الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ربط الأجور بتغير المستوى العام للأسعار
بين الفقه والاقتصاد
إعداد
د. محمد أنس الزرقا
مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي
مخطط البحث
1-
موضوع البحث ونطاقه.
2-
مفاهيم اقتصادية متصلة بالموضوع.
3-
مؤشرات المستوى العام للأسعار (الأرقام القياسية) .
3-
1- سلة السلع التي يشملها المؤشر.
3-
2- الحاجة إلى أكثر من مؤشر واحد للأسعار.
3-
3- تحديد الوزن النسبي لكل سلعة.
3-
4- مؤشر تكاليف المعيشة وفق صيغة لاسبير.
- الطريقة الأولى في الحساب ومعناها الاقتصادي.
- الطريقة الثانية في الحساب ومعناها الاقتصادي.
4-
صور لربط الأجور بالأسعار.
5-
بعض آثار الربط الاقتصادية.
5-
1- على الاستقرار الاقتصادي.
5-
2- على التضخم.
5-
3- على توزيع الدخل.
6-
أثر ربط الأجور بالأسعار على الجهالة في عقد العمل.
6-
1- مدى الجهالة الناجمة عن الربط.
6-
2- هل هي جهالة مفسدة للعقد؟
7-
مدخل آخر للموضوع: الأجر غير النقدي كنوع من الربط.
8-
خلاصة ونتيجة.
بسم الله الرحمن الرحيم
1 -
موضوع البحث ونطاقه
إن الصيغة المألوفة لعقد العمل (إجارة الأجير الخاص عند الفقهاء) يتم فيها تحديد مقدار العمل بالمدة الزمنية وتحدد الأجرة بالنقود، وهذه الصيغة البسيطة متفق على جوازها شرعاً، ولا تثير إشكالاً يقتضي البحث.
وعندما يكون عقد العمل لفترة زمنية طويلة نسبياً، شهوراً أو أعواماً، وتكون الزيادات المطردة في تكاليف المعيشة أمراً متوقعاً، يثور السؤال عن جواز ربط الأجرة النقدية المقبلة في عقد العمل بمستوى تكاليف المعيشة (أو أي مؤشر آخر للمستوى العام للأسعار) ، وهذا هو موضوع البحث الحاضر الذي يهدف إلى التعريف بحقيقة المؤشرات العامة للأسعار، وربط الأجور لها، وببعض التساؤلات الشرعية التي يثيرها ذلك، وما يتصل بالموضوع من مقاصد شرعية عامة ينبغي أخذها في الحسبان للوصول إلى موقف صحيح فقهاً من هذه القضية.
2-
مفاهيم اقتصادية متصلة بالموضوع
يقصد الاقتصاديون بسعر سلعة ما ثمن مثلها في السوق، ويميزون بين هذا السعر، وهو السعر المطلق، والسعر النسبي للسلعة، وهو سعرها المطلق منسوباً إلى (مقسوماً على) متوسط أسعار السلع الأخرى (1) كما يميزون بين الأجر (النقدي) الاسمي وهو الأجر معبراً عنه بالنقود الرائجة في بلد ما، والأجر الحقيقي ويساوي الأجر الاسمي مقسوماً على مؤشر تكاليف المعيشة، وهو نوع من الأرقام القياسية العامة للأسعار.
ويدل التحليل الاقتصادي على أن القرارات الاقتصادية الرشيدة إنما تبنى على الأسعار النسبية للسلع والخدمات، لا على أسعارها المطلقة، وعلى الأجور الحقيقية دون الأجور الاسمية، كما أن الدراسات الاقتصادية العملية تدل على أن السلوك الفعلي للناس قد يبنى مؤقتاً – نتيجة عدم التبصر- على الأسعار المطلقة والأجور الاسمية، لكن هذا الخطأ لا يلبث أن يصحح، بحيث إننا في المدى البعيد لا ينبغي أن نتوقع من الناس إلا أن يبنوا سلوكهم وقراراتهم الاقتصادية على الأسعار النسبية والأجور الحقيقية.
(1) هذا المتوسط يقاس عملياً برقم قياسي عام للأسعار
مفهوم المستوى العام للأسعار: إن السلع والخدمات (المنافع) التي يتم تداولها في مجتمع ما تعد بالألوف، وكثيراً ما نحتاج إلى معرفة التغير الذي طرأ على أسعار طائفة كبيرة من السلع (أو كلها أحياناً) ، وليس على سعر سلعة أو سلع محددة، فنسأل عما إذا كانت الأسعار عموماً في بلد معين قد ارتفعت أو انخفضت، أي أننا نسأل عن المستوى العام للأسعار، هل ارتفع أو انخفض عما كان عليه، وأحياناً نحتاج إلى مقارنة بلدة بأخرى في آن واحد، هل الأسعار على وجه العموم في إحداهما هي أعلى منها في البلدة الأخرى؟ ففي هذه الحالات نحن نسأل عن المتوسط العام للأسعار، لنقارنه بين فترتين زمنيتين أو فترات في بلد واحد، أو في الفترة نفسها بين بلدين مختلفين، وسنرى بعد قليل أن من الممكن قياس هذا المتوسط العام للأسعار.
إن النقود، ونرمز لها في هذا البحث بالدراهم، تصلح لشراء أية سلعة أو خدمة، فإن ارتفع سعر سلعة ما فإن الوحدة من النقود (ولتكن الدرهم الواحد مثلاً) تشتري لنا كمية أقل من السابق من تلك السلعة، فإذا ارتفعت أسعار سائر السلع والخدمات، فإن الدرهم الواحد سيشتري كمية أقل من أية سلعة أو خدمة، أي أن قوته الشرائية عموماً قد انخفضت، وبعبارة عامة: إن المتوسط العام للأسعار يعني ارتفاعه: انخفاض القوة الشرائية للنقود، ويعني انخفاضه: ازدياد تلك القوة الشرائية، وهذه العبارة صحيحة بصرف النظر عن أسباب ارتفاع الأسعار أو انخفاضها.
لننتقل الآن إلى معنى التضخم، إنه ببساطة التصاعد في المستوى العام للأسعار فترة بعد فترة، فالتضخم مفهوم يرتبط بحركة متوسط الأسعار، فإذا كانت حركة متصاعدة فهذا هو التضخم، وهو بهذا يؤدي إلى تناقص مطرد في القوة الشرائية للنقود، ولو سألنا عن أسعار عدد كبير من السلع في بلد فظهر لنا أنها أعلى بكثير من أسعار نظيرها في بلدنا، لا يصح أن نقول: إن ذلك البلد الآخر يعاني من التضخم؛ لأن التضخم ليس مجرد كون الأسعار مرتفعة في وقت معين، بل هو ارتفاعها آناً بعد آن عما كانت عليه.
3-
الأرقام القياسية للمستوى العام للأسعار
إن الحاجة كبيرة إلى التعبير عن المتوسط العام للأسعار بطريقة دقيقة متفق عليها، وقد بذلت كثير من الجهود النظرية والتطبيقية من قبل الإحصائيين والاقتصاديين في هذا الشأن منذ منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، حتى صار من الشائع في جميع دول العالم اليوم أن تقوم جهة رسمية لديها موظفون متخصصون بجمع البيانات اللازمة وحساب الأرقام القياسية للأسعار في فترات دورية سنوية أو شهرية.
هناك عقبتان فنيتان تواجهان أية محاولة لحساب رقم قياسي عام للأسعار، ويحتمل أن لهما في الوقت نفسه علاقة بالحكم الفقهي عن ربط الأجور بالأسعار، فأوضحهما الآن؛ أولهما: كيفية اختيار (سلة السلع) التي تدخل في حساب الرقم القياسي، وثانيهما: كيفية تحديد الوزن النسبي، أي درجة الأهمية التي تعطى لكل سلعة ضمن سلة السلع المختارة.
3-
1- سلة السلع:
ونقصد بها قائمة السلع (والخدمات) التي ستدخل أسعارها في حساب المؤشر (الرقم القياسي)
نلاحظ ابتداءً أن السلع (والخدمات) المتداولة في أي مجتمع مدني معاصر تعد بالألوف المؤلفة؛ إذ لا يكفي أن نعد أجناس السلع، بل إن السلع (والخدمات) ضمن الجنس الواحد تعد بالعشرات، فالورق جنس تحته عشرات الأنواع، فبعضها لطلاب المدارس وأخرى لمطابع الكتب وأخرى للصحف اليومية، وكل من هذه الأنواع تحته أصناف تختلف أوصافها ومستوياتها في الجودة، وتختلف أسعارها، وما قلناه عن الورق يصدق على إطارات السيارات، وخدمات الأطباء والمستشفيات، بل إن طعاماً طبيعياً غير مصنوع كالتمر تحته عشرات الأنواع التي يزيد أحياناً سعر أعلاها عن أدناها بأكثر من عشرة أضعاف.
والأرقام القياسية الفعلية لا تأخذ بالحسبان إلا أسعار عشرات أو مئات السلع المختارة، وهذه نسبة مئوية صغيرة جداً من مجموع السلع في المجتمع قد يبدو أنها لا يمكن أن تدل دلالة صحيحة على حركة أسعار جميع السلع والخدمات.
لكن يلاحظ بالمقابل أن السلع الداخلة في سلة السلع يتم اختيارها فنياً بحيث تمثل الأجناس الرئيسية للسلع المتداولة، وتبين النظرية الاقتصادية أن أسعار السلع ضمن الجنس الواحد، لأنها بدائل لبعضها البعض، تتحرك باتجاهات متقاربة في الغالب.
لذلك يمكن لأسعار عدد صغير نسبياً من السلع المختارة بعناية أن تعبر بصورة جيدة عن حركة أسعار أعداد كبيرة من السلع.
3-
2- الحاجة إلى أكثر من مؤشر واحد للأسعار:
إن إمكان التعبير برقم قياسي واحد عن حركة أسعار جميع السلع والخدمات في مجتمع ممكن عملياً لما بينا (1) لكن مثل هذا المؤشر الشامل يعد شموله المفرط عيباً فيه من وجهة نظر أية فئة محدودة من الناس لا تتعامل في كثير من السلع والخدمات التي تؤثر في ذلك المؤشر، فعلى سبيل المثال، لا يشتري المستهلكون في العادة المواد الأولية الصناعية والوقود الثقيل، ومواد التغليف وأمثالها من السلع التي تهم المنتجين الصناعيين، وبالمقابل لا يشتري هؤلاء الأطعمة الجاهزة والملابس ولا يستأجرون الشقق والمنازل الصغيرة التي تهم الأسر.
لهذا السبب صار من المعتاد في أكثر البلاد إعداد مجموعة من الأرقام القياسية للأسعار يصلح كل منها لأغراض دون أخرى، منها:
* الرقم القياسي لأسعار المفرق، وتختلف تسميته من بلد لآخر، فالبعض يسميه الرقم القياسي لتكاليف المعيشة أو لأسعار المستهلكين.
وسنتطرق إليه مرة أخرى فيما بعد لأنه هو أقرب ما يتصل بالبحث الحاضر.
* الرقم القياسي لأسعار الجملة.
* الرقم القياسي لأسعار الواردات، ونظيره لأسعار الصادرات.
* مصحح أسعار مجمل الناتج المحلي.
وغالباً ما يتكون الرقم الواحد من هذه من عدد من الأرقام القياسية الفرعية، فرقم تكاليف المعيشة ينبني على رقم فرعي لأسعار الأطعمة، وآخر لإيجارات المساكن، وثالث للنفقات الصحية.. إلخ.
وخلاصة الفقرة الحاضرة هي أنه لا يوجد رقم قياسي واحد للأسعار يصلح لجميع الأغراض والفئات الاجتماعية، لهذا تتعدد الأرقام القياسية، وتختلف معدلات تغير الأسعار التي يدل عليها كل منها، ولابد من تخير واحد من تلك الأرقام يكون أقرب إلى غرض المستخدم بقدر الإمكان.
(1) أقرب ما يمثل هذا المؤشر عملياً هو مصحح أسعار الناتج المحلي الإجمالي والذي تتوافر أرقامه لأكثر بلدان العالم (ر: مثلاً تقرير عن التنمية في العالم 1992، الصادر عن البنك الدولي)
3-
3- تحديد الوزن النسبي لكل سلعة:
لو كان المطلوب هو قياس التغير في سعر سلعة أو خدمة بعينها خلال عدد من السنوات لما كان ثمة حاجة إلى نظرية خاصة بالأرقام القياسية للأسعار، لكن المطلوب هو التعبير برقم قياسي واحد عن التغير في أسعار مجموعة من السلع بعضها قد غلا وبعضها رخص وأخرى قد تحركت أسعارها بنسب متفاوتة.
فكيف ندمج هذه الأسعار المختلفة في رقم واحد يعبر بصورة وسطية عن تلك التحركات المختلفة، أو المتناقضة أحياناً للأسعار؟
وما الأهمية النسبية التي نعطيها لسعر كل من السلع والخدمات التي يشملها الرقم القياسي؟
وما المعنى المحدد الذي يمكن إعطاؤه لمثل هذا الرقم القياسي؟
هذه هي الأسئلة الجوهرية في الأرقام القياسية عموماً، وحولها تدور نظريات مختلفة (1) وسيقتصر البحث الحاضر على كيفية الحساب، والمعنى المحدد الذي يمكن إعطاؤه لأكثر رقم قياسي للأسعار شيوعاً، في عالم اليوم، وأكثرها استخداماً في ربط الأجور بالأسعار فيما أحسب، وهو الرقم القياسي لتكاليف المعيشة (أو أسعار المفرق) المحسوب وفق صيغة العالم لاسبير، وهو الاقتصادي الألماني الذي اقترحها في عام 1864م (2)
(1) ر: حول هذا المعنى رويست (ص 154 وما يليها)
(2)
روست (ص 155)
3-
4- مؤشر تكاليف المعيشة وفق صيغة لاسبير:
المبدأ الأول: يتم دمج أسعار السلع والخدمات المختلفة الداخلة في الرقم القياسي بأخذ الوسط الحسابي المرجح لتلك الأسعار.
ونقصد (بالمرجح) أن الوزن أو الأهمية التي تعطى للأسعار المختلفة ليست متساوية كما هو الشأن في الوسط الحسابي البسيط (غير المرجح) ، فالترجيح يعني أن سعر أية سلعة يقام له وزن أكبر (أو أصغر) من سواه في الحساب بقدر أهمية تلك السلع بين السلع التي يشملها الرقم.
المبدأ الثاني: يقدر الوزن النسبي لسعر كل سلعة بالقيمة السوقية لما يتم تداوله منها (يباع = يشترى) خلال فترة زمنية محددة تسمى (فترة الأساس) وتكون غالباً سنة معينة.
ويتم تطبيق هذا المبدأ عملياً على النحو التالي في شأن مؤشر تكاليف المعيشة:
* تحدد الفئة المراد متابعة التطور في تكاليف معيشتها مثل العمال غير الزراعيين، أو الأسر المتوسطة الدخل القاطنة في المدن، وتختار عينة إحصائية مؤلفة من عدد من تلك الأسر.
* تجمع بيانات إحصائية فعلية عن أنماط إنفاق (مشتريات) أسر العينة على احتياجاتها المختلفة خلال فترة زمنية، ثم يحسب نصيب (= حصة شائعة) كل جنس من السلع والخدمات في مجموع إنفاق الأسر.
* يختار لكل جنس من السلع والخدمات سلعة أو بضعة سلع تمثله، وتعطى تلك السلعة وزناً يتناسب مع جنس ما تمثله من السلع والخدمات.
3-
4- 1- الطريقة الأولى في الحساب ومعناها الاقتصادي:
لنفترض كمثال للإيضاح، أن الأسرة المتوسطة تشتري ثلاث سلع فقط: الخبز، ومنافع المنزل الذي تستأجره، وأثواباً للباس.
وهدفنا هو حساب مؤشر للتغير في تكاليف المعيشة (مستوى الأسعار) في السنة الحالية مقارناً بسنة أساس ولتكن هي السنة الفائتة.
الجدول رقم (1)
أسعار السلع وكمياتها التي تشتريها الأسرة
في سنة الأساس
عدد الوحدات سعر الوحدة المبلغ المنفق
الخبز
750 كجم × 2 درهم للكيلو = 1500 درهم أنفق على الخبز
السكن (مسكن واحد) × 800 درهم = 800 درهم أنفق على استئجار مسكن
اللباس 10 أثواب × 20 درهم للثوب = 200 درهم أنفق على الأثواب
المجموع = 2500 درهم مجموع الإنفاق على (سلة السلع) في سنة الأساس
ويستنتج من الجدول (1) أنه في سنة الأساس بلغت الأهمية النسبية للخبز 60 % (1500/2500) ، وللسكن 32 % (800/2500) ، وللباس 8 % (200/2500) ، وتطبيقاً للمبدأ الثاني تستخدم هذه الأوزان النسبية للترجيح عند حساب المؤشر.
لنفترض الآن أن الأسعار تحركت على النحو التالي في السنة الحالية بالمقارنة مع سنة الأساس:
الجدول رقم (2)
تطور الأسعار في السنة الحالية مقارنة بسنة الأساس
سعر سنة الأساس سعر السنة الحالية منسوب السعرين التغير في السعر
الخبز 2 درهم للكيلو 2.2 درهم للكيلو 2.2 / 2 = 1.1 ارتفاع 10 %
السكن 800 درهم للمسكن 800 درهم للمسكن 800/800= 1 لا تغير
اللباس 20 درهم للثوب 15 درهم للثوب 15/20= 0.75 انخفاض 25 %
يمكن حساب مؤشر تكاليف المعيشة للمثال السابق وفق صيغة لاسبير بالطريقة التالية (1) ولنسمها الطريقة الأولى:
قيمة مؤشر السنة الحالية = 100× منسوب السعرين للسلعة الأولى × أهميتها النسبية + منسوب السعرين للسلعة الثانية × أهميتها النسبية + منسوبي السعرين للسلعة الثالثة × أهميتها النسبية
=100× [1.1
1500
× ــ
2500
+ 1
800
× ــ
2500
+ 0.75
800
× ــ
2500
= 100× [1.1 ×0.6 + 1 × 0.32 + 0.75 × 0.8]
(1) هذه طريقة الوسط المرجح لمنسوبات الأسعار، انظر مثلاً: نيتر مع وسرمان (ص 666 وما يليها)
ومعنى الرقم 104 هو أننا إذا اعتبرنا المستوى العام لأسعار سنة الأساس (السنة الماضية) هو 100، فإن مستوى أسعار السنة الحالية هو 104، فهناك زيادة في الأسعار بنسبة 4 % في المتوسط.
وهذه الطريقة في الحساب تظهر حقيقة أن المؤشر هو وسط حسابي مرجح لتغيرات الأسعار المختلفة.
ونلاحظ في مثالنا أن سعر السكن (أجرة المسكن) لم يتغير عن السنة الماضية، بينما ازداد سعر الخبز 10 %، وانخفض سعر الملابس 25 %، ومع ذلك ارتفع المؤشر 4 %؛ لأن الخبز أكثر أهمية ووزناً في مثالنا من الملابس، وقد اخترنا أرقام المثال المفترض لنبرز الحقيقة التالية عن مؤشرات الأسعار عموماً:
عندما يرتفع مؤشر الأسعار 4 % مثلاً، فهذا يعني أن الأسعار في المتوسط ارتفعت بتلك النسبة، فقد يكون بعضها قد ارتفع بأكثر، وبعضها بقي على حاله أو انخفض، والسلع ذات الأهمية الأكبر هي المؤشر الأكبر على حركة المؤشر.
وغني عن البيان أن كل ما ذكرناه من معان ومبادئ لا يقتصر على مثالنا البسيط، بل يبقى صحيحاً ولو ازداد عدد السلع إلى المئات وتغيرت الأرقام وسنة الأساس.
3-
4- 2- الطريقة الثانية في الحساب ومعناها الاقتصادي:
يمكن أيضاً حساب مؤشر تكاليف المعيشة وفق صيغة لاسبير بطريقة أخرى هي الآتية (1) ولنسمها الطريقة الثانية:
(هذه الطريقة مكافئة جبرياً للطريقة الأولى، وتعطي للمؤشر عين القيمة السابقة، لكنها تمتاز بإبرازها معنى آخر للمؤشر مهم جداً من الناحية الفقهية كما سيظهر فيما بعد) .
المبلغ اللازم بأسعار السنة الحالية لشراء سلة السلع
قيمة مؤشر السنة الحالية = 100 ×
ــ
المبلغ اللازم بأسعار سنة الأساس لشراء سلة السلع
_________
(1)
هذه طريقة المجموع المرجح، انظر نيتر مع وسرمان (ص 662- 665)
وبالرجوع إلى الجدول رقم (1) نرى أن سلة السلع في سنة الأساس كانت 750 كجم خبزاً، ومنافع مسكن واحد، وعشرة أثواب، لزم لشرائها جميعاً بأسعار تلك السنة مبلغ 2500 درهم، ولو أرادت الأسرة شراء السلة عينها بأسعار السنة الحالية للزمها مبلغ:
750 كجم × 2.2 درهم + مسكن واحد × 800 درهم + 10 أثواب × 15 درهم = 2600 درهم
وبذلك تصبح قيمة المؤشر:
2600 درهم
قيمة مؤشر السنة الحالية = 100 × ــ = 100 (1.04) = 104
2500 درهم
فالمئة الدرهم الإضافية التي تلزمنا للإنفاق في السنة الحالية = (2600- 2500) تمثل 4 % بالضبط من كلفة معيشة السنة الماضية، ولهذا نرى أن قيمة المؤشر هي 104، وهو عين الرقم الذي وصلنا إليه بالطريقة السابقة، ويعني أيضاً أن تكلفة المعيشة أو مستوى الأسعار قد ارتفع 4 % عما كان عليه.
وهذه الطريقة الثانية تبرز المعنى الإضافي التالي للمؤشر:
إن مؤشر الأسعار يقيس التغير اللازم في إنفاق الأسرة حتى تستطيع أن تشتري بأسعار السنة الحالية كميات السلع نفسها المحددة في سنة الأساس.
نتيجة الفقرة 3:
بينت في هذه الفقرة الأسئلة الجوهرية التي يثيرها قياس التغير في المستوى العام للأسعار، ووضحت الإجابات التي يقدمها الاقتصاديون والإحصائيون عنها، مقتصراً من ذلك على ما يسهل الوصول إلى حكم فقهي في موضوع هذا البحث.
4-
صور لربط الأجور بالأسعار
على الرغم من تعدد صور ربط الأجور بالأسعار فإن جوهرها واحد، والحكم الفقهي في الموضوع لا يرتبط بصورة بعينها، فأشرح الآن الصورة الأساسية الشائعة للربط:
هناك عقد عمل يمتد عدداً من الفترات الزمنية، لنقل: 3 سنوات، حددت فيه أجرة العامل بـ (2400 درهم) في السنة الأولى على أساس 200 درهم تدفع في نهاية كل شهر، على أن تكون الأجرة في كل سنة تالية هي (2400 مضافاً إليها الزيادة في تكاليف المعيشة في السنة الفائتة عما كانت عليه في سنة الأساس) ، ويوضح الجدول رقم (3) التالي كيفية الحساب.
الجدول رقم (3)
صورة لربط الأجور بالأسعار
السنة مؤشر تكاليف المعيشة للسنة السابقة الأجرة السنوية الأساسية الزيادة بسبب الغلاء مجموع الأجرة المستحقة
الأولى من العقد 100 2400 صفر 2400
الثانية من العقد 102 2400 2 % = 48 2448
الثالثة من العقد 107 2400 7 % = 168 2568
والمعتاد أن مؤشرات تكاليف المعيشة تعلن في نهاية كل فترة (سنة مثلاً) ففي نهاية السنة الأولى من العقد أعلن أن المؤشر هو 102، بمعنى أن أسعار السنة الأولى كانت عموماً أعلى بـ 2 % عن سنة الأساس، فاعتمد هذا الرقم لزيادة الأجرة السنوية خلال السنة الثانية بـ 2 % (= 48) فصارت 2400+ 48 = 2448.
وفي ختام السنة الثانية تبين أن تكاليف المعيشة خلالها ارتفعت 7 % عن سنة الأساس، فبلغ المؤشر (107) ، فزيدت أجرة السنة الثالثة بالنسبة نفسها (2400+ 7 % من 2400 = 2568) .
ومن الصور الأخرى للربط أن لا يعتد بزيادة الأسعار حتى تبلغ نسبة معينة مثلاً 10 %، فإن تجاوزتها طبق الربط حينئذ فقط، ومن الصور أن لا تزاد الأجرة بنفس نسبة زيادة الأسعار، بل بأقل منها، فإن زادت الأسعار 12 % مثلاً زيدت الأجور اللاحقة 6 % فقط، ومن الصور – وبخاصة في البلاد التي تعاني من التضخم الجامح- أن يعلن مؤشر الأسعار كل شهر أو بضعة شهور، وأن تعدل الأجور كل بضعة شهور في ضوء الغلاء الواقع في الشهور السابقة، وواضح أن هذه الصور المختلفة جوهرها الفقهي واحد.
5-
بعض آثار الربط الاقتصادية
5-
1- على الاستقرار الاقتصادي:
هل يزيد ربط الأجور من حدة التقلبات في الناتج ومن ثم في النشاط الإنتاجي عموماً؟ أو بعبارة الاقتصاديين: هل يزيد من عدم الاستقرار على المستوى الكلي؟ والمقصود في هذا المقام هو الربط الواسع الانتشار، بمعنى أن تكون أكثر الأجور في المجتمع مربوطة بالأسعار.
ثمة إجابات عن هذا السؤال ظاهرها التناقض، فبعض الاقتصاديين (1) أدت بهم دراساتهم إلى أن الربط يخفف من حدة التقلبات في الناتج (النشاط الاقتصادي الإنتاجي) بينما يرى آخرون (2) على العكس من ذلك أن الربط يزيد عدم الاستقرار.
ويرى فريق ثالث أن كلا الرأيين السابقين يمكن أن يصدق ضمن شروط معينة: (3)
فإن كان مصدر الهزات الاقتصادية = (الصدمات) هو تغير اسمي في الطلب، وكانت متكررة، فإن الربط يخفف التقلبات في الناتج (4) ومثال هذا النوع: زيادة في كمية النقود تؤدي إلى زيادة في الطلب الكلي.
وإن كان مصدر الهزات الاقتصادية حقيقياً يؤثر على العرض الكلي، فإن ربط الأجور يزيد من التقلب في الناتج؛ لأنه يحول دون حصول التغير اللازم في الأجور الحقيقية (5) ومن الأمثلة على الهزات الحقيقية: تقلبات عوامل الطقس المؤثرة في الناتج الزراعي، أو تقلبات معدلات التبادل التجاري، كأن تنخفض الأسعار العالمية للصادرات بالمقارنة مع أسعار الواردات.
وحيث إن جميع البلدان وبخاصة البلدان النامية هي عرضة لكلا النوعين من الهزات الاقتصادية، فإننا لا نستطيع على وجه العموم أن نحكم على ربط الأجور بأنه يزيد أو يقلل من التقلبات في النشاط الاقتصادي.
(1) ملتون فريدمان وهـ. غيرش موريس آليه، على سبيل المثال لا الحصر، انظر المراجع الأجنبية في نهاية البحث
(2)
منهم مثلاً برنستاين
(3)
ستانلي فشر، الفصل 5 (ص 159 وما يليها) وآيزمان (ص 840)
(4)
فيشر، الفصل الخامس (ص 159- 162)
(5)
فيشر: الفصل الخامس، ص (159- 162)
5-
2- على التضخم:
أسلفت تعريف التضخم اقتصادياً بأنه الزيادة المطردة في مستوى الأسعار خلال فترة زمنية معينة، والسؤال هو: هل ربط الأجور بالأسعار يزيد قابلية الاقتصاد للتضخم، بمعنى أن تعرض الاقتصاد لصدمة تضخمية، كارتفاع أسعار الواردات مثلاً، يؤدي إلى تضخم أشد في اقتصاد يتم فيه الربط، بالمقارنة مع اقتصاد لا ربط فيه؟
يبدو الجواب بالإيجاب في حدود ما اطلعت عليه (1) ؛ إذ تدل بعض التحليلات الاقتصادية النظرية الدقيقة على أن ربط الأجور، ومثله ربط الديون والالتزامات الضريبية بالأسعار، يزيد قابلية الاقتصاد للتضخم، ويجعل التضخم أشد عندما يقع، لكن هذه النتيجة يتوقف وقوعها على السياسات النقدية والمالية المتبعة، فإن كانت هذه السياسات تغطي عجز موازنة الدولة كلياً أو جزئياً بطبع النقود، فإن الربط يزيد القابلية للتضخم (2) ونلاحظ أن أكثر البلاد النامية تلجأ إلى هذه السياسات.
وفضلاً عن هذا، هناك اقتناع واسع الانتشار بين الاقتصاديين بأن اللجوء إلى ربط الأجور غالباً ما يضعف من عزيمة الدول عن مكافحة أسباب التضخم؛ لأنه يخفف مؤقتاً من آثاره ويؤجلها (3) وربما يجعل مكافحة التضخم أصعب في المدى البعيد.
5-
3- على توزيع الدخل:
لم أطلع على دراسات حول أثر ربط الأجور على توزيع الدخل، ولا أستبعد أن يكون من آثاره – في المدى القصير على الأقل- المحافظة على حصة الأجور في الناتج الإجمالي، أو عرقلة انخفاضها في حالات التضخم الظاهر الذي يميل عموماً إلى زيادة المكاسب النسبية لأصحاب الأعمال الحرة والصناعيين والتجار ومالكي رأس المال الحقيقي كالعقارات، بينما يؤدي في الوقت نفسه إلى تخفيض الدخل الحقيقي لأصحاب الدخول الثابتة كالعمال والموظفين والمتقاعدين.
وحيث إن الغالب على من يتقاضون الأجور أنهم الأضعف اقتصادياً والأقل ثروة، فإن ربط الأجور، إذا حفظ مصلحة هؤلاء، يكون أقرب إلى تحقيق مقصد الشريعة في مساعدة الضعفاء وعدم جعل الماء دولة بين الأغنياء، ولابد من الموازنة بين هذا الأثر الإيجابي المحتمل للربط وأثره السلبي على التضخم مما ذكرناه في الفقرة الآنفة.
(1) انظر فيشر، الفصل السادس (ص 193 وما يليها)
(2)
فيشر: وخاصة (ص193 و215)
(3)
آيزمان: (ص 840) ؛ وفيشر (ص 193)
6-
أثر ربط الأجور بالأسعار على الجهالة في عقد العمل
معلوم أن الشريعة الإسلامية توجب وضوح الحقوق والالتزامات بين الطرفين في جميع عقود المعاوضات، ومنها عقد العمل = (عقد إجارة الآدمي عند الفقهاء) وربط أجر العامل بمؤشر لتكاليف المعيشة ستعلن أرقامه فيما بعد يعني أن مقدار الأجر المستحق عن فترة مقبلة غير معلوم تماماً حين إبرام العقد الآن، وهذه جهالة بلا ريب.
وقد اتفق علماء الشريعة في الجملة على أن الجهالة اليسيرة لا تؤثر في صحة العقد وأن الجهالة الفاحشة تفسده، إنما تعددت آراؤهم في أنواع متوسطة من الجهالة، وفيما يجوز أن يغتفر – على خلاف الأصل- من جهالة كثيرة، والذي يهمني هنا هو أن أوضح مدى الجهالة التي يمكن أن يؤدي إليها الربط.
6-
1- مدى الجهالة الناجمة عن الربط:
إن ربط الأجور بالأسعار يعني عملياً الاتفاق على أجر أساسي محدد (كما في المثال المضروب في الجدول رقم (3) السابق) مع الالتزام بزيادة عليه ترتبط بالغلاء أي بزيادة الأسعار في المستقبل، فالجهالة محصورة في مقدار (زيادة الغلاء) وليس في الأجر الأساسي، (وسأفترض تبسيطاً أن العقد يقضي بزيادة الأجر بنسبة مساوية لزيادة الأسعار) .
ولإعطاء فكرة واقعية عن الموضوع أذكر أن الزيادات السنوية في الأسعار في كثير من البلاد الإسلامية غير المصدرة للنفط خلال العقد الماضي (1980- 1990م) كانت في المتوسط دون 10 % سنوياً في أكثرها، وما بين 15 % - 20 % في بضع بلدان، وبلغت قريباً من 50 % سنوياً في بلدين (1)
(1) البنك الدولي: تقرير عن التنمية في العالم 1992م، الجدول 13، ومؤشر الأسعار المستخدم في التقرير وهو مثبت أسعار الناتج المحلي الإجمالي
فإذا كان عقد العمل يمتد 3- 4 سنوات، فمن السهل أن تبلغ (زيادة الغلاء) في أجر السنة الأخيرة نصف الأجر الأساسي، حتى في البلدان ذات التضخم المعتدل، وأستبعد أن يمكن فقهاً وصف مثل هذه الجهالة بأنها يسيرة، بل الأقرب أن تعد متوسطة أو كثيرة، وواضح أنه بقدر ما يكون معدل التضخم في بلد ما ضئيلاً تتضاءل معه الحاجة إلى ربط الأجور أصلاً، فالربط غالباً ما يحصل – أو يطالب به- عندما تكون معدلات ارتفاع الأسعار كبيرة ومتقلبة، فيؤدي حينئذ إلى جهالة كبيرة في (علاوة الغلاء) التي ستضاف إلى الأجر الأساسي.
6-
2- هل يؤدي ربط الأجور النقدية إلى جهالة مفسدة للعقد؟
إن حيثيات الفقرتين السالفتين توصل إلى القول بأن الجهالة التي ينطوي عليها ربط الأجور النقدية هي جهالة كثيرة والظاهر بادي الرأي أن تعد جهالة فاحشة تفسد العقد.
لكن القضية تحتاج إلى مزيد من التأمل والموازنة في ضوء الاعتبارات التالية:
أ- هل الجهالة الفاحشة المفسدة للعقد هي مجرد الجهالة الكثيرة، أم إنها (الجهالة التي تفضي إلى النزاع، وهي تمنع صحة العقد)(الموسوعة الفقهية الكويتية مادة: جهالة) ، وبعبارة فقهاء آخرين (.. هي الجهالة التي تفضي إلى نزاع مشكل تستوي فيه حجة الطرفين)(1)
واضح أن ربط الأجور بمؤشرات الأسعار يؤدي إلى جهالة، لكنها لا تفضي إلى النزاع؛ إذ إن مؤشرات الأسعار تصدرها جهات فنية متخصصة تابعة للدولة، وليس في حساب الأجر بعد معرفة أرقام مؤشرات الأسعار أي إشكال أو التباس، وبعبارة أخرى: إن الجهالة واقعة عند العقد لكنها ستزول قبل تنفيذه.
(1) الشيخ مصطفى الزرقا، نظام التأمين
ب- إن الجهالة الكثيرة تغتفر فقهاً لمبررات شرعية معتبرة كالحاجة العامة، (ومثالها عقد الجعالة) فهل من مبرر شرعي هنا لاغتفار الجهالة؟ الجواب بالإيجاب، والمبرر هو مراعاة قاعدة شرعية عظيمة هي: حفظ العدل بين طرفي العقد (1) ذلك أن أثر التضخم على العمال الذين يتقاضون أجوراً ثابتة خلال سريان عقد العمل هو تخفيض القوة الشرائية لتلك الأجور نتيجة ارتفاع الأسعار، بينما أثره على أرباح أصحاب الأعمال هو عادة زيادة أرباحهم بما يوازي معدل التضخم على الأقل.
فربط الأجور بالأسعار لا يلزم أصحاب العمل بزيادة الأجور إلا عندما تزداد أسعار منتجاتهم فتزداد أرباحهم، وهذا أقرب إلى تحقيق العدل بين الطرفين في ظل اقتصاديات التضخم.
ويظهر للمتأمل أن قاعدة منع الجهالة في العقود هي على التحقيق وسيلة إلى مقصد شرعي أسمى هو حفظ العدل بين طرفي العقد؛ لأن الجهالة الكثيرة هي مظنة إلحاق غبن بالعاقد ما كان يرضى به لو علم الحقيقة قبل العقد، وما دام الأمر كذلك فإن من المناسب أن نغتفر الجهالة الكثيرة إذا كانت في نفسها وسيلة لازمة لحفظ العدل بين طرفي العقد، وهذا قريب من واقع ربط الأجور بالأسعار.
ج – من المعهود في الشريعة كثرة اغتفارها الغرر (وهو نوع من الجهالة) في المعاملات المنعقدة على عمل الأبدان، وقد أجاد في بيان ذلك الشيخ العلامة المحقق محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله (2)
د – هناك مدخل مختلف تماماً لموضوع ربط الأجور بالأسعار ينبغي أيضاً النظر فيه قبل الانتهاء إلى رأي فقهي، وأنتقل الآن إليه.
(1) للتفصيل والشواهد الفقهية على هذه القاعدة الملحوظة في الفقه وإن لم تكن ملفوظة، انظر لكاتب هذا البحث (قواعد المبادلات في الفقه
…
) (ص 45- 48) ويذكر ابن رشد في بداية المجتهد (2/ 164) رأي مالك رحمه الله بأن النهي عن بيوع الغرر (إنما هو لمكان عدم العدل فيها) والغرر نوع من الجهالة
(2)
مقاصد الشريعة الإسلامية، ص 184- 186، ط: الشركة التونسية
7-
تحديد الأجر بمجموعة سلع، وصلة الربط (الأجر غير النقدي كنوع من الربط)
7-
1- مقدمة:
يدل البحث عن مدى الجهالة في عقد عمل مستحدث ربط فيه الأجر بالأسعار كما فعلت في الفقرة (6) السابقة، يمكن الانطلاق من مدخل مختلف تماماً وهو البحث عن عقد معروف حكمه، يشبه ذلك العقد المستحدث، وتعدية الحكم المعروف إلى العقد الجديد، وهذا ما سأحاوله الآن.
إن الأجر في عقد العمل يجوز شرعاً أن يكون مبلغاً نقدياً، كما يجوز أن يكون أجراً غير نقدي؛ مالاً متقوماً من غير الأثمان كسلعة معينة، أو منفعة محددة كسكنى دار معينة مدة معلومة.
ويجوز أن يكون بعض الأجر نقوداً وبعضه سلعاً ومنافع محددة، وقد نقلت كتب التاريخ أن بعض ولاة المسلمين كان رزقهم: كذا درهماً ونصف شاة كل يوم، أو كذا درهماً مع كسوة في الشتاء وأخرى في الصيف وعمرة كل سنة.
7-
2- الأجر سلعة محددة:
لنبدأ بملاحظة فنية، أفترض عقد عمل حدد الأجر فيه بسلعة محددة موصوفة: مثلاً عشرة أرطال أرز (من نوع معين) كل يوم.
إن هذا الأجر محصن تماماً من ارتفاع سعر الأرز، ولو كان سعر الأرز عند ابتداء العقد 5 دراهم للرطل فإن هذا العقد الصحيح شرعاً يشبه عقداً مستحدثاً، الأجرة اليومية الأساسية فيه 50 درهماً أول العقد (10 أرطال × 5 دراهم) مع ربط الأجر بسعر الأرز؛ لأن ربط الأجر بسعر سلعة معينة معناه العملي: إعطاء مبلغ نقدي يكفل شراء المقدار نفسه من السلعة المعينة، فترة بعد فترة، خلال سريان العقد.
ولا ينكر أن هناك بعض الفروق بين عقد تكون الأجرة اليومية فيه عشرة أرطال أرزاً، وعقد الأجرة فيه دراهم بقية هذه الأرطال، ولابد من تحديد هذه الفروق بدقة، والنظر فيما إذا كانت مؤثرة تقتضي القول بصحة العقد الأول وفساد الثاني.
ويبدو لي الشبه قوياً جداً بين العقدين، وبخاصة إذا ذكرنا حكماً شرعياً معروفاً هو صحة توفية الالتزام المالي، عند حلول أجله، ببديل يتفق عليه الطرفان (1) وتطبيق ذلك في موضوعنا هو أنه عندما تستحق الأجرة أرزاً مثلاً، يجوز أن يتفق الطرفان على الوفاء بقيمتها دراهم مقبوضة، وهذا الحكم الفقهي يقوي جداً وجه الشبه بين العقدين.
7-
3 –الأجر المركب من مجموع سلع وخدمات محددة بالعقد:
لنفترض الآن عقد عمل حدد الأجر فيه بسلة (مجموعة) كميات من سلع مختلفة ومنافع محددة، ويشبه هذا ما ذكره الفقهاء واختلفوا فيه من عقد يكون الأجر فيه طعام الأجير وكسوته، فمن الفقهاء من أجازه، ومنه من منعه لأن مقدار الطعام والكسوة يتفاوتان كثيراً بين الناس مما يؤدي إلى جهالة الأجر، لكن (إن اشترط الأجير كسوة ونفقة معلومة موصوفة جاز ذلك عند الجميع)(2) فالأجر المركب من سلة محددة من سلع ومنافع (خدمات) موصوفة جائز، وهو محصن تماماً من تقلب أسعار (سلة السلع) التي بني عليها العقد؛ لأن الأجير سيحصل على (السلة) المعينة كيفما تقلبت أسعارها، وهو يشبه عقداً مستحدثاً الأجر الأساسي فيه دراهم معلومة (تساوي قيمة (السلة) عند ابتداء العقد) وهو مربوط بمؤشر للأسعار مبني على سلة السلع ذاتها.
ليس العقدان متماثلين لكنهما متشابهان جداً، ومن الفروق بينهما أن الأجر المركب واجب الأداء بكمياته الموصوفة، ولكل من المستأجر (رب العمل) والأجير أن يتمسك بذلك، بينما العقد المستحدث، بعد أن يعرف مؤشر الأسعار، يثبت الأجر فيه نقوداً يستطيع الأجير أن يشتري بها إن شاء عين السلة الموصوفة، أو سواها مما يريد، والنقود أنفع له لأنها تعطيه خياراً أوسع (3) إلا في الحالات الاستثنائية التي يكون تحصيل السلع فيها عسيراً كالمجاعات والتوزيع بالبطاقات التموينية
…
إلخ.
ففي الحالات العادية سيكون في مصلحة الأجير، في عقد الأجر فيه مركب غير نقدي، أن يرضى، بل أن يطلب، الوفاء بقيمة أجره من الدراهم، ولا يستبعد أن يرحب المستأجر بذلك ليوفر على نفسه عناء شراء السلع ونقلها.. إلخ، والظاهر أنه لا مانع من هذا فقهاً.
(1) هذا هو الحد الأدنى الذي يدل عليه حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (كنت أبيع الإبل بالبقيع..) وانظر أيضاً المادة 402 من مشروع قانون المعاملات المالية الموحد للبلاد العربية المستمد من الفقه الإسلامي
(2)
الموسوعة الفقهية الكويتية، مادة إجارة، 1/ 292- 293
(3)
هذا ما تؤكده النظرية الاقتصادية عن الأرقام القياسية للأسعار، انظر مثلاً: رويست (ص 157- 158)
وهنا نكون قد اقتربنا جداً من العقد المستحدث الذي نريد معرفة حكمه الفقهي، ولم يبق إلا خطوات يسيرة تنطلق من السؤالين التاليين:
السؤال الأول: هل يجوز في مثل العقد المذكور، الاتفاق ابتداءً على أن يعطي المستأجر (صاحب العمل) الخيار للعامل بين استيفاء أجره، عند حلوله، بكمياته الموصوفة، أو تقاضي قيمته بما تساويه (سلة السلع) في السوق حينئذٍ؟ (أجر غير نقدي مع خيار القيمة للعامل) .
السؤال الثاني: هل يجوز الاتفاق ابتداءً على عدم تخيير أي من الطرفين، بل على أداء الأجر نقوداً بقدر قيمة (السلة) المتفق عليها؟ (أجر غير نقدي مع الإلزام بالقيمة) ، وهذا يكافئ تماماً ربط الأجر بأسعار (السلة) الموصوفة.
ولم يظهر لي سبب وجيه لمنع الصورة الأولى.
أما الصورة الثانية فتنطوي على إسقاط خيار قبل ثبوته، وهذا الغالب فيه فقهاً عدم الجواز فيما أحسب، لكن عدم الجواز ربما كان مبناه منع سوء النية أو الافتئات على حقوق الغير، أو إسقاط مقصد شرعي، ومسألتنا الحاضرة ليست في ذلك من شيء، بل مقصدها العام الاقتراب من العدالة والإنصاف، وتيسير أمر هو غالباً في مصلحة المتعاقدين كليهما، لذلك أقترح قبول الصورة الثانية أيضاً.
7-
4- الأجر المركب من السلع والخدمات الداخلة في مؤشر تكاليف المعيشة:
هذه هي الحالة العامة تماماً لربط الأجور بالأسعار حيث يتفق المتعاقدان على ربط الأجر بمؤشر تكاليف المعيشة الذي تقدره وتعلنه جهة رسمية مستقلة عن الطرفين، وقد أسلفت آنفاً أن المعنى الفني الدقيق للربط لمؤشر تكاليف المعيشة (أو سواه من المؤشرات العامة للأسعار) هو أنه يعدل الأجر النقدي كل فترة على نحو يسمح بشراء عين سلة السلع التي بني عليها المؤشر مهما تقلبت أسعارها.
ووجه الاختلاف بين سلة من السلع والخدمات محددة بالعقد، والسلة التي يبنى عليها المؤشر المذكور؛ هو أن سلة المؤشر تضم عادة عشرات، وأحياناً مئات من السلع والخدمات (1) وهي معلنة لمن يشاء معرفتها بالتفصيل، فيمكن أن يتراضى طرفا العقد على اعتمادها وربط الأجر بها، لكن كثرتها تحول عملياً دون أن يطالب الأجير باستيفائها عيناً بكمياتها الموصوفة لو شاء، أي تحول دون تطبيق صورة السؤال الأول (أجر غير نقدي مع خيار القيمة للعامل) ، لأن هذا الخيار، وإن نص عليه العقد، غير قابل للتطبيق عملياً فهو خيار صوري لا ينبغي أن يعتد به فقهاً.
فلا يبقى والحالة هذه إلا الصورة المبينة في السؤال الثاني (أجر غير نقدي مع الإلزام بالقيمة) ، فمن المناسب لمن يصححها فقهاً أن يصحح أيضاً صورتها العامة التي لا تختلف عنها عملياً إلا في كثرة السلع والخدمات الموصوفة في سلة الأجر.
8 -
خلاصة ونتيجة
أولاً: إن المستوى العام لأسعار السلع والخدمات في المجتمع يمكن قياسه رقمياً بعدد من الطرق المنضبطة والمتفق عليها فنياً.
ثانياً: والتضخم هو التصاعد المطرد للأسعار عموماً خلال فترة زمنية، وهو يعني –مهما كانت أسبابه- تناقص القوة الشرائية للنقود، وقد صار التضخم –بدرجات مختلفة- شائعاً في كل دول العالم تقريباً منذ أكثر من نصف قرن، وبسببه ظهرت فكرة ربط الأجور النقدية بمؤشر عام للأسعار، ليعوض تناقص القوة الشرائية للأجور النقدية بسبب التضخم.
(1) تضم سلة مؤشر تكاليف المعيشة في الولايات المتحدة أسعار نيف وأربعمائة سلعة وخدمة، (نيتر مع وسرمان، ص 672) لكن العدد أقل من ذلك في بلدان أخرى وبخاصة النامية منها
ثالثاً: ويعني الربط الكامل للأجور بالأسعار أن يتفق منذ بداية العقد على أن يزداد الأجر النقدي الأساسي في كل سنة لاحقة بنسبة الزيادة العامة في الأسعار، حسب مؤشر عام للأسعار تقيسه وتعلنه جهة رسمية متخصصة مستقلة عن طرفي العقد، ويعني الربط عملياً تمكين الأجير من شراء نفس الكمية من سلع وخدمات محددة موصوفة، ولو تغيرت أسعارها خلال سريان عقد العمل، نتيجة التضخم.
رابعاً: والربط يمكن أن يؤدي إلى جهالة كبيرة في مقدار الأجر النقدي المستحق بالعقد لفترة مقبلة، لكن ثمة اعتبارات شرعية تبرر أن تغتفر هذه الجهالة، وأهم هذه الاعتبارات:
أ- إن ذلك أقرب إلى العدل بين الطرفين في عقد العمل.
ب- إن من الجائز شرعاً الاتفاق على أجر غير نقدي يتكون من سلة من سلع وخدمات محددة موصوفة، وهذا قريب جداً من ربط الأجور بالأسعار.
خامساً: في ضوء ما سبق يبدو من المناسب القول بأن ربط الأجور بالأسعار مباح، بشرط أن يعلم الطرفان بحقيقة المؤشر العام للأسعار الذي يتفق على اعتماده.
سادساً: إن الآثار الاقتصادية العامة لربط الأجور بالأسعار بعضها نافع وبعضها ضار، وكثير منها غير متفق عليه بين الاقتصاديين، وهي على العموم لا تكفي سنداً لمنع ما دلت الأحكام التفصيلية على إباحته، وبوسع ولي الأمر في أي بلد، إذا تبين له، بأدلة معتبرة، أن لربط الأجور آثاراً ضارة راجحة، أن يقيد هذا المباح أو يمنع منه مؤقتاً بحسب قواعد السياسة الشرعية.
د. محمد أنس الزرقا
المراجع الأجنبية
- Fischer، Stanley، (Wage Indexation and Macroeconomic Stability) in Indexaing Inflation and Economic Policy، The Mit Press، Cambridge، 1986.
- Fischer، Stanley، (Indexing and Inflation) in Indexing Inflation، and Economic Policy، The MIT press، Cambridge، 1986.
- Ruist، Erik:(Index Numbers: Theoretical Aspects) International Encyclopedia of the Social Sciences، VOL. 7، pp. 154-59.
- Neter J. et al.،: Applied Statistics، Boston، Alten & Bacon، 1978.
- Friedman، M.، (Monetary Correction،) In Giersch et al.، Essaays on Inflation and Indexayion، 1974.
- Gierch، H.، (index Clauses and the Fight Against Inflation،) in Giersch et al.،
- Essay on Inflation and Indexation، Washington، D.C; American Enterprise Institute، 1974.
- Allais، Maurice، (The Monatary Conditions of An Economy of Markets) paper presented in a Lecture at Islamic Development Bank، Jeddah، Feb. 3، 1992.
- Aizenman، J.، (Wage Indexation) ، in The New palgrave A Dictionary of Economics، Edited by Eatwell j. et al.، Vol. 4، pp. 838، 40، 1987.