؛ دليل على جواز الرجوع إلى الكافر في الطب والأدوية والحساب والعيوب، ونحوها. ما لم يكن ولاية تتضمن عدالة، ولا يلزم من كونه كافراً، ألا يوثق به، في شيء أصلاً، فإنه لا شيء أخطر من الدلالة في الطريق، ولا سيما في مثل طريق الهجرة)(2) انتهى.

وأقول: إن المستند الذي استند إليه شيخ الإسلام (ابن تيمية) وتلميذه (ابن قيم الجوزية)، هو: ما رواه الإمام البخاري في صحيحه:

عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: ((استأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر رجلاً من بني الديل، هادياً خريتاً، وهو على دين كفار قريش، فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيها، صبح ثلاث)) (3)

(1) الآداب الشرعية والمنح المرعية: 2/462، من طبعة المنار بالقاهرة.

(2)

بدائع الفوائد لابن قيم الجوزية: 3/208.

(3)

صحيح البخاري (5/76)

ص: 1181

وقال ابن إسحاق في السيرة: ((استأجر عبد الله بن أرقط (أو أريقط) رجلاً من بني الدئل (أو الديل) ، وكان مشركاً، يدلهما على الطريق ودفعا إليه راحلتيهما، فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما)) . (1) انتهى.

ومعنى الدليل: الدال، وقد دله على الطريق دلالة، ودلالة؛ بفتح الدال وكسرها والفتح أعلى. والخريت: الدليل الحاذق بالدلالة.

والطب: علاج الجسم والنفس.

والطبيب: الحاذق من الرجال، الماهر بعلمه.

والمتطبب: الذي يتعاطى علم الطب، وليس بذلك.

ومعنى فلان يستطب لوجعه؛ أي: يستوصف الدواء بما يصلح لدائه ووجعه.

وأما البراهين العملية، والأدلة التطبيقية على جواز الاستطباب بغير المسلم من الأطباء، فهي الواقع العملي الذي جرى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم ومن بعده في العصور اللاحقة، ففي سنن الإمام أبي داود وغيره: أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه مرض، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي الحارث بن كلدة، فيستوصف في مرضه الذي نزل به، فأتاه فعالجه فكأنما أنشط من عقال. (2)

ومعلوم أن الحارث بن كلدة كان طبيب العرب في وقته، وأصله من ثقيف، من أهل الطائف؛ رحل إلى أرض فارس، وأخذ الطب عن أهل تلك الديار وغيرها، في الجاهلية، ومهر في هذه المهنة.

وأدرك الإسلام، ومات في نأنأة الإسلام (أي في أول الإسلام) ، ولم يصح إسلامه، كما ذكر ذلك حافظ أهل المغرب. ابن عبد البر الأندلسي القرطبي. (3)

فيدل هذا على أنه يجوز مشاورة أهل الكفر واستطبابهم، إذا كانوا من أهله.

وقد عني الخلفاء المسلمون، في جميع العهود، عناية شديدة باختيار أطبائهم، وكان في بلاط الخلفاء والأمراء، أطباء من اليهود والنصارى والصابئة.

ويذكر التاريخ وكتب التراجم والطبقات، من الأطباء النصارى، الذين حازوا قصب السبق في بلاط الخلفاء العباسيين (ابن ماسويه) طبيب هارون الرشيد.

(1) السيرة لابن إسحاق (1/485)

(2)

سنن الإمام أبي داود (2/335)

(3)

في كتابه: الاستيعاب في معرفة الأصحاب (1/283)

ص: 1182

واشتهرت بالطب في ذلك العهد (أسرة بختيشوع)، وكان منهم على وجه التحديد:

أولاً- جورجيس بن بختيشوع: في صدر الدولة العباسية، رأى الخليفة المنصور وعالجه، وكان نصرانياً.

ثانياً- بختيشوع بن جورجيس: وهو مشهور مقدم عند الملوك، عالج هارون الرشيد، والأمين، والمأمون، والمعتصم، والواثق، والمتوكل. وكانت الخلفاء تثق به على أمهات أولادهم.

ثالثاً- جبرائيل بن بختيشوع: وكان طبيباً حاذقاً نبيلاً، خدم الرشيد ومن بعده، وحل محل أبيه بختيشوع عند الخلفاء. (1)

وقد لزم سنان الصابئ - وهو ابن ثابت بن قرة - الخليفة القاهر.

وكان هذا الطبيب يحمل إجازة طبية رسمية من أحد المعاهد.

ذلك أن الراغبين في الاشتغال بمهنة الطب، كان يفرض عليهم أن ينجحوا في الامتحان، وأن تمنح لهم الإجازات التي تحدد العمل الذي يسمح لهم بمزاولته.

وقد فاقت شهرة الأطباء المسلمين شهرة غيرهم ممن سبقوهم وممن وجد في عصرهم؛ أمثال الرازي، فقد كان طبيباً وصيدلياً وجراحاً وكيميائياً.

وكان ابن سينا يمارس مهنة الطب، وله فيها شهرة فائقة، وكتابه (القانون في الطب) أكبر مرجع في هذا الفن في عصره.

وهناك معلومات مستفيضة عن الأطباء موجودة في كثير من المؤلفات؛ منها: عيون الأنباء في طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة، وتاريخ الحكماء لابن القفطي، ونفح الطيب لابن المقري، وغيرها كثير.

(1) راجع: أخبار العلماء بأخبار الأطباء. أو تاريخ الحكماء لابن القفطي ص 71، 93، 109.

ص: 1183

بقي أن نقول: إن ما جاء في النهي من الله تعالى والتشديد في وجوب مجانبة المخالف في الدين واعتزاله؛ لا يدخل في باب المعاملات، وإنما يدخل في الديانات.

، فالله عز وجل نهى المؤمنين أن يتخذوا من الكفار واليهود والنصارى أخلاء يأنسون بهم في الباطن من أمورهم، ويفاوضونهم في الآراء، ويستنيمون إليهم، ويستعينون بهم، ويتحالفون بهم، ويتحالفون معهم في الحرب والنصرة والخلطة المؤدية إلى الامتزاج والتعاضد، والسكون والاطمئنان، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} [آل عمران: 118] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة: 51] .

وأما معاملة اليهود والنصارى، من غير مخالطة ومجالسة وملابسة، واستعانة في الحرب، فلا يدخل في النهي؛ فقد عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودياً في المدينة يقال له:(أبو الشحم) ورهن عنده درعه، ومات صلى الله عليه وسلم وبقيت درعه مرهونة.

هذا وبالله تعالى التوفيق لأقوم طريق.

ص: 1184

الباب الثاني

مسؤولية الطبيب

(2)

مسؤولية الطبيب

شروط انتفاء المسؤولية عن الطبيب في الشريعة الإسلامية

ضمان الطبيب، المقصود من ضمان الطبيب

ما يسأل عنه الطبيب من الأخطاء وما لا يسأل عنه في الشريعة الإسلامية

ص: 1185

الفصل الأول

الكلام على معنى المسؤولية ومشروعيتها في الفقه الإسلامي

أولاً- معنى المسؤولية:

لعل كلمة (مأخوذية) الواردة في كلام الإمام الشافعي في كتابه (الأم)(1) أقرب ما تؤدي المعنى المراد من كلمة مسؤولية في التعبير القانوني الحديث، ذلك أن سؤال المرء قد يكون فيما لا تبعة فيه، فأما (المأخوذية) فإنما تكون فيما فيه مؤاخذة وتبعة معاً.

على أن الناظر في كتب الفقه الإسلامي، لا يجد لكلمة مسؤولية مكاناً فيها، لأنها لفظة محدثة، يجد أن الفقهاء قد عبروا عنها بلفظ (الضمان) .

ومع ذلك، فإننا مضطرون إلى استعمال كلمة (مسؤولية) مجاراة لأهل العصر، مع ما أشرنا إليه من أنها محدثة.

هذا ولعل من الواضح، أن تضمين الإنسان هو: الحكم عليه بتعويض الضرر الذي أصاب غيره من جهته.

والضرر نوعان:

الأول- ما يصيب الإنسان في نفسه.

الثاني- ما يصيبه في ماله.

فالأول- كإتلاف نفس أو عضو فيها.

والثاني- كإتلاف ماله أو جزء منه.

وكما أن الضرر يتنوع باعتبار محله إلى هذين النوعين، يتنوع باعتبار سببه إلى عدة أنواع:

منها- ما ينشأ عن مخالفة عقد بين المعتدي والمعتدى عليه.

ومنها- ما ينشأ بالاستيلاء على ملك الغير بطريق القهر، كالغصب.

ومنها- ما ينشأ عن إتلاف مال الغير.

ولك أن تقول بناء على ذلك: إن المسؤولية لا بد في تحققها من ضرر ترتب على إخلال بحق ثابت للغير. فلا مسؤولية حيث لا إخلال بحق الغير، ولا مسؤولية حيث لا ضرر.

(1) كتاب الأم للإمام الشافعي (6/168)

ص: 1186

الأصل الشرعي للمسؤولية:

قرر القرآن الكريم - وهو الأصل للتشريع الإسلامي –مبدأ المسؤولية المدنية فيما يتعلق بحق الله، بقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] .

وقررها فيما يتعلق بحق الصيد وهو القتل الخطأ بقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] .

وقررت السنة النبوية المطهرة –وهي الأصل الثاني من أصول التشريع –مبدأ المسؤولية فيما يتعلق في حق الإنسان من عدة أوجه.

وإن الذي يهمنا منها ههنا، ما قررته على الطبيب الذي يعالج الناس، وهو ليس أهلاً للعلاج، فيتلف ما يعالجه.

وذلك ما رواه عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تطبب ولم يعلم منه طب قبل ذلك فهو ضامن)) . (1)

قال الإمام الخطابي في معالم السنن (2) :

(لا أعلم خلافاً في المعالج إذا تعدى فتلف المريض كان ضامناً، والمتعاطي علماً أو عملاً لا يعرفه متعدي، فإذا تولد من فعله تلف، ضمن الدية، وسقط عنه القود؛ لأنه لا يستبد بذلك دون إذن المريض، وجناية الطبيب في قول عامة الفقهاء على عاقلته) اهـ.

وقال الإمام البغوي في شرح السنة: (3)

إذا أخطأ الطبيب في المعالجة، فحصل منه التلف، تجب الدية على عاقلته.

قال الإمام البغوي: وكذلك من تطبب بغير علم. ثم روى حديث: ((من تطبب ولم يعلم منه طب فهو ضامن)) .

هذا ومن تتبع السنة وقضاء الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصحابه - رضوان الله عليهم - من بعده يجد كثيراً من جزئيات المسؤولية المدنية.

ونحن نكتفي بهذا القدر الذي يخص مسؤولية الطبيب مع ما ثبت من روايات متعددة عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: ((لا ضرر ولا ضرار)) . (4) فإنه قاعدة كلية يرجع إليها في تطبيق جزئيات المسؤولية والمؤاخذة بها، وقد كانت هذه الوقائع وغيرها أساساً لقواعد عامة ثبتت عند الفقهاء كأصل من أصول الشريعة المسلم بها عند الجميع، ومن ذلك قولهم:(الضرر يزال) . (والضرر مرفوع بقدر الإمكان) ، (والضرر الخاص يتحمل لدفع الضرر العام) ، وكان لهذه القواعد أثر كبير في تطبيق مبدأ المسؤولية عن الضرر، وكان لها في الوقت نفسه أثر بالغ في رفع المسؤولية كما قرروه في أكل الميتة للمضطر وإساغة اللقمة بالشراب المحرم، والتلفظ بكلمة الكفر للإكراه، وفي أخذ مال الممتنع عن أداء الدين بغير إذنه، وفي دفع الصائل أو المنتهب أو المتلصص أو الباغي. (5)

(1) حديث حسن، أخرجه أبو داود في سننه، رقم (4586) في كتاب الديات: باب فيمن تطبب بغير علم. تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد. والنسائي في سننه (8 / 52، 53) في القسامة في صفحة شبه العمد، وابن ماجه، والحاكم في المستدرك على الصحيحين (4/212) ، وأقره الذهبي، وله شاهد مرسل في سنن أبي داود، حديث رقم (4587) بإسناد حسن فيتقوى به ويعتضد.

(2)

4/39، ط حلب.

(3)

1/341، ط المكتب الإسلامي بدمشق.

(4)

أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (6/69 – 70) ؛ والحاكم في المستدرك (2/58) ؛ وابن ماجة رقم (2340 – 2341)

(5)

المسؤولية المدنية والجنائية، للمرحوم محمود شلتوت، ص 8.

ص: 1187

سبب المسؤولية ودرجاتها:

السبب هو ما جعله الشارع علامة على مسببه، وربط وجود المسبب بوجوده وعدمه بعدمه، بحيث يلزم في وجود السبب وجود المسبب ومن عدمه عدمه. (1)

والشرط هو ما يتوقف وجود الحكم الشرعي على وجوده، ويلزم من عدمه عدم الحكم. (2)

وسبب المسؤولية الجنائية ارتكاب المعاصي؛ أي: إتيان المحرمات التي حرمتها الشريعة، وترك الواجبات التي أوجبتها، وإذا كان الشارع قد جعل ارتكاب المعاصي سبباً للمسؤولية الجنائية، إلا أنه جعل الوجود الشرعي للمسؤولية موقوفاً على توفر شرطين لا يغني أحدهما عن الآخر وهما:

أ- الإدراك.

ب- الاختيار.

فإذا انعدم أحد هذين الشرطين، انعدمت المسؤولية الجنائية، وإذا وجد الشرطان معاً، وجدت المسؤولية.

فالسرقة معصية حرمها الشارع، وجعل القطع عقوبة لفاعلها، فمن سرق مالاً من آخر فقد جاء بفعل هو سبب للمسؤولية الجنائية، ولكنه لا يسأل شرعاً إلا إذا وجد فيه شرطا المسؤولية وهما: الإدراك والاختيار، فإن كان غير مدرك كمجنون مثلاً، فلا مسؤولية عليه، وإن كان مدركاً ولكنه غير مختار فلا مسؤولية عليه أيضاً.

والعصيان في الشريعة يقابل الخطأ والخطيئة La Faute في تعبير القوانين الوضعية، ولكن التعبير بالعصيان أدق في دلالته على المعنى المقصود، وهو مخالفة أمر الشارع من التعبير بالخطأ والخطيئة. (3)

رأينا فيما سبق أن الوجود الشرعي للمسؤولية يتوقف على وجود العصيان، فمن الطبيعي إذن أن تكون درجات المسؤولية تابعة لدرجات العصيان.

(1) أصول الفقه للأستاذ عبد الوهاب خلاف، ص 51

(2)

أصول الفقه للأستاذ عبد الوهاب خلاف، ص 90

(3)

التشريع الجنائي في الإسلام، عبد القادر عودة

ص: 1188

والأصل في هذه المسألة أن الشريعة الإسلامية تقرر دائماً الأعمال بالنيات، وتجعل لكل امرئ نصيباً من نيته، وهذا يتمثل في قوله عليه الصلاة والسلام:((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)) (1)

والنية محلها القلب ومعناها القصد، وتطبيقاً لقاعدة اقتران الأعمال بالنيات، لا تنظر الشريعة للجناية وحدها عندما تقرر مسؤولية الجاني، وإنما تنظر إلى الجناية أولاً وإلى قصد الجاني ثانياً، وعلى هذا الأساس ترتب مسؤولية الجاني، (2) والمعاصي التي يمكن أن تنسب للإنسان المدرك المختار فيسأل عنها جنائياً لا تخرج عن نوعين:

أولاً- نوع يأتيه الإنسان وهو ينوي إتيانه ويقصد عصيان الشارع.

ثانياً- نوع يأتيه الإنسان وهو ينوي إتيانه ولا يقصد عصيان الشارع، أو لا ينوي إتيانه لا يقصد العصيان، ولكن الفعل يقع بتقصيره أو بتسببه.

فالنوع الأول: هو ما يتعمده قلب الإنسان.

والنوع الثاني: هو ما يخطئ به.

ولما كانت الشريعة الإسلامية تقرن الأعمال بالنيات كما قلنا، فقد فرقت في المسؤولية الجنائية بين ما يتعمد الجاني إتيانه وبين ما يقع من الجاني نتيجة خطئه؛ إذ جعلت مسؤولية الجاني العامد مغلظة ومسؤولية الجانب المخطئ مخففة، وعلة التغليظ على العامد أنه يتعمد العصيان بفعله وقلبه، فجريمته متكاملة.

وعلة التخفيف على المخطئ أن العصيان لا يخطر بقلبه وإن تلبس بفعله فجريمته غير متكاملة.

(1) حديث متفق على صحته، أخرجه البخاري في أول صحيحه (1/2) في باب كيف بدأ الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، طبع دار الشعب. وأخرجه الإمام مسلم في صحيحه (3/1515) في كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم:(إنما الأعمال بالنية) . وأخرجه الإمام أحمد في المسند (1/227 و285) طبع دار المعارف بالقاهرة. وأخرجه أبو داود في سننه كتاب الطلاق (2/352) مطبعة السعادة 1369 هـ. وابن ماجة في سننه: كتاب الزهد، باب النية (2/1412) طبع عيسى البابي الحلبي 1372 هـ. والترمذي في سننه (1/310) طبع بولاق 1292هـ. والنسائي (1/24) الطبعة الميمنية 1312هـ ومالك في الموطأ (ص 403) رواية محمد بن الحسن الشيباني، طبع الهندسة 1328 هـ. والبغوي في مصابيح السنة (1/3) طبع بولاق 1294هـ. وجامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي، وهو شرح على الأربعين النووية (1/10) طبع الأهرام بالقاهرة.

(2)

إعلام الموقعين (3/101 - 104

ص: 1189

وقد فرق القرآن بين العامل والمخطئ بقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5] .

وهكذا تتنوع المسؤولية الجنائية وتتعدد درجاتها بحسب تنوع العصيان وتعدد درجاته.

علة ارتفاع المسؤولية الجنائية:

بينا فيما سبق أن المسؤولية الجنائية تقوم على أسس ثلاثة وهي:

1-

إتيان فعل محرم.

2-

أن يكون الفاعل مختاراً.

3-

أن يكون الفاعل مدركاً.

فإذا توفرت هذه الأسس الثلاثة توفرت المسؤولية الجنائية، وإذا انعدم أحدها لم يعاقب الجانب على فعله، على أن عدم العقاب لا يرجع في كل الحالات إلى سبب واحد بعينه، فإذا لم يكن الفعل محرماً فلا مسؤولية إطلاقاً؛ لأن الفعل غير محرم، والمسؤولية لا تكون قبل كل شيء إلا عن فعل محرم، وإذا كان الفعل محرماً، ولكن الفاعل فاقد الإدراك أو الاختيار، فالمسؤولية الجنائية قائمة، ولكن العقاب يرتفع عن الفاعل لفقدانه الإدراك أو الاختيار.

أسباب الإباحة:

الأصل في الشريعة الإسلامية أن الأفعال المحرمة محظورة على الكافة بصفة عامة، لكن الشارع رأى استثناء من هذا الأصل أن يبيح بعض الأفعال المحرمة لمن توفرت فيهم صفات خاصة؛ لأن ظروف الأفراد أو ظروف الجماعة تقتضي هذه الإباحة، ولأن هؤلاء الذين تباح لهم الأفعال المحرمة يأتونها في الواقع لتحقيق غرض أو أكثر من أغراض الشارع.

فالجرح محرم على الكافة، ولكن لما كانت حياة الإنسان أو راحته قد تتوقف على عملية جراحية، فقد أبيح للطبيب بصفة خاصة جرح المريض لإنقاذه من آلامه أو لإنقاذ حياته، لأن الضرورات تبيح المحظورات، ولأن الشريعة تحض على التداوي من الأمراض وتوجب على المرء أن لا يلقي بنفسه إلى التهلكة، فإحداث الجرح يحقق من أغراض الشارع دفع الضرر والتداوي من المرض، وإنقاذ النفس من الهلكة.

وإذا كان الفعل المحرم قد أبيح لتحقيق مصلحة معينة، فقد وجب منطقياً أن لا يؤتى الفعل المحرم إلا لتحقيق المصلحة التي أبيح من أجلها، فإن ارتكب الفعل بغرض آخر فهو جريمة، فالطبيب الذي يجرح مريضاً بقصد علاجه يؤدي واجباً كلف به، فعمله مباح، ولكنه إذا جرح المريض بقصد قتله فهو قاتل وعمله جريمة. (1)

(1) التشريع الجنائي في الإسلام، عبد القادر عودة، القانون الجنائي، علي بدوي، ص 400. شرح قانون العقوبات، للدكتورين: كامل موسى والسعيد مصطفى ص 132.

ص: 1190

الفصل الثاني

الكلام على أسباب المسؤولية، وطرق رفعها، وتضمين الطبيب الجاهل

تنوع أسباب المسؤولية:

أشرت فيما سبق، وأنا أتكلم على معنى المسؤولية في الفقه الإسلامي، إلى أن المسؤولية تتنوع باعتبار سببها إلى عدة أنواع:

المسؤولية الناشئة عن مباشرة الإتلاف:

معلوم في الاصطلاح الفقهي أن الأضرار تكون مباشرة أو تسبباً.

فالأولى: تحصل دون أن يتخلل بينها وبين الفاعل فعل آخر، أو علة أخرى.

والثانية: تحصل كنتيجة منتظرة لحدوث سبب يفضي إليها غالباً.

وقد أوضحت ذلك مجلة الأحكام العدلية العثمانية، المبنية على المصادر الحنفية في باب الإتلاف بقولها:

أ- الإتلاف مباشرة هو: إتلاف الشيء بالذات من غير أن يتخلل بين فعل المباشر والتلف فعل آخر.

ب- الإتلاف تسبباً هو: السبب في تلف شيء. يعني أن يحدث أمر في شيء ما يفضي عادة إلى تلف شيء آخر. ويقال لفاعله: متسبب. فإن من قطع حبل قنديل معلق، يكون سبباً مفضياً لسقوطه على الأرض وانكساره، ويكون حينئذ قد أتلف الحبل مباشرة وكسر القنديل تسبباً. (1)

(1) المادة رقم (887) .

ص: 1191

وكذا إذا شق واحد ظرفاً فيه سمن وتلف ذلك السمن، يكون قد أتلف الظرف مباشرة، والسمن تسبباً.

المادة رقم 888:

ومن القواعد المقررة في هذه المسألة أيضاً، أنه:(إذا اجتمع المباشر والمتسبب، يضاف الحكم إلى المباشر) .

مثلاً: لو حفر رجل بئراً في الطريق العام، فألقى أحد حيوان شخص في تلك البئر، ضمن الذي ألقى الحيوان، ولا شيء على حافر البئر. (1)

وبمعناه ورد في قواعد ابن رجب الحنبلي أنه: (إذا استند إتلاف أموال الآدميين ونفوسهم إلى مباشر وسبب، تعلق الضمان بالمباشر دون السبب، إلا أن تكون المباشرة مبنية على السبب) . (2)

هذا هو الأصل، ولكن الفقهاء استثنوا منه بعض الأحوال، حيث كان المتسبب ضامناً بالاشتراك مع المباشر، أو حيث كان ضامناً وحده.

وقد أضربنا صفحاً عن ذكر ذلك، لأنه خارج عن دائرة بحثنا وما نحن بسبيله.

والمهم هنا هو أن الفقهاء قد اتفقوا على أن من أتلف مالاً أو نفساً أو عضواً من نفس، بغير حق شرعي، فعليه مسؤولية ما أتلف.

وأن من فروع مسؤولية الإتلاف: مسؤولية الطبيب إذا أخطأ، وجاوز الحد المعتاد، أو أهمل في العلاج، أو لم يكن من أهل الطب.

وفي تقرير هذه المسؤولية، حفظ للأرواح البشرية، من تلاعب بعض الأطباء بها، وحفظ لهم على التنبه إلى واجبهم، واتخاذ الحيطة اللازمة في صناعتهم المتعلقة بحياة الناس.

(1) المادة رقم (90) من مجلة الأحكام العدلية، وانظر الأشباه والنظائر للسيوطي (109) . ولابن نجيم (64)

(2)

كتاب القواعد لابن رجب، القاعدة رقم (127) ، ص 285.

ص: 1192

طريق رفع المسؤولية:

قد يحصل الضرر بفعل أو تسبب، ولكن ترتفع المسؤولية عن الفاعل أو المتسبب فلا يحكم عليه بضمان التلف، فإذا لم يحكم عليه بالضمان، فذلك هو المقصود من رفع المسؤولية.

ونستطيع أخذاً من الفروع الفقهية أن نعد من طريق رفع المسؤولية التلف الحاصل بسريان العملية الجراحية، التي وقعت معتادة، ولم يهمل الطبيب علاجها.

ويعلل الفقهاء ذلك بأن الهلاك ليس بمقارن للعمل، وإنما هو بالسراية بعد تسلم العمل، والتحرز عنها غير ممكن، لأن السراية تبنى على قوة الطباع وضعفها في تحمل الألم، وما هو كذلك مجهول، والاحتراز عن المجهول غير متصور، فلم يمكن التقييد بالمصلح من العمل، لئلا يتقاعد الناس عنه مع مسيس الحاجة إليه. (1)

كذلك نستطيع أن نعد من طرق رفع المسؤولية: رضاء المجني عليه، أو وليه إن كان قاصراً، ذلك أن الصلة بين الطبيب والمريض تحكمها أحكام عقد الإيجار. ومعلوم أن قيام العقد، يستلزم توافق إرادتين: إرادة الطبيب، وإرادة المريض أو وليه.

هذا مع التنبيه إلى أن الفقهاء، لم يقصروا عدم المسؤولية على الرضا فحسب، بل نصوا على أن عدم المسؤولية منوط بالإذن إذا كان العمل معتاداً، ولم يجاوز الطبيب الرسم المتبع في أعماله. أي أن تكون أعماله موافقة للقواعد الطبية التي تتبع في كل حادثة على حدتها. (2)

وإذا قد قطعنا هذه المرحلة من الفصل، فلنشرع بالكلام في التفصيل على مسؤولية الطبيب في الفقه الإسلامي، فنقول:

اعلم –علمت الخير- أن الطب ذلك العمل الإنساني الخطير، قد ينتحله بعض من لا يحسنه، وقد يقوم به من لا يرقب في الله خشية ولا ذمة، ومن لا خلاق له من دين أو خلق.

ومن أجل ذلك بين الفقه الإسلامي الأحكام الصارمة الرادعة لمن يزاوله وهو لا يتقنه، ومن لا يرعى فيه الحقوق الإنسانية حق رعايتها.

(1) الهداية والعناية (7/206) ؛ وشرح الزهار في فقه الزيدية (3/283) .

(2)

المغني لابن قدامة (6/120 – 121) ؛ والشرح الكبير (6/124) ؛ والمهذب (2/306) ؛ وبداية المجتهد (2/194) ، وبدائع الصنائع (7/305) ؛ ونهاية المحتاج (8/2) ومواهب الجليل (6/321)

ص: 1193

تضمين الطبيب الجاهل بالطب:

روى أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((من تطبب ولم يعلم منه طب قبل ذلك، فهو ضامن)) . (1)

أي أن من تعاطى علم الطب وأعماله، وهو لا يعرفه معرفة جيدة، فهو ضامن لما أتلفه، فإن أتلف عضواً كانت عليه ديته، وإن أتلف الجسم كله ضمن دية النفس.

وهذا محل اتفاق بين العلماء.

قال الإمام الخطابي: لا أعلم خلافاً في أن المعالج إذا تعدى فتلف المريض، كان ضامناً، والمتعاطي علماً أو عملاً لا يعرفه متعد، فإذا تولد من فعله التلف، ضمن الدية.

وجناية المتطبب على عاقلته في قول عامة الفقهاء. (2)

مسؤولية الطبيب الحاذق:

بينا في الفقرة السابقة، مسؤولية الطبيب الجاهل، وذكرنا اتفاق أهل العلم على تضمينه الضرر المترتب على فعله.

ونتكلم الآن في هذه الفقرة على مسؤولية الطبيب الحاذق، بيد أننا قبل أن نأخذ فيما نحن بسبيله، نذكر الضوابط التي وضعها الفقهاء فيمن يباح له مباشرة الطب ونوجزها فيما يلي:

1-

أن يكون المعالج من ذوي الحذق في صناعته، وله بها بصارة ومعرفة.

2-

أن يكون الباعث على عمله، علاج المريض وشفاءه، فإذا حدث أن طلب شخص منه أن يقطع له جزءاً سليماً من جسمه، حتى يعفى من الخدمة العسكرية حقت عليه المؤاخذة.

3-

يجب أن تكون أعماله على وفق الرسم المعتاد، أي موافقة للقواعد الطبية التي تتبع في كل حادثة على حدتها.

4-

إذن المريض، فإنه يشترط أن تكون المعالجة بناء على إذن المريض أو وليه، ولا بد أن يكون حراً بالغاً عاقلاً، فإن لم يأذن له وعالجه دون إذن ضمن ما جنت يداه، لخروج عمله من دائرة الإباحة إلى دائرة التعدي. (3)

هذا فضلاً عن أن من حق المريض، أن يختار الطبيب الذي يعالجه؛ لأن الثقة بين المريض والطبيب لها تأثيرها في الشفاء، ذلك إذا كان المريض في حالة صحية تسمح له بذلك.

(1) مضى تخريج هذا الحديث قريباً

(2)

انظر شرح السنة للبغوي (10/341) ؛ والمغني لابن قدامة (10/349) ، والطب النبوي لابن قيم الجوزية ص (135) طبع دار الحياة في بيروت، وزاد المعاد (4/139) طبع مؤسسة الرسالة في بلاد الشام.

(3)

المغني لابن قدامة (6/120) ؛ وشرح الزهار (3/283) ؛ وكشاف القناع (3/473) ؛ وحاشية الطحاوي (4/275) ؛ وجامع الفصولين (1/83) ؛ والمحلى (10/444) .

ص: 1194

تقييد الإذن بالسلامة:

من القواعد الفقهية المقررة في الفقه الإسلامي، أن المتولد من فعل مأذون فيه لا يكون مضموناً، ويستثنى من ذلك ما كان مشروطاً بسلامة العاقبة. (1) وقد قسم السادة الحنفية الحقوق التي تثبت للمأذون قسمين:

أ- حقوق واجبة:

ولا فرق بين أن تكون بإيجاب الشارع، كحق الإمام في إقامة الحد وفي القصاص والتعزير، وبين أن تكون واجبة بإيجاب العقد، كعمل الفصاد، (2) والحجام، (3) والختان، (4) وغيرها.

وهذه الحقوق جميعها، لا يشترط فيها سلامة العاقبة، لأنه لا ضمان فيها إلا بالتجاوز عن الموضع المعتاد.

وعليه، فلا ضمان على حجام وبزاغ (5) أو فصاد، لم يجاوز الموضع المعتاد، فإن جاوز ضمن الزيادة كلها إذا لم يهلك، وإن هلك ضمن نصف دية النفس، فلو قطع الختان الحشفة، وبرئ المقطوع، تجب عليه دية كاملة، وإن مات فالواجب عليه نصفها، هذه عبارة (الدر المختار) .

وقد علق صاحب رد المحتار على هذه العبارة بقوله: (لم يجاوز الموضع المعتاد) أي وكان بالإذن.

قال في (الكافي) : عبارة المختصر ناطقة بعدم التجاوز وساكتة عن الإذن،، وعبارة الجامع الصغير ناطقة بالإذن ساكتة عن التجاوز.

ويستفاد من مجموع الروايتين، اشتراط عدم التجاوز والإذن، لعدم الضمان؛ حتى إذا عدم أحدهما أو كلاهما يجب الضمان. (6)

ب- حقوق مباحة:

كحق الولي في التأديب عند أبي حنيفة، وحق الزوج في التعزير فيما يباح له ونحوهما. وهذه الحقوق تتقيد بوصف السلامة. (7)

وبالنظر في ذلك عند بقية المذاهب، يتبين أنهم كالحنفية في هذا المعنى مع شيء من الخلاف الطفيف ففي تحديد الحقوق التي تتقيد لوصف السلامة، والتي لا تتقيد بها، تبعاً لاختلاف أنظارهم في تعليل الفعل.

(1) بدائع الصنائع (7/305) ؛ والأشباه والنظائر للسيوطي ص (111) .

(2)

يقال: فصد الفاصد العرق فصداً: شقه. وفصد الفاصد المريض: أخرج مقداراً من دم وريده بقصد العلاج –المصباح المنير، والمعجم الوسيط مادة (فصد) .

(3)

الحجام: محترف الحجامة، يقال: حجم المريض: عالجه بالحجامة، وهي امتصاص الدم بالمحجم. المصدران السابقان مادة (حجم)

(4)

الختان: متعاطي الختان، والختان يطلق على موضع القطع من الفرج.

(5)

البزاغ: متعاطي البزغ، والبزغ من باب القتل: الشرط للجلد وغيره، والفصد في الآدمي والبزغ في الحيوان.

(6)

رد المحتار على الدر المختار (5/44) ، وتبيين الحقائق للزيلعي (5/137) .

(7)

الأشباه والنظائر لابن نجيم ص (116)

ص: 1195

وإليك ما جاء في كل مذهب على حدة:

1-

ذكر الدردير في شرحه الصغير في باب الإجارة: (وكذا الختان وقلع الضرس والطب، فلا ضمان إلا بالتفريط)

قال الصاوي في حاشيته عليه: قوله: (إلا بالتفريط) ، هذا إذا كان الخاتن والطبيب من أهل المعرفة، ولم يخطئ في فعله، فإن أخطأ فالدية على عاقلته، فإن لم يكن من أهل المعرفة عوقب.

وفي كون الدية على عاقلته أو في ماله قولان: الأول لابن القاسم، والثاني لمالك، وهو الراجح، لأن فعله عمد والعاقلة لا تحمل عمداً. (1) اهـ.

2-

وقد نص في مذهب الشافعي على أنه: إذا كان على رأس بالغ عاقل سلعة (2) لم يجز قطعها بغير إذنه، فإن قطعها قاطع بإذنه فمات، لم يضمن لأنه قطع بإذنه، وإن قطعها بغير إذنه فمات، وجب عليه القصاص؛ لأنه تعدى بالقطع، وإن كانت على رأس صبي أو مجنون، لم يجز قطعها؛ لأنه جرح لا يؤمن معه الهلاك، فإن قطعت فمات منه، نظر، فإن كان القاطع لا ولاية له عليه، وجب عليه القود، لأنها جناية تعدى بها، وإن كان أباً أو جداً وجبت عليه الدية، وإن كان ولياً غيرهما: ففيه قولان:

(أحدهما) : أنه يجب عليه القود، لأنه قطع منه ما لا يجوز قطعه. (والثاني) : أنه لا يجب عليه القود، لأنه لم يقصد القتل، وإنما قصد المصلحة. فعلى هذا يجب عليه دية مغلظة، لأنها عمد خطأ وبالله التوفيق. (3)

وقال الإمام الشافعي: (4)(وإذا أمر الرجل أن يحجمه أو يختن غلامه أو يبيطر دابته فتلفوا من فعله، فإن كان فعل ما يفعل مثله مما فيه الصلاح للمفعول به عند أهل العلم بتلك الصناعة، فلا ضمان عليه، وإن كان فعل ما لا يفعل مثله من أراد الصلاح، وكان عالماً به، فهو ضامن) .

(1) الشرح الصغير المسمى أقرب المسالك (4/47) طبع المعارف بمصر. وينظر نفس المرجع (4/351) ، وبداية المجتهد (2/194) .

(2)

السلعة: خراج كهيئة الغدة تتحرك بالتحريك. قال الأطباء: هي ورم غليظ ملتزق باللحم يتحرك عند تحريكه وله غلاف، وتقبل التزايد، لأنها خارجة عن اللحم، ولهذا قال الفقهاء: يجوز قطعها عند الأمن. راجع المصباح المنير للفيومي، مادة (سلع) .

(3)

المهذب للشيرازي (2/306) طبع الحلبي.

(4)

في كتابه الأم (6/166) طبع بولاق.

ص: 1196

وقال في موضع آخر: (1) والوجه الثاني الذي يسقط فيه العقل (يعني: الدية) أن يأمر الرجل به الداء الطبيب أن يبط (يشق) جرحه، أو الأكلة (الحكة) أن يقطع عضواً يخاف مشيها إليه، أو يفجر له عرقاً، أو الحجام أن يحجمه، أو الكاوي أن يكويه، أو يأمر أبو الصبي وسيد المملوك الحجام أن يختنه، فيموت في شيء من هذا، فلا عقل ولا مأخوذية (مسؤولية) إن حسنت نيته –إن شاء الله تعالى- وذلك أن الطبيب والحجام، إنما فعلاه للصلاح بأمر المفعول به. اهـ.

3-

والحنابلة قد ذكروا هذا أو قريباً منه، فقد ذكر ابن قدامة (2) –عند قول الخرقي:(ولا ضمان على حجام ولا ختان، ولا متطبب إذا عرف منهم حذق الصنعة، ولم تجن أيديهم) .

وجملته: أن هؤلاء إذا فعلوا ما أمروا به، لم يضمنوا لشرطين:

(أحدهما) أن يكونوا ذوي حذق في صناعتهم، ولهم بصارة ومعرفة، لأنه إذا لم يكن كذلك، لم يحل له مباشرة القطع، وإذا قطع مع هذا، كان فعلاً محرماً، فيضمن سرايته، كالقطع ابتداء.

إلى أن قال:

(فصل) : وإن ختن صبياً بغير إذن وليه أو قطع سلعة من إنسان بغير إذنه،، أو من صبي بغير إذن وليه، فسرت جنايته، ضمن لأنه قطع غير مأذون فيه، وإن فعل ذلك الحاكم، أو من له ولاية عليه، أو فعله من أذن له، لم يضمن؛ لأنه مأذون فيه شرعاً. اهـ.

على أن بعض الفقهاء ذهب إلى أن الطبيب لا يسأل إلا إذا ارتكب خطأ فاحشاً في عمله، وهو الخطأ الذي لا يمكن أن يقع فيه طبيب آخر. (3)

وبالجملة: فإن الطبيب إذا راعى حقه في عمله، ثم نتج عن فعله ضرر لحق المريض، ولا يمكن الاحتراز عنه، فلا ضمان عليه، لأن الطبيب إذا كان يستعمل حقه في حدوده المشروعة، فهو يقوم بواجبه في الوقت نفسه، والأصل أن الواجب لا يتقيد بوصف السلامة، وعلله بعض الفقهاء بما عرف في الفقه من أن شرط الضمان على الأمين باطل (4)

(1) في الأم (6/168)

(2)

المغني لابن قدامة (6/120، 121)

(3)

حاشية الطحاوي (4/276)

(4)

حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (4/ 25 - 27) ؛ وبداية المجتهد (2/ 194) ؛ وبدائع الصنائع (7/ 305) ؛ وحاشية الطحاوي (4/ 276) ؛ وزاد المعاد (4/ 139) ؛ والطب النبوي (ص 35) كلاهما لابن القيم، وطبع بلاد الشام

ص: 1197

والآن وقد جاوزنا بك هاتين المرحلتين: إذن الشارع، وإذن المريض، وأريناك أن الطبيب الحاذق، لا يسأل عن الضرر الذي يصيب المريض، ولو مات المريض بسبب العلاج، ما دام المريض قد أذن له بعلاجه، ولم يقع من الطبيب خطأ في هذا العلاج، بل كان الضرر نتيجة لأمر لم يكن في الحسبان.

وأريناك أيضاً أن عمل الطبيب عند الإذن بالعلاج أو عند طلبه يعد واجباً، والواجب لا يتقيد بشرط السلامة، والضمان على الأمين باطل، فقد وجب علينا أن ننتقل بك إلى المرحلة الثالثة، لنبحث عن ذلك في أفق خارج عن هذا الأفق، والله الموفق.

الحالات العاجلة التي لا يمكن فيها انتظار الحصول على إذن المريض:

إن الفقه الإسلامي العظيم، لم يهمل ذلك، فقد عرض له العلامة ابن قيم الجوزية في كتابه القيم (إعلام الموقعين عن رب العالمين) في مبحث:(جريان العرف مجرى النطق) حيث قال بعد كلام طويل فيما جرى فيه العرف مجرى النطق:

(ومنها لو رأى شاة غيره تموت، فذبحها حفظاً لماليتها عليه، كان ذلك أولى من تركها تذهب ضياعاً، وإن كان من جامدي الفقهاء من يمنع ذلك ويقول: هذا تصرف في ملك الغير، ولم يعلم هذا اليابس أن التصرف في ملك الغير إنما حرمه الله تعالى لما فيه من الإضرار به، وترك التصرف هاهنا هو الإضرار.

ومنها لو استأجر غلاماً فوقعت الأكلة في طرفه، فتيقن أنه إن لم يقطعه سرت إلى نفسه فمات، جاز له قطعه ولا ضمان) (1)

إلى آخر ما ذكره في الفروع في هذا البحث القيم، وكان قد عرض لمثله من قبل الإمام الحافظ الألمعي (أبو محمد) علي بن حزم الظاهري في كتابه القيم (المحلى) فقال ما نصه:

(من قطع يداً فيها أكلة، أو قلع ضرساً وجعة أو متآكلة بغير إذن صاحبها أو بغير إرادته.

(1) إعلام الموقعين عن رب العالمين (2/ 22) من الطبعة المنيرية

ص: 1198

قال أبو محمد: قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] .

وقال سبحانه: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] .

فالواجب استعمال هذين النصين من كلام الله تعالى، فينظر، فإن قامت بينة أو علم الحاكم أن تلك اليد لا يرجى لها براء ولا توقف، وأنها مهلكة ولابد، ولا دواء لها إلا القطع، فلا شيء على القاطع، وقد أحسن، لأنه دواء، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمداواة.

وهكذا القول في الضرس إذا كان شديد الألم، قاطعاً به عن صلاته ومصالح أموره، فهذا تعاون على البر والتقوى.

قال أبو محمد: فمن داوى أخاه المسلم، كما أمره الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فقد أحسن، قال تعالى:{مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] .

وأما إذا كان يرجى للأكلة برء أو توقف، وكان الضرس يتوقف أحياناً، ولا يقطع شغله عن صلاته ومصالح أموره، فعلى القاطع والقالع القود، لأنه حينئذ متعد، وقد أمر الله تعالى بالقصاص في القود) (1)

ومثل هذا أو أصرح منه، كلمة ذكرها شراح مختصر خليل عند قوله:(وترك مواساة وجبت بخيط ونحوه لجائفة) .

يعني: إذا جرح الإنسان جرحاً يخشى منه الموت، سواء أكان جائفة أفضت لجوفه، أم غير جائفة، واقتضى الحال خياطته بفتلة خيط أو حرير، وجب على من كان معه ذلك، إذا كان مستغنياً عنه حالاً أو مآلاً، أو كان معه الإبرة، وكان مواساة المجروح بذلك، فإن ترك مواساته بما ذكر ومات، فإنه يضمن، ومحل الضمان ما لم يكن المجروح منفوذ المقاتل، وإلا فلا ضمان بترك المواساة، وإنما يلزم الأدب بتركها.

ويضمن دية الخطأ، إن تأول في المنع، وتكون على عاقلته، والمانع واحد منهم، وإن لم يتأول في المنع، بل منع عمداً قاصداً قتله، اقتص منه، وهذه هي الطريقة المعتمدة.

(1) المحلى لابن حزم (10/ 444)

ص: 1199

وقال اللخمي: (لا فرق بين التأويل وعدمه، وإن على المانع الدية في الحالين) . اهـ.

هذه هي عبارة المالكية، وهي تدل على المقصود للدلالة، التي لا يبقى بعدها مجال لسائل في أمثال هذه المسائل.

فالطبيب بحكم مهنته قادر على المواساة، وقادر على إنقاذ المريض بالعملية الجراحية، التي لا يحتمل المقام فيها انتظار ولي الأمر، ليؤخذ منه الإذن، فيجب عليه المواساة بما يقدر عليه من جبر كسر، أو وصل جرح بخيط أو غيره.

موازنة بين الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية:

تكاد تتفق القوانين الوضعية مع الشريعة الإسلامية في اعتبار التطبيب عملاً مباحاً كما تتفق معها في الشروط التي تمنع من المسؤولية، فتستلزم أن يكون الفاعل طبيباً، وأن يأتي الفعل بقصد العلاج وبحسن نية، وأن يعمل طبقاً للأصول الفنية، وأن يأذن له المريض في الفعل، ذلك بأن التعرض لأجسام المرضى ولو بإجراء عمليات جراحية مهما بلغت جسامتها من الأفعال التي تدخل تحت أحكام قانون العقوبات الخاصة بالضرب وإحداث الجروح.

فهي في أصلها أفعال محظورة، لكن المشرع قد خول للأطباء بالقوانين التي وضعها، حق التعرض لأجسام الغير، ولو بإجراء عمليات جراحية، لأن الأعمال الطبية والجراحية وإن مست بمادة الجسم، إلا أنها لم تحقق الاعتداء على الحق الذي يحميه القانون بالعقاب، بل هي تؤدي لصيانة الجسم والمحافظة عليه.

وقد قيد المشرع حق إباحة ذلك بقيود يمكن حصرها فيما يلي:

1-

أن يكون القائم بإجراء ذلك الفعل قد رخص له القانون بفعله، فإذا لم يكن مرخصاً له في الفعل كان مسؤولاً، سواء تحقق الغرض الذي قصده بشفاء المجني عليه أم لم يتحقق.

2-

رضاء المريض، أو وليه إذا كان المريض غير أهل أو غير قادر على التعبير عن إرادته.

والذهاب إلى الدكتور بقصد العلاج يعتبر إذناً ضمنياً بإجراء العلاج في رأي البعض، ويرى آخرون أنه لابد من الحصول على الرضا الصريح.

3-

قصد العلاج بالفعل، ولا يتحقق إلا بحسن النية الذي هو شرط لازم لكل حالات استعمال الحق، فإذا قصد الطبيب مجرد تجربة لإشباع شهوة علمية، أو بقصد منع النسل لمصلحة يتوخاها، فإن العمل يكون غير مشروع، ولو كان برضاء المجني عليه؛ لأن سلامة جسم الإنسان لا يباح المساس بها إلا بفائدة الإنسان نفسه.

ص: 1200

فللطبيب عند توافر هذه الشروط، أن يباشر الفعل على أن يبذل الجهود الصادقة التي تتفق مع الأصول العلمية.

هذا وإن الشريعة الإسلامية تعتبر التطبيب واجباً، في حين تعتبره القوانين حقاً.

وقد اختلف شراح القوانين ورجال القضاء في تعليل ارتفاع المسؤولية عن الطبيب.

فذهب الفقه والقضاء في إنكلترا إلى أن سبب عدم المسؤولية هو رضاء المريض بالفعل، وأخذ بهذا الرأي بعض الشراح في ألمانيا وفرنسا.

وذهب كثير من الشراح الفرنسيين إلى أن سبب ارتفاع المسؤولية، هو انعدام القصد الجنائي، لأن الطبيب يفعل الفعل بقصد شفاء المريض، وقد أخذ القضاء المصري حيناً بهذا الرأي، والذي استقر عليه الرأي اليوم هو أن التطبيب عمل مشروع تبيحه الدولة، وتنظمه وتشجع عليه؛ لأن الحياة الاجتماعية تقتضي ذلك.

فالتطبيب بإحداث جراحة ونحوها، مباح في كل من الشريعة والقانون؛ لأنه مبني على إذن المريض أو وليه ما دام مباشر التطبيب عالماً بالطب (1)

(1) راجع للأستاذ الدكتور محمود مصطفى بحثه في مسؤولية الأطباء والجراحين، المنشور بمجلة القانون والاقتصاد، العدد الثالث سنة 1948م، والقانون الجنائي لعلي بدوي (400) ، وأخطاء الأطباء للدكتور فائق الجوهري (من سلسلة اقرأ) طبع دار المعارف ص (55- 62) ففيه كلام مهم عن الأخطاء الطبية في التطبيق العملي

ص: 1201

الفصل الثالث

هل يمكن أن تقوم نقابة الأطباء أو شركة التأمين

بدور العاقلة

العاقلة: هي الدية، وتسمى عقلاً لأنها تعقل الدماء من أن تسفك أي تمسكها ومنه العقل؛ لأنه يمنع القبائح (1) والعاقلة مشتقة من العقل، وهو المنع، وسميت الدية عقلاً تسمية بالمصدر، لأن الإبل كانت تعقل بفناء ولي القتيل، ثم كثر الاستعمال حتى أطلق العقل على الدية، سواء أكانت إبلاً أم نقداً (2) وبأداء الدية تعقل ألسنة أولياء القتيل، كما يعقل فيهم القاتل.

وعاقلة الرجل قرابته من جهة أبيه، هم عصبته الذين يمنعونه، وينتصرون له، ويعقلون الإبل، ويدفعون المال تغطية لجنايته، وقد تثبت بالسنة في كثير من الأحاديث، ويمكن القول –خلافاً للأصم من الفقهاء-: إن تحميل العاقلة للدية، مخصص بالأحاديث الثابتة عمومات الكتاب، كقوله تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: 15]{وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} [الأنعام: 164] ونحوهما؛ والإجماع منعقد على ذلك، فلا يعتبر شذوذاً.

وإن الحاجة والمصلحة تدعو إلى تشريع نظام العاقلة، لأن القاتل لو أخذ بالدية وحده، لأوشكت أن تأتي على ماله كله، إن كان لديه منه ما يقوم بها، ولو ترك بغير تغريم لأهدر دم المقتول، فكان في ذلك رعاية مصلحة الجانبين (3)

أ- ويرى الشافعية أن العاقلة عصبة الجاني من النسب باستثناء الأصل والفروع لورود النصوص باستثنائها في حديث الخشخاش العنبري، قال:((أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ومعي ابن لي، فقال: ابنك هذا؟ فقلت: نعم، قال: لا يجني عليك، ولا تجني عليه)) (4)

ب- ويرى الحنفية أن العاقلة هم أهل الديوان، من الرجال البالغين المقاتلين، ويدخل فيهم الآباء والأبناء، ويستدلون لهذا بفعل عمر بحضور الصحابة، وهو أنه جعلها على أهل الدواوين والسجلات التي أنشأها.

(1) رد المحتار على الدر المختار حاشية ابن عابدين (5/ 140)

(2)

انظر المصباح المنير مادة (عقل)

(3)

انظر نيل الأوطار (7/ 66- 68) ؛ وبدائع الصنائع (7/ 255)

(4)

رواه الإمام أحمد وابن ماجه، انظر منتقى الأخبار بشرح نيل الأوطار (7/ 70) ورد المحتار على الدر المختار حاشية ابن عابدين (5/ 410)

ص: 1202

ويرون أن نظام العاقلة من قبيل التناصر، لا التغريم، وبهذا يجمع بين عمومات العواقل، والحديث الذي استدل به الشافعية؛ فلا منافاة بينهما.

وقد قرر الفقهاء بناء على هذا، أن الصغار والمجانين والنساء ليسوا من العاقلة؛ لأنهم ليسوا من أهل التناصر بالمعنى المذكور، وهو في العقل، كما أن الفقراء (1) ليسوا منها؛ لأن العقل مواساة، والفقير ليس من أهلها.

ولاشك في أن نظام العواقل غير موجود في أيامنا، لانقطاع سلسلة النسب وأواصر القرابة.

ويرى بعض المحدثين (2) من الفقهاء أن بيت مال المسلمين –ممثلاً في وزارة المالية في أيامنا- هو الذي يتولى دفع الدية والعقل في أحوال الوجوب، وتستطيع الحكومة أن تفرض ضرائب خاصة لهذه المصارف، وقد وجدت في الغرب صناديق خاصة لهذا الغرض، وإذا كانت الحكومة تلزم نفسها بإعانة الفقراء والعاطلين، فأولى أن تلزم نفسها بتعويض ورثة القتيل المنكوبين.

وأرى أنه ما دامت العلة في العقل هي التناصر، وقد أطلق في لسان الفقه على العاقلة أنها الناصرة للقاتل (3) فإن التناصر تقلب في التاريخ، وتعددت صوره وألوانه فقد كان قبل عمر –رضي الله عنه بالقبيلة، ثم جعله عمر كما تبين آنفاً بالديوان، والتناصر في أيامنا بالحرف والنقابات، وقد ذاعت وشاعت واتخذت لها قوانين، وأنظمة مالية خاصة، وبنود مقررة لجباية مواردها، واعترفت الحكومات في غالب الدول بأنظمتها وحصانتها، فليكن العقل في أيامنا منوطاً بهذه النقابات، فنرى أنه يمكن أن تقوم نقابة الأطباء الواردة ببحثنا هذا بدور العاقلة.

بل أرى نوط الديات، وبدل الجراحات وضمان المتلفات المالية غير المعتمدة، بهذه النقابات؛ وبهذا التصميم يستغنى عن كثير من أنظمة التأمين الدخيلة، التي تستثمر بها أموالنا أصابع أجنبية عابثة، ولا تلتئم مع خلقنا الإسلامي العربي الأصيل، القائم على التناصر والإيثار، لا على الاستثمار والاستئثار.

(1) انظر تحديد الفقير في شرح المحلى على المنهاج (4/ 165) ، وانظر في الموضوع نفسه المصدر المذكور؛ بدائع الصنائع (7/ 256) ؛ والمغني، والشرح الكبير (9/ 514) ؛ والتاج والإكليل (6/ 267)

(2)

الأستاذ الفقيه القانوني الكبير عبد القادر عودة رحمه الله: التشريع الجنائي في الإسلام 2/ 230

(3)

انظر رد المحتار (5/ 341) أوائل الجنايات

ص: 1203

خاتمة

في الآداب التي يجب على الطبيب أن يتحلى بها

أ- الأدب نوعان: أدب خبرة، وأدب عشرة.

قال الشاعر:

يا سائلي عن أدب الخبرة

أحسن منه أدب العشرة

وقال الإمام الكبير عبد الله بن المبارك:

(إذا وصف لي رجل له علم الأولين والآخرين، لا أتأسف على فوات لقائه، وإذا سمعت رجلاً له أدب النفس، أتمنى لقاءه وأتأسف على فوته) .

وقال الأديب المتفقه ابن قتيبة:

(ونحن نستحب لمن قبل عنا وأتم بكتبنا، أن يؤدب نفسه قبل أن يؤدب لسانه، ويهذب أخلاقه قبل أن يهذب ألفاظه) .

فالطبيب والعالم المتأدب، أحوج إلى تأديب أخلاقه من تأديب لسانه.

ب- ومن الحق علينا أن نذكر، أن فقهاء المسلمين اعتبروا الخبرة بالنفوس وأحوالها، أساساً في علم الطب.

ويقول في ذلك العلامة ابن قيم الجوزية (1) :

(إن الطبيب الحاذق هو الذي يكون له خبرة باعتلال القلوب والأرواح وأدويتها، وذلك أصل عظيم في علاج الأبدان، فإن انفعال البدن وطبيعته عن النفس والقلب أمر مشهود، والطبيب إذا كان عارفاً بأمراض القلب والروح وعلاجهما، كان هو الطبيب الكامل، والذي لا خبرة له بذلك – وإن كان حاذقاً في علاج الطبيعة وأحوال البدن- نصف طبيب.

وكل طبيب لا يداوي العليل، بتفقد قلبه وصلاحه، وتقوية روحه.. فليس بطبيب، بل متطبب قاصر) .

(1) في كتابه: الطب النبوي (ص 399) طبع دار الحياة في لبنان سنة 1403 هـ، وكتابه: زاد المعاد (4/ 144) طبع مؤسسة الرسالة في الشام، سنة 1402هـ

ص: 1204

ج- ولو طبقنا كلام (ابن القيم) على بعض أطباء زماننا، لأخرجناهم من زمرة الأطباء الكاملين، ووضعناهم في أنصاف الأطباء على حد تعبيره رحمه الله وغفر له) .

فإن أطباء هذا الزمان يطرحون جانب الأحوال النفسية لمرضاهم ولا يعملون على تقويتها.

د- ومن أجل ذلك، رأيت في هذه الخاتمة أن أجمع بعض ما ورد في تعاليم الإسلام وآدابه، إضافة إلى ما ورد عن الأطباء في عصور الحضارة والازدهار مما يتعلق بقواعد مزاولة مهنة الطب وآدابها، راجياً أن تكون تلك الخاتمة مسكاً وتبصرة لكل من يتبصر فيها إن شاء الله تعالى.

هـ- وأول هذه القواعد والآداب، هو (قسم أبقراط) ، ولقد روجع هذا القسم على مر العصور بقصد تنقيحه وتهذيبه وإدخال بعض التحسينات عليه، وكان ممن راجعوه وعلقوا عليه (ابن رضوان) عميد أطباء القاهرة في القرن الثالث عشر، فكان مما قال: إن الطبيب –على رأي أبقراط- هو الذي اجتمعت فيه سبع خصال:

الأولى- أن يكون تام الخلق، صحيح الأعضاء، حسن الذكاء، جيد الروية، عاقلاً ذكوراً، خير الطبع.

الثانية- أن يكون حسن الملبس، طيب الرائحة، نظيف البدن والثوب.

الثالثة- أن يكون كتوماً لأسرار المرضى، ولا يبوح بشيء من أمراضهم.

الرابعة- أن تكون رغبته في إبراء المرضى، أكثر من رغبته فيما يلتمسه من الأجرة، ورغبته في علاج الفقراء، أكثر من رغبته في علاج الأغنياء.

الخامسة- أن يكون حريصاً على التعليم والمبالغة في منافع الناس.

السادسة- أن يكون سليم القلب، عفيف النظر، صادق اللهجة، لا يخطر بباله شيء من أمور النساء والأموال التي شاهدها في منازل الأعلاء، فضلاً عن أن يتعرض إلى شيء منها.

السابعة- أن يكون مأموناً ثقة على الأرواح والأموال، ولا يصف دواء قتالاً ولا يعلمه، ولا دواء يسقط الأجنة، ويعالج عدوه بنية صادقة كما يعالج حبيبه (1)

(1) عيون الأنباء في طبقات الأطباء (ص 564- 565) لابن أبي أصيبعة، ترجمة ابن رضوان، نشر دار مكتبة الحياة في بيروت سنة 1965 م

ص: 1205

و إن المتأمل لهذه الخصال، يرى أنها – فيما عدا كونه تام الخلق صحيح الأعضاء- خصال إنسانية، وردت في تعاليم الإسلام أيضاً، منها ما هو على سبيل الاستحباب، ومنها ما هو على سبيل الفرض، ليتصف بها كل مؤمن، ولا يتسع المجال لذكر النصوص الإسلامية في ذلك.

ومن الآداب الإسلامية التي يحتاج إليها الطبيب بصرف النظر عن ديانته، إضافة للخصال السابقة أذكر ما يلي:

1-

القيام بالإسعاف نهاراً وليلاً على قدر الإمكان تفريجاً للكربة.

2-

التلطيف بالمريض والحلم في استجوابه وتفهيمه، مراعاة لحالته النفسية ووضعه الثقافي.

3-

اللباقة في تعريف المريض بمرضه، ومحاولة تطمينه ورفع معنوياته، وكتم الإنذار بالخطر عنه وإعلامه إلى ذويه الأقربين.

4-

الدعاء للمريض، وهو نوع من مواساة المريض بالكلمة الطيبة.

5-

إحالة المريض إلى الأخصائي، إذا كان الأمر يتطلب ذلك قياماً بالأمانة والنصيحة.

6-

إذا كان التقى عدة أطباء عند مريض، فليقدم أحدهم من هو أعلى مرتبة في الطب إن علم، وإذا تقاربوا في المرتبة، فيقدم أكبرهم سناً.

7-

الابتعاد عن الغيبة، وخاصة غيبة الزملاء وتجريحهم، فالغيبة مذمومة إنسانياً ومحرمة في الإسلام.

ص: 1206

تطبيق واحترام آداب الشريعة الإسلامية في المزاولة:

ز- إن الآداب الطبية الآنفة الذكر، تشمل كل الأطباء على اختلاف أديانهم وعقائدهم.

وهناك آداب للشريعة الإسلامية ينبغي على الطبيب المسلم أن يحترمها ويطبقها في أثناء مزاولته لمهنته، عند فحص المسلمين والمسلمات والكشف عليهم، منها:

1-

أن يبدأ المعاينة والتشخيص المخبري بقول: (بسم الله الرحمن الرحيم) .

2-

أن لا يكشف عن العورة إلا بقدر ما تستدعيه المعاينة، لأن الضرورة تقدر بقدرها.

3-

ألا يصف دواء من المحرمات لغير ضرورة ملحة.

4-

ألا ينهي حياة مريض ميؤوس من شفائه متعذب من آلامه بأي واسطة، بل يساعده في تخفيف آلامه وتهدئة نفسه، حتى يأتي أجله المحتوم.

5-

أن لا يقوم بإجراء عملية تعقيم نهائي لغير ضرورة صحية ميؤوس من زوالها.

6-

أن تراعى أحكام الإسلام في فحص الجنس للجنس الآخر.

ذلك أن الأصل في تعاليم الإسلام، هو عدم جواز معاينة ومداواة الرجل للمرأة غير المحرم أو العكس، لوجود النظر والجنس فيهما.

ويستثنى من ذلك حالات الضرورة، كعدم توفر طبيبة تثق المريضة بمهارتها الطبية أو طبيبة اختصاصها كاختصاص الطبيب المعالج لها، إذا كان مرضها يتطلب اختصاصاً.

فالضرورات تبيح المحظورات، والضرورة تقدر بقدرها، ومن الواجب وجود شخص ثالث عند فحص الطبيب للنساء، وبالعكس، تجنباً للخلوة بهن.

على أنه في الحالات الإسعافية المستعجلة، يجوز للجنس معالجة الجنس الآخر بغض النظر عن وجود شخص ثالث، فإن الضرورات تبيح المحظورات (1) .

7-

وملاك أمر الطبيب، هو أن يجعل علاجه وتدبيره دائراً على ستة أركان، حفظ الصحة الموجودة، ورد الصحة المفقودة بحسب الإمكان، وإزالة العلة أو تقليلها بحسب الإمكان، واحتمال أدنى المفسدتين لإزالة أعظمهما، وتفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعظمهما.

(1) راجع مستندات هذه الأحكام فيما تقدم في بحث كشف العورات

ص: 1207

فعلى هذه الأصول الستة، مدار العلاج، وكل طبيب لا تكون هذه أخيته (ذمته) التي يرجع إليها، فليس بطبيب، والله سبحانه أعلم (1)

8-

وعليه (أعني الطبيب) أن يعتقد أن طبه لا يرد قضاء ولا قدراً، وأنه إنما يفعل امتثالاً لأمر الشرع، وأن الله تعالى أنزل الداء والدواء، وما أحسن قول ابن الرومي:

غلط الطبيب علي غلطة مورد

عجزت موارده عن الإصدار

والناس يلحون الطبيب وإنما

غلط الطبيب إصابة الأقدار

(2)

9-

وأختم أو أختتم هذه الأحكام والآداب بقول جامع مفيد –إن شاء الله تعالى-.

قال العلامة محمد بن محمد بن أحمد القرشي المعروف بابن الأخوة القرشي الشافعي، المتوفى سنة (729هـ) في كتابه (معالم القربة) بعد كلام طويل في الطب ولزومه، والأسى على قلة القائمين به من المسلمين:

(والطبيب هو العارف بتركيب البدن ومزاج الأعضاء والأمراض الحادثة فيها، وأسبابها وأعراضها وعلاماتها، والأدوية النافعة فيها، والاعتياض عما لم يوجد منها، والوجه في استخراجها، وطريق مداواتها بالتساوي بين الأمراض والأدوية في كمياتها، ويخالف بينها وبين كيفياتها، فمن لم يكن كذلك، فلا يجعل له مداواة المرضى، ولا يجوز له الإقدام على علاج يخاطر فيه، ولا يتعرض لما لا علم له فيه.

وينبغي أن يكون لهم مقدم من أهل صناعتهم.

وينبغي إذا دخل الطبيب على المريض، أن يسأله عن سبب مرضه وعما يجد من الألم، ثم يرتب له قانوناً من الأشربة وغيره من العقاقير، ثم يكتب نسخة لأولياء المريض بشهادة من حضر معه عند المريض، وإذا كان من الغد، حضر ونظر إلى دائه وسأل المريض: هل تناقص به المرضى أم لا؟ ثم يرتب له ما ينبغي على حسب مقتضى الحال، ويكتب له نسخة ويسلمها لأهله.

(1) زاد المعاد (4/ ص 144- 145) ، والطب النبوي لابن قيم الجوزية (ص 140)

(2)

معيد النعم ومبيد النقم لتاج الدين السبكي (ص 133) طبع دار الكتاب العربي بمصر سنة 1367هـ

ص: 1208

وفي اليوم الثالث كذلك، وفي اليوم الرابع كذلك، إلى أن يبرأ المريض أو يموت، فإن برئ مرضه أخذ الطبيب أجرته وكرامته، وإن مات حضر أولياؤه عند الحكيم المشهور، وعرضوا عليه النسخ التي كتبها لهم الطبيب، فإن رآها على مقتضى الحكم، وصناعة الطب، من غير تفريط ولا تقصير من الطبيب قال: هذا قضاء بفروغ أجله، وإن رأى الأمر بخلاف ذلك قال لهم: خذوا دية صاحبكم من الطبيب، فإنه هو الذي قتله بسوء صناعته وتفريطه.

فكانوا يحتاطون على هذه الصورة الشريفة إلى هذا الحد، حتى لا يتعاطى الطب من ليس من أهله، ولا يتهاون الطبيب في شيء منه.

وينبغي للمحتسب أن يأخذ عليهم عهد أبقراط، الذي أخذه على سائر الأطباء، ويحلفهم أن لا يعطوا أحداً دواء مضراً، ولا يركبوا له سماً، ولا يذكروا للنساء الدواء الذي يسقط الأجنة، ولا للرجال الذي يقطع النسل، وليغضوا أبصارهم عن المحارم عند دخولهم على المرضى، ولا يفشوا الأسرار، ولا يهتكوا الأستار، ولا يتعرضوا لما ينكر عليهم فيه.

وينبغي للطبيب أن يكون عنده جميع آلات الطب على الكمال (1)

إلخ وصلى الله على سيدنا محمد، والحمد لله رب العالمين) ..

هذا وقد قدمت لمؤتمر الطب الإسلامي الذي عقد في الكويت مسودة قسم الطبيب المسلم أحببت أن أوردها في رسالتي هذه:

(1) معالم القربة في أحكام الحسبة لابن الأخوة القرشي (ص 254- 256) الباب الخامس والأربعون، المطبوع في الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 1976 م

ص: 1209

أقسم بالله العظيم، أن أراقب الله في مهنتي، وأن أصون حياة الإنسان في كافة أدوارها، في كل الظروف والأحوال، باذلاً وسعي في استنقاذها من الهلاك والمرض والألم والقلق، وأن أحفظ للناس كرامتهم، وأستر عورتهم، وأكتم سرهم، وأن أكون على الدوام من وسائل رحمة الله، باذلاً رعايتي الطبية للقريب والبعيد، والصالح والخاطئ، والصديق والعدو، وأن أثابر على طلب العلم، أسخره لنفع الإنسان لا لأذاه، وأن أوقر من علمني، وأعلم من يصغرني، وأكون أخاً لكل زميل في المهنة الطبية، متعاونين على البر والتقوى، وأن تكون حياتي مصداق إيماني في سري وعلانيتي، نقية مما يشينها تجاه الله ورسوله والمؤمنين.

والله على ما أقول شهيد.

وفي الختام، أود أن أشير إلى وصف الطبيب المسلم الذي تبنته الجمعية الطبية الإسلامية بأمريكا الشمالية سنة ألف وتسعمئة وسبع وسبعين للميلاد، والذي يعكس الفلسفة والروح المتمثلتين في الدستور الإسلامي لآداب مهنة الطب، وخلاصة القول أن الطبيب المسلم:

يجب أن يؤمن بالله وبتعاليم الإسلام وسلوكياته في حياته الخاصة والعامة، وأن يكون عارفاً لجميل والديه ومعلميه ومن هم أكبر منه، وأن يكون بسيطاً متواضعاً رفيقاً رحيماً صبوراً متحملاً، وأن يسلك الطريق المستقيم ويطلب من الله دوام التوفيق، وأن يظل دائماً على دراية بالعلوم الطبية الحديثة، وينمي مهارته باستمرار، طالباً العون عندما يلزمه ذلك، وأن يستشعر أن الله هو الذي يخلق ويملك جسد المريض وعقله، فيعامل المريض في إطار تعاليم الله، متذكراً أن الحياة هي هبة الله للإنسان، وأن الحياة الآدمية تبدأ من لحظة الإخصاب ولا يمكن سلبها إلا بيد الله أو برخصة منه، ويتذكر أن الله يراقب كل فكر أو عمل، وأن يلتزم بالقوانين التي تنظم مهنته، وأن تتبع أوامر الله كمنهج وحيد، حتى لو اختلفت مع متطلبات الناس أو رغبات المريض، وألا يصف أو يعطي أي شيء ضار، وأن يقدم المساعدة اللازمة دون اعتبار للقدرة المادية أو أصل المريض أو عمله، وأن يقدم النصيحة اللازمة للجسم والعقل، وأن يحفظ سر المريض، وأن يتوخى الأسلوب المناسب في التخاطب، وأن يفحص المريض من الجنس الآخر في وجود شخص ثالث ما تيسر ذلك، وألا ينتقد زملاءه الأطباء أمام المرضى أو العاملين في الحقل الطبي، وأن يسعى دائماً إلى تبني الحكمة في كل قراراته.

ص: 1210

قسم الطبيب المسلم

الحمد لله رب العالمين، العلي العظيم الواحد العليم، خالق الكون ومعلم الناس أجمعين، له الدوام أبد الآبدين، لا نعبد إلا إياه

إن الشرك لظلم عظيم.

اللهم ارزقني القوة لأكون صادقاً أميناً، متواضعاً، مخلصاً، رحيماً. وهب لي الشجاعة لأقر بذنبي وأصلح خطئي وأعفو عن هفوات غيري، وأعطني الحكمة لأريح غيري وأقدم النصح الداعي للسلام والوئام، وامنحني الإدراك بأن مهنتي مقدسة، تمس أعز ما وهبته للإنسان وهو العقل والحياة، واجعلني يا رب جديراً بهذا الموقف المتميز بالشرف والكرامة والتقوى؛ حتى أهب حياتي لخدمة البشر، فقراء وأغنياء، حكماء وجهلاء، مسلمين وغير مسلمين، بيضاً وملونين، متحلياً بالصبر والتسامح، بالفضيلة والوقار والعلم ومراقبة النفس، واملأ قلبي بالحب والرحمة لعبادك، فهم أعز مخلوقاتك، وها أنا ذا أقسم باسمك الكريم يا خالق السماوات والأرض، أن ألتزم بما أنزلته على رسولك الكريم محمد صلى الله عليه وسلم:{أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] .

الدكتور علي داود الجفال

ص: 1211