الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ربط الأجور بتغير المستوى العام للأسعار
في ضوء الأدلة الشرعية
إعداد
د. حمزة بن حسين الفعر
كلية الشريعة والدراسات الإسلامية
جامعة أمر القرى
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه المسألة نوع من أنواع ربط الحقوق والالتزامات الآجلة بتغير الأسعار (Indexation) والذي دفع إلى التفكير في مسألة ربط الحقوق (عامة) بتغير الأسعار ظاهرة التضخم التي حدثت نتيجة لعوامل عديدة ومتشابكة، من أهمها ازدياد عرض النقود، واختلال السياسات النقدية في كثير من بلدان العالم، وقد أدت ظاهرة التضخم إلى تناقص مستمر، بل وحاد في كثير من الأحيان في القوة الشرائية للنقود، ولا شك أن ذلك أدى ويؤدي إلى تضرر أصحاب الديون والالتزامات طويلة الأجل، حيث تنخفض قيمة حقوقهم انخفاضاً شديداً عما يجب أن تكون عليه.
ويهدف الربط بالمستوى العام للأسعار إلى إيجاد مقياس ثابت للمدفوعات المؤجلة، وذلك عن طريق وضع شروط معدلة في العقود التي يتم التوصل إليها بحيث يجري تعديلها دورياً وآلياً بربطها بجدول مناسب للأسعار.
ويسمي البعض هذه العملية بـ (التصحيح النقدي) ، وتعود جذورها في الاقتصاد الوضعي إلى بداية القرن الثامن عشر في عام 1707م عندما وضع الأسقف فليت وود كتاباً عن استخدام هذا المفهوم.
وفي عام 1822م اقترح جوزيف لوي هذا الربط في عقود الأجور وتأجير الأرض والسندات طويلة الأجل.
وفي عام 1833م استخدم بوليت سكروب (جدول مقياس القيمة) لهذا الغرض.
وقد دعا كل من ستانلي جيفونز (1875م) ، والفريد مارشال (1887م) ، وإيرفنج فيشر (1922م) ، وكينز (1927م) إلى قبول هذه الجدولة للتخفيف من الآثار الجانبية للتضخم والانكماش، وتوفير علاج مناسب عن طريق اتخاذ تدابير حازمة، ويعتبر ميلتون فريدمان حالياً من أبرز دعاة التصحيح النقدي هذا (1)
ولم تكن هذه المسألة معروفة بشكلها الحالي (2) في العصور الإسلامية السالفة، ولذا فإنها تعد من النوازل الحادثة التي تحتاج إلى بيان حكمها في الشريعة الإسلامية على ضوء الأدلة والقواعد الشرعية.
وقد طبقت هذه الفكرة –ربط الحقوق والالتزامات الآجلة بتغير الأسعار- في عدد من البلدان غير الإسلامية، في هذا القرن، وبخاصة في دول أمريكا اللاتينية مثل البرازيل، والأرجنتين، وشيلي، وكولومبيا في ظروف التضخم، وقد استخدمته البرازيل وتشيلي بصورة شاملة في الحقوق والالتزامات، بينما استخدمته كل من الأرجنتين وكولومبيا على أساس انتقائي في بعض الأمور دون بعض.
وقد ثار جدل حاد بين الدارسين لآثار تطبيق الربط في هذه الدول على مسيرة الحياة الاقتصادية، فمنهم من يؤيده، ويرى أنه قد نجح في التخفيف من غلواء التضخم بتخفيض العجز في ميزان المدفوعات، وحفز على إنشاء بعض المشاريع الإنمائية الهامة، وساعد على إيجاد سوق طويل الأجل لدين الحكومات، وساعد على رواج السندات الحكومية، وأدى إلى تحسن ملحوظ في عمل أسواق رأس المال (3)
بينما يرى البعض أن الربط وإن أدى إلى تخفيف بعض معدلات التضخم، إلا أنه أحدث آثاراً ضارة أخرى لا تقل سوءاً عن الآثار التي عمل على تخفيفها (4)
(1) د: ج. ج. لاليوالا- مزايا وعيوب الربط الحالي للقيمة بتغير الأسعار ص 41، 42
(2)
هناك حالات من غلاء النقد ورخصه وكساده وانقطاعه ناقشها علماؤنا السابقون واستنبطوا لها أحكامها المناسبة، بل ألف بعضهم استقلالاً في هذه المسألة كالسيوطي في رسالته (تنبيه الرقود على مسائل النقود) وغيرهم، ولكن هذه الظاهرة الموجودة في الزمن الحاضر بسبب التضخم الفاحش لم تكن موجودة عندهم على هذا النحو، وانظر د. نزيه حماد: تغير النقود وأثره على الديون في الفقه الإسلامي
(3)
د. محمد عبد المنان: ربط الحقوق والالتزامات الآجلة بتغير الأسعار، النظريات والتجربة، والتطبيق من منظور إسلامي ص14- 27، نقلاً عن ق. ج. دونالد في بحثه: التضخم وضرورة التقييس في البلدان النامية ص 3 وما بعدها
(4)
انظر تعقيب الدكتور ضياء الدين أحمد مدير عام المعهد العالمي لأبحاث الاقتصاد الإسلامي بالجامعة الإسلامية الدولية بإسلام آباد على بحث الدكتور محمد عبد المنان السالف الذكر ص 38- 40، نقلاً عن ويرنر باير وبول بيكرمان في البحث المعنون بـ (مشكلة الربط بالأسعار القياسية، انعكاسات على التجزئة البرازيلية الأخيرة ص 677) والتقارير الاقتصادية للمعهد الأمريكي للبحوث الاقتصادية في 3 ديسمبر عام 1974م، ص 209
وقد قام بعض الباحثين بدراسة أخرى لنتائج ربط المعاملات بسعر النقود في واحد وعشرين بلداً متقدماً، منها الولايات المتحدة وبريطانيا، ففي ست عشرة حالة ربطت الأمور بمستوى الأسعار، وفي ثلاث عشرة حالة ربطت المعاشات أو الأشكال الأخرى للمدفوعات التحويلية (1) وفي ثلاث عشرة حالة ربط شكل ما من دخل الاستثمار، ولازال الجدل قائماً حول إمكانية استخدام هذه التجارب على نطاق أوسع انتشاراً.. (2)
وقد أثيرت مسألة الربط هذه في محيط الاقتصاد الإسلامي لدراسة إمكانية تطبيقها في مجال الحقوق والالتزامات الآجلة من الناحية الشرعية، وعقدت ندوة في رحاب البنك الإسلامي للتنمية بجدة بالتعاون بين المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب التابع للبنك الإسلامي وبين المعهد العالي للاقتصاد الإسلامي التابع للجامعة الإسلامية العالمية في إسلام آباد وذلك في 27- 30 من شهر شعبان عام 1407 هـ الموافق 25- 28 من شهر نيسان عام 1987م، وقد حضرها لفيف من رجال الاقتصاد الإسلامي، وعدد من فقهاء الشريعة، وانتهت الندوة بجملة من التوصيات، من أهمها ما جاء في التوصية الثالثة من أنه (لا يجوز ربط الديون التي تثبت في الذمة أياً كان مصدرها بمستوى الأسعار بأن يشترط العاقدان في العقد المنشئ للدين كالبيع والقرض وغيرهما العملة التي وقع بها البيع أو القرض بسلعة أو مجموعة من السلع أو عملة معينة، أو مجموعة من العملات بحيث يلتزم المدين بأن يوفي للدائن قيمة هذه السلعة أو العملة وقت حلول الأجل بالعملة التي وقع بها البيع أو القرض) .
وما جاء في التوصية الخامسة من (أن ربط الأجور المتكررة بتغير الأسعار يتضمن غرراً ناشئاً عن الجهالة بمقدار الأجر، سواء تحددت الزيادة في الأجور بسقف معلوم أم لا) وهو محل نظر، ويحتاج إلى بحث وتحليل جديدين لتحديد مشروعيته.
وبناء على ما جاء في تلك التوصيات فقد دعا مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي لعقد هذه الندوة لمناقشة المسائل التي أوصت الندوة السابقة بزيادة بحثها، ومنها مسألة ربط الأجور بتغير المستوى العام للأسعار بغية زيادة تعرف هذه القضية لبيان الحكم الشرعي فيها.
(1) مثل معاشات التقاعد، والرعاية الاجتماعية، والطبية ونحوها
(2)
د. محمد عبد المنان، ربط الحقوق والالتزامات الآجلة بتغير الأسعار، النظريات والتجربة، والتطبيق من منظور إسلامي، ص 15 نقلاً عن بيج وترولوب – المجلة الاقتصادية للمعهد القومي، ص 460
وقبل أن أدخل في صلب الموضوع المعروض للبحث أود أن أمهد ببيان عدد من الأمور:
الأمر الأول- التكييف الفقهي للنقود الورقية:
منذ أن شاع استعمال النقود الورقية وهي مثار نقاش بين العلماء المسلمين هل هي أثمان أم فلوس؟ وقد قرر بعضهم أنها فلوس، بناء على أن الثمنية الحقيقية عندهم إنما تكون في الذهب والفضة، وكان معتمد بحثهم ما قاله العلماء السابقون في شأن الفلوس، فأعطاها بعضهم ما للفلوس من الأحكام، وقرر بعضهم أنها مستندات ديون وبعضهم أكد على ثمنيتها وأنها قائمة مقام الذهب والفضة.
وهذا الخلاف له ما يبرره؛ ومرده إلى التطورات التي مر بها الورق النقدي، فإنه في أصله ليس ثمناً وإنما ثمنيته بالاصطلاح، إضافة إلى أنه في أول ظهوره كان مغطى بالذهب والفضة، وكان يكتب عليه ما يفيد أنه سند بقيمته من الذهب أو الفضة، ثم بعد ذلك زال الغطاء جزئياً ثم كلياً، ولم تعد هذه النقود الورقية متعلقة بالذهب ولا بالفضة من قريب ولا بعيد، وأصبحت هي أثمان الأشياء ووسيط التبادل في المعاملات، والقول بأنها فلوس، تخرج عن الثمنية بالغلاء والرخص شأن الفلوس في الأزمنة السالفة قول غير صحيح ويترتب عليه مفاسد كبيرة في الدين والدنيا (1) ذلك أنه لابد للناس من أثمان تقدر بها السلع والخدمات، وتكون واسطة للتبادل حتى تتيسر معاملاتهم ويرتفع الحرج عنهم، ولم يعد الذهب ولا الفضة نقداً أصلاً، وهذه الأوراق النقدية فيها خصائص الثمنية، وأصبح إصدارها مضبوطاً بضوابط معينة وتتولاه جهات مسؤولة، وتعمل الدول على حماية نقدها بالتدابير الاقتصادية، ومكافحة التزوير، وترقيم العملات، وسرية العلامات التي تضعها في النقد ضماناً لعدم تزويره، إلى غير ذلك مما لا يخفى في الحياة المعاصرة، وتستخدم هذه النقود في المبادلات والحقوق اليسيرة والكبيرة، وهذا يجعلها تختلف اختلافاً كبيراً عن الفلوس المعهودة في الأزمنة السالفة، والتي لم تكن لها من الثمنية ما للذهب والفضة، وكانت تتعرض للكساد، ولإبطال الحاكم لها كثيراً، كما أنها في كثير من الأحيان إنما تستعمل في الأشياء الحقيرة التافهة، ويترتب على القول بأنها فلوس إباحة الربا فيها عند بعض العلماء وعدم وجوب الزكاة في عينها، إلى غير ذلك، فلا وجه لقياسها على الفلوس المعهودة فيما مضى وإعطائها حكمها، بل هي أثمان يجري فيها الربا وتجب فيها الزكاة وتصلح رأس مال في السلم والشركات.
(1) انظر على سبيل المثال: الشيخ عبد الله بن منيع: الورق النقدي ص 113- 127، وستر الجعيد: أحكام الأوراق النقدية والتجارية، رسالة ماجستير في جامعة أم القرى عام
…
ص 144- 196، 436-466، وانظر البحث القيم لفضيلة الدكتور محمد تقي العثماني بعنوان أحكام أوراق النقود والعملات المقدم لندوة ربط الحقوق والالتزامات الآجلة بتغير الأسعار بالبنك الإسلامي للتنمية بجدة عام 1407هـ، ص 8-17
وقد أثار عدد من رجال الاقتصاد الإسلامي المعاصرين هذه القضية في مسألة الربط بالمستوى العام للأسعار، واختاروا كونها فلوساً ليمهدوا بذلك لقبول الربط (1) ورأوا أن ربط المعاملات الآجلة بالنقود الورقية يؤدي إلى خداع المتعاملين بها.
وقد تبين مما تقدم ما في هذا القول من المخالفة.
الأمر الثاني- الواقع المعاصر البعيد عن التزام أحكام الشرع في كثير من الأحيان:
يلحظ المتأمل في الواقع المعاصر بصفة عامة، والواقع الاقتصادي منه بصفة خاصة أننا ابتلينا بأشياء كثيرة غريبة عنا، نبذل جهوداً طائلة ونصرف أوقاتاً فاضلة في سبيل إصلاح اعوجاجها ورتق فتوقها، وقد لا نصل إلى ما نريده من الإصلاح، والسبب في ذلك أنها أوضاع شاذة مخالفة نشأت فيها أحكام، ووجدت فيها أمور تتناسب معها، بل تعتبر منطقية بالنسبة إليها، في حين أنها غير مقبولة أصلاً في شريعتنا، ولذلك تظل محاولة تطويعها للشريعة من الأمور التي هي أشبه ما تكون بالجمع بين المتناقضات، وهذا الأمر واضح أشد الوضوح في الاقتصاد المعاصر، فإن قواعده ومجالاته نبتت في بيئات لا تلتزم بدين أصلاً، فلا غرابة إن وجدت فيها الحرية المطلقة في تثمير المال وتنميته، عن طريق المكاسب المتنوعة، حتى ولو كانت محرمة في ديننا، والربا –أخذاً وإعطاءً- مبدأ مقرر ليس فيه شبهة ولا تردد عندهم، وقد يبتكرون أنماطاً متعددة للتعامل، أو يضعون شروطاً فيما بينهم تجيزها حرية التعاقد لديهم، وتكون منسجمة تماماً مع أوضاعهم حيث لا يوجد (حلال ولا حرام) ثم تنتقل إلينا هذه المعاملة أو تلك فنصرف الجهود الكبيرة في إضفاء الصفة الشرعية عليها، ونلتمس لها من الأدلة والمؤيدات ما عساه أن يجعلها مقبولة لدينا، وقد ننجح وقد لا ننجح، وقد نتعسف الأمور في كثير من الأحيان (2)
ولم أقصد بهذا أن نرد كل ما جاءنا عن غيرنا، بل نحن مطالبون بالأخذ بكل حسن لا يعارض ديننا مع التسليم بأننا لا نعيش في أبراج عاجية بمعزل عما يدور في هذه الحياة، ولكني أردت الإشارة إلى الصعوبات البالغة التي يتكبدها العلماء والمفكرون في مناقشة هذه الأمور الوافدة، وأنه لن يتم لهذه الأمة أمرها ولن تستقيم لها حياتها، حتى تثوب إلى رشدها وتجعل دينها حاكماً لا محكوماً، متبوعاً لا تابعاً.
(1) انظر: د. عبد الرحمن يسري: دراسات في علم الاقتصاد الإسلامي، ص 246 وما بعدها
(2)
هناك مسائل كثيرة مثل الصرف الآجل، وبيوع الاختيار وغيرها، ويمكن أن تكون مسألة الربط التي نحن بصددها من هذا القبيل أيضاً
الأمر الثالث- منهجية التخريج والاستنباط لأحكام الحوادث الجديدة:
يقول الله جل ذكره في محكم كتابه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89] .
ويقول: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] ، وهذه وغيرها أدلة واضحة على أن صدر هذه الشريعة لا يضيق عن بيان حكم الله فيما ينزل بالناس، وأن هناك أموراً نصت الشريعة على أحكامها وأخرى يمكن معرفة حكمها بالرد إليها مصداقاً لقوله تعالى:{وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] .
ويوضح الإمام الشافعي رحمه الله هذا المعنى بقوله: (كل ما نزل بمسلم ففيه حكم لازم أو على سبيل الحق فيه دلالة موجودة، وعليه إذا كان فيه حكم بعينه اتباعه، وإذا لم يكن فيه بعينه طلب الدلالة على سبيل الحق فيه بالاجتهاد
…
) (1)
وهذا يعني أن سبيل تعرف أحكام النوازل إنما هو الاجتهاد، وهو يتنوع أنواعاً فقد يكون اجتهاداً في إدخال الأمر الحادث في دلالة لفظ من ألفاظ النصوص فيأخذ حكمه، أو بقياسه على حكم منصوص لوجود معنى جامع بينهما، أو لكونه خادماً لمقصد من مقاصد الشريعة أو غير ذلك مما وضعت له كتب أصول الفقه، وكل ذلك له شروط وقوانين لابد من الالتزام بها، وهي معروفة في مواطنها من كتب الأصول، وعندما يحصل التعارض بين الأدلة، أو بين الأقوال المستندة إلى الأدلة فإن هناك أيضاً من القواعد ما يمكن به تعرف الراجح الذي يتعين المصير إليه والأخذ به، ولكن كثيراً من الباحثين المعاصرين إذا أراد تعرف حكم نازلة، أو أراد أن يجد مسوغاً لقبولها في الفقه الإسلامي لا يلتزم بالقوانين المحكمة التي يتعين الالتزام بها في مثل هذه الأحوال، وهجيراه أن يجد قولاً لبعض العلماء، أو وجهاً أو رواية في مذهب، فيأخذ به ويجعله دليلاً لصحة ما يقوله، ومن نافلة القول بيان خطأ هذا المنهج؛ لأن الأقوال لا عبرة بها في أنفسها وإنما المعول عليه الدليل الذي استندت إليه هذه الأقوال، وكلما ترجح دليل على غيره وجب الأخذ به شرعاً، والقول الذي لا يسنده دليل قوي لا يصلح للاعتماد عليه، فضلاً عن أن يرجح على غيره، ولذا فنحن بحاجة إلى التدقيق في الأقوال التي نجدها موافقة لما نريد من حيث صحة دليلها ورجحانه؛ حتى يمكن لنا البناء عليها، ومن كان معه الدليل فقوله مقدم على قول غيره، حتى وإن خالفنا فيما نريد، كما يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: (
…
فمن كان أسعد بالدليل كان أسعد بالقبول
…
) .
(1) الإمام الشافعي: الرسالة، ص 477 بتحقيق الشيخ أحمد شاكر
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن بعض الباحثين يأخذ قولاً في مذهب مقدماً له على بقية الأقوال في المذهب نفسه من غير مناقشة أو ترجيح، فنجده مثلاً يأخذ بقول محمد بن الحسن في مسألة معينة تاركاً رأي إمام المذهب أبي حنيفة رحمه الله أو رأي أبي يوسف صاحبه، أو يأخذ برأي ابن شبرمة مثلاً، ويترك آراء جماهير العلماء من غير ترجيح، وإذا لم ننظر في مسألة الأدلة فنزن بها الأقوال، فإن المفترض أن جميع الآراء في مرتبة واحدة ولا مزية لبعضها على بعض، فتقديم بعضها على بعض من غير دليل ترجيح من غير مرجح، وهو تحكم باطل كما يقول العلماء.
ونعود بعد هذا التمهيد إلى موضوع البحث فنقول:
إن ربط الأجور بمستوى الأسعار في الدول التي مارست هذه التجربة يتم عادة عن طريقين:
الطريق الأولى: الربط الذي يتم عن طريق الاتفاقات الجماعية والتي تتحكم فيها اتحادات ونقابات العمل، ويقوم الأطراف المعنيون –أرباب العمل، وممثلو العمال- بتحديد الأجور عن طريق التفاوض، ويتم توقيع الاتفاق الجماعي بعد ذلك، ويضاف إلى الاتفاق بند ينص على أنه في أثناء سريان الاتفاق، وعلى فترات معينة يتم تعديل الأجور تلقائياً تبعاً لمؤشر قياسي متفق عليه من قبل الأطراف ذات العلاقة، ويمكن أن يكون التعديل في نهاية كل سنة، أو تبعاً لغلاء المعيشة، ويطلق على هذا الاتفاق بند التصاعد الأجري أو بند غلاء المعيشة.
الطريق الثانية: ربط يتم عن طريق القرارات الحكومية لتنظيم الأجور والرواتب ومعاشات التقاعد ونحوها لحماية هذه الدخول من التآكل الذي ينتجه التضخم، ويقصد بها أساساً موظفو الخدمة المدنية ومن في حكمهم، وتكون في بعض البلدان التي تستخدم هذا الربط كأداة سياسية حكومية للأجور مثل فرنسا، وفي البلدان التي لا يوجد فيها تفاوض جماعي عن طريق اتحادات أو نقابات (1)
(1) انظر تعقيب الدكتور صباح الدين زعيم على بحث الدكتور محمد عبد المنان (ص5)
وقد استخدام ربط الأجور بمستوى الأسعار على نطاق واسع في عدد من البلدان، كالنمسا، وبلجيكا، والدنمارك، وفنلندا، وفرنسا، وأيرلندا، وهولندا، وسويسرا، والولايات المتحدة الأمريكية، وقد كان الدافع الأساسي لربط الأجور بمستوى الأسعار في الولايات المتحدة ظروف التضخم بعد الحرب العالمية الأولى.
إلا أن انخفاض الأسعار بعد ذلك في أوائل العشرينات أفقده أهميته (1)
وقد ربطت بريطانيا الأجور بالرقم القياسي للأسعار في فترتين، أولاهما من 1910م-1933م، والثانية من 1973-1974م (2)
وسأحاول بإذن الله دراسة هذه المسألة في إطار الأدلة والقواعد الشرعية التي تضبط عقد الإجارة.
تعريف الإجارة وبيان أركانها:
الإجارة في الفقه الإسلامي تمليك، أو عقد على منفعة معلومة بعوض معلوم (3) وعقد الإجارة عقد معاوضة من الطرفين؛ لأن الأجير يبذل العمل ويأخذ الأجر، وصاحب العمل يبذل الأجر ويأخذ العمل، أو المستأجر يبذل المال، وصاحب العين يبذل المنفعة، وعلى هذا فهو من العقود اللازمة (4)
ولهذا العقد أركان ثلاثة:
1-
العاقدان.
2-
المعقود عليه، وهو الأجرة من جانب والمنفعة من جانب آخر.
3-
الصيغة، وهي الإيجاب والقبول (5)
(1) د. محمد عبد المنان: ربط الحقوق والالتزامات الآجلة بتغير الأسعار (ص11) ، مرجع سابق
(2)
د. محمد عبد المنان: ربط الحقوق والالتزامات الآجلة بتغير الأسعار (ص15)
(3)
انظر: قاسم القونوي: أنيس الفقهاء ص 259؛ ابن حجر الهيثمي، تحفة المحتاج بشرح المنهاج 6/121؛ البهوتي: شرح منتهى الإرادات 2/350، ويرى عدد من العلماء أن الإجارة بيع المنافع، انظر: ابن قدامة: المغني 8/7، الزيلعي: تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 5/105
(4)
العقود اللازمة هي العقود الخالية من الخيارات، وهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام: أ- عقود لازمة من الطرفين لا تقبل الفسخ عن طريق الإقالة مثل عقد الزواج. ب- عقود لازمة من الطرفين لا تقبل الفسخ إلا بالإقالة أو خيار المجلس عند مثبتيه مثل البيع والإجارة. ج- عقود لازمة من طرف جائزة من طرف آخر كالرهن والضمان والكفالة، وانظر في ذلك ابن قدامة: المغني 6/48-50؛ المجموع 9/163
(5)
الدسوقي: حاشية على الشرح الكبير للدردير 4/2، الأردبيلي: الأنوار لأعمال الأبرار 1/588؛ شرح منتهى الإرادات 2/351؛ وذهب الحنفية إلى أن ركن الإجارة الصيغة فقط، وأما العاقدان والمعقود عليه فليست من الأركان وإنما هي من مقوماته، ولابد منها فيه، انظر: الزيلعي: تبيين الحقائق 5/150، والخلاف على هذا لفظي
ويتضح من هذه الأركان أن الأجرة ركن في العقد.
وهي كما يعرفها بعض العلماء (العوض الذي يعطى مقابل منفعة الأعيان، أو منفعة الآدمي)(1) ويجوز أن تكون نقداً، أو عيناً، أو منفعة عند جمهور العلماء، فإن كانت هذه الأجرة نقداً فإنه يشترط فيها أن تكون معلومة علماً يمنع من المنازعة والخصومة، لما رواه الإمام أحمد رحمه الله عن أبي سعيد رضي الله عنه قال:((نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن استئجار الأجير حتى يبين له أجرة)) (2)
والعلم بالنقد على هذا النحو يقتضي معرفة قدره وجنسه ونوعه؛ حتى لا يكون هناك مجال للمنازعة، وكذا القول في سائر المثليات التي تثبت في الذمة.
وإن كانت عيناً –وهي ما يقابل النقد أو المنفعة- كالأمتعة ونحوها، فإنه يشترط فيها ما يشترط في العين المبيعة من الرؤية أو الوصف المضبوط الذي تنتفي معه الجهالة والغرر.
وإن كانت منفعة فإنه يشترط فيها أن تكون معلومة مضبوطة يصح الاعتياض عنها شرعاً (3)
حكم ربط الأجور بالمستوى العام للأسعار:
في ضوء ما تقدم يمكن لنا أن نقول:
إن الأجرة إما أن تكون نقوداً، أو أعياناً، أو منافع عند من يجوز أن تكون المنافع بدلاً في الإجارة كما تقدم.
(1) محمد بن قراموز الشهير بمنلا خسرو: درر الحكام شرح غرر الأحكام 1/372
(2)
قال في مجمع الزوائد: رجال أحمد رجال الصحيح إلا أن إبراهيم النخعي لم يسمع من أبي سعيد فيما أحسب، ورواه غيره بأسانيد فيها مقال، وحديث أحمد أصح، انظر: الشوكاني: نيل الأوطار 5/329
(3)
الكاساني، بدائع الصنائع: 6/2606 – 2608؛ الدسوقي: حاشية على الشرح الكبير للدردير 4/3، ابن رشد: البيان والتحصيل 8/448؛ الأردبيلي: الأنوار لأعمال الأبرار 1/589-590، البهوتي: كشاف القناع 3/465، ويشترط الحنفية في الأجرة إذا كانت منفعة أن تكون من غير الجنس، وغيرهم لا يشترط ذلك
وفي كل الأحوال إما أن تكون مع الحكومة أو مع جهات غير حكومية سواءً أكانت مع أشخاص أم مع مؤسسات.
فإن كانت الأجرة أعياناً كالأمتعة أو غيرها فإنه يشترط فيها –كما تقدم- العلم النافي للجهالة، ولا مجال للقول بالربط القياسي فيها لأن تلك الأعيان التي تم العقد عليها باقية ولا يؤثر التضخم في ذواتها، سواء أكانت مع الحكومة أم مع غيرها، وسواء أكان الأجير خاصاً أم مشتركاً.
وكذا الحال في المنافع إذا كانت معلومة مضبوطة على النحو الذي مر ذكره قريباً، وأما إن كانت الأجرة نقوداً، فإنه يشترط فيها العلم بقدرها وجنسها ونوعها عند التعاقد كما مر في أركان عقد الإجارة وربطها بالمستوى العام للأسعار يفوت هذا الركن؛ لأن الأجير، ورب العمل، لا يعلمان المقدار الذي يستحق عند وقت التسليم، وهذا ينطوي على جهالة (1) بمقدار الأجرة للأجير ولصاحب العمل في حال الزيادة، أو في حال نقصانها عما تعاقدا عليه عند ارتفاع القيمة الشرائية للنقود، وهذا وإن كان أقل حصولاً من الانخفاض إلا أنه أمر ممكن غير مستبعد.
(1) الجهالة في اللغة من الجهل، وهو ضد العلم، وفي الاصطلاح الفقهي يقصد بها معنيان: أحدهما: وصف الإنسان بذلك –أي بعدم العلم- في اعتقاده أو قوله أو فعله، والمعنى الآخر: أن يكون الجهل متعلقاً بخارج عن الإنسان كمبيع ومشترى وإجارة وثمن ونحو ذلك، وهو المقصود بالجهالة في العقود والتي تعتبر مبطلة لها إذا كانت غير يسيرة، وفرق الإمام القرافي بينهما بأن الغرر في الشيء الذي لا يدرى هل يحصل أم لا؟ والجهالة فيها علم حصوله وجهلت صفته، وذكر أن العلماء قد يتوسعون في عبارتي الجهالة والغرر فيستعملون إحداهما موضع الأخرى، انظر الموسوعة الفقهية الكويتية 16/167، وقد ثبت في النهي عن الغرر وكل ما أدى إلى الجهالة أحاديث كثيرة عن النبي عليه السلام منها: 1- ما رواه الجماعة إلا البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي عليه السلام نهى عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر. 2- ما رواه أحمد وابن ماجه وغيرهما عن شهر بن حوشب عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (نهى النبي عليه السلام عن شراء ما في بطون الأنعام حتى تضع، وعن بيع ما في ضروعها إلا بكيل، وعن شراء العبد وهو آبق، وعن شراء المغانم حتى تقسم، وعن شراء الصدقات حتى تقبض، وعن ضربة الغائص) . وقد ضعف حديث أبي سعيد هذا من جهة شهر بن حوشب، إلا أنه له شواهد لأطرافه تقويه. 3 – ما رواه الشيخان عن أبي سعيد رضي الله عنه، أن النبي عليه السلام نهى عن الملامسة والمنابذة في البيع. والملامسة: لمس الرجل ثوب الآخر بيده بالليل أو بالنهار، ولا يقلبه. والمنابذة: أن ينبذ الرجل إلى الرجل بثوبه، وينبذ الآخر بثوبه، ويكون ذلك بيعا من غير نظر ولا تراض. الشوكاني: نيل الأوطار، 5/167 – 170
وإذا كانت الأجرة التي في ذمة صاحب العمل ومن في حكمه مربوطة بالمستوى العام للأسعار، سواء أكان الربط بالسلع الاستهلاكية أم بالسلع الصناعية، فإن ذلك يؤدي إلى الربا في حالة التضخم لأن النقود مثلية لانضباطها بالعد، فإذا انخفضت قيمتها بالنسبة لما ربطت به أدى ذلك إلى زيادة في عددها، وهذا عين الربا، ومثال ذلك أن تكون الأجرة التي تستحق بعد سنة 5000 جنيه مصري، فإذا تم الربط بالمستوى العام للأسعار وكان هذا المبلغ يساوي 100 وحدة مثلاً عند التعاقد بناء على أن الوحدة تساوي 50، وفي نهاية السنة انخفضت القيمة الشرائية للجنيه بحيث أصبحت الوحدة المربوطة بها تساوي 100 جنيه، فإن المبلغ المستحق يكون حاصل ضرب 100× 100 = 10000 جنيه.
وهكذا الحال فيما لو ارتفعت القيمة الشرائية للعملة التي تم التعاقد بها عند وقت التسليم عنها عند التعاقد، فإن ذلك يؤدي إلى سداد الدين بأقل منه، وهذا لا يجوز
…
ومن المعلوم أن الشريعة قد حرمت الربا تحريماً مؤكداً مؤبداً، ولعنت أصحابه كما جاء عن النبي عليه السلام في الحديث الصحيح الذي رواه الخمسة عن ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي عليه السلام ((لعن آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه)) (1)
وجاء في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد والبخاري أن النبي عليه السلام قال: ((الذهب بالذهب، والفِضة بالفضة، والبُرُّ بالبر، والشَّعير بالشعير، والتمر بالتمر، والمِلح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد، سواء بسواء، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء)) (2)
(1) الشوكاني: نيل الأوطار: 5/214
(2)
الشوكاني: نيل الأوطار 5/215
فقوله عليه السلام: ((فمن زاد أو استزاد)) يعم كل زيادة؛ لأنه فعل وقع في سياق الشرط، والفعل من قبيل النكرة؛ لأنه يتضمن مصدراً نكرة، والنكرة في سياق الشرط تعم على ما تقرر في صيغ العموم.
والنقود الورقية أثمان قائمة مقام الذهب والفضة، فالزيادة فيها أخذاً أو إعطاءً تعاطٍ للربا المحرم.
ومما يزيد الأمر تأكيداً أن الشريعة لم تقف عند حد تحريم الربا الصريح، بل سدت كل الذرائع المؤدية إليه، واعتبرت الجهل بالتساوي محرماً في بيع الربويات ببعضها كالعلم بالتفاضل فيها، فقد روى الإمام مسلم والنسائي عن جابر رضي الله عنه قال:((نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الصبرة من الثمر لا يعلم كيلها بالكيل المسمى من التمر)) (1)
وروى الشيخان عن سهل بن أبي حثمة قال: ((نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع التمر بالتمر، وقال: ذلك الربا، تلك المزابنة)) (2)
وبناء على هذا فإن ربط الأجور بالمستوى العام للأسعار غير جائز سواء أتم الربط عند التعاقد، أم بعد مدة؛ لأن المحذور في ذلك واحد، وهو جهالة الأجرة التي يتم تسليمها عند حلول الأجل، وإفضاء ذلك إلى الربا كما تقدم بيانه، اللهم إلا أن يفرق بين تضمن العقد من بدايته شرط الربط الفاسد كما في الصورة الأولى، وهل يؤدي ذلك إلى فساد العقد أم أن العقد صحيح والشرط باطل؟ على ما هو الخلاف المعروف عند العلماء في هذا (3) وبين أن يتم العقد بدون شرط الربط، ثم يلحق به هذا الشرط كما في الثانية، فالعقد صحيح والشرط باطل.
(1) الشوكاني: نيل الأوطار 5/221
(2)
الشوكاني: نيل الأوطار 5/226
(3)
انظر في مسألة الشروط الفاسدة التي تبطل العقد، والتي تبطل هي في نفسها ويبقى العقد صحيحاً، الكاساني: بدائع الصنائع 5/168-170؛ الخرشي: شرح مختصر خليل 4/328؛ الحطاب: شرح مختصر خليل 5/61-63؛ الشربيني: مغني المحتاج 2/30-34؛ البهوتي: كشاف القناع 3/193-195
أما مسألة إضافة ما يسمى (بعلاوة غلاء المعيشة) إذا اعتبرناه نوعاً من الربط فالأمر يحتاج فيها إلى تفصيل، ذلك أن هذه إن كانت من الأجرة فلابد أن تكون معلومة حال التعاقد؛ لأن الجهل بها يجعل الأجرة مجهولة فيبطل العقد، فلا يصلح أن يترك تقديرها لما يتحدد بعد ذلك من أحوالـ؛ لما يترتب عليها من منازعة، وقد اتفق العلماء على عدم جواز أن تكون الأجرة أو شيء منها مجهولاً.
وإن كانت هذه العلاوة من باب التكافل فإنها غير لازمة لصاحب العمل ولا تكون من الأجرة، فلا يشترط العلم بها؛ لأن كفالة المحتاجين واجب على الدولة وليست واجباً على أرباب الأعمال، وإنما الواجب عليهم العدل في الأجرة (1)
وهناك مسألة أخرى قد ينتجها التضخم، وينتجها الربط بالمستوى العام للأسعار أيضاً، وهي مسألة الضرر، ولا شك أن انخفاض القيمة الحقيقية للنقود فيه ضرر على أصحاب الأجور، لأن أجورهم هذه هي عماد معيشتهم، فنقصان قيمتها بسبب التضخم يضر بحاجاتهم الأصلية، والنبي عليه السلام يقول:((لا ضرر ولا ضرار)) والقاعدة الشرعية أن الضرر يزال، ولكنه لا يزال بضرر مثله (2) وفي تعويضهم عما نقص عليهم، أو ما يتوقع نقصه عن طريق الربط يضر بمصلحة صاحب العمل نفسه؛ لأنه هو أيضاً قد تضرر بنقصان القيمة الحقيقية لأرباحه، وعائداته من العمل، ولا يد له فيما حصل؛ لأن التضخم يحدث نتيجة لكثرة عرض النقود واختلال السياسات النقدية، وربما أثرت فيه قوى السوق أيضاً، فإذا ربطنا أجور العاملين بقيمة ثابتة عاقبنا من لا يستحق العقوبة وتركنا الجاني الحقيقي بدون مساءلة كما يقول بعض الباحثين، وكأنا بذلك نقر الأوضاع الفاسدة ونرقع سوآتها بتحميل أرباب الأعمال نتائج هذا التدهور في قيمة النقد.
وخير من ذلك أن يبحث عن أسباب التضخم الحقيقية ويعمل على إزالتها أو التخفيف من حدتها، وأهم ما في ذلك ضبط كمية النقود المتداولة، وانتهاج سياسات نقدية واقتصادية حصيفة تتوخى العدل، وتعمل على توظيف كل الطاقات في سبيل تحقيق استقرار اقتصادي يقبل فيه الناس على الاستثمار والتنمية، وتختفي فيه المظاهر السلبية من اكتناز الأموال أو توجيهها للأصول غير الإنتاجية كتجارة العملة والعقار ونحوها..
(1) د. شرف الشريف: الإجارة الواردة على عمل الإنسان، ص 216
(2)
السيوطي: الأشباه والنظائر، القاعدة الرابعة وملحقاتها ص 92-96
ولابد من الحرص على أن تكون القيمة الحقيقية للنقد في وضع ثابت قدر الإمكان؛ لأنه هو المعيار الذي تقوم به الأشياء، والوسيط الذي يتم به التبادل بين الناس، فالتلاعب به أو التهاون في شأنه مما يعرض حياة الأمة للخطر ويضعفها في مواجهة أعدائها، ويجعلها عاجزة عن القيام بشؤونها.
اقتراح بديل لتفادي مشاكل انخفاض قيمة العملة بالنسبة للأجور:
1-
أقترح ألا تطول مدة عقود الإجارة حتى تكون هناك فرصة مشروعة للاتفاق على الأجر المناسب الذي يعتمد على القيمة الحقيقية للنقود في فترات ليست بعيدة يؤمن في مثلها التغير الفاحش.
2-
في حالة عدم التمكن من التعاقد لفترات قصيرة نسبياً أو في حالة الخشية من التغير السريع المفاجئ، فإنه يمكن أن يتم التعاقد أساساً بعملة معينة لا تتغير كثيراً كالدولار والمارك أو نحوهما، أو أن يتم التعاقد بالذهب ونحوه.
على أني لا أرى مانعاً من إعادة النظر في التغير الفاحش الذي يلحق به الضرر البين بالأجير ومن في حكمه ليتم تقدير أجرة المثل العادلة على أن تدفع بعملة أخرى ليكون ذلك أبعد عن الشبهة، وبالله التوفيق.
د. حمزة بن حسين الفعر
المراجع
1-
أبو الوليد ابن رشد القرطبي
البيان والتحصيل
تحقيق: أحمد الشرقاوي إقبال، د. محمد الحجي
دار الغرب الإسلامي- بيروت، إدارة إحياء التراث الإسلامي، قطر، 1404هـ-1984م.
2-
أحمد بن حجر الهيثمي.
تحفة المحتاج بشرح المنهاج، وبهامشه حواشي الشرواني والعبادي، دار صادر.
3-
بيج وترلوب.
دراسة بالمجلة الاقتصادية للمعهد القومي، نقلاً عن د. محمد عبد المنان في بحثه المقدم عن رابطة الحقوق والالتزامات بمستوى الأسعار في الندوة المعقودة لذلك بالمعهد الإسلامي للبحوث والتدريب بالبنك الإسلامي للتنمية بجدة من 27-30 شعبان سنة 1407هـ
4-
د/ج. ج. لالبوالا
مزايا وعيوب الربط بالقيمة بتغير الأسعار.
5-
ستر ثواب الجعيد
أحكام الأوراق النقدية والتجارية
رسالة ماجستير- جامعة أم القرى 1405هـ-1406هـ.
6-
د. شرف بن علي الشريف
الإجارة الواردة على عمل الإنسان
دراسة مقارنة- دار الشروق بجدة، ط:1، 1400هـ-1980م.
7-
عبد الرحمن السيوطي
الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية
دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي وشركاه.
8-
عبد الرحمن يسري
دراسات في علم الاقتصاد، دار الجامعة المصرية، ط: 1، 1408هـ-1988م.
9-
عبد الله بن أحمد بن قدامة
المغني، تحقيق: عبد الله عبد المحسن التركي – عبد الفتاح الحلو
هجر للطباعة القاهرة، ط: 1، 1411هـ-1990.
10-
عبد الله بن محمد الخرشي
شرح الخرشي على مختصر خليل، المطبعة الكبرى الأميرية سنة 1317هـ.
11-
عبد الله بن منيع
الورق النقدي
مطابع الفرزدق التجارية، الرياض - ط: 22، 1404هـ- 1984م.
12-
عثمان بن علي الزيلعي
تبيين الحقائق شرح كنز الحقائق، دار المعرفة- لبنان.
13-
علاء الدين أبو بكر الكاساني
الناشر: زكريا علي يوسف- مطبعة الإمام.
14-
ق. ج. دونالد
التضخم وضرورة التقييس في البلدان النامية
نقلاً عن د. محمد عبد المنان: ربط الحقوق والالتزامات الآجلة بتغير الأسعار النظريات والتجربة والتطبيق من منظور إسلامي، بحث مقدم لندوة ربط الحقوق الآجلة بتغير الأسعار، المعقودة في البنك الإسلامي للتنمية بمقر المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب في جدة من 27- 30 شعبان سنة 1407هـ.
15-
قاسم القونوي
أنيس الفقهاء في تعريفات الألفاظ المتداولة بين الفقهاء
تحقيق د. أحمد عبد الرزاق الكبيسي
دار الوفاء بجدة، ط: 1، 1406هـ-1986م.
16-
محمد بن إدريس الشافعي
الرسالة، تحقيق: أحمد شاكر، ط: 2، 1399هـ-1979م.
مكتبة التراث بالقاهرة
17-
د. محمد تقي العثماني
أحكام أوراق النقود والعملات، بحث مقدم لندوة ربط الحقوق والالتزامات الآجلة بتغير الأسعار، التي عقدت بالمعهد الإسلامي للبحوث والتدريب بالبنك الإسلامي للتنمية بجدة من 27-30 شعبان سنة 1407هـ.
18-
محمد الخطيب الشربيني
مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج
شركة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر.
19-
محمد بن عبد الرحمن الطرابلسي المغربي المعروف بالحطاب
مواهب الجليل بشرح مختصر خليل، وبهامشه التاج والإكليل للمواق
مكتبة النجاح – ليبيا
20-
محمد بن عرفة الدسوقي
حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير، وبالهامش الشرح الكبير للدردير، توزيع دار الفكر
21-
محمد بن علي الشوكاني
نيل الأوطار، مصطفى البابي الحلبي، ط: الأخيرة
22-
محمد بن قراموز، منلاخسرو
درر الأحكام شرح غرر الأحكام، وبالهامش حاشية الشرنبلالي
طبع في سنة 1330هـ، في مطبعة أحمد كامل الكائنة في دار الخلافة العلية
23-
محمد بخيت المطيعي
تكملة المجموع شرح المهذب – ط: 1 مكتبة الإرشاد بجدة
24-
منصور بن يونس البهوتي
شرح منتهى الإرادات
25-
منصور بن يونس البهوتي
كشاف القناع، مراجعة هلال مصيلحي
مكتبة النصر الحديثة- الرياض
26-
المعهد الأمريكي للبحوث الاقتصادية
التقارير الاقتصادية في 30 ديسمبر سنة 1974م، نقلاً عن تعقيب د. ضياء الدين أحمد، في ندوة ربط الحقوق والالتزامات الآجلة بتغير الأسعار في المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب بالبنك الإسلامي للتنمية بجدة من 27-30 شعبان، سنة 1407هـ.
27-
د. نزيه حماد
تغير النقود وأثره على الديون في الفقه الإسلامي.
مجلة البحث العلمي والتراث الإسلامي، كلية الشريعة بمكة- العدد 3، عام 1400هـ.
28-
ويرنر باير وبول بيكرمان.
مشكلة الربط بالأسعار القياسية - انعكاسات على التجربة الأخيرة، نقلاً عن د. ضياء الدين أحمد مدير عام المعهد العالي لأبحاث الاقتصاد الإسلامي بالجامعة الإسلامية الدولية بإسلام آباد، في تعقيبه على بحث د. محمد عبد المنان في ربط الحقوق والالتزامات الآجلة بتغير الأسعار، في الندوة المعقودة لهذا الغرض في المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب بالبنك الإسلامي للتنمية بجدة، في الفترة من 27-30 شعبان، سنة 1407هـ.
29-
وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت
الموسوعة الفقهية الإسلامية
30-
يوسف الأردبيلي
الأنوار لأعمال الأبرار في فقه الشافعي، ومعه حاشية الكمثري وحاشية الحاج إبراهيم، الناشر: الحلبي وشركاه، القاهرة - ط: الأخيرة، 1389هـ-1969م، مطبعة المدني.