الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرخصة (التلفيق)
إعداد
الشيخ خليل محيي الدين الميس
مفتي البقاع ومدير أزهر لبنان
بسم الله الرحمن الرحيم
(التلفيق)
جاء في تعريف التلفيق: بأنه الإتيان بكيفية لا يقول فيها مجتهد.
بيانه: بأن يلفق في قضية واحدة بين قولين أو أكثر يتولد منهما حقيقة مركبة لا يقول فيها أحد، سواء الإمام الذي كان على مذهبه أو الإمام الذي انتقل إليه، فكل واحد منهم يقر ببطلان تلك الحقيقة الملفقة في العبادة.
قلت باستقراء المسائل التي عرض فيها الأصوليون والفقهاء لصور مسألة التلفيق أمكن حصرها في الصور التالية:
أولًا: التقليد بعد الفعل. ويقصدون بهذه العبارة: إذا عمل العامي بقول مجتهد في حادثة، هل الرجوع عنه أو لا؟ أو بعبارة أخرى: إذا قلد العامي إمامًا من الأئمة ثم أراد تقليد غيره فهل له ذلك؟.
ثانيًا: إذا تعدد المجتهدون وتفاضلوا هل يجب على العامي تقليد الأفضل أو المفضول؟
ثالثًا: هنالك مسألة أصولية مفادها: إذا اختلف الفقهاء في مسألة على قولين هل يجوز إحداث قول ثالث؟
رابعًا: التلفيق الذي يترتب عليه نقض حكم الحاكم هل يجوز أم لا؟
خامسًا: جواز الانتقال في آحاد المسائل والعمل فيها بخلاف مذهب إمامه (1) .
بعد هذا كله هل مبدأ التلفيق يقول به العلماء؟ وما هي الصور التي يجوزون فيها التلفيق – إن إجازوه – ومتى يمتنع التلفيق مطلقا؟
وهنا تختلف أقوال الفقهاء والأصوليين:
فمن حيث المبدأ.. ترى الفقهاء الذين لا يقرون التقليد لا في الأصول ولا في الفروع أسقطوا هذه المسألة من حسابهم جملة وتفصيلاً.. كالشوكاني ومن سار على نهجه، لأن التلفيق ضرب من التقليد المذهبي، وهذا ما نراه واضحا في غير مصنف لهم، ومن ذلك على سبيل المثال في (إرشاد الفحول)(والقول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد) كما لا نرى لهذه المسألة ذكرًا في كتب الظاهرية. (وأما القائلون بجواز التقليد هم الذين أوردوا هذه المسألة في كتبهم.. وبخاصة كتب أصول الفقه بمناسبة بحث (الاجتهاد أو المفتي والمستفتي) .
(1) ابن أمير حاج: التقرير 3 / 351.
ولذلك يمكن إجمال أقوالهم في المسألة على الوجه التالي:
- أكثر المتأخرين اشترطوا لصحة التقليد عدم التلفيق.
- وأجازه قوم مطلقًا.
- وقيد بعضهم بشرط عدم تتبع الرخص المفضية إلى الانحلال والفجور.
وهنا يصل بنا الكلام أن موقف المجتهدين من التقليد الذي يبتني عليه التلفيق فنقول: الاجتهاد على قسمين: اجتهاد مطلق، واجتهاد مقيد.
- أما أهل الاجتهاد المطلق: فلا يجوز لهم تقليد غيرهم مطلقًا، وإنما الواجب عليهم العمل باجتهادهم (1) .
- أما أهل الاجتهاد المقيد: فيجب عليهم تقليد أهل الاجتهاد المطلق في أصول مذاهبهم فقط دون الفروع.
- أما غير المجتهدين: فهم عامة الناس، فلا يجب عليهم التزام العمل بمذهب معين من المذاهب الأربعة على القول الراجح. إنما مذهبه مذهب مفتيه فأي فقيه أفتاه جاز له العمل بقوله (2) .
لمحة تاريخية
لم يكن التلفيق بهذا الوصف معهودًا عند السلف ليقرروا أحكامه، كما أن الأئمة وأصحابهم لم يدرجوه في مدوناتهم وأمهات كتبهم. وإنما هو من مخترعات الخلف ومحدثاتهم، ولا يبعد أن يكون حدوث هذا البحث في القرن الخامس حيث اشتد التعصب المذهبي.
قال ابن أمير حاج: انطوت القرون الفاضلة على عدم التمذهب بمذهب رجل من الأمة فيقلده في دينه في كل ما يأتي ويذر دون غيره، حتى قال ابن حزم: أجمعوا أنه لا يحل لحاكم ولا مفت تقليد رجل فلا يحكم ولا يفتي إلا بقوله؛ بل لا يصح للعامي مذهب ولو تمذهب به؛ لأن المذهب إنما يكون لمن له نوع نظر واستدلال وبصر بالمذاهب على حسبه، أو لمن قرأ كتابا في فروع ذلك المذهب وعرف ذلك المذهب وعرف فتاوى إمامه وأقواله.
وأما من لم يتأهل لذلك البتة، بل قال أنا حنفي أو شافعي أو غير ذلك لم يصر كذلك بمجرد القول.
(1) الغزالي: المنخول (ص 476) .
(2)
ابن نجيم: البحر الرائق 2 / 60، باب قضاء الفوائد. والكمال بن الهمام 7 / 25، والدهلوي: الاجتهاد (ص 6 – 7) .
يوضحه: أن قائله يزعم أنه متبع لذلك الإمام سالك طريقه في العلم والمعرفة والاستدلال.. فأما مع جهله وبعده جدًا عن سيرة الإمام وعلمه بطريقته فكيف يصح الانتساب إليه إلا بالدعوى المجردة والقول الفارغ من المعنى؟! (1)
والحال ليس ما سموه بالتلفيق إلا عين التقليد من كل الوجوه، لذلك كان لابد لكل من أجاز التقليد أن يجيز التلفيق.
والصحابة رضوان الله عليهم مع اجتهادهم وتخالفهم في الأحكام كان يصلي بعضهم خلف بعض مع حكم المؤتم منهم – حسب اجتهاده بعدم صحة صلاة إمامه واشتراطه صحة صلاة المأموم بصحة صلاة الإمام.
وهذا مجتهد يصلي خلف مجتهد.. وجريًا على منهج العلماء في تصنيف المجتهدين.. يعتبر كل صحابي مجتهدًا مطلقًا، كما يوصف كل من الأئمة الأربعة ومن في مرتبتهم بأنه مجتهد مطلق..
وإذا كان كذلك.. فقد قلد المجتهد المجتهد فيما يرى خلافه. وهل يتوهم مسلم أن أبا حنيفة كان يمتنع أن يأتم بالإمام مالك، بل كانوا أجل قدرًا من أن يخطر لهم هذا التعصب على بال (2) .
وهذا أبو حنيفة ومثاله رحمهم الله تعالى كانوا أفضل من أن يعتقدوا في أنفسهم الأفضلية على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ومع ذلك خالفوهما في كثير من الأحكام الاجتهادية.
وفقهاء كل مذهب من المذاهب لم يزالوا يجوزون الأخذ تارة بقول الإمام وتارة بقول أحد أصحابه مع أن ذلك هو عين التلفيق.
ثم ما زال عوام كل عصر يقلد أحدهم لهذا المجتهد في مسألة، وللآخر في أخرى ولثالث في ثالثة وكذلك إلى ما لا يحصى. ولم ينقل إنكار ذلك عليهم ولم يؤمروا بتحري الأعلم والأفضل في نظرهم.
وقال الكمال بن الهمام: يجوز لكل أحد من العامة أن يعمل في عبادة أو معاملة مع أي مذهب شاء، لكن بعد استيفاء جميع الشروط التي يشترطها ذلك المذهب، وإلا كان عمله باطلًا.
والعامي لا عبرة لما يقع في قلبه من صواب الحكم وخطئه، ويخرج على هذا الأصل إذا استفتى مجتهدين فاختلفا عليه فالأولى أن يأخذ بما يميل إليه قلبه منهما.
وقال: وعندي – لو أخذ بقول الذي لا يميل إليه قلبه جاز لأن ميله وعدمه سواء.
(1) ابن أمير حاج: التقرير والتحبير (ص 365) .
(2)
الكمال بن الهمام: شرح فتح القدير 7 / 257 أدب القاضي.
وأضاف: إن مثل هذه إلزامات من الفقهاء لكف الناس عن تتبع الرخص، وإلا أخذ العامي في كل مسألة بقول مجتهد قوله أخف عليه. وأنا لا أدري ما يمنع هذا من النقل أو العقل، وكون الإنسان يتبع ما هو أخف على نفسه من قول مجتهد مسوغ له الاجتهاد، ما علمت من الشرع الذم عليه، ((وكان صلى الله عليه وسلم يحب ما خفف عن أمته)) (1) .
وقال الشرنبلالي في صحة جواز التلفيق (2) :
يجوز التقليد من غير تقييد بالعذر مجانبا للتلفيق.
صورة المسألة: يصح تقليد الإمام مالك رضي الله عنه في عدم النقض للوضوء بما يسيل من الدم والقيح؛ سواء كان من المخرج أو غيره، وسواء كان التقليد بعد العمل بما يخالفه من مذهب أبي حنيفة، أو كان قبل العمل به.
لكن شرط لصحة ذلك: أن يأتي المقلد بما هو مسنون أو مستحب عند الإمام أبي حنيفة وهو شرط عند مالك: كأن يتوضأ ناويًا، مرتبًا، مواليًا غسله، مدلكًا جسده.
بذلك صدر رسالته الفقهية (العقد الفريد) ثم أورد اعتراضا مفاده:
فإن قلت: كيف هذا مع قول العلامة – الشيخ الكمال بن الهمام في تحريره: سأله: لا يرجع فيما قلد فيه – أي عمل فيه اتفاقا (3) .
أجاب: قلت: لا يمنع ذلك ما قلته من صحة التقليد، بمجمل المنع على خصوص الجنس وهذه المسألة ذكرها الآمدي وابن الحاجب وتبعه صاحب جمع الجوامع.. ثم استقصى الأقوال والأدلة مما سنعرض له في حينه إن شاء الله تعالى.
ولكن هل يجوز التلفيق عند القائلين به على الإطلاق أم لهم شروط..؟
القائلون بجواز التلفيق قالوا: إن لصحة تقليد المذهب المخالف شروطًا:
الأول: ما ذكره ابن الهمام في تحريره: أنه إن عمل المقلد بحكم من أحكام مذهبه الذي تقلده لا يرجع عنه ويقلد مذهبًا أخر، وفي غير ما عمل به له أن يقلد غيره من المجتهدين (4) .
الثاني: ما نقله ابن الهمام عن القرافي واعتمد عليه في تحريره: أن لا يترتب على تقليد من قلده أولاً ما يجتمع على بطلان كلا المذهبين (5) .
وصورته: أن من قلد الشافعي رحمه الله تعالى في عدم فرضية الدلك للأعضاء المغسولة في الوضوء والغسل، وقلد مالكًا في عدم نقض اللمس بلا شهوة للوضوء، فتوضأ ولمس بلا شهوة وصلى؛ إن كان الوضوء بدلك صحت صلاته عند مالك رحمه الله تعالى. وإن كان بلا دلك بطلت عندهما (مالك والشافعي)(6) .
(1) الكمال بن الهمام: التقرير والتبحير 3 / 351.
(2)
الشرنبلالي: العقد الفريد – مجلة الفكر الإسلامي العد 81 ص 34.
(3)
الكمال بن الهمام: التقرير والتحبير 3 / 351.
(4)
الكمال بن الهمام: التقرير والتحبير 3 / 350.
(5)
الكمال بن الهمام: 2 / 351.
(6)
ابن الهمام (التقرير والتحبير) 3 / 352.
الثالث: أن لا يتبع الرخص ويلتقطها.
وهذا الشرط اعتبره الإمام النووي وغيره. لكن ابن الهمام لم يعتبره ولم يلتفت إليه.
وبعضهم شرط: أن يكون ما قلده مخالفًا للكتاب والسنة وإن قال به مجتهد.
وأضاف بعضهم: أن لا يجتمع من تقليده حالة مركبة ممتنعه الإجماع، أي ما يجتمع على بطلانه كلا المذهبين، وهذا ما قاله جمهور الفقهاء.
مثاله: كمن صلى بخروج الدم من غير السبيلين تقليدا للإمام الشافعي والمقلد حنفي المذهب ولم يزل النجاسة القليلة عن بدنه أو ثوبه بناءً على مذهبه، فصلاته باطلة اتفاقًا.
أما على مذهبه فلخروج النجاسة من البدن، وأما على مذهب من قلده، فقليل النجاسة مانعة عند الشافعي رحمه الله (1) .
هذا وإن المبتلى ديان نفسه وحكمها وأعلم بها من غيره، لهذا كثيرًا ما يفوض العلماء المسائل إلى رأي المبتلى.
والمستفتي إذا كان من أرباب العزائم وتحمل المشاق والتفرع للعبادات يفتى بالأحوط أخذًا بالورع والكمال ما لم تحق به نازلة تقتضي التخفيف، فإنه حينئذ يفتى بالأخف عليه من كل مذهب خشية العجز عن أداء التكليف فيما إذا شدد عليه بالمنع من التلفيق.
ثم إن كل طبقة من طبقات العوام المتفاوتة تفتى بما يناسبها تشديدًا أو تخفيفًا وفاقًا لمقتضى اتساع الشريعة وحكمتها، وأجرد الناس بالتسامح الضعفاء بدنًا كالمصابين بالعلل، ويلحق بهم أرباب الأعمال الشاقة ومن على شاكلتهم
…
قال العيني في شرح البخاري في حديث ((يسروا ولا تعسروا)) ما نصه: وكذلك من قارب البلوغ من الصبيان، ومن بلغ وتاب من المعاصي، يتلطف بجميعهم بأنواع الطاعة قليلاً قليلاً، كما كانت أمور الناس على التدريج في التكليف شيئًا بعد شيء؛ لأنه متى يسر على الداخل في الطاعة المريد للدخول فيها سهلت عليه وتزايد فيها غالبًا، ومتى عسر عليه أوشك أن لا يدخل فيها، وإن دخل أوشك أن لا يدوم أو يستحملها (2) .
(1) المناوي: فيض القدير 1 / 210، والعقد الفريد – مجلة الفكر الإسلامي، عدد 8 / 55، تحقيق الباحث.
(2)
العيني على البخاري 2 / 47 باب العلم.
هذا وفي المحظورات لا يسوغ للعلماء التلفيق بها سواء كان بالنسبة لهم، أو من يستفتيهم إلا في مواطن الضرورة، إذ الضرورات تبيح المحظورات، لكن ما أبيح للضرورة يتقدر بقدرها.. وإنما لم يسغ التلفيق في المحظورات لكونها على الورع لحديث ابن مسعود (ما اجتمع الحرام والحلال إلا غلب الحرام الحلال) (1) وقد بنى الفقهاء عليه قاعدتين:
الأولى: إذا اجتمع الحلال والحرام غلب الحرام الحلال.
والثانية: إذا اجتمع المحرم والمبيح غلب المحرم.
أما المحظورات العائدة إلى حقوق العباد: فمبناها صيانة الحق ومنع الإيذاء لذلك لا محل فيها للتلفيق بها لأنه ضرب من الاحتيال للعدوان على الحق، وتطرق إلى إيذاء العباد، وذلك للحديث ((لا ضرر ولا ضرار)) وحديث ((كل مسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)) .
أما في المناكحات والمفارقات: فالأصل في الأبضاع التحريم صيانة للفروج والأنساب، لذلك لا يسوغ أن يتخذ التلفيق ذريعة لتلاعب الناس بأقضية النكاح والطلاق؛ وقد مر بعض وجوه المنع في هذا الباب.
وأما أحكام المعاملات وأداء الأموال وإنزال العقوبات وغير ذلك من التكاليف: ينبغي الرجوع فيه إلى أصول الشرعية وقواعدها العامة في استنباط أحكامها.. فيؤخذ من كل مذهب ما هو أقرب إلى مصلحة العباد وسعادتهم ولو لزم من ذلك التلفيق لما فيه من السعي وراء تأييد المصلحة التي يقصدها الشارع وهي كما قال غير واحد من العلماء خمسة: أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم.
فكل ما يضمن صيانة هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يضيعها فهو مفسدة ودفعه مصلحة.
(1) الجراحي: كشف الخفاء حديث رقم 2186 – رواه جابر الجعفي عن ابن مسعود وفيه ضعف وانقطاع.. وقال العراقي: لا أصل له.
الضابط في جواز التلفيق
ونخلص إلى القول بأن ضابط جواز التلفيق وعدم جوازه هو: أن كل ما أفضى إلى تقويض دعائم الشريعة والقضاء على سياساتها وحكمتها فهو محظور.
وأما إذا كان التلفيق يؤيد دعائم الشريعة وما ترمي إليه حكمتها وسياساتها الكفيلتان بسعادة الدارين تيسيرًا عليهم في العبادات وصيانة لمصالحهم في المعاملات فهو مطلوب (1) .
قال يحيى الزناتي والروياني: " يجوز تقليد المذاهب في النوازل والانتقال من مذهب إلى مذهب بثلاثة شروط:
1-
أن لا يجمع بينهما على وجه يخالف الإجماع. مثاله: من تزوج بغير صداق ولا ولي ولا شهود. فإن هذه الصورة لم يقل بها أحد.
2-
أن يعتقد فيمن يقلده الفضل بوصول أخباره إليه ولا يقلد أميًا في عماية.
3-
أن لا يتتبع رخص المذاهب.
ثم قال: والمذاهب كلها مسالك إلى الجنة، وطرق إلى الخيرات فمن سلك منها طريقا وصله " (2) .
ثم عقب على ذلك بقول غيره (الزناتي) : يجوز تقليد المذاهب في النوازل والانتقال إليها في كل ما لا ينقض فيه حكم الحاكم وهو أربعة:
ما خالف الإجماع أو القواعد أو النص أو القياس الجلي.
فإن أراد – رحمه الله – بالرخص هذه الأربعة فهو حسن متعين، فإن ما لا نقره مع تأكده بحكم الحاكم فأولى أن لا نقره قبل ذلك
…
(3) .
وإن أراد بالرخص: ما فيه سهولة على المكلف كيفما كان، يلزمه أن يكون من قلد مالكًا في المياه والأرواث، وترك الألفاظ في العقود – مخالفًا لتقوى الله تعالى وليس كذلك.
قال الإسنوي:
وتعقب الأول: بأن الجمع المذكور ليس بضائر.
فإن مالكًا لم يقل: من قلد الشافعي في عدم الصداق أن نكاحه باطل، وإلا لزم أن تكون أنكحة الشافعي عنده باطلة.
ولم يقل الشافعي: إن من قلد مالكًا في عدم الشهود أن نكاحه باطل، وإلا لزم أن تكون أنكحة المالكية بلا شهود باطلة.
(1) الباني: عمدة التحقيق بتصرف (ص111 – 220) .
(2)
القرافي: شرح تنقيح الفصول (ص 432) .
(3)
أمير بادشاه على التحرير 3 / 352.
قال الإسنوي: لكن في هذا التوجيه نظر غير خاف.
ووافق ابن دقيق العيد الروياني على اشتراط أن لا يجتمع في صورة يقع الإجماع على بطلانها، وأبدل الشرط الثالث، بأن لا يكون ما قلده فيه ممما ينقض فيه الحكم لو وقع.
واقتصر الشيخ عز الدين بن عبد السلام على اشتراطه قال: وإن كان المأخذان متقاربين جاز.
والشرط الثاني: انشراح صدره للتقليد المذكور وعدم اعتقاده لكونه متلاعبًا بالدين متساهلاً فيه.
دليل هذا الشرط: قوله صلى الله عليه وسلم ((والإثم ما حاك في الصدر)) فهذا التصريح بأن ما حاك في النفس ففعله إثم، اهـ.
قال الإسنوي: أما عدم اعتقاد كونه متلاعبًا بالدين متساهلاً فيه فلا بد منه.
وأما انشراح صدره للتقليد فليس على إطلاقه، كما أن الحديث كذلك أيضا وهو بلفظ (والاثم ماحاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس) في صحيح مسلم، وفي مسند أحمد بلفظ (والإثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك)(1) .
قال الحافظ المتقن ابن رجب في الكلام على هذا الحديث مشيرًا للأول: إنه إشارة إلى أن الإثم ما أثر في الصدر حرجًا وضيقًا وقلقًا واضطرابًا فلم ينشرح له الصدر، ومع هذا فهو عند الناس مستنكر بحيث ينكرونه عند اطلاعهم عليه، وهذا أعلى مراتب معرفة الإثم عند الاشتباه وهو ما استنكر الناس فاعله وغير فاعله.
ومن هذا قول ابن مسعود (ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحًا فهو عند الله قبيح) . ومشيرًا إليه باللفظ الثاني (ما حاك في صدر الإنسان فهو إثم، وإن أفتاه غيره بأن ليس بإثم فهذه مرتبة ثانية، وهو أن يكون الشيء مستنكرًا عند فاعله دون غيره، وقد جعله أيضا إثمًا، وهذا إنما يكون إذا كان صاحبه ممن شرح صدره للإيمان. وكان المفتي له يفتي بمجرد الظن أو ميل إلى هوى من غير دليل شرعي.
(1) الإسنوي: نهاية السول 4 / 627.
فأما ما كان مع المفتي به دليل فالواجب على المستفتي الرجوع إليه وإن لم ينشرح له صدره، وهذا كالرخص الشرعية مثل الفطر في السفر والمرض وقصر الصلاة ونحو ذلك مما لا ينشرح به صدر كثير من الجهال فهذا لا عبرة فيه.
((وقد كان صلى الله عليه وسلم أحيانا يأمر أصحابه بما لا ينشرح به صدور بعضهم فيمتنعون فغضب من ذلك، كما أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة فكره من كرهه منهم.))
وكما أمرهم بنحر هديهم والتحلل من عمرة الحديبية فكرهوه، وكرهوا مفاوضته لقريش على أن يرجح من عامه وعلى أن من أتاه منهم يرده إليهم.
وبالجملة: فما ورد به النص فليس للمؤمن إلا طاعة الله ورسوله كما قال تعالى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] وينبغي أن يتلقى ذلك بانشراح الصدر والرضى، فإن ما شرعه الله ورسوله يجب الرضى والإيمان به والتسليم له كما قال تعالى {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] .
وأما ما ليس فيه نص عن الله ورسوله ولا عمن يقتدى بقوله من الصحابة وسلف الأمة – فإذا وقع في نفس المؤمن المطمئن قلبه بالإيمان المنشرح صدره بنور المعرفة واليقين شيء وحاك في صدره لشبهة موجودة ولم يجد من يفتي فيه بالرخصة إلا من يخبر عن رأيه وهو ممن لا يوثق بعمله ولا دينه بل هو معروف باتباع الهوى – فهنا يرجع المؤمن إلى ما حاك في صدره وإن أفتاه هؤلاء المفتون، وقد نص الإمام أحمد على مثل هذا (1) . اهـ. (جامع العلوم والحكم 240 الحديث السابع والعشرون) .
والحق في مسألة التلفيق أنها كمسألة إحداث قول ثالث فيما إذا اختلفوا على قولين فقط – فكما أن الحق أن المجتهد لا يجوز أن يحدث قولاً ثالثًا إذا خرق إجماع المجتهدين في عصر، كمسألة الجد مع الإخوة، حيث اختلفوا في أن يشارك الأخوة أو يختص هو بالميراث ويحجب الأخوه، فهذا إجماع منهم على عدم حرمانه.
كذلك الحق هنا أن المقلد إذا قلد لا يجوز أن يلفق بين مذهبين في صورة لا يقول بها أحد من المجتهدين كافة، بأن تكون المسألة واحدة، حقيقة أو حكما، أي بحيث لو لفق العمل بصورة لا يقول بها أحد منهم ويكون العمل فيها على خلاف إجماعهم.
ولذلك قال في مسلم الثبوت وشرحه بعد أن نقل جواز تتبع رخص المذاهب ما نصه: إنه لا يجوز للعامي تتبع الرخص إجماعًا. فأجيب بمنع هذا الإجماع إذ في تفسيق متتبع الرخص عن الإمام أحمد روايتان فلا إجماع، ولعل رواية التفسيق إنما هو فيما إذا قصد التلهي فقط لا غيره (2) .
(1) الإسنوي: نهاية السول. 3 / (626 – 629) .
(2)
فواتح الرحموت بهامش المستصفى 2 / 206.
وقال في (التقرير على التحرير) : وحمل القاضي أبو يعلى الرواية المفسقة على غير متأول ولا مقلد (1) .
وذكر بعض الحنابلة: إن قوي الدليل أو كان عاميا لا يفسق.
وفي روضة النووي: واصلها عن حكاية الحناطي وغيره عن ابن أبي هريرة أن لا يفسق به.
ثم لعله محمول على نحو ما يجتمع له من ذلك ما لم يقل بمجموع مجتهد. فأين الإجماع بعد هذا؟ !
وما أورد أنه يلزم على تقدير جواز الأخذ بكل مذهب احتمال الوقوع في خلاف المجمع عليه إذ ربما يكون المجموع الذي عمل به لم يقل به أحد فيكون باطلاً إجماعًا.. كمن تزوج بلا صداق عملاً بقول الإمامين أبي حنيفة والشافعي: ولا شهود، اتباعًا لقول الإمام مالك ولا ولي، على قول الإمام أبي حنيفة – فهذا النكاح باطل اتفاقًا. أما عندنا فلانتفاء الشهود، وأما عند غيرنا فلانتفاء الولي، فهو مندفع لعدم اتحاد المسألة، وإن الإجماع على نفي القول الثالث إنما يكون إذا اتحدت المسألة حقيقة أو حكمًا.
ولأنه لو تم لزم استفتاء مفت معين وإلا احتمل الوقوع فيما ذكر.
فأنت ترى أن يؤخذ من هذا أن مسألة التلفيق مبنية على مسألة إحداث قول ثالث، فهو إنما يمتنع إذا تحقق أن المجموع الذي عمل به مخالف لإجماع جميع المجتهدين بحيث لو وجد مجتهد لم يجز له أن يقول بهذا المجموع، وهيهات أن يتحقق ذلك.
(فصل)
التقليد بعد الفعل
قال ابن الهمام: (لا يرجع فيما قلد فيه (أي عمل فيه) اتفاقا) .
قال الشرنبلاني: قلت: لا يمنع ذلك ما قلته من صحة التقليد بحمل المنع على خصوص الجنس، معناها الرجوع في خصوص العين لا خصوص الجنس بما فعله مقلدًا في فعله إمامًا كصلاة ظهر يمسح ربع الرأس له إبطالها باعتقاده بعدم إتمام للزوم مسح كل الرأس.
وهذه المسألة ذكرها ابن الحاجب والآمدي وتبعه في جمع الجوامع وغيره ونصه: (المراد بالعامي من لم يكن مجتهدًا) .
أي العامي غير المجتهد إذا عمل بقول مجتهد في حكم مسألة فليس له الرجوع اتفاقا.
وجه هذا القول: لأن المقلد قد التزم ذلك القول بالعمل به، أما قبل العمل فله الرجوع إلى غيره من المجتهدين.
(1) التقرير 3 / 351.
الرد:
لكن شارح التحرير (ابن أمير حاج) وابن بادشاه في الحاشية نقلا عن الزركشي تعقبه على الآمدي وابن الحاجب حيث قال: ليس كما قالا، ففي كلام غيرهما ما يقتضي جريان الخلاف بعد العمل أيضا (1) .
وهنا يقول الشرنبلالي: وعليه نقول باتباع القائل: يجوز التقليد بعد العمل بقول من قلده وعمل به. له إبطالها باعتقاده بعدم التمام للزوم مسح كل الرأس.
وجه القول: لأن الرجوع بمعنى منع الشخص من تقليد غير إمامه في شيء يفعله مخالفًا لما صدر منه، كصلاة يوم على مذهب أبي حنيفة، وصلاة يوم آخر على مذهب غيره.
وإن كان المراد بالرجوع، العمل في نظير ما مضى بخلاف معتقد من قلده كما يتراءى من متن التحرير وشرحه ففي كليهما خلافه.
ومع ذلك فقد قيده بأن يبقى أثر يمنع من الفعل لا مطلقا.
وعلى كل من الأمرين يثبت المدعى وهو: جواز تقليد الإمام مالك رضي الله عنه أو غيره فيما يفعل مخالفًا لما فعله على مذهب أبي حنيفة.
وقال الكمال بن الهمام في باب التحكيم: قال: وفي الفتاوى الصغرى يحكم المحكم في الطلاق والمضاف ينفذ لكن لا يفتى به،
وفيها روى عن أصحابنا ما هو أوسع من هذا وهو أنه إذا استفتى أولاً فقيهًا فأفتاه ببطلان اليمين وسعه إمساك المرأة. فإن تزوج أخرى وكان حلف بطلاق كل امرأة يتزوجها فاستفتى فقيهًا آخر فأفتاه بصحة اليمين فإنه يفارق الأخرى ويمسك الأولى عملا بفتواهما (2) .
وفي الذخيرة: فيمن تزوج امرأة بغير ولي فطلقها ثلاثًا، فبعث القاضي إلى شافعي ليحكم بينهما ببطلان ذلك النكاح وببطلان الثلاث يجوز، وكذا لو حكما بذلك حكمًا يجوز، ولا يفتي به خشية تجاسر العوام على هدم المذهب.
وكذا من غاب عن امرأته غيبة منقطعة ولم يخلف لها نفقة، فبعث إلى شافعي ليحكم بفسخ النكاح لعجز النفقة يجوز (3) .
قال: الشرنبلالي: واعلم أنه يصح التقليد بعد الفعل.
(1) الكمال بن الهمام: التقرير – 3 / 350. الشرنبلاني: العقد الفريد، مجلة الفكر تحقيق الباحث السنة الثامنة ص 55.
(2)
شرح فتح القدير 7 / 319.
(3)
شرح فتح القدير 7 / 319.
وصورة المسألة: إذا صلى ظانًّا صحتها على مذهبه ثم تبين بطلانها في مذهبه وصحتها على مذهب غيره – فله تقليده – ويجزى بتلك الصلاة. على ما قاله في البزازية: روى الإمام الثاني وهو أبو يوسف رحمه الله أنه صلى يوم الجمعة مغتسلا من الحمام وصلى من خلفه بصلاته وتفرقوا ثم أخبر بوجود فأرة في بئر الحمام فقال: إنا نأخذ بقول إخواننا أهل المدينة: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثًا.
قلت: هذا تقليد مجتهد.
ويؤخذ من قول أبي يوسف هذا، جواب حادثة لرجل من العوام طلق زوجته بلفظ الحرام وأراد عودها إلى عصمته فاستفتى فقيها مالكيًا فأفتاه بالجواز، وعقد عليها بناء على ما نقله بعض فقهاء المالكية أن العمل جرى بالمغرب بأنه يلزم طلقة واحدة بائنة. ثم أفتاه آخر بأن هذا القول لا يجوز به الفتوى في بلاد مصر فاستفتى حنفيا فأفتاه بصحة هذا العقد فإنه يستمر على معاشرتها.
وجاء في (يتيمة الدهر) للخجدني:
شافعي المذهب ترك صلاة سَنَةً أوْ سَنَتَيْنِ ثم انتقل إلى مذهب أبي حنيفة كيف يجب عليه القضاء؟ أيقضيهما على مذهب الشافعي أو على مذهب أبي حنيفة؟
فقال: يقضيهما على أي المذهبين قضى بعد أن يعتقد جوازها جاز (1) .
قال الشرنبلالي: وهذا نص في صحة التقليد بعد العمل بخلاف ما عمل من جنسه.
فتحصل مما ذكرناه أنه لا يجب على الإنسان التزام مذهب معين.
وأنه يجوز له العمل بما يخالف ما عمله على مذهبه مقلدًا فيه غير إمامه مستجمعًا شروطه، ويعمل بأمرين متضادين في حادثين لا تعلق بواحد منهما، ليس للمقلد إبطال فعله بتقليد إمام آخر.
وليس للمقلد إبطال عين ما فعله بتقليد إمام آخر، لأن إمضاء الفعل كإمضاء القاضي لا ينقض (2) .
وقال محمد في أماليه: لو أن فقيها قال لامرأته: أنت طالق البتة، وهو ممن يراها ثلاثا، ثم قضى قاض بأنها رجعية وسعه المقام معها.
(1) الدهلوي: حجة الله البالغة 1 / 159.
(2)
الشرنبلالي: العقد الفريد – مجلة الفكر الإسلامي العدد 8 / ص 55 تحقيق صاحب البحث.
العامي الذي لم يلتزم مذهبا معينا
قال الآمدي وابن الحاجب:
لا يرجع المقلد فيما قلد أحد المجتهدين فيه، أي عمل به اتفاقًا.
وجه هذا القول: أن المقلد العامي بالتزامه مذهب إمام مكلف به ما لم يظهر له غيره، والعامي لا يظهر له بخلاف المجتهد حيث ينتقل من إمارة إلى إمارة (1) .
وقال الزركشي: خالف الآمدي وابن الحاجب فيما ذهبا إليه حيث قال: ليس كما قالا، وفي كلام غير الآمدي وابن الحاجب ما يقتضي جريان الخلاف بعد العمل أيضًا، وأضاف: كيف يمتنع الرجوع إذا اعتقد صحته.
وفصل بعضهم فقال: التقليد بعد العمل – إن كان من الوجوب إلى الإباحة ليترك؛ كالحنفي يقلد في الوتر. أو كان التقليد بعد العمل من الحظر إلى الإباحة ويترك؛ كالشافعي يقلد في أن النكاح بغير ولي جائز – والفعل والترك لا ينافي الإباحة. واعتقاد الوجوب أو التحريم خارج عن العمل وحاصل قبله فلا معنى للقول بأن العمل فيه مانع من التقليد.
وإن كان بالعكس: فإن كان يعتقد الإباحة يقلد في الوجوب أو التحريم فالقول بالمنع أبعد، وليس إلا هذه الأقسام (2) .
ورجح الإمام العلائي القول بالانتقال في صورتين:
أحدهما: إذا كان مذهب غير إمامه أحوط: كما إذا حلف بالطلاق الثلاث على فعل شيء، ثم فعله ناسيًا أو جاهلاً، وكان مذهب إمامه عدم الحنث، فأقام مع زوجته عاملاً به ثم تخرج بقول من يرى فيه وقوع الحنث، فإنه يستحب الأخذ بالأحوط والتزام الحنث.
الثانية: إذا رأى للقول المخالف لمذهبه دليلاً قويا وراجحًا، إذ المكلف مأمور باتباع نبيه صلى الله عليه وسلم.
وهذا موافق لما روي عن الإمام أحمد والقدوري وعليه مشى طائفة من العلماء، منهم ابن الصلاح وابن حمدان (3) .
قال الآمدي: مسألة:
إذا اتبع العامي بعض المجتهدين في حكم حادثة من الحوادث، وعمل بقوله فيها.
اتفقوا على أن ليس له الرجوع عنه في ذلك الحكم بعد ذلك إلى غيره.
سؤال: وهل لهذا العامي اتباع غير ذلك المجتهد في حكم آخر؟.
اختلفوا فيه: فمنهم من منع منه، ومنهم من أجازه وهو الحق، نظرًا إلى ما وقع عليه إجماع الصحابة من تسويغ استفتاء العامي لكل عالم في مسألة، وإن لم ينقل عن أحد من السلف الحجر على العامة في ذلك، ولو كان ذلك ممتنعًا لما جاز من الصحابة إهماله والسكوت على الإنكار عليه، ولأن كل مسألة لها حكم نفسها، فكما لم يتعين الأول للاتباع في المسألة الأولى إلا بعد سؤاله فكذلك في المسألة الأخرى.
- أما إذا عين مذهبًا معينًا كمذهب الشافعي أو أبي حنيفة أو غيره وقال: أنا على مذهبه وملتزم به، فهل له الرجوع إلى الأخذ بقول غيره في مسألة من المسائل؟
(1) الكمال بن الهمام: تيسير التحرير 4 / 253 وعليه أمير باد شاه.
(2)
الكمال بن الهمام: تيسير التحرير 4 / 253 وعليه أمير باد شاه.
(3)
أمير باد شاه: تيسير التحرير 4 / 255.
اختلفوا فيه: فجوزه قوم نظرًا إلى أن التزامه لمذهب معين غير ملزم مذهبه في حكم حادثة معينة. والمختار، إنما هو التفصيل: وهو أن كل مسألة من المذهب الأول اتصل عمله بها فلا مانع من اتباع غيره فيها (1) .
وقال السبكي من الشافعية:
وإذا عمل العامي بقول مجتهد في حادثة: هل له الرجوع عنه أم لا؟ .
المذهب: ليس له الرجوع عنه إلى غيره في مثلها.
وجه القول: لأنه قد التزم ذلك القول بالعمل به، بخلاف ما إذا لم يعمل.
وقيل: يلزمه العمل به بمجرد الإفتاء فليس له الرجوع إلى غير المفتي فيما أفتاه فيه.
وقيل: يلزمه العمل به بالشروع في العمل بخلاف إذا لم يشرع.
وقضية ذلك: أنه لو شرع في العمل ثم أبطله جاز له الرجوع عنه كما أن قضية الاكتفاء بالشروع.. لو أبطله لم يجز له الرجوع لحصول الشروع.
وقيل: يلزمه العمل به إن التزمه، أي صمم على التمسك به. وقال السمعاني: يلزمه العمل به إن وقع في نفسه صحته وإلا فلا.
وقال ابن الصلاح: يلزمه العمل به إن لم يوجد مفت آخر، فإن وجد تخير.
والأصح: جواز الرجوع إلى غيره في حكم آخر.
وقيل لا يجوز: لأنه بسؤال المجتهد والعمل بقوله التزم مذهبه.
والأصح: أنه يجب على العامي وغيره – ممن لم يبلغ مرتبة الاجتهاد – التزام مذهب معين من مذاهب المجتهدين يعتقده أرجح من غيره أو مساويًا له (2)
…
(1) الآمدي: الأحكام 4 / 458.
(2)
السبكي: جمع الجوامع 2 / 439.
وقال العز بن عبد السلام:
ومن قلد إمامًا من الأئمة ثم أراد تقليد غيره فهل له ذلك؟
فيه خلاف والمختار التفصيل:
فإن كان المذهب الذي أراد الانتقال إليه مما ينقض فيه الحكم، فليس له الانتقال إلى حكم يجب نقضه فإنه لم يجب نقضه إلا لبطلانه. فإن كان المأخذان متقاربين جاز التقليد والانتقال، لأن الناس لم يزالوا من زمن الصحابة إلى أن ظهرت المذاهب الأربعة يقلدون من اتفق من العلماء من غير نكير من أحد يعتبر إنكاره، ولو كان ذلك باطلاً لأنكروه.
وكذلك لا يجب تقليد الأفضل وإن كان هو الأولى، لأنه لو وجب تقليده لما قلد الناس الفاضل والمفضول في زمن الصحابة والتابعين من غير نكير. بل كانوا مسترسلين في تقليد الفاضل والأفضل، ولم يكن الأفضل يدعو الكل إلى تقليد نفسه. ولا المفضول يمنع من سأله عن وجود الفاضل، وهذا مما لا يرتاب فيه عاقل (1) .
قال التفتازاني:
1-
عمل العامي بقول مجتهد في حكم مسألة فليس له الرجوع عنه إلى غيره اتفاقا.
2-
وأما في حكم مسألة أخرى، فهل له أن يقلد غير المجتهد الذي استفتاه؟ المختار جوازه.
لنا القطع بوقوعه في زمن الصحابة وغيره، فإن الناس في كل عصر يستفتون المفتين كيف اتفق، ولا يلتزمون سؤال مفت بغية هذا، وقد شاع وتكرر ولم ينكر.
فلو التزم مذهبًا معينًا – وإن كان لا يلزمه كمذهب مالك ومذهب الشافعي وغيرهما – ففيه ثلاثة مذاهب.
أولها: يلزم.
وثانيها: لا يلزم.
وثالثها: أنه كالأول وهو من لم يلتزم. فإن وقعت واقعة يقلده فيها فليس له الرجوع، وأما غيرها فيتبع فيها من شاء (2) – اهـ
القائلون بمنع التلفيق وأدلتهم
استدل القائلون بمنع التلفيق مطلقًا بقاعدة أصولية مفادها أن الإجماع يمنع إحداث قول ثالث إذا اختلف الفقهاء في حكم مسألة على قولين.
فعند الأكثرين لا يجوز إحداث قول ثالث ينقض ما كان محل اتفاق، كعدة الحامل المتوفى عنها زوجها فيها قولان:
وضع الحمل، وأبعد الأجلين. أي وضع الحمل أو أشهر العدة المنصوص عليها في القرآن الكريم.. أو ثلاثة قروء..، فلا يجوز إحداث قول ثالث: إن عدتها بالأشهر فقط.
الرد: بعد التأمل يتبين أن هذه القاعدة والمثال ليست محل النزاع، لأن موضوع إحداث القول الثالث يفترض اتحاد المسألة بينما في التلفيق المسألة متعددة.
ثم بناء على الرأي المختار لم يكن في مسألة التلفيق ناحية متفق عليها، فالدلك في الوضوء مسألة كانت موضع اختلاف بين الأئمة، أما النقض باللمس فمسألة أخرى، ومع ذلك أن كلا المسألتين محل اختلاف.. وعليه فالتلفيق فيهما لا يؤدي إلى ما هو المحظور – وهو خرق الإجماع إذ لا إجماع تحقق حتى يقال بالتلفيق قد خرق.
(1) العز بن عبد السلام: قواعد الأحكام 2 / 159.
(2)
التفتازانى: على ابن الحاجب 2 / 306.
مسألة
تقليد المفضول
إذا تعدد المجتهدون وتفاضلوا فلا يجب على العامي تقليد الأفضل بل له أن يقلد المفضول.
وعن أحمد وابن شريح منعه، بل يجب عليه النظر في الأرجح منهما، ويتعين الأرجح منهما عنده للتقليد.
ولنا قد علم قطعًا أن المفضولين في زمن الصحابة وغيرهم كانوا يفتون، وقد اشتهر عنهم ذلك وتكرر ولم ينكر أحد، فدل على أنه جائز، وأيضا قال صلى الله عليه وسلم ((أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم)) .
خرج العوام لأنهم المقتدون، وبقي معمولاً به في المجتهدين منهم من غير فصل.
واستدل: بأن العامي لو كلفناه الترجيح لكان تكليفًا بالمحال لقصوره عن معرفة مراتب المجتهدين وترجيح الفاضل والمفضول منهم.
الجواب: إن معرفة الترجيح ليست مستحيلة من العامي لأنه يظهر له بالتسامح من الناس وبرجوع العلماء إليه وعدم ورجوعه إليهم وغيره ككثرة المستفتين وتقديم سائر العلماء له والاعتراف بفضله (1) .
مسألة
إذا أمضى المستفتي قول المفتي:
جاء في غير ما كتاب من الكتب المذهبية – أي الحنفية المعتبرة – أن المستفتي إن أمضى قول المفتي لزمه وإلا فلا.
وقالوا: إذا لم يكن الرجل فقيها فاستفتى فقيها فأفتاه بحلال أو حرام ولم يعزم على ذلك – أي لم يعمل به – حتى أفتاه آخر بخلافه فأخذ بقوله وأمضاه، لم يجز له أن يترك ما أمضاه فيه ويرجع إلى ما أفتاه الأول.
وجه هذا القول: لأنه لا يجوز له نقض ما أمضاه مجتهدا كان هذا المستفتي أو كان مقلدا، لأن المقلد متعبد بالتقليد، كما أن المجتهد متعبد بالاجتهاد.
ثم كما لم يجز للمجتهد نقض ما أمضاه، فكذا اتصال الإمضاء.
الأمثلة: من ذلك ما قاله محمد في أماليه: لو أن فقيها قال لامرأته: أنت طالق البتة، وهو ممن يراها ثلاثًا، ثم قضى عليه قاض بأنها رجعية – لا يدع المقام معها، وكذا كل قضاء يختلف فيه الفقهاء من تحريم أو تحليل أو أخذ مال أو غيره – ينبغي للفقيه المقضي عليه الأخذ بقضاء القاضي ويدع رأيه ويلزم نفسه ما ألزمه القاضي ويأخذ ما أعطاه
…
وقال محمد: وكذلك رجل لا علم له ابتلي ببلية فسأل عنها الفقهاء فأتوه فيها بحلال أو بحرام، وقضى عليه قاضي المسلمين بخلاف ذلك وهو مما يختلف فيه الفقهاء، فينبغي أن يأخذ بقضاء القاضي، ويدع ما أفتاه الفقهاء.
(1) التفتازاني على ابن الحاجب 2 / 309.
التلفيق الممنوع
القول بجواز التلفيق ليس على إطلاقه وفي جميع صوره ولكنه مقيد في دائرة معينة.
فمنه ما هو باطل لذاته – كما إذا أدى إلى إحلال المحرمات كالخمر والزنى ونحوهما.
ومنه ما هو محظور لا لذاته بل لما يعرض له من العوارض وهو ثلاثة أنواع.
أولها: تتبع الرخص عمدًا، بأن يأخذ الإنسان من كل مذهب ما هو الأخف عليه بدون ضرورة ولا عذر، وهذا محظور سدا لذرائع الفساد بالانحلال من ربقة التكاليف الشرعية.
قال الغزالي: ليس لأحد أن يأخذ بمذهب المخالف بالتشهي.
وليس للعامي أن ينتقي من المذاهب في كل مسألة أطيبها عنده (1) ويندرج تحت هذا النوع تتبع الرخص للتلهي والأخذ بالأقوال الضعيفة من كل مذهب اتباعًا للهوى واقتناصًا للملاذ.
الثاني: - التلفيق الذي يستلزم نقض حكم الحاكم لأن حكمه يمنع الخلاف درءا للفوضى.
الثالث: التلفيق الذي يستلزم الرجوع عن أمر مجمع عليه لازم لأمر قلده.
فلو قلد رجل أبا حنيفة في النكاح بلا ولي – دخل فيه صحة إيقاع الطلاق، لأنها لازمة لصحة النكاح إجماعًا.
فلو طلقها ثلاثًا ثم أراد تقليد الشافعي في عدم وقوع الطلاق لكون النكاح بلا ولي فليس له ذلك، لكونه رجوعا عن التقليد في اللازم الإجماعي، ومنع التلفيق المستلزم الرجوع عما عمل به تقليدًا أو في لازمه الإجماعي ضروري في نحو ما كان من هذا القبيل، إذ يحتاط في مسائل الفروج أكثر مما يحتاط في غيرها.
وكما لا يسوغ التلفيق المستلزم الرجوع عما عمل به تقليدًا أو لازمه الإجماعي في قضايا الفروج والأنساب كذلك لا يسوغ في كل ما يكون وسيلة وعبثا بالدين، أو ذريعة لمضرة البشر أو الفساد في الأرض.
وأما ما كان من قبيل العبادات والتكاليف التي لم يجعل الله تعالى بها حرجا على عباده – فلا يكون التلفيق فيها ممنوعًا ولو استلزم الرجوع المذكور لم يفض إلى الانحلال من ربقة التكاليف أو الذهاب بالحكمة الشرعية باقتراف الحيل التي تقلب الشريعة الإسلامية.
هذا: ومن الصور التي يمتنع فيها التلفيق هو ما تتبعه الشرنبلالي في رسالته حيث قال: إذا بقي من آثار الفعل السابق أثر يؤدي إلى تلفيق العمل بشيء مركب من مذهبين لقول المحقق الشهاب ابن حجر في (شرح المنهاج) : يتعين حمل ما قاله ابن الحاجب والآمدي على مابقي من آثار العمل الأول ما يلزم عليه مع الثاني تركه حقيقة لا يقول بها كل من الإمامين.
(1) الغزالي: المستصفى 2 / 125.
صورة المسألة: كتقليد الإمام الشافعي في مسح بعض الرأس، والإمام مالك رضي الله عنه في طهارة الكلب؛ في صلاة واحدة.
ومن تلك الصور: لو أفتى ببينونة زوجته في نحو تعليق، فنكح أختها، ثم أفتي بأنه لا بينونة، فأراد أن يرجع الأولى ويعرض عن الثانية من غير إبانتها.
ومن تلك الصور: إذا أخذ الشفعة بالجوار تقليدًا للإمام أبي حنيفة رحمه الله، ثم استحقت عليه فأراد أن يقلد الإمام الشافعي رحمه الله في تركها – فيمتنع فيهما؛ لأن كلا من الإمامين لا يقول به حينئذ (1) .
ومن تلك المسائل: ما جاء في شرح الرملي:
كأن أفتي لشخص ببيونة بطلاقها. ثم نكح بعد انقضاء عدتها أختها مقلدًا أبا حنيفة بطلاق المكره، ثم أفتاه شافعي بعدم الحنث.
الحكم: يمتنع عليه أن يطأ الأولى مقلدًا الشافعي، وأن يطأ الثانية مقلدًا لأبي حنيفة؛ لأن كلاً من الإمامين لا يقول به حينئذ. كما أوضح ذلك الرملي رحمه الله تعالى في فتاويه.
ثم خلص الشرنبلالي إلى القول: إن المراد بالمنع، المنع في خصوص العين، أو بقاء أثر من الفعل السابق يؤدي إلى ما يقول به كل من الإمامين وهو المعبر عنه بالتلفيق.
ثم قال: هكذا قد علمت به جواز التقليد بعد العمل في جنس ما عمل بخلافه.
وأضاف: ثم رأيت موافقة هذا في مؤلف للسيد الإمام الشريف علي السمهودي الشافعي سماه (العقد الفريد في أحكام التقليد)(2) .
المختار: أن كل مسألة اتصل بها فلا مانع من اتباع غير مذهب الأول، وبه يعلم ما في حكاية إطلاق الاتفاق على المنع. ولعل المنع اتفاق الأصوليين.
التلفيق الجائز: هو ما كان عند الحاجة والضرورة، وليس من أجل العبث أو تتبع الأيسر والأسهل عمدًا بدون مصلحة شرعية، وهو مقصور على بعض أحكام العبادات والمعاملات الاجتهادية، لا القطعية..
وهكذا فإن الضابط في جواز التلفيق وعدم جوازه هو: أن كل ما أفضى إلى تقويض الشريعة ودعائمها والقضاء على سياستها وحكمتها فهو محظور، وخصوصًا الحيل.
وأن كل ما يؤيد دعائم الشريعة وما ترمي إليه حكمتها وسياستها لإسعاد الناس في الدارين بتيسير العبادات عليهم، وصيانة مصالحهم في المعاملات فهو جائز مطلوب (3) .
(1) ومثله في التقرير 3 / 350 – 352، والشرنبلالي في العقد الفريد – مجلة الفكر الإسلامي السنة التاسعة، العدد 11 – 36، تحقيق الباحث.
(2)
الشرنبلالي: العقد الفريد لبيان الراجح من الخلاف في جواز التقليد – مجلة الفكر الإسلامي، السنة التاسعة العدد 11 / 36.
(3)
الزحيلي: الأصول 2 / 134.
وخلاصة القول
إن العلماء كانوا يفتون الناس بالمذاهب الأربعة لا سيما العوام منهم – على ما نقل السيوطي – ويقولون حيث وافق فعل هؤلاء العوام قول عالم فلا بأس به.
أو كما قال الشعراني في ميزانه: تفتي كل واحد بما يناسب حاله ولو لم تفعل أنت به كذلك لأنه هو الذي خوطبت فيه.
وهناك من الرخص ما يجب العمل بها كحل الميتة للمضطر إحياء للنفس.. وإن كانت الرخص بالجملة مشروع الأخذ بها لأن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصة كما يجب أن تؤتى عزائمه.. لينال العباد من رفق الله تعالى وتيسيره بحظ ولو لم يكن فيه مشقة (كما قال الشاطبي) كالجمع بعرفة والمزلفة، وإن كل أمر شاق جعل الشارع فيه للمكلف مخرجًا، وطالب المخرج من وجهه طالبه لما ضمن له الشارع النجاح فيه، والرجوع إلى الوجه الذي وصفه الشارع رجوع إلى وجه حصول المصلحة والتخفيف على الكمال.
وتتبع الرخص مشروع بالجملة.. قال العز بن عبد السلام: للعامي أن يعمل برخص المذاهب، وإنكار ذلك جهل ممن أنكره، لأن الأخذ بالرخص محبوب، ودين الله يسر، وما جعل عليكم في الدين من حرج.. ولكن ليس ذلك على الإطلاق.. بل لابد من مراعاة ما اعتبره المجتهد في المسألة التي وقع التقليد فيها بما يتوقف على صحتها كي لا يقع في حكم مركب من اجتهادين – كذا في الجوامع للسبكي – حيث قال: التلفيق في أجزاء الحكم لا في جزئيات المسائل، وإنما المحظور ما يؤدي إلى انحلال ربقة التكليف.
وجوز السيوطي الانتقال من المذهب مطلقًا فيما عمل به وما لم يعمل العامي.
لكن الغزالي يحظر على العامل أن ينتقي من المذاهب في كل مسألة أطيبها عنده فيوسع، وبه قال ابن عبد البر، لكن تتبع ابن عبد البر بذلك.
وأما القرافي المالكي فقد قال بجواز تقليد العامي غير إمامه على ألا يترتب على تقليده ما يجتمع على إبطاله الإمام الذي كان على مذهبه والإمام الذي انتقل إليه.
ولكن الكمال بن الهمام من فقهاء الحنفية قال: لا يمنع مانع شرعي من جواز اتباع المقلد رخص المذاهب، بأن يأخذ من كل منها ما هو الأهون عليه فيما يقع من المسائل.. وبه قال تلميذه ابن أمير حاج، وتبعه ابن بادشاه حيث منع من تفسيق متتبع الرخص وبين الصورة المحظورة منها..
لكن الإمام الشاطبي حمل لواء منع تتبع الرخص بالمطلق في الموافقات.. وقد بسطنا قوله ودليله.. لأن تتبع الرخص في رأيه يؤدي إلى إيجاب إسقاط التكليف جملة..
وخلاصة القول في المسألة ما أورده العز بن عبد السلام أن الأولى التزام الأشد والأحوط له في دينه أي من كل مذهب.. وأورد نماذج لتلك المسائل.. هذا في تتبع الرخص.
أما في التلفيق:
فليس على إطلاقه إجماعًا.. وإنما يشترط في المقلد الملفق ألا يترتب على تقليد من قلده أولًا ما يجتمع على بطلان كلا المذهبين
…
وألا يكون التلفيق في المحظورات لكونها على الورع.
والضابط في جواز التلفيق: أن كل ما أفضى إلى تقويض دعائم الشريعة والقضاء على سياستها وحكمتهما فهو محظور.
وأما إذا كان التلفيق يؤيد دعائم الشريعة وما ترمي إليه حكمتها وسياستها الكفيلتان بسعادة الدارين تيسيرًا عليهم في العبادات وصيانة لمصالحهم في المعاملات فهو مطلوب.
وهو ما أشار إليه العلماء بقولهم بأن التلفيق الممنوع ما خالف الإجماع، أو القواعد، أو النص، أو القياس الجلي.. وهذا ما يجري على تتبع الرخص أيضًا.
لأن ما ورد فيه النص فليس للمؤمن إلا طاعة الله ورسوله. وبالجملة فإن التلفيق يصدق عليه ما يصدق على الكلام حول مسألة إحداث القول الثالث. هذا وللتقليد بعد الفعل صلة بالتلفيق، بل التلفيق هو أحد صوره.. وصححه غير واحد من الفقهاء.
والتلفيق الممنوع باتفاق هو الذي يستلزم نقض حكم الحاكم أو يستلزم الرجوع عن أمر مجمع عليه لازم لأمر قلده.
والله أعلم بالصواب
الشيخ خليل محيي الدين الميس