الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حوادث السير
إعداد
د. عبد الله محمد عبد الله
عضو اللجنة الاستشارية العليا
للعمل على تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية بالكويت
بسم الله الرحمن الرحيم
حوادث السير:
1-
مسؤولية السائق في حوادث السير.
2-
أثر هذه المسؤولية في التعويض والزجر والكفارة.
نتناول هذا الموضوع في فصول:
الفصل الأول: مسؤولية السائق جزائيًّا.
الفصل الثاني: مسؤولية السائق مدنيا.
الفصل الثالث: أثر المسؤولية في التعويض والزجر.
الفصل الرابع: أحكام الكفارة.
الفصل الأول
مسؤولية السائق جزائيا
مقدمة في معنى كلمتي المسؤولية والجزاء ومدلولهما:
تعني كلمة المسؤولية في أصلها اللغوي معنى المطالبة والمؤاخذة، جاء في التنزيل في قوله تعالى:{وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1] ومعناه تطلبون حقوقكم به. وفي قوله تعالى: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت: 10] قال الزجاج: إنما قال سواء للسائلين؛ لأن كلا يطلب القوت ويسأله (1)، وفي قوله تعالى:{إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36] أي: يسأل كل واحد منهم عما اكتسب؛ فالفؤاد يسأل الإنسان عما افتكر فيه واعتقده، والسمع والبصر عما رأى من ذلك وسمع. والمعنى الآخر هو أن الله سبحانه وتعالى يسأل الإنسان عما حواه سمعه وبصره وفؤاده، ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم:((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)) .
فالإنسان راع على جوارحه، فكأنه قال: كل هذه كان الإنسان عنها مسؤولا (2) .
وفى الاصطلاح لا يختلف المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغوي.
فإن الإنسان يسأل عما جنته يداه وعما ألحقه بالغير من ضرر في النفس أو المال، قال تعالى:{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34] قال الزجاج: كل ما أمر الله به ونهى عنه من العهد هو القيام بحفظه على الوجه الشرعي والقانون المرضي إلا إذا دل دليل خاص على جواز النقض، وفي قوله تعالى:{إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34] فالمسؤول هنا هو صاحبه (3) . وتعريف المسؤولية في القانون: هي المؤاخذة والتبعة (4)، وفي تعريف آخر: إنها اقتراف أمر يوجب مؤاخذة فاعله (5) ، وفي الفقه الإسلامي تأتي المسؤولية بمعنى الضمان.
(1) لسان العرب مادة (سأل)
(2)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 10 / 259 – 260
(3)
فتح البيان لصديق خان: 5 / 254
(4)
المسؤولية المدنية في القانون المصري لمصطفى مرعي
(5)
المسؤولية المدنية التقصيرية والعقدية للمستشار حسين عامر ص 3
ويعرف الشيخ محمود شلتوت الضمان بقوله: " تضمين الإنسان عبارة عن الحكم عليه بتعويض الضرر الذي أصاب الغير من جهته"(1) .
معنى الجزاء:
أما الجزاء فهو المكافأة على الشيء. والجزاء يكون ثوابا وعقابا.
قال تعالى: {فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [يوسف: 74 – 75] .
جاء في اللسان أن معناه: عقوبته إن بان كذبكم بأنه لم يسرق، أي ما عقوبة السرقة عندكم إن ظهرت عليه؟ قالوا: جزاء السارق عندنا من وجد في رحله، أي الموجود في رحله؛ كأنه قال: جزاء السرق عندنا استرقاق السارق الذي يوجد في رحله، وكانت سنة آل يعقوب (2) .
وفي العرف المستقر عليه إطلاق قانون الجزاء على العقوبات، ويطلق عليها أيضا الجنايات (3) والجراح (4) والجرائم، ومن ثم أطلق على من يقوم بملاحقة المجرمين ومعاقبتهم: والي الجرائم (5) .
(1) الإسلام عقيدة وشريعة ص 392
(2)
لسان العرب مادة (جزى)
(3)
الشرح الصغير: 4 / 387
(4)
مغني المحتاج: 4 / 2، وحاشية الجمل: 5 / 2
(5)
الأحكام السلطانية للماوردي ص 275
مسؤولية السائق جزائيا
الشريعة الإسلامية لم تأخذ بمبدأ تحديد العقوبة إلا في عدد قليل من الجرائم كالردة والقتل والحرابة والزنى والسرقة والقذف وشرب الخمر، وتركت فيما عدا ذلك لولي الأمر من الحكام والقضاة ومن ينتدبون لذلك سلطة التعزير بالعقوبة المساوية حسب كل حالة، وهو اتجاه يحبذه بعض رجال القانون في أوروبا – وخاصة في إيطاليا (1) - ولكن لا يمنع ولي الأمر من إصدار قانون يحدد فيه العقوبة على كل جريمة لم يرد بشأنها عقوبة محددة من الشارع، وقد بين ابن القيم في الطرق الحكمية ذلك فقال:
"والمعاصي ثلاثة أنواع: نوع فيه حد ولا كفارة فيه؛ كالزنى والسرقة وشرب الخمر والقذف فهذا يكفي فيه الحد عن الحبس والتعزير.
ونوع فيه كفارة ولا حد فيه؛ كالجماع في الإحرام ونهار رمضان، ووطء المظاهر منها قبل التكفير، فهذا يكفي فيه الكفارة عن الحد، وهل تكفي عن التعزير؟ فيه قولان للفقهاء.
ونوع لا كفارة فيه ولا حد؛ كسرقة ما لا قطع فيه، واليمين الغموس عند أحمد وأبي حنيفة، والنظر إلى الأجنبية ونحو ذلك، فهذا نوع فيه التعزير وجوبًا عند الأكثرين وجوازا عند الشافعي " (2) .
(1) التشريع الجنائي الإسلامي: 1 / 159
(2)
الطرق الحكمية ص 106، 107
ومن الأمثلة الحية لجرائم التعزير قوانين المرور ولوائحها التنفيذية المتعلقة بحوادث السير. ولنضرب على ذلك مثلا: قانون المرور بدولة الكويت ولائحته التنفيذية: صدر مرسوم بقانون رقم 67 / 1976 في شأن المرور. وجاء في المذكرة الإيضاحية لهذا القانون أنه استرشد في إعداده بالمشروع الموحد لقواعد المرور على الطرق في الدول العربية الذي أعدته الجامعة العربية، وكذلك بقوانين الدول العربية الأخرى، وبما هو متخذ في الخارج من إجراءات حديثة للتقليل ما أمكن من حوادث المرور.
واشتمل هذا القانون على ستة أبواب:
جاء في الباب الأول الأحكام العامة، ومنها نطاق سريان هذا القانون على المشاة والحيوانات، كما تضمن تعاريف العبارات الفنية الخاصة بالمرور، وبين أنواع المركبات التي ينطبق عليها.
وتضمن الباب الثاني القواعد الخاصة بترخيص تسيير المركبات الآلية، واستلزم توافر شروط الأمن والمتانة في أية مركبة يرخص لها، على أن تبين هذه الشروط اللائحة التنفيذية، وبين قواعد نقل الملكية، وأعطت وزير الداخلية تحديد عدد المركبات التي يرخص من جميع الأنواع فيما عدا السيارات الخاصة وذلك تفاديا لزيادة عدد المركبات.
واشتمل الباب الثالث على أحكام رخص قيادة المركبات، فحظر قيادة أية مركبة آلية بغير رخصة قيادة. ونص على ضرورة الاختبار قبل الحصول على الرخصة، واستحدث نصا خاصا بتنظيم أندية السيارات التي تصرف الرخص الدولية.
وبين الباب الرابع قواعد المرور وآدابه.
وبين الباب الخامس العقوبات التي توقع على مرتكبي المخالفات لأحكام هذا القانون.
وتناول الباب السادس أحكاما عامة خاصة بحجز السيارات والمركبات، وبين سلطات رجال المرور في القبض والتحقيق والادعاء.
ثم أصدر وزير الداخلية القرار رقم 81 / 76 باللائحة التنفيذية لقانون المرور، وتضمنت التفصيلات لما ورد ذكره إجمالا في القانون سالف البيان.
إضافة إلى هذا القانون توجد أحكام أخرى تتعلق بحوادث المرور؛ مثل حوادث القتل الخطأ والإصابة الخطأ المنصوص عليها في قوانين الجزاء. وأنه إضافة إلى العقوبات المنصوص عليها في قانون الجزاء، أعطى قانون المرور في المادة 42 لمدير إدارة المرور أن يأمر إداريا بسحب رخصة القيادة، أو ترخيص المركبة مع لوحاتها المعدنية، أو كليهما، لمدة أقصاها أربعة أشهر؛ وينتهي السحب الإداري بصدور الحكم في الدعوى العمومية.
وليس هذا القانون بدعا؛ فإن المسلمين عرفوا ذلك منذ القرون الأولى للهجرة؛ فهذه كتب الحسبة على اختلافها تحتوي على كثير من الأبواب والفصول، وتتناول كثيرا من الحرف والصناعات، ودور المحتسب في الرقابة عليها، ومعاقبة المخالفين. يقول صاحب معالم القربة في افتتاح كتابه: وبعد؛ فقد رأيت أن أجمع في هذا الكتاب من أقاويل العلماء، مستندا به إلى أحاديث النبي عليه أفضل الصلاة والسلام، ما ينتفع به من استند لمنصب الحسبة، وقلب النظر في مصالح الرعية، وكشف أحوال السوقة وأمور المعيشة على الوجه المشروع؛ ليكون ذلك عمادا لسياسته وقواما لرئاسته
…
إلى أن يقول: وجعلته في سبعين بابا يشتمل كل باب منها على فصول شتى، يخصص الباب الرابع والخامس في الحسبة على أصحاب السفن والمراكب، والباب الخمسين في الحدود والتعزيرات. وكذلك الشيرازي في نهاية الرتبة، وابن بسام المحتسب في كتاب نهاية الرتبة أيضا، ويخصصان الباب الثاني من كتابيهما في النظر في الأسواق والطرقات وحمولات المراكب والتعازير؛ يقول ابن بسام في الباب السادس عشر والمائة في ترتيب التعزير: التعزير على قدر أحوال الناس، وعلى قدر الجناية، فمن الناس من يكون تعزيره بالقول والتوبيخ، ومنهم من يضرب بالسوط ولا يبلغ أدنى الحدود، ومنهم من يضرب بالدرة ويلبس الطرطور ويركب على جمل أو حمار.
فهذه جملة صالحة من الأحكام التي يتعين مراعاتها على كل قائد مركبة بحيث يترتب على مخالفته لهذه الأحكام المساءلة والعقاب، فبعض هذه الأحكام تتعلق بمدى صلاحية المركبة للاستعمال وشروط الأمن والمتانة، وبعضها تتعلق بقواعد المرور وآدابه، ورعاية إشارات المرور وأماكن الوقوف ونحو ذلك، ويترتب على مخالفتها تعريض حياة الأشخاص والأموال للخطر، هذا فضلا عن الحوادث التي تقع بالفعل ويترتب عليها إصابات أو إتلاف الأموال، وحددت القوانين لها عقوبات محددة، وهي من قبيل التعازير التي أسلفت الكلام عنها.
أما القوانين الوضعية، والفقه الحديث فإنه يعتبر المساءلة المدنية فرع المساءلة الجزائية، فللحكم الجزائي حجته أمام المحاكم المدنية. يقول السنهوري في الوسيط:(وإنما يرجع تقييد القضاء الجنائي للقضاء المدني إلى اعتبارين: أحدهما قانوني والآخر عملي. أما الاعتبار القانوني فهو أن الحكم الجنائي له حجية مطلقة، فهو حجة بما جاء فيه على الناس كافة، ومنهم الخصوم في الدعوى المدعية. والاعتبار العملي هو أنه من غير المستساغ – والمشاكل الجنائية من النظام العام – أن يقول القاضي الجنائي شيئا فينقضه القاضي المدني؛ فإذا صدر حكم جنائي بإدانة متهم أو براءته كان مؤذيا للشعور العام. فإن الحكم الجنائي إذا قضى بأن المتهم مجرم، لا يسوغ للقاضي المدني أن يقول: إن المتهم بريء، ولا يحكم عليه بالتعويض.وكذلك إذا قال: إن المتهم بريء، فيقول القاضي المدني: إنه مجرم. ويحكم عليه بالتعويض (1) .
(1) الوسيط: 1 / 946، 947
الفصل الثاني
مسؤولية السائق مدنيا
أخذت حوادث السير تتفاقم ويتضاعف عددها في سرعة فائقة، وأصبحت في نصف القرن الأخير في طليعة المسائل التي تشغل بال المهتمين في مختلف بلاد العالم.
ويرجع ذلك إلى عدة أسباب منها:
أولا - النهضة الصناعية الكبرى التي انتشرت في مختلف بلاد العالم، وكثر بسببها استعمال الآلات الميكانيكية والكهربائية.
ثانيا – ذيوع التأمين على المسؤولية، وما أدى إليه من زيادة الحوادث الضارة نتيجة الإهمال والتهاون، اعتمادا على قيام شركات التأمين لتغطية الضرر الذي ينجم عن حوادث السير في النفس والمال.
ثالثا – انتشار النزعة المادية التي اجتاحت العالم نتيجة لرواج الصناعة والتجارة وزيادة الأرباح وتضخم الثروات، وما صاحب ذلك من حرص وجشع، فلم يعد يطيق الإنسان أن تفلت منه فرصة للربح، ولا يحتمل أن يحل به ضرر دون أن يبحث عمن يحمله مسؤولية هذا الضرر ويطالبه بالتعويض.
كل هذه الأسباب وغيرها أدت إلى تضخم عدد قضايا المسؤولية المدنية.
يقول السنهوري: من الميادين التي يتسع فيها المجال لوقوع الخطأ حوادث النقل، فقد زادت أخطار النقل بقدر ما تعدد من وسائله وما امتد من نشاطه. ويقع كل يوم من حوادث النقل ما يوجب المسؤولية، وهي حوادث متنوعة تنجم عن وسائل النقل المختلفة من الدواب إلى المركبات إلى السيارات إلى السفن إلى الطائرات في البر والبحر والجو (1) .
(1) الوسيط: 1 / 813، 814
وأساس مسؤولية السائق في حوادث السير في القانون هو الفعل الضار، ويطلق عليه أيضا العمل غير المشروع أو المسؤولية التقصيرية، حيث يعتبر أحد مصادر الالتزام بل يعد أوسع المصادر القانونية للالتزام.
وأركان هذه المسؤولية ثلاثة: الخطأ والضرر والعلاقة السببية أو الرابطة السببية (1) . ومن الأمثلة المألوفة لحوادث السير: أن يقود شخص سيارة ويسير بها بسرعة ينجم عنها الخطر، أو أن يسير في الليل دون أن يوقد مصباح السيارة، أو أن يسير على الجانب الأيسر من الطريق، أو أن يدخل من شارع جانبي إلى شارع رئيسي دون أن ينتظر مرور السيارات التي تسير في الشارع الرئيسي، أو أن يخالف لوائح المرور ونظمها.
وفي كل هذه الحالات يكون الساق مسؤولا عن الخطأ لانحرافه عن السلوك العادي في استعمال الرخصة المخولة له قانونا، وقد انبنى على ضوء كثرة حوادث المرور تعديل في القوانين اقتضتها الزيادة الهائلة في الإصابات، فلم يعد مطلوبا من المضرور إثبات الضرر، فقد أصبح الخطأ مفترضا على أساس حراسة الأشياء التي تتطلب حراستها عناية خاصة، ومن ثم فإن السائق باعتباره حارسا مسؤولا عما تحدثه وسائل النقل من ضرر، ما لم يثبت أن وقوع الضرر كان بسبب أجنبي عنه لا يد له فيه (2) ؛ كأن يكون نتيجة قوة قاهرة أو حادث فجائي أو فعل المضرور أو خطأ الغير.
(1) المذكرة الإيضاحية للقانون المدني الكويتي، انظر التعليق على المادة 227 من القانون
(2)
الوسيط 1 / 817، 819، 880، 987؛ والمذكرة الإيضاحية للقانون المدني الكويتي في تعليقها على المادة 233
والفقه الإسلامي يتفق في كثير من مسائله مع ما هو مقرر في الفقه الوضعي، إلا أن ما يصيب الإنسان في ماله يبحث فيه في باب الإتلاف، أو ما يصيب الشخص في نفسه وبدنه؛ فيبحث فيه في باب الجنايات والديات.
قال في مجمع الضمانات: الجناية اسم لما يجتنيه المرء من شرٍّ اكتسبه، وفي الشرع اسم لفعل محرم سواء كان في مال أو نفس، لكن في عرف الفقهاء يراد بإطلاق اسم الجناية فعل محرم في النفس والأطراف (1) .
أركان المسؤولية في حوادث السير:
بينا أن أركان المسؤولية في الفقه الوضعي والقوانين بصفة عامة هي: الخطأ، والضرر، والعلاقة أو الرابطة السببية.
وفي الفقه الإسلامي يشترط تحقق هذه الأركان:
الركن الأول – الخطأ:
وتعريفه في القانون بأنه إخلال بالتزام قانوني، والالتزام القانوني الذي يعتبر الإخلال به خطأ في المسؤولية التقصيرية، هو الالتزام ببذل عناية بأن يصطنع الشخص في سلوكه اليقظة والتبصر حتى لا يضر بالغير، فإذا انحرف عن هذا السلوك كان هذا الانحراف خطأ يستوجب مسؤولية تقصيرية (2) .
وعرف الفقهاء الخطأ بأنه فعل يصدر من الإنسان بلا قصد إليه عند مباشرة أمر مقصود سواه (3) .
ويعرفه الكمال بن الهمام بأن يقصد بالفعل غير المحل الذي يقصد به الجناية (4) .
وحكم الخطأ في الشريعة الإسلامية بالنسبة لحقوق العباد أنه لا يسقط بالخطأ بل يجب ضمان المتلفات والديات وكل ما يتعلق بحقوق العباد، ولكن لا يجب القصاص؛ كما لو رمى إنسانا على ظن أنه صيد فقتله (5) .وقد اعتبر الفقهاء حوادث الطريق من قبيل الخطأ، يقول ابن قدامة في شرحه على قول المتن:"وإن تصادم نفسان يمشيان فماتا فعلى عائلة كل واحد منهما دية الآخر" قال: ولا يجب القصاص سواء كان اصطدامهما عمدا أو خطأ؛ لأن الصدمة لا تقتل غالبا، فالقتل الحاصل بها مع العمد عمد الخطأ، وكذلك الحكم في اصطدام السفينتين، وكذلك بالنسبة لاصطدام الفارسين.
قال عند تعليقه على المتن: "وإذا اصطدم الفارسان فماتت الدابتان ضمن كل واحد منهما قيمة دابة الآخر".
(1) حاشية رد المحتار 6 / 527، مجمع الضمانات للبغدادي ص 165
(2)
الوسيط 1 / 777، 779
(3)
التلويح: 2 / 195، الموسوعة الفقهية، مصطلح (خطأ) : 19 / 129
(4)
تيسير التحرير: 2 / 305
(5)
الموسوعة الفقهية، مصطلح (خطأ)
قال: وجملته أن على كل واحد من المصطدمين ضمان ما تلف من الآخر من نفس أو دابة أو مال، سواء كانت الدابتان فرسين أو بغلتين أو حمارين أو جملين، أو كان أحدهما فارسا والآخر غيره، سواء كانا مقبلين أو مدبرين، ويتفق معه في ذلك الشيرازي من الشافعية في المهذب (1) . وللمالكية تفصيل، حيث حملوا تصادم السفينتين إذا تصادمتا وجهل الحال على عدم المقصد من رؤسائهما، فلا قود ولا ضمان؛ لأن جريهما بالريح من عمل أربابهما كالعجز الحقيقي بحيث لا يستطيع كل منهما أن يصرف دابته أو سفينته عن الآخر؛ فلا ضمان بل هو هدر. لكن الراجح أن العجز الحقيقى في المتصادمين فيه ضمان الدين في النفس، والقيمة في الأموال، بخلاف السفينتين فهدر، وحملا عليه عند جهل الحال، وأما لو قدر أهل السفينتين على الصرف ومنعهم خوف الغرق أو النهب أو الأسر، حتى أهلكت إحدى السفينتين الأخرى؛ فضمان الأموال في أموالهم والدية على عواقلهم، لأنهم لا يجوز لهم أن يسلموا بهلاك غيرهم (2) .
فإذا انتفى الخطأ فلا مسؤولية، كما إذا كان أحدهما واقفا والآخر يسير فصدم الواقف فلا شيء على الواقف والضمان على الصادم، فإذا مات هو أو دابته فهو هدر لأنه أتلف نفسه ودابته. أما إذا كان الواقف متعديا بوقوفه، مثل أن يقف في طريق ضيق، فالضمان عليه دون السائر لأن التلف حصل بتعديه (3) .
وتحقيق ذلك كما قاله السرخسي في المبسوط: هو أن السير على الدابة في الطريق العام مباح مقيد بشرط السلامة بمنزلة المشي، فإن الحق في الطريق العام لجماعة المسلمين، وما يكون حقا للجماعة يباح لكل واحد استيفاؤه بشرط السلامة، لأنه حقه في ذلك يمكنه من الاستيفاء، ودفع الضرر عن الغير واجب عليه، فيقيد بشرط السلامة ليعتدل النظر من الجانبين، ثم إنما يشترط عليه هذا القيد فيما يمكن التحرز عنه دون ما لا يمكن التحرز عنه؛ لأن ما يستحق على المرء شرعا يعتبر فيه الوسع، ولأنا لو شرطنا عليه السلامة عما لا يمكن التحرز عنه تعذر عليه استيفاء حقه لأنه يمتنع من المشيء والسير على الدابة مخافة أن يقتل بما لا يمكن التحرز عنه، فأما ما يستطاع الامتناع عنه لو شرطنا عليه صدق السلامة من ذلك لا يمتنع عليه استيفاء حقه وإنما يلزم منه نوع احتياط في الاستيفاء (4) .
(1) المغني 9 / 173 – 175، المهذب 2 / 164
(2)
حاشية الصاوي على أقرب المسالك (4/ 346)
(3)
المغني: 9 / 179؛ المهذب 2 / 164
(4)
المبسوط 26 / 188
ولما كان السير في الطرق العام مباحا لكل أحد من الناس سيرا على الأقدام أو استعمالا لأية وسيلة من الوسائل التي يتيحها العصر، فإن الإنسان لا يسأل إلا عن فعل غير مأذون فيه ويترتب عليه أذى للغير.
أنواع الخطأ:
الخطأ نوعان: 1- مباشر. 2- تسبب.
المباشر: هو الذي يحصل التلف من فعله دون أن يتخلل بينه وبين التلف فعل فاعل آخر؛ لأن المباشرة علة، والعلة مقارنة للحكم، ولذا فإن كل شخص مسؤول عن فعله سواء وقع منه قصدا أو خطأ خلافا للتسبب (1) .
المتسبب: هو من يصدر عنه من الأفعال ما كان طريقا لتلف مال أو نفس أو عضو وليس علة للتلف، لأنه من الأفعال الصالحة للضدين أو هو ما وقع التلف بفعله مع حلول فعل فاعل آخر بين الفعل الواقع والتلف، وهو المتسبب بالتلف، ولا يضمن المتسبب إلا إذا كان معتديا بفعله وكان الفعل الواقع بسببه دون مباشر.
وقد عرفت المادة 887 من مجلة الأحكام العدلية الإتلاف مباشرة: بأنه إتلاف الشيء بالذات، ويقال لمن فعله: فاعل مباشر.
وعرفت المادة 888 الإتلاف سببا بأنه التسبب لتلف شيء؛ يعني إحداث أمر في شيء يفضي إلى تلف شيء آخر على جري العادة، ويقال لفاعله: متسبب؛ كما أن قطع حبل قنديل معلق يكون سببا مفضيا لسقوطه على الأرض وانكساره، ويكون حينئذ قد أتلف الحبل مباشرة والقنديل تسببا. ومن الأمثلة التي ذكرها صاحب مجمع الضمانات للتسبب: رجل وضع في الطريق حجرا أو جذعا أو بنى فيه بناء أو أخرج من حائطه جذعا أو صخرة شاخصة
…
فإن عثر بما أحدثه في الطريق رجل فوقع على آخر فمات كان الضمان على الذي أحدثه في الطريق، وصار كأنه دفع الذي عثر به؛ لأنه مدفوع في هذه الحالة، والمدفوع كالآلة، ولو نحى رجل شيئا من ذلك عن موضعه فعطب بذلك إنسان كان الضمان على الذي نحاه ويخرج الأول من الضمان (2) .
(1) مجمع الضمانات ص 165، شرح المحاسني للمادة 92، وشرح علي حيدر للمادة نفسها
(2)
مجمع الضمانات ص 176؛ والفروق للقرافي في الفرق السابع عشر بعد المائة؛ الأشباه والنظائر للسيوطي ص 162
وقد ذكرت المجلة في المادة الثانية والتسعين حكم المباشر فقالت: المباشر ضامن وإن لم يتعمد، ويقول الأتاسي في شرحه لها: لأن المباشرة علة للتلف اسما لإضافة الحكم إليها لأنها مؤثرة فيه، وحكما لعدم تراخي الحكم عنها، فيضمن وإن كان مخطئا؛ سواء كان الخطأ في نفس الفعل، نحو أن يقصد صيدا فأصاب شاة لإنسان، أو في ظن الفاعل، نحو أن يظن الشاة حجرا فأصابها بسهمه، أو لم يكن هذا ولا هذا، كما لو انقلب وهو نائم على مال فأتلفه، قال: وإن لم يتعمد لأنه مع التعمد من باب أولى وعليه الإثم وبدونه ضمان ولا إثم (1) .
كما بينت المادة 93 حكم المتسبب فنصت على أن المتسبب لا يضمن إلا إذا كان متعمدا أو متعديًا، ويتحقق التعمد أو التعدي إذا كان يعلم أن فعله سيؤدي إلى الضرر الذي وقع، فجعل العلم دليلا على التعمد قائما مكانه (2) .
ويقول صاحب درر الحكام: "ويشترط في ضمان المتسبب شيئان:
1-
أن يكون متعمدا.
2-
أن يكون معتديًا" (3) .
ويقول الأتاسي موضحا معنى المتسبب: المتسبب ما كان فعله مفضيا إلى الحكم كالتلف مثلا من غير تأثير، وإنما المؤثر هو العلة المتوسطة، لكن تلك العلة قد لا يصح إضافة الحكم إليها، فيضاف إلى السبب، فعند ذلك ينظر: إن كان نحو التلف حاصلا عن فعل المتسبب بغير حق، كحفر البئر في الطريق العام أو في ملك الغير يضمن ما تلف فيه وإن لم يتعمد؛ لأنه متعمد بنفس الفعل. وإن حصل عن فعل مباح له في ذاته إلا أنه تعمد بقصد إيجاد العلة المؤثرة التي حصل منها التلف، ولا تصلح لإضافة الحكم إليها، يقال: متسبب متعمد فيضمن، ويضرب مثلا لذلك: لو حفر أحد في الطريق العام بئرا بلا إذن ولي الأمر ووقعت فيها دابة لآخر تلف، يضمن، وأما لو وقعت الدابة في بئر كان قد حفرها في ملكه وتلفت لا يضمن؛ أي لزم الضمان لحفر البئر بغير حق، وعدمه لحفرها بحق، وهو التصرف في ملكه؛ كذلك لو هدم بيته بنفسه فانهدم به بيت جاره، لا يضمن؛ لأنه غير متعد.
(1) شرح المجلة للأستاذ خالد الأتاسي: 1 / 255
(2)
شرح الأتاسي: 1 / 257
(3)
درر الأحكام شرح مجلة الأحكام: 12 / 83
وبينت المادة التسعون حكم ما إذا اجتمع المباشر والمتسبب، فتنص على أنه إذا اجتمع المباشر والمتسبب أضيف الحكم إلى المباشر، ومثاله: لو حفر رجل بئرا في الطريق العام، فألقى أحد حيوان شخص في ذلك البئر، ضمن الذي ألقى الحيوان ولا شيء على حافر البئر؛ لأن حفر البئر بحد ذاته لا يستوجب تلف الحيوان لو لم ينضم إليه فعل المباشر – وهو إلقاء الحيوان في البئر – لما تلف بحفر البئر فقط (1) .
وهذه القواعد يتفق عليها فقهاء المذاهب، يقول ابن عبد السلام في قواعده: يجب الضمان بأربعة أشياء: اليد والمباشرة والتسبب والشرط (2) .
ويقول السيوطي في قاعدة: إذا اجتمع السبب أو الغرر والمباشرة قدمت المباشرة (3) ، ويسوق أمثلة كالأمثلة التي ذكرناها.
ويذكر صاحب الفروق في المالكية في الفرق السابع عشر بعد المئتين: أسباب الضمان ثلاثة: أحدهما التفويت مباشرة، وثانيها: التسبب للإتلاف، وثالثها: وضع اليد غير المؤتمنة (4) .
وفي قواعد ابن رجب: إذا استند إتلاف أموال الآدميين إلى مباشرة وسبب تعلق الضمان بالمباشرة دون السبب؛ إلا إذا كانت المباشرة مبنية على السبب وناشئة عنه.. ثم إن كانت المباشرة والحالة هذه لا بد وأن فيها بالكلية استقل السبب وحده بالضمان. وإن كان فيها عدوان شاركت السبب الضمان، ويضرب جملة من الأمثلة لذلك منها: إذا حفر واحد بئرا عدوانا، ثم دفع غيره فيها آدميا معصوما أو مالا لمعصوم، فسقط فتلف، فالضمان على الدافع وحده. ومنها: لو رمى معصوما من شاهق فتلقاه آخر بسيف فقتله به، فالفاعل هو الثاني دون الأول (5) .
الركن الثاني – الضرر:
يعرف القانونيون الضرر بأنه: الأذى الذي يصيب الشخص في حق من حقوقه أو في مصلحة مشروعة له؛ سواء كان ذلك الحق أو تلك المصلحة متعلقة بسلامة جسمه أو عاطفته أو بماله أو حريته أو شرفه واعتباره أو غير ذلك؛ فهو شرط ضروري لقيام المسؤولية التقصيرية وإمكان المطالبة بالتعويض،لأن التعويض لا يكون إلا عن ضرر أصاب طالبه، ولأن مدعى المسؤولية لا تكون له مصلحة في الدعوى إلا إذا كان قد أصابه ضرر يطالب بتعويضه (6) .
(1) درر الأحكام شرح مجلة الأحكام: 12 / 83
(2)
قواعد الأحكام: 2 / 155
(3)
الأشباه والنظائر: ص 162
(4)
الفروق للقرافي: 4 / 27
(5)
القواعد لابن رجب، القاعدة السابعة والعشرون بعد المائة
(6)
الوسيط: 1 / 310
والضرر وما يترتب عليه من تعويضات قد لا يكون بهذا العموم في الفقه الإسلامي، إلا أنه بما لا شك فيه أن الضرر الذي يلحق الإنسان في بدنه أو في ماله، أفرد الفقهاء لكل نوع من هذين النوعين أبوابا خاصة في كتب الفقه، وإن كانت أسباب الوجوب واحدة هي التعدي والتقصير كما بينا فيما تقدم. ويعرف بعض الفقهاء الضرر بأنه إلحاق مفسدة بالغير مطلقا (1) . وقد وردت عدة قواعد تعالج مشكلة الضرر.
القاعدة الأولى: " لا ضرر ولا ضرار " وهذا نص الحديث، قال عنه الهيثمي:"رجاله ثقات"، وقال النووي في الأذكار:"هو حسن".
قال المحاسني في شرحه لهذه المادة: ومعناه نفي وقوع الضرر ونفي المقابلة بالضرر فلا يحق لمن تلف ماله أن يتلف مال من أتلف ماله؛ لأن الإتلاف لا يجبر ما أتلف أولًا، ولا يعوض عنه شيئا، وإنما الجابر هو التعويض على من أتلف ماله بالمثل أو بالقيمة. قال: ولقد أسس هذا الحديث قاعدتين عظيمتين عليهما مدار استخراج أكثر الأحكام، كالغصب والإتلاف والحيطان والجيران وأحكام الطرق والمسيل والمرور. وهو من جوامع الكلم.
ويقول علي حيدر: وتشتمل هذه القاعدة على حكمين:
الأول: أنه لا يجوز الإضرار ابتداء، أي لا يجوز للإنسان أن يضر شخصا آخر في نفسه وماله؛ لأن الضرر هو ظلم والظلم ممنوع في كل دين، وجميع الكتب السماوية قد منعت الظلم
…
والثاني: وهو أنه لا يجوز مقابلة الضرر بمثله وهو الضرار.
والقاعدة الثانية: " الضرر يزال ". والقاعدة الثالثة: "الضرر لا يزال بمثله". ومعنى القاعدتين أنه لو وقع فعل من أحد على غيره سواء كان غير مشروع أصلا، أو كان مشروعا لكنه أضر بالغير، يزال، لكن لا يزال بالطريق الذي حصل به ذلك الضرر.
وقد يستعمل الفقهاء تعبيرات أخرى مرادفة للضرر كالإتلاف والإفساد.
الركن الثالث – العلاقة السببية أو الرابطة السببية:
يقول الأستاذ السنهوري: إن علاقة السببية ما بين الخطأ والضرر معناها أن توجد علاقة مباشرة ما بين الخطأ الذي ارتكبه المسؤول، والضرر الذي أصاب المضرور، والسببية هي ركن مستقل عن ركن الخطأ، وآية ذلك أنها قد توجد ولا يوجد الخطأ، ويسوق لذلك أمثلة نقتصر على مثال واحد منها: شخص يقود سيارة دون رخصة ثم يصيب أحد المارة وتكون الإصابة بخطأ يقع من هذا المصاب؛ فهنا خطأ وهو قيادة السيارة دون رخصة، وضرر وهو إصابة أحد المارة، ولكن الخطأ ليس هو السبب في الضرر بل هناك سبب أجنبي هو خطأ المصاب فوجد الخطأ دون أن توجد السببية (2)
…
إلى أن يقول: فحيث تنعدم السببية ينعدم في الوقت ذاته الضرر، ومن هذا الوجه يكون الضرر والسببية متلازمين (3) .
(1) فيض القدير: 6 / 431
(2)
الوسيط: 1 / 872، 873
(3)
ذات المصدر ص 884
العلاقة السببية في الفقه الإسلامي:
يشترط كذلك في الفقه الإسلامي أن توجد علاقة سببية بين التعدي أو الخطأ وبين الضر الذي لحق بالمصاب حتى تكون هناك مسؤولية عن حد الضرر، فلو وضع إنسان سُمًّا في طعام أحد وقبل سريان السم فيه أتى شخص آخر وقتله؛ فهنا خطأ وهو وضع السم، وضرر وهو موت المصاب، ولكن لم تتحقق رابطة السببية، إذ الموت حصل من إطلاق النار لا من وضع السم، فوجد الخطأ ولكن انقطعت رابطة السببية: فلا مسؤولية على الفاعل. ومن الأمثلة التي ساقها الزيلعي ويتحقق فيها انعدام الرابطة السببية لو أن رجلا طرح رجلا أمام سبع فقتله السبع فليس على الطارح شيء (1) .
انعدام الرابطة أو انتفاؤها:
ينبغي أن يكون الخطأ هو السبب في إحداث الضرر، فإذا كان الضرر بسبب أجنبي انعدمت السببية أو كان السبب غير منتج أو غير مباشر فتخصص لكل منهما فقرة: انتفاء الرابطة السببية لقيام سبب أجنبي كقوة قاهرة أو حادث مفاجئ أو فعل المضرور نفسه أو فعل الغير (2) .
فإذا أثبت الشخص أن الضرر قد نشأ عن سبب من هذه الأسباب كان غير ملزم بتعويض هذا الضرر.
أ- القوة القاهرة والحادث الفجائي:
كلاهما يجب أن يكون غير ممكن التوقع ويستحيل دفعه، هذا في القانون، وفي الفقه الإسلامي قال بعضهم: هو أن يحصل التلف بقوة لا يستطيع الإنسان دفعها وليس في إمكانه أن يحترز عنها (3) ، أو هما كل أمر عارض خارج عن تدخل الإنسان (4) .
فإذا حصل التلف بآفة سماوية فلا ضمان؛ لأن القاعدة الفقهية تقضي: كل ما لا يمكن الاحتراز منه لا ضمان فيه" (5) .
(1) شرح الزيلعي: 6 / 153
(2)
المادة 233 مدني كويتي، والمادة 165 من القانون المدني المصري
(3)
المسؤولية المدنية والجنائية في الشريعة الإسلامية ص 32
(4)
النظرية العامة للموجبات والعقود 1 / 288
(5)
نظرية الضمان ص 35
ومن الأمثلة الفقهية التي ذكرها صاحب مجمع الضمانات: إذا غرقت السفينة، فلو من ريح أصابها أو موج أو جبل صدمها من غير مد الملاح وفعله لا يضمن بالاتفاق، وإن كان بفعله؛ يضمن سواء خالف بأن جاوز العادة أو لم يخالف. ولو دخلها الماء فأفسد المتاع فلو بفعله ومده يضمن بالاتفاق، ولو بلا فعله إن لم يمكن التحرز عنه لا يضمن إجماعا، وإن كان بسبب يمكن التحرز عنه لا يضمن عند أبي حنيفة، وعندهما يضمن (1) . ويذكر ابن قدامة صورا مختلفة لتصادم السفينتين ويقول: وإن لم يكن من واحد منهما تفريط، لكن هاجت ريح أو كان الماء شديد الجرية فلم يمكنه ضبطها، فلا ضمان عليه؛ لأنه لا يدخل في وسعه ضبطها، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها (2) .
وفي مجمع الضمانات: سكران جمح به فرسه فاصطدم إنسانا فمات، أجاب: إن كان لا يقدر على منعه فليس عليه ضمان، فلا يضاف سيره إليه فلا يضمن، قال: وكذا غير السكران إذا لم يقدر على المنع (3) .
ب- فعل المضرور وخطؤه:
من الأمثلة التي وردت في مجمع الضمانات والتي تدل على أن الضرر الذي وقع إن كان من فعل المضرور نفسه فليس على الطرف الآخر مسؤولية ذلك الفعل، مثل أرباب السفن إذا أوقفوها على الشط، فجاءت سفينة فأصابت السفينة الواقفة، فانكسرت السفينة الواقفة؛ كان ضمان الواقفة على صاحب السفينة الجائية، فإن انكسرت الجائية لا يضمن صاحب الواقفة؛ لأن الإمام أذن لأرباب السفن بإيقاف السفن على الشط فلا يكون تعديا (4) .
(1) مجمع الضمانات ص 48
(2)
المغني: 9 / 175
(3)
مجمع الضمانات ص 189
(4)
مجمع الضمانات ص 150
كذلك لو عثر السائر بالواقف، قدم الماشي هدر وعلى عاقلته دية الواقف؛ لأن السائر هو المتلف، فكان الضمان عليه، فإن مات هو أو دابته فهو هدر، لأنه أتلف نفسه ودابته (1) .الصورة الأخرى لفعل المضرور هو اشتراكه مع الآخر في إحداث الضرر، أما في الصورة الأولى فكان الخطأ كله من جانب المضرور نفسه، أما في هذه الصورة فإن الاثنين يشتركان في الخطأ وفي إيقاع الضرر، ومثاله: أن يصطدم الفارسان فيتلفان أو تتلف دابتاهما. يقول ابن قدامة في هذه الصورة ويذكر مذاهب العلماء فيها، وجملته: أن على كل واحد من المصطدمين ضمان ما تلف من الآخر من نفس أو دابة أو مال، سواء كانت الدابتان فرسين أو بغلين أو حمارين أو جملين، أو كان أحدهما فرسا والآخر غيره، سواء كانا مقبلين أو مدبرين، وبهذا قال أبو حنيفة وصاحباه وإسحاق، وقال مالك والشافعي: على كل واحد منهما نصف قيمة ما تلف من الآخر؛ لأن التلف حصل بفعلهما، فكان الضمان منقسما عليهما كما لو جرح إنسان نفسه وجرحه غيره فمات منها (2) .
ويقول صاحب المهذب من الشافعية في هذه الصورة: لأن كل واحد منهما هلك بفعله وفعل صاحبه، فهدر النصف بفعله ووجب النصف بفعل صاحبه، كما لو جرح كل واحد منهما نفسه وجرحه صاحبه (3) . وللمزني تفصيل يقول: إن استلقى أحدهما فانكب الآخر على وجهه وجب على المكب دية المستلقي وهدر دمه؛ لأن الظاهر أن المنكب هو القاتل والمستلقي هو المقتول (4) .
(1) المغني 9 / 173، 174
(2)
المغني: 9 / 173
(3)
المهذب: 2 / 194
(4)
ذات المرجع – ومجمع الضمانات ص 189
والصورة الثالثة:
أن يكون فعل المضرور وخطؤه يفوق في جسامته خطأ الآخر وفي هذه الحالة لا يستحق أي تعويض. ونص القانون المدني الكويتي في المادة 257 على صورتين، إحداهما إذا تعمد المضرور إصابة نفسه، والأخرى أن تكون الإصابة قد لحقته نتيجة سوء سلوك فاحش ومقصود من جانبه، وتقول المذكرة التفسيرية: فالشخص الذي يتعمد أن يلحق بنفسه الأذى يعتبر أنه أهدر دمه بنفسه، ويأخذ الحكم العمد سوء السلوك الفاحش المقصود. ومن أمثلة سوء السلوك الفاحش ما جاء في مجمع الضمانات: رجل ساق حمارا وعليه وقر حطب، وكان رجل واقفا في الطريق أو يسير فنبهه السائق فلم يسمع حتى أصابه الحطب فخرق ثوبه، أو سمع ولكن لم يتهيأ له أن يتنحى عن الطريق لضيق المدة ضمن. وإن سمع وتهيأ لكن لم ينتقل لا يضمن، ولا فرق في هذا بين الأصم وغيره.
وكذا رجل جلس على الطريق فوقع عليه إنسان ولم يره فمات الجالس لا يضمن (1) .
(1) مجمع الضمانات ص 190
جـ- خطأ الغير:
ومن أمثلة خطأ الغير الهارب الخائف إذا وطئ أو صدم شيئا فذلك على الذي فعل به، وكذلك لو نخس أجنبي دابة لها سائق أو قائد أو راكب، ونشأ عن نخسها شيء، فعلى الناخس دون من معها من سائق أو قائد أو راكب، حتى لو قَتلت بنخسها لوجبت دية على عاقلة ذلك الناخس (1) .
أما ما تسببه البهائم المرسلة من حوادث على الطرقات فقد قال النووي بالضمان مطلقا لأنه مفرط بإرسالها (2) . وذهب آخرون إلى أن ما تتلفه البهائم من غير الزرع لا يضمن مالكها ليلا أو نهارا ما لم تكن يده عليها، مستدلين بحديث:((العجماء جرحها جبار)) متفق عليه، لكن هذا ليس على إطلاقه؛ بل هو مقيد بأن لا ينشأ ذلك عن قصد منه أو تقصير، قال علي حيدر في شرحه للمادة 94 (جناية العجماء جبار) : لو ترك إنسان حيوانه مطلقا في الطريق العام، وهو مما لا يطلق في الشوارع، فأتلف مالا أو قتل إنسانا فتلزمه دية القتيل أو قيمة المال المتلف. وقد ورد في المادة 929 أن صاحب الثور النطوح والكلب العقور يكون ضامنا بما أتلفاه فيما إذا تقدم إليه أحد من أهل محلته أو قريته (3) .وفي الفتح عن بعض الشافعية: وأنه لو وجدت عادة قوم إرسال المواشي ليلا وحبسها نهارا انعكس الحكم على الأصح (4) .
(1) الفواكه الدواني: 2 / 269 – مجمع الضمانات ص 187، 188
(2)
المغني: 9 / 170، 171
(3)
درر الحكام شرح مجلة الأحكام: 1 / 84
(4)
فتح الباري: 15 / 283
الفصل الثالث
أثر المسؤولية في التعويض والزجر
أولا – أثر المسؤولية في التعويض
يقصد بالتعويض في القانون جبر الضرر الذي لحق بالمصاب، وهو مختلف عن العقوبة التي يقصد بها مجازاة الجاني على فعلته للردع والزجر، والتعويض يقدر بقدر الضرر، أما العقوبة فتقدر بقدر خطأ الجاني ودرجة خطورته، والتعويض يكون عينيًّا ونقديًّا؛ فالتعويض العيني كما لو كسر شخص لوحا من الزجاج مملوكا للغير، فحكم عليه بإعطائه لوحا غيره من نوعه ...... وهكذا غير أنه يتعذر في أحوال كثيرة، فيتعين التعويض النقدي. والقاعدة في تقدير التعويض النقدي: أن يقدر بقدر الضرر من مراعاة الظروف الملابسة، ويشمل ما لحق المصاب من خسارة وما ضاع عليه من كسب؛ بشرط أن يكون ذلك نتيجة طبيعية للفعل الضار.
ويكون تقدير مبلغ التعويض داخلا في سلطة القاضي (1) .
هذا في الفقه الوضعي وما يجري عليه العمل في المحاكم. أما في الفقه الإسلامي فإن التعويض بالمعنى السابق لا يكاد يكون معروفا في كتب الفقه الإسلامي إلا في القليل النادر، وإنما المستعمل لفظة (الضمان) يقال: ضمان المتلفات؛ وإبدال المتلفات، أو بدل المتلفات وقيم المتلفات بالنسبة للأموال، وضمان الجناية في حق الأبدان، وفارقت الأبدان الأموال في أن ضمان الأبدان مقدر من قبل الشارع، إلا في حالات قليلة تقديرها من قبل العدول وتسمى حكومة العدل، بخلاف الأموال فلم يأت في تقديرها شيء من قبل الشارع، بل ترك أمر التقدير فيها إلى الناس وتختلف باختلاف المواضع.
يقول السرخسي: وضمان الجناية إنما يفارق ضمان المتلفات في كونه مقدر شرعا، وأدن ذلك أرش الموضحة، فما دون ذلك بمنزلة ضمان المتلفات (2) .
(1) الوسيط: 1 / 669، 971، والمذكرة التفسيرية للقانون المدني الكويتي ص 239 وما بعدها في تعليقها على المواد 245 – 274
(2)
المبسوط: 26 / 84
ووردت كلمة التعويض في المبسوط معطوفة على الضمان في تقديرات حكومة العدل لجراح الأبدان التي لا تقدير فيها من قبل الشارع، وأن دور القاضي في تقدير أروشها كتقدير المتلفات من الأموال المضمونة، يقول السرخسي: ولكن أظهر ما يكون معنى الضمان والتعويض هو في حكومة العدل، فإن تقدير القاضي فيها شبيه بتقدير المتلفات من الأموال المضمونة (1) .
ومن هنا يصح إطلاق التعويض على ما يجيز القدر الذي يلحق بالبدن مما لم يرد بشأنه تقدير من الشارع، أما ما عدا ذلك فتبقى المصطلحات الفقهية التي استعملها الشارع على ما هي عليه وتبقى إطلاقاته واستعمالاته في محلها، وقد استعمل الشارع لفظة الدية في مقابل هلاك النفس وبعض الحواس والأعضاء في البدن مما ورد بشأنه تقدير من الشارع، كإتلاف بعض المعاني والحواس والأعضاء في بدن الإنسان. كما أطلق لفظة الأرش على بدل الشجاج والجراح التي تلحق بالبدن، وبعضها ورد فيها تقدير من الشارع فتجب فيها تلك المقادير، وبعضها ليس فيها تقدير وإنما تجب فيها حكومة العدل. وقد استعمل القانون المدني الكويتي لفظة التعويض بحيث يشمل سائر عناصر التعويض بما فيها الدية والأرش؛ تقول المادة 248: إذا كان الضرر واقعا على النفس، فإن التعويض عن الإصابة ذاتها يتحدد طبقا لقواعد الدية الشرعية، من غير تمييز بين شخص وآخر، وذلك دون إخلال بالتعويض عن العناصر الأخرى للضرر.
(1) المبسوط: 26 / 84
وتشرح المذكرة التفسيرية هذه المادة بقولها: وتأتي المادة 248 لتقضي سلفا، وهو ما يتمثل في الدية الشرعية نفسها، والمشرع إذ يفعل ذلك يخالف الأصل العام المقرر في القانون المعاصر المتمثل في ترك تحديد التعويض للمحكمة لينحو منحى الفقه الإسلامي القاضي بأن يكون التعويض بقدر الدية كاملة كانت أم في جزء منها.
والتعويض عن ذات إصابة النفس يتحدد بالدية طبقا لأحكام الشريعة الإسلامية، وحاصل هذا أن ذاك التحديد لا يكون إلا حينما تكون إصابة النفس مما يمكن أن تقوم عنها الدية والأرش، فإن لم تبلغ الإصابة مبلغ ما تدفع عنه الدية والأرش، وفق ما تقضي به أحكام الشرع الإسلامي وينص عليه جدول الديات، فإن التعويض عنها وفق ما يقدره القاضي حسب ما يراه جابرا للضرر، ويتفق هذا الحكم مع ما يقول به الفقه الإسلامي من أن قطع الأعضاء والجراح التي تصيب الإنسان فتنتقص من المنفعة أو الجمال، والتي لا يوجد فيها قصاص وليس لها دية أو أرش مقدر شرعا تجب فيها غرامة متروكة لتقدير القاضي، مثال ذلك: كسر غير السن من العظام وما كان بسيطا من الخدوش والجراح.
وتمضي المذكرة في بيانها أحكام الدية بالنسبة إلى التعويضات الأخرى فتقول: والدية لا تتمثل تعويضا إلا عن ذات إصابة النفس، وهي بهذه المثابة لا تمنع من التعويض وفق ما يقدره القاضي من كافة عناصر الضرر الأخرى، إن وجدت كالضرر الناشيء عن القعود عن الكسب، وفقد العائل، ومصروفات العلاج، والآلام حسية كانت أم نفسية، وغير ذلك كله من كافة صنوف الأذى التي تلحق الناس في أنفسهم أو في أموالهم.
وجوب الدية على من ألحق الضرر بالغير:
الأصل في وجوب الدية قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92] .
وبينا فيما سبق أن القتل الحاصل من التصادم هو من قبيل الخطأ، ومع القصد يكون من قبيل عمد الخطأ عند الحنابلة كما يقول موفق الدين بن قدامة (1) .
ويرى الحنفية أن جناية السائق وجناية الناخس من قبيل القتل الجاري مجرى الخطأ وفيه الدية ولا كفارة ولا يحرم من الميراث (2) .
(1) المغني: 9 / 174، المهذب 2 / 194
(2)
درر الحكام: 2 / 90 – 91، شرح القدير: 10 / 214، حاشية رد المحتار: 6 / 531
ويقول العلامة الصاوي في حاشيته على أقرب المسالك: إن تصادم المكلفين أو تجاذبهما حبلا أو غيره فسقطا راكبين أو ماشيين قصدا فماتا فلا قصاص لفوات محله، وإن مات أحدهما فحكم القود يجري بينهما، أو حملا على القصد عن جهل الحال لا على الخطأ، عكس السفينتين إذا تصادمتا وجهل الحال فيحملان على عدم القصد لكنه يستدرك ويقول: إن الراجح أن العجز الحقيقي في المتصادمين فيه ضمان الدية في النفس والقيمة في الأموال (1) . ويقول الشافعية: إن في اصطدام الفارسين إذا ماتا وجب على كل واحد منهما نصف دية الآخر، إلا ما جاء عن المزني أنه إذا استلقى أحدهما فانكب الآخر على وجهه وجب على المكب دية المستلقي وهدر دمه؛ ولكن الراجح الأول. وأما اصطدام السفينتين فإن كان بتفريط من الملاحين بأن قصرا في آلتيهما أو قدرا على ضبطهما أو سيرا في ريح شديدة لا تسير السفن في مثلها، وإن كانت السفينتان وما فيهما لهما وجب على كل واحد منهما نصف قيمة سفينة صاحبه ونصف قيمة ما فيها ويهدر النصف، وإن كانت لغيرهما وجب على كل واحد منهما نصف قيمة سفينته ونصف قيمة ما فيها، ونصف سفينة صاحبه ونصف قيمة ما فيها. وإن قصدا الاصطدام وشهد أهل الخبرة أن مثل هذا يوجب التلف وجب على كل واحد منهما القصاص لركاب سفينته وركاب سفينة صاحبه. وإن لم يفرطا ففي الضمان قولان: أحدهما يجب في اصطدام الفارسين إذا عجزا عن ضبط الفرسين، والثاني لا يجب لأنها تلفت من غير تفريط منهما، فأشبه ما إذا تلفت بصاعقة. واختلف أصحابنا في موضع القولين فمنهم من قال: القولان إذا لم يكن من جهتهما فعل، فإن كانت السفن واقفة فجاءت الريح فقلعتها، فأما إذا سيرا ثم جاءت الريح فغلبتهما ثم اصطدما وجب الضمان قولا واحدا؛ لأن ابتداء السير كان منهما فلزمهما الضمان كالفارسين. وقال أبو إسحاق (2) .
(1) حاشية الصاوي على أقرب المسالك: 4 / 346
(2)
هو إبراهيم بن أحمد المروزي، أبو إسحاق المروزي، فقيه شافعي انتهت إليه رياسة الشافعية بالعراق بعد ابن سريج، ولد بمرو الشاهجان، فقيه خراسان، وتوفي بمصر الموسوعة الفقهية، الجزء الثاني ص 421
وأبو سعيد (1) القولان في الحالين (2) .
ونخلص من ذلك أن التصادم وما ينتج عنه من حوادث السير هو من هذا القبيل، وتجب الدية في الأنفس والأطراف وضمان المتلفات من الأموال.
والقاعدة في لزوم الدية في هذه الأحوال ومسؤولية السائق هو أن تكون الجناية قد وقعت نتيجة لخطئه بحيث يكون الخطأ هو العلة التي أدت إلى الوفاة، وتحقق رابطة السببية بين الخطأ والوفاة علاقة السبب بالمسبب، فإذا انعدمت رابطة السببية فلا مسؤولية على الجاني، وقد سبق بيان كل هذا فيما تقدم من الأمثلة فلا نعيدها هنا. وسبق أن بينا أيضا مذاهب العلماء في حالة التصادم وأنهم افترقوا فريقين:
فريق ذهب إلى أن على كل واحد من المصطدمين ضمان ما تلف من الآخر من نفس أو دابة أو مال، سواء كانت الدابتان فرسين أو بغلين أو حمارين أو جملين، أو كان أحدهما فرسا والآخر غيره سواء كانا مقبلين أو مدبرين، وهذا مذهب أبي حنيفة وصاحبيه وإسحاق.
وقال مالك والشافعي: على كل واحد منهما نصف قيمة ما تلف من الآخر؛ لأن التلف حصل بفعلهما، فكان الضمان منقسما عليهما، كما لو جرح إنسان نفسه وجرحه غيره فمات منهما (3) .
كما بينا حالات انعدام السببية أو الرابطة بين الفعل والضرر؛ كأن يكون نتيجة قوة قاهرة، أو حادث فجائي، أو فعل المضرور أو الغير مع الأمثلة، ولكن لا بد من الإشارة إلى الاشتراك في الخطأ وله حالات:
الأولى: أن يجتمع المباشر مع المتسبب، فالمسؤولية تسند إلى المباشر دون المتسبب ولا يكون المتسبب مسؤولا عن جبر الضرر إذا كان السبب لا يعمل بانفراده في الإتلاف كراكب الدابة وسائقها، فالراكب يعتبر مباشرا لما وطئت الدابة، أما السائق فيعتبر متسببا، لكن في حوادث السيارات يتعين أن يكون العكس فيعتبر السائق مباشرا.
(1) هو الحسن بن أحمد بن يزيد المعروف بالاصطخري، فقيه من شيوخ الشافعية، كان من نظراء ابن سريج، ولي قضاء قم ثم حسبة بغداد، من كتبه أدب القضاء، قال ابن الجوزي: لم يؤلف مثله. والفرائض، والشروط والوثائق والمحاضر والسجلات – الموسوعة الفقهية: 1 / 341، و15 / 303
(2)
المهذب: 2 / 194
(3)
المغني لابن قدامة: 9 / 173، المهذب: 2 / 194
الثانية: أن يجتمع سببان مختلفان وكانا مرتبين وتلف بهما شيء فالضمان على صاحب أسبق السببين جناية، كما لو حفر شخص بئرا في الطريق بغير إذن الحاكم أو في ملك غيره بدون إذنه، ووضع بعد ذلك شخص حجرا إلى جانب تلك البئر فعثرت دابة بالحجر ووقعت في البئر، فالضمان على واضع الحجر لأنه بمنزلة الدافع، ويمكن أن تقاس حوادث السيارات في مثل هذه الصورة، فلو كان الحفر في ملكه فالضمان على واضع الحجر لاختصاصه بالعدوان.
الثالثة: إذا اجتمع سببان وتفاوتا قوة وضعفا فالاعتداد بالسبب الأقوى، ويجب عليه الضمان وحده دون النظر إلى السبب الضعيف. فلو كانت دابة مقيدة وجاء آخر وفتح الباب فقفزت الدابة فالضمان على الفاتح؛ لأن فتح الباب سبب أقوى للفرار (1) .
وفي مجمع الضمانات: رجل وضع في الطريق حجرا أو جذعا أو بنى فيه بناء أو أخرج من حائطه جذعا أو صخرة شاخصة فعطب به إنسان كان ضامنا، فإن عثر بما أحدثه في الطريق رجل فوقع على آخر فمات كان الضمان على الذي أحدثه في الطريق، وصار كأنه دفع الذي عثر به؛ لأنه مدفوع في هذه الحالة والمدفوع كالآلة (2) ، ولو نحى رجل شيئا من ذلك عن موضعه فعطب بذلك إنسان كان الضمان على الذي نحاه ويخرج الأول من الضمان (3) .
(1) شرح المجلة للمحاسني - جامع الفصوليين 2 / 84
(2)
مجمع الضمانات ص 176
(3)
مجمع الضمانات ص 176
الرابعة: أن يوجد قتيل في طريق أو في محلة لا يعرف قاتله ونرى في هذه الحالة أن تؤدى الدية من بيت المال.
ولا نقول بالقسامة لتباين أقوال الائمة فيها وهل يجب فيها الحكم أم لا؟ وإذا قيل بالوجوب، هل يجب بها الدم أم الدية؟ أو دفع مجرد الدعوى؟ وهل يشترط فيها اللوث؟ وما يعد لوثا وما لا يعد كذلك (1) ؟ ومستندا في ذلك على ما جاء في فتح الباري في تعليقه على حديث بشير بن يسار أن رجلا من الأنصار يقال له سهل بن أبي حتمة أخبره أن نفرا من قومه انطلقوا إلى خيبر فتفرقوا فيها ووجدوا أحدهم قتيلا
…
الحديث.
وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وداه مائة من إبل الصدقة. "قال ابن حجر: أو المراد بقوله: "من عنده" أي بيت المال المرصد للمصالح، قال: وقد حمله بعضهم على ظاهره فحكى القاضي عياض عن بعض العلماء جواز صرف الزكاة في المصالح العامة واستدل بهذا الحديث وغيره – ثم قال ابن حجر: قلت: وتقدم شيء من ذلك في كتاب الزكاة في الكلام على حديث أبي موسى قال: حملنا النبي صلى الله عليه وسلم على إبل من إبل الصدقة في الحج، وعلى هذا فالمراد بالدية كونها تحت أمره وحكمه (2) ، والأخذ بتحمل بيت المال كما جاء في هذا الحديث أرفق وأبعد عن المشقة، وقد صار بهذا الاتجاه التقنين المدني الكويتي فقضى بالتزام بيت المال بدفع دية من يتعذر معرفة المسؤول عن دمه قصاصا أو دية (3) .
(1) المحلى لابن حزم: 8 / 84، المغني لابن قدامة: 8 / 484، وبداية المجتهد: 2 / 391
(2)
فتح الباري: 5 / 257
(3)
المذكرة التفسيرية للقانون المدني الكويتي ص 146
أحكام الدية
يتعلق بالدية جملة من الأحكام في الشريعة مبنية في الكتب الفقهية من حيث النظر في موجبها، ونوعها، وقدرها، وفي الوقت الذي تجب فيه، وعلى من تجب وسنقتصر هنا على بعض المهمات من مسائلها مما له صلة وثيقة في هذا البحث.
المسألة الأولى – في أصول الدية وبيان ما تجب فيه:
اتفق الفقهاء على أن الإبل أصل في الدية، واختلفوا فيما سوى الإبل.
ذهب المالكية وأبو حنيفة إلى أن أصول الدية، أي ما تقضي منه من الأموال ثلاثة أجناس: الإبل، والذهب، والفضة، لحديث:((إن في النفس مائة من الإبل)) (1) .
أما على أهل الذهب والورق فقال مالك: على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثنا عشر ألف درهم، وقال أهل العراق: على أهل الورق عشرة آلاف درهم. وقال الشافعي بمصر: لا يؤخذ من أهل الذهب ولا من أهل الورق إلا قيمة الإبل بالغة ما بلغت. وقوله بالعراق مثل قول مالك (2) . وعند الحنابلة وهو قول الصاحبين من الحنفية: أن أصول الدية خمسة: الإبل والذهب والورق والبقر والغنم، وزاد عليها أبو يوسف ومحمد من الحنفية وهو رواية عن أحمد: الحلل (3) .
(1) من حديث أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن كتابا فيه الفرائض والسنن والديات وبعث به مع عمرو بن حزم فقرئت على أهل اليمن، أخرجه النسائي (8: 58، 59) وخرجه ابن حجر في التلخيص (4 / 17، 18) وتكلم على أسانيده، ونقل تصحيحه عن جماعة من العلماء – انظر الموسوعة الفقهية 21 / 46
(2)
بداية المجتهد: 2 / 376
(3)
الموسوعة الفقهية: 21 / 58
المسألة الثانية في مقدار الدية:
أولا: بالنسبة للرجل والمرأة ذهب جمهور الأئمة والعلماء على أن دية المرأة على نصف دية الرجل، مستدلين بأحاديث وآثار وبالمعقول، تفيد أن دية المرأة على النصف من دية الرجل في النفس وفيما دونها، والمعقول أن ميراثها وشهادتها على النصف من الرجل، فكذلك ديتها. وحكي عن ابن علية وأبى بكر الأصم أن دية المرأة كدية الرجل مستدلين بحديث عمرو بن حزم ((في النفس المؤمنة مائة من الإبل)) (1) .
ثانيا: بالنسبة للإسلام والكفر ذهب الحنفية إلى أن دية الذمي والمستأمن كدية المسلم، فلا يختلف قدر الدية بالإسلام والكفر؛ لتكافؤ الدماء.
وقال الشافعية: إن ديتهم ثلث دية المسلم، وأما غير أهل الكتاب فقالوا: ديتهم ثلثا عشر دية المسلم (2) .
والذي نميل إليه ونرى أنه يتفق مع حال العصر والأفكار السائدة فيه هو المساواة بين الذكر والأنثي والمسلم وغير المسلم، وقد أخذ القانون المدني الكويتي بهذا الاتجاه (3) .
(1) الفقه الإسلامي وأدلته: 6 / 310، 312، الموسوعة الفقهية 21 / 59 – 60
(2)
الفقه الإسلامي وأدلته: 6 / 310، 312، الموسوعة الفقهية 21 / 59 – 60
(3)
المذكرة التفسيرية ص 241
المسألة الثالثة – على من تجب:
تجب الدية في القتل الخطأ على العاقلة لحديث أبي هريرة رضى الله عنه قال: اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها "فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية المرأة على عاقلتها"(1) .
والحكمة في ذلك أن جنايات الخطأ تكثر، ودية الآدمي كثيرة فإيجابها على الجاني في ماله إجحاف به، فاقتضت الحكمة إيجابها على العاقلة على سبيل المواساة للقاتل والإعانة له تخفيفا (2) .
المسألة الرابعة:
صدر مرسوم بلائحة جدول الديات بينت ما يجب فيها الدية كاملة وما يجب فيها نصف الدية، ونصت المادة الأولى على أنه تستحق الدية كاملة عن فقد النفس، وفقد العقل أو فقد الذاكرة، وفقد البصر ولو من عين وحيدة، وفقد السمع ولو من أذن وحيدة، وفقد الشم، وفقد الذوق، وفقد الصوت أو النطق، وكسر العمود الفقري المانع من القيام، وفقد القدرة الجنسية أو فقد الإنجاب لدى الرجل أو المرأة.
وبينت المادة الثانية ما تجب فيه نصف الدية، فنصت على أنه تستحق نصف الدية عن قطع اليد إلى الرسغ، وقطع القدم إلى المفصل وفقد أو وفقء أحد العينين المبصرتين وفقد إحدى الأذنين السامعتين، وفقد ثدي المرأة أو قطع حلمته، وفقد الخصية، ويعتبر في حكم قطع أو فقد العضو: الفقد الدائم لوظيفته.
ونصت المادة الثالثة على استحقاق جزء من الدية في:
أ - فقد السن الدائمة 5 % من الدية.
ب - فقد الإبهام 15 % من الدية.
جـ- فقد الأصبع عند الإبهام 10 % من الدية.
د - فقد سلامي الإبهام 7.5 من الدية.
هـ- فقد سلامى ما عدا الإبهام 3.5 من الدية.
(1) أخرجه البخاري – الفتح: 12 / 252
(2)
كشاف القناع: 6 / 6، يراجع التشريع الجنائي الإسلامي في هذا الموضوع - الجزء الأول ص 674 وما بعدها
ونصت المادة الرابعة على أنه تستحق كل من الإصابات التالية الجزء المحدد لها من الدية دون إخلال بالحق في التعويض عما يترتب عنها من إتلاف أعضاء أخرى في الجسم:
أ - الجرح الواصل إلى التجويف البطني أو الصدري (الجائفة) : ثلث الدية.
ب - كسر الجمجمة المؤدي إلى ظهور غشاء المخ (الآمة) : ثلث الدية.
جـ- كسر العظم ونقله من أصل مكانه (المنقلة) : 15 % من الدية.
د - كسر العظم الهاشمة: 10 % من الدية.
هـ- موت الجنين في بطن أمه أو إجهاضه: 10 % من الدية.
و الجرح الكاشف للعظم دون كسره (الموضحة) : 5 % من الدية.
ونصت المادة الخامسة على أنه تعد الديات كاملة أو مجزأة بتعمد فقد الأعضاء والحواس أو المنافع أو الجروح، ونصت على أنه لا تتعدد الديات إذا أدت الإصابات إلى فقد النفس، هذه أهم مسائل الديات وهي مأخوذة من الفقه الإسلامي، وخاصة من المذهب المالكي.
ب- تحديد العاقلة:
العاقلة عند الأحناف: هم أهل الديوان، فإن لم يكن القاتل من أهل الديوان فعاقلته أقاربه، وكل من يستنصر بهم. وقال جمهور الفقهاء: هم قرابته من أبيه. ومن لم تكن له عاقلة عقل عنه بيت المال على تفصيل ليس هنا محل إيراده (1) .
العاقلة في زماننا:
ناقش المرحوم عبد القادر عودة هذا الموضوع وانتهى إلى رأي أرى موافقته عليه خلاصته: هو أن تتحمل الدولة بالنسبة لمن لا يستطيع أداء الدية، وذلك عن طريق فرض ضريبة عامة خصص دخلها لهذا النوع من التعويض، وكذلك أن تفرض ضريبة خاصة على المتقاضين لهذا الغرض. وإذا كانت الحكومات العصرية تلزم نفسها بإعانة الفقراء والعاطلين فأولى أن تلزم نفسها بتعويض ورثة القتيل المنكوبين. وأضاف: الدول الأوربية أنشأت صندوقا لتعويض المجني عليهم في الجرائم، إيراده المبالغ المتحصلة من الغرامات التي تحكم بها المحاكم (2) . مع الأخذ بنظام التأمين مجاراة للقائلين بجوازه.
(1) الفقه الإسلامي وأدلته: 6 / 322؛ بداية المجتهد: 2 / 378
(2)
التشريع الجنائي الإسلامي: 2 / 99، المحلى لابن حزم: 8 / 56 وما بعدها؛ المغني: 8 / 374 وما بعدها
ثانيا – أثر المسؤولية في الزجر
بينا فيما سبق مسؤولية السائق جزائيا وما يترتب على هذه المسؤولية من أحكام في الفقه الإسلامي والفقه الوضعي الحديث، وأنه إذا ثبت هذه المسؤولية ترتبت عليها المسؤولية المدنية والحقوق الأخرى مما عسى أن يكون قد لحق المضرور في بدنه أو ماله.
وبينا أن لولي الأمر أن يسن من التقنيات والتعازير ما يحفظ على الناس مصالحهم في حماية أرواحهم وأموالهم والمحافظة على الضرورات الخمس التي هي محل نظر مختلف الشرائع، وأن الفقه الإسلامي يجد موردا لا ينقطع ولا ينضب في سد كل ثلمة أو نقص في التشريع، وهو مجال السياسة الشرعية. يقول الشيخ عبد الرحمن تاج باشا:"السياسة الشرعية: يستطيع ولاة الأمر أن يسنوا من القوانين ما يحقق مصلحتها ويستجيب لداعي حاجاتها العارضة ومطالبها المتجددة، مما لا نجد له دليلا خاصا من الكتاب أو السنة أو الإجماع، ولا نظيرًا سبق لبعض هذه الأدلة الحكم فيه حتى يمكن أن نربطه ونقيسه به"(1) . ويضرب أمثلة مختلفة ووجوها من السياسة التشريعية، وينتقد قول صاحب معين الحاكم بأن السياسة شرع مغلظ، ويحصر أحكام الشريعة كلها في خمسة أقسام، ويقول في القسم الخامس الذي خصه بالحدود والتعازير: إنه هو المقصود، شرع للسياسة والزجر. ويعقب على ذلك بقوله: ونحن إذا قصرنا السياسة على هذا النوع من الأحكام والتصرفات فقد حبسناها في دائرة ضيقة، على حين أن مجالها أوسع والمواطن التي تتجلى فيها آثارها أفسح وأرحب، فهي تدخل في جميع أعمال السلطات وتستخدم في كل المرافق العامة، تدخل في محيط السلطة التشريعية، وأثرها فيه لا يصح إغفاله أو التهوين من أمره (2) .
ويبين ابن القيم أهمية دور السياسة الشرعية في تحصيل المصالح ودرء المفاسد وما يترتب على إغفاله من شرور فيقول: وهذا موضع مزلة أقدام ومضلة أفهام، وهو مقام ضنك ومعترك صعب مفرط فيه طائفة؛ فعطلوا الحدود، وضيعوا الحقوق، وجرؤوا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد محتاجة إلى غيرها، وسدوا على أنفسهم طرقا صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له (3) .
(1) السياسة الشرعية ص 29
(2)
السياسة الشرعية ص 28
(3)
الطرق الحكمية ص 13
وكذلك يقول ابن فرحون في التبصرة: السياسة نوعان: سياسة ظالمة، فالشريعة تحرمها؛ وسياسة عادلة تخرج الحق من الظالم وتدفع كثيرا من المظالم وتردع أهل الفساد ويتوصل بها إلى المقاصد الشرعية، فالشريعة توجب المصير إليها (1) .
ومن ثم كان لزاما على الحكومات أن تبادر إلى تشريعات وتقنينات بمعاقبة المستخفين بأرواح الناس، ووضع ضوابط لقيادة المركبات، ووضع مواصفات خاصة تشتمل على أسباب السلامة، وتضع الأسس والقواعد التي تحدد من يخالفها لتحمل المسؤولية والتبعة جزائيا ومدنيا، وتعويض المضرورين نتيجة ذلك. وقد سبق بيان ذلك في الفصل الأول ونقلنا أهم ما اشتمل عليه قانون السير في دولة الكويت الذي هو خلاصة ما اشتملت عليه القوانين في البلاد العربية والأجنبية، وأنه بذلك يمكن حصر حوادث السير التي أخذت بالتفاقم، وكل هذا لا ينال من العقوبات التي قررتها الشريعة الغراء من عقوبات؛ فقد سنت للقتل الخطأ عقوبات أصلية تتمثل في الدية والكفارة، ومنها ما هو بدل كالتعزير والصيام، ومنها ما هو تبعي وهو الحرمان من الميراث والوصية (2) . هذا عدا ما يتعلق بضمان الأموال والممتلكات.
(1) تبصرة الأحكام لابن فرحون – هامش فتح العلي المالك: 2 / 133
(2)
الفقه الإسلامي وأدلته: 6 / 328 وما بعدها؛ التشريع الجنائي الإسلامي بجزئيه؛ الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي للشيخ محمد أبو زهرة
الفصل الرابع
في أحكام الكفارة
تعريفها:
هي عتق رقبة مؤمنة فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع؛ قال الشافعية فيه قولان: أحدهما: يلزمه إطعام ستين مسكينا كل مسكين مدا من الطعام، لأنه كفارة يجب فيها العتق أو صيام شهرين فوجب فيها إطعام ستين مسكينا قياسا على كفارة الظهار والجماع في رمضان. والقول الثاني: لا يلزمه الإطعام لأن الله تعالى ذكر العتق والصيام ولم يذكر الإطعام، ولو وجب ذلك لذكره كما ذكره في كفارة الظهار (1) .
(1) المهذب: 2 / 217
فيمن تجب:
وقالوا: تجب الكفارة في قتل من يحرم عليه قتله من مسلم أو كافر له أمان خطأ وهو من أهل الضمان لقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92]، وقوله تعالى:{فإن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً} [النساء: 92] .
مذاهب العلماء فيها:
وتجب عندهم في القتل بسبب يضمن فيه النفس، كحفر البئر، وشهادة الزور، والإكراه، وكذلك إذا ضرب بطن المرأة فألقت جنينا ميتا وجبت عليه الكفارة لأنه آدمي محقون الدم، لحرمته، فضمن بالكفارة كغيره.
وإن اشترك جماعة في قتل واحد وجب على كل واحد منهم كفارة، وقال بعض الشافعية: إنه يجب على الجميع كفارة واحدة لأنها كفارة تجب بالقتل، فإذا اشترك جماعة وجبت عليهم كفارة واحدة. والمشهور الأول (1) . وقال أبو حنيفة: تجب في قتل الخطأ الدية والكفارة والحرمان من الميراث، وكذلك ما في معنى الخطأ وهو أن يكون على طريق المباشرة مثل النائم ينقلب على إنسان فيقتله فتجب فيه الدية والكفارة والحرمان من الميراث (2) ، بخلاف ما يكون من طريق التسبب مثل الحافر وجناية السائق وجناية الناخس ومن يحرث في الطريق وجناية الحائط، فإنه لا تجب في هذه الصور الكفارة ولا يحرم من الميراث (3) .
وعند المالكية تجب الكفارة في قتل الخطأ لا العمد ولا إطعام فيها، وتستحب في قتل الجنين خلافا لأبي حنيفة، وأوجبها الشافعي (4) .
والخلاصة أن الكفارة في قتل الخطأ محل إجماع الفقهاء إلا ما جاء عن أبي حنيفة من عدم وجوبها بالتسبب (5) .
(1) المهذب: 2 / 217
(2)
بدائع الصنائع: 10 / 4658 – 4659، شرح فتح القدير: 10 / 213
(3)
بدائع الصنائع: 10 /4710
(4)
القوانين الفقهية: ص 228
(5)
بدائع الصنائع: 10 / 4709؛ شرح الخرشي: 8 / 49، كشاف القناع: 5 / 514
خلاصة البحث
اشتمل البحث على أربعة فصول:
الفصل الأول تحدث عن مسؤولية السائق جزائيا، وتناول بالشرح معنى المسؤولية والجزاء، ثم تناول فلسفة الفقه الإسلامي في العقوبة، وأنه لم ينص إلا على عقوبة عدد محدود من الجرائم، وترك الباب مفتوحا لولي الأمر ومن ينتدبون من القضاة في فرض العقوبة المناسبة حسب كل حالة، وإن هذا الاتجاه يحبذه رجال الفقه الحديث، وضربت مثلا للعقوبة التعزيرية قانون السير أو ما يسمى بقانون المرور في دولة الكويت ومذكرته التفسيرية ولوائحه التنفيذية.
وتناول الفصل الثاني مسؤولية السائق المدنية، وبينت أن حوادث المرور آخذة في التفاقم بقدر ما تعددت وسائله في العصر الحديث، وأن الفقه الإسلامي يأخذ في الاعتبار في مسائلة السائق توافر أركان المسؤولية وهي الخطأ والضرر والعلاقة السببية، وضربت الأمثلة من المصادر الفقهية لتحقق هذه الأركان، وبينت أن الخطأ منه ما هو مباشر ومنه ما هو تسبب، وبينت أحكام القسمين وأمثلتهما، وأنه يشترط في التسبب أن يكون متعمدا أو معتديا، وأن القواعد السابقة محل اتفاق بين فقهاء المذاهب، وأن انتفاء المسؤولية تكون حيث تختفي أو تنعدم الرابطة السببية بأن تكون نتيجة قوة قاهرة أو حادث فجائي أو خطأ الفرد أو خطأ الغير أو بهيمة أو وسيلة، وبينت مذاهب العلماء في ذلك وأن الإمام الثوري يقول بالضمان مطلقا إذا أرسلها صاحبها لأنه مفرط في إرسالها.
وتحدثت في الفصل الثالث عن التعويض، وبينت الفرق بين التعويض والعقوبة المالية، وبينت الفرق بين التعويض والضمان وهو الاصطلاح الفقهي، وبينت أن القتل الحاصل نتيجة تصادم السيارات هو من قبيل الخطأ وتجب فيه الدية، والحنفية يرون حوادث التصادم من قبيل الجاري مجرى الخطأ تجب الدية فيه، ولكن لا تجب الكفارة ولا يكون مانعا من الميراث، وبينت موقف الفقه الإسلامي من حوادث التصادم وما يجب في الإصابات وأن بعضهم قال: يضمن كل واحد من المتصادمين ما تلف من الآخر من نفس أو مال. ومنهم من قال: يضمن نصف قيمة ما تلف من الآخر، وبينت حالة اشتراك المتصادمين في حصول الضرر، وله أربع صور بينت حكم كل صورة مع المثال، وإنه في حالة حصول حادث قتل دون معرفة الفاعل يتحمل بيت المال الدية، ولا نقول بالقسامة لمشقتها على الناس، وقد أخذ القانون المدني الكويتي بذلك، وهو رأي له أنصاره في الفقه الإسلامي، وله سند من الشريعة الغراء وفعل الرسول صلى الله عليه وسلم. ثم بينت أحكام الدية ومذاهب العلماء فيها، وأخذت بقول القائلين بمساواة الرجل والمرأة والمسلم وغير المسلم في مقدار الدية، وهو موقف تبناه القانون الكويتي وهو قول لبعض العلماء، وبينت الأحكام لائحة الديات ومسائلها في دولة الكويت لاشتمالها على كل مسائل الدية في النفس والأطراف والحواس ومنافعها، وتعرضت لأحكام العاقلة، وأميل إلى القول بأن تتحمل الدول في العصر الحاضر هذه المهمة، وذلك بفرض ضرائب لهذا الغرض، كما يمكن الأخذ بقواعد التأمين لاختلاف الفقهاء المسلمين فيها، وبينت دور العقوبة في انزجار الناس وكفهم عن التهور في القيادة.
وختمت البحث الرابع في أحكام الكفارة ومذاهب العلماء فيها وتعريفها.
والله سبحانه وتعالى أعلم