المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادالدكتور عبد الله محمد عبد الله - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ٨

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد الثامن

- ‌الأخذ بالرخص الشرعية وحكمهإعدادالدكتور: وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌موضوع: " الأخذ بالرخص الشرعية وحكمه

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادالدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادالشيخ خليل محيي الدين الميس

- ‌الرخصة (التلفيق)إعدادالشيخ خليل محيي الدين الميس

- ‌التلفيق والأخذ بالرخصة وحكمهماإعدادحجة الإسلام الشيخ محمد علي التسخيري

- ‌الأخذ بالرخص الشرعية وحكمهإعدادمحمد رفيع العثماني

- ‌حكمالرخصة وتتبع الرخصفي الفقه الإسلامي

- ‌الأخذ بالرخصةإعدادأ. د. حمد عبيد الكبيسي

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادالشيخ مجاهد الإسلام القاسمي

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادأ. د. عبد العزيز عزت الخياط

- ‌الرخصةإعدادالشيخ محمد الشيباني بن محمد بن أحمد

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهتتبع الرخص – التلفيق ورأي الفقهاء فيهإعدادفضيلة الشيخ مصطفى كمال التارزي

- ‌الأخذ بالرخص وحكمهإعدادالشيخ الطيب سلامة

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادالدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين

- ‌الأخذ بالرخص وحكمهإعدادالدكتور أبو بكر دوكوري

- ‌بيع العربُونإعدادفضيلة الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌بيع العربُونإعدادالدكتور وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌بيع العربونإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌بيع المزايدةإعدادفضيلة الشيخ محمد المختار

- ‌عقد المزايدةبين الشريعة الإسلامية والقانوندراسة مقابلةمع التركيز على بعض القضايا المعاصرةإعدادعبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان

- ‌قواعد ومسائلفيحوادث السيرإعدادالقاضي محمد تقي العثماني

- ‌ موضوع "حوادث السير

- ‌حوادث السيرإعدادد. عبد الله محمد عبد الله

- ‌حوادث السيرإعدادالشيخ عبد القادر محمد العماري

- ‌حوادث السيرإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌التطبيقات الشرعيةلإقامة السوق الإسلاميةإعدادالدكتور علي محيي الدين القره داغي

- ‌التطبيقات الشرعيةلإقامة السوق الإسلاميةإعدادالأستاذ الدكتور / علي السالوس

- ‌الائتمان المولد على شكل بطاقةمع صيغة مقترحة لبطاقة ائتمانية خالية من المحظورات الشرعيةإعدادسعادة الدكتور محمد القري بن عيد

- ‌بطاقات الائتمانإعدادالشيخ حسن الجواهري

- ‌سر المهنة الطبية بين الكتمان والعلانيةإعدادالدكتور أحمد رجائي الجندي

- ‌مسؤولية الطبيبإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌مداواة الرجل للمرأةوالمرأة للرجلإعدادالدكتور محمد علي البار

- ‌نقص المناعة المكتسبة (الإيدز)الأحكام المتعلقة بالمرضى والمصابينإعدادأ. د. مصطفى عبد الرؤوف أبو لسان

- ‌بعض المشاكل الأخلاقية والاجتماعيةالناتجة عن مرض الإيدز(نقص المناعة المكتسبة)إعدادالدكتور محمد علي البار

- ‌مرض الإيدز(نقص المناعة المكتسبة)أحكامه وعلاقة المريض الأسرية والاجتماعيةإعدادالدكتور سعود بن مسعد الثبيتي

- ‌التداوي بالمحرماتإعدادالدكتور محمد علي البار

- ‌بحوث مجمعية

- ‌حُسن وفاء الديونوعلاقته بالربط بتغير المستوى العام للأسعارإعدادالدكتور صالح بن زابن المرزوقي البقمي

- ‌ربط الأجور بتغير المستوى العام للأسعارفي ضوء الأدلة الشرعيةإعدادد. حمزة بن حسين الفعر

- ‌الربط القياسي للأجور بالمستوى العام للأسعارتحليل من منظور إسلامي لمشكلة الأجورفي ظل التضخم والعلاج المقترحإعدادد. عبد الرحمن يسري أحمد

- ‌التضخم والربط القياسيدراسة مقارنة بين الاقتصاد الوضعيوالاقتصاد الإسلاميإعدادالدكتور شوقي أحمد دنيا

- ‌ربط الأجور بتغير المستوى العام للأسعاربين الفقه والاقتصادإعدادد. محمد أنس الزرقا

- ‌ندوة قضايا العملةالربط القياسي للديون بعملة اعتباريةإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌ملاحظات أساسيةفي مسألة ربط الأجور والمستحقاتإعدادالدكتور سيف الدين إبراهيم تاج الدين

- ‌مشاكل البنوك الإسلاميةمحاورإعدادمجموعة دلة البركة

- ‌مشاكل البنوك الإسلاميةمحاورإعدادبيت التمويل الكويتي

- ‌الصعوبات التي تواجه البنوك الإسلاميةوتصورات لكيفية مواجهتهاإعدادأ. د. إسماعيل حسن محمد

- ‌مشاكل البنوك الإسلاميةعقد السلم ودوره في المصرف الإسلاميإعدادالشيخ صالح الحصين

- ‌مشكلات البنوك الإسلامية في الوقت الحاضرإعدادد. محمد نجاة الله صديقي

- ‌في مشكلات المصارف الإسلاميةإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌حكم المشاركة في أسهم الشركات المساهمةالمتعاملة بالرباتجربة مجموعة دلة في أسلمة الشركاتعن طريق شراء أسهمهاإعدادالشيخ صالح عبد الله كامل

- ‌المشاركة في شركات تتعامل بالحرامإعدادالشيخ عبد الله بن بيه

الفصل: ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادالدكتور عبد الله محمد عبد الله

‌الأخذ بالرخصة وحكمه

إعداد

الدكتور عبد الله محمد عبد الله

عضو اللجنة الاستشارية العليا

للعمل على تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية بالكويت

بسم الله الرحمن الرحيم

الرخصة

الحمد رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.

وبعد: فإن مبحث الرخصة من المباحث التي عني بها الفقه الإسلامي وأصوله، وهو يمثل جانبا مهما من جوانب الشريعة الغراء التي اتسمت بالرحمة والسماحة واليسر كما قال جل وعلا:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] فالشريعة عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها،

فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه (1) .

ويحتل مبحث " الرخصة " مساحة واسعة من كتب الفقه والأصول إذ كان مبنى الأحكام في الشريعة الغراء على رفع الحرج عن المكلفين واليسر بهم.

فرفع الحرج يتمثل في إزالة كل ما يؤدي إلى مشقة زائدة في البدن أو النفس أو المال في البدء والختام، والحال والمآل، وهو أصل من أصول الشريعة ثبت بأدلة قطعية لا تقبل الشك (2) .

وأما اليسر فهو كما قال عز شأنه في آية أخرى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28] ومراده من ذلك التيسير وهو خلاف الشدة والمشقة وهذا جاء في الأحكام كلها كما صححه القرطبي (3) .

وسنتناول الرخصة حسب الخطة الموضوعة لها في الفصول التالية:

الفصل الأول: في تعريفها.

الفصل الثاني: في أنواعها.

الفصل الثالث: في ضوابط الأخذ بالرخصة ومواطنها.

الفصل الرابع: في تتبع الرخص ورأي الفقهاء والأصوليين.

الفصل الخامس: في التلفيق.

الفصل السادس: في ترجيح ما هوأحق بالاتباع وخاصة في عصرنا الحديث.

(1) إعلام الموقعين: 3 / 14.

(2)

الموافقات: 1 / 14.

(3)

الجامع الأحكام القرآن: 5 / 149.

ص: 51

الفصل الأول

معنى الرخصة

أ – في اللغة:

تأتي مادة رخص في اللغة وتفيد ثلاثة معان:

أحدها: اللين والنعومة. والثاني: ضد الغلاء. والثالث: خلاف التشديد.

قال في مقاييس اللغة:

الراء والخاء والصاد أصل يدل على لين وخلاف شدة، من ذلك اللحم الرخص، وهو الناعم، من ذلك الرخص خلاف الغلاء، والرخصة في الأمر خلاف التشديد، وكذلك في الصحاح مادة رخص، وهذه المعاني لصيقة بالرخصة، ويضيف صاحب اللسان معنى جديدًا وهو الإذن بعد النهي.

قال: ورخص له في الأمر: أذن له فيه بعد النهي عنه، والاسم الرخصة. والرخصة، والرخصة: ترخيص الله للعبد في أشياء خففها عنه، والرخصة في الأمر: هو خلاف التشديد. وقد رخص له في كذا ترخيصا فترخص هو فيه، أي: لم يستقص. وتقول: رخصت فلانًا في كذا وكذا، أي: أذنت له بعد نهيي إياه عنه (1) .

ب – في الاصطلاح:

بحث علماء الأصول مسألة الرخصة والعزيمة عند الكلام على الحكم، واختلفوا هل هي من أقسام الحكم، أو من أقسام الفعل.

ذهب تاج الدين الأرموي في كتابه الحاصل، وتبعه البيضاوي في كتابه منهاج الوصول، وتقي الدين الأرموي في كتابه التحصيل، وتاج الدين ابن السبكي صاحب جمع الجوامع، والكمال ابن الهمام في التحرير، وحجة الله بن عبد الشكور صاحب مسلم الثبوت، والقرافي، والغزالي؛ إلى أنهما قسمان للحكم.

وذهب الآمدي وابن الجاجب والإمام الرازي في المحصول وآخرون إلى أنها من أقسام الفعل الذي هو متعلق الحكم.

(1) معجم مقاييس اللغة والصحاح للجوهري؛ ولسان العرب- مادة رخص.

ص: 52

ورجح صاحب جمع الجوامع رأي الفريق الأول وقال: تقسيم البيضاوي وغيره الحكم إلى الرخصة والعزيمة أقرب إلى اللغة من تقسيم الرازي وغيره الفعل الذي هو متعلق الحكم إليها (1) .

وبيان ذلك أنه يلزم من تقسيم الفعل الذي هو متعلق الحكم إلى رخصة وعزيمة أن ينقسم الحكم أيضا إلى رخصة وعزيمة؛ فإن الحكم المتغير من عسر إلى يسر هو صفة الفعل الذي هو موصوفه ومتعلقه، وهو فعل المكلف. فتقسيم الفعل هنا إلى رخصة وعزيمة كتقسيم الفعل الذي هو متعلق الحكم إلى واجب ومندوب وأخواتهما (2) . واختلفوا أيضا في اندراجها في الحكم التكليفي أو في الحكم الوضعي فالآمدي وابن الحاجب يريان أنهما من خطاب الوضع، والغزالي وصاحب الحاصل والبيضاوي قالوا: إنها من أقسام الحكم التكليفي.

وحجة من أدرجها في خطاب الوضع أن الرخصة في حقيقة أمرها: وضع الشارع وصفًا من الأوصاف سببا في التخفيف، وأما حجة من أدرجها في خطاب التكليف قال: إن الرخصة تحمل معنى التخيير، ورجح الزركشي في البحر هذا الرأي وقال: إن الرخصة من خطاب الاقتضاء، ولهذا قسموها إلى واجبة ومندوبة ومباحة (3) .

وفيما يلي بعض تعاريف الرخصة؛ فقد ذكر الآمدي والزركشي وغيرهما جملة من التعريفات نورد بعضا منها، ثم نختار التعريف المناسب منها:

أولاً – الآمدي:

قال: أما في الشرع فقد قيل: الرخصة ما أبيح فعله مع كونه حرامًا.

وقيل: ما رخص فيه مع كونه حرامًا.

وقال أصحابنا: الرخصة ما جاز فعله لعذر مع قيام السبب المحرم.

ثم نقد هذه التعاريف وقال عن الأول: وهو تناقض ظاهر، وعن الثاني بأنه عرف الرخصة بالترخيص المشتق من الرخصة، وهو غير خارج عن الإباحة فكان في معنى الأول.

(1) البحر المحيط للزركشي: 1 / 327؛ نهاية السول شرح منهاج الأصول للإسنوي 1 / 129؛ الأحكام للآمدي: 1 / 100؛ القواعد والفوائد الأصولية للبعلي ص 116؛ التمهيد للإسنوي ص 70.

(2)

سلم الوصول للشيخ المطيعي حاشية نهاية السول: 1 / 129.

(3)

البحر المحيط: 1 / 327، إضافة إلى سلم الوصول للشيخ المطيعي حاشية نهاية السول: 1 / 129.

ص: 53

وعن التعريف الأخير بأنه غير جامع؛ فإن الرخصة كما قد تكون بالفعل قد تكون بترك الفعل كإسقاط وجوب صوم رمضان والركعتين من الرباعية في السفر.

ثم أدخل تعديلا عليه حتى يستقيم فقال:

الرخصة ما شرع من الأحكام لعذر مع قيام السبب المحرم. وقال: إن هذا التعريف يعم النفي والإثبات.

ثم أورد عليه الاحتمالات التالية فقال:

القدر المرخص لا يخلو إما أن يكون راجحا على المحرم، أو مساويا، أو مرجوحا. فإن كان الأول: فموجبه لا يكون رخصة بل عزيمة، وإلا كان كل حكم ثبت بدليل راجح مع وجود المعارض المرجوح رخصة، وهو خلاف الإجماع.

وإن كان مساويا، فإن قلت بتساقط الدليلين المتعارضين من كل وجه والرجوع إلى الأصل، فلا يكون ذلك رخصة، وإلا كان كل فعل بقينا فيه على النفي الأصلي قبل ورود الشرع رخصة، وهو ممتنع.

وإن لم نقل بالتساقط فالقائل قائلان:

قائل يقول بالوقف على الحكم بالجواز وعدمه إلى حين ظهور الترجيح. وذلك عزيمة لا رخصة.

وقائل يقول بالتخيير بين الحكم بالجواز، والحكم بالتحريم، ويلزم من ذلك أن لا يكون أكل الميتة حالة الإضطرار رخصة ضرورة عدم التخيير بين جواز الأكل والتحريم؛، لأن الأكل واجب جزما، وقد قيل بكونه رخصة، فلم يبق إلا أن يكون الدليل المحرم راجحا على المستبيح. ويلزم من ذلك العمل بالمرجوح ومخالفة الراجح، وهو في غاية الإشكال. وإن كان هذا القسم هو الأشبه بالرخصة لما فيها من التيسير والتسهيل بالعمل بالمرجوح ومخالفة الراجح (1) .

(1) الإحكام للآمدي 1 / 101، 102.

ص: 54

ثانيًا – الزركشي:

أورد الزركشي في البحر عدة تعريفات للرخصة.

قال: وأما في الاصطلاح فقد اختلف فيه:

فقال الإمام الرازي: ما جاز فعله مع قيام المقتضي للمنع.

وقال القرافي: طلب الفعل مع السالم عن المانع المشتهر.

وقال الهندي: ما جاز فعله أو تركه مع قيام المانع منه.

وقيل: ما لزم العباد بإيجابه تعالى.

وقيل: ما خرج عن الوضع الأصلي لعارض.

وقال ابن الحاجب: المشروع لعذر مع قيام المحرم لولا العذر.

وقيل: استباحة المحظور مع قيام المحرم.

وقيل: الحكم مع المعارض؛ أي مع قيام الدليل الدال على المنع.

وقيل: الحكم الثابت على خلاف الدليل لعذر مع كونه حراما في حق غير المقدور.

ومعظم هذه التعاريف التي ذكرها لم تسلم من اعتراض ومناقشة.

ولعله ارتضى التعريف الأخير حيث لم يورد عليه اعتراضا قال: هو المراد بقول الفقهاء: ما ثبت على خلاف القياس أي الشرعي لا القياس المصلحي؛ لأنه عدل به عن نظائره لمصلحة راجحة هذا في جانب الفعل، وفي جانب الترك أن يوسع للمكلف تركه مع قيام الوجوب في حق غير المقدور تخفيفا وترفها سواء كان التغيير في وصفه أو حكمه.

وهو نوعان:

أحدهما: أن يتغير الحكم مع بقاء الوصف الذي كان عليه، بأن يكون في نفسه محرما مع سقوط حكمه، كإجراء كلمة الكفر على لسانه حالة الإكراه مع قيام التصديق بالقلب.

والثاني: أن يسقط الخطر والمؤاخذة جميعًا كأكل الميتة عند المخمصة حتى لو امتنع ومات؛ فإنه يؤاخذ (1) .

(1) البحر المحيط للزركشي: 1 / 327.

ص: 55

ثالثًا: يورد موفق الدين ابن قدامة والبعلي الحنبليان جملة من التعريفات أحدها:

ما ثبت على خلاف دليل شرعي لعارض راجح.

ومن التعريفات التي ذكرها البعلي: ما حكاه عن بعضهم معبرًا عنه بقيل:

استباحة المحظور مع قيام السبب الحاضر.

ثم نقل تعريف الآمدي الذي سبق أن بيناه، وتعريف القرافي الذي عرف الرخصة بأنها جواز الإقدام على الفعل، مع اشتهار المانع منه شرعا.

قال: والمعاني متقاربة (1) .

رابعًا: بعض التعريفات التي ذكرها الأحناف في كتبهم عرفها صدر الشريعة:

بأنها ما استبيح مع قيام المحرم والحرمة، وقال: إن ذلك أحد إطلاقين حقيقيين للرخصة عند الأحناف.

والإطلاق الثاني: هو ما استبيح مع قيام المحرم دون الحرمة (2) .

وعرفها صاحب مسلم الثبوت: بأنها ما تغير من عسر إلى يسر بعذر (3) .

(1) القواعد والفوائد الأصولية ص 115، روضة الناظر وجنة المناظر: 1 / 171 – 173.

(2)

التوضيح: 3 / 83.

(3)

1/ 38.

ص: 56

نظرة عامة في التعاريف السابقة:

إن معظم التعريفات السابقة لم تسلم من إبهام أو قصور، وقد وضحت المراجع المشار إليها ما يتجه من النقد إلى كل تعريف منها، وبقي تعريفان أحدهما للإمام الشاطبي المالكي والآخر للإمام البيضاوي الشافعي. خامسًا – أما الإمام الشاطبي فقد عرف الرخصة في موافقاته فقال: الرخصة ما شرع لعذر شاق استثناء من أصل كلي يقتضي المنع، مع الاقتصار على مواضع الحاجة فيه. ويشرح هذا التعريف فيقول: فكونه مشروعًا لعذر هو الخاصة التي ذكرها علماء الأصول.

وكونه شاقًّا فإنه قد يكون العذر مجرد الحاجة من غير مشقة موجودة فلا يسمى ذلك رخصة، كشرعية القراض مثلاً لعذر في الأصل وهو عجز صاحب المال عن الضرب في الأرض، ويجوز حيث لا عذر ولا عجز، وكذلك المساقاة والقرض والسلم

وكون هذا المشروع لعذر مستثنى من أصل كلي يبين لك أن الرخص ليست بمشروعة ابتداء، فلذلك لم تكن كليات في الحكم.

وكونه مقتصرًا به على موضع الحاجة خاصة من خواص الرخص أيضا لابد منه وهو الفاصل بين ما شرع من الحاجيات الكلية وما شرع من الرخص؛ فإن شرعية الرخص جزئية يقتصر فيها على موضع الحاجة؛ فإن المصلي إذا انقطع سفره وجب عليه الرجوع إلى الأصل من إتمام الصلاة وكذلك سائر الرخص (1) .

سادسًا – والآخر تعريف الإمام البيضاوي وهو ما عبر عنه بأنه: الحكم الثابت بدليل على خلاف الدليل لعذر.

فهذا التعريف قد خلا من المطاعن التي وجهت إلى التعريفات الأخرى كتعريف الآمدي وابن الحاجب اللذين عرفا الرخصة بأنها: المشروع لعذر مع قيام المحرم. كما بينا عند الكلام على التعريفات التي ساقها الآمدي.

شرح التعريف وإخراج محترزاته:

قوله: " الثابت بدليل " أشار به إلى أن الرخصة لابد لها من دليل وإلا لزم ترك العمل بالدليل السالم عن المعارض، فنبه عليه بقوله الثابت؛ لأنه لو لم يكن لدليل لم يكن ثابتًا بل الثابت غيره.

وقوله: " على خلاف الدليل " ولم يقيده بالمحرم كما فعل الآمدي وابن الحاجب ليشمل ما إذا كان الترخيص بجواز الفعل على خلاف الدليل المقتضي للتحريم كأكل الميتة وما إذا كان بجواز الترك، إما على خلاف الدليل المقتضي للوجوب كجواز الفطر في السفر، وإما على خلاف الدليل المقتضي للندب كترك الجماعة بعذر المطر والمرض ونحوهما؛ فإنه رخصة بلا نزاع.

(1) الموافقات: 1 / 300.

ص: 57

وأخرج بهذا القيد عدة أمور:

الأول: الحكم الثابت بدليل راجح في مقابلة حكم ثبت بمرجوح؛ فإن المرجوح لا يسمى دليلا وحينئذ فالحكم الثابت بالدليل الراجح لا يسمى رخصة؛ لأنه لم يثبت على خلاف الدليل مثل إيجاب الوضوء من مس الذكر مع عدم إيجاب الوضوء منه لحديث ((إن هو إلا بضعة منك)) فإيجاب الوضوء لا يسمى رخصة؛ لأن عدم الوضوء ثبت بدليل مرجوح.

الثاني: الحاكم الثابت بدليل ناسخ لحكم ثبت بمنسوخ فإن المنسوخ لا يسمى دليلا مثل إيجاب ثبات الواحد من المسلمين أمام اثنين من الكفار في الحرب؛ فإنه ثبت بقوله تعالى: {الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 66] وهذا الدليل الناسخ لوجوب ثبات الواحد أمام العشرة، فإيجاب ثبات الواحد أمام الاثنين لا يعتبر رخصة؛ لأنه لم يثبت على خلاف الدليل.

الثالث: الأحكام الثابتة على وفق الدليل مثل إباحة الأكل والشرب أو النوم؛ فإنه لم يثبت دليل على منع هذه الأشياء حتى تكون إباحتها ثابتة على خلافه فمثل هذه الأحكام لا تسمى رخصة.

وقوله: " لعذر " يعني المشقة والحاجة أو الضرورة فلا يدخل المانع في العذر كالحيض؛ لأن المشروعية لا تتحقق معه، فلا يسمى إسقاط الصلاة عن الحائض رخصة؛ لأن الحيض مانع من المشروعية، كما يخرج بهذا القيد التكاليف كلها كالصلاة والصوم والزكاة والحج؛ فإنها أحكام ثابتة على خلاف الدليل، ومع ذلك ليست برخصة؛ لأنها لم تثبت لأجل المشقة وإنما ثبتت بأدلتها الخاصة على خلاف الدليل، وهو الأصل والأصل من الأدلة الشرعية (1) .

(1) نهاية السول في شرح منهاج الأصول للإسنوي: 1 / 120.

ص: 58

الفصل الثاني

أنواع الرخصة

للعلماء وجهات مختلفة في تقسيم الرخصة فمنهم من نظر إلى حكم الرخصة فقسمها من هذا الاعتبار إلى عدة أقسام ومنهم من نظر إلى ما يصدق عليه اسم الرخصة فقسمها إلى قسمين: رخصة حقيقية، ورخصة مجازية.

أما الفريق الأول فقد تباينت آراؤهم في تقسيم الرخصة من حيث النظر إلى حكمها، فمنهم من قسمها إلى ثلاثة أقسام ومنهم من زاد على هذا العدد ومنهم من نقص، ولما كان الكلام يتشعب لدى هذا الفريق فنرجئ الكلام عليه بادئين بتقسيم الفريق الثاني، وهم جمهرة الحنفية، ويتفق معهم نفر من غيرهم كالإمام الغزالي.

قسم الحنفية الرخصة إلى أربعة أنواع:

نوعان يطلق عليهما اسم الرخصة حقيقة، وأحدهما أحق باسم الرخصة من الآخر. ونوعان يطلق عليهما اسم الرخصة مجازًا، وأحدهما أتم في المجازية أي أبعد عن حقيقة الرخصة من الآخر.

النوع الأول: الذي هو رخصة حقيقية وهو – أحق بكونه رخصة – ما أباحه الشارع مع قيام الدليل المحرم وحكمه الذي هو الحرمة معا.

مثاله: إجراء كلمة الكفر على اللسان مع الإكراه عليه بالقتل، ومثل هذا ما كان من العبادات مفروضا عينا كالصلاة والصوم الفرض، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ففي هذه الصور أباح الشارع العمل بالرخصة حقيقة بفعل ضدها لكن إذا أخذ ب العزيمة وبذل نفسه كان أولى؛ لأنه لو لم يرخص للمكره في هذه الحالة لزم أن يفوت حق العبد صورة ومعنى بهلاكه، أما في حالة الأخذ بالرخصة فإنه يفوت حق الله تعالى صورة بإجراء كلمة الكفر على اللسان، ولا يفوت معنى؛ لأن قلبه مطمئن بالإيمان.

حكم هذا النوع: الأخذ بالعزيمة في هذا النوع وبذل النفس حسبة لله تعالى في دينه أولى ويثاب لقيام الحرمة ودليلها ولكن يباح له العمل بالرخصة حقيقة بفعل ضدها.

ص: 59

النوع الثاني: وهو ثاني رخصة حقيقية ولكن الأول أحق منه لكونه رخصة ما أباح الشارع، مع قيام الدليل المحرم دون حكمه الذي هو الحرمة.

مثاله: إفطار المسافر في رمضان؛ فإن المحرم للإفطار وهو الدليل الذي أوجب الصوم عند شهود الشهر قائم، وشهود الشهر قائم لكن حرمة الإفطار غير قائمة؛ لأن الشارع رخص في الإفطار لعذر السفر بناء على أن سبب وجوب الصوم تراخي حكمه لقوله تعالى:{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] ومثله فطر المريض.

حكم هذا النوع: العزيمة في هذا النوع أولى ما لم يستقر بها نظرا إلى قيام السبب، وأما إذا استقر فلا أولوية للعزيمة، فإن مات بها أثم لقتله نفسه بلا مبيح.

النوع الثالث: وهو الذي هو رخصة مجازا وهو أتم في المجازية أي أبعد عن الحقيقة من النوع الآخر؛ ما وضعه الشارع عنا في شريعتنا من الأغلال والأحكام الشاقة التي شرعت على من قبلنا من الأمم كقتل النفس في صحة التوبة وأداء الربع في الزكاة والقصاص في القتل عمدا أو خطأ، وإحراق الغنائم، وتحريم الطيبات بسبب الذنوب.

النوع الرابع: وهو الذي رخصة مجازا لكنه أقرب من حقيقة الرخصة من النوع الذي قبله؛ ما سقط عنا مع كونه مشروعا في الجملة، فمن حيث إنه مشروع في حقنا في الجملة كان شبيها بالرخصة الحقيقية بخلاف النوع الثالث؛ فإنه لما لم يكن مشروعا في حقنا أصلا وكان سببه معدوما أيضا كان أبعد من الرخصة الحقيقية.

مثاله: بيع السلم وهو بيع آجل بعاجل سقط اشتراط ملك المبيع فيه مع اشتراطه فيما عداه من البياعات إجماعًا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:((لا تبع ما ليس عندك)) وقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة أو السنتين فقال: ((من أسلف في ثمر فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)) تيسيرا وتخفيفا؛ لأنه من بيع المفاليس فكان رخصة مجازا لا حقيقة؛ لأن السبب المحرم قد انعدم في حقه شرعًا، فلو لم يبع سلما وتلف جوعا أثم لإلقائه بنفسه إلى التهلكة غير ملجئ. واكتفي في صحة السلم بالعجز التقديري، عن المبيع بأن يكون المسلم فيه في ملكه ولكنه مستحق الصرف إلى حاجته ودليل الحاجة إقدامه عليه؛ فإنه لا يرضى بأرخص الثمنين إلا لحاجة فلم يشترط العجز الحقيقي وهو أن لا يكون في ملكه حقيقة (1) .

(1) تيسير التحرير 2 / 228، 233. المستصفى للغزالي 1 / 98.

ص: 60

التقسيم الثاني وهم الذين نظروا إلى الرخصة من حيث حكمها:

قسم الشافعية الرخصة من حيث النظر إلى حكمها إلى الوجوب، والندب والإباحة، وخلاف الأولى وبعضهم قصرها على الثلاثة الأول.

فمثال الرخصة الواجبة أكل الميتة للمضطر؛ فإن هذا الحكم ثبت بدليل وهو قوله تعالى {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] مع قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] وهذا الدليل يخالف الدليل الدال على حرمة أكلها وهو قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] فوجوب أكل الميتة للمضطر رخصة؛ لأنه حكم ثبت بدليل آخر لعذر وهو الاضطرار إلى الأكل لحفظ الحياة.

ومثال الرخصة المندوبة قصر الصلاة الرباعية إذا توفرت شروطه؛ فإن هذا الحكم ثبت بقوله صلى الله عليه وسلم ((هذه صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته)) (1) وهذا الدليل الدال على وجوب الإتمام مثل قوله تعالى {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البقرة: 77] مع فعله عليه السلام المبين لعدد الركعات، فندب القصر رخصة؛ لأنه حكم ثبت بدليل على خلاف دليل آخر لعذر وهذا العذر هو المشقة.

ومثال الرخصة المباحة، إباحة العرايا أو السلم؛ فإن إباحة العريا حكم ثبت بقوله عليه السلام ((وأرخص في العرايا)) وهذا الدليل مخالف للدليل الدال على حرمة الربا – مثل قوله تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] وهذه المخالفة لعذر وهو حاجة الفقراء.

ومثال الرخصة التي هي خلاف الأولى الفطر في نهار رمضان بالنسبة للمسافر الذي لا يتضرر بالصوم فإن هذا الحكم ثابت بقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] وهذا الدليل مخالف لدليل آخر وهو قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وهذه المخالفة لعذر وهو مشقة السفر، وإنما كان الفطر لمن لا يتضرر بالصوم خلاف الأولى لقوله تعالى:{وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] . (2)

(1) رواه الجماعة إلا البخاري، نيل الأوطار 3 / 227 أبواب صلاة المسافر.

(2)

جمع الجوامع 1 / 121. غاية الوصول شرح لب الأصول للشيخ زكريا الأنصاري ص 18 البحر المحيط للزركشي 1 / 329.

ص: 61

وقد يكون الحكم الأصلي الكراهة كترك صلاة الجماعة؛ فإن حكم تركها الكراهة الصعبة لما في الاجتماع عليها من إظهار شعائر الإسلام، ولكن يباح تركها لمرض أو نحوه (1) .

ويقسم البعلي من الحنابلة الرخصة إلى أقسام يتفق مع الشافعية في الأقسام السابقة ويزيد حكما آخر وهو الكراهة قال: ومن الرخص ما هو مكروه كالسفر الترخيص (2) ومثل له السيوطي كالقصر في أقل من ثلاثة مراحل (3) . ومن الرخص ما لا يباح ولا يرخص أصلا لا بالإكراه ولا بخلافه بل هو حرام كقتل المسلم، أو قطع عضو منه، وضرب الوالدين (4) .

وقال الزركشي: جميع الأصوليين يقسمون الرخصة إلى الأقسام الثلاثة المذكورة. وكان بعض الفضلاء يثير في ذلك بحثا، وهو أنه إما أن يكون مقصودهم ذكر ما وقع به الترخيص، أو ذكر الحالة التي صارت إليها العبادة بعد الترخيص، فإن كان الأول فالظاهر أن الرخصة إنما هي مجرد الإحلال، لأن الإحلال هو الذي جعل له التيسير والسهولة وكون ذلك الذي حل يعرض له أمر آخر يصيره واجبا ليس في الرخصة في شيء، فالترخيص للمضطر من أكل الميتة إنما هو إحلالها بعد أن كانت حراما، وكونها يجب عليه أمر آخر نشأ عن وجوب حفظ النفس فلا يكون عذر التحقيق إلا بمجرد الإحلال.

وإن كان مرادهم ذكر الأحوال التي صارت إليها العبادة بعد الترخيص فتقسيمها إلى ثلاثة فيه نظر، فإنها تنقسم إلى أربعة عشر نوعا؛ لأن الأحكام خمسة. وكل منها إذا صار إلى حكم آخر يخرج منه خمسة أقسام في الخمسة السابقة، فهي خمسة وعشرون قسما، يسقط منها انتقال كل حكم إلى نفسه فهو محال؛ صارت عشرين. يسقط منها الترخيص في المباح إلى الأربعة وهو محال؛ لأنه لا شيء أحق من الإباحة، فلا رخصة فيها؛ صارت ستة عشر. ويسقط منها تخفيف المستحب إلى الواجب فإنه لا تسهيل فيه، وكذلك تخفيف المكروه إلى الحرام محال أيضا فيبقى أربعة عشر قسما.

(1) غاية الوصول شرح لب الأصول ص 18. وجمع الجوامع 1 / 122.

(2)

القواعد والفوائد شرح لب الأصول ص 18. وجمع الجوامع 1 / 122.

(3)

الأشباه والنظائر ص 82.

(4)

شرح الأتاسي على المجلة 1 / 55، 56.

ص: 62

الأول: رخصة واجبة أصلها التحريم كأكل الميتة للمضطر.

الثاني: رخصة مستحبة أصلها التحريم كالقصر في السفر بعد ثلاثة أيام.

الثالث: رخصة مكروهة أصلها التحريم كالقصر دون ثلاثة أيام والترخيص في النقل عن التحريم إلى الكراهة.

الرابع: رخصة مباحة أصلها التحريم كالتيمم عند وجود الماء بأكثر من ثمن المثل، وكذلك عند بذل الماء له، أو بذل آلة الاستقاء أو إقراض الثمن، وكذلك إذا وجد المضطر المحرم صيدا فذبحه وميتة فيتخير بينهما.

الخامس: رخصة مستحبة أصلها الوجوب كإتمام الصلاة قبل ثلاثة أيام وكالصوم في السفر للقوي والترخيص في النقل في العقود (1) .

وقال الشيخ محمد الجوهري في حاشيته على شرح شيخ الإسلام أبو يحيى زكريا الأنصاري الشافعي الموسوم بلب الأصول عند قوله: (وقد بينت في الحاشية كمية أقسام الرخصة الحاصلة بالانتقال من حكم إلى آخر) حيث قال فيها: وعلى ظاهر كلام الماوردي فأقسام الرخصة خمسة عشر حاصلة من الانتقال من حرام إلى الخمسة الباقية ومن واجب إلى ما عداه والحرام، ومن مندوب إلى مباح، ومن مكروه إلى خلاف الأولى إلى مباح إلى مندوب، ومن خلاف الأولى إلى مباح إلى مندوب وعلى ما قاله المصنف ثلاثة عشر. ثم قال: والمراد بما قاله المصنف أنها لا توصف الرخصة بالكراهة فيسقط أن الرخصة لا تكون محرمة ولا مكروهة (2) .

وقد ذكر بعضهم أن الرخصة قد تكون حراما ومثلوا له بالاستنجاء بذهب أو فضة، وأجيب عنه بأن الحرمة ليست لخصوص الاستنجاء حتى تكون رخصة بل لعموم الاستعمال. وأما أن تكون الرخصة مكروهة فقد سبق بيانه. ومثل له بالفطر دون ثلاث مراحل (3) .

(1) البحر المحيط 1 / 330. وغاية الوصول ص 18 – لم يذكرا الباقي.

(2)

غاية الأصول: ص 18، 19.

(3)

المصدر ذاته، وينظر الأشباه والنظائر للسيوطي ص 82.

ص: 63

موقف الإمام الشاطبي من الرخصة:

يرى الإمام الشاطبي أن حكم الرخصة الإباحة مطلقا ويسوق لمذهبه طائفة من الأدلة نجملها في الآتي:

الأول: موارد النصوص عليها كقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] وقوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101] وقوله: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] وأشباه ذلك من النصوص الدالة على رفع الحرج والإثم مجردا لقوله {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} وقوله {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ولم يرد في جميعها أمر يقتضي الإقدام على الرخصة بل إنما أتى بما ينفي المتوقع في ترك أصل العزيمة وهو الإثم والمؤاخذة على حد ما جاء في كثير من المباحات بحق الأصل كقوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236]{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198]{وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة: 235] إلى غير ذلك من الآيات المصرحة بمجرد رفع الجناح وبجواز الإقدام خاصة.

الثاني: أن الرخصة أصلها التخفيف عن المكلف ورفع الحرج عنه حتى يكون من ثقل التكليف في سعة، واختيار بين الأخذ بالعزيمة، والأخذ بالرخصة، وهذا أصله الإباحة كقوله:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]{مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس: 32] بعد تقرير نعم كثيرة.

وأصل الرخصة السهولة، ومادة رخص للسهولة واللين، كقولهم: شيء رخص بين الرخوصة، ومنه الرخص ضد الغلاء، ورخص له في الأمر فترخص هو فيه: إذا لم يستقص له فيه فمال هو إلى ذلك، وهكذا سائر استعمال المادة.

الثالث: لو كانت الرخص مأمورا بها ندبا أو وجوبا لكانت عزائم الأرخص، والحال يفيد ذلك، فالواجب هو الحتم اللازم الذي لا خيرة فيه، والمندوب كذلك من حيث مطلق الأمر ولذلك لا يصح أن يقال في المندوبات أنها شرعت للتخفيف والتسهيل من حيث هي مأمور بها، فإذا كان كذلك ثبت أن الجمع بين الأمر والرخصة جمع بين متنافيين، وذلك يبين أن الرخصة لا تكون مأمورا بها من حيث هي رخصة (1) .

(1) الموافقات 1 / 307، 309.

ص: 64

معنى الإباحة:

ويقصد الشاطبي بالإباحة أحد معنييها وهو رفع الحرج، ولا يقصد المعنى الآخر وهو التخيير بين الفعل والترك، ويستدل على ما ذهب إليه بجملة من النصوص الدالة على الرخص، وما تدل عليه ظواهر هذه النصوص، فيقول: فالذي يظهر من نصوص الرخص أنها بمعنى رفع الحرج لا بالمعنى الآخر، وذلك ظاهر في قوله تعالى:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] وقوله في الآية نفسها: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173] فلم يذكر في ذلك أن له الفعل والترك، وإنما ذكر أن التناول في حال الاضطرار يرفع الإثم وكذلك قوله:{وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] ولم يذكر لفظا يدل على التخيير بين الفعل والترك، بل ذكر نفس العذر، وأشار إلى أنه إن أفطر فعدة من أيام أخر وكذلك قوله {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101] ولم يقل: فلكم أن تقصروا، أو فإن شئتم فاقصروا.

ويستطرد في سوق الأدلة على أن التخيير غير مراد وأن الجمهور أو الجميع يقولون: من لم يتكلم بكلمة الكفر مع الإكراه مأجور وفي أعلى الدرجات، والتخيير ينافي ترجيح أحد الطرفين على الآخر (1) .

(1) الموافقات 1 / 318، 319.

ص: 65

الفصل الثالث

ضوابط الأخذ بالرخصة

وضع الفقهاء والأصوليون مجموعة من القواعد التي تعين على معرفة مواطن الأخذ بالرخصة نجملها بعد أن نلم إلمامة سريعة بما قرره الإمام الشاطبي في هذا الشأن، تناول الشاطبي بإسهاب متى يجوز الأخذ بالرخصة ومتى يمتنع وبين أن هناك مجالا للترجيح بين العزيمة والرخصة، ووازن بينهما ليظهر أيهما أحق بالأخذ، وأفاض في ذكر الأدلة التي ترجح الأخذ بالعزيمة، ثم أتبعها بذكر الأدلة التي ترجح جانب الأخذ بالرخصة (1) .

وينتهي إلى القول بأن الأدلة في ترك الرخص إذا تعين سببه بغلبة الظن أو قطع، وقد يكون الترخص أولى في بعض المواضع وقد يستويان. وإما إذا لم يكن غلبة الظن فلا إشكال في منع الترخص (2) .

ويؤكد على أن الرخصة إضافية لا أصلية وأن كل مكلف فقيه نفسه في الأخذ بها ما لم يحد فيها حد شرعي فيتوقف عنده (3) .

أما القواعد التي وضعها الفقهاء والأصوليون للأخذ بالرخصة في مواطنها فمدارها على هذه القواعد الخمسة نسردها أولا، ثم نجمل بكلمة موجزة على كل واحد منها حتى ينقشع الغموض ويزول الالتباس.

1-

قاعدة: المشقة تجلب التيسير، وفي معناها: الأمر إذا ضاق اتسع.

2-

قاعدة: لا ضرر ولا ضرار.

3-

قاعدة: يتحمل العذر الخاص لدفع الضرر العام.

4-

قاعدة: الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة.

5-

قاعدة: ما جاز لعذر بطل بزواله.

(1) الموافقات 1 / 323، 330.

(2)

الموافقات 1 / 345.

(3)

الموافقات 1 / 314.

ص: 66

أولاً – قاعدة " المشقة تجلب التيسير:

الأصل في هذه القاعدة قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وقوله صلى الله عليه وسلم: ((بعثت بالحنيفية السمحة)) – رواه أحمد في المسند من حديث جابر بن عبد الله وأخرج أحمد في مسنده والطبراني والبزار وغيرهما عن ابن عباس قال: قيل يا رسول الله، أي الأديان أحب إلى الله، قال:((الحنيفية السمحة)) . وأخرجه البزار من وجه آخر بلفظ: ((أي الإسلام)) . وروى الطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((إن أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة)) .

وروى الشيخان وغيرهما من حديث أبي هريرة وغيره: ((إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين)) وحديث: ((يسروا ولا تعسروا)) .

وروى الشيخان عن عائشة رضى الله عنها ((ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين، إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثما)) .

قال العلماء: يتخرج على هذه القاعدة جميع رخص الشرع وتخفيفاته، وعقب واضعوا مجلة الأحكام العدلية على هذه المادة: يعني أن الصعوبة تصير سببا للتسهيل ويلزم التوسيع في وقت المضايقة، ويتفرع عن هذا الأصل كثير من الأحكام الفقهية كالقرض والحوالة والحجر والوصية والسلم والإقالة والرهن والإبراء والشركة وغير ذلك، وما جوزه الفقهاء من الرخص والتخفيفات في الأحكام الشرعية مستنبط من هذه القاعدة.

ويقول السيوطي في الأشباه وكذا ابن نجيم: أسباب التحقيق في العبادات وغيرها سبعة:

الأول: السفر قال النووي ورخصه ثمانية: منها ما يختص بالطويل قطعًا وهو القصر والفطر والمسح أكثر من يوم وليلة. ومنها ما لا يختص به قطعًا وهو ترك الجمعة وأكل الميتة. ومنها ما فيه خلاف والأصح اختصاصه به وهو الجمع. ومنها ما فيه خلاف والأصح عدم اختصاصه به وهو التنفل على الدابة وإسقاط الفرض بالتيمم.

الثاني: المرض، ورخصه كثيرة: التيمم عند مشقة استعمال الماء، والقعود في صلاة الفرض والتخلف عن الجماعة والجمعة، والفطر في رمضان، والانتقال من الصوم إلى الإطعام في الكفارة، والاستنابة في الحج وفي رمي الجمار، وإباحة محظورات الإحرام مع الفدية، والتداوي بالنجاسات وبالخمر على وجه، وإساغة اللقمة إذا غص بالاتفاق، وإباحة النظر للطبيب حتى العورة والسوأتين.

ص: 67

الثالث: الإكراه.

الرابع: النسيان.

الخامس: الجهل.

السادس: العسر وعموم البلوى، كالصلاة مع النجاسة المعفو عنها كدم القروح والدمامل، والبراغيث، والقيح والصديد، وقليل دم الأجنبي، وطين الشارع، وأثر نجاسة عسر زواله، وذروق الطير إذا عم في المساجد، والجمع في المطر، وترك الجماعة والجمعة بالأعذار، ولبس الحرير للحكة والقتال، وبيع نحو الرمان والبيض في قشره، والموصوف في الذمة بالسلم، مع النهي عن بيع الغرر، والاكتفاء برؤية الصبرة وأنموذج المتماثل، وبارز الدار عن أسسها ومشروعية الخيار، لما كان البيع يقع غالبا من غير مسرة، ويحصل فيه التبرم فيشق على العاقد، فسهل الشارع ذلك عليه بجواز الفسخ في مجلسه، وشرع له أيضا شرطه. ومشروعية الرد بالعيب والتحالف، والإقالة والحوالة، والرهن والضمان والإيراد، ومن التخفيف جواز العقود الجائزة؛ لأن لزومها يشق ويكون سببا لعدم تعاطيها، ومنها إباحة النظر عند الخطبة وللتعليم، والإشهاد والمعاملة والمعالجة، ومشروعية التخيير بين القصاص والدية تيسيرًا على هذه الأمة على الجاني والمجني عليه، ومنه إسقاط الإثم عن المجتهدين في الخطأ والتيسير عليهم بالاكتفاء بالظن، ولو كلفوا الأخذ باليقين لشق وعسر الوصول إليه.

قال: وقد بان بهذا أن هذه القاعدة يرجع إليها غالب أبواب الفقه.

السابع: النقص، فإنه نوع من المشقة إذ النفوس مجبولة على حب الكمال فنسابه التخفيف في التكليفات، فمن ذلك عدم تكليف الصبي والمجنون، وعدم تكليف النساء بكثير مما يجب على الرجال كالجماعة والجمعة، والجهاد والجزية، وتحمل الفعل وغير ذلك (1) .

(1) الاشباه والنظائر للسيوطي ص 76، 80 – ولابن نجيم ص 75، 82.

ص: 68

المشقة التي تقتضي التخفيف:

ولا ينبغي أن يفهم أن كل مشقة داعية للتخفيف، فالمشاق على قسمين.

1-

مشقة لا تنفك عنها العبادة غالبا كمشقة البرد في الوضوء والغسل، ومشقة الصوم في شدة الحر وطول النهار، ومشقة السفر التي لا انفكاك للحج والجهاد، ومشقة الحدود فلا أثر لهذه في إسقاط العبادات في كل الأوقات.

وأما المشقة التي تنفك عنها العبادات غالبا فعلى مراتب:

الأولى: مشقة عظيمة فادحة كمشقة الخوف على النفوس والأطراف ومنافع الأعضاء، فهي موجبة للتخفيف والترخيص؛ لأن حفظ النفوس والأطراف لإقامة مصالح الدين أولى من تعريضها للفوات في عبادة. وكذا إذا لم يكن للحج طريق إلا من البحر وكان الغالب عدم السلامة لم يجب.

الثانية: مشقة خفيفة كأدنى وجع في إصبع أو أدنى صداع في الرأس فهذا لا أثر له ولا التفات إليه، لأن تحصيل مصالح العبادات أولى من دفع مثل هذه المفسدة التي لا أثر لها.

الثالثة: متوسطة بين هاتين المرتبتين: فما دنا من المرتبة العليا أوجب التخفيف أو من الدنيا لم يوجبه (1) .

ثانيًا – قاعدة " لا ضرر ولا ضرار ":

هذه القاعدة مأخوذة من الحديث الشريف الذي يرويه أبو سعيد الخدري (2) .

يقول السيوطي: هذه القاعدة ينبني عليها كثير من أبواب الفقه، من معناها " الضرر يزال ".

ويتعلق بها قواعد مثل " الضرورات تبيح المحظورات "(3) .

ويقول الأتاسي في تعليقه على هذه المادة: هذه قاعدة أصولية مأخوذة من النص وهو قوله تعالى: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] إلا أنه ينبغي ألا تفهم على عمومها بل يخرج عن دائرتها كثير من الأحكام فهي من قبيل العام المخصوص.

ويقول الشيخ علي حيدر: هذه القاعدة وإن كانت عامة فهي من نوع العام المخصوص لا تصدق إلا على قسم مخصوص مما تشمله؛ لأن التعازير الشرعية ضرر ولكن إجراءها جائز (4) .

(1) الاشباه والنظائر للسيوطي ص 79، 80 – ولابن نجيم 80، 82.

(2)

شرح المجلة للشيخ خالد الأتاسي 1 / 24.

(3)

الأشباه للسيوطي ص 82، شرح الأتاسي 1 / 54.

(4)

شرح علي حيدر على نصوص المجلة 1 / 33.

ص: 69

ثالثًا – قاعدة " تحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام ":

هذه قاعدة مهمة من قواعد الشرع مبنية على المقاصد الشرعية في مصالح العباد استخرجها المجتهدون من الإجماع ومعقول النصوص ومن أمثلة هذه القاعدة:

إنكار المنكر وإزالته، فإذا ترتب على إزالته وقوع منكر أعظم أو يعم ضرره بترك الإنكار، فهذه القاعدة تجري في كل مسألة تدور بين ضررين خاص وعام، وكثير من الأوامر والنواهي الشرعية والحدود والعقوبات مشروع لهذا المعنى. ومنها التسعير بسعر معتدل بمعرفة أهل الخبرة عند تعدي أرباب الطعام في بيعه بغبن فاحش دفعًا للضرر العام.

ومنها بيع الطعام عند الحاجة جبرًا على صاحبه إذا امتنع عن بيعه (1) .

رابعًا – قاعدة "الحاجة تنزل منزلة الضرورة "

عامة كانت أو خاصة:

ومعناها أن الضرورة وإن كانت أشد إلا أن الحاجة عامة كانت أو خاصة تنزل منزلتها في تجويز الممنوع شرعًا، والفرق بين الضرورة والحاجة أن ما جاز للضرورة يقدر بقدرها وليس كذلك للحاجة، كذلك ما جاز للضرورة منها ما يتغير بسببها الحكم من الحرمة إلى الإباحة كأكل الميتة، ومنه ما لا تسقط حرمته بحال، ولكن يرخص عند الضرورة كإجراء كلمة الكفر بالإكراه الملجئ مع اطمئنان القلب بخلاف الحاجة (2) .

ومن أمثلة هذه القاعدة تجويز بيع الوفاء حيث إنه لما كثرت الديون على أهل بخارى مست الحاجة إلى ذلك.

والقياس يقتضي عدم جوازه لوجود شرط فيه نفع لأحد العاقدين لكن جوازه للحاجة بسبب كثرة الديون على أهل بخارى وهكذا بمصر وسموه بيع الأمانة، والشافعية يسمونه الرهن المعاد.

وكذلك بيع المعدوم باطل لكن جوز في الإجارة والسلم بالنص وفي الاستصناع بالإجماع لحاجة الناس (3) .

خامسًا – قاعدة " ما جاز لعذر بطل بزواله ":

وفي معناها قاعدة " الضرورات تقدر بقدرها "، ومؤدى هاتين القاعدتين أن كل فعل أوترك جوز للضرورة فالتجويز على قدرها ولا يتجاوز عنها، فمن أصابته مخمصة فاضطر لأكل الميتة أو مال الغير يتناول مقدار ما يسد الرمق لدفع الهلاك.

ويتخرج على القاعدة المشار إليها كثير من أحكام العوارض على أهلية الإنسان سواء كانت سماوية أو مكتسبة كعذر السفر المؤدي إلى إباحة الفطر وقصر الصلاة وترك الجمع، فإذا زال العذر يرتفع ذلك، وكأعذار الصغر والجنون والعته والسفه والمماطلة الموجبة للحجر على الصغير والمجنون والسفيه والمديون المماطل، يرتفع الحجر بزوالها (4) . هذه أهم القواعد والضوابط التي تعرض لها الفقهاء القدامى والأصوليون ويردها الفقهاء المعاصرون إلى أمرين هما الضرورة ورفع الحرج والمشقة (5) .

(1) شرح المجلة للأتاسي 1 / 26، وشرح علي حيدر 1 / 36.

(2)

شرح الأتاسي 1 / 56 – 57.

(3)

شرح الأتاسي 1 / 76. علي حيدر 1 / 38. الأشباه لابن نجيم ص 92.

(4)

شرح الأتاسي 1 / 76. علي حيدر 1 / 38. الأشباه لابن نجيم ص 92.

(5)

أصول الفقه للشيخ أبي زهرة ص 51، وأصول الفقه للشيخ بدران أبو العينين ص 367.

ص: 70

الفصل الرابع

في تتبع الرخص وآراء الفقهاء والأصوليين

تباينت أنظار العلماء في تتبع الرخص على أقوال: فمنهم من لم ير في تتبع الرخص بأسا، ومنهم من فصل القول فيه، ومنهم من قيده بقيود، ومنهم من منع ذلك.

والمراد بالرخصة هنا الرخصة بمعناها اللغوي وهي السهولة، سواء انطبق عليها حد الرخصة اصطلاحا أم لا، وذلك بأن يختار الأهون عليه والأخف له (1) .

كما بنى الأصوليون الخلاف في هذه المسألة على الخلاف في وجوب الاستمرار على مذهب واحد، يقول الشيخ نجيب المطيعي: ويتخرج على القول بأنه لا يجب الاستمرار على مذهب واحد جواز اتباعه رخص المذاهب. ونقل عن فتح القدير قوله: لعل المانعين للانتقال إنما منعوا لئلا يتتبع أحد رخص المذاهب (2) .

وفيما يلي مذاهب العلماء واتجاهاتهم في هذه المسألة:

الاتجاه الأول – وهم المجوزون:

ذهب الكمال بن الهمام وابن أبي هريرة، وأستاذه أبو إسحاق المروزي إلى أنه يجوز للمقلد أن يتتبع رخص المذاهب، بمعنى أن يأخذ من كل مذهب ما هو أهون عليه وأيسر؛ لأنه لم يوجد في الشرع ما يمنع من ذلك، بل ربما كان فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وقوله معضدين لذلك، ((فإن الرسول صلى الله عليه وسلم – ما خير بين شيئين إلا اختار أيسرهما)) وقد ورد في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها – ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب ما تخفف عن أمته.)) وقال عليه السلام:((إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه)) (3) . وهي رواية عن الإمام أحمد، ذكر بعض الحنابلة أن هذا مذهب أحمد بن حنبل، فإنه قال لبعض أصحابه: لا تحمل الناس على مذهبك فيخرجوا، دعهم يترخصوا بمذاهب الناس. وسئل عن مسألة من الطلاق فقال: يقع يقع، فقال له السائل: فإن أفتاني أحد أنه لا يقع يجوز؟ قال: نعم (4) .

(1) جمع الجوامع 2 / 400.

(2)

سلم الوصول لشرح نهاية السول 2 / 619. فواتح الرحموت مع المستصفى للغزالي 2 / 406. تيسير التحرير 4 / 254.

(3)

تيسير التحرير 4 / 254. مسلم الثبوت 2 / 504. جمع الجوامع 2 / 400.

(4)

إرشاد الفحول للشوكاني ص 272.

ص: 71

الاتجاه الثاني – وهم المقيدون، وهؤلاء لهم عدة اتجاهات:

الأول – لابن عبد البر وقد نقل أنه لا يجوز للعامي تتبع الرخص، وقد حكي الإجماع في ذلك.

ولم يسلم له حكاية الإجماع، قالوا: إن في تفسيق المتتبع للرخص روايتين عن أحمد، وحمل القاضي أبو يعلى الرواية المفسقة على غير متأول ولا مقلد (1) .

الثاني – وذهب القرافي إلى أنه يجب أن لا يترتب على تقليد الغير ما يمنعانه بإيقاع الفصل على وجه يحكم ببطلانه المجتهدان معا لمخالفته الأولى فيما قلد فيه غيره، والثاني في شيء فيما يتوقف عليه صحة ذلك العمل عنده، كمن قلد الشافعي في عدم فرضية الدلك للأعضاء المغسولة في الوضوء والغسل، وقلد مالكا في عدم نقض اللمس بلا شهوة للوضوء وصلى فإن صلاته باطلة عندهما. إلا أن هذا الرأي لم يسلم أيضا من النقاش وذلك بمنع بطلان الصورة المذكورة، فإن مالكا لم يقل إن من قلد الشافعي في عدم الصداق أن نكاحه باطل، ولم يقل الشافعي أن من قلد مالكا في عدم الشهود أن نكاحه باطل.

وكون أحد المجتهدين لا يجد في صورة التلفيق جميع ما شرط في صحتها، بل يجب في بعضها دون بعض، وهذا الفارق لا يكون موجبا للحكم بالبطلان، والمخالفة في بعض الشروط أهون من المخالفة في الجميع، فيلزم الحكم بالصحة في الأهون بالطريقة الأولى، ومن يدعي وجود فارق أو وجود دليل آخر على بطلان صورة التلفيق على خلاف الصورة الأولى فعليه بالبرهان.

وقد توزع كون المخالفة في البعض أهون من المخالفة في الكل، لأن المخالفة في الكل تتبع مجتهدا واحدا في جميع ما يتوقف عليه صحة العمل وههنا لم يتبع واحدا.

ورد هذا النقاش بأنه يتم هذا إذا كان ثمة دليل من نص أو إجماع أو قياس قوي يدل على أن العمل إذا كان له شروط يجب على المقلد اتباع مجتهد واحد في جميع ما يتوقف عليه ذلك، وليس ثمة دليل عليه (2) .

الثالث – وقال الروياني: يجوز تقليد المذاهب بثلاثة شروط:

الشرط الأول: أن لا يجمع فيهما على صورة تخالف الإجماع كمن تزوج بغير صداق ولا ولي ولا شهود، فإن هذه الصورة لم يقل بها أحد.

الشرط الثاني: وأن لا يتتبع رخص المذاهب.

(1) البحر المحيط 6 / 325. تيسير التحرير 4 / 254.

(2)

تيسير التحرير 2 / 254.

ص: 72

وتعقب القرافي هذا بأنه إن أراد بالرخص ما ينقض فيه قضاء القاضي وهو أربعة: ما خالف الإجماع أو القواعد أو النص أو القياس الجلي فهو حسن متعين، فإن ما لا نقره مع تأكيد بحكم الحكم فأولى أن لا نقره قبل ذلك، وإن أراد بالرخص ما فيه سهولة على المكلف كيفما كان يلزمه أن يكون من قلد مالكا في المياه والأرواث، وترك الألفاظ في العقود؛ مخالفًا لتقوى الله، وليس كذلك.

وتعقب الشرط الأول: بأن الجمع المذكور ليس بضائر فإن مالكا مثلا لم يقل إن من قلد الشافعي في عدم الصداق أن نكاحه باطل وإلا لزم أن تكون أنكحة الشافعية عنده باطلة، ولم يقل الشافعي أن من قلد مالكًا في عدم الشهود أن نكاحه باطل وإلا لزم أن تكون أنكحة المالكية بلا شهود عنده باطلة (1) .

ووافق ابن دقيق العيد الروياني على اشتراط أن لا يجتمع في صورة يقع الإجماع على بطلانها، وأبدل الشرط الثالث بأن لا يكون ما قلد فيه مما ينقض فيه الحكم لو وقع. واقتصر العز بن عبد السلام على اشتراط هذا قال: وإن كان المأخذان متقاربين جاز (2) .

الشرط الثالث: انشراح صدره للتقليد المذكور وعدم اعتقاده لكونه متلاعبا بالدين متساهلا فيه ودليل هذا الشرط، قوله صلى الله عليه وسلم:((والإثم ما حاك في الصدر)) فهذا تصريح بأن ما حاك في النفس ففعله إثم (3) .

(1) حاشية الشيخ المطيعي على نهاية السول للإسنوي 4 / 627.

(2)

حاشية الشيخ المطيعي على نهاية السول 4 / 629.

(3)

حاشية الشيخ المطيعي على نهاية السول 4 / 629.

ص: 73

الاتجاه الثالث: وهم المانعون:

جاء في سنن البيهقي عن الأوزاعي أن من أخذ بنوادر العلماء خرج عن الإسلام.

وروي عنه أنه قال: يترك من قول أهل مكة المتعة والصرف، ومن قول أهل المدينة السماع، ومن قول أهل الشام الحرب والطاعة، ومن قول أهل الكوفة النبيذ. وحكى البيهقي عن إسماعيل القاضي قوله: من جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه (1) .

ونقل الزركشي الجزم عن النووي بأنه لا يجوز تتبع الرخص (2) .

هذا مجمل ما قاله العلماء في هذه المسألة. والحق أنه من منعه بإطلاق فيه إجحاف بالفقه الإسلامي وبجهود فقهائه الذين أفنوا أعمارهم بنية صادقة وجهود مخلصة في الوقوف على أسرار التشريع واستخراج عيون المسائل والأحكام من أدلته، كما لا يمكن مجاراة المجوزين بإطلاق؛ فإن في ذلك انحلالاً من ربقة التكاليف ولذلك لابد من القصد في ذلك والتوسط بين الأمرين، فلا يكون التتبع لمجرد التشهي أو التلهي كما نص على ذلك وبين نظام الدين الأنصاري في فواتح الرحموت كعمل حنفي بالشطرنج على رأي الشافعي قصدا إلى اللهو، وكشافعي شرب المثلث للتلهي به، ولعل هذا حرام بالإجماع؛ لأن التلهي حرام بالنصوص القاطعة (3)، ومثله ما ورد عن الإمام أحمد قوله: لو أن رجلاً عمل بقول أهل الكوفة في النبيذ وأهل المدينة في السماع وأهل مكة في المتعة كان فاسقًا (4) .

وقال سليمان الثيمي: إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله.

فعلى هذا ينبغي ألا يؤدي الأخذ بالرخص بحيث يؤدي إلى انحلال الدين، ذلك أن نوادر العلماء كما يقول الشيخ محمد سعيد الباني (5) نوعان:

النوع الأول: الأقوال المرجوحة فهذه يسوغ الترخص بها فيما يظهر عند الضرورات والدواعي الموجبة ويمتنع الأخذ بها على سبيل التشهي والاسترسال مع عواصف الأهواء وتيار الملاذ، لأن ذلك يفضي إلى التلاعب بالدين والخروج من عهدة التكاليف الشرعية.

النوع الثاني: الأقوال الشاذة التي تدعى بزلات العلماء كجواز إعارة الجواري للوطء، وجواز الأكل للصائم في رمضان ما بين الفجر والإسفار، فأمثال هذه الأقوال على فرض صحة نسبتها إلى أصحابها لا يجوز الأخذ بها البتة لأنها من الشواذ المخالفة لأصول الشريعة وقواعدها.

وأفضل بدل إطلاق تتبع الرخص عليها أن نسميها بتتبع زلات العلماء أو هفواتهم حتى تكون عنوانا على ما لا يسوغ الأخذ به فضلا عن تتبعه، والله أعلم.

(1) إرشاد الفحول للشوكاني ص 272.

(2)

البحر المحيط 6 / 325.

(3)

2 / 406

(4)

إرشاد الفحول للشوكاني ص 272.

(5)

عمدة التحقيق ص 120. وينظر أيضا الموسوعة الفقهية مصطلح رخصة 22 / 164.

ص: 74

الفصل الخامس

التلفيق ورأي الفقهاء والأصوليين

مسألة التلفيق تعتبر من المسائل التي لم يبدأ الخوض فيها إلا في العصور الإسلامية المتأخرة. وقد ظهرت العناية بها واضحة في نطاق العبادات ومسائل الزواج والطلاق، ثم إنه منذ ظهور الاتجاه إلى تخير الأحكام من المذاهب الفقهية والحاجة تقوى وتشتد في بحث المسألة والاهتمام بها.

والمعنى اللغوي لهذه الكلمة هو: ضم الأشياء والملاءمة بينها لتكون شيئا واحدا أو لتسير على وتيرة واحدة، وإن هذا المعنى لها هو الأكثر استعمالا، وهو مراد الفقهاء والأصوليين عند استعمالهم لها (1) .

ويذكر صاحب عمدة التحقيق تعريفا له بأنه الإتيان بكيفية لا يقول بها مجتهد، وذلك بأن يلفق في قضية وحجة بين قولين أو أكثر يتولد منها حقيقة مركبة لا يقول بها أحد، كمن توضأ فمسح بعض شعر رأسه مقلدا للإمام الشافعي، وبعد الوضوء مس أجنبية مقلدا للإمام أبي حنيفة فإن وضوءه على هذه الهيئة حقيقة مركبة لم يقل بها كلا الإمامين، ونحو ذلك من الصور التي لا تحصى، سواء كانت حقائقها مركبة من قولين أو أكثر (2) .

وقريب من هذا التعريف ما ذكرته الموسوعة الفقهية بأن المراد بالتلفيق بين المذاهب أخذ صحة الفعل من مذهبين معا بعد الحكم ببطلانه على كل واحد بمفرده (3) . ويذهب بعض الفقهاء المعاصرين إلى أن التلفيق بالمعنى السابق يمكن حصره في:

1-

التلفيق في الاجتهاد.

2-

التلفيق في التقليد.

3-

التلفيق في التشريع.

ويقصد بالتلفيق في الاجتهاد هو أن يختلف المجتهدون في عصر في مسألة فيكون لهم فيها قولان أو أقوال. ثم يأتي من بعدهم من يجتهد في الموضوع نفسه ويؤدي اجتهاده إلى الأخذ من كل قول ببعضه ويكون مجموع ذلك مذهبه في المسألة المجتهد فيها (4) وهذا النوع من التلفيق تناولته كتب الأصول في مبحث أنواع الإجماع وعنه جملة مسائل نذكر بعضا منها.

(1) أساس البلاغة للزمخشري مادة لفق. الموسوعة الفقهية مصطلح تلفيق 13 / 286.

(2)

عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق ص 91، 92.

(3)

الموسوعة الفقهية مادة لفق 13 / 293، 294.

(4)

من بحث للمرحوم الشيخ محمد أحمد فرج السنهوري بعنوان: التلفيق بين أحكام المذاهب مقدم لمجمع البحوث الإسلامية في مؤتمره الأول نشر مقتطفات منه بمجلة الأزهر عدد ذي القعدة سنة 1383 هـ – إبريل سنة 1964 م.

ص: 75

المسألة الأولى: إحداث قول ثالث بعد قولين في المسألة، وقريب منها إذا أفتى المجتهدون في عصر بحكم واحد في مسألتين بدون تفصيل فهل يجوز لمن بعدهم أن يفرق بينهما فيه؟ وهي المسألة الثانية.

المسألة الثالثة: إذا اختلف المجتهدون في العصر الواحد في حكم المسألة على قولين فهل يجوز لمن بعدهم الاتفاق على أحد القولين؟ فنتكلم على كل واحدة من هذه المسائل الثلاث بإيجاز:

أما عن المسألة الأولى:

وهو أن يختلف المجتهدون في عصر من العصور في مسألة من المسائل على قولين فهل لمن بعدهم إحداث قول ثالث؟

اختلف الأصوليون في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:

الأول: لا يجوز إحداث قول ثالث مطلقًا وهو الأكثر على ما قاله الإمام الآمدي وقال في التيسير: نص عليه الإمام محمد والشافعي في الرسالة.

الثاني: يجوز مطلقا وهو قول أهل الظاهر وبعض الحنفية.

الثالث: التفصيل وهو إن لم يرفع شيئا مما أجمع عليه القائلان الأولان جاز إحداثه، وإن رفعه فلا يجوز وهو المختار للرازي والبيضاوي والآمدي.

ص: 76

مثال ما لا يرفع شيئًا مما أجمع عليه السابقون:

اختلافهم في جواز أكل المذبوح بلا تسمية.

قال بعضهم: يحل مطلقا سواء كان الترك عمدا أو سهوا.

وقال بعضهم: لا يحل مطلقا.

فالتفصيل بين العمد والسهو ليس رافعا لشيء أجمع عليه القائلون بل هو موافق في كل قسم منه لقائل.

ومثال ما يرفع متفقا عليه:

ميراث الجد مع الإخوة، قيل: يرث المال كله، وقيل: يقاسم الإخوة. فالقول بأنه لا يرث أصلاً قول ثالث، وقد رفع ما أجمع عليه أصحاب القولين السابقين.

والخلاف في هذه المسألة يثبت إن كان المجتهدون جميعهم تكلموا في المسألة واختلفوا فيها على قولين كما صرح به الإمام الغزالي في المستصفى، وأما مجرد نقل القولين في عصر من الأعصار فإنه لا يكون مانعا من إحداث القول الثالث، لأنا لا نعلم هل تكلم الجميع فيها أم لا؟

وقد استدل المانعون بأن أهل العصر الواحد حينما يختلفون في المسألة على قولين فقط، يكون ذلك اتفاقا منهم على أنه لا يجوز إحداث قول ثالث فيها، فإحداث قول ثالث يكون مخالفًا لاجتماعهم ومخالفة الإجماع غير جائزة. واستدل المجوزون بأن اختلاف المجتهدين الأولين في المسألة على قولين مشعر بأنها مسألة اجتهادية والمسألة الاجتهادية لا يكلف فيها المجتهد إلا بما وصل إليه اجتهاده.

وإن اختلاف الأولين دليل على عدم الإجماع ومن ثم لا يوجد ما يمنع من الاجتهاد في المسألة.

واستدل المفصلون: بأن القول الثالث إذا كان رافعا لما اتفق عليه الأولون يكون إحداثه مخالفًا للإجماع ومخالفة الإجماع غير جائزة، أما إذا لم يكن رافعا لما اتفق عليه لم يكن فيه مخالفة للإجماع فيجوز إحداث القول الثالث (1) .

قال الإمام الغزالي: إذا اجتمعت الأمة في المسألة على قولين كحكمهم في الجارية المشتراة إذا وطئها المشتري، ثم وجد بها عيبا فقد ذهب بعضهم إلى أنها ترد مع العقر. وذهب بعضهم إلى منع الرد، فلو اتفقوا على هذين المذهبين كان المصير إلى الرد مجانا خرقا للإجماع عند الجماهير إلا عند شذوذ من أهل الظاهر، والشافعي إنما ذهب إلى الرد مجانًا، لأن الصحابة بجملتهم لم يخوضوا في المسألة، وإنما نقل فيها مذهب بعضهم، فلو خاضوا فيها بجملتهم واستقر رأي جميعهم على مذهبين لم يجز إحداث مذهب ثالث (2) .

(1) نهاية السول في شرح منهاج الأصول للإسنوي 3 / 883، 886. البحر المحيط 4 / 540، 542. تيسير التحرير 3 / 250، 252. فواتح الرحموت 2 / 235.

(2)

المستصفى 1 / 198، 199.

ص: 77

المسألة الثانية:

وهي إذا أفتى المجتهدون في عصر بحكم واحد في مسألتين بدون تفصيل فهل لمن بعدهم أن يفرقوا بينهما؟

مثاله: أن يقول بعضهم بعدم وجوب الزكاة في مال الصبي ولا في الحلي المباح، وأفتى البعض الآخر في العصر نفسه بحكم مخالف لهذا، فقال: تجب الزكاة في مال الصبي والحلي المباح، ولم يعرف من أهل عصرهم من فرق بين المسألتين، فهل يجوز لمن بعدهم أن يفرق بينهما فيه، بأن يقول: تجب الزكاة في مال الصبي ولا تجب في الحلي المباح.

اختلف الأصوليون في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: ومحل النزاع إذا لم ينصوا على عدم الفرق بينهما، فإن نصوا على ذلك فلا خلاف في عدم جواز التفرقة بين المسألتين في الحكم.

القول الأول: يجوز مطلقا اتحد الجامع بين المسألتين أو اختلف.

- الثاني: لا يجوز مطلقا.

- الثالث: تجوز التفرقة عند اختلاف الجامع – ولا تجوز عند اتحاده، وهو اختيار البيضاوي.

مثاله: كتوريث العمة والخالة، فإن علة توريثهما أو عدم توريثهما كونهما من ذوي الأرحام، وكل من ورث واحدة أو منعها قال في الأخرى كذلك، فصار ذلك بمثابة قولهم: لا تفصلوا بينهما، فلا يجوز التفرقة بينهما بأن تورث إحداهما دون الأخرى.

المسألة الثالثة:

إذا اختلف المجتهدون في العصر الواحد في حكم المسألة على قولين، فهل يجوز الاتفاق منهم بعد ذلك على أحد القولين:

اختلفوا فيها فمنهم من جوز الاتفاق بعد الاختلاف وهو اختيار ابن الحاجب والرازي والبيضاوي، ومنهم من منعه وهو اختيار الصيرفي والباقلاني.

وقال إمام الحرمين والآمدي: يجوز إن لم يستقر الخلاف، ولا يجوز عند استقراره (1) .

المسألة الرابعة:

في جواز اتفاق العصر اللاحق على أحد قولين للعصر السابق.

إذا اختلف المجتهدون في عصر واحد على قولين في مسألة فهل يجوز للمجتهدين بعدهم أن يتفقوا على قول واحد من هذين القولين ويكون العمل بالقول الآخر ممتنعا؟

ذهب الآمدي والصيرفي وإمام الحرمين وأحمد بن حنبل إلى المنع، وأجازه الإمام الرازي والبيضاوي وقالا بحجيته إذا وقع.

مثاله: اتفاق التابعين على تحريم بيع أم الولد، بعد اختلاف الصحابة في ذلك.

وتحريم التابعين لنكاح المتعة بعد القول بجوازه من ابن عباس (2) .

وقد استدل كل فريق لما ذهب إليه، ولم يسلم من المناقشة من الفريق الآخر، ومن ثم تميل إلى المطولات لمن أراد المزيد من التفصيل.

(1) تيسير التحرير 3 / 896 – 900.

(2)

لم يرتض الإسنوي هذين المثالين فنقل اعتراض الآمدي على المثال الأول حيث أنكر حصول الإجماع من التابعين بشأنه كذلك قال في فواتح الرحموت: وأما إجماعهم على حرمة بيع أم الود فلم يصح فيه ولم ينقل بوجه يقبله العقل وقوانين الصحة. أما المثال الثاني فقد قال الشيخ بخيت المطيعي في حاشيته على سمع الإسنوي على منهاج الأصول 3 / 901. يحتمل أن يكون المراد متعة الحج، أما متعة النساء فلا يصح التمثيل به كما قال الإسنوي.

ص: 78

التلفيق في التقليد

مر في الفصل السابق عند الكلام على تتبع الرخص وآراء الفقهاء والأصوليين فيه مجمل آرائهم في هذه المسألة بما لا حاجة لإعادته هنا، ونقتصر هنا على بيان ما لم نذكره هناك:

أ- المقلد إما أن يكون عاميا صرفًا وهذا الصنف من المقلد لا مذهب له، وأن مذهبه في كل نازلة هو مذهب من أفتاه فيها ولكن ليس معنى هذا أنه مسلوب الاختيار معدوم الإرادة، وإنما له مجال لإعمال رأيه بأن يتخير بين المجتهدين أو يتخير من أقوالهم ما يلائمه للعمل بها، وذهب بعضهم إلى أن المجتهد بالنسبة للمقلد بمنزلة الأدلة المعارضة بالنسبة إلى المجتهد فلا يجوز للمقلد العمل بأحد الأقوال بدون ترجيح، كما لا يجوز للمجتهد العمل بأحد الأدلة دون الترجيح (1) وإنما يقصد من عرف علمه وعدالته بأن يراه منتصبًا لذلك والناس متفقون على سؤاله والرجوع إليه، واختلف فيمن جهل حاله. قال الزركشي: وممن حكى الخلاف في استفتاء المجهول: الغزالي والآمدي وابن الحاجب، ونقل في المحصول الاتفاق على المنع فحصل طريقان (2) فلو سأل جماعة فاختلفت فتاويهم فقال قوم: يجب عليه الاجتهاد في أورعهم وأعلمهم، وقال آخرون: لا يجب ذلك ولعل مبنى الخلاف هنا مبني على الخلاف في جواز تقليد المفضول مع وجود الفاضل وهو الأولى بالأخذ وذلك لعموم قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} [النحل: 43] ولإجماع الصحابة على قبول فتوى المفضول مع وجود الفاضل في الواقع وفي اعتقادهم (3) ومن المسائل التي لها صلة بالتلفيق هو هل يجب على العامي التزام تقليد مذهب معين في كل واقعة؟ ذكر الزركشي ثلاثة مذاهب:

الأول: يلزمه وهو رأي الكيا الهراسي.

والثاني: لا يلزمه ورجحه النووي قال: وهو الصحيح لأن الصحابة رضوان الله عليهم لم ينكروا على العامة تقليد بعضهم من غير تقليد، وذكر بعض الحنابلة أن هذا مذهب أحمد، وحكى الرافعي عن أبي الفتح الهروي أن مذهب عامة أصحابنا أن العامي لا مذهب له.

والثالث: وهو لابن المنير قال: الدليل يقتضي التزام مذهب معين بعد الأئمة الأربعة لا قبلهم، والفرق أن الناس كانوا قبل الأئمة الأربعة لم يدونوا مذاهبهم ولا كثرت الوقائع عليهم، أما بعد أن فهمت المذاهب ودونت واشتهرت وعرف المرخص من المشدد في كل واقعة فلا ينتقل المستفتي من مذهب إلى مذهب إلا ركونًا إلى الانحلال والاستسهال (4) .

(1) تيسير التحرير 4 / 252.

(2)

البحر المحيط 6 / 309.

(3)

نهاية السول للإسنوي 4 / 612، 613.

(4)

البحر المحيط 6 / 319، 320.

ص: 79

واختلفوا فيمن التزم مذهبا معينا كمالك والشافعي واعتقد رجحانه من حيث الإجمال فهل يجوز أن يخالف إمامه في بعض المسائل ويأخذ بقول غيره من مجتهد آخر؟ على ستة مذاهب حكاه الزركشي في البحر (1) أصحها الجواز لأن الصحابة لم يوجبوا على العوام تعيين المجتهدين والثالث أنه كالعامي الذي لم يلتزم مذهبا معينا (2) . وقال صاحب تيسير التحرير: بل قيل: لا يصح للعامي مذهب لأن المذهب إنما يكون لمن له نوع نظر وبصيرة بالمذاهب أو لمن قرأ كتابا في فروع مذهب وعرف فتاوى إمامه وأقواله، وإلا فمن لم يتأهل لذلك بل قال: أنا حنفي أو شافعي لم يعد من أهل ذلك المذهب بمجرد هذا (3) .

ب- وأما أن يكون ذا نظر وبصر بالمذاهب لم يبلغ به مرتبة الاجتهاد فإن هذا الصنف إذا تمذهب بمذهب إمام معين كان معنى هذا أنه متبع له في المعرفة والاستدلال وفي العمل إذا ما دعت إليه الحاجة، ولا يلزمه ذلك بالتزام هذا المذهب بعينه بل له الانتقال عنه كلية أو في بعض الأحكام، وقد نقل عن كثير من العلماء تحولهم عن المذاهب المقلدين لها إلى الأخذ بغيرها، فليس من واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله، ولم يثبت أن الله أوجب على أحد من الناس التمذهب بمذهب رجل معين من الأمة بحيث يقلده في دينه في كل ما يأتي ويذر دون غيره.

قال الإمام صلاح الدين العلائي: والذي صرح به الفقهاء مشهور في كتبهم جواز الانتقال في آحاد المسائل والعمل فيها بخلاف مذهبه إذا لم يكن على وجه التتبع للرخص.

وقيل: الملتزم كمن لم يلتزم بمعنى أن عمل بحكم تقليد المجتهد لا يرجع عنه عن ذلك الحكم أما في غير ذلك الحكم فله تقليد غيره من المجتهدين (4) .

ويتخرج على القول بجواز اتباع غير مقلده الأول جواز اتباعه رخص المذاهب وهو ما ألمحنا إليه في الفصل الرابع.

(1) 6 / 320، 321

(2)

تيسير التحرير 4 / 253. البحر المحيط 6 / 32.

(3)

4 / 253.

(4)

تيسير التحرير 4 / 253، 254.

ص: 80

الأخذ بمذهب الصحابة:

ذهب فريق من العلماء إلى أنه ليس لمن جاء بعد عصر الصحابة أن يتعلقوا بمذهب الصحابة، وبنى الإسنوي المنع على جواز الانتقال في المذاهب، والصحيح أن مبناه التدوين وعدمه. ونقل عن إمام الحرمين في البرهان إجماع المحققين على منع العوام أن يتعلقوا بمذهب أعيان الصحابة رضي الله عنهم بل عليهم أن يتبعوا مذاهب الأئمة الذين سبروا فنظروا وبوبوا الأبواب وذكروا أوضاع المسائل لأنهم أوضحوا طرق النظر وهذبوا المسائل وبينوها جمعوها. وبنى ابن الصلاح على ما قاله إمام الحرمين قوله بوجوب تقليد واحد من الأئمة الأربعة لأن مذاهب هؤلاء الأربعة قد انتشرت وعلم تقييد مطلقها وتخصيص عامها ونشرات فروعها بخلاف مذهب غيرهم.

وفيما قال الاثنان نظر وقد رده جمع من العلماء قال القرافي.

انعقد الإجماع على أن من أسلم فله أن يقلد من شاء من العلماء ومن غير حجر، وأجمع الصحابة على أن من استفتى أبا بكر وعمر له أن يستفتي أبا هريرة ومعاذ بن جبل وغيرهما ويعمل بقولهم من غير نكير، فمن ادعى رفع هذين الإجماعين فعليه البيان. قال صاحب الفواتح: فقد بطل بهذين الإجماعين قول إمام الحرمين، ونقل المطيعي في حاشيته على نهاية السول عن عز الدين بن عبد السلام: أنه لا خلاف بين الفريقين في الحقيقة بل إن تحقق مذهب عن واحد منهم جاز تقليده وفاقًا وإلا فلا. وقال أيضًا: إذا صح عن بعض الصحابة مذهب في حكم من الأحكام لم يجز مخالفته إلا بدليل أوضح من دليله هذا (1) .

وقال الشيخ نجيب المطيعي: الحق، أنه إنما منع من تقليد غيرهم لأنه لم تبق رواية مذاهبهم محفوظة حتى لو وجد رواية صحيحة عن مجتهد آخر يجوز العمل بها، ألا ترى أن المتأخرين أفتوا بتحليف الشهود إقامة له مقام التزكية على مذهب ابن أبي ليلى. ثم قال: وحاصل هذا أنه امتنع تقليد غير هؤلاء الأئمة الأربعة من الصحابة وغيرهم لتعذر نقلب حقيقة مذاهبهم وعدم ثبوته حق الثبوت؛ لا لأنه لا يجوز تقليدهم حتى لو نقل مذهب واحد من المجتهدين غير أولئك الأربعة بطريق صحيح جاز العمل به بلا فرق بين الصحابة وبين غيرهم من سائر المجتهدين.

(1) نهاية السول وحاشية المطيعي 2 / 630. تيسير التحرير 4 / 255، 256.

ص: 81

التلفيق في التشريع

ويقصد بالتلفيق في التشريع تخير ولي الأمر من أحكام مختلف المذاهب الفقهية المعتبرة مجموعة من الأحكام لتكون قانونا يقضى ويفتى به بين الناس في إقليم دولته وأول من عزم على وضع قانون شامل من الخلفاء فيما علم كان في زمن الإمام مالك أراد حمل الناس في الآفاق على مذهبه فمنعه مالك واحتج بأن الله فرق العلم في البلاد بتفريق العلماء فيها فلم ير الحجر على الناس (1) حتى كان في زمن العباسيين حملوا الناس على فقه أبي حنيفة في القضاء فكانوا لا يولون القضاء إلا من تفقه على هذا المذهب إلا أنهم كانوا في بعض الأحايين يخالفونه إخمادا لفتنة، كالذي حكاه الماوردي في زمن الرشيد أنه رفع إلى أبي يوسف القاضي مسلم قتل كافرا فحكم عليه بالقود فأتاه رجل برقعة فألقاها إليه فإذا فيها مكتوب.

يا قاتل المسلم بالكافر

فجرت وما العادل كالجائر

يا من ببغداد وأطرافها

من علماء الناس أو شاعر

استرجعوا وابكوا على دينكم

واصطبروا فالأجر للصابر

جار على الدين أبو يوسف

بقتله المؤمن بالكافر

فدخل أبو يوسف على الرشيد وأخبره الخبر وأقرأه الرقعة فقال له الرشيد: تدارك هذا الأمر بحيلة لئلا تكون فتنة فخرج أبو يوسف وطالب أصحاب الدم ببينة على صحة الذمة وثبوتها فلم يأتوا بها فأسقط القود.

وعلق الماوردي على هذه الواقعة: بأن التوصل إلى مثل هذا سائغ عند ظهور المصلحة فيه (2) . ذلك أن القود عند الشافعي مرهون بتكافؤ الدين بأن لا يفضل القاتل على المقتول بحرية ولا إسلام فإن فضل القاتل عليه بأحدهما فقتل حر عبدًا، أو مسلم كافرا فلا قود عليه، وقال أبو حنيفة: لا اعتبار بهذا التكافؤ فيقتل الحر بالعبد والمسلم بالكافر كما يقتل العبد بالحر والكافر بالمسلم (3) .

ثم قال: وما تتحاماه النفوس من هذا وتأباه قد منع القائلين به من العمل عليه. ومن ثم ساغ القول بأن التلفيق في التشريع قد يكون ضرورة من الضرورات التي لا يستغنى عنها خاصة في عصرنا، وأول عمل من هذا القبيل كان في عهد الأتراك العثمانيين عندما أصدروا المجلة العدلية كقانون للمعاملات في الدولة، وهذه المجلة وإن كان جل موادها مأخوذًا من مذهب أبي حنيفة إلا أنه قد روعي اختيار بعض المسائل وإن كانت مرجوحة في هذا المذهب لمناسبتها روح العصر، مثل عدم رجوع المستصنع في عقد الاستصناع إذا وجد المصنوع موافقا للصفات التي بينت في العقد أخذًا بقول أبي يوسف خلافًا لأبي حنيفة، كذلك الأخذ بقول الإمام محمد بن الحسن بجواز بيع المعدوم كالخضروات والفواكه التي يتلاحق ظهور محصولاتها، فقد جوز بيع هذا استحسانا وقال: اجعل الموجود أصلا والمعدوم تبعًا، وذلك طبقًا لما جاء في المادة السابعة بعد المائتين وكذلك الأخذ بقول الصاحبين في بيع الصبرة كل بكذا فعند أبي حنيفة يصح البيع في مد واحد فقط وعند الصاحبين يصح في جميع الصبرة مهما بلغت.

(1) البحر المحيط 6 / 319.

(2)

الأحكام السلطانية ص 288.

(3)

الأحكام السلطانية ص 288

ص: 82

كذلك أخذ بقولهما في أكثر مدة خيار الشرط، ذلك أن مدة الخيار عند الإمام ثلاثة أيام وعند الصاحبين تكون المدة على قدر ما شرط المتعاقدان من الأيام، ولما كان قولهما أوفق للحال والمصلحة وقع عليه الاختيار كما جاء في المادة الثلاثمائة.

كذلك الحال بالنسبة في خيار النقد أخذ بقول الإمام محمد الذي يقول بصحة تقييدها بأكثر من الثلاثة الأيام مراعاة لمصلحة الناس كما جاء في المادة الثالثة عشر بعد الثلاثمائة. وقد أخذ أيضا بأقوال غير أئمة الحنفية، بل خارج المذاهب الأربعة، فقد أخذ بقول ابن شبرمة في صحة الشروط المتعارفة بين الناس في العقود (1) .

وقد وقع التخيير من أحكام المذاهب الأربعة في مصر 1920م، وصدر القانون رقم 25 سنة 1920 وأخذ فيه برأي محمد في التطليق للعيوب وليس هذا رأيا راجحا في المذهب وأخذ فيه برأي مالك في نفقة المعتدة، وفي التطليق للإعسار، وضرب الأجل لزوجة المفقود لتعتد بعد بعدة وفاة وتتزوج.

وفي الأجل المضروب في القانون للمفقود بجميع أنواعه أخذًا بآراء واردة في مذهب مالك (2) . ثم اتسع نطاقه بعد ذلك حتى شمل مختلف التقنينات ومختلف البلاد الإسلامية.

(1) درر الحكام شرح مجلة الاحكام لعلي حيدر 1 / 10 – 12.

(2)

بحوث في التشريع الإسلامي للشيخ محمد مصطفى المراغي ص 39.

ص: 83

الفصل السادس

في ترجيح ما هو أحق بالاتباع في العصر الحاضر

أهمية هذا النوع من التلفيق:

إن الزمان تغير تغيرًا عظيمًا وإن الحياة الاجتماعية تطورت تطورًا واسعًا وإن المصالح قد تضاربت وتشابكت وإن الأوضاع المستحدثة قد كان من ورائها مشكلات متكاثرة، هي أحوج ما تكون إلى المواجهة السريعة التي ترعى المصالح أتم رعاية وترفع الحرج وتستنبط الحلول الميسرة في نطاق الفقه الإسلامي.

وإن في الفقه الإسلامي كنوزًا عظيمة ترتفع فوق كل تقويم، وفيه ثروة ضخمة لا تدانيها أي ثروة فقهية أخرى، وفيها الكفاية وما هو فوق الكفاية للوصول إلى شتى المقاصد والغايات إذا أحسن استعمالها، ولن يتم ذلك إذا وقفنا عند أحكام مذهب بعينه، ولن يكون إلا إذا كان التخير من أحكام المذاهب المعتبرة فهذا يحقق المصالح ويهدي إلى الحلول الموفقة وهو في الوقت نفسه يقي الفقه الإسلامي شر المزاحمة العاتية والصراع العنيف مع الشرائع الوضعية، ويحمي الأقطار الإسلامية من الاستعمار التشريعي الذي تغلغل في أحشائها جميعها.

وإن تخير الأحكام على النحو الذي ذكرت يختلف عن التلفيق في التقليد عملا وما ثار حوله من جدل حتى لو قيل إنه منه فإن المسألة خلافية، وليس العمل بقول المانعين أولى من العمل بقول المجوزين ولكل دليله، وإن رعاية المصلحة للأفراد والجماعة المسلمين مطلوبة وفيها الخير كل الخير للإسلام والمسلمين، وإن هذا التخير لا يكون له صفة الإلزام إلا إذا أمر ولي الأمر باتباعه وأمره مرجح قوي، ولذلك وجبت طاعته فيما يأمر به متى كان في صالح الرعية ووفق ضوابطها الشرعية.

والله سبحانه وتعالى أعلم

د. عبد الله محمد عبد الله

ص: 84

خلاصة البحث

اشتمل البحث على ستة فصول.

تناولت في الفصل الأول التعريف من حيث اللغة والاصطلاح واشتمل التعريف الاصطلاحي على طائفة من تعريفات الفقهاء والأصوليين وما دار حولها من نقد ومناقشة وأخذت من بينها تعريف الإمام الشاطبي وتعريف الإمام البيضاوي وبين موقف الأصوليين من الرخصة، وهل هي من أقسام الحكم أو من أقسام الفعل، وهل هي من قبيل الحكم التكليفي أو الحكم الوضعي.

وتناولت في الفصل الثاني أنواع الرخصة عند الحنفية وعند غيرهم واتجاهات هؤلاء في التقسيم حيث نظروا في تقسيم الرخصة من حيث الحكم فقسموه إلى الوجوب والندب والإباحة وخلاف الأولى وأضاف بعضهم الحرمة والكراهة واقتصر الشاطبي على الإباحة وبينت وجهة نظره في المراد من الإباحة وأنه لا يقصد إلا أحد معنيي الإباحة وهو رفع الحرج، وقد مثلت لكل قسم.

أما الفصل الثالث فقد تناولت فيه ضوابط الأخذ بالرخصة وبينت القواعد التي بنى عليها الأصوليون والفقهاء وأنها ترجع إلى خمس قواعد تناولتها بالشرح مع التمثيل وأن الأصل فيها كما قرره الشاطبي أن الإنسان فقيه نفسه في الأخذ بالرخصة بقيودها وضوابطها.

وبينت في الفصل الرابع تتبع الرخص وآراء الفقهاء والأصوليين واتجاهاتهم والشروط التي ينبغي تحققها عند الأخذ بالرخص.

وفي الفصل الخامس: وهو الخاص بالتلفيق وقد بينت معناه في اللغة والاصطلاح، واتبعت طريقة بعض الفقهاء المعاصرين الذين قسموه إلى ثلاثة أقسام: الأول التلفيق في الاجتهاد، والثاني: التلفيق في التقليد، والثالث: التلفيق في التشريع، وبينت ما ينطوي عليه كل قسم من مسائل أصولية وفقهية مع التمثيل.

وتناولت في الفصل الأخير في ترجيح ما هو أحق بالاتباع، وأهمية هذا النوع من التلفيق وأنه المناسب حسب ظروف العصر ومقتضياته.

ص: 85