المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الربط القياسي للأجور بالمستوى العام للأسعارتحليل من منظور إسلامي لمشكلة الأجورفي ظل التضخم والعلاج المقترحإعدادد. عبد الرحمن يسري أحمد - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ٨

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد الثامن

- ‌الأخذ بالرخص الشرعية وحكمهإعدادالدكتور: وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌موضوع: " الأخذ بالرخص الشرعية وحكمه

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادالدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادالشيخ خليل محيي الدين الميس

- ‌الرخصة (التلفيق)إعدادالشيخ خليل محيي الدين الميس

- ‌التلفيق والأخذ بالرخصة وحكمهماإعدادحجة الإسلام الشيخ محمد علي التسخيري

- ‌الأخذ بالرخص الشرعية وحكمهإعدادمحمد رفيع العثماني

- ‌حكمالرخصة وتتبع الرخصفي الفقه الإسلامي

- ‌الأخذ بالرخصةإعدادأ. د. حمد عبيد الكبيسي

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادالشيخ مجاهد الإسلام القاسمي

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادأ. د. عبد العزيز عزت الخياط

- ‌الرخصةإعدادالشيخ محمد الشيباني بن محمد بن أحمد

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهتتبع الرخص – التلفيق ورأي الفقهاء فيهإعدادفضيلة الشيخ مصطفى كمال التارزي

- ‌الأخذ بالرخص وحكمهإعدادالشيخ الطيب سلامة

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادالدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين

- ‌الأخذ بالرخص وحكمهإعدادالدكتور أبو بكر دوكوري

- ‌بيع العربُونإعدادفضيلة الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌بيع العربُونإعدادالدكتور وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌بيع العربونإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌بيع المزايدةإعدادفضيلة الشيخ محمد المختار

- ‌عقد المزايدةبين الشريعة الإسلامية والقانوندراسة مقابلةمع التركيز على بعض القضايا المعاصرةإعدادعبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان

- ‌قواعد ومسائلفيحوادث السيرإعدادالقاضي محمد تقي العثماني

- ‌ موضوع "حوادث السير

- ‌حوادث السيرإعدادد. عبد الله محمد عبد الله

- ‌حوادث السيرإعدادالشيخ عبد القادر محمد العماري

- ‌حوادث السيرإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌التطبيقات الشرعيةلإقامة السوق الإسلاميةإعدادالدكتور علي محيي الدين القره داغي

- ‌التطبيقات الشرعيةلإقامة السوق الإسلاميةإعدادالأستاذ الدكتور / علي السالوس

- ‌الائتمان المولد على شكل بطاقةمع صيغة مقترحة لبطاقة ائتمانية خالية من المحظورات الشرعيةإعدادسعادة الدكتور محمد القري بن عيد

- ‌بطاقات الائتمانإعدادالشيخ حسن الجواهري

- ‌سر المهنة الطبية بين الكتمان والعلانيةإعدادالدكتور أحمد رجائي الجندي

- ‌مسؤولية الطبيبإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌مداواة الرجل للمرأةوالمرأة للرجلإعدادالدكتور محمد علي البار

- ‌نقص المناعة المكتسبة (الإيدز)الأحكام المتعلقة بالمرضى والمصابينإعدادأ. د. مصطفى عبد الرؤوف أبو لسان

- ‌بعض المشاكل الأخلاقية والاجتماعيةالناتجة عن مرض الإيدز(نقص المناعة المكتسبة)إعدادالدكتور محمد علي البار

- ‌مرض الإيدز(نقص المناعة المكتسبة)أحكامه وعلاقة المريض الأسرية والاجتماعيةإعدادالدكتور سعود بن مسعد الثبيتي

- ‌التداوي بالمحرماتإعدادالدكتور محمد علي البار

- ‌بحوث مجمعية

- ‌حُسن وفاء الديونوعلاقته بالربط بتغير المستوى العام للأسعارإعدادالدكتور صالح بن زابن المرزوقي البقمي

- ‌ربط الأجور بتغير المستوى العام للأسعارفي ضوء الأدلة الشرعيةإعدادد. حمزة بن حسين الفعر

- ‌الربط القياسي للأجور بالمستوى العام للأسعارتحليل من منظور إسلامي لمشكلة الأجورفي ظل التضخم والعلاج المقترحإعدادد. عبد الرحمن يسري أحمد

- ‌التضخم والربط القياسيدراسة مقارنة بين الاقتصاد الوضعيوالاقتصاد الإسلاميإعدادالدكتور شوقي أحمد دنيا

- ‌ربط الأجور بتغير المستوى العام للأسعاربين الفقه والاقتصادإعدادد. محمد أنس الزرقا

- ‌ندوة قضايا العملةالربط القياسي للديون بعملة اعتباريةإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌ملاحظات أساسيةفي مسألة ربط الأجور والمستحقاتإعدادالدكتور سيف الدين إبراهيم تاج الدين

- ‌مشاكل البنوك الإسلاميةمحاورإعدادمجموعة دلة البركة

- ‌مشاكل البنوك الإسلاميةمحاورإعدادبيت التمويل الكويتي

- ‌الصعوبات التي تواجه البنوك الإسلاميةوتصورات لكيفية مواجهتهاإعدادأ. د. إسماعيل حسن محمد

- ‌مشاكل البنوك الإسلاميةعقد السلم ودوره في المصرف الإسلاميإعدادالشيخ صالح الحصين

- ‌مشكلات البنوك الإسلامية في الوقت الحاضرإعدادد. محمد نجاة الله صديقي

- ‌في مشكلات المصارف الإسلاميةإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌حكم المشاركة في أسهم الشركات المساهمةالمتعاملة بالرباتجربة مجموعة دلة في أسلمة الشركاتعن طريق شراء أسهمهاإعدادالشيخ صالح عبد الله كامل

- ‌المشاركة في شركات تتعامل بالحرامإعدادالشيخ عبد الله بن بيه

الفصل: ‌الربط القياسي للأجور بالمستوى العام للأسعارتحليل من منظور إسلامي لمشكلة الأجورفي ظل التضخم والعلاج المقترحإعدادد. عبد الرحمن يسري أحمد

‌الربط القياسي للأجور بالمستوى العام للأسعار

تحليل من منظور إسلامي لمشكلة الأجور

في ظل التضخم والعلاج المقترح

إعداد

د. عبد الرحمن يسري أحمد

أستاذ ورئيس مجلس قسم الاقتصاد

كلية التجارة – جامعة الإسكندرية

بسم الله الرحمن الرحيم

الربط القياسي للأجور بالمستوى العام للأسعار

تحليل من منظور إسلامي لمشكلة الأجور في ظل التضخم والعلاج المقترح

مقدمة:

اهتم رجال الفكر الاقتصادي منذ زمن بعيد بالعلاقة العكسية ما بين الأسعار والقيمة الحقيقية للنقود، ولقد كان علماء المسلمين في العصور الوسطى من أوائل من انتبهوا إلى هذه الظاهرة واجتهدوا في بحثها حتى يمكن تلافي ما يترتب عليها من آثار غير مرغوبة، ومن أوائل من اجتهدوا في هذا المجال القاضي أبو يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني صاحبا الإمام أبي حنيفة رضي الله عنهم جميعاً، إلا أن تقي الدين المقريزي المؤرخ الإسلامي المعروف كان أول من قدم تحليلاً متكاملاً عن أسباب ظاهرة الغلاء وما يترتب عليها من انخفاض القيمة الحقيقية للنقود، بل وفقدان الثقة في النقود بالكامل في حالة الغلاء الشديد، إلى أن قدم تحليلاً علمياً دقيقاً عن الآثار النهائية لهذه الظاهرة على الدخول الحقيقية وتوزيعها بين الفئات المختلفة داخل المجتمع.

كذلك تنبه لنفس الظاهرة بعض المفكرين الأوربيين في العصور الوسطى، أمثال توماس الأكويني ونيكول أورزم وغيرهما، إلا أن هؤلاء قد تأثروا كثيراً بأفكار علماء المسلمين الذين سبقوهم أو عاصروهم.

ص: 1543

وفي القرن التاسع عشر اهتم دافيد ريكاردو (وغيره من المدرسة الاقتصادية التقليدية Classical School) بالموضوع من خلال بحث النمو الاقتصادي وتأثره بعملية إعادة توزيع الدخل بين الطبقات المختلفة والتي تحدث بسبب الارتفاع في أسعار السلع الزراعية (1) وفي التحليل الذي قدمه يستفيد ملاك الأراضي الزراعية من الظاهرة في شكل زيادة الريع الذي يحصلون عليه، بينما تقل الأرباح الحقيقية لرجال الصناعة بسبب عدم قدرتهم على رفع أسعار منتجاتهم (لوجود المنافسة الكاملة) بينما يضطرون إلى زيادة الأجور النقدية لعمالهم من أجل الحفاظ على أجورهم الحقيقية من التدني، وليس ذلك حباً في العمال أو عطفاً عليهم، وإنما اضطراراً لأن العمال يحصلون على أدنى مستوى ممكن للأجور الحقيقية وهي التي كانت تسمى أجور الكفاف، فلا بد إذاً من الحفاظ على أجور الكفاف وإلا تعرض العمال للمرض والموت.

وفي الفترة التالية للحرب الثانية نال موضوع الأجور والأسعار اهتماماً متزايداً من رجال الاقتصاد (2) فبينما كان العالم يمر بفترات استقرار أو انخفاض في المستوى العام للأسعار تصاحب حالات الركود أو البطالة التي سادت قبل الحرب الثانية انعكست الأوضاع بعد الحرب، وعرف العالم التضخم وهو الارتفاع المستمر في المستوى العام للأسعار كظاهرة عامة أو شبه عامة في جميع البلدان متقدمة أو نامية، كل ما في الأمر أن التضخم كان يشتد أحياناً في بعض الحالات وتخف حدته في حالات أخرى، وكانت الظاهرة الجديدة التي استحقت التسجيل والتحليل حقيقة هي أن التضخم لم يصاحب الرواج فقط كما كان معتاداً، بل أصبح أيضاً مصاحباً للركود، وهذه هي الظاهرة التي أطلقوا عليها الركود التضخمي.

(1) انظر: R.B. Eklund and R.F. HEBERT، A History of Economic Theory and Method (3rd Edition) McGraw- Hill، 1990، pp-153-154 وكذلك أيضاً للعلاقة بين الأجور الاسمية nominal وعلاقتها بالحقيقية real عدد آخر من الصفحات في نفس المرجع P.363،p. (190-195) في المدرسة النيوكلاسيكية

(2)

لم نتعرض هنا لآراء كينز أو غيره في موضوع الأجور النقدية وعلاقتها بالأجور الحقيقية حتى لا ندخل في تفاصيل خاصة بالنظرية الاقتصادية، والبحث الحالي ليس مخصصاً لهذا، والمهتم بمعرفة الآراء الكيترية وعلاقتها بما سبق يمكن أن يطلع على المرجع سابق الذكر صفحات 519-524 وآراء المدرسة النقدية Montarists ص 546-548

ص: 1544

وفي بحثهم للعلاقة بين الأجور والأسعار توجه اهتمام رجال الاقتصاد إلى عدد من الأمور يمكن إجمالها فيما يلي:

أ- أثر الارتفاع المستمر في الأسعار (التضخم) على الأجور الحقيقية للعمال وعلى نصيبهم من الدخل القومي الحقيقي، ومن ثم على عدالة توزيع الدخل في المجتمع.

ب- كيفية علاج أثر التضخم بالنسبة للأجور، وأساساً كيفية ربط معدلات الأجور بالتغيرات في معدلات الأسعار: توقيت عملية الربط وآلية هذه العملية وآثارها على النشاط الاقتصادي.

وقد اهتم أيضاً بعض الاقتصاديين الإسلاميين المعاصرين بنفس الموضوع: العلاقة بين الأجور والأسعار، وذلك من منطلق الاهتمام بانحراف الأجر الحقيقي عن الأجر النقدي والحرص على العدالة وهي القضية التي يوليها الإسلام كل تقدير ومكانة (1) ، وقد اعتمدت الكتابات الإسلامية المعاصرة في الموضوع على اجتهاد الرواد الأوائل من فقهاء الأمة الإسلامية الذين يتناولون موضوع رخص وغلاء النقود، كما اعتمدت أيضاً على فهمهم للواقع المعاصر للأمة الإسلامية واحتياجاتها للتنمية في ظل مناخ من الاستقرار الاقتصادي والعدالة الاجتماعية.

جوهر المشكلة:

أثر التضخم على نصيب العمال من الدخل الحقيقي وقضية العدالة:

نود أن نؤكد أولاً أن التضخم هو الارتفاع المستمر في المستوى العام للأسعار، فليس كل ارتفاع في الأسعار يعتبر تضخميا، وعلى هذا فإن التضخم في أي بلد يعني تدهوراً مستمرا ًفي القيمة الحقيقية للعملة النقدية (وليس مجرد انخفاض مؤقت أو لفترة قصيرة في هذه القيمة) ، وكلما كان التضخم حاداً كان التدهور في القيمة الحقيقية للعملة حاداً.

(1) انظر: عبد الرحمن يسري أحمد، دراسات في علم الاقتصاد الإسلامي، دار الجامعات المصرية، الإسكندرية 1988، الفصل التاسع، وأبحاث حلقة العمل حول (ربط الحقوق والالتزامات بتغير الأسعار من وجهة النظر الإسلامية) جدة، شعبان 1407هـ- أبريل 1987م تحت رعاية البنك الإسلامي للتنمية والجامعة الإسلامية العالمية –إسلام أباد؛ خاصة أبحاث منور إقبال وفهيم خان ومحمد عبد المنان والتعقيبات عليها

ص: 1545

وبالنسبة للدخل الحقيقي (سواء في شكل ربح أو أجر) والذي يعرف بأنه كمية السلع والخدمات التي يمكن الحصول عليها من إنفاق دخل نقدي معين، فإنه يتدهور بطبيعة الحال مع تدهور القيمة الحقيقية أو القوة الشرائية للعملة النقدية، هذه بديهية لا تحتاج إلى برهنة طالما قلنا:(دخل نقدي معين) ، أي ثابت، وفي الواقع فإن الدخل النقدي لبعض الأفراد أو الفئات يبقى ثابتاً بينما يتغير بالنسبة للبعض الآخر، ويمكن في حالة التغير أن نميز بين ثلاث حالات:

1-

يرتفع الدخل النقدي بنفس نسبة الارتفاع في المستوى العام للأسعار فيظل الدخل الحقيقي ثابتاً.

2-

يرتفع الدخل النقدي بنسبة أكبر من نسبة الارتفاع في المستوى العام للأسعار فيرتفع الدخل الحقيقي.

3-

يرتفع الدخل النقدي بنسبة أقل من نسبة الارتفاع في المستوى العام للأسعار فينخفض الدخل الحقيقي، وهكذا فإن الدخل الحقيقي لأي فرد (أو لأي فئة من الفئات) سوف يتدهور خلال التضخم في حالتين: إذا بقي الدخل النقدي ثابتاً، أو إذا زاد ولكن بنسبة أقل من نسبة الارتفاع في المستوى العام للأسعار.

والملاحظات التي خرج بها الاقتصاديون بشأن تطور الأجور الحقيقية للعمال في ظل التضخم أخذت من البلدان الصناعية المتقدمة، وسنذكرها أولاً في سبيل عرض بعض الأبعاد الهامة للموضوع ولتحصيل الفائدة العلمية، وبعد ذلك نتناول الوضع الخاص بالبلدان النامية والتي ينبغي أن تنال اهتمامنا ليس فقط لأنها تمثل ثلثي سكان العالم، بل أيضاً لأن جميع بلداننا الإسلامية تصنف من ضمنها، إن الملاحظات الخاصة بالبلدان الصناعية المتقدمة تدل على أن الطبقة العاملة بينما حصلت فقط على أجور الكفاف حتى منتصف القرن التاسع عشر، تمكنت بعد ذلك تدريجياً من رفع أجورها الحقيقية، تارة بمناسبة ارتفاع الأسعار، وتارة بمناسبة الارتفاع المحقق في الإنتاجية العمالية، وقد كان نمو الاتحادات العمالية وراء هذا التطور الذي أدى إلى إعادة توزيع الدخل القومي في صالح الطبقة العاملة، ففي بريطانيا مثلاً ارتفع نصيب الأجور من 40 % إلى نحو 60 % خلال مئة عام انقضت بين ستينات القرن الماضي وستينات القرن الحالي، ولقد ارتبطت الزيادة في الأجور وفي نصيب العمال في الدخل بقضية (العدالة) إلا أن (قضية العدالة) في المجتمعات الغربية كانت ومازالت قضية نسبية.

ص: 1546

ففي المراحل الأولى من الثورة الصناعية وإلى منتصف القرن التاسع عشر كانت العدالة في نظر رجال المدرسة الاقتصادية الكلاسيكية (التقليدية) تعني المحافظة على الأجور الحديدية أو أجور الكفاف للعمال، ولم تكن العدالة حينذاك مستندة إلى مفهوم أخلاقي بقدر ما كانت مستندة إلى مفهوم اقتصادي واقعي في إطار الفلسفة الرأسمالية.

وبعد ذلك تطورت الأمور تطوراً هائلاً مع ظهور الفلسفات الاشتراكية ذات النزعات المختلفة، والتي تبنت جميعها القضية العمالية وعدالة التوزيع بأساليب مختلفة، وخلال أزمة الكساد العظيم في ثلاثينات هذا القرن تمكنت الأحزاب العمالية من تولي سلطة الحكم في معظم البلدان الأوروبية، وأصبح مفهوم العدالة مستقراً لصالح العمال، حتى إن بعض رجال الاقتصاد صاروا يتكلمون عن الإحباط الذي لحق برجال الأعمال الذين يضطرون لدفع ضرائب تصاعدية يذهب جانب منها له اعتباره (بطريق غير مباشر) في الإنفاق على خدمات عامة تستفيد منها الطبقة العاملة وأبناء الطبقة العاملة أكبر الفائدة، كذلك اشتدت الحركة النقابية العمالية حتى إن أصحاب الأعمال يضطرون في معظم الأحوال للخضوع للمطالب العمالية الخاصة بزيادة الأجور أو يخاطرون بتوقف أعمالهم.

وفي مثل هذا المناخ لا يستطيع المرء أن يقول: إن ثمة مشكلة قائمة بالنسبة لأجور العمال بسبب التضخم أو غيره، حيث يستطيع هؤلاء الحصول على حقوقهم كاملة غير منقوصة، بل وربما أكثر منها في حالات؛ ذلك لأن هناك آلية نابعة من التشريعات الوضعية والمؤسسات القائمة والسياسات الاقتصادية تضمن التعبير عن المطالب العمالية في مجالات شروط العمل وتحديد معدلات الأجور وتغييرها، وتضمن تحقيق معظم هذه المطالب بأسلوب مناسب للعمال، ومع ذلك يجب أن نذكر أن هناك استثناءات من هذا الاتجاه العام السائد في البلدان الصناعية المتقدمة، تتمثل في ضعف المقدرة الفعلية لبعض فئات العمال على إثارة مطالبها الأجرية أو تحقيقها، مثال ذلك العاملين في جهاز الدولة من الموظفين العموميين أو رجال الشرطة ورجال القضاء ورجال الجيش، وكذلك أيضاً العاملين في وظائف لها وضعها الأدبي وحساسيتها الشديدة مثل أطباء المستشفيات العامة ورجال الإطفاء والمدرسين بالمدارس العامة، لذلك نجد أن مشكلة الأجور الحقيقية وتدهورها في ظروف التضخم، ومن ثم ضرورة تعديلها، كثيراً ما تثار في العالم المتقدم بالنسبة لهذه الفئات العاملة على وجه الخصوص، فهذه الفئات بحكم وظائفها العامة أو أوضاعها الاجتماعية والأدبية الحساسة لا تتمكن غالباً من المحافظة على دخولها الحقيقية (أو زيادتها) في ظروف التضخم إلا إذا انتبه المجتمع وانتبهت الجهات المسؤولة إلى قضاياهم.

ص: 1547

وفي البلدان النامية يختلف الأمر كثيراً عن الصورة السابقة، ففي معظم هذه البلدان تعمل النسبة الكبرى من قوة العمل في القطاع الأولي.. في الزراعة أو الصيد أو الرعي أو استخراج المواد الأولية، وحيث تتوافر عادة في القطاع الأولي أعداد كبيرة من العمال غير المهرة الذين لم يتلقوا تدريباً على حرفة معينة فإنه يسود أجر نمطي في سوق العمل، وبالتالي فإن أي عامل سوف يقبل هذا الأجر، وارتفاع الأسعار بشكل عام ومستمر كما يحدث في البلدان النامية بدرجات متفاوتة لن يؤثر بشكل مباشر أبداً في معدل الأجر السائد في القطاع الأولي، ليس فقط بسبب ظروف العرض الكبير المتاح من العمل غير الماهر، بل أيضاً لأن نسبة من هذا العمل أحياناً كبيرة قد تكون في حالة بطالة، وفي هذه الظروف نجد أصحاب الأعمال دائماً في مركز الطرف الأقوى في عملية تحديد الأجر.

ويؤكد ضعف العمال في القطاع الأولي في البلدان النامية عدم وجود اتحادات أو نقابات لهم تجمع شملهم وتمارس عملية المطالبة بتحسين أحوالهم وأجورهم من خلال تنظيم عرضهم أو المساعدة في تدريبهم.. إلخ، وهكذا فإن الارتفاع المستمر في الأسعار لن يؤدي إلا إلى مزيد من التدهور في الأجر الحقيقي للعامل في القطاع الأولي، فإذا كان الأجر السائد يضمن حد الكفاف فإن مزيداً من الارتفاع في الأسعار يعني التدني إلى أقل من الكفاف مما يعني انتشار الأمراض وزيادة معدل الوفيات في عائلات العمال، أما إذا كان مستوى الأجر قد ارتفع لأي سبب فوق حد الكفاف فإن التضخم سوف يؤدي إلى تدنيه مرة أخرى إلى الكفاف.

أما في قطاع الخدمات والذي يضم نسبة لها اعتبارها من مجموع القوة العاملة في البلدان النامية، فإن فرصة تعديل الأجر خلال التضخم قد تكون متاحة وميسرة بالنسبة لفئة العمال الحرفيين أو المهنيين الذين يبيعون خدماتهم مباشرة في السوق.

ص: 1548

ومثال هؤلاء الذين يعملون في البناء وإصلاح الأدوات المنزلية والسيارات.. إلخ وهؤلاء تختلف ظروفهم عن العمال الأجراء الذين يعملون من خلال أصحاب أعمال، فالحرفيون أو المهنيون في الواقع حينما يتفقون على أجورهم مباشرة مع من يحتاجون خدماتهم يصبحون بمثابة أصحاب أعمال يتحملون مخاطر نشاطهم، وهذا على خلاف وضعهم حينما يعملون من خلال شركات أو مؤسسات تتعاقد معهم بأجور معينة مقابل مهام محددة، وعادة ما نجد أن ظروف العرض والطلب الخاصة بالحرفيين الذين يديرون شؤون أعمالهم بأنفسهم تتيح لهم فرصة كبيرة لرفع أجورهم –أو قل: أثمان خدماتهم- خلال التضخم، حتى إنهم يحققون غالباً ارتفاعاً في دخولهم الحقيقية، أما العمال الذين يعملون من خلال شركات أو مؤسسات فلا تتاح لهم مثل هذه الفرصة، ويلاحظ أن بعض من يعملون في قطاع الخدمات في البلدان النامية قد يكون في وضع مميز نسبياً (بالنسبة لتغير الدخل الحقيقي خلال التضخم) من البعض الآخر، مع ذلك فالذين يعملون في البنوك والسياحة وأنشطة التصدير والاستيراد لهم أوضاع مميزة في قطاع الخدمات الخاص، وكذلك من يعملون في الهيئات الدبلوماسية والقضاء ومن يتقلدون مناصب قيادية في الجهاز التنفيذي للدولة مميزون في قطاع الخدمات العام بالنسبة لغيرهم، فلا تتأثر الدخول الحقيقية لهؤلاء خلال التضخم، بل قد تزيد في كثير من الأحيان، وهذا على عكس ما يحدث للآخرين.

وبالنسبة لقطاع الصناعة في البلدان النامية فإنه صغير نسبياً، ولكنه في حالة نمو في معظم الحالات، والعمال في هذا القطاع لديهم عادة قدر من التعليم أو التدريب وإنتاجيتهم في المتوسط مرتفعة بالمقارنة بغيرهم في القطاعات الأخرى (خاصة القطاع الأولي) ، ومن الناحية الأخرى فإن عرضهم أقل من عرض العمال في القطاعات الأخرى، خاصة المهرة منهم، وهي فئة أكثر وعياً بمطالبها وأكثر تنظيماً، ومقدرتها على المساومة مع أصحاب الأعمال أكبر، سواء عند التعاقد على العمل أو بعد ذلك، ولكن مهما كان الأمر فإن عمال الصناعة الحديثة في البلدان النامية لا يقارنون من حيث أحوال العمل والتنظيمات النقابية بأقرانهم في البلدان الصناعية المتقدمة، لذلك فهم يتمكنون من تعديل أجورهم النقدية خلال التضخم بما يؤدي إلى ثبات أجورهم الحقيقية أو زيادتها أحيانا، ولكن ليس أبداً على نفس النمط السائد في البلدان الصناعية المتقدمة.

ص: 1549

وخلاصة القول: إن هناك إجمالاً فجوة كبيرة بين أحوال العمال وظروف تحديد أجورهم في البلدان النامية والبلدان المتقدمة، لا تقل بأي حال عن الفجوة الاقتصادية أو الفجوة التقنية، والنتيجة العامة هي أن احوال التضخم تعصف بالأحوال المعيشية لمعظم الفئة العاملة التي لا تتمكن من تعديل أجورها النقدية إلا قليلاً خلال التضخم، وكلما اشتدت حدة درجة التضخم كلما تدهورت أحوال هذه الفئة من سيئ إلى أسوأ.

ومن جهة أخرى فإن التضخم لبعض فئات المجتمع زيادة دخولها النقدية بمعدلات أسرع من معدلات الارتفاع في الأسعار، ولا نتحدث هنا عن بعض فئات العمال التي تتمتع بأوضاع مميزة نسبياً، وإنما عن أصحاب الأعمال في نشاط التجارة خاصة التجارة الخارجية (التصدير والاستيراد) وفي نشاط الصناعة وبعض الأنشطة الخدمية، وكذلك من ينشطون في المشروعات الزراعية الحديثة وتربية الثروة الحيوانية والداجنية

إلخ، ويأتي على قمة من يتمكنون من رفع دخولهم الحقيقية خلال التضخم أصحاب مكاتب سمسرة العقارات والأراضي وأصحاب شركات الصرافة والبنوك؛ وذلك بسبب ظروف التكاليف المنخفضة نسبياً في أعمالهم من جهة ومقدرتهم على المزايدة بالنسبة لأسعار خدماتهم، حيث تخدمهم ظروف العرض والطلب لهذه الخدمات كثيراً.

والنتيجة العامة أن التضخم يتيح لبعض الفئات أن ترفع دخولها الحقيقية، بينما يعمل على خفض الدخول الحقيقية للبعض الآخر، ومن ثم يعيد توزيع الدخل الحقيقي بين أبناء المجتمع، ولو أن عملية إعادة توزيع الدخل الحقيقي (والتي تؤدي تدريجياً إلى إعادة توزيع الثروة) كانت تتم على أسس موضوعية تتعلق بالاجتهاد في الأعمال أو تطوير الأنشطة والفنون الإنتاجية أو بذل الجهود الإنمائية الحقيقية لما كان لنا أن نبدي أي اعتراض عليها، ولكن إعادة توزيع الدخل الحقيقي في المجتمع التي تحدث خلال التضخم إنما تتحقق في جانب كبير منها من خلال اختلاف المقدرة النسبية لكل فئة من الفئات على تعديل أثمان سلعها أو خدماتها خلال الزمن بما يضمن تعويض التدهور في القيمة الحقيقية للنقود أو بما يتضمن اجتناء مكاسب حقيقية من عملية التضخم ذاتها.

ص: 1550

وحيث إن الأجور هي أثمان خدمات العمال وحيث تنخفض مقدرتهم في الغالب على تعديلها خلال التضخم فإنه يتم توزيع الدخل الحقيقي في المجتمع لغير صالح العمال، وكلما اشتدت حدة التضخم وطالت فترته كلما اشتدت حدة المشكلة المطروحة، هنا تكمن خطورة الأمر: شعور الفئة الكبيرة من أبناء المجتمع أنها تتعرض للغبن بسبب ظروف لا تستطيع أن تتحكم فيها ولا علاقة لها بالكفاءة الإنتاجية أو كمية العمل، ونتائج اختلال العدالة خطيرة غاية الخطورة، فهي من جهة تسبب تصدعاً في العلاقات الاجتماعية يبن الفئة التي تخسر والفئة التي تستفيد من نفس الظروف، وهذا أمر في غير صالح الأمن والاستقرار الاجتماعي وفي غير صالح التنمية الاقتصادية أيضاً، فالفرد يشعر بمرارة في نفسه حينما يعمل ويجتهد لكي ترتفع كفاءته ويرتفع دخله الحقيقي، ثم يكتشف بعد مرور السنين أن دخله الحقيقي أصبح أقل مما كان عليه حينما بدأ طريقه بسبب (خداع النقود) ، لقد كان دخله النقدي يزيد ولكن بمعدل أقل من معدل الارتفاع في الأسعار على مدى سنوات طوال، وللمقريزي كلام دقيق وتحليل عميق سبق به زمنه كثيراً في اختلاف أحوال الناس خلال الغلاء الشديد بسبب اختلاف مقدرتهم على مواجهة هذا الغلاء (1) كذلك يصف أحد كتاب أوربا في العصور الوسطى خداع النقود الذي يرجعه إلى غبن القيمة الذاتية للعملة، بما يؤدي إلى تدهور قوتها الشرائية وارتفاع الأسعار، بأنه أسوأ من الربا، فالربا كما يقول نيكول اورزم: يسلبه الدائن من المدين بعلمه وربما برضاه، أما خداع النقود فيتضمن سلباً لحقوق عامة الناس دون علمهم.

وفي البلدان المتقدمة المعاصرة يقال: إن العمال لا يضارون غالباً بالتضخم لأنهم منظمون ومتحدون، وأهم من ذلك على درجة عالية من الوعي بمسألة خداع النقود بحيث إنهم لا يخدعون بمستويات الأجور النقدية وإنما بمعدلات التغير فيها مقارنة بمعدلات التغير في الأسعار أو نفقات المعيشة، أما في البلدان النامية حيث تفتقر معظم الفئة العاملة إلى التنظيمات التي تحفظ لها حقوقها، كما تفتقر إلى الوعي بشأن خداع النقود، فإن آثار التضخم على العدالة والكفاءة الإنتاجية والتنمية وكذلك التماسك الاجتماعي تتفاقم مع الزمن.

(1) راجع المقريزي (تقي الدين أحمد بن علي المقريزي) : (إغاثة الأمة بكشف الغمة) ، وقد خصص فصلاً في هذا الكتاب في ذكر (أقسام الناس وأصنافهم وبيان جمل من أحوالهم وأوصافهم) وذلك تحت وطأة الغلاء الشديد الذي شهدته مصر في (796-808هـ)، وقد قسم الناس سبعة أقسام: 1- أهل الدولة، 2- أهل اليسار من التجار وأولي النعمة من ذوي الرفاهية، 3- الباعة وهم متوسطو الحال من التجار ويلحق بهم أصحاب المعايش، 4- أهل الفلح سكان القرى والريف، 5- الفقراء وهم معظم الفقهاء وطلاب العلم وما شابههم، 6- أرباب الصنائع والأجراء، 7- السآل الذين يتكففون الناس ويعيشون عليهم، وأخذ المقريزي بعد ذلك يذكر ما حدث للدخل النقدي لكل فئة بالمقارنة بما حدث للأسعار الذي تسبب في اختلاف قيمة النقود –رخصها- وأثبت في تحليله أن الدخل الحقيقي لبعض الفئات لم يزدد كما يظن؛ لأن ارتفاع النفقات واختلاف قيمة النقد أتلف الزيادة في الدخل النقدي، ومن الممكن الاطلاع على مختصر (ولكن مفصل) لعمل المقريزي في: عبد الرحمن يسري أحمد (تطور الفكر الاقتصادي) الطبعة الثالثة (منقحة)، الناشر: قسم الاقتصاد بكلية التجارة – جامعة الإسكندرية 1993، ص 160- 172

ص: 1551

نحو بلورة وجهة نظر إسلامية في المشكلة:

لم تكن مشكلة الفجوة التي تنشأ بين الأجور النقدية والأجور الحقيقية بسبب التضخم معروفة فيما مضى بالكيفية وبالأبعاد التي نعرفها بها في عصرنا الحاضر، فالمشكلة الحالية نتيجة أساسية لعدد من الظروف التي استجدت في عالمنا المعاصر ولم تكن معروفة قديماً، فلم يعرف العالم الإسلامي القديم في عصر الازدهار الاقتصادي تضخماً مستمراً لفترات طويلة مثلما يحدث الآن، كذلك لم تكن عقود العمل طويلة الأجل في مؤسسات قائمة معروفة فيما مضى.

ومع ذلك فإن الإسلام العظيم لم يترك أمراً من الأمور إلا وله فيه حكم بين أو سبيل يعين على فهمه وإرساء قاعدة يحتكم إليها فيه، ومن هنا تتبين ضرورة فهم النصوص المتعلقة بالعمل المستأجر في القرآن الكريم والسنة المطهرة لرؤية ما فيها من معان يستفاد منها ويحتكم إليها، ثم استطلاع ما خرج به علماء المسلمين من الآراء والاجتهادات (دون دخول في تفاصيلها إلا فيما يلزم لهذا البحث) لنرى كيف يمكن أن نستفيد منها أولاً، وما نحتاج لإضافته إليها بعد ذلك.

النصوص والاجتهادات الرائدة:

ورد لفظ (الأجر) في الكتاب الكريم في آيات كثيرة بالمفهوم اللغوي العام للكلمة: أي الثواب أو المكافأة مثال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة: 120] ، وفي قلة قليلة من الآيات نجد المفهوم الخاص بالأجر وهو ما يدفع للشخص عوضاً عن مجهود أو عمل يبذله، وهذا ما نهتم به في هذا البحث، ومثال هذا المفهوم الخاص للأجر قوله تعالى:{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]، وقوله تعالى:{قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) } [القصص: 26- 27] . والآية الأولى الخاصة بالمراضع واضحة، والآيتان الأخيرتان من سورة القصص فيهما معان كثيرة؛ منها أن خير الأجراء الأقوياء بدناً الأمناء خلقاً، وأن عقد العمل قد يمتد إلى عدد من السنين باتفاق واضح وصريح بين الطرفين، وأن من علامات الصلاح بالنسبة للمستأجر أن لا يشق على الأجير وأن يحدد له أجره ويوفيه له في وقته.

أما النصوص التي تتعلق بالمفهوم الخاص بالأجر في السنة المطهرة فمنها قول أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم عن رب العزة سبحانه وتعالى أنه قال: ((ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه خصمته: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره)) رواه البخاري وابن ماجه وغيرهما (وأخرجه المنذري في باب الترهيب من منع الأجير أجره- الترغيب والترهيب)، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعطوا الأجير حقه قبل أن يجف عرقه)) ، رواه ابن ماجه من رواية عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وقد روي نفس هذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه (رواه أبو يعلى) وروى الطبراني نفس الحديث في الأوسط من حديث جابر، وقال المنذري: وبالجملة فهذا المتن مع غرابته بكثرة طرقه قوة والله أعلم.

ص: 1552

وأهم ما يفهم من الحديث الأول (القدسي) أن العلاقة بين صاحب العمل والأجير محددة، وذلك يفهم من قوله تعالى:((رجل استأجر أجيراً فاستوفى منه)) أي استوفى منه ما كلفه به أو اتفق عليه معه من عمل، ((و ((لم يعطه أجره)) )) أي أجره الذي تعين له بالاتفاق عند التعاقد على العمل، واللفظ (أجره) وليس (الأجر) مما يعني أنه حقه المخصص له حينما ينجز ما طلب منه، وهكذا فإن الأجر ثمن مؤجل لمنفعة العمل، ويصبح حقاً خالصاً للأجير وفقاً لما تم عليه الاتفاق عند الانتهاء من العمل، وبشاعة الجرم عند الله عز وجل أن يستوفي صاحب المصلحة منفعة العمل من الأجير ثم لا يوافيه أجره عند استحقاقه له، وهذا يشبه من اشترى سلعة مقابل ثمن مؤجل، فإذا حل تاريخ الاستحقاق رفض أن يدفع الثمن للبائع، وفي الحديث الثاني المتواتر ((أعطوا الأجير حقه قبل أن يجف عرقه)) تصريح واضح بأن الأجر حق خالص للأجير (حقه) وأنه يستحقه عند الانتهاء من العمل المكلف به، بل وإن التعجيل بالأجر قرب الانتهاء من هذا العمل أفضل، وقوله صلى الله عليه وسلم:((أجره)) يفيد كون المراد بالأجر المأمور بإعطائه الأجر المسمى للأجير عند الاتفاق على العمل وليس (الأجر) الذي يراه المستأجر عند نهاية العمل، وروى البخاري ((أن النبي صلى الله عليه وسلم استأجر رجلاً من بني الديل يقال له: عبد الله بن الأريقط وكان هادياً خريتاً، أي ماهراً)) ، كذلك روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم ((احتجم وأعطى الحجام أجره)) ، وهكذا تدل النصوص في الكتاب الكريم والسنة المطهرة على مشروعية الإجارة والقواعد العامة التي تحكمها.

ولقد اجتهد الرواد الأوائل من فقهاء المسلمين في بيان المسائل الخاصة بإجارة العمل، وذلك تأسيساً على النصوص الواردة في الكتاب والسنة، وأخذاً في الاعتبار ظروف الأعمال والأجراء التي عاصروها، ويلاحظ أن الاجتهادات الخاصة بإجارة العمل واردة في باب الإجارة بصفة عامة، وهكذا بحثت إجارة العمال مع إجارة المساكن والأراضي والدواب، ولقد كان لهذا الخلط بين إجارة العمال مع غيرهم وجهان أحدهما إيجابي والثاني سلبي، وذلك من وجهة نظرنا الاقتصادية التحليلية، أما الوجه الإيجابي فهو أن الفقهاء رضي الله عنهم بمعالجتهم لمنافع العمل البشري مع منافع الدور والأراضي وغير ذلك في إطار واحد تمكنوا من وضع (قواعد عامة) تحكم إجارة المنافع [والتي نسميها (خدمات) في التعبير الاقتصادي المعاصر] ،

ص: 1553

هذه (القواعد العامة)(1) مثل رضا المتعاقدين ومعرفة المنفعة المعقود عليها معرفة تامة تمنع من المنازعة، وأن يكون المعقود عليه مقدور الاستيفاء حقيقة، وأن تكون المنفعة مباحة لا محرمة، لها أهميتها عند الشروع في التحليل الاقتصادي في مجال العمل البشري أو غيره، أما الوجه السلبي فهو أن هذه المعالجة الإجمالية لم تعط الفرصة لمعالجة إجارة العمل بالشكل المناسب أو الكافي، ولا شك أن ظروف الطلب على العمل وعرض العمل في السوق تختلف تماماً عن ظروف الطلب والعرض للمساكن أو للأراضي، وعلى أية حال فإنه يقع على الباحث المعاصر مهمة استخلاص القواعد العامة والخاصة التي تحكم إجارة العمل من التراث الفقهي الإسلامي: وأن يرى كيف يمكن الاستفادة منها، وربما اقتراح كيفية تطويرها حتى تتحقق مقاصد الشريعة في ظروف العصر.

جاء في العدة –شرح العمدة في فقه الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه - أن الحاجة تدعو إلى المنافع (الخدمات) كالحاجة إلى الأعيان (السلع في التعبير الحديث)، وأن الإجارة عقد على المنافع (2) وقال:(ولا تصح (الإجارة) إلا على نفع معلوم؛ إما بالعرف كسكنى دار، أو بالوصف كخياطة ثوب معين أو بناء حائط أو حمل شيء إلى موضع معين، وضبط ذلك بصفاته أو معرفة أجرته، وقال: يشترط معرفة الأجرة كما يشترط معرفة الثمن في المبيع) (3)

وفي الفتاوى فرق ابن تيمية رضي الله عنه بين أنواع من الإجارة، قال:(لفظ الإجارة فيه عموم وخصوص، فإنها على ثلاث مراتب: إحداها أن يقال لكل من بدل نفعاً لعوض فيدخل في ذلك المهر.. والمرتبة الثانية الإجارة التي هي جعالة، وهو أن يكون النفع غير معلوم لكن العوض مضمون، فيكون عقداً جائزاً غير لازم (4)

والثالثة الإجارة الخاصة، وهي أن يستأجر عيناً أو يستأجره على عمل في الذمة، بحيث تكون المنفعة معلومة، فيكون الأجر معلوماً والإجارة لازمة، وهذه الإجارة التي تشبه البيع في عامة أحكامه، والفقهاء المتأخرون إذ أطلقوا الإجارة أو قالوا: باب الإجارة، أرادوا هذا المعنى، وأضاف:(إن الإجارة الخاصة (وهي موضع اهتمامنا في هذا البحث) يشترط فيها ألا يكون العوض غرراً قياساً على الثمن، فأما الإجارة العامة التي لا يشترط فيها العلم بالمنفعة فلا تشبه هذه الإجارة كما تقدم فلا يجوز إلحاقها به) (5)

(1) انظر خلاصة هذه القواعد في: السيد سابق، فقه السنة، المجلد الثالث (الأجزاء 12، 13، 14) ، دار الكتاب العربي، بيروت (الطبعة السابعة 1985) ص 181، ص 183 في شروط صحة الإجارة

(2)

العدة – شرح العمدة في فقه إمام السنة أحمد بن حنبل الشيباني – تأليف بهاء الدين عبد الرحمن بن إبراهيم المقدسي، المطبعة السلفية، الطبعة الثانية، القاهرة 1982هـ، انظر ص 267

(3)

العدة – شرح العمدة ص 268

(4)

وشرح ذلك بقوله: (مثل أن يقول: من رد لي عبدي فله كذا فقد يرده من مكان بعيد أو قريب؛ انظر الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية، مكتبة المثنى – بغداد: 3/ 312

(5)

الفتاوى الكبرى ص 312

ص: 1554

وتتأكد ضرورة انتفاء الغرر بالنسبة للإجارة عند ابن حزم الظاهري فلا تجوز الإجارة عنده (إلا بمضمون مسمى محدود في الذمة أو بعين متميزة معروفة الحد والمقدار)(1) وفي شرح القدير لابن الهمام (ولا تصح الإجارة حتى تكون المنافع معلومة والأجرة معلومة.. لأن الجهالة في المعقود عليه وبدله تفضي إلى المنازعة كجهالة الثمن والمثمن في البيع)(2) وفي رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين (ركن الإجارة الإيجاب والقبول وشرطها كون الأجرة والمنفعة معلومتين.. وكل ما صلح ثمناً –أي بدلاً في البيع- صلح أجرة؛ لأنها ثمن المنفعة، ولا ينعكس كلياً، فلا يقال: ما لا يجوز ثمناً لا يجوز أجرة؛ لجواز إجارة المنفعة بالمنفعة)(3) .. وذهب ابن عابدين إلى تفصيل الأجرة فقال: (كقوله: بكذا دراهم أو دنانير وينصرف إلى غالب نقد البلد، فلو الغلبة مختلفة فسدت الإجارة ما لم يبين نقداً منها، فلو كانت كيلياً أو وزنياً أو عددياً متقارباً فالشرط بيان القدر والصفة، وكذا مكان الإيفاء لو له حمل ومؤنة عنده، وإلا فلا يحتاج إليه كبيان الأجل، ولو كانت ثياباً أو عروضاً فالشرط بيان الأجل والقدر والصفة لو غير مشار إليها، ولو كانت حيواناً فلا يجوز إلا أن يكون معيناً)(4) وما هذا التفصيل إلا (لأن الجهالة) كما يقول: (تفضي إلى المنازعة) .

وفي المصادر الفقهية المختلفة نجد التفرقة بين: أ- التعاقد مع شخص لأداء عمل مسمى، أو معين، فيستحق الأجر بأداء هذا العمل.

ب- التعاقد مع شخص على مدة معينة يعمل فيها دون تسمية أو تعيين أو إشارة لعمل محدد، في هذه الحالة يستحق الأجر عن المدة؛ لأن التعاقد تم عليها سواء تم فيها عمل أم لم يتم.

(1) لجنة موسوعة الفقه الإسلامي – معجم فقه ابن حزم الظاهري، دار الفكر، بيروت: 1/15-16

(2)

شرح القدير، ابن الهمام، نتائج الأفكار في كشف الرموز والأسرار لشمس الدين أحمد بن قودر (ص145) – انظر ص (148) – طبع المكتبة التجارية الكبرى شارع محمد علي- القاهرة

(3)

رد المحتار على الدر المختار (حاشية ابن عابدين) : 5/3 – دار إحياء التراث العربي، بيروت 1407هـ-1987م

(4)

رد المحتار على الدر المختار (حاشية ابن عابدين) : 5/3 – دار إحياء التراث العربي، بيروت 1407هـ-1987م

ص: 1555

ملاحظات وتعقيب:

في نهاية عرض ما سبق من اجتهادات فقهية لدينا ملاحظات ثلاث نرفق بكل منها تعقيباً مناسباً في سبيل بلورة قاعدة ننطلق منها إلى مواجهة علاجية للمشكلة المطروحة في هذا البحث.

أولاً: هناك اتفاق على أن الأجر يستحق مقابل أداء عمل معين أو مسمى أو مشار إليه، وذلك من الشخص الذي يطلبه بالاتفاق مع الأجير، ويجوز للأجير في هذه الحالة قبول أداء أعمال مماثلة لأشخاص آخرين في نفس الوقت وفقاً لما يتفق عليه، وهذه الحالة التي أسماها الفقهاء (الأجير المشترك) لا تقع ضمن حالات العمال الأجراء الذين نهتم ببحث مشكلة أجورهم الحقيقية في ظل الارتفاع المستمر في الأسعار، فالذي جرى الاصطلاح على تسميتهم أجراء مشتركون هم الذين يصنفون في الفكر الحديث كعمال حرفيين أو مهنيين مستقلين، حيث إنهم يملكون أدواتهم ومعداتهم الخاصة وكثيراً ما يكون لديهم أماكنهم أو محلاتهم الخاصة التي يمارسون، وقد يكون لديهم أيضاً عمال أجراء يعملون من خلالهم بأجور مضمونة بغض النظر عن مخاطر الأعمال التي يتعهدون بها، ومن ثم فإن قضية الأجير المشترك تختلف عن قضية غالبية العمال الأجراء الذين يعملون من خلال الغير في مؤسسات أو شركات أو هيئات.. إلخ، والواقع أن الأجير المشترك صاحب عمل أو سيد نفسه، بمعنى أنه يقوم بالاتفاق بصفة مباشرة مع أصحاب الحاجات لخدماته على مسؤوليته الخاصة (لهذا تكلم الفقهاء عن مسألة تضمين الأجير المشترك، يضمن أو لا يضمن) ، وهو لا ينتج سلعة مثل الصانع أو المزارع ولا يشتري سلعة ليبيعها كالتاجر، وإنما يبيع الخدمات Services، وهي التي أطلق عليها الفقهاء لفظة (المنافع) وفي مجال بيع خدماته يتفق الأجير المشترك (أو صاحب المهنة أو الحرفة كما هو المصطلح الحديث) على ثمن محدد لهذه الخدمات مع من يطلبها منه، وذلك بصفة مباشرة، وقد أطلق الفقهاء على ثمن الخدمة التي يقوم بها الأجير المشترك مصطلح الأجر، وهذا لا يعترض عليه لغوياً أو منطقياً حيث هو من قبيل الأجر فعلاً، ولكن وجه الاعتراض يأتي من حيث اختلاف المفهوم الاقتصادي العام للأجر مع هذا المفهوم الخاص، فالأجر وفقاً للمفهوم العام الحديث مبلغ من النقود (أو ما يحل محلها) يستحقه العامل بالتعاقد مع صاحب عمل مقابل وقت محدد يقضيه للعمل لديه أو عمل محدد يؤديه من خلاله ولا يتحمل العامل بأية حال مسؤولية ما يقوم به من عمل، بل يتحمل ذلك صاحب العمل، فالأجر ثمن مضمون لخدمة يؤديها العامل بعقد قائم على التراضي بينه وبين صاحب العمل، فلا علاقة للعامل بالسوق أو بأصحاب الحاجات مباشرة مثل الأجير المشترك والذي من خلال وضعه المميز يستطيع أن يساوم على أجره كلما تغيرت ظروف الطلب على العمل أو ظروف الأسعار، ومقابل هذه الميزة فإن الأجير المشترك وهو حرفي أو مهني مستقل يتحمل مسؤولية مباشرة عن أي عمل يتعهد به تجاه من يطلبه، ومن ثم فإن أجره ليس مضموناً مثل العامل الأجير الذي يعمل من خلال الغير.

لكل ما سبق فإن حالة الأجر بالنسبة للأجير المشترك لا تثير نفس المشكلة التي نهتم ببحثها في هذا المقال.

ص: 1556

ثانياً: يستحق الأجر في الحالة التي يطلق عليها الفقهاء (الأجير الخاص) عن مدة مؤقتة معلومة للطرفين، ذلك لأن صاحب العمل يتسلط وحده على منافع أو خدمات الأجير خلال المدة التي يتفقان عليها من غير بيان مسبق للعمل أو مع بيان طبيعة هذا العمل وأوصافه، ولكن دون تحديد لكمية أو مقدار العمل المطلوب في المدة (وإلا فسدت الإجارة) .

وحالة الأجير الخاص أقرب ما يكون إلى الحالة الشائعة التي نجدها في مجتمعاتنا الحديثة للعمال الأجراء، سواء كانوا ممن يعملون بأيديهم أو بأذهانهم، ففي معظم الحالات نجد أن الاتفاق يتم بين صاحب عمل وبين عامل يعمل لديه على أساس معدل أجر بالساعة أو باليوم أو بالأسبوع أو بالشهر، والعامل عادة يتعاقد على القيام بعمل معين ذي طبيعة معينة أو أوصاف محددة، لكن دون تحديد لمقدار العمل أو كميته أو نوعيته التي تلزم، وفي الممارسة العملية (خارج نطاق العقد) ، قد يحدد صاحب العمل كماً معيناً من الإنتاج كمتوسط لإنتاجية العامل في الساعة أو في اليوم.. إلخ فإذا زادت إنتاجية العامل فوق المتوسط المتوقع استحق مكافأة أو ترقية، أما إذا حدث العكس تعرض العامل للفت نظره، وربما زادت رقابة صاحب العمل عليه أو ربما فكر في الاستغناء عنه بمجرد انتهاء فترة التعاقد معه، وكل هذا من حقه، ولا أعتقد أن هذا يثير خلافاً من الناحية الشرعية.

لكن الأمر الذي يدعو إلى البحث هو مدة التعاقد في حالة الأجير الخاص التي كما ذكرنا تعتبر الحالة الأكثر شيوعاً في العصر الحديث، ففي حالات قد يتم الاتفاق مع الأجير الخاص على يوم أو أسبوع أو شهر أو عام، ولكن في معظم الحالات أصبحت مدة الإجارة الخاصة ممتدة لأعوام ومتجددة تلقائياً، ففي مجالات النشاط الحديث: صناعي أو تجاري أو خدمي أو أولي أصبحت المؤسسة القائمة تعمر أكثر مما يعمر الرجال بسبب انفصال هيكلها المالي أو التنظيمي عن الأعمار الطبيعية لملاكها، كما أصبح سوق العمل منظماً عما كان عليه الأمر قديماً، واتخذت عقود العمل في الحالة التي يسميها الفقهاء الإجارة الخاصة، في ظل الظروف المذكورة، أبعاداً زمنية لم تكن معروفة فيما مضى، حتى إن العقد قد يجدد تلقائياً حتى سن التقاعد (في الستين مثلاً) أو حتى الوفاة أيهما أقرب، وهذه الظاهرة متكررة بعينها في حالات جميع العمال أو الموظفين الذين يشتغلون في الأجهزة والإدارات الحكومية.

ص: 1557

هذه الظاهرة –أي عقود العمل الطويلة الأجل جداً أو المجددة تلقائياً إلى سن التقاعد أو لنهاية العمر لم تعرف في العصور الوسطى، بل ولم تعرف إلى قرن مضى، وكان الأمر الغالب في هذه المجتمعات بطبيعة ظروفها الاقتصادية هي عقود الإجارة الخاصة قصيرة الأجل ليوم أو لأيام أو لشهور أو عام.. ومن أطول عقود الإجارة الخاصة زمناً في العهد القديم ما جاء ذكره في قصة النبي موسى عليه السلام {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} [القصص: 27] .

ولم أجد في المصادر الفقهية التي اطلعت عليها ما يدل على اهتمام بمناقشة طول المدة أو قصرها في حالة الأجير الخاص، وربما هذا لظروف العصر كما ذكرنا، ولكن حيث تدخل إجارة العمل في باب الإجارة بصفة عامة يمكن لنا الاستفادة من المناقشة الخاصة بالمدة وطولها في حالة الدور والأراضي، لقد ورد في شرح القدير لابن الهمام- باب الإجارة قوله:(قد تقدم أن المنفعة لا بد أن تكون معلومة في الإجارة، فلا بد من بيان ما تكون به تكون معلومة، فتارة تصير معلومة بالمدة، كاستئجار الدور للسكن والأراضي للزراعة مدة معلومة وكائنة ما كانت؛ لأن المدة إذا كانت معلومة كان مقدار المنفعة فيها معلوماً) ثم يضيف: (ولا فرق بين طويل المدة وقصيرها عندنا إذا كانت بحيث يعيش إليها العاقدان؛ لأن الحاجة جوزت الإجارة لها قد تمس إلى ذلك، وهي مدة معلومة يعلم بها مقدار المنفعة، فكانت صحيحة كالأجل في البيع، وأما إذا كانت بحيث لا يعيش إليها أحد المتعاقدين فمنعه بعضهم؛ لأن الظن في ذلك عدم البقاء إلى تلك المدة، والظن مثل التيقن في حق الأحكام، فصارت الإجارة مؤبدة معنى، والتأبيد يبطلها وجوزه آخرون)(1)

(1) شرح القدير لابن الهمام، والعبارة مقتطفة من الشرح على الهامش للإمام أكمل الدين محمد بن البابرتي المتوفى سنة 786هـ، (شرح العناية على الهداية)

ص: 1558

السؤال إذاً: هل امتداد عقود الإجارة الخاصة للعمال إلى سن التقاعد أو إلى الوفاة أيهما أقرب، والذي نشهده في غالبية المؤسسات الحديثة أمر غير جائز؟ بصفة مبدئية لا أعتقد هذا؛ لأن الامتداد في العقود ليس ملزماً أو إجبارياً، بمعنى أن العامل يستطيع الاستقالة من عمله أو يطلب عدم تجديد العقد، كذلك فإن صاحب العمل يستطيع اتخاذ قرار عدم تجديد العقد أو فصل العامل، صحيح أن بعض الشروط قد توضع في إجراءات الاستقالة أو إجراءات الفصل حماية لمصلحة هذا الطرف أو ذاك، ولكن هذه الإجراءات لا تعني أبداً أن عقد العمل للأجير الخاص ملزم بصفة مؤبدة، ويلاحظ أنه إذا أصبح عقد إجارة الأجير الخاص ملزماً بصفة مؤبدة أو مجدداً تلقائياً بصفة إجبارية إلى سن التقاعد أو إلى نهاية العمر تحت أي نظام من النظم السياسية أو التشريعية، فإنه يكون باطلاً، فالأجير الخاص يصبح في مثل هذه الظروف أقرب إلى العبد منه إلى الحر.

ولكن تبقى مسألة خطيرة مترتبة على طول مدة العقد ألا وهي الخاصة بالأجر خلال المدة الطويلة جداً، كيف يكون؟ هل يبقى ثابتاً عند المستوى المحدد عند التعاقد؟ أم يتغير؟ وكيف يتغير؟ هذه المسألة الخطيرة هي التي تحتاج إلى الاجتهاد حقاً، وهي التي نواجهها بطريقة أو بأخرى في هذا البحث.. إن المدة الطويلة تعني عادة زيادة الكفاءة الإنتاجية للعامل بسبب اكتسابه مهارات إضافية أو مزيداً من التعليم والتدريب، وهذا يعني زيادة قيمة المنفعة أو الخدمة التي يقدمها العامل خلال الوقت، والتي يحصل عليها صاحب العمل وفقاً للعقد، فكيف يبقى الأجر ثابتاً عند مستواه الأول عند التعاقد؟ (مثلاً منذ عامين أو منذ عشرة أعوام أو أكثر..) ، كذلك فإن المدة الطويلة تعني احتمال نقص الأجر الحقيقي للعامل كلما ارتفعت الأسعار –أي كلما انخفضت القيمة الحقيقية للنقد، فكيف لا يتم تعديل الأجر النقدي حتى نحافظ- على الأقل- على الأجر الحقيقي؟ كذلك فإن المدة الطويلة تعني تزايد الفجوة بين الأجر المتعاقد عليه في سنة ما مع متوسط أجر المثل الجاري في السوق.

كل هذه الاحتمالات تثير بقوة قضية عدالة الأجر في عقود العمل الخاصة الممتدة لآجال طويلة جداً.

ص: 1559

ثالثاً: هناك اتفاق تام على أن الأجر المستحق يجب أن يحدد تحديداً واضحاً بنقد رائج معلوم بكذا دراهم أو دنانير من نقد البلد غالباً، ولو اتفق على دفع الأجر من مكيلات أو موزونات أو معدودات متقاربة فإن الشرط بيان القدر والصفة في أي حالة على وجه التحديد، ويلاحظ أن مثل هذه السلع المتجانسة أو المتماثلة الوحدات استخدمت قديماً كنقود سلعية في المبادلات، ويلاحظ أن مثل هذه النقود السلعية تشترك مع النقود الذهبية والفضية في أن لها قيمة أو مالية ذاتية، على عكس النقود الاصطلاحية أياً كان شكل هذه الأخيرة، وفي المصادر الفقهية ما يؤكد جواز تحديد الأجر أيضاً بأي سلع أخرى (وربما منافع) لها مواصفات مميزة ومعروفة وفي حد ذاتها مقبولة بصفة عامة بين الناس، أما إذا لم يكن الأجر محدداً تحديداً واضحاً فغير جائز لاحتمال الجهالة أو الغرر، وكل ما سبق يعني أن أئمة الفقه الإسلامي كانوا حريصين أشد الحرص على تحديد ما نسميه في الفكر الحديث بالأجر الحقيقي عند التعاقد على العمل.

ويترتب على هذا أمر هام في بحثنا الحالي، حيث إن الأجور تستحق بالنقد الرائج المتداول الذي هو نقد ورقي اصطلاحي، ليس له بالضرورة صفة الاستقرار أو الثبات، فالنقد الرائج المتداول في عصرنا قد يستقر في قيمته الحقيقية (قوته الشرائية) حيناً، وقد يتدهور حيناً آخر، وبذلك فهو لا يضمن استقرار الأجر الحقيقي الذي هو عبارة عن كم معين سلعي.

ولدينا احتمالات ثلاثة: أولها أن الأجر المستحق بالنقد الورقي المتداول يتقلب في قيمته الحقيقية حول مستوى معين، تارة لأعلى إذا انكمشت الأسعار أو غلت النقود، وتارة لأسفل إذا ارتفعت الأسعار ورخصت النقود، وثانيها أن القيمة الحقيقية للأجر المستحق بالنقد الورقي المتداول تتجه بصفة مستمرة لأعلى بسبب استمرار انكماش الأسعار –أي غلاء النقود- على المدى الطويل من الزمن، وثالثها أن القيمة الحقيقية للأجر المستحق بالنقد الورقي المتداول تتجه بصفة مستمرة لأسفل بسبب استمرار ارتفاع الأسعار – أي رخص النقود- على المدى الطويل من الزمن.

والاحتمال الأول لا يستدعي معالجة خاصة؛ حيث إنه إذا سارت الأمور على مثل هذا المنوال فإن الضرر أو النفع الواقع على أحد طرفي العقد لن يستديم، بل إن الضرر والنفع قد يتساويان في المتوسط على مدى الزمن بشكل لا يتضمن إخلالاً بالعدالة، أما في الحالتين الأخريين فإن الأمر يختلف بداهة؛ ذلك لأنه إذا انكمشت الأسعار بصفة مستمرة فغلت النقود بصفة مستمرة فإن في هذا إضراراً بالمستأجر للعمل على مدى الأجل الطويل، ويزداد الضرر طالما بقي مستوى الأجر النقدي ثابتاً، وكلما طالت مدة العقد واشتدت حدة غلاء النقود، والعكس صحيح، بمعنى أنه إذا ارتفعت الأسعار بصفة مستمرة فرخصت النقود بصفة مستمرة فإن في هذا ضرراً مؤكداً واقعاً على الأجير، وتشتد حدة الضرر طالما بقي مستوى الأجر النقدي ثابتاً وكلما طالت مدة العقد واشتدت حدة رخص النقود.

ص: 1560

ولقد استبعدت المناقشات الفقهية فيما مضى حالات الرخص المستمر أو الغلاء المستمر للنقود، بناء على المشاهدات الواقعية، فلقد كان التقلب بين ارتفاع الأسعار وانكماشها أو رخص النقود وغلائها هو الأمر الشائع، أما الآن في عصرنا الحديث فلدينا حالة واضحة تماماً تتمثل في الارتفاع المستمر في المستوى العام للأسعار أو التضخم الممتد لآجال طويلة، ومن ثم فلدينا حالة رخص مستمر ومتزايد في القيمة الحقيقية للنقود الورقية المتداولة، والتي هي نقود اصطلاحية، فإذا أضفنا إلى هذا ما توصلنا إليه من قبل بشأن عقود العمل التي أصبح معظمها ينطوي غالباً تحت مضمون الإجارة الخاصة، وأصبحت معظم هذه العقود ممتدة لآجال طويلة جداً، فإننا سنجد أمامنا حالة خطيرة تتمثل في ضرر مؤكد يقع على العمال الذين تبقى أجورهم المسماة عند التعاقد لأول مرة ثابتة، أو الذين تتغير معدلات أجورهم بشكل لا يعوضهم عن الفقد الحادث بسبب الرخص المستمر في قيمة النقود، هذه هي المشكلة التي يتعين علينا بحثها لنجد لها حلا.

علاج مقترح: الربط القياسي للأجور بالمستوى العام للأسعار:

من الممكن اقتراح مواجهة المشكلة المذكورة للأجور العمالية في إطار التدهور المستمر لقيمة النقد، والذي يحدث من خلال التضخم، بربط الأجور بالرقم القياسي للأسعار، وهذا العلاج له مزاياه وله مثالبه، وعلينا أن نناقش هذه وتلك قبل أن نقره أو لا نقره. وهذا العلاج يصنف ضمن أنواع العلاج النقدي حيث يعمل من خلال تغير الأجور النقدية تبعاً لتغيرات الأسعار، وجميع أنواع العلاج النقدي تعتبر قصيرة الأجل في عرف رجال الاقتصاد، ولا بد من التنويه بالملاحظات الآتية قبل الدخول في مزيد من التفاصيل عن العلاج المذكور:

أ- إنه لا يوجد في الغالب علاج وحيد ناجع لأي مشكلة اقتصادية قائمة على المستوى الكلي Macro Level، وقد يكون العلاج المقترح رئيسياً ومن ثم علينا أن نتبين أنواع العلاج الأخرى التي تصاحبه حتى يؤتي ثمرته المرجوة.

ب- إن العلاج النقدي الذي يعمل في الأجل القصير يختلف في طبيعته عن العلاج الهيكلي الذي يعمل في الأجل الطويل، والعلاج الهيكلي مطلوب وهو هدف حتمي للدول الإسلامية؛ حيث إنه يعمل من خلال الشريعة الإسلامية والالتزام بها نصاً وتطبيقاً في جميع الأمور وليس في جزء من الأجزاء أو أمر واحد دون الأمور الأخرى، وحيث هذا هو الوضع المنشود في الأجل الطويل يلزم علينا وضع تصور عن العلاقة بين العلاج المقترح في الأجل القصير والعلاج الهيكلي.

ج- إن أي علاج مقترح لا يمكن أن ينفصل عن العلاج الاجتماعي طالما أننا نتكلم في إطار الاقتصاد الإسلامي، ومن ثم علينا أن نضع نصب أعيننا تحقيق الهدفين الاقتصادي والاجتماعي معاً، أو على الأقل تحقيق الهدف الاقتصادي دون إضرار بالهدف الاجتماعي.

ص: 1561

وصف العلاج:

يتمثل العلاج المقترح في ربط معدلات الأجور بالرقم القياسي لأسعار التجزئة، وهذا الرقم يستخدم في عدد كبير من البلدان لكي يدل على نسبة التضخم التي تهم أصحاب الدخول بصفتهم مستهلكين، فالتغيرات في الرقم القياسي لأسعار التجزئة في أي بلد تعتبر مؤشرات جدية للتغيرات في نفقة المعيشة (1)

وسوف نفترض بصفة مبدئية أن ربط الأجور بالرقم القياسي لأسعار التجزئة سيتم تلقائياً، بمعنى أنه إذا كان التغير في الرقم القياسي خلال سنة ما بنسبة 10 %، فإن الارتفاع في نفقة المعيشة يساوي 10 %، والتدهور في القيمة الحقيقية للنقود بنفس النسبة، ومن ثم يتم تعديل الأجور بصفة عامة بزيادة قدرها 10 %، فإذا تم التعديل تلقائياً بالطريقة المذكورة تظل الأجور الحقيقية على ما هي عليه عندما تم التعاقد على إجارة العمل.

الإطار الشرعي للعلاج:

هل هناك أساس شرعي يستند إليه العلاج المقترح؟

إن معظم مناقشات رجال الاقتصاد الإسلامي في هذا المجال تنطلق من اجتهادات فقهية سابقة بخصوص النقود والتغير في قيمتها بالغلاء أو بالرخص، ولقد أجمع الفقهاء في المذاهب المختلفة على أن المناقشات الخاصة برخص أو غلاء النقود لا تنطبق على النقود الذهبية أو الفضية الخالصة من الغش، ولكن الأمر يختلف بالنسبة للنقود المسكوكة من معادن رخيصة والتي كان يطلق عليها (الفلوس) ، وكذلك بالنسبة للدراهم والدنانير (وهي في الأصل فضية أو ذهبية) التي غلب عليها الغش.

فالفلوس لها ثمنية اصطلاحية تختلف عن قيمتها الذاتية الزهيدة، فإذا رخصت الفلوس بسبب الغلاء تعرض مالكها –وكذلك الدائن وصاحب الحق المؤجل الذي قدر ماله أو حقه بالفلوس- للغبن؛ لأنه لم يعد يستطيع أن يشتري بها سلعاً أو منافع مساوية في قيمتها الحقيقية لما كان يشتريه بها قبل رخصها، وهذه النقود الاصطلاحية لا تصلح في ظل التدهور المستمر في قيمتها الحقيقية أن تؤدي وظيفتها كمستودع للثروة، كما أنها تبخس حقوق الغير إذ استخدمت لسداد ما في الذمة من قروض أو ديون أو أثمان مؤجلة، وكلما اشتدت حدة الغلاء في الأسعار اشتدت حدة التدهور في القيمة الحقيقية للنقود الاصطلاحية، وهي في الأصل ليس لها قيمة أو مالية ذاتية، فتصبح بلا معنى، وكلما طالت مدة الغلاء كلما اشتدت حدة المشكلة على الناس.

(1) انظر الملحق في آخر البحث لشرح الرقم القياسي لأسعار التجزئة، ولقد وضعت هذا الشرح بالملحق لأن المعلومات الواردة فيه معروفة لأي طالب درس مبادئ الاقتصاد، ولكن قد تهم بمعرفتها غير المتخصصين في الاقتصاد، وهي في الواقع ضرورية لهذا الموضوع محل البحث

ص: 1562

وكان أبو يوسف رضي الله عنه من أكثر فقهاء المسلمين فهماً لمشكلة غلاء ورخص النقود الاصطلاحية –الفلوس- في عصره، وقوله فيها صار أساساً لاجتهاد الفقهاء من المذهب الحنفي فيما بعده، فهو يرى أنه يجب على المدين أن يؤدي (قيمة النقد) الذي طرأ عليه الغلاء أو الرخص يوم ثبوته في الذمة من نقد رائج.. ففي البيع تجب القيمة يوم العقد، وفي القرض يوم القبض (1) والقول الثاني في المشكلة عند بعض المالكية وهو أن التغير في قيمة النقد (الغلاء أو الرخص) إذا كان فاحشاً فيجب أداء (قيمة النقد) الذي طرأ عليه الغلاء أو الرخص (2)(ولكن يلاحظ أن التغير الفاحش يجب أن يعرف تعريفاً موضوعياً دقيقاً وإلا أصبح مبهماً يحتمل التأويل) ، أما إذا لم يكن التغير في قيمة النقد فاحشاً فالمثل، وهذا القول يعني أن المشكلة توجد فقط في حالة التضخم الجامح الذي يصاحب أحوالاً غير عادية، تماماً مثل الحروب وهلاك المحاصيل أو انتشار أوبئة مهلكة تؤدي إلى نقص شديد في الناتج الكلي.. إلخ، والتعقيب الوحيد على هذا الرأي هو ذكر حديث الرسول عليه الصلاة والسلام الذي يحض على استثمار أموال اليتامى حتى لا تأكلها الصدقة وهي 2.5 %، فهل نعتبر أن معدل تضخم سنوي 25 % حالة تستدعي النظر، حيث يأكل أموال اليتامى في سنة واحدة ما تأكله الصدقة في عشر سنوات، أم ماذا يكون التضخم الفاحش لدى أصحاب هذا القول من المالكية؟

والقول الثالث لأبي حنيفة والمالكية في المشهور عندهم والشافعية والحنابلة وهو (أن الواجب على المدين أداؤه هو نفس النقد المحدد في العقد والثابت ديناً في الذمة دون زيادة أو نقص وليس للدائن سواه)(3) ، ويلاحظ أن هذا الرأي يتعرض للنقد الشديد إذا افترضنا أن حالة الغلاء أو الرخص كانت حادة ومستمرة، كما يحدث في عصرنا الحالي، أما قديماً حينما كان الغلاء يحدث حيناً والرخص يحدث حيناً آخر فالأمر قد يحتمل رأياً أو آخر.

وفي العصر الحديث نجد النقود الورقية المتداولة (أو ما ينوب عنها من نقود ائتمانية) تتماثل في الواقع العملي مع الفلوس في خصائص، وتتماثل مع النقود الذهبية أو الفضية في خصائص أخرى، فهي تتماثل مع الفلوس –ومع جميع أنواع النقود العرفية أو الاصطلاحية التي تفتقر إلى مالية ذاتية- في عدم قدرتها على حفظ الثروة وقياس وتسوية القيم الآجلة، خاصة كلما طال الأجل وتغيرت الأسعار، وتتماثل مع النقود الذهبية والفضية- ومع جميع أنواع النقود السلعية التي كانت متداولة قديماً- التي لها مالية ذاتية في مقدرتها على قياس القيم الحاضرة وأداء وظيفة الوساطة في التبادل (4)

(1) نزيه حماد: تغيرات النقود والأحكام المتعلقة بها في الفقه الإسلامي.. مقال: ندوة الربط القياسي للحقوق والالتزامات من وجهة النظر الإسلامية، أبريل 1987- جدة

(2)

نزيه حماد: تغيرات النقود والأحكام المتعلقة بها في الفقه الإسلامي.. مقال: ندوة الربط القياسي للحقوق والالتزامات من وجهة النظر الإسلامية، أبريل 1987- جدة

(3)

نزيه حماد: تغيرات النقود والأحكام المتعلقة بها في الفقه الإسلامي، مقال: ندوة الربط القياسي للحقوق والالتزامات من وجهة النظر الإسلامية، أبريل 1987 - جدة

(4)

انظر: عبد الرحمن يسري أحمد: (دراسات في علم الاقتصاد الإسلامي) ، ص214-218

ص: 1563

وإنه مما يثير عجب رجل الاقتصاد المعاصر أن يقرأ آراء فقهية معاصرة، فيجد أن بعضها يصر على إلحاق النقود الورقية بالفلوس وأحكامها الشرعية في كل شيء، والبعض الآخر يصر على القول بأن النقود الورقية قد حلت محل النقدين الذهب والفضة حلولاً كاملاً (1) فهي بدل كما يقال، وللبدل حكم المبدل عنه مطلقاً، والمطلوب رأي اجتهادي تجديدي يأخذ في الاعتبار الوضع الصحيح للنقود الورقية، وهو أنها صالحة تماماً مثل الذهب والفضة في أداء وظائفها في الوساطة في التبادل وقياس القيم الحاضرة في الأجل القصير، خلال العام الواحد، ولكنها لا تصلح لأداء وظيفة النقدين النفيسين في حفظ الثروة، والوفاء بالالتزامات والحقوق الآجلة، أو قياس القيم الآجلة إلا إذا كان مستوى الأسعار مستقراً.

نحن إذاً بصدد حالة جديدة لم تكن معروفة؛ فلنواجهها كما هي دون أن تطغى علينا آراء مسبقة أو آراء فرضناها على أنفسنا عن طريق استدلال قمنا به أو قياس اعتقدنا بصحته، ولكن نتائجه لا تستقيم مع مصالح عامة الناس ولا تؤكد أولوية العدالة التي حرص عليها الإسلام دائماً.

أياً كان الأمر فإن رجل الاقتصاد الإسلامي لا يملك إلا أن يأخذ من بين الآراء الفقهية الموجودة إلا ذلك الرأي الذي يحرص على تحقيق مصلحة عامة المسلمين، ويتفق مع قضية التحليل العلمي للأمور الاقتصادية.

إن الأجر للعامل كالثمن للمبيع، وهناك اتفاق تام على هذه المسألة، فإذا كان الثمن حاضراً لمبيع حاضر، فإنه لا مشكلة بالنسبة للنقود الورقية حتى في ظل تغير الأسعار كما سبق الشرح، ذلك لأنه طالما اتفق المشتري والبائع فإننا نفترض أنهما قد استطاعا أن يقوما بتقدير مصلحتيهما في إطار السوق الحر ومتغيرات الأسعار والقيمة الحقيقية للنقود، أما إذا كان الثمن مؤجلاً لمبيع حاضر، فإن المناقشة الخاصة برخص النقود تصبح ذات أهمية.

والتفرقة هنا ضرورية بين التضخم المفاجئ وغير المفاجئ، وكذلك بين الحاد والمعتدل، فبافتراض تضخم مفاجئ وحاد يلزم النظر في الثمن المؤجل؛ حتى لا يقع ظلم بيِّن على البائع ولم تكن لديه قدرة بأي شكل على توقع أو تفادي ما حدث، وهذه الحالة ليست شائعة أو متكررة، وإلا لأثارت مشكلة حتى في خلال العام الواحد، وقد يكون التضخم مفاجئاً ولكن معتدلاً، وليس في هذا نفس المشكلة.

(1) انظر: سليمان بن منيع (الورق النقدي) حقيقته، تاريخه، قيمته، وحكمه، الطبعة الأولى 1391هـ / 1971م- مطابع الرياض، المملكة العربية السعودية، والطبعة الثانية 1404هـ /1984م والصفحات المشار إليها من الأخيرة (ص70 وما بعدها)

ص: 1564

أما إذا كان التضخم متوقعاً –أي غير مفاجئ- فيفترض أن يكون البائع بالأجل قد أخذ في حسبانه ظروف التغيرات في الأسعار، ومن ثم في القيمة الحقيقية للمعاملة عند البيع، ويمكن تشبيه الأجر بالثمن المؤجل حيث يستحق بعد أداء عمل معين وتسليمه أو بعد انقضاء وقت معين متفق عليه، ولن تكون هناك مشكلة بالنسبة للأجر الحقيقي واحتمال التغير فيه في غضون الفترة القصيرة (الأسبوع أو الشهر أو السنة) في معظم الحالات التي نجد فيها التضخم معروفاً ومعدله متوقعاً، إنما المشكلة كما سبق الإيضاح في المدة الطويلة حيث تمتد عقود الإجارة الخاصة للأفراد إلى سن التقاعد أو إلى نهاية العمر (أيهما أقرب) فتنشأ المشكلة حقاً كلما طال الأجل بعد التعاقد الأصلي الذي تم فيه تحديد معدل الأجر لأول مرة.

وبسبب ظروف العلاقات العمالية في العصر الحديث وطبيعة عقود العمل الممتدة لآجال طويلة جداً من الزمن، فإن مشكلة الأجر تبدو أكثر من مشكلة الثمن المؤجل، سواء كان التضخم حاداً أو معتدلاً تدريجياً، ومتوقعاً أو مفاجئاً ذو معدلات متغيرة، وزيادة معدل الأجر تبعاً للنقص في القيمة الحقيقية للنقود لا يعني هنا أكثر من المحافظة على الحق العيني للعامل والذي حصل عليه بموجب تعاقده مع مستخدمه لأول مرة، أما إذا لم يتم هذا فإنه يعني استيفاء صاحب العمل لحقه من العامل مقابل أجر حقيقي أقل مما اتفق عليه أصلاً، وهذا يتعارض مع مبدأ العدالة الذي تحافظ عليه الشريعة في جميع الأمور، فثبات الأجر النقدي ليس إلا مظهراً خادعاً، ولقد تحدث الاقتصاديون كثيراً عن خداع النقود (الورقية) ، كذلك فإن زيادة الأجر النقدي بنسبة لا تعوض الفقد في القيمة الحقيقية للنقود ليس فيه وفاء بحق العامل، ويتضمن على سبيل التأكيد نسبة خداع أو غش. وعلى سبيل التأكيد ينبغي أيضاً أن نفرق هنا بين الزيادة المطلوبة في معدل الأجر النقدي بسبب التدهور في القيمة الحقيقية للنقود والزيادة التي يمكن أن يطالب بها العامل بسبب ارتفاع إنتاجيته الحقيقية على مدى الزمن أو لأي سبب آخر.

شروط العلاج وضرورة الحذر من الآثار السلبية أو الجانبية:

تختلف الشروط الأولية أو الضرورية للعلاج المقترح عن الشروط الكافية لتطبيقه، وسنبدأ بذكر الأولى.

إن الشروط الأولية أو الضرورية لتطبيق سياسة ربط الأجور بالمستوى العام للأسعار تتمثل أولاً في توافر إحصائيات دقيقة وصادقة عن أسعار السلع والخدمات المختلفة التي تدخل في تركيب الرقم القياسي لأسعار التجزئة، وذلك حتى يتم تقدير هذا الرقم تقديراً دقيقاً؛ ذلك لأن هدف العدالة الذي هو القصد من وراء عملية ربط الأجور بالرقم القياسي للأسعار قد يختل بدرجة أو بأخرى، أو ربما لا يتحقق إذا اعتمدنا على إحصائيات غير سليمة أو حسبنا الرقم خطأ.

ص: 1565

وبالإضافة إلى عدم تحقيق هدف العدالة عند الاعتماد على إحصائيات غير صادقة، فإن هناك آثاراً اقتصادية سيئة سوف تترتب على ربط الأجور برقم قياسي غير دقيق أو غير معبر عن تغيرات الأسعار، ويلاحظ أن الكثير من الدول النامية ومن بينها الدول الإسلامية المعاصرة تفتقر إلى الإحصائيات الدقيقة الخاصة بالأسعار، وتفتقر إلى المؤسسات الكفء في مجال الإحصاء، هذا الأمر يثير المخاوف بالطبع حيث يبين أحد أوجه النقص التي سوف نواجهها عند تطبيق العلاج المقترح، ومع ذلك فإن من الممكن تفادي هذا النقص أو القصور بإعادة النظر في تنظيم وعمل الأجهزة المسؤولة عن جمع الإحصائيات واستخدامها، وذلك بالاستعانة بأهل الخبرة المشهود لهم بالأمانة والحيدة العلمية، وكذلك بالاجتهاد قدر الاستطاعة في جمع البيانات الواقعية بدقة، وحث مختلف الأفراد على التعاون في هذا المجال.

أما ثاني الشروط الضرورية لتطبيق العلاج المقترح، فيتمثل في وجود هيئة رسمية عليا على المستوى الوطني تصبح مسؤولة بصفة دائمة عن ربط الأجور بالتغيرات في المستوى العام للأسعار، وذلك بالتنسيق مع السلطات الاقتصادية للدولة (وزارة الاقتصاد والبنك المركزي) من جهة، ومع أصحاب الأعمال والعمال من جهة ثانية، وهذه الهيئة العليا، ولنطلق عليها هيئة الأجور والأسعار سوف تضم إذاً ممثلين من وزارة الاقتصاد ومن البنك المركزي ومن الهيئات الممثلة لأصحاب الأعمال والنقابات العمالية، بالإضافة إلى بعض أهل الخبرة من رجال الاقتصاد والشريعة، ودور الهيئة العليا للأجور والأسعار كبير الأهمية، ولا غنى عنه، حيث يتمثل في إعلان النسبة المئوية أو المدى الذي سوف تتحرك فيه الأجور تبعاً لتغيرات الأسعار، ومتى يبدأ التنفيذ؟ وفي أي الأنشطة أولاً، ثم أي الأنشطة بعد ذلك؟ وهل يسمح بتحرك الأجور لأعلى تدريجياً أم دفعة واحدة؟ وكذلك يتعين على الهيئة العليا للأجور والأسعار الاتصال بممثلي أصحاب الأعمال والعمال للتأكد من سير الأمور بدقة وفقاً للخطة الموضوعة أو البرنامج المقترح، وتفادي أوجه النقص أو القصور التي تظهر خلال التنفيذ حتى لا تقود هذه إلى مشاكل قد يكون لها انعكاسات خطيرة على الأسعار والنشاط الإنتاجي.

ص: 1566

وثالث الشروط الضرورية في رأينا أن يكون هناك التزام عام بعقود عمل مكتوبة ومسجلة رسمياً لدى هيئات مختصة أو لدى بعض الهيئات المعروفة، مثل هيئة التأمينات الاجتماعية أو النقابات العمالية؛ ذلك لأن بعض أصحاب الأعمال قد يحاولون التهرب من الالتزام بتعديل الأجور النقدية على مدى السنوات المتتالية إذا لم تكن عقود العمل مدونة ومسجلة وموضحاً فيها شروط العمل ومعدل الأجر.

أما الشروط الكافية للعلاج المقترح فتتعلق بمواجهة الآثار السلبية أو الجانبية غير المرغوبة المترتبة على التطبيق، وأهم هذه الآثار على الإطلاق ينبعث من العلاقة الدائرية بين الأجور والأسعار، فكما أن الارتفاع التضخمي في الأسعار يستدعي زيادة الأجور النقدية، فإن هذه بدورها يمكن أن تؤدي إلى زيادة حدة التضخم، فالتضخم كما هو معروف له أسباب عديدة، وأحدها زيادة الأجور النقدية التي لا تقابلها زيادة في الإنتاجية الحقيقية للعمال على المستوى الكلي للاقتصاد، فالزيادة في الأجور النقدية تؤدي إلى زيادة الإنفاق الاستهلاكي الكلي، بينما أن ثبات الإنتاجية الحقيقية للعمال –أو عدم زيادتها بمعدل متقارب مع الزيادة في الأجور النقدية- يعني أن الناتج الحقيقي الكلي من السلع والخدمات لم يتغير –أو تغير بمعدل غير متناسب مع التغير في الإنفاق الاستهلاكي- وهذا مما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار في الأسواق، لذلك فإن ثمة اختلال قد ينشأ بسبب زيادة الأجور النقدية التي تتقرر بناء على الارتفاع في الأسعار، وهذا الاختلال يؤدي إلى ارتفاع الأسعار بشكل عام، فإذا رفعنا الأجور مرة أخرى دخلنا في دائرة مفرغة، أو ما يسمى بلولب الأسعار / الأجور.

ومن جهة أخرى فإن الاختلال الناشئ بين الأجور النقدية التي سوف نربطها بالرقم القياسي للأسعار من جهة، والإنتاجية التي تتحدد بعدد من العوامل الأخرى من جهة ثانية لن يكون عاما أو بنفس الدرجة في جميع الأنشطة داخل الاقتصاد، فالواقع أن بعض الأنشطة سوف تتميز بارتفاع الإنتاجية بمعدل يفوق الارتفاع في المستوى العام للأسعار، بينما تشهد أنشطة أخرى عكس هذا الوضع أو ربما تظل الإنتاجية فيها ثابتة، وفقط في الأنشطة التي ترتفع فيها الإنتاجية بمعدل يفوق أو يساوي معدل الزيادة النقدية في الأجور (التي ترتبط بالمستوى العام للأسعار) فإن أثر الربط القياسي للأجور لن يكون تضخمياً.

ص: 1567

ولهذه المسألة نفسها أبعاد أخرى، فالمتوقع أن أصحاب الأعمال الذين نلزمهم برفع معدلات الأجور لعمالهم بما يتناسب مع الزيادة العامة التي يسجلها الرقم القياسي للأسعار لن يعانوا من هذه السياسة إذا كانت الإنتاجية قد ارتفعت لديهم بما يفوق التغير في الأجور، أما بالنسبة لأصحاب الأعمال في الأنشطة التي لم تتغير فيها الإنتاجية أو ربما انخفضت، فإنهم سوف يواجهون نقصاً في أرباحهم بسبب سياسة ربط الأجور بالمستوى العام للأسعار، وفي ظل اقتصاد يعتمد على السوق وحرية التعاقد واتخاذ القرارات المحققة للمصلحة الخاصة سوف يقوم رجال الأعمال الذين تتأثر أرباحهم بسبب السياسة المذكورة بالنظر في احتياجاتهم الفعلية من العمال، ولن يكون أمراً غريباً إذا قام بعض هؤلاء بإنهاء عقود بعض العمال بدلاً من زيادة أجورهم، بل ربما أدت السياسة نفسها إلى إغلاق بعض المشروعات التي كانت أصلاً تعاني من خسارة سابقة، ومن ثم تسريح عمالها، وهكذا يمكن أن يتسبب الربط التلقائي للأجور بالرقم القياسي للأسعار إلى بطالة عمالية غير مرغوبة اقتصادياً واجتماعياً.

وبناء على ما سبق فإن أول الشروط الكافية لسياسة ربط الأجور بالرقم القياسي للأسعار أن يتم تنفيذها من خلال السياسة الاقتصادية الكلية التي تعالج التضخم والتي ترسمها وتشرف على تنفيذها السلطات الاقتصادية للدولة، ومن خلال هذه السياسة الكلية قد يتقرر السماح بزيادة الأجور على المستوى بمعدل لا يزيد عن 5 % بينما أن الرقم القياسي للأسعار قد سجل ارتفاعاً قدره 10 % مثلاً، والسلطات الاقتصادية قبل اتخاذها لمثل هذا القرار ستعمل على تقدير الأثر العام للزيادة في الأجور على المستوى العام للأسعار والانعكاسات المتتالية لهذه العملية على النشاط الاقتصادي، وقد يظن لأول وهلة أن في هذا ظلما واقعا على العمال حيث تتدهور الأجور الحقيقية، ولكن ليس الأمر كذلك بالضرورة؛ لأن علاج التضخم بتخفيف حدته أو بالتخلص منه هو الحل الأساسي للمشكلة، ومن ثم فإن له أولوية على علاج المشاكل المترتبة عليه، بعبارة أخرى قد تتحقق مصلحة الجميع حينما نرجئ الزيادة النقدية في الأجور بالرغم من الارتفاع العام في الأسعار، أو نسمح بهذه الزيادة ولكن بمعدل يقل عن معدل الارتفاع العام في الأسعار.

ص: 1568

أما الشرط الثاني الكافي لنجاح السياسة فهو قيام الهيئة العليا للأجور والأسعار (التي سبق اقتراحها) بوضع برنامج زمني لتنفيذ هذه السياسة في إطار السياسة الاقتصادية الكلية للدولة، والتي يفترض أن من أهدافها الرئيسية تحقيق النمو أو التنمية الاقتصادية في ظل أقل معدل ممكن للتضخم وأعلى مستوى ممكن للتوظف، والتقيد بالسياسة الاقتصادية الكلية للبلد قد يستدعي العمل على ارتفاع الأجور بمعدلات تقل عن معدل الارتفاع في الأسعار، والتمييز بين الانشطة المختلفة داخل الاقتصاد بالنسبة للمعدلات التي ترتفع بها الأجور وفقاً للتغيرات في الإنتاجية، وتحديد الآلية التي يتم بها تنفيذ سياسة ربط الأجور، الأنشطة التي تبدأ قبل غيرها في رفع الأجور والتدرج المطلوب في التنفيذ، ويتطلب تنفيذ سياسة ربط الأجور بالأسعار في هذا الإطار الكلي تنظيم لقاءات بين أصحاب الأعمال والعمال في الأنشطة المختلفة والترتيب للمفاوضات بينهم في حالة الاختلاف والتدخل للتحكيم كلما لزم الأمر، وكلما كانت الهيئات الممثلة لأصحاب الأعمال والعمال أكثر وعياً بالصلة الوثيقة بين سياسة (الأجور / الأسعار) والسياسة الاقتصادية الكلية للبلد كلما قلت الآثار السلبية أو الجانبية المترتبة على هذا العلاج المقترح.

السياسات المكملة للعلاج المقترح:

يندر أن يؤدي نوع واحد من السياسات الاقتصادية دور العلاج الناجع الكامل لمشكلة ما على المستوى الكلي كما سبق وذكرنا، وقد لاحظنا من قبل ضرورة تنفيذ السياسة المقترحة لربط الأجور بتغيرات الأسعار من خلال السياسة الاقتصادية الكلية، لذلك سوف ترتبط سياسة (الأجور / الأسعار) بالسياسات النقدية والمالية وسياسة التنمية والتوظف.

من الصعب مثلاً أن نتصور جدية سياسة ربط الأجور بالأسعار ما لم تكن هناك سياسة نقدية تعمل على تنظيم عرض وتدفقات كمية النقود داخل الاقتصاد، فالزيادة في عرض وتدفقات النقود بمعدلات تفوق زيادة الناتج الحقيقي على المستوى الكلي سوف تغذي التضخم وتزيد من حدته، كذلك تؤدي سياسة عجز الموازنة العامة إلى التضخم، ومن ثم لا بد من الحد من بعض بنود الإنفاق العام غير الضروري، أو زيادة الضرائب على بعض أنواع السلع بغرض مكافحة التضخم (1) .

(1) يمكن للدولة فرض الضرائب على بعض السلع الكمالية أو فوق الكمالية - وهي غير محرمة- وذلك بغرض ترشيد الاستهلاك بالمفهوم الإسلامي ومكافحة التضخم في نفس الوقت، ويلاحظ أن بعض النظريات تعزو التضخم إلى زيادة الطلب أو الإنفاق الكلي، ولكن ينبغي أن يكون لدينا مفاهيم شرعية واضحة عن حق الدولة في فرض الضرائب في مثل هذه الحالة

ص: 1569

ومن الضروري أيضاً متابعة الاهتمام بقضية تنمية الناتج الحقيقي الكلي بأعلى معدلات ممكنة في إطار سياسة التنمية؛ حيث إن هذا هو العلاج الهيكلي للتضخم في الأجل الطويل، ويجب أن نتذكر دائماً أن التضخم المستمر هو سبب المشكلة أصلاً..

خاتمة البحث:

العلاج المقترح والعلاج الهيكلي الإسلامي: متفقان أم متعارضان؟

من المعروف أن العلاج المقترح لأي مشكلة واقعية يتقيد بقيود معينة، وفي الفكر الوضعي التجريبي فإن هذه القيود ليست سوى قيود الواقع العملي، أما في الفكر الوضعي المثالي (بغض النظر عن ماهية المثال) فإن القيود تتمثل فيما ينبغي أو ما يجب، وفي مواجهة المشاكل الحالية للبلدان الإسلامية يواجه رجل الاقتصاد الإسلامي مشكلة فكرية أساسية، تتمثل في أن النشاط الاقتصادي ليس محكوماً في الغالب بقواعد الشريعة الإسلامية، وإنما بقواعد وقوانين ونظم وضعية مستوردة من خارج العالم الإسلامي، فتارة تكون هذه رأسمالية النزعة، وتارة غير ذلك.

فهل يمكن طرح علاج إسلامي لمشكلة ما بالرغم من أن الإطار العام غير إسلامي؟ هذا هو السؤال الخطير الذي يواجهه رجال الاقتصاد الإسلامي عند بحثهم لمشاكل مجتمعاتهم المعاصرة، وفريق من الاقتصاديين الإسلاميين يرفض كلية فكرة المعالجة الإسلامية للمشاكل الموجودة في ظل أطر غير إسلامية، ويؤكد على ضرورة تصحيح الهيكل العام للمعاملات وهيكل المؤسسات والنشاط الاقتصادي أولاً وفقاً للشريعة الإسلامية ومقاصدها، بعد ذلك يأتي طرح العلاج الإسلامي لأي مشكلة موجودة أو مستجدة في ظل هذا الإطار، أما الفريق الثاني فيرى أن هناك ضرورة ملحة في علاج المشاكل التي يواجهها المجتمع الإسلامي في إطار ظروفه الحالية. والمنطق الذي يستند إليه الفريق الثاني هو أن الحل الهيكلي الإسلامي قابل للتطبيق على مراحل، وأنه إذا طبق في مرحلة ما في بعض الأمور فإنه يعمل على نقل المجتمع تلقائياً إلى مرحلة أعلى من حيث التطبيق، وهكذا إلى أن يتحقق الهدف الكامل النهائي.

وبينما لا يمكن إنكار أهمية رأي الفريق الأول بضرورة توافر الإطار الشرعي والعقائدي الإسلامي قبل بحث أي مشكلة وتقديم علاج لها، إلا أنه لا يمكن أيضاً التغاضي عن المشاكل الفعلية التي يواجهها المجتمع الإسلامي الحالي والتقليل من أهمية وضرورة علاج هذه المشاكل، فنحن لا نستطيع أن ننكر ضرورة بل وحتمية التصحيح الهيكلي لأوضاع المجتمعات الإسلامية القائمة، ولكن من الخطورة أيضاً بمكان أن نتغاضى عن مشاكل قائمة يعاني منها المسلمون بسبب الظن بأن بالإمكان الانتقال إلى وضع أمثل مرة واحدة، دون مقدمات أو مراحل انتقالية، وفي رأينا أن النظرة المتوازنة للأمور تقتضي النظر في المشاكل الراهنة القائمة في بلدان المسلمين، والعمل على علاجها مهما كانت أسباب هذه المشاكل، فالعلاج طالما يتم من منطلق الاعتماد على الشريعة الإسلامية، يعني ترك الخطأ أو التصحيح، ويعني خطوة للأمام في الاتجاه الصحيح، وعلينا أن نضع نصب أعيننا أن يكون أي علاج مقترح وسيلة تدريجية لتحقيق العلاج الهيكلي المطلوب في الأجل الطويل.

ص: 1570

ولا شك أن مشكلة الأجور الحقيقية وتعرضها للتدهور المستمر على مدى الأجل الطويل بسبب التضخم –مما يعني الإخلال بحقوق العمال والانحراف عن مبدأ العدالة - قد نشأت نتيجة ظروف عديدة، منها سوء الإدارة النقدية والمالية، أو عدم القدرة على مواجهة التصرفات الاحتكارية، أو العجز المستمر في موازين المدفوعات أو جمود النشاط الإنتاجي، وغير ذلك من الأسباب التي تقف وراء ظاهرة التضخم المستمر، وبالنسبة لمن ينادون بالعلاج الإسلامي الهيكلي أولاً فإنهم يميلون إلى الاعتقاد بأن هذا العلاج سوف يضمن التخلص من معظم الظروف المذكورة، ومن ثم فإن المشاكل المترتبة عليها سوف تختفي أو تقل حدة تدريجياً.

ولكن الواقع أن تطبيق الشريعة الإسلامية بينما يضمن التخلص من بعض هذه الظروف المشار إليها، إلا أنه لا يضمن بالضرورة الخلاص منها، هذا أمر يجب أن يعيه تماماً من يطالبون بالعلاج الهيكلي أولاً؛ ذلك لأنه حتى بفرض تطبيق الشريعة الإسلامية ووضع القواعد الملائمة للتنظيم الاقتصادي الإسلامي، فإن مشاكل معينة تظل متعلقة بطبيعة الحياة الاقتصادية وسلوك الأفراد الذي لا نستطيع أن نفترض كماله، فمن الممكن جداً أن تخفق حكومة إسلامية ملتزمة بالشريعة في إدارة العرض الكلي للنقود وذلك من منطلق قلة الخبرة، ومن الممكن أن يضع أحد وزراء المالية في ظل نظام اقتصادي إسلامي له قواعده المعروفة سياسة مالية فاشلة تتسبب في التضخم.. من الذي يستطيع أن يزعم أن حكومة ما ستكون في مأمن من الخطأ لأنها تعمل في إطار إسلامي؟ إن السلوك الرشيد بصفة عامة والالتزام بقواعد الاقتصاد الإسلامي سيؤدي إلى تقليل الأخطاء الاقتصادية، ولكنه لا يعني ضمان عدم وقوعها.

والرأي عندنا أن معالجة مشاكل الأجور في إطار ظروفنا الحالية أمر جوهري لكي لا تزداد المشاكل سوءاً في عالمنا الإسلامي، وحتى لا نتهم بأننا غارقون في مثالية خيالية، وهذا لا يعني أبداً أن نهمل أو نتهاون في اتخاذ جميع الخطوات اللازمة للعلاج الهيكلي الشامل، وأن نعمل بكافة الطرق على جعل العلاج الجزئي حلقة من العلاج الكلي وخطوة من الخطوات على الطريق الصحيح، أما ترك العلاج الجزئي أو المرحلي بدعوى التمسك بالحل أو العلاج الهيكلي وحده، ورفض أي شيء دونه فهو في رأينا نوع من السلبية الخفية التي يتذرع بها البعض ممن يعجزون عن مواجهة الواقع.. الواقع الذي واجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم قديماً فأصلحه على مراحل بقرآن وسنة وعمل صالح وجهاد واجتهاد، والواقع المر الذي لا بد أن نواجهه الآن حتى نصلحه قدر استطاعتنا كلما استطعنا، وإلا فإنه سوف يستمر ويستمر بلا إصلاح، فتكون له آثار خطيرة على الأمة، تم بحمد الله.

د. عبد الرحمن يسري أحمد

ص: 1571

الملحق

الرقم القياسي لأسعار التجزئة

الرقم القياسي للأسعار

من الضروري قياس المعدل الذي تتغير به الأسعار في سبيل قياس معدل التضخم، وهذا ما نفعله عن طريق الرقم القياسي، والذي يختص بالتغيرات المئوية في الأسعار.

إن الرقم القياسي للأسعار عبارة عن متوسط للتغيرات المئوية في أسعار عدد من السلع والخدمات، والمثال التالي سوف يبين لنا كيفية حساب هذا الرقم على مرحلتين من أجل التبسيط والشرح.

أولاً: حساب رقم قياسي للأسعار دون أوزان ترجيحية سنة 1990 (سنة الأساس) .

السلعة السعر بالجنيه الرقم القياسي

أ 10 100

ب 1 100

جـ 5 100

د 4 100

المجموع = 400

المجموع / عدد السلع= 400/4= 100 الرقم القياسي

سنة 1991 (سنة المقارنة)

السلعة السعر بالجنيه الرقم القياسي

أ 12 120

ب 1.50 150

جـ 4 80

د 5 125

المجموع = 475

المجموع / عدد السلع: 475/4= 118.75 الرقم القياسي

ص: 1572

الشرح:

1-

سنة 1990 تسمى سنة الأساس، وهي سنة نعتبرها بمثابة قاعدة أو مقياس، بمعنى أننا نقيس التغيرات في أسعار السنوات الأخرى على أساس أسعارها، وعند اختيار سنة الأساس نراعي قدر الإمكان أن تكون سنة عادية، بمعنى أنها لم تشهد ارتفاعاً أو انخفاضاً حاداً أو غير عادي في الأسعار.

2-

نفترض أن لدينا أربع سلع: أ، ب، جـ، د؛ ولكن عند حساب الرقم القياسي في الحياة العملية نأخذ مئات السلع ونلتقط لكل سلعة عدة أسعار من تجارة التجزئة على مستوى البلد ككل، وننتقي السلع التي تستهلكها عادة أسرة متوسطة الدخل.

3-

في سنة الأساس يعطى سعر كل سلعة من السلع رقماً قياسياً = 100.

4-

نعبر عن الأسعار في السنة التالية 1991 بمعرفة التغيرات الحادثة فيها بالمقارنة بسنة الأساس، ويطلق على سنة 1991 سنة المقارنة، وكذلك على أي سنة أخرى عند مقارنة أسعارها بأسعار سنة الأساس. فمثلاً سعر السلعة (أ) في 1991 أصبح 12 (جـ) وكان 10 (جـ) في 1990. على ذلك يصبح الرقم القياسي لسعر (أ) في 1991 مساوياً 120 حيث الرقم القياسي لهذه السلعة = 100 في سنة الأساس. وهكذا فالرقم القياسي للسلعة (ب) في سنة المقارنة 150

إلخ.

5-

نجمع الأرقام القياسية للسلع المختلفة ونقسم على عدد السلع فنحصل على الرقم القياسي للأسعار. وهو في سنة الأساس = 400/4 = 100 (ودائماً في أي مثال سوف = 100) وفي سنة المقارنة 475/4 = 118،75. هذا يعني أن الأسعار قد ارتفعت من 100 في 1990 إلى 118،75 1991؛ أي بنسبة 18.75 %، وهكذا فإن الرقم القياسي سوف يعبر عن النسبة المئوية للتغير في الأسعار بالمقارنة بسنة الأساس.

ص: 1573

ثانياً: تعديل المثال السابق: حساب الرقم القياسي للأسعار أخذاً في الاعتبار الأوزان النسبية التي تعبر عن الأهميات النسبية للسلع.

وفي هذا المثال نترك التبسيط الذي اتبعناه من قبل لكي نتقدم إلى ما يحدث في الواقع.

السنة 1990 (سنة الأساس)

السلعة الوزن السعر بالجنيه الرقم القياسي الرقم القياسي المرجع بالوزن

أ 1 10 100 100

ب 4 1 100 400

جـ 2 5 100 200

د 3/10 4 100 300/1000

الرقم القياسي = 1000/10 = 100

السنة 1991 (سنة المقارنة)

السلعة الوزن السعر بالجنيه الرقم القياسي الرقم القياسي المرجع بالوزن

أ 1 12 120 120

ب 4 1.5 150 600

جـ 2 4 80 160

د 3/10 5 125 375/1255

الرقم القياسي = 1255/10 = 125،5

الشرح:

1-

كما هو الحال في الجزء الأول –السابق- فإن الرقم القياسي لكل سلعة في سنة الأساس = 100، ولكن في هذا المثال العددي الأخير يتم ضرب الرقم القياسي للسلعة في الوزن الخاص بها. مثلاً السلعة (أ) في 1990 الرقم القياسي × الوزن = 100 × 1 = 100، والسلعة د. (100 × 3) وهذا هو الرقم المرجح بالوزن النسبي للسلعة.

ص: 1574

2-

يتم جمع الأرقام القياسية المرجحة وقسمة المجموعة على مجموع الأوزان في سنة الأساس 1000/ 10 = 100. وسنة الأساس في أي حساب لا بد أن تساوي 100.

3-

في سنة المقارنة تم حساب الرقم القياسي بنفس الطريقة التي اتبعت في الجزء الأول (المثال العددي السابق) ثم تم الترجيح بنفس الطريقة، مثلاً السلعة جـ انخفض سعرها من 5 (جـ) في 1990 إلى 4 (جـ) في 1991، لذلك فإن الرقم القياسي لها 4/5 × 100 = 80، وبترجيح هذا الرقم بوزن السلعة النسبي ويساوي 2 إذا نجد الرقم القياسي المرجح = 160 في 1991.

4-

يتم حساب الرقم القياس في 1991 بنفس الطريقة التي حسب بها في 1990، أي مجموع الأرقام القياسية المرجحة بالأوزان مقسوماً على مجموع الأوزان 1255/10 = 125.5، وهكذا يتضح أن الأسعار في 1991 قد تغيرت بنسبة 25.5 % بالمقارنة بسنة الأساس. واختلاف هذه النتيجة عن النتيجة الخاصة بالمثال العددي الأول يرجع إلى عملية الترجيح بالأوزان، وهي عملية ضرورية ولا بد منها للتوصل إلى نتائج صحيحة عن تغيرات الأسعار. ففي المثال العددي الأول لم نأخذ في اعتبارنا أن بعض السلع قد تكون أهم من الأخرى. لقد أعطينا كل سلعة من السلع أ، ب، جـ، د نفس الأهمية النسبية بإعطاء كل منها رقماً قياسياً = 100، وهذا غير واقعي. ولكن كيف نحدد الأهمية النسبية لكل سلعة حتى نعطيها وزناً يتفق مع ذلك؟. إن هذا الأمر يتوقف على نسبة الإنفاق على السلعة في ميزانية الأسرة، والاهتمام المنصب عند تكوين الرقم القياسي لأسعار التجزئة بالأسرة متوسطة الدخل، حيث تؤخذ ميزانيتها وتوزع هذه الميزانية على السلع المختلفة كمعيار عام يحتكم إليه. ومن واقع جمع عدد كبير جداً من الإحصائيات الخاصة بإنفاق الأسر ذات الدخل المتوسط في المجتمع نستطيع أن نعرف النسبة المئوية المخصصة لكل سلعة أو بند من بنود الإنفاق، ويتم تحديد الأوزان للسلع بناء على ذلك. وهذه الأوزان عرضة للتغير، فيتم أحياناً أخذ الأوزان الخاصة بسنة الأساس في الاعتبار عند الترجيح، وأحياناً أخذ الأوزان الخاصة بسنة المقارنة، فتطبق على سنة الأساس في هذه الحالة. ويفضل أخذ متوسط للأوزان بين سنة الأساس وسنة المقارنة.

ص: 1575