الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مسؤولية الطبيب
إعداد
الدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد
مسؤولية الطبيب
أصبح الناس أكثر من أي وقت مضى في حاجة ماسة إلى الاستعانة بالأطباء مما يصيبهم من أمراض أو إصابات حادثة مما جعل المؤسسات الطبية اليوم من أهم المرافق التي تعنى بها الدول وتعمل على ترقيتها بأحدث الآلات وتزويدها بأمهر الأطباء، وكذلك أصدرت معظم دول العالم لوائح تنظم المهنة فتقصرها على الأطباء المؤهلين الذين أمضوا فترات طويلة منظمة في دراسة علمية وعملية لأصول هذه المهنة وقواعدها حتى يستطيع الناس أن يأمنوهم على أبدانهم وأرواحهم. ومما لا خلاف فيه أن أي شخص لا تنطبق عليه مواصفات اللوائح لا يحق له ممارسة الطب، وإذا فعل فهو مسؤول مسؤولية جنائية مدنية عن جميع تصرفاته وما ينتج عنها من أضرار.
وفي زمان النبي محمد صلى الله عليه وسلم وقبله لم تكن هنالك دراسات علمية وعملية لأصول هذه المهنة وقواعدها كما هو معروف اليوم، بل كان الطب عندهم وفي معظم بلدان العالم صنعة موروثة لدى طبقة معينة من الناس، فيهم من ادعى أنه إلهام إلهي خصهم به الرب كابراً عن كابر، أو أسرار موروثة في أسر معينة تناقلها الأبناء من الآباء والأجداد، وأصبحوا معروفين بتلك المهنة واستفاضت إصابتهم في التطبيب حتى صاروا معروفين، ويلجأ إليهم خاصة للعلاج. وعلى العموم، لم تكن ممارسة أعمال الطب مقصورة رسمياً على أشخاص معينين كما هو الحال في التنظيمات الحديثة المعاصرة.
واستمر الحال كذلك إلى أن أبان النبي محمد صلى الله عليه وسلم تحديد مسؤولية الأطباء وإيضاح الفرق بين العالم بالطب والجاهل به. جاء في حديث هام جدا، ويعتبر أساساً قيماً في تحديد مسؤولية الأطباء، حيث روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تطبب ولم يعرف الطب فهو ضامن)) (1) وبناء على هذا الحديث أجمع أهل العلم أن من تطبب وهو جاهل فهو مسؤول مسؤولية كاملة جنائياً ومدنياً عن فعله. وهذا المبدأ الإسلامي المنبثق من الحديث الشريف هو الذي دفع كثيراً من الفقهاء بالحجر على المتطبب الجاهل ومنعه من مزاولة الطب؛ لما في ذلك من خطورة على الناس، واعتبروا هذا المنع من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (2) كما جاء في مذهب الحنابلة أن مزاولة الطب من غير حاذق في فنه يعتبر فعلاً محرماً (3) وما أجمل قول القاضي برهان الدين إبراهيم بن فرحون المالكي في كتابه (تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام) عند كلامه على ضمان الصناع والأطباء، قال: وإن كان الخاتن غير معروف بالختن والإصابة فيه وعرض نفسه، فهو ضامن لجميع ما وضعنا في ماله، ولا تحمل العاقلة من ذلك شيئاً. وعليه من الإمام العدل العقوبة الموجعة بضرب ظهره وإطالة سجنه. وهذا المبدأ نفسه هو الذي دفع الخليفة العباسي المقتدر بأن يأمر طبيبه سنان بن ثابت بن قرة الحراني أن يمتحن أطباء بغداد في وقته، وأن يمنح من يرضاه في علمه وعمله إجازة لما يصلح أن يتصرف فيه من الطب، وأمر الخليفة محتسبه أن يراعي ذلك، فلا يأذن في العلاج إلا لمن يحمل إجازة من سنان الذي توفي سنة 331 هـ. (4)
وفيما ذكر دلالة واضحة إلى إرساء قواعد التخصص والمسؤولية في مهنة الطب في الدول الإسلامية منذ ذلك الزمان السالف، وعليه لا يكون محل خلاف من أحد أن التسرع لا يؤيد فقط بل يوجب إصدار مثل هذه اللوائح التي تنظم كيفية ممارسة الطب وقصرها على المؤهلين المقتدرين ممن درسوا وتمرنوا حتى يسلم أفراد الأمة من الوقوع في الهلكة.
(1) هذا الحديث رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة. وانظر حاشية الرملي على شرح الروض في فروع الشافعية: 4/166
(2)
الدرر شرح الغرر: 2/628
(3)
المغني لابن قدامة: 6/120
(4)
إخبار العلماء بأخبار الحكماء: للقفطي، طبعة الخانجي ص 130
مسؤولية الطبيب المأذون له بالطب:
إذا أذن المريض وأدى الطبيب المأذون له بالطب واجبه بما ينبغي عليه من حيطة ومراعاة لأصول المهنة ثم مات الشخص المريض أو تلف له عضو فلا شيء على الطبيب، وهذا مما لا خلاف فيه؛ لأن الخطأ إنما هو في الآراء أو الوسائل الفنية المختلف عليها بين الأطباء، أو فيما تتفاوت فيه قدراتهم وتجاربهم، فلا يسأل عنه مهما كانت النتيجة
…
والسبب هو ضرورة إعطاء الطبيب المعالج الحرية اللازمة للإقدام. ولكن قد يخطئ الطبيب أو يهمل فيصف دواء خاطئاً، أو يبتر عضواً سليماً، أو يجري عملية جراحية خاطئة وخارجة عن المألوف، فيموت من جرائها المريض أو يشفى بعاهة مستديمة، والمبدأ العام هو عدم مسؤولية الطبيب جنائياً في هذه الحالة، وذلك للأسباب الآتية:
1-
انعدام المسؤولية الجنائية يرجع إلى رضا المجني عليه وإذنه للطبيب المخطئ بالتدخل، وهذا الإذن من المريض أو من ولي أمره في الحالات التي تبرر اللجوء إلى ولي الأمر كاف للقول بعدم مسؤولية الطبيب جنائياً واعتبار عمله مشروعاً؛ وهو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء، حتى إن بعضهم بالغ فقال: إنه لو قال شخص لآخر: اقتلني أو اجرحني ففعل فلا يقتص منه؛ لرضا المجني عليه بالفعل.
والخلاصة هنا أن الذي يفهم من آراء الفقهاء أنه يشترط أن يكون تدخل الطبيب بناء على رضا المريض أو إذن وليه إن كان قاصراً أو غير مدرك، ولا يحق لطبيب أن يتولى علاج إنسان بغير رضاه، فإذا اختار إنسان أن يبقى مريضاً دون علاج فله ذلك ولا يمكن إرغامه. إلا أننا نقول: إن واجب اتباع السنة يملي على كل مسلم مريض يمكن علاجه أن يتعالج؛ لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء غير داء واحد. قالوا: وما هو يا رسول الله؟ قال: الهرم)) . وكما جاء في طبقات ابن سعد عن عائشة: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً مسقاماً، وكان العرب تنعت له فيتداوى بما تنعت به العرب، وكانت العجم تنعت له فيتداوى)) . (1) ونرى كذلك أن لولي الأمر إذا رأى إنساناً يهلك نفسه بعدم تعاطي العلاج أن يرغمه على ذلك. وإذا كان مرضه معدياً فللحاكم أن يجبره على العلاج كما له أن يحجر عليه مخالطة الناس كما في نظام الكورنتينات، وكما جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم:((إذا كان الوباء بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا منها فراراً منه، وإذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليها)) . وللمريض الحق كاملاً في اختيار الطبيب الذي يعالجه إذا كان مختصاً بذلك المرض؛ لأن الثقة بين المريض والطبيب عنصر هام من عناصر العلاج. وفقهاء الشريعة يشترطون الإذن صراحة لنفي مسؤولية الطبيب. (2) وتشدد كثير من الفقهاء في مسؤولية الطبيب الذي يجري عملية جراحية بغير إذن أو رضا المريض، واتفقوا على مسؤوليته عن فعله، ولكن اختلفوا فقال بعضهم: إنه يسأل عن فعله مسؤولية عمدية فيعاقب بعقوبة الجرح العمد، وذهب آخرون إلى أن المسؤولية في هذه الحالة تعتبر عمدية وعليه الضمان.
(1) طبقات ابن سعد، 1/116
(2)
المغني 6/121، الشرح الكبير 6/124، المهذب 2/306، الهداية والعناية 7/206
2-
وأيضاً فإن انعدام المسؤولية الجنائية يرجع إلى انعدام القصد الجنائي الذي ترتكز عليه كل الجرائم العمدية.. ومتى انعدم القصد الجنائي انعدمت المسؤولية الجنائية خاصة في مثل هذه الحالات التي يقصد فيها الشخص المعالج وهو الطبيب شفاء المريض ونصحه
…
فالنية طيبة وليست آثمة، ولكن أخطأ في الإقدام دون إذن المريض. ومع ذلك نقول: إنه يجب التفريق بين القصد الجنائي الذي تكلمنا عنه وبين الباعث الذي يجب أن يكون موافقاً للشرع. فالطبيب الذي يقدم على تطبيب أو عملية جراحية بباعث يخالف مبادئ الشرع يعتبر مسؤولاً جنائياً ومدنياً، فالطبيب الذي يستأصل مبيض امرأة بناء على طلبها ولم تكن حالتها الصحية تستدعي ذلك، أو قتل مريضاً لا علاج له ليريحه من معاناة الآلام يقع تحت هذه الطائلة.
3-
وإذا تجاوز الطبيب حدوده متعمداً فمسؤوليته عمدية. أما إذا تجاوز حدوده مخطئاً فمسؤوليته غير عمدية. جاء في كتاب متن الأمير وحاشية حجازي العدوي عليه: أنه إذا جهل الطبيب ضمن، وظاهره أن الضمان عليه في ماله وهذا ظاهر سماع أشهب. ويضمن أيضاً إذا قصر كأن أراد قلع سن فقلع غيرها خطأ أو تجاوز بغير اختياره الحد المعلوم في الطب عند أهل المعرفة، كأن زلت أو ترامت يد فاتن، أو سقى عليلاً دواء غير مناسب للداء معتقداً أنه يناسبه وقد أخطأ في اعتقاده. (1) وإذا خلع الطبيب سناً غير المتفق عليها، فإن كان ذلك عمداً فعليه القصاص وإن كان خطأ فالعقل. (2)
وجاء في مذهب الحنابلة أنه لا ضمان على ختان ولا حجام ولا متطبب إذا عرفوا بطبهم ولم تجن أيديهم. وإذا لم يعرف عنه طب فالضمان عليه، وكذلك إذا عرف منه الطب ولكن أخطأ خطأ فاحشاً، كأن يزيل جميع الحشفة في الختان، (3) وذهب الحنفية إلى أن القاعدة هي أن الطبيب لا يسأل متى لم يتجاوز الموضع المعتاد ويعللون ذلك بأن الهلاك ليس بمقارن للعمل، وإنما هو بالسراية بعد تسلم العمد، والتحرز عنها غير ممكن، لأن السراية تبنى على قوة الطباع وضعفها في تحمل الألم، وما هو كذلك مجهول والاحتراز من المجهول غير متصور، فلم يمكن التقييد بالمصلح من العمد؛ لئلا يتقاعد الناس عنه مع مساس الحاجة. (4)
وما أجمل هذا القول من الحنفية إذ إنه يدعو إلى تقدم الطب وازدهاره، وذلك بارتياد مجالات يلهمها الأطباء فيقدمون عليها من غير خوف أو مسؤولية معطلة. وجاء في الدر المختار من كتب الحنفية: ولا ضمان على حجام وبزاغ أو فصاد لم يجاوز الموضع المعتاد، فإن جاوز ضمن الزيادة كلها إذا لم يهلك وإن هلك ضمن نصف دية النفس، فلو قطع الختان الحشفة وبرئ المقطوع تجب عليه دية كاملة، وإن مات فالواجب عليه نصفها. وقد علق صاحب رد المحتار على هذه العبارة بقوله: لم يجاوز الحد المعتاد أي وكان بالإذن. وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه: (وإذا أمر الرجل أن يحجمه أو يختن غلامه أو يبطر دابته، فتلفوا من فعله، فإن كان فعل ما يفعل مثله مما فيه الصلاح للمعقول به عند أهل العلم بتلك الصناعة فلا ضمان عليه،، وإن كان فعل ما لا يفعل مثله من أراد الصلاح وكان عالما به فهو ضامن) . وقال الشافعي رضي الله عنه أيضاً في هذا المضمار: (والوجه الثاني الذي يسقط فيه العقد – يريد الدية - أن يأمر الرجل به الداء الطبيب أن يبط جرحه، أو الأكلة أن يقطع عضواً يخاف مشيها إليه، أو يفجر له عرقاً، أو الحجام أن يحجمه، أو الكاوي أن يكويه، أو يأمر أبو الصبي وسيد المملوك الحجام أن يختنه فيموت شيء من هذا فلا عقد ولا مأخوذية إن حسنت نيته إن شاء الله تعالى. وذلك أن الطبيب والحجام إنما فعلاه للصلاح بأمر المفعول به. (5)
(1) انظر متن الأمير وحاشية حجازي العدوي 2/406
(2)
متن الأمير وحاشية حجازي العدوي (ص 259)
(3)
المغني لابن قدامة 6/120، دار الكتاب العربي للنشر والتوزيع، بيروت - لبنان
(4)
الهداية والعناية 7/206
(5)
كتاب الأم للشافعي رضي الله عنه 6/168
والخلاصة في هذا الأمر أن الراجح من رأي الفقهاء هو أن الطبيب الحاذق لا يسأل عن نتيجة طبه طالما قام بواجبه على الوجه الأكمل، ويستوي في الحكم إذا شفي المريض أو مات أو قام معلولاً بعلة، وكذلك لا يسأل عن الخطأ الفاحش مسؤولية غير عمدية، وتعتبر هذه الجناية جناية خطأ، فإن الأرش أو الدية يقضى بها، وتكون مخففة على العاقلة، وفيما يتضح لنا أن الشريعة الغراء تبيح الاجتهاد للأطباء في علاج الأمراض ولا يسأل الطبيب إذا خالف زملاءه متى كان رأيه يقوم على أساس سليم، سئل نجم الأئمة الحليمي عن صبية سقطت من السطح فانفتح رأسها فقال كثير من الجراحين: إن شققتم رأسها تموت وقال واحد منهم: إن لم تشقوه اليوم أنا أشقه وأبرئها، فشقه ثم ماتت بعد يوم أو يومين، هل يضمن؟ فتأمل ملياً، ثم قال: لا، إذا كان الشق بإذن وكان معتاداً ولم يكن فاحشاً خارج الرسم.
وكتب محمد بن جزي الغرناطي المالكي في موجبات الضمان فقال في البند السابع: تضمين الصناع فيضمنون ما غابوا عليه سواء عملوه بأجرة أو بغير أجرة، ولا يضمنون ما لم يغيبوا عليه، ولا يضمن الصانع الخاص الذي لم ينصب نفسه للناس، وقال أبو حنيفة: لا يضمن من عمل بغير أجرة، وللشافعي في ضمان الصناع قولان، فإن قامت بينة على التلف سقط عنهم الضمان، واختلف هل يجب لهم أجرة إذ كان هلاكه بعد تمام العمل، وكذلك يضمنون كل ما جاء على أيديهم من حرق أو كسر أو قطع إذا عمله في حانوته إلا في الأعمال التي فيها تضرير كاحتراق الثوب في قدر الصباغ، واحتراق الخبز في الفرن، وتقويم السيوف، فلا ضمان عليهم فيها إلا أن يعلم أنهم تعدوا، ومثل ذلك الطبيب يسقي المريض أو يكويه فيموت، والبيطار يطرح الدابة فتموت، والحجام يختن الصبي أو يقلع الضرس فيموت صاحبه، فلا ضمان على هؤلاء؛ لأنه مما فيه التغرير، وهذا إذا لم يخطئ في فعله، فإن أخطأ فالدية على عاقلته، وينظر، فإن كان عارفاً فلا يعاقب على خطئه، وإن كان غير عارف وعرض نفسه فيؤدب بالضرب والسجن، ولا ضمان على صاحب السفينة خلافاً لأبي حنيفة، ولا على صاحب الحمام إذا ضاعت الثياب بغير تقصير (1)
(1) قوانين الأحكام الشرعية لابن جزي المالكي، طبعة الشركة الفنية المتحدة، القاهرة (ص 352)
وفي تحديد أدق لمسؤولية الطبيب العالم فقد ذكر في شرح الأزهار في فقه الزيدية عند قول المتن: ولا أرش للسراية عن المعتاد من بصير ((1)، قال:) فإذا استؤجر الخاتن أو نحوه فحصل مضرة من عمله لم يضمن بشروط:
الأول: أن يكون عن سراية، فلو كان عن سراية مباشرة، نحو أن يقطع حشفة الصبي ضمن عمداً كان أم خطأ.
الثاني: أن يفعل المعتاد، فلو فعل غير المعتاد ضمن.
الثالث: أن يكون بصيراً فلو كان متعاطياً ضمن.
(والمراد بالبصير من يعرف العلة ودواءها وكيفية علاجها ويثق بذلك من نفسه، وأن يكون قد أجاز له مشايخه وفعل مرتين فأصاب، فإن أخطأ في الثالثة فليس بمتعاط، لا الأخذ من الكتب كما في سائر العلوم، ولا يجوز لهم الإيهام بأن الدواء أكثر مما هو عليه، ولو فعل المتعاطي المعتاد مأموراً به ولم تحصل جناية فلا ضمان وبغير أمر يضمن ولو لم يفعل إلا المعتاد، فإن قطع البصير المعتاد فخبث فهلك الصبي بمباشرة ذلك المعتاد، ففي البيان لا ضمان، وقد وقعت في رجل قطع له طبيب فهلك بالمباشرة بالسبب المعتاد، فأخذ كثير من العلماء بظاهر الأزهار يضمن، وأفتى القاضي محمد بعدم الضمان) ، وهذا كله يدل على أن الأمر أو الإذن وحده لا يكفي، بل يشترط أن يكون العمل من بصير غير متعاط وأن يكون على وفق المعتاد.
عمليات التجميل:
ظهرت في العصر الحديث اتجاهات لمعالجة بعض العيوب الخلقية بإجراء عمليات جراحية لإزالتها؛ لتفادي الغم والهم والألم الذي يحس به المشوه من نقص عمن سواه من البشر، وكذلك تفادي سخرية الناس أو اشمئزازهم في بعض الحالات، ولا أرى أن الشريعة الإسلامية تمانع في مثل هذه العمليات، ومما يدعو إلى الإعجاب بشمول دين الإسلام أن أهل الحديث رووا:((أن عرفجة بن سعد أصيب أنفه يوم الكلاب فأنتن فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتخذ أنفاً من ذهب)) (2) وفي رواية النسائي في باب الزينة أخرج عن أبي الأشهب عن عبد الرحمن بن طرفة: ((أن جده عرفجة بن سعد أصيب أنفه يوم الكلاب فاتخذ أنفاً من ورق فأنتن، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتخذ أنفاً من ذهب)) ، ومثل اتخاذ الأنف من الذهب اتخاذ الأسنان منه، وقد روى الطبراني في معجمه عن عبد الله بن عمر ((أن أباه سقطت ثنيته، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يشدها بذهب)) ، ونوع آخر من عمليات التجميل تعرض له الفقهاء، ففي الظهيرية:(إذا أراد الرجل أن يقطع إصبعاً زائداً أو شيئاً آخر، قال نصير رحمه الله: إن كان الغالب على من قطع مثل ذلك الهلاك فإنه لا يفعل، وإن كان الغالب هو النجاة فهو في سعة من ذلك)، وجاء في خزانة المفتين:(من له سلعة زائدة يريد قطعها إن كان الغالب الهلاك فلا يفعل، وإلا فلا بأس به)(3)
(1) شرح الأزهار 3/ 283
(2)
هذا الحديث أخرجه أبو داود في الخاتم، والترمذي في اللباس، والنسائي في الزينة
(3)
جاء في لسان العرب 8/ 160 ما نصه: (السلع: البرص
…
والسلع أيضاً الشق يكون في الجلد وجمعه سلوع، والسلع أيضاً: شق في العقب)
وذهب الماوردي في الأحكام السلطانية إلى أن بعض العيوب الخلقية تمنع من انعقاد الإمامة، قالوا: إنه يمنع من انعقاد الإمامة (ما شان وقبح ولم يؤثر في عمل ولا نهضة؛ كجدع الأنف وسمل إحدى العينين
…
فالسلامة منه تكون شرطاً معتبراً في عقدها؛ ليسلم ولاة الملة من شين يعاب ونقص يزري فتقل به الهيبة، وفي قلتها نفور عن الطاعة، وما أدى إلى هذا فهو نقص في حقوق الأمة) (1)
كما ذكرت فإن الشريعة الإسلامية لا تمانع في مثل هذه العمليات، ولكن لابد من تقدير العيب المطلوب علاجه، ومدى تضرر صاحبه به، وهل فيه معرة أو قلة أو زلة.... ويؤخذ في الاعتبار أيضاً خطورة الجراحة، فإن كان الاحتمال قوياً أن تؤدي إلى الوفاة أو إلى مشاكل أعقد فلا تصح عندئذ، ونقترح أن تنص اللوائح الطبية على إذن هيئة خاصة من نقابة الأطباء ومن المختصين في مثل هذه العمليات حتى لا يقع الناس في مهالك أكبر، ولا يخفى أن إذن المريض في مثل هذه الحالات لابد منه صراحة.
استدراك في شرط الإذن للخلو من المسؤولية:
استثنت كثير من اللوائح الحديثة وكذلك مجمع الفقه الإسلامي في دورته الماضية ضرورة الحصول على إذن المريض أو وليه في الحالات التي تستوجب الإسعاف العاجل والتي لا يمكن فيها الانتظار لحصول هذا الرضا؛ لما في ذلك من هلاك مؤكد للمريض إذا لم يسرع في علاجه بما يراه الأطباء المختصون، والشريعة الإسلامية لا تعارض في هذا الاستثناء الحكيم خاصة في مثل هذه الأيام التي تكثر فيها حوادث الحركة وغيرها، وقد لا يفيق المريض أبداً إلا بعد أن يبدأ في علاج سبب الإغماء وقد يتعثر العثور على أهله وقرابته بالسرعة المطلوبة لإنقاذ المصاب، والأطباء في مثل هذه الحالات إنما يدفعون خطراً محققاً عن شخص عاجز عن تعرف مصلحته، والضرورات تبيح المحظورات كما هو معلوم، وهو من باب التعاون على البر والتقوى.
وقد عرض ابن القيم رحمه الله لهذه المسألة في مبحث (جريان العرف مجرى النطق) حيث قال: (ومنها لو رأى شاة غيره تموت فذبحها حفظاً لماليتها عليه، كان ذلك أولى من تركها تذهب ضياعاً، وإن كان من جامدي الفقهاء من يمنع ذلك ويقول: هذا تصرف في ملك الغير، ولم يعلم هذا اليابس أن التصرف في ملك الغير إنما حرمه الله لما فيه من الإضرار به، وترك التصرف هاهنا من الإضرار....)(2)
(1) الأحكام السلطانية، للماوردي (ص18)
(2)
جريان العرف مجرى النطق لابن القيم: 2/ 22
وقال ابن حزم في كتاب المحلى ما نصه: (من قطع يداً فيها أكلة بغير إذن صاحبها، قال أبو محمد: قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] ، وقال تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] ، فالواجب استعمال هذين النصين من كلام الله تعالى، فينظر: فإن قامت بينة أو علم الحاكم أن تلك اليد لا يرجى لها برء ولا توقف وأنها مهلكة ولابد، ولا دواء لها إلا القطع، فلا شيء على القاطع، وقد أحسن؛ لأنه دواء، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمداواة، وهكذا القول في الضرس إذا كان شديد الألم، قاطعاً به عن صلاته ومصالح أموره فهذا تعاون على البر والتقوى، عن يحيى بن أسامة بن شريك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تداووا؛ فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء، غير داء واحد، قالوا: وما هو يا رسول الله؟ قال: الهرم)) (1)، وجاء في المحلى أيضاً: قال علي فيمن داوى أخاه المسلم كما أمره الله تعالى على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام فقد أحسن، قال الله تعالى:{مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] .
وأما إذا كان يرجى للآكلة برء أو توقف، وكان الضرس يتوقف أحياناً ولا يقطع شغله عن صلاته ومصالح أموره، فعلى القاطع والقالع القود؛ لأنه حينئذ متعد، وقد أمر الله تعالى بالقصاص في القود (2)
وأبلغ من ذلك ما جاء في شرح مختصر خليل عند قوله: (وترك مواساة وجبت بخيط ونحوه لجائفة) ، وجب على من كانت معه فتلة خيط أو حرير أو إبرة وهو مستغن عنهما حالاً أو مآلاً أن يواسيه بالخياطة لجرحه، فإن لم يفعل فإنه يضمن.
وما ذكر في هذه المواضع يقاس عليه كل ما يستدعي الحال عمله لإنقاذ حياة مريض يشك في حياته لو لم تعمل له هذه العملية الجراحية المستعجلة، على نحو ما يراه الأطباء وأهل الخبرة.
(1) المحلى لابن حزم 10/ 444
(2)
المحلى لابن حزم 10/ 444
هل يمكن أن تقوم نقابة الأطباء أو شركة التأمين بدور العاقلة؟
القاعدة العامة للمسؤولية في التشريع الإسلامي أن كل إنسان يتحمل تبعة جنايته، ولا يسأل أحد عن جرم الآخر؛ لقول الله تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] ، وللأحاديث الواردة في تعضيد هذا المبدأ القرآني، منها:
روى أبو داود عن أبي رمثة قال: ((انطلقت مع أبي نحو النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي: ابنك هذا؟ قال: إي ورب الكعبة، قال: حقاً؟ قال: شهد به، قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكاً من ثبت شبهي في أبي ومن حلف أبي علي، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه. وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} )) ، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه ابن ماجه:((لا يجن جان إلا على نفسه. لا يجني والد على ولده، ولا مولود على والده)) (1)
ولكن ورد استثناء في إلزام العاقلة بدفع دية الخطأ، وقد كان المبدأ سائداً قبل الإسلام فأمضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فيه من نصرة وتخفيف وتعاون وبر وصلة رحم، وأصل وجوب الدية على العاقلة الحديث الصحيح الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال:((اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى أن دية جنينها غرة أو وليدة، وقضى بدية عاقلتها)) هذا لفظ البخاري، وروى الحديث مسلم، وأبو داود وابن ماجه وغيرهم، وتتحمل العاقلة الدية إذا كان الحادث خطأ ثابت بالبينة على الجاني، وأن تكون عن ضرر بدني لحر، وقال بعضهم: إن العاقلة تتحمل الدية التي لا تقل عن حد أدنى اختلفوا في تفصيله، وأجمع فقهاء المذاهب الإسلامية على أن دية الخطأ تجب على العاقلة مؤجلة في ثلاث سنين (2) والعاقلة هم أهل ديوان الجاني كما قال الحنفية والمالكية إذا كان الجاني من أهل الديوان، وهم فرقته وحزبه في الجيش، وقال الإمام الشافعي: إن العاقلة هي عشيرة الجاني (3)
وقال فقهاء الحنابلة والشيعة الزيدية والإمامية: إن العاقلة هم عصبة الجاني نسباً وولاء (4)
(1) انظر نيل الأوطار للشوكاني 8/ 70
(2)
نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 7/ 373، شرح الخرشي 8/ 58، منتهى الإرادات 2/ 450، البحر الرائق شرح كنز الدقائق 8/ 455
(3)
نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 7/ 371، حاشية قليوبي وعميرة 4/ 154
(4)
منتهى الإرادات 2/ 449، كشاف القناع 4/ 36
ولكن يبدو أن كل هذه التفسيرات تتعلق بأوضاع كانت سائدة في الماضي نسبة لقوة الروابط القبلية والعصبية وتعاطف العشيرة، وهذا غير موجود اليوم على ما كان عليه آنذاك، ولذلك تطور الفقهاء المعاصرون بهذا المفهوم إلى وجه حديث من أوجه الخير وهو التعاون والإحسان الذي يراد به وجه الله وحده، وهو التأمين الإسلامي، والتأمين في هذا النظام الإسلامي لا يدخل إلا في قسم الخير الذي فيه معنى الإحسان، وتطمئن إليه النفوس، وإن مما يشرح الصدر في الإجابة على السؤال الموجه وهو: هل يمكن أن تقوم نقابة الأطباء وشركات التأمين بدور العاقلة؟
إن الأمر تعرض له سلفنا الصالح حيث قال بعضهم: إن عاقلة الجاني هم أهل حرفته ومهنته إذا لم يكن له عاقلة من الديوان أو العشيرة؛ لأنهم أهل نصرته وأهل صناعته (1)، وعرفوا العاقلة تعريفاً عاماً قيماً فقالوا: إن عاقلة كل إنسان من يتناصر هو به إن كان من الديوان فعاقلته أهل ديوانه والصناع بعضهم لبعض (2)
وعليه نرى أن من أعظم أوجه التعاون أن يكون الأطباء لجنة خاصة لحرفتهم، يختارون أعضاءها من أهل الأمانة والديانة والأخلاق النبيلة، ويسندون إليها إدارة صندوق يجمعون فيه رسوماً سنوية، وينوون به أن يكون إعانة منهم لمن يجب عليه الضمان نتيجة خطئه، وأن يتخذوا جميع أسباب الرقابة الشرعية والحيطة المالية، حتى إذا أصيب أحدهم بضمان يدفعه –لا قدر الله- عوضوه من مال هذا الصندوق ويكون في ذلك مثوبة لكل من ساهم في هذا العمل الذي يحول التأمين من مقامرة يحرمها الدين إلى تعاون على البر ينال به صاحبه رضا الرحمن الرحيم.
(1) الجواهر النيرة 2/55، البحر الرائق: 8/ 456
(2)
الفتاوى البزازية هامش الفتاوى الهندية 6/ 384
ملخص البحث
ناقشت في هذا البحث حاجة الناس إلى الطب واللوائح الحديثة التي تنظم ممارسة المهنة، فتقصرها على الأطباء المؤهلين، وإذا مارس الطب أحد غير هؤلاء فهو مسؤول مسؤولية جنائية ومدنية عن جميع تصرفاته، وتكلمت عن وضع الطب في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وقبله وعدم الفصل رسمياً بين المؤهلين وغيرهم، إلى أن بين النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الأساسي:((من تطبب ولم يعرف الطب فهو ضامن)) ، مسؤولية الأطباء والفرق بين الحاذق وغيره، وهذا المبدأ هو الذي دفع كثيراً من الفقهاء بالحجر على المتطبب الجاهل ومنعه وتحميله المسؤولية كاملة جنائياً ومدنياً، ذكرت كذلك جملة من آراء الفقهاء في هذا الشأن، وكيف أن الخليفة العباسي المقتدر أمر طبيبه سنان بن ثابت بامتحان الأطباء والإذن لمن يراه صالحاً لهذا الغرض، وخلصت إلى أنه لا خلاف أن الشريعة الإسلامية تؤيد إصدار مثل هذه اللوائح وتنفيذها ومراقبة المهنة مراقبة دقيقة.
تكلمت بعد ذلك عن مسؤولية الطبيب المأذون له بالطب، فبينت خلو طرفه من المسؤولية إذ أدى واجبه على الوجه المطلوب مهما كانت النتيجة، وبينت الأسباب الشرعية والقانونية في انعدام المسؤولية هنا، وتتلخص في إذن المريض أو إذن ولي أمره، ثم انعدام القصد الجنائي، وبينت أهمية التفرقة بين القصد الجنائي والباعث.
ناقشت بعد ذلك نوع مسؤولية الطبيب المأذون له بالطب إذا أخطأ جسمياً بأن تجاوز الموضع المعتاد أو الرسم المعهود، وأيدت مذهب الحنفية في إعطاء الطبيب قدراً كبيراً من الاجتهاد والحرية في الإقدام على ما يراه مناسباً إذا لم يخرج عن القواعد المعروفة للمهنة، ولاشك أن في هذه الحرية والحق في الاجتهاد بما يلهمه الطبيب من محاولة جديدة تقدم الطب واتساع علومه
…
ولا شيء على الطبيب ولو خالف رأيه رأي زملائه.
وناقشت الاتجاهات الحديثة في الطب لمعالجة العيوب الخلقية بإجراء ما يسمونه بعمليات التجميل، وموقف الإسلام من ذلك ومسؤولية الطبيب فيها.
وأخيراً بينت رأي الشرع في موضوع العاقلة وتفسير الفقهاء للعاقلة، وكيف أن هذا التفسير يبيح لنقابة الأطباء وشركات التأمين الإسلامية أن تقوم بدور العاقلة، والسبب في ذلك.
الدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد