الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأخذ بالرخصة وحكمه
تتبع الرخص – التلفيق ورأي الفقهاء فيه
إعداد
فضيلة الشيخ مصطفى كمال التارزي
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
لما كانت العزيمة والرخصة من الأحكام الشرعية كان من المناسب أن نتعرض بإيجاز لبيان الحكم الشرعي الذي عرفه علماء الأصول، بأنه:"خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع ".
وإذا كان الحكم الشرعي وهو خطاب الشارع لم يكن خطاب غيره حكمًا شرعيا، لأن سلطة التشريع لمن بيده الخلق والأمر وحده، وتشريع غيره لا يعني إنشاء الحكم الشرعي، وإنما يعني الكشف عنه، ووضع القواعد التي تظهر حكم الله.
ومعنى تعلق خطاب الشارع بأفعال المكلفين، هو ارتباط كلامه سبحانه بهذه الأفعال على وجه يبين صفاتها، من ناحية أنها مطلوبة الفعل أو مطلوبة الترك أو مباحة.
ومعنى " على سبيل الاقتضاء " أي على سبيل الطلب سواء كان طلبًا للفعل أو لتركه، على سبيل الإلزام أو الترجيح، وهو: الواجب والمندوب والمحرم والمكروه.
ومعنى المتعلق بأفعال المكلفين بالتخيير هو التسوية بين جانبي الفعل والترك وهو إباحة كل منهما من غير ترجيح.
ومعنى المتعلق بأفعال المكلفين بالوضع أي الجعل، وهو جعل الشارع الشيء سببًا لشيء آخر، أو شرطًا له، أو مانعًا منه، وهو المعروف بخطاب الوضع، كوضع الدلوك سببًا لوجوب الصلاة، والطهارة شرطًا في الصلاة، والأبوة مانعًا من القصاص للابن من والده.
وقد اعتبر جمهور الأصوليين العزيمة والرخصة من الأحكام الشرعية، ولكنهم اختلفوا: هل هما من الأحكام الوضعية، أو هما من الأحكام التكليفية؟
فرأى البعض، ومنهم البيضاوي والبزدوي (1)، أنهما: يدخلان في خطاب التكليف، وهو تقسيم آخر للحكم باعتبار كونه على وفق الدليل أو خلافه.
واحترز بكونه وفق الدليل أو خلافه من الأكل والشرب وغيرهما من الأشياء المباحة، فلا يسمى رخصة لأنه لم يثبت على المنع منه دليل.
وإنما كانت الرخصة والعزيمة من خطاب التكليف لأنهما لا يخرجان عن أحكام التكليف الخمسة، فكانتا حكمًا تكليفيا لذلك، ولأن الرخصة عبارة عن الانتقال من حرمة إلى إباحة، ومن وجوب إلى جواز، وكل من الحرمة والوجوب اقتضاء، والإباحة والجواز تخيير، وهو انتقال من حكم تكليفي إلى آخر؛ فالخطاب يأتي إذا باقتضاء الفعل والترك.
(1) الأسنوي على المنهاج للقاضي البيضاوي: 1 / 87 – 89. وكشف الأسرار على أصول البزدوي: 1 / 618.
فإذا طرأت للمكلف حالة غير عادية لا يمكن له معها أن يقوم بفعل الواجب أو ترك الحرام، فإن الشارع رخص له في ذلك بناء على العارض غير المعتاد، فلذلك أدرجوا العزائم والرخص في القسم الأول من الحكم، وهو خطاب التكليف. وإلى هذا الرأي ذهب كثير من المتأخرين (1) .
وذهب آخرون، كابن السبكي والغزالي (2) إلى اعتبارهما حكمين وضعيين، إذ العزيمة عندهم تتصور في جعل الشارع الأحوال الاعتيادية للناس سببًا لاستمرار الأحكام الأصلية العامة.
أما الرخصة فتتصور في جعل الشارع الأحوال الطارئة عليهم كالسفر والمرض والإكراه والضرورة سببًا للتخفيف عنهم، أو مانعة من التكليف بحكم العزيمة. والسبب هو من الأحكام الوضعية لا التكليفية، لأنه لا طلب فيه ولا تخيير، بل فيه وضع وجعل واعتبار. والبحث في هذا الموضوع ينصب عادة على أسباب الترخص التي تعد أسبابًا لإباحة الفعل الذي كان ممنوعًا، ونفي صفة الجريمة والمعصية عنه، أو أسبابًا لعدم التكليف بهذا الفعل، وهذه كلها أحكام وضعية (3) . وفي هذا يقول ابن أمير الحاج: وقيل: للشارع في الرخص حكمان:
- كونها وجوبًا أو ندبًا أو إباحة، وهو من أحكام الاقتضاء والتخيير.
- كونها مسببة عن عذر طارئ في حق المكلف يناسب تخفيف الحكم عليه، مع قيام الوضع لأنه حكم بالمسببية. ولا بدع في جواز اجتماعهما في شيء واحد من جهتين مختلفتين (4) .
- وذهب فريق ثالث إلى أن الرخصة والعزيمة قسمان للحكم باعتبار عمومه وعدم عمومه، أو باعتبار تغيره من صعوبة إلى سهولة أو عدم تغيره. فما كان عاما ثابتًا يدعى: العزيمة. وما كان خاصا متغيرًا فهو: الرخصة (5) .
والتحقيق أن الخلاف في هذه المسألة لا ينجر عليه أثر عملي، لأنه خلاف لفظي لا تترتب عليه ثمرة سوى المنهجية في الكتابة والتبويب، لأنهما بالفعل من أحكام التكليف، باعتبار، ومن أحكام الوضع، باعتبار ثان.
العزيمة والرخصة
قبل أن نبدأ بتعريف العزيمة والرخصة لا بد أن نبين أولاً أن أحكام الشرع الأصل فيها العموم، فلا تختص ببعض المكلفين دون بعض. فكانت الواجبات والمحرمات هي واجبة أو محرمة على كل المسلمين إذا توفرت شروطها. فإذا عرض ما يجعل العمل بالحكم الكلي شاقًا أو متعذرًا فإن الشارع يعتبرها ضرورة تبيح مخالفة الأحكام الكلية، واستبدالها بأحكام أخرى استثنائية، بها يتمكن المكلف من تأدية ما وجب عليه ولو في الجملة، وتزول هذه الأحكام الاستثنائية بزوال أسبابها. فيرخص الله تعالى للمكلف أن يترك الفعل المطالب به، كأن يرخص للمريض في رمضان الإفطار على أن يقضيه بعد أيام أخر. وقد تعارف الأصوليون على تسمية الأحكام الكلية العامة التي يمكن تطبيقها في الأحوال العادية بالعزائم، وعلى تسمية الأحكام الطارئة تيسيرًا ورفعًا للمشقة بالرخص.
(1) كتاب أصول الفقه للأستاذ العربي اللوة: ص 71 – 72، كتاب أصول الفقه الإسلامي للأستاذ محمد أبو زهرة: ص 49.
(2)
كتاب جمع الجوامع لابن السبكي: 1 / 109، والمستصفى للغزالي: ج 1 / 98 أصول التشريع الإسلامي لعلي حسب الله ص 328، أصول الفقه للدكتور حسين حامد: ص 111، الموافقات للشاطبي 1 / 304.
(3)
أصول الفقه للدكتور حسين حامد حسان: ص 111، فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت: 1 / 116.
(4)
التقرير والتحبير: 1 / 159.
(5)
المحلي على جمع الجوامع: 1 / 119 – 120.
تعريف العزيمة:
العزيمة لغة: القصد المصمم، والطلب المؤكد، قال في القاموس (1) :
عزم على الأمر يعزم عزمًا ومعزمًا كمقعد ومجلس، وعزمًا بالضم، وعزيمًا وعزيمة. وعزمه واعتزم عليه، وتعزم: أراد فعله وقطع عليه، أو جد في الأمر وعزم الأمر. وأولو العزم من الرسل: الذين عزموا على أمر الله فيما عهد إليهم، كنوح وإبراهيم وموسى محمد عليهم الصلاة والسلام.
وفي ميزان الأصول (2) : العزيمة عبارة عن النية المؤكدة. فإن خطر بباله شيء من الأفعال يحتاج إلى تحصيله، فإنه ينوي مباشرته بقلبه، فإذا أكد النية يقال: عزم عليه، وإذا أكد العزم يقال: أجمع عليه رأيه.
وقال الراغب الأصفهاني (3) : العزيمة قصد الشيء والتصميم عليه تصميمًا مؤكدًا. وهو عقد القلب على إمضاء الأمر.
وقال الشيخ ابن عاشور (4) عن العزيمة: إمضاء الرأي، وعدم التردد بعد تبين السداد.
وقال ابن منظور (5) : العزم ما عقد عليه قلبك من أمر أنك فاعله....
وفي الحديث (6) الشريف ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر: متى توتر؟ فقال: أول الليل. وقال لعمر: متى توتر؟ فقال: من آخر الليل. فقال لأبي بكر: أخذت بالحزم. وقال لعمر: أخذت بالعزم)) . قال ابن منظرو: أراد أن أبا بكر حذر فوات الوتر بالنوم فاحتاط وقدمه، وأن عمر وثق بالقوة على قيام الليل فأخره. ولا خير في عزم بغير حزم، فإن القوة إذا لم يكن معها حذر أورطت صاحبها.
وقال الزجاج في قوله تعالى: {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ} [محمد: 21] فإذا جد الأمر، ولزم فرض القتال؛ هذا معناه. وقال العرب: تقول: عزمت الأمر، وعزمت عليه. قال الله تعالى {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 227] . ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [ال عمران: 159] . وقوله تعالى: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115] .
العزيمة في اصطلاح الأصوليين:
عرف الإمام علاء الدين شمس النظر السمرقندي (7) العزيمة بأنها: اسم للحكم الأصلي في الشرع، لا لعارض أمر، وهي من الفرض والواجب والسنة ونحوها، ومن الحلال والحرام ونحوهما.
وعرفها الإمام الغزالي، فقال: والعزيمة في لسان حملة الشرع عبارة عما لزم العباد بإيجاب الله تعالى (8) .
وعرفها الآمدي بنفس التعريف السابق (9) .
وعرفها العلامة محمد الفتوحي المعروف بابن النجار (10) بقوله: العزيمة في حكم أهل الشرع: حكم ثابت بدليل شرعي خال من معارض راجح.
(1) القاموس المحيط للفيروز أبادي 1 / 149.
(2)
ميزان الأصول في نتائج العقول لعلاء الدين السمرقندي: ص 54.
(3)
غريب القرآن: 3/ 111.
(4)
تفسير التحرير والتنوير: 4 / 190.
(5)
لسان العرب، حرف العين: ص 769.
(6)
رواه أبو داود في الوتر وابن ماجه في الإقامة. وأحمد في مسنده: 3 / 309.
(7)
ميزان الأصول في نتائج العقول للإمام علاء الدين شمس النظر السمرقندي: ص 55.
(8)
المستصفى للإمام الغزالي: 1 / 98.
(9)
الإحكام في أصول الأحكام للآمدي: ص 68.
(10)
شرح الكوكب المنير للعلامة محمد بن أحمد الفتوحي الحنبلي: 1 / 476.
فشمل الأحكام الخمسة، لأن كل واحد منها حكم ثابت بدليل شرعي. فيكون في الحرام والمكروه على معنى الترك، فيعود المعنى في ترك الحرام إلى الوجوب (1) .
وقوله: بدليل شرعي احتراز عن الثابت بدليل عقلي، فإن ذلك لا يستعمل فيه العزيمة والرخصة.
وقوله: خال عن معارض احتراز عما يثبت بدليل لكن لذلك الدليل معارض، كتحريم الميتة عند عدم المخمصة. فالتحريم فيها عزيمة. فإذا وجدت المخمصة حصل المعارض لدليل التحريم، وهو راجح عليه، فجاز الأكل، وحصلت الرخصة.
وعرفها الشاطبي في الموافقات (2)، بأنها: ما شرع من الأحكام الكلية ابتداءً. ومعنى: كلية الأحكام: أنها لا تختص ببعض المكلفين من حيث هم مكلفون دون بعض، ولا ببعض الأوقات والحالات دون بعض، بل إنها مشروعة على الإطلاق والعموم؛ كالصلاة، فإنها مشروعة على الإطلاق والعموم، وعلى كل شخص، وفي جميع الأحوال. وكذلك الصوم والزكاة، وغيرها من الفرائض الواجبات والسنن، وسائر شعائر الإسلام، وما شرع من الأحكام للتوصل بها إلى إقامة مصالح العباد، كالبيع والإجارة وسائر العقود، وكذلك أحكام الجنايات والقصاص والضمان وغير ذلك.
ومعنى: شرع هذه الأحكام ابتداء: أنها لم تسبق بأحكام شرعية قائمة، بل هي إنشاء أحكام تكليفية من أول الأمر، كالصلاة والزكاة والصوم، أو سبقت بأحكام منسوخة بها، كالتوجه إلى الكعبة، فإنه عزيمة لا رخصة؛ لأنه وإن سبق بحكم شرعي هو التوجه إلى بيت المقدس، إلا أن هذا الحكم ليس قائمًا. فالعزيمة ليست استثناءً من أحكام سابقة، بل إنها حكم شرعي ابتداء، وبذلك تفارق الرخصة.
وقد اعتمد هذا التعريف غالب من كتبوا في الأصول من المتأخرين (3) .
(1) قال الطوفي: " إن العزيمة تشمل الواجب والحرام والمكروه ". وقال الآمدي وابن قدامة: إن العزيمة تختص بالواجب. وقال القرافي: تختص بالواجب والمندوب. وقال الحنفية: العزيمة تشمل الفرض والواجب والسنة والنفل. (انظر: القواعد والفوائد الأصولية: ص 114 وما بعدها. الأحكام، للآمدي: 1 / 131. الروضة: ص 32. شرح تنقيح الفصول: ص 87. فواتح الرحموت: 1 / 119. التوضيح على التنقيح: 3 / 82. كشف الأسرار 2 / 300. حاشية البناني على جمع الجوامع وتقريرات الشربيني: 1/ 123. تيسير التحرير 2/ 229) . وانظر مناقشة التفتازاني للقرافي والحنفية في "التلويح على التوضيح: 3 / 83 ".
(2)
الموافقات للشاطبي: 1 / 204.
(3)
انظر: علي حسب الله، في كتابه: أصول التشريع الإسلامي: ص 328. - أحمد الكبيسي ومحمد جميل، في كتاب: أصول الأحكام وطرق الاستنباط: ص 198. - الأنموذج في أصول الفقه: ص 42. - أصول الفقه لحسين حامد حسان: ص 115. - أصول الفقه لأبي زهرة: ص 49. - أصول الفقه، للعربي اللوة: ص 73.
وقد عرف البيضاوي (1) وابن قدامة (2) العزيمة، بأنها: الحكم الثابت لا على خلاف الدليل، كإباحة الأكل والشرب، أو على خلاف الدليل، لكن لا لعذر، كالتكاليف كلها. وفي ذلك تندرج الأحكام الخمسة: الواجب والمندوب والمباح والحرام والمكروه فكانت العزيمة اسمًا للحكم الأصلي في الشرع بقطع النظر عن كونه مطلوب الفعل، أو مطلوب الترك. وإلى هذا الاتجاه ذهب غالب علماء الأصول، مثل: السرخسي في أصوله (3) والأنصاري في لب الأصول وغايته، ومنلا خسرو في مرآة الأصول (4) وجلال الدين المحلي على جمع الجوامع (5) وغيرهم. والعزيمة تشمل الأحكام الخمسة، وتطلق على أربعة أنواع:
أولها: الحكم الذي لم يتغير، كوجوب الصلوات الخمس.
ثانيها: الحكم الذي تغير إلى ما هو اصعب منه، كحرمة الاصطياد بالإحرام في غير الحرم، بعد إباحته قبل الإحرام.
ثالثها: الحكم الذي تغير إلى سهولة لغير عذر، كحل ترك الوضوء لصلاة ثانية مثلاً لمن لم يحدث، بعد حرمته، والحل هنا بمعنى خلاف الأولى.
رابعها: الحكم الذي تغير إلى سهولة، لعذر، مع عدم قيام السبب للحكم الأصلي، كإباحة ترك ثبات الواحد من المسلمين مثلاً للعشرة من الكفار بعد حرمته؛ وسببها قلة المسلمين، ولم تبق حال الإباحة لكثرتهم حينئذ (6) .
وقد ذهب بعض الأصوليين إلى أن العزيمة خاصة بالواجبات دون غيرها، لأنها من العزم المؤكد. كما ذهب الإمام القرافي إلى قصر العزيمة على الواجب والمندوب، إذ عرفها بأنها: طلب الفعل الذي لم يشتهر فيه مانع شرعي. واستعمل كلمة: طلب، بدل: الوجوب، ليندرج المندوب والواجب، أخذًا من قول المالكية: إن الآيات التي يندب السجود عند تلاوتها: عزائم، حيث تقرر عندهم أن عزائم القرآن إحدى عشرة سجدة (7) .
ويرى البزدوي (8) وصدر الشريعة (9) والكمال بن الهمام (10) وغيرهم من علماء الحنفية: أن العزيمة هي الحكم الأصلي الذي يشمل الفرض والواجب والسنة والنفل، وهذه التي تشمل العزيمة المشروعة في نظرهم، ولم يذكروا المباح والحرام والمكروه من أقسامها (11) .
(1) الأسنوي على المنهاج: 1 / 91.
(2)
روضة الناظر وجنة المناظر: ص 58.
(3)
الأصول للسرخسي: 1 / 117.
(4)
شرح مرقاة الوصول: 2 / 390.
(5)
المحلي على جمع الجوامع 1 / 124.
(6)
شرح الجلال على الجمع: 1 / 123.
(7)
شرح تنقيح الفصول: ص 76 – 77.
(8)
أصول البزدوي، شرح البخاري: 1 / 620.
(9)
التوضيح على التنقيح: 3 / 82.
(10)
التحرير بشرح ابن أمير الحاج 2 / 48.
(11)
فواتح الرحموت 1 / 119.
تعريف الرخصة
الرخصة في اللغة:
هي اليسر والسهولة، جاء في مختار الصحاح (1) : الرخصة في الأمر خلاف التشديد فيه. ومنه رخص السعر إذا تيسر وسهل، ضد الغلاء.
وفي لسان العرب (2) : تطلق الرخصة على معان كثيرة أهمها:
1-
نعومة الملمس. يقال رخص البدن رخاصة ورخوصة إذا نعم ملمسه ولان، فهو رخص (بفتح فسكون) ورخيص، وهي رخصة ورخيصة. وتقول العرب: أمرأة رخصة البدن إذا كانت ناعمة الجسم.
2-
انخفاض الأسعار. يقال: رخص الشيء رخصًا (بضم فسكون) فهو رخيص، من باب قرب قربًا: ضد الغلاء.
وقال في المصباح والقاموس (3) . رخص الشارع لنا في كذا ترخيصًا، وأرخص إرخاصًا إذا يسره وسهله. وفلان يترخص في الأمر إذا لم يستقص. ورخص له في الأمر إذا أذن له فيه. قال عليه الصلاة والسلام:((إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته)) (4) .
والرخصة بفتح الخاء: المكثر من الأخذ بها، مثل: طلقة وضحكة ولعنة وكذلك همزة ولمزة وصرعة (بضم ففتح) وهي صيغة تدل على كثرة صدور الفعل الذي اشتق منه كثرة تنبئك بأنه صار عادة لصاحبة (5) قال تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة: 1] لمن يكثر من همز الناس ولمزهم.
الرخصة في اصطلاح الأصوليين:
يبدو أن الخلاف في مفهوم الرخصة كان ناجمًا عن اختلاف علماء الأصول في تحديد مفهوم العزيمة للعلاقة القائمة بينهما باستمرار، حتى أن إحداهما لا تطلق إلا فيما يقابل الأخرى (6) . كما أن هناك فروعًا فقهية كثيرة للعلماء وأقوالاً مختلفة في إدراج كل منها تحت أي من القسمين، وهذا الاختلاف ناجم عن إطلاق اسم العزيمة أو الرخصة على الفرع المختلف فيه، فكل يطلق منهما ما يعتبره الأقرب لاصطلاحه.
(1) التقرير والتحبير: 1 / 148.
(2)
لسان العرب لابن منظرو حرف الراء ص 1146.
(3)
المصباح المنير: 1 / 342 – 343، القاموس المحيط: 2 / 316.
(4)
رواه أحمد وابن حبان والبيهقي والطبراني (فيض القدير: 2 / 296) .
(5)
التمهيد لابن عبد البر: 6 / 296.
(6)
ابن القاسم: هداية العقول.
مفهوم الرخصة عند الحنفية:
قال الشيخ علاء الدين السمرقندي في ميزان الأصول (1) : الرخصة اسم لما تغير عن الأمر الأصلي، لعارض، إلى تخفيف وتيسير، ترفيهًا وتوسعة على أصحاب الأعذار. سواء كان التغيير في وصفه أو في حكمه.
ثم إنهم يقسمون الرخصة باعتبار الحقيقة والمجاز إلى قسمين رئيسيين، اعتمادًا على ما ذكره السرخسي في أصوله، والشيخ علاء الدين السمرقندي في ميزان الأصول، وغيرهما.
القسم الأول: رخص حقيقية، ويسمونها أيضًا: رخصًا ترفيهية، وهي التي تقع في مقابلة عزائم ما يزال العمل بها جاريًا، لقيام دليلها. وهذا القسم ينقسم إلى قسمين فرعيين:
1-
ما يتغير حكمه مع بقاء الوصف الذي كان عليه من قبل. وبذلك يكون المشرع أباحه مع قيام السبب المحرم والحرمة معًا، وهو أعلى درجات الرخص. فكمال الرخصة كمال العزيمة، فكلما كانت هذه حقيقة كاملة من كل وجه كانت الرخصة في مقابلتها كذلك (2) ، وذلك كاستباحة التلفظ بكلمة الكفر مع اطمئنان القلب بالإيمان، عند الإكراه على ذلك، أخذًا من قوله تعالى:{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106] . لأن في امتناعه عن الفعل إتلاف ذاته صورة ومعنى، وفي إقدامه عليه إتلاف حق الشرع صورة لا معنى، حيث إن التصديق الذي هو الركن الأصلي في الإيمان باق على حاله. ومع ذلك فقد نص العلماء على تخييره بين الفعل والترك، بل رجح الحنفية الأخذ بالعزيمة، لأن إحياء النفس هنا وإن كان من الرخص الواجبة إلا أن ما يقابله، وهو التمسك بالعزيمة يعتبر من مواقف السمو والإباء والتمسك بالحق.
وقد جاء في السنة ما يؤيد الموقفين. فقد ورد أن مسيلمة الكذاب أكره رجلين من المسلمين على الكفر، فنطق أحدهما بكلمته فنجا، وأصر الآخر على الجهر بالحق فهلك، فقال صلى الله عليه وسلم فيهما:((أما الأول فقد أخذ برخصة الله تعالى، وأما الثاني فقد صدع بالحق، فهنيئًا له)) (3) . وقال صلى الله عليه وسلم في حديث آخر لعمار بن ياسر، بعد أن عذب وأجبر على شتم النبي والإشادة بآلهتهم:((كيف تجد قلبك يا عمار؟)) قال: مطمئنًا بالإيمان. فقال صلى الله عليه وسلم: ((فإن عادوا فعد)) (4) .
(1) ميزان الأصول في نتائج العقول: ص 55.
(2)
الخبازي: المغني في أصول الفقه: ص 87.
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة – التفسير الكبير للرازي 5 / 356، التلويح على التوضيح 3/ 58.
(4)
أخرجه ابن جرير الطبري والبيهقي، واستشهد به غالب المفسرين.
2-
ما يسقط فيه الحظر والمؤاخذة جميعًا، وبذلك يكون المشرع استباح ترك الواجب إذا شق فعله، كاستباحة الفطر في رمضان للمسافر والمريض، أخذًا من قوله تعالى:{وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] . واستباحة قصر الصلاة من قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101] . وكذلك استباحة الصلاة من قعود، إذا تعذر القيام وأخذًا من السنة – على أن الحنفية يرون أن قصر الصلاة في السفر عزيمة لا رخصة؛ أخذًا من حديث عائشة رضي الله عنها:((فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فزيدت صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر)) (1) . ويرى الحنفية أيضا أن العمل بالعزيمة في هذا النوع الثاني أولى من العمل بالرخصة؛ لأن في الأخذ بالعزيمة نوع يسر، بناء على أن الصوم مع المسلمين في شهر رمضان أيسر من التفرد به بعد مضي الشهر. فإذا أضفنا إلى هذا اليسر ثوابًا يختص بالعزائم ترجح العمل بالعزيمة ما لم يضعفه الصوم، فإذا أضعفه كان الفطر أولى.
وهذا التقسيم الأول ليس خاصًا بالحنفية ولكن الخلاف في التسمية.
القسم الثاني: رخص مجازية، وتسمى رخص الإسقاط. وقسمها الحنفية إلى قسمين فرعيين:
1-
ما وضع عن هذه الأمة، رحمة بها، وإكرامًا لها، من الأحكام الشاقة التي كانت مفروضة على الأمم السابقة، فشابهت الرخصة، فسميت بها. وذلك كقتل النفس لصحة التوبة، وقطع الأعضاء الخاطئة، وإيجاب ربع المال في الزكاة، وإحراق الغنائم، وتحريم الطيبات بسبب الذنوب، واشتراط الماء للتطهر من الجنابة والحدث، واشتراط مكان معين لقبول الصلاة (2) .
ونحو هذا مما فيه إصر وأغلال (3) وهو ما أشار إليه القرآن بقوله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] . فتسمية هذه الأشياء رخصًا مجازًا، من حيث إنها كانت واجبة على غيرنا ولم تجب علينا، رحمة وتخفيفًا، فشابهت الرخصة، فسميت بها مجازًا. ولما كان الحكم غير مشروع في حقنا أصلاً لم تكن رخصة حقيقية بل مجازًا (4) على اعتبار إضافة إلى الشرائع الماضية.
2-
ما شرع من العقود استثناءً من قواعدها العامة، دفعًا للحرج عن الناس (5) وذلك كعقدي السلم والاستصناع فكل منهما شرع للحاجة إليه على خلاف القايس، لأنه بيع المعدوم، وبيع المعدوم غير صحيح. فقد جاء في الحديث:((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الإنسان لما ليس عنده ورخص في السلم))
فعقود هذا القسم من حيث إنها مشروعة في الجملة كانت شبيهة بالرخص الحقيقية، ومن حيث استثنائها مما ذكر كانت رخصًا مجازية؛ إذ ليس في مقابلتها عزائم. ومن أجل ذلك اعتبر هذا القسيم أقرب إلى الرخص الحقيقية من القسم الأول المتمحض للمجازية.
وبذلك يظهر أن هذه الأقسام الأربعة التي ذكرناها: نوعان من الحقيقة، الأول منهما أحق بكونه رخصة؛ ونوعان من المجاز، الأول منهما أتم في المجازية من الآخر.
(1) فتح الباري: 2 / 269، المنتقى: 1 / 260، نيل الأوطار: 3 / 200.
(2)
الرخص الفقهية في القرآن والسنة النبوية.
(3)
المغني في أصول الفقه: ص 88.
(4)
البخاري: كشف الأسرار 1 / 641، التلويح على التوضيح 3 / 86.
(5)
انظر أصول السرخسي: ص 120.
مفهوم الرخصة عند الشافعية:
عرف الغزالي (1) الرخصة بأنها عبارة عما وسع للمكلف لعذر وعجز عنه، مع قيام السبب المحرم. فإن ما لم يوجبه الله تعالى علينا من صوم شوال، وصلاة الضحى، لا يسمى رخصة. ويسمى تناول الميتة، وسقوط صوم رمضان عن المسافر – رخصة.
وذكر الآمدي (2) تعريفًا آخر، فقال: وقال أصحابنا: الرخصة ما جاز فعله لعذر، مع قيام السبب المحرم. وعلق عليه بأنه غير جامع، لأن الرخصة كما تكون بالفعل قد تكون بترك الفعل، كإسقاط وجوب صوم رمضان، والركعتين من الرباعية في السفر. ولهذا أتى بتعريف جديد للرخصة فقال: من الواجب أن يقال: " الرخصة ما شرع من الأحكام لعذر، مع قيام السبب المحرم حتى يعم النفي والإثبات".
وقد اعتمد الأسنوي (3) التعريف الذي ذكره البيضاوي، وهو:" الحكم الثابت على خلاف الدليل لعذر ".
وقد انتقد الأسنوي التعريف الذي عدله الآمدي وارتضاه، بأنه غير جامع، لأن الحكم الثابت للرخصة أعم من أن يكون ثابتًا على خلاف الدليل المقتضي للتحريم، كأكل الميتة للمضطر، أو ثابتًا على خلاف الدليل المقتضي للندب، كترك الصلاة الجامعة بعذر المطر والمرض ونحوهما، فإنه رخصة بلا نزاع، وكالأبواد عند من يقول: أنه رخصة (4) .
ويبدو أن التعريف الذي ارتضاه الإسنوي ومتأخرو الشافعية يمكن أن يكون التعريف الجامع المانع، وإن لم يسلم من الانتقاد. وتكون الرخصة بهذا المعنى الذي ارتضاه الشافعية لا تختلف كثيرًا من حيث الجملة عن التعاريف التي اختارها الحنفية وتقدمت الإشارة إليها في عرض مفهوم الرخصة عندهم.
(1) المستصفى للغزالي: ص 98.
(2)
الإحكام في أصول الأحكام للآمدي: ص 68.
(3)
الأسنوي على المنهاج: 1 / 89.
(4)
الرخص الفقهية من القرآن والسنة النبوية لمحمد الشريف الرحموني: ص 117 – 118.
مفهوم الرخصة عند الحنابلة:
لا يكاد يختلف عن مفهوم الرخصة عند الشافعية في جوهره (1) . فقد عرف الشيخ محمد بن أحمد الفتوحي الحنبلي، المعروف بابن النجار، الرخصة بقوله: والرخصة شرعًا: (ما ثبت على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح)(2) . فقوله: (ما ثبت على خلاف دليل شرعي) احتراز عما ثبت على وفق الدليل، فإنه لا يكون رخصة بل عزيمة، كالصوم في الحضر.
وقوله: (لمعارض راجح) : احتراز عما كان لمعارض غير راجح، بل إما مساو فيلزم الوقف على حصول المرجح، أو قاصر عن مساواة الدليل الشرعي، فلا يؤثر وتبقى العزيمة بحالها – وهذا الذي ذكره الطوفي في مختصره.
ورغم أن الشافعية والمالكية والحنابلة لا يختلفون عادة في الاتجاه الأصولي؛ إلا أن المالكية في باب العزيمة والرخصة أبرزوا اهتمامًا كبيرًا، واعتمدوا فيه على كثير من فروع مذهبهم، لذا رأيت من المستحسن أن أتعرض إلى بعض آراء علمائهم في موضوع الرخصة الذي هو محل حديثنا.
معنى الرخصة عند المالكية:
يقول القرافي (3) : الرخصة: فسره الإمام الرازي في المحصول بجواز الإقدام مع قيام المانع. وذلك مشكل؛ لأنه يلزم منه أن تكون الصلوات الخمس رخصة، والحدود والتعازير والجهاد والحج رخصة؛ لأن ذلك جميعه يجوز بجواز الإقدام عليه.
والذي يتابع ما وضعه القرافي في تعريف معنى الرخصة يشعر بالعمق الفكري وأثر الجهد الذي بذله في تتبع الرخص وخاصيتها والتفرقة بين الرخصة والعزيمة حتى يتمكن من الظفر بالتعريف الجامع المانع للرخصة.
فإنه وإن لم يخرج عن منهج المذهب الشافعي إلا أنه خالف هذا المذهب في مناسبات متكررة، وقد تقدمت الإشارة إلى رأيه في تعريف العزيمة التي قصر دلالتها على الواجب والمندوب.
(1) انظر القواعد والفوائد الأصولية: ص 114، مختصر الطوفي: ص 34، الروضة: ص 32، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 71. شرح الكوكب المنير لمحمد بن أحمد الفتوحي الحنبلي: 1 / 477.
(2)
انظر تعريف الرخصة في نهاية السول: 1 / 87. المستصفى: 1 / 98، الأحكام للآمدي: 1 / 132. شرح العضد على ابن الحاجب 2 / 7، كشف الأسرار: 2 / 298، تيسير التحرير: 2 / 228، الموافقات: 1 / 205، التعريفات ص 115، شرح تنقيح الفصول: ص 85.
(3)
شرح تنقيح الفصول في الأصول للقرافي المالكي المتوفى سنة 684 هـ مع حاشية منهج التحقيق والتوضيح للشيخ محمد جعيط المتوفى 1337هـ 1 / 309.
معاني الرخصة عند الشاطبي:
المعنى الأول: عرف الشاطبي (1) الرخصة بأنها ما شرع لعذر شاق، استثناء من أصل كلي يقتضي المنع، مع الاقتصار على مواضع الحاجة فيه.
فكونه مشروعًا لعذر هو الخاصة التي ذكرها علماء الأصول.
وكونه شاقًا: احتراز عن العذر لمجرد الحاجة من غير مشقة موجودة، فلا يسمى ذلك رخصة، كشرعية القراض مثلاً، فإنه لعذر في الأصل، وهو عجز صاحب المال عن الضرب في الأرض، ويجوز حيث لا عذر ولا عجز. وكذلك المساقاة والقرض والسلم، فلا يسمى هذا كله رخصة، وإنما يكون مثل هذا داخلاً تحت أصل الحاجيات الكلية، والحاجيات لا تسمى عند العلماء باسم الرخصة.
وقد يكون العذر راجعًا لأصل تكميلي، فلا يسمى رخصة، كما إذا كان المترخص إمامًا عجز عن القيام فصلى قاعدًا، فصلاة المؤتمين به قاعدين وقع لعذر، إلا أن العذر في حقهم ليس المشقة، وإنما هي متابعة الإمام، لما جاء في الحديث الشريف:((إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه. فإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله من حمده فقولوا: ربنا لك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا أجمعون)) (2) . فهذه الموافقة للإمام، أو عدم المخالفة عليه، لا تسمى رخصة.
ثم يقول الشاطبي: وكونه مقتصرًا على مواضع الحاجة: خاصة من خواص الرخص لابد منها، وهي الفاصل بين ما شرع من الحاجيات الكلية وما شرع من الرخص، فشرعية الرخص جزئية، يقتصر فيها على موضع الحاجة؛ لأن المصلي – مثلاً – إذا انقطع سفره وجب عليه الرجوع إلى الأصل، من إتمام الصلاة، وإلزام الصوم.
والمريض إذا قدر على القيام في الصلاة لم يصل قاعدًا، وإذا قدر على مس الماء لم يتيمم. وكذلك سائر الرخص؛ بخلاف القرض والقراض والمساقاة فهي ليست برخصة في حقيقة هذا الاصطلاح.
(1) الموافقات للشاطبي: 1 / 204.
(2)
رواه البخاري في الأخلاق - فتح الباري 2/ 209 ورواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم في الصلاة. (جامع الأصول في أحاديث الرسول: 6 / 400 -401) .
وبين الشاطبي أن الرخصة كما تطلق على المعنى الذي كنا نقرره تطلق على معان أخرى:
المعنى الثاني: ما استثنى من أصل كلي يقتضي المنع مطلقًا، من غير اعتبار لكونه لعذر شاق. فيدخل فيه القرض والقراض والمساقاة وضرب الدية على العاقلة، وما أشبه ذلك. وعليه يدل حديث ((لا تبع ما ليس عندك)) (1) وأرخص في السلم (2) .
المعنى الثالث: ما وضع عن هذه الأمة من التكاليف الغليظة والأعمال الشاقة التي دل عليها قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286] . وقوله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] .
المعنى الرابع: ما كان من المشروعات توسعة على العباد مطلقًا، مما هو راجع إلى نيل حظوظهم، وقضاء أوطارهم. وعزيمته قضاء الوقت في عبادة الله سبحانه، وهي التي نبه عليها المولى تبارك وتعالى بقوله:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] . وقوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132] .
فالعزيمة في هذا الوجه هي امتثال الأوامر واجتناب النواهي على الإطلاق والعموم، سواء كانت الأوامر وجوبًا أو ندبًا؛ والنواهي كراهة أو تحريمًا، وترك ما يشغل عن ذلك من المباحات، فضلاً عن غيرها، لأن الأمر من الآمر مقصود أن يمتثل على الجملة. والإذن في نيل الحظ الملحوظ من جهة العبد رخصة، فيدخل في الرخصة على هذا الوجه كل ما كان تخفيفًا وتوسعة على المكلف، وبذلك كانت العزائم حق الله على العباد، والرخص حظ العباد من لطف الله. فتشترك المباحات مع الرخص على هذا الترتيب، من حيث كانا توسعة على العبد، ورفعًا للحرج عنه.
والذي يظهر من كل التعاريف المتقدمة في تحديد معنى الرخصة في اصطلاح الشرع، على اختلاف مذاهب الفقهاء، أن خصائص الرخص ثلاث:
1-
إنها أحكام جزئية خاصة، شرعت على أحكام؛ فجواز الفطر للمريض والمسافر، وإباحة الميتة للمضطر، والنطق بكلمة الكفر للمكره – كلها أحكام جزئية خاصة؛ لأنها تطبق في شأن بعض المكلفين في بعض الحالات، وهي حالات السفر والمرض والإكراه والضرورة. وهذه الأحكام الجزئية الخاصة تعد استثناءً من أحكام كلية عامة تمنع الفطر في رمضان، وأكل الميتة، والنطق بكلمة الكفر؛ وتطبق على وجه العموم والإطلاق.
(1) أخرجه أحمد في المسند: 3 / 402 (جامع الأصول: 1 / 382 - 383) . العارضة: 5 /241 - 242 ، نيل الأوطار: 5 / 155
(2)
لفظ هذا الجزء من كلام الفقهاء وليس من الحديث (ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 2 / 529
2-
إن هذه الأحكام الجزئية الخاصة قد شرعت لعذر شاق، أي يتعذر على بعض الناس القيام به؛ وليس لمجرد الحاجة أو لمشقة يسيرة. فالفطر قد شرع لعذر شاق هو السفر والمرض، وهما مظنة المشقة؛ وأكل الميتة قد شرع لعذر شاق هو حالة الضرورة؛ والنطق بكلمة الكفر شرع لعذر شاق هو الإكراه. إذ في التكليف مع الإكراه، بإتلاف نفس أو عضو؛ أو مع الضرورة، بخوف الهلاك – مشقة شديدة.
3-
إن هذه الأحكام يقتصر فيها على موضع الحاجة. ذلك أنها أحكام جزئية خاصة، فهي أحكام تخص بعض المكلفين دون بعض، وتطبق في حالات خاصة، وبذلك كانت دائرة مع أسبابها وجودًا وعدمًا، فإذا وجدت أسباب الترخص جازت مخالفة التكليف الكلي العام، وإذا انتفت هذه الأسباب وجب الرجوع إلى هذه الأحكام. فأسباب الترخص تمنع من التكليف ببعض الأحكام الكلية العامة، أو تجيز مخالفته مع قيامه، وتمنع من العقاب على هذه المخالفة.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن تقسيم الحكم إلى عزيمة ورخصة ليس من خاصيات المذاهب المتقدمة، بل هي مسائل تعرضت إليها بعض المذاهب الإسلامية الأخرى، كالزيدية والإمامية والإباضية التي تقسم الحكم إلى عزيمة ورخصة، وتعرفها بتعاريف لا تختلف كثيرًا عما ذهب إليه أصحاب تلك المذاهب في مفهوم كل من الرخصة والعزيمة، وإن اختلفت التقسيمات والعناوين الثانوية التي أعطيت لهذه التقسيمات.
الأدلة العامة للعزائم والرخص:
في اعتقادي أن العزائم لا تحتاج إلى تقصي أحكامها، والبحث عن أدلة مشروعيتها؛ لأن كل حكم في الشرع الإسلامي لابد له من دليل من كتاب الله أو سنة رسوله، أو الإجماع، أو القياس؛ إذ ليس لأحد أن يحلل أو يحرم، ولا أن يوجب حكمًا؛ بغير دليل من قرآن أو سنة أو إجماع أو نظر.
ولذلك فلا فائدة في البحث عن دليل كل حكم يعتبر عزيمة، لأن هذا العمل هو من خصائص علم الفقه. فهذا العلم تكفل بالبحث عن كل دليل لأي حكم من الأحكام.
أما الرخص فهي على عكس ما في العزائم من صفات، فقد اجتمع في الرخص الخفاء مع الدقة، والخصوص مع الاستثناء، والاعتدال مع اليسر. وإذا كان لابد من إقامة الدليل على أصل تشريع كل رخصة، فلا بد للمستدل أن لا يهمل ما فهمه الأولون من الأدلة التي يقدمها، وأن لا يستغني عن التعرف على ما كانوا عليه في العمل بها، وتقصي أحكامها.
والذي مارس كتب الفقه يعلم علم اليقين أن أدلة ثبوت الرخص ومشروعيتها بلغت مبلغ القطع في غالب الأحيان، إذ هي تعتمد على أدلة نقلية من القرآن والسنة وآثار الصحابة والقواعد العامة، وعلى نتائج استقراء النوازل التي تمت في العصور المختلفة.
أدلة الرخص من القرآن:
هي أربعة أنواع (1) :
النوع الأول: آيات التيسير والتخفيف:
- كقوله تعالى تعقيبًا على أحكام الصيام: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وقد ورد هذا النص مباشرة بعد النص على الترخيص وكان كاصلة لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] .
والمراد باليسر: العمل الذي لا يجهد النفس وليست فهي مشقة زائدة لا يستطيع أن يتحملها عامة الناس. والمراد بالعسر: هو ما فيه إجهاد للنفس، وضرر للجسم، وفيه مشقة زائدة لا يتحملها عامة الناس.
- وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28] هو تذكير بأن الله يوالي رفقه بهذه الأمة، وإرادته بها اليسر دون العسر، وأن الضعف المشار إليه في الآية هو ضعف الإنسان أمام الشهوة الجنسية، وفي الخبر: لا خير في النساء، ولا صبر عنهن، يغلبن كريمًا ويغلبهن لئيم.
والذي رجحه المفسرون: عموم التخفيف في الشريعة، بناءً على ضعف الإنسان أمام رغباته وأمام مغريات الحياة، بالرحمة واليسر ورفع المشقة، وإزالة الضرر (2) .
- وقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286] . المراد بالوسع هو: الطاقة والاستطاعة. والمستطاع ما اعتاد الناس فعله دون مشقة بالغة.
النوع الثاني: آيات في نفي الحرج والضيق:
- قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] . والحرج يطلق ويراد به الضيق والشدة. وجاءت الآية لبيان تفضيل هذا الدين عما سواه بنفي الحرج عنه، الأمر الذي يسهل العمل به، والمداومة عليه، فيسعد أتباعه بسهولة امتثاله (3) . فما ألزم الله عباده بشيء يشق عليهم إلا جعل لهم فرجًا ومخرجًا. فقد رخص لهم في المضائق، وفتح عليهم باب التوبة على مصراعيه، وشرع لهم الكفارات في حقوقه، والديات في حقوق العباد (4) .
- وقال تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6] .
هذا الجزء من الآية جاء تعليلاً لرخصة التيمم.
والمراد هنا: نفي الحرج الحسي. فلم يكلفوا بالضوء والاغتسال مع المرض والسفر إذا فقدوا الماء في السفر وعجزوا عن استعماله في المرض، وكذلك نفي الحرج المعنوي لو منعوا من أداء الصلاة في حال العجز عن استعمال الماء لضر، أو لفقدانه في السفر (5) .
وقال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] . هذه الآية تمثل إعذارًا من الله للضعفاء، وهم العاجزون عن تحمل المشاق، كالشيخ، والصبي، والمرأة، والهزيل خلقًا لا علة. والمرضى (وهم العاجزون بأمر عرض لهم لحقهم منه ضرر، كالعمى والعجز والزمانة: وسائر الأمراض التي تعوق صاحبها عن القيام بما أمر به) والفقراء الذين يعجزون عن تجهيز أنفسهم للقتال (6) .
(1) الرخص الفقهية من القرآن والسنة النبوية: محمد الشريف الرحموني: ص 135.
(2)
الألوسي: روح المعاني: 5 / 14 – 15.
(3)
التحرير والتنوير: 17 / 349.
(4)
روح المعاني: 17 / 210.
(5)
التحرير والتنوير: 6 / 13.
(6)
ابن العربي: أحكام القرآن: 1 / 406.
النوع الثالث: نفي العنت:
- كقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 220] . ورد في نزول هذه الآية أنه لما نزلت: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام: 152 – والإسراء: 34] . انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه، فجعل يفضل له الشيء من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} [البقرة: 220](1) فأذن الله بهذه الآية بمخالطة اليتامى، وأن الغرض الأصلي هو إصلاحهم، والقيام بشؤونهم وتربيتهم، وحفظ أموالهم؛ ولم يرد العنت لسعة رحمته، إذ لا يكلف نفسًا إلا وسعها. ولذلك أباح مخالطتهم، مع عفوه عما جرى العرف على التسامح فيه لعدم استغناء الخلطة عنه.
النوع الرابع: النهي عن الغلو في الدين:
- كقوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171] .
في هذه الآية خطاب موجه إلى النصارى واليهود بأنهم خالفوا كتابهم، بالإفراط فيه والزيادة عليه، ونهوا عن الغلو بالذات، لأنه أصل لكثير من ضلالهم وتكذيبهم للرسل الصادقين، وهو سبب تجاوزهم الحد الذي طلبه دينهم من اتباع الإنجيل والتوراة، ومحبة رسولهم – ببغض محمد عليه الصلاة والسلام. كما تجاوز النصارى محبة رسولهم بدعوى إلهيته أو كونه ابن الله.
وإذا كان الغلو في الدين موجهًا في هذه الآية إلى النصارى واليهود فإن فيه عبرة واعتبارًا للمسلمين، فهم أولى بالانتهاء عن الغلو من غيرهم، وأحق بهذا الخطاب من سواهم، حيث إن دينهم دين الرحمة واليسر والعدل والاعتدال.
(1) ابن الأثير: جامع الأصول في أحاديث الرسول: 2 / 129.
أدلة الرخصة من السنة:
تشمل ثلاثة أنواع:
النوع الأول: أحاديث يستفاد منها سماحة هذا الدين ويسره. وذلك كالحديث الذي رواه ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أحب الأديان إلى الله فقال: ((الحنيفية السمحة)) (1) .
والمراد بالحنيفية: المائلة عن الباطل إلى الحق، أو المائلة عن دين اليهود والنصارى إلى الاستقامة.
والمراد بالسمحة: الميسورة التي لا تتطلب ما فيه كثافة وغلظة وجمود، ولا تدعو إلى ما ينجر عنه عصيان وطغيان وسماجة.
يقول الإمام ابن عاشور (2) : " والحكمة من السماحة في الشريعة أن الله جعل هذه الشريعة دين الفطرة، وأمور الفطرة راجعة إلى الجبلة فهي كائنة في النفوس، سهل عليها قبولها، ومن الفطرة النفور من الشدة والإعناق".
وما روي من أن عروة الفقيمي رضي الله تعالى عنه قال: كنا ننتظر النبي صلى الله عليه وسلم فخرج يقطر رأسه من وضوء أو غسل فصلى فلما قضى الصلاة جعل الناس يسألونه: يا رسول الله: أعلينا من حرج في كذا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يا أيها الناس إن دين الله عز وجل في يسر – إن دين الله عز وجل في يسر – إن دين الله عز وجل في يسر)) قالها هكذا ثلاثًا (3) . وقد تكررت كلمة اليسر في أحاديث كثيرة (4) .
النوع الثاني: أحاديث تفيد في جملتها خشية النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون قد شق على أمته، ومنها:
- ما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها من أن النبي صلى الله عليه وسلم، خرج من عندها وهو قرير العين، طيب النفس، ثم رجع إليها وهو حزين، فقال:((إني دخلت الكعبة ووددت أني لم أكن فعلت. إني أخاف أن أكون قد أتعبت أمتي من بعدي)) (5) ، إن رسول الله يعلم أن أمته ستقتفي آثاره، وتتبع سنته، فلما دخل الكعبة تذكر أنه ربما تسبب بهذا الدخول في مشقة أفراد أمته ممن كتب له زيارة بيت الله العتيق، فتمنى لو أنه لم يفعل (6) .
(1) أخرجه الإمام أحمد في المسند 1 / 236 و 3 / 442، فتح الباري 1 / 93.
(2)
كتاب مقاصد الشريعة الإسلامية ص 61 – 62.
(3)
رواه الإمام أحمد وأبو علي الطبراني في الكبير.
(4)
ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث: 5 / 295.
(5)
رواه الخمسة في المناسك، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(6)
ابن العربي: العارضة: 4 / 102.
- ما رواه أصحاب الصحاح في شأن صلاة التراويح، حيث ذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ذات ليلة، فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة، فلم يخرج إليهم. فلما أصبح قال:((قد رأيت الذي صنعتم، فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم)) (1) . وفي رواية أخرى: ((فتعجزوا عنها)) ؛ فلم يكن المانع من خروجه إليهم نهيه عن ذلك، وإنما كان خشيته من أن تفرض عليهم هذه الصلاة، فتنهك قواهم، وتستنفد طاقتهم، فيقل بذلك نشاطهم لإنجاز أعمال أخرى تنتظرهم. فإذا زالت العلة بانقطاع الفرضية بعده عليه الصلاة والسلام، ذهب المانع، وثبت جواز الاجتماع لقيام رمضان، وهذا ما فهمه عمر رضي الله عنه، ونفذه في خلافته.
النوع الثالث: أحاديث يأمر أصحابه فيها بالتخفيف، وينكر عليهم فيها التشدد والغلو. مثلا:
- ما أخرجه البخاري وغيره من قوله عليه الصلاة والسلام لمعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري، لما بعثهما إلى اليمن:((يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا)) (2) .
- ومن هذا النوع ما روي عن عائشة رضي الله عنها، قالت:((كان للنبي صلى الله عليه وسلم حصير وكان يحجره بالليل)) (3) فيصلي فيه، ويبسطه بالنهار فيجلس عليه، فجعل الناس يثوبون على النبي صلى الله عليه وسلم يصلون بصلاته حتى كثروا، فأقبل فقال:((يا أيها الناس، خذوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا. وإن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل)) (4) .
- ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا صلى أحدكم للناس فليخفف فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء)) : (5) .
(1) متفق عليه (جامع الأصول: 7 / 79) المنتقى: 1 / 205. النووي على مسلم: 6 / 40 – فتح الباري: 4 / 251 – نيل الأوطار: 3 / 51.
(2)
أخرجه البخاري في المغازي والأدب، ومسلم في الأشربة (فتح الباري: 8 / 60 و 10 / 524) والنووي: 13 / 171.
(3)
يحجره: يجعله لنفسه دون غيره.
(4)
جامع الأصول: 1 / 209 – 212، فتح الباري: 4 / 206.
(5)
ابن الأثير: جامع الأصول من أحاديث الرسول: 6 / 383 – 384.
الأدلة الخاصة بالرخص من القرآن والسنة (1) :
إن الأدلة الخاصة بالقرآن والسنة قد استوعبت غالب الرخص التي جاءت في الشريعة الإسلامية، ناهيك أن الرخص شطر هذه الشريعة السمحة، حيث اتفق العلماء على أنها إحدى المرتبتين الكبيرتين اللتين تعود إليهما جميع الأحكام، وهما: مرتبة التشديد، ومرتبة التخفيف. لذلك أردت أن أتعرض إلى بعض الآيات والأحاديث كنماذج حية لدلالتها صراحة على حجية الرخصة.
وهي أنواع ثلاثة:
1-
آيات رفع الجناح ومنها:
- قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] .
والمراد بالضرب في الأرض: السفر برا أو بحرًا أو جوًا. وقصر الصلاة: النقص منها. وتشير هذه الآية إلى أن العزيمة في هذا الموضوع هي تأدية الصلاة تامة، وإن التزام هذه الحالة قد يوقع المسافرين العاديين في حرج ومشقة، فما بالك بالمسافرين للجهاد؟ ولذلك خفف الله عن هؤلاء جميعًا، ورخص لهم في أن يصلوا الصلوات الرباعية ركعتين ركعتين.. وقد استفدنا هذا الترخيص من نفي الجناح عمن قصر في الصلاة في الحالة المذكورة.
- وقول الله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] .
فالآية ظاهرة في تعظيم أمر أخذ العوض عن الطلاق الذي هو حرام. وإنما رخص الله في أخذ العوض إذا كانت الكراهة والنفرة من المرأة في مبدأ المعاشرة، دفعًا للإضرار عن الزوج في خسارة ما دفعه من الصداق وتكاليف الزواج الذي لم ينتفع منه بمنفعة (2) .
2-
آيات نفي الإثم:
وذلك كقوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173] .
والمضطر هو الذي ألجأته الضرورة إلى أكل شيء من هذه المحرمات فإن فعل مع هذا الوصف فلا إثم عليه (3) .
فالضرورة لها سببان:
- أحدهما الجوع الشديد مع عدم وجود المأكول الحلال لسد الرمق عند مالك وأبي حنيفة.
- ثانيهما الإكراه على الأكل من هذه المحرمات (4) . وحد الضرورة عند مالك حتى يشبع، ولا يمنع من التزود من المحرم خوفًا على نفسه من الهلاك إن هو فرط فيه، فإن وجد غنى عنه طرحه.
(1) كتاب: الرخص الفقهية من القرآن والسنة محمد الشريف الرحموني: ص 216.
(2)
التحرير والتنوير: 2 / 407 – 412.
(3)
أحكام القرآن: 2/ 91.
(4)
التفسير الكبير: 2 / 81 – 82.
3-
آيات نفي المؤاخذة:
وذلك كقوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة: 225] .
ولغو اليمين هو أن يحلف على شيء يستيقنه كذلك ثم يتبين خلاف ما استيقنه (1) .
ومعنى الآية أن الله جعل المؤاخذة على كسب القلب في اليمين، ولا تكون المؤاخذة إلا عن حنث لا على أصل القسم، إذ لا مؤاخذة لأجل مجرد الحلف لا سيما بعد البر، فتعين أن يكون المراد كسب القلب وتعمده الحنث، فهو الذي فيه المؤاخذة.
4-
آيات الاستثناء:
كقوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106] .
أي إلا من أكرهه المشركون على الكفر، فأظهره بالقول، تقية ومصانعة، فهو ترخيص من الله.
وحدد الفقهاء الإكراه بأنه إذا خاف على نفسه أو على عضو من أعضائه التلف، أو عذب عذابًا لا يستطيع أن يتحمله الإنسان عادة. وقد دل الحديث الشريف على جواز النطق بكلمة الكفر إذا كان القلب مطمئنًا بالإيمان.
وقد ورد ((أن عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال، بعد أن عذب عذابًا شديدًا: يا رسول الله ما تركت حتى نلت منك، وذكرت آلهتهم بخير. فقال صلى الله عليه وسلم: كيف تجد قلبك؟ فقال: مطمئنًا بالإيمان. فقال عليه الصلاة والسلام: إن عادوا فعد)) (2) .
5-
آيات الإبدال:
والمراد بالإبدال هو إبدال فعل مطلوب على وجه العزيمة بفعل آخر أخف منه، لعذر؛ كإبدال الطهارة المائية بنوعيها بالطهارة الترابية. وذلك كقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 43] .
فقد دلت الآية على إبدال الطهارة المائية بنوعيها، إذا طرأ على المكلف ما يوجبها بالتيمم، في حالتي المرض وفقد الماء.
(1) قول مالك في الموطأ.
(2)
التحرير والتنوير: 14/ 294.
أدلة من السنة النبوية وهي كثيرة (1) :
وتناولت غالب أحكام التشريع، ومختلف تصرفات الإنسان. وقد حاول عدد كبير من المؤلفين تقسيم هذه الأحاديث إلى عناوين مختلفة حسب الحاجيات التحسينية والفروع الفقهية المتعددة. ويمكن حصر جانب منها في هذه العناوين:
1-
أحاديث ترخص في النطق بالقول الباطل: عند الضرورة والحاجة:
وذلك كالحديث الذي رواه الإمامان أحمد ومسلم، ونصه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، يقول خيرًا وينمي خيرًا)) . ولم أسمع يرخص في شيء يقول الناس كذب إلا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها (2) . رغم أن الكذب من قبائح الذنوب وفواحش القلوب، وآفات اللسان، ومن علامات عدم الإيمان، بشهادة القرآن نفسه:{إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ} [النحل: 105] . وبتأكيد من النبي نفسه، فقد رخص المشرع الحكيم في الحالات الثلاث التي نص عليها الحديث؛ لما فيها من جلب مصلحة أو درء مفسدة.
2-
أحاديث تفيد جواز المسح على العمامة والخفين وما يلحق بهما:
- ما رواه عمرو بن أمية الضمري قال: ((رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على عمامته وخفيه)) (3) .
- وروي أن بلال بن رباح قال: ((مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخفين والخمار)) (4)(العمامة) .
- وقال المغيرة بن شعبة: ((توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومسح على الخفين والعمامة)) (5) .
الأصل أن العزيمة في الغسل والمسح هو غسل ما يغسل من أعضاء الوضوء، ومسح ما يمسح مباشرة. لكن قد تدعو الضرورة أو الحاجة إلى مخالفة هذا الأصل، تخفيفًا على الناس بالمسح على العمامة بدل الرأس، والمسح على الخف بدل غسل الرجل.
(1) الرخص الفقهية من القرآن والسنة: ص 320.
(2)
مسند أحمد: 6 / 403 – 404، النووي على مسلم: 16 / 157.
(3)
فتح الباري: 1 / 108، جامع الأصول: 8 / 137، نيل الأوطار: 1 / 164.
(4)
نيل الأوطار: 1 / 164، النووي على مسلم: 3 / 174، جامع الأصول: 8 / 135. والمراد بالخمار العمامة.
(5)
المنتقى: 1 / 76، النووي على مسلم: 3 / 172، جامع الأصول: 8 / 130.
3-
أحاديث تفيد الإبراد بصلاة الظهر، وهي كثيرة:
- عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال:((كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان الحر أبرد بالصلاة، وإذا كان البرد عجل)) (1) .
- وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم)) (2) .
- وقال أبو ذر: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فأراد المؤذن أن يؤذن للظهر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((أبرد)) . ثم أراد أن يؤذن فقال: ((أبرد)) ، حتى رأينا فيء التلول، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((إن شدة الحر من فيح جهنم، فإذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة)) (3) .
فهذه الأحاديث تدل على مشروعية هذا التأخير، وعلى أنه رخصة إلى حين الإبراد، ما لم يخرج الوقت (4) .
وأكتفي بهذه الأحاديث للدلالة على أن السنة اشتملت على أحاديث كثيرة في تحديد الرخص التي شرعت في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم.
(1) أخرجه النسائي (عن جامع الأصول: 6 / 164) . نيل الأوطار: 1 / 304.
(2)
فتح الباري: 2 / 15 – 18، نيل الأوطار: 1 / 304، جامع الأصول: 6 / 163.
(3)
جامع الأصول: 6 / 163، فتح الباري: 2 / 20، نيل الأوطار: 1 / 305.
(4)
الشوكاني، نيل الأوطار 1 / 304 – 305، الرخص الفقهية من القرآن والسنة: ص 330.
حكم الرخصة
الرخصة باعتبار متعلقها الذي هو فعل المكلف، تكون واجبة ومندوبة ومباحة وخلاف الأولى (1)، وهو رأي جمهور الأصوليين الذين يقولون: إن الرخصة قد تكون مطلوبة الفعل على وجه اللزوم، أو على وجه الندب والاستحباب (2) .
1-
فتكون واجبة كأكل الميتة للمضطر، وأصل حكمها الحرمة. والحكم هنا وإن تغير من صعوبة، وهي الحرمة، إلى صعوبة وهي الوجوب؛ إلا أن وجوب الأكل موافق لغرض النفس في بقائها، ففيه سهولة من هذه الناحية. وسبب الحكم الأصلي: الخبث، ولذلك كان حرامًا.
2-
تكون مندوبة كالقصر في السفر إذا بلغت المسافة ثلاثة أيام. والحكم الأصلي حرمة القصر. وعذر القصر المشقة، وسببه دخول الوقت. فقد تغير الحكم الأصلي من صعوبة وهي حرمة القصر إلى سهولة وهي ندب القصر لعذر المشقة مع قيام السبب وهو دخول الوقت.
- ومن هذا القبيل: الفطر في رمضان بالنسبة إلى المسافر الذي يشق عليه الصوم والإبراد بالظهر، والنظر إلى المخطوبة، ومخالطة اليتامى في أموالهم (3) .
3-
وتكون الرخصة مباحة كالسلم الذي هو بيع موصوف في الذمة. ومثله الإجارة، وكل ما فيه عقد على معدوم أو مجهول، كالقراض والمساقاة. والأصل في ذلك المنع، ولكن أجيز للضرورة، مع قيام سبب الحكم الأصلي.
4-
تكون الرخصة خلاف الأولى، كفطر مسافر في رمضان لا يشق عليه الصوم مشقة قوية، والتيمم لمن وجد الماء يباع بأكثر من ثمن الأصل وهو قادر عليه، وقراءة القرآن على غير طهارة (4) . فالحكم الأصلي حرمة الفطر مثلاً، لكن أبيح لعذر المشقة، مع قيام السبب للحكم الأصلي.
ويقول الشاطبي: وحكم الرخصة الإباحة مطلقًا من حيث هي رخصة. والدليل على ذلك أمور (5) :
أحدها: ورود النصوص عليها، كقوله تعالى:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] . و {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101] . و {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] .
- وفي الحديث: ((كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنا المقصر ومنا المتم، ولا يعيب بعضنا على بعض)) (6) .
(1) المحلى على جمع الجوامع: 1 / 122 – أصول الفقه للعربي اللوة: ص 74، الرخص الفقهية من القرآن والسنة: ص 392.
(2)
أصول الفقه للدكتور حسين حامد حسان: ص 130.
(3)
ابن عبد البر: التمهيد: 2 / 171.
(4)
المعيار للونشريسي 1 / 87.
(5)
الشاطبي: الموافقات: 1 / 209.
(6)
التمهيد لابن عبد البر: 2 / 169 – 170.
فهذه النصوص تدل على رفع الحرج والإثم عن مخالفة التكاليف، وذلك بالعمل بالرخصة وترك العزيمة، أو تقرر مغفرة ما يترتب على هذه المخالفة من إثم وذنب. وليس في هذه النصوص ما يدل على طلب الرخصة، طلبًا جازمًا أو غير جازم.
الثاني: أن الرخصة أصلها التخفيف عن المكلف، ورفع الحرج عنه، حتى يكون من ثقل التكليف في سعة، واختيار بين الأخذ بالعزيمة والأخذ بالرخصة. وهذا أصله الإباحة. كقوله تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]، وقوله:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] .
الثالث: أنه لو كانت الرخص مأمورًا بها ندبًا أو وجوبًا لكانت عزائم لا رخصًا، والحال بضد ذلك، إذ الواجب هو: الحتم واللازم الذي لا خيرة فيه، والمندوب كذلك من حيث مطلق الأمر. ولذلك لا يصح أن يقال في المندوبات: إنها شرعت للتخفيف والتسهيل من حيث هي مأمور بها. فإذا كان الأمر كذلك ثبت أن الجمع بين الأمر والرخصة جمع بين متنافيين (1) .
وبهذا يظهر أن دليل الرخصة عند الشاطبي: يقتصر على إباحة مخالفة الحكم الكلي العام، وهو العزيمة، ويرفع الحرج والإثم عن هذه المخالفة، أو يقرر العفو والمغفرة عن المخالف، دون أن يتعرض لطلب الرخصة، طلبًا جازمًا أو غير جازم. وفي الحالات التي يجب العمل فيها بالرخصة، بحيث يعد ترك العمل بها إثمًا ومعصية، يقرر الشاطبي أن هذا الوجوب لم يؤخذ من دليل الرخصة، إذ الرخصة من حيث هي رخصة حكمها الإباحة دائمًا، وإنما استفيد الوجوب من دليل آخر، فوجب تناول المحرمات في حالة الضرورة (2) .
وهذا لم يؤخذ من أدلة الرخصة، لأن هذه الأدلة لا تفيد إلا الإباحة، ورفع الإثم والحرج؛ وإنما استفيد الوجوب من قاعدة حفظ النفس التي استفيد حكمها من نصوص أخرى تفيد في مجموعها وجوب الحفظ.
ولهذا فإن الفعل الواحد يمكن وصفه بالرخصة وبالوجوب، إذا اختلف الاعتبار، ولم تتحد الجهة. فإساغة الغصة بالخمر، وتناول الميتة للمضطر، ونحو ذلك كله واجب، فهو من هذه الجهة عزيمة، ولا يسمى رخصة، لأنه راجع إلى أصل كلي، وهو وجوب المحافظة على النفس، ويعتبر رخصة من جهة رفع الحرج الذي يقتضيه الدليل المانع.
(1) الموافقات للشاطبي: 1 / 210.
(2)
أصول الفقه لحسين حامد حسان: ص 131، سلم الوصول إلى نهاية السول: 1 / 121، الآمدي: الإحكام في أصول الأحكام: 1 / 69.
وقد قصر بعض أئمة الشافعية الرخصة على الثلاثة الأول: الواجب والمندوب والمباح؛ كالإمام البيضاوي.
ومنهم من لم يذكر المباح من هذه الأقسام، كالنووي (1) . واتفق الفقهاء على أن الرخصة لا تكون مكروهة ولا محرمة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام:((إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته)) (2) .
تقسيمات الرخصة
لقد ذكر الأصوليون عدة تقسيمات للرخصة باعتبارات معينة. ونذكر بهذا البحث أهمها:
1-
باعتبار الفعل والترك:
تنقسم الرخصة أولاً بالنسبة لما يقتضيه الأصل الكلي الذي جاءت الرخصة على خلافه قسمين:
أولاً: رخصة فعل: وهي ما اقتضت إباحة فعل على خلاف أصل كلي يقتضي المنع منه، كأكل الميتة ولحم الخنزير حالة الضرورة، والنطق بكلمة الكفر حالة الإكراه.
فالأصل الكلي في هذه الأحكام يقتضي المنع من تناول الميتة ولحم الخنزير، والنطق بكلمة الكفر، والرخصة خالفت الأصل وأجازت الفعل.
ثانيًا: رخصة ترك: وهو ما اقتضت إباحة ترك الفعل على خلاف أصل كلي يقتضي طلبه، كإباحة الفطر والقصر للمسافر، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حالة الخوف على النفس أو أحد الأعضاء.
فالأصل الكلي هنا يقتضي الصيام وإتمام الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والرخصة أباحت ترك هذه الأشياء، لأن حق الله يفوت صورة لا معنى، لبقاء اعتقاد الفرضية؛ بينما حق الشخص في ذاته يفوت صورة ومعنى بهلاكه (3) .
2-
باعتبار عموم الضرورة وخصوصها:
جاء في كتاب مقاصد الشريعة للشيخ ابن عاشور انتقاده علماء الأصول في إغفالهم قسمًا كبيرًا من الرخص لم يتعرضوا إليها، ولم يجعلوا لها حظا ملحوظًا في مباحثهم. فقال في مبحث الرخصة:
" كان حقا علينا أن نفي مبحث الرخصة حقه من البيان، لأني وجدت بعض أنواع الرخص مغفولاً عن اعتبارها عند الفقهاء"(4) ثم يقول: " ورأيتهم لا يحتفلون إلا بالرخصة العارضة للأفراد في أحوال الاضطرار"(5) .
ويستفاد من كلام الشيخ الإمام هنا، أن الرخص تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: رخص عامة ومطردة: وهي الرخص المبنية على ضرورات عامة مطردة كانت سبب تشريع عام، في أنواع من التشريعات، مستثناة من أصول كان شأنها المنع، مثل السلم والمغارسة والمساقاة. فهذه مشروعة باطراد. وكان ما تشتمل عليه من الضرر وتوقع ضياع المال مقتضيًا منعها، لولا أن حاجات الأمة داعية إليها، فدخلت في قسم الحاجي.
(1) نهاية السول شرح منهاج الأصول: 1 / 122.
(2)
المسند 2 / 108، فيض القدير: 2 / 286، مجموع الفتاوى: 21 / 62.
(3)
المغني في أصول الفقه: ص 87.
(4)
مقاصد الشريعة الإسلامية: ص 132.
(5)
المقاصد: ص 133.
الثاني: رخص خاصة ومؤقتة: وهي الرخص العارضة للأفراد في حال الضرورة أو عند المشقة أو عند الحاجة، وهي الرخص التي اعتنى بها الفقهاء، بل اقتصروا عليها في تمثيل الرخصة، اعتمادًا على الكتاب والسنة. كقوله تعالى:{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] . في إباحة أكل الميتة للمضطر.
وقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] في إباحة الإفطار في رمضان بالنسبة للمريض والمسافر.
وما ورد في الصحاح من ((أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يمسح على الخفين عوضًا عن غسل الرجلين في الوضوء)) .
الثالث: رخص عامة مؤقتة: وهذا القسم هو الذي أشار الشيخ ابن عاشور إلى أنه قسم مغفول عنه، وهو الضرورة العامة المؤقتة. وذلك كأن يعرض الاضطرار للأمة أو طائفة عظيمة منها يستدعي الإقدام على الفعل الممنوع لتحقيق مقصد شرعي من سلامة الأمة أو إبقاء قوتها أو نحو ذلك. ولا شك أن اعتبار هذه الضرورة عند حلولها أولى وأجدر من اعتبار الضرورة الخاصة (1) وأنها تقتضي تغييرًا للأحكام الشرعية المقررة للأحوال التي طرأت عليها تلك الضرورة. وأمثلتها كثيرة منها:
1-
الكراء المؤبد في أرض الوقف حين زهد الناس في كرائها للزرع، لما تحتاجه الأرض من قوة الخدمة، ووفرة المصاريف لطول تبويرها؛ وزهدوا في كرائها للغرس والبناء، لقصر المدة التي تكترى أرض الوقف لها، ولامتناع الغارس أو الباني من أن يغرس أو يبني لمدة قصيرة ثم يجبر على أن يقلع ما أحدثه في الأرض.
في مثل هذه الحالة جرت فتوى لابن السراج وابن منظور من علماء الأندلس في أواخر القرن التاسع بجواز الكراء على التأبيد، واعتبروا هذا الكراء المؤبد لا غرر فيه، لأن الأرض باقية غير زائلة، ولأن طول المدة من شأنه أن يحقق مصلحة عامة منجرة من وفرة إنتاجها، وهي راجحة على ما يمكن أن يخالط الآماد الطويلة من خطر (2) . وكراء أرض الحبس على التأبيد قد أجازه التسولي (3) إلى ما شاء الله من السنين. وقد جرى العمل بكراء أرض الحبس على التأبيد في المغرب ومصر والبلاد التونسية، وهو المعروف بالإنزال في تونس في اصطلاح المالكية، والكردار في اصطلاح الحنفية.
وقد جاء في مجلة العقود (4) والالتزامات التونسية ما يدل على اعتمادها هذا الاتجاه عندما عرفت الإنزال بأنه: عقد يحيل به المالك أو ناظر الوقف حوز العقار والتصرف فيه إلى الأبد، على أن يلتزم له المستنزل بأداء مبلغ معين سنوي أو شهري لا يتغير.
2-
الترخيص في تغيير الحبس الذي تعطلت منفعته تحصيلاً للمنفعة من وجه آخر. وقد ذكر الونشريسي في المعيار (5) فقال:
أما مسألة دار الوضوء، فإن بطلت منفعتها، وتعذر إصلاحها، ولم ترج عودتها في المستقبل، وجاز أن تتخذ فندقًا. ولذلك جاز للناظر أن يستغلها في أي شأن يعود على المسجد الجامع بالنفع البين.
3-
وكذلك أجازوا أن يستغل ناظر الوقف غلات الحبس الذي يتعطل عمله فيحقق بها مصلحة أخرى مشابهة. ويعتبر هذا العمل من الإقدام على الفعل الممنوع ضرورة، لتحقيق مقصد شرعي فيه سلامة الأمة.
(1) مقاصد الشريعة: ص 133.
(2)
مقاصد الشريعة: ص 134، الحطاب: رسالة في بيع الوقف وما يتعلق بمدة الكراء، المعيار للونشريسي: 7 / 138.
(3)
البهجة في شرح التحفة: 2 / 165.
(4)
مجلة العقود والالتزامات: ص 348.
(5)
المعيار للونشريسي: 5 / 149 – 150.
4-
وكذلك أجازوا للناظر أن يصرف من أموال الأحباس على المساجد، إذا كانت زائدة على الحاجة، في بعض وجوه البر كالتدريس، وإعانة طلبة العلم، وتحفيظ القرآن العظيم، لنفس الرخصة المتقدمة، ولنفس الضرورة.
5-
وأجازوا أيضا بيع العقار الحبس وتعويضه بآخر. وجاء في المعيار للونشريسي (1)" وفي نوازل سحنون: لم يجز أصحابنا بيع الحبس، إلا دارًا جوار مسجد ليوسع بها، ويشترى بثمنها دارا مثلها تكون حبسًا. وقد أدخل في مسجده صلى الله عليه وسلم دورًا كانت محبسة "(2) .
وذكرت عدة أنقال عن ابن القاسم وابن رشد وكذلك عن مالك (3) تفيد جواز الإقدام على الفعل الممنوع ضرورة لتحقيق ما هو أكثر صلاحًا وسدادًا للأمة.
6-
ورخصوا في معاوضة الحبس للضرورة، وجاء في المعيار (4) : الحبس الذي لا منفعة فيه يباع. وقد سئل سيدي أبو عبد الله الحفار من أعلام غرناطة عن فدان حبس على مصرف لا منفعة فيه، هل يباع ويشترى بثمنه ما يكون به منفعة؟ فأجاب:
" إذا كان الفدان الذي حبس لا منفعة فيه فإنه يجوز أن يباع ويشترى بثمنه فدان يحبس وتصرف غلته في المصرف الذي حبس عليه الأول، على ما أفتى به كثير من العلماء في هذا النوع الذي هو من الإقدام على الفعل الممنوع ضرورة، لتحقيق ما هو أكثر صلاحًا وسدادًا للأمة ".
7-
الترخيص في بيع الخلو. وقد ذكر الشيخ ابن عاشور في المقاصد (5) أن فتوى الشيخ ناصر الدين اللقاني في مصر (6) قامت على نفس المبدأ الذي قامت عليه فتوى علماء الأندلس التي أشرنا إليها سابقًا. وبذلك أجاز بيع الخلو، كما صدرت فتاوى مشابهة (7) في تونس، وتسمى هذه العقود بالنصبة والخلو والمفتاح. وفي فاس بالجلسة والجزاء.
وقد بينت مجموع هذه الفتاوى صورة بيع الخلو بأن يدفع الكاري مالاً مسبقًا زيادة عن الكراء باتفاق مع المالك أو ناظر الوقف مقابل تهيئة المحل من طرف المستأجر لقبول حرفة معينة تقتضي التغيير والزيادة في العقار.
وهذه الزيادة في المال التي دفعها الكاري في مقابل الترخيص لتهيئة الدكان لحرفة معينة، تمكنه من البقاء في المحل على وجه لا يملك معه صاحب الريع إخراجه منه، ولا إزالة يده عنه.
(1) المعيار: 1 / 245.
(2)
المعيار: 1 / 245.
(3)
المعيار: 245 – 246.
(4)
المعيار: 199 – 200، الرخص الفقهية من القرآن والسنة: ص 417 – 418.
(5)
مقاصد الشريعة الإسلامية: ص 134.
(6)
صدر مجموع فتاوى في تونس سنة 1316 – 1897 يتضمن مسائل الإنزالات والكردار وما يتبع ذلك من النصبة والجلسة والحزقة ومن بيع الوقف الخرب على مشهور مذهب الحنفية ومذهب مالك بن أنس، ومن جملة المجموع رسالة الشيخ إسماعيل التميمي في الخلو ووجوهه عند المصريين والمغاربة فتوى الشيخ اللقاني المصري – كما وقعت الإشارة إليها في كتب كثيرة.
(7)
صدر مجموع فتاوى في تونس سنة 1316 – 1897 يتضمن مسائل الإنزالات والكردار وما يتبع ذلك من النصبة والجلسة والحزقة ومن بيع الوقف الخرب على مشهور مذهب الحنفية ومذهب مالك بن أنس، ومن جملة المجموع رسالة الشيخ إسماعيل التميمي في الخلو ووجوهه عند المصريين والمغاربة فتوى الشيخ اللقاني المصري – كما وقعت الإشارة إليها في كتب كثيرة.
وقد بينت هذه الفتاوى أنه بتمكين التجار وأصحاب الصنائع من هذا الحق تم إحياء أملاك الوقف، وراجت التجارة، وانتفع نظار الوقف وأصحاب الأملاك الخاصة من ربح كثير. وهذا الذي يرمي إليه العلامة ابن عاشور بقوله: " إن التفويت في بعض حق الوقف إذا جر منفعة أكبر للوقف نفسه وللمنتفعين به، فهو من باب الإقدام على الفعل الممنوع ضرورة، لتحقيق مقصد شرعي فيه نفع أكبر. وقد مكن الفقهاء الكاري الذي أصبح يتمتع بهذا الحق من أن يكون مالكًا له، يورث عنه، ويباع، ويوهب، وإن مات وليس له وارث يصبح ملكًا لبيت المال.
8-
الترخيص في بيع الوفاء (1) . وقد صدرت فتوى من علماء بخارى من الحنفية في جواز بيع الكروم لحاجة غارسيها إلى النفقات عليها قبل إثمارها كل سنة، فاضطروا إلى اقتراض ما ينفقونه عليها.
9-
إباحة رمي الأسرى المسلمين الذين تترس بهم العدو متى علمنا أن الكف عنهم نتيجته انهزام المسلمين وإيقاف المد الإسلامي. وهذا يعتبره الغزالي من باب الإقدام على الفعل الممنوع ضرورة لتحقيق مقصد شرعي فيه سلامة الأمة. وهو مدعو إليه من أجل المحافظة على الإسلام وعموم المسلمين.
قال الغزالي: وليس في معناها جماعة في سفينة لو طرحوا واحدًا منهم لنجوا، وإلا غرقوا بجملتهم. لأنها ليست كلية إذ يحصل بها هلاك عدد محصور وليس ذلك كاستئصال كافة المسلمين (2) .
(1) مقاصد الشريعة الإسلامية: ص 134.
(2)
المستصفى: 1 / 141.
إباحة الرخصة لرفع الحرج
الإباحة المنسوبة إلى الرخصة هل هي من قبيل الإباحة بمعنى رفع الحرج، أو من قبيل الإباحة بمعنى التخيير بين الفعل والترك؟
الشاطبي يرجح معنى رفع الحرج على المعنى الآخر (1) ويستدل بجملة آيات من القرآن، ويقول: وذلك ظاهر في قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173]، وفي آية أخرى:{فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 115] ؛ فلم يذكر في ذلك أن للمترخص الفعل والترك، وإنما ذكر أن التناول في حال الاضطرار يرفع الإثم عنه.
وكذلك قوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] ولم يقل فله الفطر، ولا فليفطر. وأشار إلى أنه إن أفطر فعدة من أيام أخر.
وكذلك قوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101] . ولم يقل فلكم أن تقصروا من الصلاة، أو: فإن شئتم أن تقصروا.
والمراد برفع الحرج: كل ما أدى إلى مشقة زائدة في البدن أو النفس أو المال، حالاً أو مآلاً (2) . وقد نبه الفقهاء: أن المشقة إذا كانت معارضة بما هو أشد منها مما يتعلق بحقوق الله والمصالح العامة، فإنه لا يكون حرجًا شرعيًّا بالنظر إلى ما هو أشد منه، وذلك كالجهاد في سبيل الله دفاعًا عن بيضة الإسلام، أو نشرًا لدينه، لأن الله لما طلبه وحض عليه، أعقبه بنفي الحرج، وذلك في قوله تعالى:{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] فالحرج اللاحق بالمجاهد ليس من الحرج الشرعي الموجب للترخيص، نظرًا لسمو غايته وما يترتب عليه من عظيم المصالح في حماية الدين وأهله.
ومثال ذلك أيضا المشقة المقارنة للحدود والعقوبات الشرعية (3) .
ويتبين لنا من هذا النقاط التالية:
أولاً: إن رفع الحرج أصل كلي من أصول الشريعة، ومقصد من مقصادها، والرخصة مستمدة من قاعدة رفع الحرج، كما أن العزيمة راجعة إلى أصل التكليف، وكلاهما أصل كلي، والعامل بهذه أو بتلك لابد أنه قد اس
تند إلى دليل قطعي؛ والآيات الدالة على رفع الحرج قد بلغت مبلغ القطع، والتيسير من أصول الشريعة الإسلامية. (4)
ثانيًا: رفع الحرج عن هذه الأمة قاعدة عامة أجمع المجتهدون على اعتبارها ومراعاتها في مناهجهم الاجتهادية.
ثالثًا: الحرج مرفوع من الأحكام ابتداء وانتهاء، في الحال والمآل، بينما الرخص تشمل عادة أحكامًا مشروعة بناء على أعذار العباد، وتنتهي بانتهائها؛ وأخرى تراعى فيها أسباب معينة تتبعها وجودًا وعدمًا.
(1) الموافقات: 1 / 216.
(2)
رفع الحرج في الشريعة الإسلامية: ص 47.
(3)
ابن حميد: رفع الحرج: ص 48.
(4)
الموافقات للشاطبي: 1 / 217.
رابعًا: ليس كل ما كان من التشريع رفعًا للحرج يسمى رخصة، وما كل حرج يرخص لأجله، ويمكن أن نؤكد أن الرخص تعني: تيسير ما شق من تلك الأحكام الميسرة ابتداء.
خامسًا: رفع الحرج لا يستلزم تخيير المكلف بين الفعل والترك، لأنه لا يمكن أن يكون موجودًا مع الواجب، مثلاً، بينما الرخصة تقتضي التخيير ابتداء بينهما.
الترجيح بين العزيمة والرخصة من الرخص ما يكون في مقابلة مشقة لا صبر عليها طبعًا، كالمرض الذي يعجز معه من استيفاء أركان الصلاة على وجهها، أو عن الصوم لخوف فوت النفس، أو لا صبر عليها شرعًا، كالصوم المؤدي إلى عدم القدرة على إتمام أركان الصلاة.
وهذا القسم راجع إلى حق الله. فالترخص فيه مطلوب (1) . ومن هنا جاء الحديث الشريف الذي أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما: ((ليس من البر الصيام في السفر)) (2) .
فالرخصة في هذا جارية مجرى العزائم، باعتبار رجوعها إلى أصول كلية ابتدائية. ولذلك قال الفقهاء بوجوب أكل الميتة خوف التلف، وإن لم يفعل كان آثمًا؛ إلا إذا عارضت ذلك مصلحة أخرى راجحة على حفظ النفس، كحفظ الدين مثلا.
ومن الرخص ما يكون في مقابلة مشقة، وللمكلف قدرة على الصبر عليها، وهذا راجع إلى حقوق العباد، لينالوا حظا من رفق الله وتيسيره. فالمقام في هذه الحالة الأخذ بالعزيمة وإن تحمل في ذلك مشقة، وله الأخذ بالرخصة؛ أي أن المشرع يهدف إلى تقرير الإذن في طرفي الفعل والترك، وأنهما على السواء في قصده، فلا فرق عنده بين هذه أو تلك. ويتفرع على هذا أن المكلف يكون مخيرًا بين الإتيان بالعزيمة وبين الإتيان بالرخصة، وللترجيح بين الأمرين هناك عدة مرجحات.
(1) الموافقات للشاطبي: 1 / 217 – 218. أصول الفقه للخضري ص 87.
(2)
البخاري، فتح الباري: 4 / 83، مسلم، شرح النووي: 7 / 233، المسند لأحمد: 4 / 299 – 317 – 319.
ترجيح العزيمة على الرخصة:
أما الأخذ بالعزيمة عند تخيير المكلف، فله مرجحات:
أولها: أن العزيمة راجعة إلى أصل في التكليف على مقطوع به ومتفق عليه، وورود الرخصة وإن كان مقطوعًا به لكن سبب الترخص لا تحقق له، لأن مقدار المشقة المباح من أجله الترخص غير منضبط، وكل مجال للظنون لا مجال فيه للقطع، فاقتضى هذا ألا يقدم المكلف احتياطًا على الرخصة مع بقاء احتمال السبب (1) .
ثانيها: أن العزيمة راجعة إلى أصل في التكليف كلي، لأنه مطلق عام لجميع المكلفين. والرخصة راجعة إلى جزئي بحسب بعض المكلفين ممن له عذر، وبحسب بعض الأوقات وبعض الأحوال في أهل الأعذار لا في كل وقت، ولا في كل حالة، ولا لكل أحد. فهو كالعارض الطارئ على الأمر الكلي. والقاعدة التي جرى عليها العمل: أنه إذا تعارض أمر كلي وأمر جزئي فالكلي هو المقدم، لأن الجزئي يقتضي مصلحة جزئية، والكلي يقتضي مصلحة كلية، ولا ينخرم نظام العالم بانخرام المصلحة الجزئية، بخلاف ما إذا قدم اعتبار المصلحة الجزئية على المصالح الكلية، فإن النظام يختل باختلالها.
وفي هذا السياق فإن العزيمة أمر كلي ثابت لكل مكلف، والرخصة دون ذلك، لأن مشروعيتها أن تكون جزئية، وحيث يتحقق الموجب فالأولى لمن أراد أن ينجو من العهدة الرجوع إلى الكلي، وهو العزيمة (2) .
ثالثها: ما جاء في الشريعة من الأمر بالوقوف مع مقتضى الأمر والنهي مجردًا، والصبر على حلوه ومره، وإن انتقض موجب الرخصة: من ذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران: 173] . فهذا مظنة التخفيف، فأقاموا على الصبر والرجوع إلى الله، فأثنى عليهم بقوله:{فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173] .
ومنه قوله تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب: 10] وبعد أن ذكر المشهد كاملاً مدح الصابرين على هذا كله بقوله تعالى: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23] .
فقد مدحهم الله بالصدق والثبات مع حصول الزلزال الشديد والأحوال الشاقة التي بلغت القلوب فيها الحناجر، وهي حالات يدخل بها المكلف في منطقة التخفيف عادة، ولكن أولئك الرجال ثبتوا على الحق، وماتوا عليه، فرفعهم الله بهذا الثبات، وهو يدل على أن الأخذ بالعزيمة يترجح على الأخذ بالرخصة. وأمثال ذلك كثير في مدح الصابرين الثابتين على الامتثال في المواضع التي أجاز الله فيها اتباع الرخص، وسماهم الله صادقين، لأخذهم بالعزيمة دون الرخصة (3) .
رابعها: أن العوارض الطائرة وأشباهها مما يقع للمكلفين من أنواع المشاق هي مما يقصده الشارع في أصل التشريع، وذلك لأن المقصود في أصل التشريع من المشقة ما هو جار على توسط مجاري العادات.
وكونه شاقا على بعض الناس أو في بعض الأحوال مما هو علي غير المعتاد، فإن هذه المشقة لا تخرجه تمامًا عن أصل وضعه من أن يكون مقصودًا له، لأن الأمور الجزئية لا تخرم الأصول الكلية، وإنما تستثنى بحسب الحاجيات. والبقاء على الأصل من العزيمة هو المعتمد الأول للمجتهد، والخروج عنه لا يكون إلا لسبب قوي. ولذلك لم يعمل العلماء بمقتضى الرخصة الخاصة بالسفر في غيره كالصنائع الشاقة في الحضر مع وجود المشقة التي هي العلة الحقيقة في مشروعية الرخصة.
(1) ابن عبد البر: التمهيد: 2 / 172 – 173.
(2)
الموافقات للشاطبي: 1 / 220، أصول الفقه للخضري: ص 88 و 89، الرخص الفقهية من القرآن والسنة: ص 646 – 647.
(3)
مختصر تفسير ابن كثير: 2 / 176 – 177 – الموافقات: 1 / 220 – 221.
وإذًا لا ينبغي الخروج عن حكم العزيمة مع عوارض المشقات التي لا تطرد ولا تدوم، لأن ذلك أيضا جار في العوائد الدنيوية، ولم يخرجها عن أن تكون عادية. فصار عارض المشقة إذا لم يكن كثيرًا ودائمًا فلا يدعو إلى الخروج عن الأصل (1) . قال تعالى:{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: 186] . فإن المترخص في هذه الأحوال على الإطلاق يكون كالمضاد لما قصده الشارع من تكميل للعزيمة.
خامسها: أن الترخص إذا أخذ به في موارده على الإطلاق كان ذريعة إلى انحلال عزائم المكلف في التعبد على الإطلاق، فأما إذا أخذ بالعزيمة كان حريا بالثبات في التعبد والأخذ بالحزم فيه؛ وهذا مشاهد محسوس لا يحتاج إلى إقامة دليل. فإذا اعتاد الترخص صارت كل عزيمة بالنسبة إليه شاقة حرجة، وإذا صارت كذلك لم يقم بها حق قيامها، وطلب الطريق إلى الخروج منها (2) .
ويظهر أن هذه المسائل التي رجح بها الشاطبي الأخذ بالعزائم على الأخذ بالرخص هي في الواقع راجعة إلى مبحث الاحتياط أو الأخذ بالأحوط التي تكون موضع شك المكلف، وهو مبحث أصولي هام، له اتصال بمسائل الحلال والحرام، وقواعد الذرائع والحيل، تناوله ابن حزم في كتابه الإحكام " (3) . وتعرض إليه ابن القيم في فوائده (4) كما تعرض إليه بتفصيل الشيخ صالح بن حميد في كتابه " رفع الحرج " وبين فيه كل مجالات الاحتياط، وأفرده بفصل سماه: رفع الحرج والاحتياط (5) .
(1) الموافقات: 1 / 222 – 224.
(2)
الموافقات: 1 / 224.
(3)
الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم: 6 / 162.
(4)
بدائع الفوائد: 3 / 257 و 279.
(5)
رفع الحرج في الشريعة الإسلامية: ص 329 – 346، الرخص الفقهية في القرآن والسنة: ص 653.
ترجيح الرخصة على العزيمة:
يرى فريق من العلماء (1) أنه في حالة رفع الحرج عن المكلف في الأخذ بالعزيمة أو في الأخذ بالرخصة يترجح الأخذ بالرخص للأمور الآتية:
أولها: أن أصل العزيمة وإن كان قطعيا فأصل الترخص قطعي أيضا بالإضافة إلى المظنة، حيث وجدت وكيف كانت؛ فإن المشرع قد أجرى الظن في ترتب الأحكام مجرى القطع، فمتى وجد سبب الحكم كان مستحقًا للاعتبار. وقد قام أكثر من دليل قطعي على أن الدلائل الظنية تعامل في فروع الشريعة معاملة الدلائل القطعية، فإن غلبة الظن تنسخ حكم القطع السابق؛ لذلك إذا غلب على ظن الصائد أن موت الصيد بسبب ضرب الصائد وإن أمكن أن يكون بغيره، أو يعين على موته غيره، فالعمل على مقتضى الظن صحيح (2) . وبهذا الاعتبار يسقط الوجه الأول من مرجحات العزيمة.
ثانيها: أن أصل الرخصة وإن كان جزئيًا بالإضافة إلى عزيمتها فذلك غير مؤثر، وإلا لزم أن نقدح فيما أمر به من الترخص؛ بل الجزئي إذا كان مستثنى من كلي فهو معتبر في نفسه، لأنه من باب التخصيص للعموم، أو من باب التقييد للإطلاق. ويصح تخصيص القطعي بالظني، فهذا منه.
وقد تقرر أيضا أن الكلي لا ينخرم بانخرام بعض جزئياته، فسقط الوجه الثاني.
ثالثها: أن الأدلة على رفع الحرج عن هذه الأمة قد بلغت مبلغ القطع، وأن الأدلة على مشروعية الرخص بلغت كذلك مبلغ القطع، وما دامت الرخصة مباحة وفيها سهولة ويسر ومراعاة لحق العبد والشارع، فهي أولى من العزيمة التي يراعى فيها حق الشارع وحده (3) .
(1) الموافقات: 1 / 230- 231، أصول الخضري: ص 91، الرخص الفقهية من القرآن والسنة: ص 653 – 654.
(2)
الموافقات: 1 / 231.
(3)
الموافقات: 1 / 231.
رابعها: أن مقصود الشارع من مشروعية الرخصة: الرفق بالمكلف عن تحمل المشاق. فالأخذ بها مطلقًا موافقة لقصده، بخلاف الأخذ بالعزائم فإنه مظنة التشديد والتكلف والتصلب، وقد تقدم ما ورد من وعيد ونهي عن هذه الصفات في كتاب الله وفي سنة نبيه.
روي عن ابن عباس في قصة بقرة بني إسرائيل: ((لو ذبحوا بقرة ما لأجزأتهم، ولكن شددوا فشدد الله عليهم)) (1) .
وفي الحديث ((هلك المتنطعون)) (2) . ((ونهى صلى الله عليه وسلم عن التبتل، وقال: من رغب عن سنتي فليس مني)) (3) بسبب من عزموا على صيام النهار وقيام الليل واعتزال النساء.
خامسها: أن ترك الترخص مع ظن سببه قد يؤدي إلى الانقطاع والسآمة والملل والتنفير من الدخول في العبادة وكراهية العمل وترك الدوام عليه. فالإنسان إذا توهم التشديد أو طلب منه، كره ذلك ومله، وربما عجز عنه في بعض الأوقات، فإذا لم يفتح له باب الرخص، وسد عنه ما سوى ذلك عد الشريعة شاقة، وربما ساء ظنه بما تدل عليه دلائل رفع الحرج، خاصة وقد قال تعالى:{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات: 7] ألا يكون تجنب العنت مرجحًا للترخص (4) .
ويظهر أن الترجيح لجانب العزيمة أو لجانب الرخصة لا ينبغي أن ينظر فيه إلى ذات العزيمة أو ذات الرخصة، وإنما ينظر فيه إلى المكلفين الذين ستطبق هذه الأحكام عليهم أو سيطبقونها من تلقاء أنفسهم، فينبغي أن لا تخرج عن مرتبتي العزيمة والرخصة، ولكل من المرتبتين في حال مباشرة الأعمال رجال، من قوي منهم خوطب بالتشديد والالتزام بالعزائم، ومن ضعف منهم خوطب بالرخصة (5) .
(1) قال الآلوسي في تفسيره: 1 / 238: أخرجه ابن جرير بسند صحيح، عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفًا – وأخرجه سعيد بن منصور في سند عن عكرمة، مرفوعًا مرسلاً.
(2)
أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود عن ابن مسعود.
(3)
رواه الشيخان والنسائي (وهذا الجزء من آخر حديث الثلاثة الذين سألوا عن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقالوها) .
(4)
الموافقات: 1 / 233.
(5)
كشف الغمة عن جميع الأمة: 1 / 108 – 109.
الرخصة أمر اعتباري إضافي:
إن الرخص إضافية أي أن كل واحد من المكلفين فقيه نفسه في الأخذ بها أو في عدمه، وبيان ذلك:
أولاً: إن الرخص لها أسباب متعددة. وإذا أخذنا من جملة الأسباب المشقة التي تعتبر سببًا هامًا فلا يمكن أن نعتبر المشقة بمثابة واحدة، إذ هي تختلف قوة وضعفًا بحسب الأحوال والأزمان والأعمال والأشخاص والعزائم، فليس من يسافر وحده راجلاً في مفازة وحر شديد كمن يسافر راكبًا في رفقة وأرض مأمونة واعتدال هواء؛ وليس قوي الجسم والشجاع كضعيف الجسم والجبان، وكذا المرضى تختلف أحوالهم وتحملهم وصبرهم، إلى غير ذلك مما لا يمكن ضبطه وتحديده بحدود يصح اطرادها في جميع الناس.
لذا أقام الشارع في جملة منها السبب مقام العلة فاعتبر السفر وأقامه مقام المشقة لأنه أقرب مظان وجود المشقة، وترك كثيرًا منها موكولاً إلى الاجتهاد كالمرض، لأن أسباب الرخص ليست داخلة تحت قانون أصلي ولا ضابط محصور، فاعتبر الشارع كل مكلف في الأخذ بالرخص فقيه نفسه (1) . فإن من الناس من يقوى في مرضه على ما لا يقوى عليه الآخر، فتكون الرخصة مشروعة بالنسبة إلى أحد الشخصين دون الآخر. وإذًا ليست أسباب الرخص بداخلة تحت قانون أصلي مطرد، فهو إضافي بالنسبة لكل مكلف. ورب مضطر قد اعتاد الصبر على الجوع والخصاصة فلا تختل قواه ومداركه بفقد الطعام، بل تلحقه المشقة فقط، في حين تختل بفقده حال غيره؛ فهذا يجب عليه الترخص، والأول يكون مخيرًا فيه إذا خلا عن المرجح.
ثانيًا: ومما يدل على أن الرخص إضافية ما جاء في وصال الصيام، وقطع الأزمان في العبادات؛ فإن الشارع أمر بالرفق رحمة بالعباد، ثم فعله النبي صلى الله عليه وسلم، علمًا بأن سبب النهي وهو الحرج والمشقة مفقود في حق الأنبياء، ولذلك أخبروا عن أنفسهم أنهم مع وصالهم الصيام لا تصدهم هذه العبادة عن حوائجهم، ولا تقطعهم عن سلوك طريقهم؛ فلا حرج في حقهم، وإنما الحرج في حق من يلحقه الحرج، حتى يصده عن ضروراته وحاجاته. وقد ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم الوصال، لما روي أنه كان يواصل الصيام أربعين يومًا، وأراد أصحابه الاقتداء به، فأنكر عليهم ذلك، فقال له رجل: إنك تواصل يا رسول الله، فقال: " وأيكم مثلي؟ إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني ")) (2) . واعتبر هذا الصيام خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم. وهذا ما يؤيد أن الرخص إضافية تختلف قوة وضعفًا بحسب الأحوال والأزمان والأشخاص والعزائم.
ويشهد لهذا الرأي الذي جعل لكل من المرتبتين رجالاً: ما ثبت من أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يسافرون مع النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان، فمنهم الصائم ومنهم المفطر، فلا يعيب هذا على هذا، وفي رواية مالك عن أنس، قال:((سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم.)) (3)
(1) الموافقات للشاطبي: 1 / 213 – 214، أصول الفقه للعربي اللوة: ص 74.
(2)
استشهد به صاحب المنار حافظ الدين النسفي، وخرجه الشيخ محمد عبد الحليم اللكنوي: 1 / 36.
(3)
التمهيد لابن عبد البر: 2 / 169 – 170.
تتبع الرخص وموقف العلماء منه
لقد تقدم لنا في أول البحث أن رفع الحرج هو من مقاصد الشريعة الإسلامية، وأن الشرع لم يأت بما يشق أو يعنت، بل شرع من الأحكام الأصلية والرخص ما يتناسب مع أحوال المكلفين، وأن المشقة التي تستوجب الرخص ليست هي المشقة المعتادة المألوفة، وإنما هي المشقة غير المعتادة التي تشوش على النفوس في تصرفها – كما يقول الشاطبي – ويقلقها هذا العمل بما فيه من هذه المشقة (1) .
ورفع الحرج أو اليسر في الإسلام وإن كان شاملاً لجميع أحكام الشريعة، وفي كافة مجالاتها إلا أنه ليس غاية في ذاته، وإنما هو وسيلة واقعة في طريق الامتثال لأوامر الله، تعين على تحقيق الغاية. فالإسلام هو الاستسلام لأوامر الله، والانصياع لشرعه، وتحقيق مراد الشرع كذلك، من جلب المصالح ودرء المفاسد، فإن المقصد العام من التشريع هو حفظ نظام العالم، واستدامة صلاحه بصلاح المستخلفين فيه، وفي عقيدتهم، وعبادتهم، وكافة شؤون حياتهم، وما بين أيديهم من موجودات العالم الذي يعيشون فيه.
فالذي يتلمس التخفيفات ويتتبع مواطن الرخص ورفع الحرج بعيدًا عن الغاية الحقيقية من تمام العبودية وخالص الخضوع والطاعة لله وحده والسعي في جلب المصالح ودرء المفاسد، وغايته أن يأخذ بالسهل من الأمور الذي قد يؤدي إلى الانسلاخ من الأحكام والابتعاد عن الشرع، والتهاون بمسائل الحلال والحرام في المطاعم والمشارب والمعاملات، مدعيًا أن لا حرج في الدين، فقد أخطأ وضل السبيل، لأنه لا يجوز أن تنقلب الوسائل غايات أو تتغلب الوسائل على الغايات (2) .
ولا شك أن الرخص المباحة المتفق على صحتها، وسلامتها من التهاون والتلاعب وسوء النية أو الجهل وعدم التحري، هي مخارج من الحرج، ورخص تفضل الله بها على عباده للتخفيف عنهم من مشقة التكاليف وقت الاحتياج لذلك، وإزالة الحرج عنهم في الدين تحقيقًا لقوله تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] .
(1) الموافقات للشاطبي: 2 / 84.
(2)
رفع الحرج في الشريعة الإسلامية: صالح بن حميد: ص 14.
أما الرخص المختلف فيها فيمكن الأخذ بها عند الضرورة والحرج الشديد إن ترجح دليلها وتساوى مع دليل بطلانها، خصوصًا للمضطر المحرج، فيجوز الإفتاء بها له لإخراجه من الضيق والحرج، ولإبقاء حرمة الدين في نفسه. وهذا مقصد هام من مقاصد الشرع وهو المحافظة على حرمة الدين في نفوس الناس.
فينبغي أن يكون عند
المسلم من الموانع ما يثنيه عن الإقدام على مواطن الرخص، والأخذ بالأيسر في كل مسألة. فإن هذا يوشك أن يتخذ آيات الله هزؤًا.
قال سليمان التميمي لمن سأله في هذا الباب: " إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله ". قال ابن عبد البر: " هذا إجماع لا أعلم فيه خلافًا "(1) . وقال الشاطبي: " وهذا مما لا خلاف فيه بين المسلمين ممن يعتد بهم في الإجماع، أنه لا يجوز ولا يسوغ لأحد أن يفتي في دين الله إلا بالحق الذي يعتقد أنه حق، رضي بذلك من رضيه وسخطه من سخطه. وإنما المفتي مخبر عن الله تعالى في حكمه، فلا يخبر عنه إلا بما يعتقد أنه حكم به أو أوجبه، والله تعالى يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49] .
فكيف يجوز لهذا المفتي أن يفتي بما يشتهي، أو بما يرضي المستفتي؟ (2) .
وهذا الكلام وما سبقه يدل على أن تتبع الرخص قد يحصل من الشخص نفسه، وقد يحصل من المفتي الذي لا يتقصى مقاصد من يستفتيه، فيبدي له في كل قضية أيسر ما قيل به فيها، وفي هذا وذلك نوع من التحيل على الشرع؛ وقد اتفق العلماء على حرمته.
وقد أعطى ابن قيم الجوزية قضية الحيل الشرعية حقها من البيان في كتابه " إعلام الموقعين " وأنهى كتابه بإرشادات قيمة وفوائد جليلة تتعلق بالإفتاء والمفتين وقال في الفائدة التاسعة والثلاثين: " لا يجوز للمفتي تتبع الحيل المحرمة والمكروهة، ولا تتبع الرخص لمن أراد نفعه، فإن تتبع ذلك فسق وحرم استفتاؤه".
فإن حسن قصده في تخريج جائز لا شبهة فيه ولا مفسدة، لتخليص المستفتي بها من حرج، جاز ذلك، بل استحب. وقد أرشد الله تعالى نبيه أيوب إلى التخلص من الحنث بأن يأخذ بيده ضغثًا (قبضة ريحان أو قضبان) فيضرب بها المرأة ضربة واحدة. وأرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيع التمر بدراهم ثم يشتري بالدراهم تمرًا آخر فيتخلص من الربا.
(1) الفتاوى الكبرى لابن تيمية: 3 / 179. مراتب الإجماع: ص 175.
(2)
الموافقات: 4 / 90.
فأحسن المخارج ما خلص من المآثم، وأقبح الحيل ما أوقع في المحارم أو أسقط ما أوجبه الله ورسوله من الحق اللازم (1) .
ونقلوا عن الإمام أحمد، أنه قال: لو أن رجلاً عمل بقول أهل الكوفة في النبيذ، وأهل المدينة في السماع، وأهل مكة في المتعة، كان فاسقًا (2) .
كما نقلوا عن إسماعيل القاضي أنه قال: دخلت على المعتضد فرفع إلي كتابًا لأنظر فيه، وقد جمع فيه صاحبه الرخص من زلل العلماء، وما احتج له كل منهم. فقلت: مصنف هذا الكتاب زنديق. فقال: ألم تصح هذه الأحاديث؟ قلت: من أباح المسكر لم يبح المتعة، ومن أباح المتعة لم يبح الغناء والمسكر. وما من عالم إلا وله زلة. ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه (3) .
وبهذا نرى أن للرخص مقاصد وأهدافًا، هي: التخفيف ونفي الحرج في الدين. وقد شرعت لأجل ما يطرأ على المكلف من عجز أو مشقة يتعذر عليه معها الإتيان بالأحكام الأصلية بسهولة ويسر، فينتقل إلى الأحكام التي شرعت لأهل الأعذار. فهذه مجالات الرخص.
ويتبين أن الإغراق في تتبع الرخص، والأخذ بالأقوال الضعيفة من كل مذهب، دون تفريق بين غثها وسمينها، ودون نظر إلى ما فوت مقصد الشارع منها وما لم يفوته وبدون تقيد بالنيات والمقاصد التي هي روح العمل الخالص لوجه الله، في شأنه أن يؤدي إلى إلغاء الشريعة ونقضها بالتحيل عن طريق تتبع الرخص. فإن كل ممنوع يمكن التحيل عليه لإخراجه في صورة الجائز، وهذا ما لا يمكن السماح به.
إن تتبع الرخص يمكن أن يرادف في بعض الأحيان ما تعارف الفقهاء على تسميته بالحيل. لأن الرخصة إذا وجد سببها، سواء كان ضرورة أو مشقة أو مرضًا أو غير ذلك، فهي مشروعة لا تتقيد بعدد ولا مكان أو زمان.
فإذا سافر المكلف مثلاً في رمضان قصد الإفطار مدة الصيام، والقضاء بعد ذلك في المدة التي تناسبه، فهذا لا يعتبر صاحب مشقة، وإنما يعتبر فارًا من أداء رمضان في وقته، وقد اتخذ السفر ذريعة للإفطار، وحيلة لعدم القيام بهذا الواجب في وقته. ومذهب الإمام مالك صريح بأن السفر المبيح للإفطار في رمضان إنما هو سفر الطاعة، وهذا السفر ليس بسفر طاعة، فلا يجوز به الفطر في رمضان، فهو من التحيل الممنوع الذي أريد به إخراجه في صورة الجائز، إذ هو يؤدي إلى إلغاء الشريعة ونقضها (4) .
(1) إعلام الموقعين: 4 / 222.
(2)
الأحكام: 6 / 179.
(3)
الأحكام: 6 / 179.
(4)
الحيل الفقهية في المعاملات المالية: ص 117.
وإذا قلد المكلف بعض أقوال من المذهب الحنفي التي تبيح شرب نبيذ غير العنب فهذا لا يسمى اصطلاحًا رخصة، ولكنه تخير المقلد من أحكام المذاهب ما فيه سهولة تبيح له ما كان ممنوعًا في مذهبه.
قال الشاطبي: فإذا تسبب المكلف في إسقاط ذلك الوجوب عن نفسه، أو في إباحة ذلك المحرم عليه، بوجه من الوجوه، حتى يصير ذلك الواجب غير واجب في الظاهر، والمحرم حلالاً في الظاهر، فهذا التسبب يسمى حيلة وتحيلاً. كما لو دخل في وقت صلاة عليه في الحضر، فإنها تجب عليه أربعًا، فأراد أن يتسبب في إسقاطها كلها، بشرب خمر أو دواء مسبت، حتى يخرج وقتها وهو فاقد لعقله كالمغمى عليه (1) ، أو أراد أن يسقط بعضها اثنتين، بإحداث سفر قصر.
ولهذا اعتبر الفقهاء أن تتبع الرخص مما يتنافى مع مقصد الشارع من شرع التخفيف عمومًا، والرخص بصفة خاصة، ولا يكون ذلك إلا من ضعيف الإيمان، غير المتفهم لمقاصد الشريعة وأهدافها ومراميها. لأن التذبذب بين المذاهب للأخذ من كل مذهب أسهله وأيسره أو تخفيفه أو ترخيصه؛ كل ذلك يعتبر عبثًا في الدين، لا يقره دين الله الذي جاء لمصلحة العباد في المعاش والمعاد (2) .
وقال الإمام الشاطبي: فإذا صار المكلف في كل مسألة عنت له يتبع رخص المذاهب، وكل قول فيها وافق هواه، فقد خلع ربقة التقوى، وتمادى في متابعة الهوى، ونقض ما أبرمه الشارع وأخر ما قدمه (3) .
وهكذا رأينا أن الحيل وتتبع الرخص التي قامت على هدم أصل شرعي، أو نقض مصلحة شرعية، قد ذمها علماء الدين قاطبة، وإن يكن بينهم خلاف فيها فإنما هو في مدى انطباق ضابط ما يحرم من الحيل على مسائلها، وفي أنها إذا وقعت تكون نافذة أم لا مع القول بالتحريم في حال النفاذ.
ويمكن القول على وجه كلي، بأن الكل قائل بالتحريم. وأن مالكًا وأحمد يضمان إبطال الحيل في أحكام الدنيا، وأن أبا حنيفة والشافعي وإن قالا بالتحريم فذلك لا يلتزم الإبطال وعدم النفاذ دائمًا. فالخلاف بين الفريقين في دائرة ضيقة هي نفاذ هذه التصرفات في أحكام الدنيا ظاهرًا، على ما يقول الحنفية والشافعية، أو إبطالها وعدم نفاذها على ما يقوله المالكية والحنابلة. ولهذا قال ابن تيمية في إقامة الدليل: ولا يجوز أن تنسب هذه الحيل إلى أحد من الأئمة، ومن نسبها إلى أحد منهم فهو جاهل بأصولهم ومقاديرهم ومنزلتهم في الإسلام.
(1) الموافقات للشاطبي: ج 2 – ص 280.
(2)
الموافقات للشاطبي: ج 2 – ص 272.
(3)
الموافقات للشاطبي ج 2 صـ 272
ولا يخفى أن فريقًا من الفقهاء أطلق لفظ الحيل على كل ما يحتال به توصلاً إلى مقصد، سواء كان مرغوبًا عنه في الشريعة الإسلامية أو مرغوبًا فيه. فالأول هو الاحتيال على الشريعة المؤدي إلى تعطيلها، بإسقاط حقوق الله تعالى، أو إضاعة حقوق عباده. والثاني هو التوسل بالطرق المشروعة للتخلص من الحرام، والتوصل إلى الحلال. ومنع الفريق الثاني من العلماء هذا الإطلاق على مطلق النوعين، وجعل كل منهما اسمًا، دلالة على اختلاف المدلول باختلاف الدال. وأحسن عنوان للمرغوب عنه لفظ الحيل، وللمرغوب فيه لفظ المخارج. وضابط التفرقة بينهما:
إن كل ما يتوسل به المرء لتطبيق الأحكام الفقهية تطبيقًا صوريًا غير حقيقي، يستلزم إغفال العلة التي بني عليها الحكم، وضياع حكمته الشرعية، فرارًا من أداء التكليف الشرعي، أو توصلاً إلى إبطال حقوق العباد الشرعية وقلبها ظهرًا لبطن. فهو من النوع المرغوب عنه، المسمى بالحيل.
وإن كل ما يتذرع به الإنسان للتخلص من الحرام، والتواصل إلى الحلال بمسوغ دفع الضرر وسد الذرائع أو جلب المصالح، بشرط الاحتفاظ بكيان الشرع، والمصلحة التي بني عليها الحكم، وحكمة تشريعه، صونًا لحقوق الله تعالى وحقوق عباده، فهو من النوع المرغوب فيه، المسمى بالمخارج الشرعية التي شرعها الله لعباده (1) .
التلفيق ورأي الأصوليين والفقهاء فيه
التلفيق في اللغة: في لسان العرب (2) وفي الصحاح وأساس البلاغة:
لفق الثوب، من باب ضرب يلفقه لفقا، وهو أن يضم شقة إلى أخرى، فيخيطها، وتستعمل بمعنى الملاءمة. إذا لاءمت بينهما بالخياطة، بضم إحداهما إلى الأخرى.
وأحاديث ملفقة أي أكاذيب مزخرفة، واللفاق الذي لا يدرك ما يطلب، ولفق الصقر إذا أرسل فلم يصطد، أما لفق بالكسر فمعناه: أصاب وأخذ وهو أيضا بمعنى طفق.
وفي اصطلاح الفقهاء يستعمل الفقهاء التلفيق بمعنى الضم، كما في المرأة التي انقطع دمها، فرأت يوما دما ويوما نقاء أو يومين، بحيث لا يجاوز التقطع خمسة عشر يوما عند غير الأكثرين، وهو الأظهر عند الشافعية (3)
(1) انظر عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق، لمحمد سعيد الباني: ص 241 – 242.
(2)
لسان العرب: 382/3
(3)
روضة الطالبين: 162/1
وكإدراك الجمعة بركعة ملفقة وهو ما يراه الشافعية والحنابلة " أن الجمعة تدرك بركعة ملفقة من ركوع الأولى وسجود الثانية. وقد ذكر الشافعية ذلك في المزحوم الذي لم يتمكن من السجود في الركعة الأولى حتى شرع الإمام في ركوع الركعة الثانية من الجمعة، فقد ذكروا أن المزحوم يراعي نظم صلاة نفسه، في قول، فيسجد الآن ويحسب ركوعه الأول في الأصح، لأنه أقر به في وقته (1) .
وكالتلفيق في مسافة القصر لمن كان بعض سفره في البحر وبعضه في البر يرى المالكية على القول الذي لا يفرق بين السفر في البحر والسفر في البر في اعتبار المسافة، إنه إذا سافر وكان بعض سفره في البر وبعضه في البحر فإنه يلفق.
أي يضم مسافة أحدهما لمسافة الآخر مطلقا، من غير تفصيل. وجاء في الزرقاني أنه: يلفق بين مسافة البر ومسافة البحر إذا كان السير في البحر بمجداف، أو به وبالريح، فإذا كان يسير فيه بالريح فقط لم يقصر في المسافة المتقدمة وهي دون مسافة قصر، فلا تليق (2) .
ولم يفرق الشافعية وكذلك الحنابلة، على الصحيح في المذهب عندهم، في مسافة القصر بين البر والبحر، بل لو سار في البحر وقطع تلك المسافة في لحظة فإنه يقصر (3) .
وعند الحنفية لا يعتبر السير في البر بالسير في البحر، ولا السير في البحر بالسير في البر، وإنما يعتبر كل موضع منهما بما يليق بحاله. والمختار للفتوى عندهم أن ينظر كم تسير السفينة في ثلاثة أيام ولياليها إذا كانت الرياح مستوية معتدلة، فيجعل ذلك هو المقدر لأنه يليق بحاله (4) .
وقال الفقهاء: إن من حلف ألا يدخل على أهله شهرا وكان الشهر تسعا وعشرين ثم دخل. فإن كان حلفه في غرة الشهر لا يحنث اتفاقا، وإذا كان حلفه في أثناء الشهر هل يجب تلفيق الشهر ثلاثين، أو يكتفي بتسع وعشرين؟ الجمهور على وجوب التلفيق (5) .
(1) روضة الطالبين: 19/2-21. والموسوعة الفقهية: 290/13
(2)
الدسوقي: 359/1. الزرقاني: 38/2.
(3)
روضة الطالبين: 385/1.
(4)
الفتاوى الهندية: 138/1. الموسوعة الفقهية: 292/13
(5)
القسطلاني شرح البخاري: 440/9
في مختصر خليل وشرحه الكبير في كفارة اليمين: لا تجزئ الكفارة حال كونها ملفقة من نوعين فأكثر، كإطعام مع كسوة، وأما من صنفي نوع فيجزي في الطعام، فيجوز تلفيقا من الأمداد والأرطال والشبع (1) .
وعلى هذا المنهج استعمل الفقهاء كلمة التلفيق فقالوا: التلفيق في التقليد، وقالوا: المسألة الملفقة، أو تلفيق في الاجتهاد، وقالوا: التلفيق في التشريع.
الأول: التلفيق في الاجتهاد:
التلفيق في الاجتهاد، ويسمى: الاجتهاد المركب: هو أن يجتهد اثنان أو أكثر في موضوع، فيكون لهم فيه قولان، ثم يأتي من بعدهم من يجتهد في الموضوع نفسه، ويؤدي اجتهاده إلى الأخذ من كل قول ببعضه، ويكون مجموع ذلك مذهبه في الموضوع، فيكون اجتهاده هذا اجتهادا مركبا بالنظر إلى ما سبقه من اجتهاد. ويمكن أن يتحقق ذلك في كثير من الصور منها:
1-
ما إذا اختلف الصحابة أو مجتهدو عصر في مسألة على قولين أو على أقوال، وانقرض العصر وهم على ذلك، فهل يجوز لمن يأتي بعدهم من المجتهدين إحداث قول ثالث؟ أو قول جديد؟
2-
ما إذا اختلف الصحابة أو مجتهدو عصر في مسألتين على قولين. فهل لمن يجتهد بعدهم أن يأخذ في إحدى المسألتين بقول طائفة، وفي المسألة الأخرى بقول الطائفة الأخرى، أو لا يجوز؟
وقد ذكر الغزالي (2) في المستصفى محل الخلاف في المسألة الأولى، فقال: إن صورة المسألة المختلف فيها: أن يعرف أن مجتهدي العصر جميعا قد تكلموا في المسألة واختلفوا فيها. أما مجرد نقل الأقوال من عصر من العصور فإنه لا يكون مانعا من إحداث قول ثالث، لأننا لا نعلم هل تكلم الجميع فيها أو لا. ومتى كان تحرير محل الخلاف في المسألة على الوضع فقد أصبح الأمر هينا جدا، إذ من العسير أن يتوصل إلى ذلك، وخاصة فيما بعد عصر الصحابة.
(1) خليل 132/2
(2)
المستصفى: 1 /199
أما الأصوليون من الأحناف فقد تناولوا المسألة الأولى وحدها ولم يتناولوا المسألة الثانية كما صنع شمس الأئمة السرخسي في أصوله، وأبو البركات النسفي في المنار، وغيره، وذهبوا إلى منع إحداث القول الثالث مطلقا.
وقالوا: إن الأصل هو أن السكوت يدل على الوفاق وينعقد به الإجماع. وعلى هذا الأصل تتخرج المسألة. فإذا اختلف مجتهدو عصر على قولين أو أقوال، فقد أجمعوا على حصر الأقوال في المسألة، وفي ما عداها، فإحداث قول ثالث أو جديد فيها يكون خرقا للإجماع السابق.
قال السرخسي: ومن هذا الجنس ما إذا اختلفوا في حادثة على أقاويل محصورة، فإن المذهب عندنا أن هذا يكون دليل الإجماع منهم على أنه لا قول في هذه الحادثة سوى هذه الأقاويل، حتى ليس لأحد أن يحدث قولا آخر برأيه. وعند بعضهم هذا من باب السكوت الذي هو محتمل أيضا. فكما لا يدل على نفي الخلاف لا يدل على نفي قول آخر في الحادثة. فإن ذلك نوع تعيين لا يثبت بالمحتمل (1) ....
أما صاحب المنار فيقول: " والأمة إذا اختلفوا في مسألة على أقوال في أي عصر كان، كان إجماعا منهم على أن ما عداها باطل، ولا يجوز لمن بعدهم إحداث قول آخر، كما في الحامل المتوفى عنها زوجها.
وقيل تعتد بعدة الحامل، وقيل بأبعد الأجلين، وقيل هذا في الصحابة خاصة، فإنهم إن اختلفوا على قولين كان إجماعا منهم على بطلان القول الثالث. والحق أن بطلان القول الثالث مطلق، يجري في اختلاف كل عصر " (2) .
وقد رد هؤلاء على من ذهب إلى جواز ذلك استنادا إلى أن هذا سكوت عن غير ما أبدوه. فلا يكون إجماعا. كما ردوا على من قال إن الاختلاف في المسألة دليل على أنها مسألة اجتهادية فيسوغ الاجتهاد فيها.
أما أبو إسحاق الشيرازي الشافعي (3) فقد أورد المسألتين منفصلتين، وجعل وضع كل منهما في اختلاف الصحابة وحده، وقال في الأولى بالمنع، ورد على من ذهبوا إلى الجواز. وقال في المسألة الثانية أنه لم يصرح المختلفون بالتسوية بين المسألتين جاز للتابع أن يأخذ في إحدى المسألتين بقول طائفة وفي الأخرى بقول الطائفة الأخرى، وقال: إن من الناس من زعم أن هذا إحداث قول ثالث، وهذا خطأ، لأنه وافق في كل واحدة من المسالتين فريقا من الصحابة.
(1) أصول السرخسي: 1 /310
(2)
المنار: 2 /112
(3)
اللمع: ص 61- 62
وقد ذكر الفخر الرازي المسألتين منفصلتين في المحصول، ونقل القول فيهما بالجواز، والقول بالمنع مطلقا – وهو رأي أكثر المحققين – وقال: إن الحق هو التفصيل، وقد أطال في بيان هذا التفصيل، وخلاصته (1) :
إن الحكم المختلف فيه، إما أن يكون متعلقا بمحل واحد، أو متعلقا بأكثر من محل، وبين المحلات ارتباط، وأحد القولين هو ثبوت الحكم في أحد المحلين وعدم ثبوته في المحل الأخر، والقول الثاني بعكسه، أو متعلقا بأكثر من محل، وأحد القولين ثبوت الحكم في المحلين، والقول الآخر عدم ثبوته فيهما، أو متعلقا بأكثر من محل، وأحد القولين ثبوت الحكم في محل وعدم ثبوته في المحل الآخر، والقول الثاني هو ثبوت الحكم في كل من المحلين، أو عدم ثبوته فيهما، ويمثل هذا التفصيل تقدم صدر الشريعة في التنقيح والتوضيح (2) .
ومن أمثلة الحكم المختلف فيه، المتعلق بمحل واحد:
1-
ميراث الجد مع الإخوة. اختلف فيه على قولين: أحدهما أن له الميراث وحده، والثاني إنه يقاسم الإخوة.
والقولان مشتركان في أمر واحد حقيقي شرعي مجمع عليه، وهو ميراث الجد وعدم حجبه بهم، فالقول بحجبه بهم، إبطال لما أجمعوا عليه.
2-
امرأة الغائب إذا أخبرت بوفاة زوجها، فتزوجت بآخر وولدت منه، ثم ظهر زوجها الأول. قال أبو حنيفة يثبت نسبه من الأول. الشافعي: يثبت نسبه من الثاني.
فالقول بعدم ثبوت نسبه منهما، أو بثبوت نسبه منهما مخالف لما أجمع عليه من ثبوت نسبه من أحدهما.
ومن أمثلة الحال الأولى من أحوال تعدد المحل: احتجام المتوضئ ومسه المرأة بلا شهوة، وقال أبو حنيفة ينتقض وضوؤه بالاحتجام ولا ينتقض بالمس، وقال الشافعي بالعكس، فالقول بعدم الانتقاض بهما، أو القول بالانتقاض بهما قول ثالث ليس فيه إبطال لحكم شرعي مجمع عليه، وهو موافق لكل من المذهبين في حكم، واتفاق القولين على افتراق الحجامة والمس ليس اتفاقا على أمر شرعي، وإن قيل: إن القولين قد اتفقا على بطلان الطهارة، وعدم جواز الصلاة ممن احتجم ومس المرأة، قيل له: إنه إجماع مركب، إذ فيه الاتفاق على الحكم مع الاختلاف في العلة، فلا تجوز عند الحنفية للاحتجام، وعند الشافعي للمس، فكل من الحكمين منفصل عن الآخر، لا تعلق له به.
ومن أمثلة الحال الثانية من أحوال هذا التعدد: ميراث الأم مع الأب وأحد الزوجين. فقد اختلف في قدره، فقيل: للأم ثلث الكل قبل فرض أحد الزوجين، وهو قول ابن عباس. وقيل: إن لها ثلث الباقي بعد هذا الفرض، وهو قول عامة الصحابة. فالقول بأن للأم ثلث الكل مع الزوج، وثلث الباقي مع الزوجة، قول ثالث، وهو قول ابن سيرين. والقول بأن لها ثلث الباقي مع الزوج وثلث الكل مع الزوجة قول ثالث أيضا، وهو قول شريح.
ومن أمثلة الحال الثالثة من أحوال هذا التعدد: الصلاة في جوف الكعبة. اختلف فيها. فقال الشافعي بجواز النفل دون الفرض، وقال أبو حنيفة بجوازهما. فجواز النفل حكم مجمع عليه، فالقول بعدم جوازهما أو بجواز الفرض دون النفل – مخالف لحكم مجمع عليه، وهو جواز النفل.
(1) المحصول في علم أصول الفقه. القسم الأول من الجزء الثاني: ص 179 إلى 210.
(2)
التنقيح والتوضيح: 2/ 328. مقال لأحمد فرج السنهوري حول التقليد والتلفيق.
ومن كل ما سبق تتلخص لنا الأمور الآتية:
أولا: إن المسألتين الأصوليتين السابقتين سواء أبقيتا منفصلتين أم جعلتا مسألة واحدة، هما محل اختلاف بين العلماء. فقالت طائفة فيهما بالجواز مطلقا، وقالت طائفة بالمنع مطلقا، وقالت طائفة بالتفصيل الذي سبق بيانه.
ثانيا: إن المانعين بإطلاق استندوا إلى أن سكوت المجتهدين المختلفين يكون إجماعا منهم على نفي ما لم يقولوا به، وإن المفصلين استندوا في الحالات التي قالوا فيها بالمنع إلى إجماع المختلفين على حكم مشترك ناشئ عن أقوالهم، وكل من هذين الإجماعين لا يمكن القول بحصوله إلا إذا عرف أن كل مجتهدي العصر قد خاضوا في الموضوع واختلفوا فيه. أما مجرد نقل أقوال لبعضهم فلا يدل على تحقق أي من الإجماعين.
ثالثا: إذا تعددت محال الحكم المختلف فيه لا ينظر إلا إلى الحكم المشترك بين القولين أو الأقوال. فلا ينظر إلى ما يسمونه الحقيقة المركبة التي تجمع محال الحكم، كالطهارة أو الصلاة ممن احتجم أو مس المرأة التي يطلق عليها الحنفية في كتب الفقه الفصلين الاجتهاديين (1) .
الثاني: التلفيق في التقليد:
ما دام الحديث في هذا المسألة عن التلفيق في التقليد، كان من الواجب أن أبين من هو المقلد والمستفتي في اصطلاح الأصوليين والفقهاء، حتى يسهل بعد ذلك الحديث عن التلفيق في التقليد.
والمقلد هو العامي الصرف، أو من له نظر وبصر بالمذاهب، غير أنه لم يبلغ مرتبة الاجتهاد فيجب عليهما تقليد مجتهدين، واجتهاد المجتهد بالنظر لهما كالأدلة الإجمالية بالنسبة للمجتهد.
والعامي الصرف لا يصح له مذهب ولو تمذهب به، ومذهبه في كل نازلة هو مذهب من أفتاه فيها.
أما من كان له نوع بصر بالمذاهب، وتأهل للنظر والاستدلال فيه، فإنه إذا تمذهب بمذهب إمام بعينه، فمعنى ذلك أنه متبع له في العلم والمعرفة والاستدلال في العمل إذا ما دعت إليه الحاجة.
(1) التنقيح والتوضيح 2 /328 – مقال لأحمد فرج السنهوري حول التقليد والتلفيق.
ومن التزم بمذهب إمام بعينه فالأصح أنه لا يلزمه، لأن التزامه به غير ملزم، إذ لا واجب إلا ما أوجبه الله، ولم يوجب الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم على أحد من الناس أن يتمذهب بمذهب رجل من الأمة فيقلده في دينه في كل ما يأتي ويذر دون غيره. وإذا التزم بمذهب معين فله الانتقال عنه كلية إلى مذهب آخر، وله أن ينتقل منه في بعض الأحكام في آحاد المسائل.
أما أهل الاجتهاد المقيد، فيجب عليهم تقليد أهل الاجتهاد المطلق في أصول مذاهبهم فقط، دون الفروع.
وأهل الاجتهاد المطلق لا يجوز لهم تقليد غيرهم مطلقا، وإنما الواجب عليهم العمل باجتهادهم (1) .
وقد نقل الثقات عن عدد عظيم من العلماء أنهم تحولوا من المذاهب التي كانوا يقلدونها إلى غيرها. كما نقلوا عن غيرهم أنهم ما كانوا يلتزمون مذهبا معينا فيما يؤلفون من الكتب الفقهية وفي إفتاء العامة، وهؤلاء كانوا خلقا كثيرا في عصور مختلفة، ولم ينكر عليهم أحد تحولهم أو عدم التزامهم بمذهب معين. ثم ما زال عوام كل عصر يقلد أحدهم هذا المذهب في مسألة والآخر في أخرى والثالث في ثالثة، وكذلك إلى ما لا يحصى، ولم ينقل إنكار ذلك عليهم، ولم يؤمروا بتحري الأعلم والأفضل في نظرهم.
التلفيق في التقليد على ضربين:
الأول: تلفيق بين الأحكام الكلية للعمل والمعرفة والاطمئنان إلى الأرجحية، من غير نظر إلى جزئيات تلك الأحكام وما يمكن أن يترتب على العمل بها في النوازل المختلفة. والظاهر أن هذا النوع من التخيير والتقليد جائز، ولا أثر لخلاف معتبر فيه. وصورته أن من كان مقلدا لأبي حنيفة مثلا وتزوج بلا ولي، ثم رجع عن تقليده في أحكام الأنكحة وقلد الشافعي من غير نظر إلى هذه الجزئية، بقي زواجه صحيحا ولا يحتاج إلى تجديد، ويعمل بأحكام الشافعي حال بقاء هذه الزوجية، وإن بقيت آثار العقد التي تمنع من التقليد. فالممنوع هو الرجوع عن المذهب في خصوص الجزئية التي قلد فيها مع إرادة الاستمرار على العمل بالآثار. أما لو رجع عنه إلى غيره من غير ملاحظة تلك المسألة بخصوصها لم يمتنع الاستمرار على الآثار، وإذا أدى إلى تلفيق لم يكن قادحا.
(1) فتح القدير: 5 /456. الشعراني: 1 /14-38. الغزالي: المنخول ص 476. فتاوى عليش: 1 /51. التقرير والتحبير: 3 /350.
الثاني: التخيير والتلفيق للعمل به في نازلة معينة، وهو النوع الذي تكلموا في منعه، والفقهاء في هذا النوع على مذاهب. فالمجيزون للتلفيق في التقليد يشترطون شروطا ثلاثة لهذا الجواز:
1-
ألا يجمع بينهما على وجه يخالف الإجماع، كمن تزوج بغير صداق ولا ولي ولا شهود، فإن هذه الصورة لم يقل بها أحد (1) وهذا ما قاله جمهور الفقهاء.
2-
أن لا يكون موقعا في أمر يجتمع على إبطاله الإمام الذي كان على مذهبه، والإمام الذي انتقل إليه (2) ، وهذا الشرط نقله ابن الهمام عن القرافي، واعتمد عليه في تحريره.
3-
أن لا يلفق بين قولين تتولد منهما حقيقة واحدة مركبة لا يقول بها كل من الإمامين، وصورته أن من قلد الشافعي رحمه الله تعالى في عدم فرضية الدلك للأعضاء المغسولة في الوضوء الغسل، وقلد مالكا في عدم نقض اللمس بلا شهوة للوضوء، فتوضأ ولمس بلا شهوة وصلى، إن كان الوضوء بدلك صحت صلاته عند مالك رحمه الله تعالى وإن كان بلا دلك بطلت عند مالك والشافعي (3) .
وقال جماعة: هذا الشرط لا تنهض به حجة، فإن المقلد لم يقلد كلا منهما في مجموع عمله، وإنما قلد كلا منهما في مسألة معينة غير التي قلد فيها غيره. ولا حرج في هذا. ومجموع العمل لم يوجب أحد النظر إليه، لا في اجتهاد ولا في تقليد، وإنما هو اختراع لحكم شرعي ممن ليس أهلا للقول به، ولله سبحانه خطابه، ولكل خطاب أثره في محله، والمجتهدون قد اختلفوا في كل حكم مختلف فيه على حدة، وقد جرى الناس منذ كان الاجتهاد على تقليد مجتهد في حكم، ومجتهد ثان في غيره، ومجتهد ثالث في حكم آخر، من غير نظر إلى العمل الذي يجمع مسائل الاختلاف. فما ذهبوا إليه ليس إلا إحداثا لأمر في دين الله.
وبعضهم اشترط أن لا يتبع الرخص ويلتقطها. وهذا الشرط وإن اعتبره الإمام النووي وغيره، فإن ابن الهمام وغيره: لم يعتبروه ولم يلتفتوا إليه.
وذكر ابن الهمام أن المقلد لا يجوز له أن يتبع غير مذهبه في غير ما عمل به. أما إذا عمل بمذهبه في أي قضية ما، فلا يجوز أن يقلد غيره فيها (4) . فالقول بعدم جواز هذا ليس من أجل التلفيق وحده، بل بسبب الرجوع عما قلد فيه بعد العمل به. أما إذا لم يعمل بالقولين معا، بل عمل بهما على التعاقب ولا أثر للقول، لم يكن هذا من التلفيق، وإنما يكون رجوعا عما عمل به. فمن قلد أبا حنيفة في صحة الزواج بلا ولي، ثم طلق هذه الزوجة ثلاثا فعمد إلى تقليد الشافعي في بطلان هذا الزواج، وأن الطلاق لم يصادف محلا، وقد عقد عليها عقدا جديدا، لا يكون عاملا بالقولين معا، بل عمل بالأول ثم رجع عنه مع بقاء أثره، فالقول بعدم جواز هذا ليس من أجل التلفيق وحده، بل بسبب الرجوع عما قلد فيه بعد العمل، مع بقاء أثره.
(1) شرح التنقيح للقرافي: ص 386.
(2)
شرح المنهاج للإسنوي: 3 /350. التقرير والتحبير: 3 /350.
(3)
تحفة ابن حجر: 4/ 266.
(4)
ابن الهمام: التقرير والتحبير: 3 /35.
وإذا عمل بالقولين معا في حادثتين، لم يكن هذا من التلفيق الممنوع في شيء، كمن طلق امرأته ثلاثا بلفظ واحد فأفتاه مفت بأنها بائنة منه بينونة كبرى، فأمضي ذلك وفارقها، ثم طلق أخرى ثلاثا بلفظ واحد، فأفتاه آخر بأنه طلاق رجعي فراجعها وأمسكها، يكون له امرأتان قد قال لهما قولا واحدا ومع هذا تحل له إحداهما وتحرم عليه الأخرى، ولكن هذا ليس من التلفيق القادح لتعدد النازلة.
والذين أجازوا التلفيق قالوا: لابد من بقاء الخلاف قائما فيهما حين العمل في الحادثة. والذي يرفع الخلاف في الحادثة هو حكم الحاكم المستوفي شرطه إذا كان في مسألة اجتهادية، فيكون واجب النفاذ عندئذ، ومثال ذلك إن الرجل إذا قال لأجنبية: إن تزوجتك فأنت طالق ثلاثا، ثم تزوجها، ورفع الأمر إلى قاض حنفي أو مالكي فقضى بصحة هذا التعليق وبطلاقها منه ثلاثا، كان قضاؤه رافعا للخلاف في هذا العقد، وليس لأحد نقضه. لكنه لو عقد عليها نفسها بعد ذلك عقدا جديدا، وكان هذا الزواج مختلفا فيه، فلا يرجع هذا الخلاف إلى القضاء الأول، لأنه في نكاح آخر، فلو رفع إلى شافعي فقضى بصحته، كان قضاؤه صحيحا. وكذلك لو رضع كبير من امرأة ثم تزوج بنتها نسبا أو بنتها من الرضاع ورفع الأمر إلى من يرى الحرمة بهذه الرضاعة، فقضى بينهما بالتفريق ولم يقض بتأبيد الحرمة، كان قضاؤه رافعا للخلاف في هذا العقد وحده دون غيره. فلو أنه عقد عليها ثانيا، ورفع الأمر إلى من لا يرى الحرمة بهذه الرضاعة، وقضى بصحة الزواج صح قضاؤه، ولا يمنعه القضاء الأول، إذ أنه كان في نكاح غير هذا النكاح (1) .
ومن المجيزين للتقليد يحيي الزناتي. قال القرافي (2) نقلا عن الزناتي: يجوز تقليد المذاهب في النوازل، والانتقال من مذهب إلى مذهب، بثلاثة شروط لا تختلف كثيرا عن الشروط التي ذكرناها قبل قليل في هذا الفصل نفسه، وهي:
1-
أن لا يجمع بينهما على وجه يخالف الإجماع.
2-
أن يعتقد فيمن يقلده الفضل بوصول أخباره إليه، ولا يقلد أميا في عماية.
3-
أن لا يتتبع رخص المذاهب. ثم قال القرافي وغيره: يجوز تقليد المذاهب، والانتقال إليها في كل مالا ينقض فيه حكم الحاكم، وهو أربعة:(1) ما خالف الإجماع. (2) والقواعد. (3) والنص. (4) والقياس الجلي.
والذي يفهم من كلام المانعين أنهم تارة يمنعون التلفيق كلية. قال ابن حجر الهيثمي في تحفة المحتاج: إن ما قاله الآمدي وابن الحاجب من أن من عمل في مسألة بقول إمام لا يجوز له العمل فيها بقول غيره اتفاقا. ويظهر أن هذا الاتفاق إنما هو في صورة ما إذا بقى من آثار العمل الأول في ما يلزم عليه مع الثاني تركيب حقيقة لا يقول بها كل من الإمامين. كتقليد الشافعي في مسح بعض الرأس، ومالك في طهارة الكلب، في صلاة واحدة (3) .
أما إذا كان التركيب في قضيتين، فالذي يظهر إن ذلك غير قادح في التقليد.
(1) الهداية: 3 /87. الفروق للقرافي: 2 /103. الدسوقي على الشرح الكبير: 4/ 156..
(2)
شرح التنقيح: ص 386.
(3)
تحفة المحتاج: 1 /13.
وحاصل القول: إن بطلان الرجوع عن التقليد بعد العمل، ليس بمتفق عليه، بل فيه خلاف. وإن التزام مذهب معين ليس بلازم. فقد ذكر الزركشي مذاهب العلماء في هذه المسألة، فقال:
هل يجب على العامي التزام التقليد مذهبا معينا في كل واقعة؟ فيه وجهان: قال فريق: يلزمه، وقال ابن برهان: لا، ورجحه النووي في أوائل القضاء، وهو الصحيح، فإن الصحابة رضوان الله عليهم لم ينكروا على العامة تقليد بعضهم من غير تقليد. وقد رام بعض الخلفاء زمن مالك حمل الناس في الآفاق على مذهب مالك، فمنعه مالك واحتج بأن الله فرق العلم في البلاد بتفريق العلماء فيها، فلم الحجر على الناس؟
وذكر بعض الحنابلة أن هذا هو مذهب أحمد، فإنه قال لبعض أصحابه: لا تحمل الناس على مذهبك فيحرجوا، دعهم يترخصوا بمذاهب الناس. وقد كان السلف يقلدون من شاؤوا قبل ظهور المذاهب الأربعة. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:((إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه)) . وتوسط ابن المنير فقال: الدليل يقتضي التزام مذهب معين بعد الأئمة الأربعة، لا قبلهم. والفرق: أن الناس كانوا قبل الأئمة الأربعة لم يدونوا مذاهبهم ولا كثرت الوقائع عليهم (1) .
ثم قال الزركشي: فلو التزم مذهبا معينا كمالك والشافعي، واعتقد رجحانه من حيث الإجمال، فهل يجوز أن يخالف إمامه في بعض المسائل، ويأخذ بقول غيره من مجتهد آخر؟ فيه مذاهب:
أحدهما: المنع، وبه جزم الجيلي في الإعجاز، لأن قول كل إمام مستقل بآحاد الوقائع، فلا ضرورة إلى الانتقال إلا للتشهي، ولما فيه من اتباع الترخص والتلاعب بالدين.
الثاني: الجواز، وهو الأصح، لأن الصحابة لم يوجبوا على العوام تعيين المجتهدين، لأن السبب، وهو أهلية المقلد للتقليد، عام بالنسبة إلى قوله، وعدم أهلية المقلد مقتض لعموم هذا الجواب، ووجوب الاقتصار على مفت واحد يخالف صيغة الأولين (2) .
(1) البحر المحيط للزركشي: 6 / 319..
(2)
البحر المحيط للزركشي: 6 /320.
ثم قال: واعلم أنا حيث قلنا بالجواز، فشرطه أن يعتقد رجحان ذلك المذهب الذي قلد في هذه المسألة. وعلى هذا فليس للعامي ذلك مطلقا، إذ لا طريق له إليه.
الثالث: أنه كالعامي، الذي لم يلتزم مذهبا معينا، فكل مسألة عمل فيها بقول إمامه ليس له تقليد غيره، وكل مسألة لم يعمل فيها بقوله فلا مانع فيها من تقليد غيره.
الرابع: إن كان قبل حدوث الحوادث فلا يجب التخصيص بمذهب. وإن حدث وقلد إماما في حادثة، وجب عليه تقليده في الحوادث التي يتوقع وقوعها في حقه. وهو اختيار إمام الحرمين، لأنه قبل تقرير المذاهب ممكن، أما بعده فلا، للخبط وعدم الضبط.
الخامس: إن غلب على ظنه أن بعض المسائل على مذهب غير مقلده أقوى من مقلده جاز، قاله القدوري الحنفي.
السادس: وهو اختيار ابن عبد السلام في القواعد، التفصيل بين أن يكون المذهب الذي أراد الانتقال عنه بما ينقض الحكم أولا. فإن كان الأول ليس له الانتقال إلى حكم يجب نقضه لبطلانه، وإن كان المأخذان متقاربين جاز التقليد والانتقال، لأن الناس لم يزالوا كذلك في عصر الصحابة إلى أن ظهرت المذاهب الأربعة.
السابع: واختاره ابن دقيق العيد، وهو الجواز بشروط، وهي نفس الشروط التي ذكرها يحيى الزناتي من قبل.
ويظهر في كل ما تقدم أن الالتزام بمذهب معين ليس بواجب وليس في الشريعة نصوص تدل على هذا الوجوب. لكن العلماء خوفا من التلاعب بالدين وتقويض دعائم الشريعة، والقضاء على سماحتها وحكمتها، حكموا بمنع التلفيق في التقليد، سدا للذريعة لما رأوا قلة الورع، واتباع الهوى. ومنهم من أجازه بكامل الاحتياط واشترط شروطا من شأنها أن تضمن المحافظة على حكمة الشريعة وسياستها.
وعلى هذا فإن إباحة التلفيق مطلقا خطير جدا، ولاسيما في هذا العصر الذي تغلب فيه الهوى، فضعف فيه الوازع الديني، وانحط فيه مستوى الالتزام بمبادئ الشريعة وأحكامها، وكثر دعاة الإباحية والعلمانية والعقلانية. مع العلم أن غالب المتخرجين من أصحاب الشهادات لا يعتمدون على أصول صحيحة ، وليس لهم تطلع بعلم الفروع ولا باع يمكنهم من الإفتاء في الدين.
وجميع هذه الاعتبارات لا يمكن أن تكون مبررا للقول بمنع التلفيق، ومنع الناس من أن ينالوا من رفق الله تعالى وتيسيره بحظ، ولو لم يكن فيه مشقة. وعلى المستفتي إذا كان من أرباب العزائم، وتحمل المشاق، والمقتنع بأسرار الشريعة ومقاصدها، أن يفتي بالأحوط أخذا بالورع والكمال ما لم تحق به نازلة تقتضي التخفيف فإنه يفتي بالأخف عليه من كل مذهب خشية العجز عن التكليف، فيما إذا شدد عليه بالمنع من التلفيق ومع كونه خاليا من دليل من الكتاب والسنة، يؤيد القول بهذا المذهب، فهو في الآن نفسه يتنافى مع يسر الإسلام ومرونته، ولا يتلاءم مع حاجيات هذا العصر وتطور الحياة الاجتماعية، لأن القضايا الفقهية المتجددة لا يمكن لها أن تحل إذا تقيدنا بمذهب فقهي واحد. وهذا التقيد يقف حجر عثرة أمام المسلمين لأن تعدد المذاهب الفقهية رحمة لهذه الأمة، فلا مانع من أن نستفيد من آراء مختلف الفقهاء والمجتهدين لدفع الحرج والمشقة.
ثم إن كل طبقة من طبقات العوام تفىي بما يناسبها تشديدا أوتخفيفا وفاقا لمقتضى اتساع الشريعة وحكمتها، مع العلم أن مواطن المحظورات لا يسوغ للعلماء التلفيق بها، سواء بالنسبة لهم أو لمن يستفتيهم، إلا في مواطن الضرورة، إذ الضرورات تبيح المحظورات، لكن ما أبيح للضرورة يتقدر بقدرها. وإنما لم يسغ التلفيق في المحظورات للقاعدة المقررة: إن دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة، وعلى قاعدة أنه ما اجتمع الحرام والحلال إلا غلب الحرام على الحلال.
أما المحظورات العائدة إلى حقوق العباد فمبناها صيانة الحق، ومنع الإيذاء. لذلك لا محل فيه للتلفيق لأنه ضرب من الاحتيال، والعدوان على الحق، وتطرق إلى إيذاء العباد. وذلك للحديث الوارد ((لا ضرر ولا ضرار)) وحديث ((كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)) .
كما لا يجوز للمقلد أو المفتي أن يختار للفتوى أقوالا أو أفعالا من نوادر العلماء وشواذهم الذين لم تبن أقوالهم وآراؤهم على قواعد شرعية واضحة، وإنما حكم عليها من أول يوم بالضعف، وأجمعوا على عدم الاعتماد عليها.
التلفيق في التشريع
والتلفيق في التشريع إنما يكون عادة من تخير ولي الأمر من أحكام مختلف المذاهب الفقهية المعتبرة مجموعة من الأحكام تكون قانونا في ميدان واحد من ميادين التشريع، كالأحوال الشخصية أو أحوال الميراث أو ميدان العقود والالتزامات أو غيرها.
وقد ألفت في غالب البلاد الإسلامية لجان لاختيار القوانين المناسبة لهذا العصر من مختلف المذاهب الإسلامية. وأول محاولة كانت في عهد الأتراك العثمانيين بإصدار المجلة العدلية كقانون. وهذا المجلة وإن لم يكن فيها خروج عن المذهب الحنفي إلا أن اختيارات داخل المذهب وخروجا عن قول الإمام إلى أقوال أصحابه وهو نوع من الاجتهاد الجماعي.
وألفت لجنة في تونس من علماء المذهبين المالكي والحنفي في حدود سنة 1951 برئاسة شيخ الإسلام المالكي الشيخ عبد العزيز جعيط لإصدار مجلة في الأحوال الشخصية تكون عمدة لأهل القضاء الشرعي ولا تعتمد على مذهب معين بل كانت اللجنة مخيرة في اختيار فصولها من المذهبين الحنفي والمالكي المنتشرين بالبلاد التونسية. ويدل هذا العمل على أنه لا مانع من أن يفضي الأمر إلى التلفيق في الأمور الجزئية إذا دعت المصلحة إلى ذلك.
وأعتقد أن مجمعنا هذا لم يقم إلا لاختيار الأقوال الملائمة لحياة العصر، ولا تخرج عن نصوص الشريعة الإسلامية وقواعدها. وهذا هو الحال في كل المجامع التي أسست في بلاد العالم الإسلامي والتي تعمل على مراجعة الأحكام وتنقيحها في حدود النصوص، واختيار أنسب الأقوال لملاءمة مشاكل ومستجدات هذا العصر.
وهذا نوع من التلفيق لم ير فيه العلماء ما يمس بروح الشريعة الإسلامية ومقاصدها.
والسلام
مصطفى كمال التارزي.