المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌بيع العربونإعدادفضيلة الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ٨

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد الثامن

- ‌الأخذ بالرخص الشرعية وحكمهإعدادالدكتور: وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌موضوع: " الأخذ بالرخص الشرعية وحكمه

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادالدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادالشيخ خليل محيي الدين الميس

- ‌الرخصة (التلفيق)إعدادالشيخ خليل محيي الدين الميس

- ‌التلفيق والأخذ بالرخصة وحكمهماإعدادحجة الإسلام الشيخ محمد علي التسخيري

- ‌الأخذ بالرخص الشرعية وحكمهإعدادمحمد رفيع العثماني

- ‌حكمالرخصة وتتبع الرخصفي الفقه الإسلامي

- ‌الأخذ بالرخصةإعدادأ. د. حمد عبيد الكبيسي

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادالشيخ مجاهد الإسلام القاسمي

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادأ. د. عبد العزيز عزت الخياط

- ‌الرخصةإعدادالشيخ محمد الشيباني بن محمد بن أحمد

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهتتبع الرخص – التلفيق ورأي الفقهاء فيهإعدادفضيلة الشيخ مصطفى كمال التارزي

- ‌الأخذ بالرخص وحكمهإعدادالشيخ الطيب سلامة

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادالدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين

- ‌الأخذ بالرخص وحكمهإعدادالدكتور أبو بكر دوكوري

- ‌بيع العربُونإعدادفضيلة الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌بيع العربُونإعدادالدكتور وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌بيع العربونإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌بيع المزايدةإعدادفضيلة الشيخ محمد المختار

- ‌عقد المزايدةبين الشريعة الإسلامية والقانوندراسة مقابلةمع التركيز على بعض القضايا المعاصرةإعدادعبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان

- ‌قواعد ومسائلفيحوادث السيرإعدادالقاضي محمد تقي العثماني

- ‌ موضوع "حوادث السير

- ‌حوادث السيرإعدادد. عبد الله محمد عبد الله

- ‌حوادث السيرإعدادالشيخ عبد القادر محمد العماري

- ‌حوادث السيرإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌التطبيقات الشرعيةلإقامة السوق الإسلاميةإعدادالدكتور علي محيي الدين القره داغي

- ‌التطبيقات الشرعيةلإقامة السوق الإسلاميةإعدادالأستاذ الدكتور / علي السالوس

- ‌الائتمان المولد على شكل بطاقةمع صيغة مقترحة لبطاقة ائتمانية خالية من المحظورات الشرعيةإعدادسعادة الدكتور محمد القري بن عيد

- ‌بطاقات الائتمانإعدادالشيخ حسن الجواهري

- ‌سر المهنة الطبية بين الكتمان والعلانيةإعدادالدكتور أحمد رجائي الجندي

- ‌مسؤولية الطبيبإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌مداواة الرجل للمرأةوالمرأة للرجلإعدادالدكتور محمد علي البار

- ‌نقص المناعة المكتسبة (الإيدز)الأحكام المتعلقة بالمرضى والمصابينإعدادأ. د. مصطفى عبد الرؤوف أبو لسان

- ‌بعض المشاكل الأخلاقية والاجتماعيةالناتجة عن مرض الإيدز(نقص المناعة المكتسبة)إعدادالدكتور محمد علي البار

- ‌مرض الإيدز(نقص المناعة المكتسبة)أحكامه وعلاقة المريض الأسرية والاجتماعيةإعدادالدكتور سعود بن مسعد الثبيتي

- ‌التداوي بالمحرماتإعدادالدكتور محمد علي البار

- ‌بحوث مجمعية

- ‌حُسن وفاء الديونوعلاقته بالربط بتغير المستوى العام للأسعارإعدادالدكتور صالح بن زابن المرزوقي البقمي

- ‌ربط الأجور بتغير المستوى العام للأسعارفي ضوء الأدلة الشرعيةإعدادد. حمزة بن حسين الفعر

- ‌الربط القياسي للأجور بالمستوى العام للأسعارتحليل من منظور إسلامي لمشكلة الأجورفي ظل التضخم والعلاج المقترحإعدادد. عبد الرحمن يسري أحمد

- ‌التضخم والربط القياسيدراسة مقارنة بين الاقتصاد الوضعيوالاقتصاد الإسلاميإعدادالدكتور شوقي أحمد دنيا

- ‌ربط الأجور بتغير المستوى العام للأسعاربين الفقه والاقتصادإعدادد. محمد أنس الزرقا

- ‌ندوة قضايا العملةالربط القياسي للديون بعملة اعتباريةإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌ملاحظات أساسيةفي مسألة ربط الأجور والمستحقاتإعدادالدكتور سيف الدين إبراهيم تاج الدين

- ‌مشاكل البنوك الإسلاميةمحاورإعدادمجموعة دلة البركة

- ‌مشاكل البنوك الإسلاميةمحاورإعدادبيت التمويل الكويتي

- ‌الصعوبات التي تواجه البنوك الإسلاميةوتصورات لكيفية مواجهتهاإعدادأ. د. إسماعيل حسن محمد

- ‌مشاكل البنوك الإسلاميةعقد السلم ودوره في المصرف الإسلاميإعدادالشيخ صالح الحصين

- ‌مشكلات البنوك الإسلامية في الوقت الحاضرإعدادد. محمد نجاة الله صديقي

- ‌في مشكلات المصارف الإسلاميةإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌حكم المشاركة في أسهم الشركات المساهمةالمتعاملة بالرباتجربة مجموعة دلة في أسلمة الشركاتعن طريق شراء أسهمهاإعدادالشيخ صالح عبد الله كامل

- ‌المشاركة في شركات تتعامل بالحرامإعدادالشيخ عبد الله بن بيه

الفصل: ‌بيع العربونإعدادفضيلة الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

‌بيع العربُون

إعداد

فضيلة الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وبعد.

فهذا بحث عن: بيع العربون أكتبه لمجمع الفقه الإسلامي في دورته الثامنة، ملتزمًا فيه ببيان ما طلبه المجمع وهو:

1-

تعريفه، مشروعيته، حاجة الناس إليه في تعاملهم.

2-

أحكامه:

- هل يجوز العربون في بيع النقد بجنسه وفي الصرف؟

- هل يجوز أن يكون العربون مبلغًا مستقلا عن سعر السلعة؟

- هل يجوز العربون في الخدمات، كما في السلع؟

3-

مسائل:

- هل يجوز العربون عند شراء الأوراق المالية، كالأسهم؟

- هل يجوز العربون في بيع المرابحة؟

- هل يلزم في بيع العربون أن تكون السلعة حاضرة للمعاينة، أم يجوز عند المواعدة على الشراء؟. وملتزمًا أيضا بقواعد النشر في مجلة المجمع، وأسأل الله أن يوفقني إلى الصواب.

أولاً – تعريف بيع العربون:

العربون والعربان بضم العين، والعربون والعربان بفتح العين والراء، وتبدل العين همزة، أعجمي معرب، يقال: أعرب في بيعه، وعربن إذا أعطى العربون (1) .

وبيع العربون أو العربان الوارد في الحديث والذي يتحدث عنه الفقهاء هو: أن يشتري الرجل السلعة، ويدفع للبائع مبلغًا من المال، على أنه إن أخذ السلعة يكون ذلك المبلغ محسوبًا من الثمن، وإن تركها فالمبلغ للبائع. وهذا التفسير اتفق عليه جميع الفقهاء.

قال مالك في الموطأ: "وذلك – أي بيع العربان – فيما نرى، والله أعلم، أن يشتري الرجل العبد، أو الوليدة، أو يتكارى الدابة، ثم يقول للذي اشترى منه أو تكارى منه: أعطيك دينارًا أو درهمًا، أو أكثر من ذلك، أو أقل، على أني إن أخذت السلعة، أو ركبت ما تكاريت منك، فالذي أعطيك هو من ثمن السلعة، أو من كراء الدابة، وإن تركت ابتياع السلعة، أو كراء الدابة، فما أعطيتك لك باطل بدون شيء (2) .

وقال ابن قدامة: "والعربون في البيع: هو أن يشتري السلعة، فيدفع إلى البائع درهمًا، أو غيره على أنه إن أخذ السلعة احتسب من الثمن، وإن لم يأخذها، فذلك للبائع"(3) .

وقال المرتضى: "بيع العربون هو دفع الشيء إلى البائع على أنه إن تم البيع فمن الثمن، وإلا فهبة (4) .

وقال الرملي: "بيع العربون أن يشتري سلعة، ويعطيه دراهم مثلاً، وقد وقع الشرط في صلب العقد على أنه إنما أعطاه لتكون من الثمن، إن رضي السلعة، وإلا فهبة (5) .

(1) القاموس المحيط، والمصباح.

(2)

الموطأ بهامش المنتقى 4/ 157.

(3)

المغني مع شرح الكبير 4/ 289.

(4)

البحر الزخار 3 /295.

(5)

نهاية المحتاج3/ 459.

ص: 439

تكييف بيع العربون:

يتبين من تعريف بيع العربون، أنه بيع يثبت فيه الخيار للمشتري، فإذا أمضى البيع كان العربون جزءًا من الثمن، وإذا رد البيع فقد العربون، فهو خيار شرط يقابله مال في حال الرد، وهذا الخيار للمشتري وحده، أما البائع فإن البيع لازم بالنسبة له، لا يستطيع رده، كما يتبين أيضا أنه خيار غير محدد بزمن.

ثانيًا: مشروعية بيع العربون:

ورد في حكم العربان حديثان: أحدهما ينهى عنه، والآخر يحله.

1-

الحديث الذي ينهى عنه هو: يحكى عن مالك عن الثقة عنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العربان)) (1) .

هذا الحديث ضعفه جماعة من رجال الحديث، منهم الإمام أحمد (2)، وقال النووي عنه: مثل هذا لا يحتج به عند أصحابنا، ولا عند جماهير العلماء (3) .

والضعف يدخل هذا الحديث من وجهين:

الأول: إبهام الثقة الذي روى عنه مالك.

الثاني: رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.

فقد ذهب قوم إلى ترك الاحتجاج بها منهم: أبو داود، وابن حبان، وابن عدي، وابن معين في رواية عنه.

قال ابن حبان: إن أراد جده عبد الله، فشعيب لم يلقه، فيكون منقطعًا، وإن أراد محمدًا، فلا صحبة له، فيكون مرسلاً (4) .

قال ابن معين: رواية عمرو عن أبيه عن جده كتاب ووجادة، فمن هنا جاء ضعفه: لأن التصحيف يدخل على الراوي من الصحف: ولذا تجنبها أصحاب الحديث (5) .

وصحح الحديث جماعة، وقالوا عن المطعن الأول: إن سند الحديث، وإن كان ضعيفًا لإبهام الثقة الذي رواه عنه مالك، إلا أن الحديث ذاته صحيح لمعرفة هذه الثقة، فقد قال ابن عبد البر: إنه ابن لهيعة (6) .

(1) الموطأ بهامش المنتقى 4 /157، وقال في منتقى الأخبار: رواه أحمد والنسائي وأبو داود. نيل الأوطار 5/ 162.

(2)

المغني مع شرح الكبير 4 /289.

(3)

المجموع شرح المهذب 9 /334.

(4)

هو عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص. صحيح الترمذي 3 /137.

(5)

تدريب الراوي 221، المصدر السابق.

(6)

تدريب الراوي 221، وشرح الشيخ أحمد محمد شاكر لمسند الإمام أحمد 11 /13.

ص: 440

وقالوا عن المطعن الثاني – رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده – المراد بجده عبد الله الصحابي، لا محمد التابعي، وسماع شعيب عن عبد الله ثابت، وهو الذي رباه لما مات أبوه محمد.

قال في تدريب الراوي: "وذهب آخرون إلى الاحتجاج بها، وهم أكثر المحدثين، وهو الصحيح المختار الذي عليه المحققون من أهل الحديث (1) .

وقد روي حديث النهي عن بيع العربان من طرق أخرى ذكرها الشيخ أحمد محمد شاكر في شرحه لمسند الإمام أحمد (2) .

2-

والحديث الذي يحل بيع العربون هو ما أخرجه عبد الرزاق في مصنفه عن زيد بن أسلم: ((أنه سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العربان في البيع فأحله)) (3) .

هذا الحديث مرسل، وفي إسناده إبراهيم بن أبي يحيى، وهو ضعيف (4)، وقال ابن رشد: قال أهل الحديث: ذلك غير معروف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (5) . وقال ابن عبد البر: لا يصح ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من إجازته (6) .

واضح من هذا أن العمل بحديث عمرو بن شعيب أولى من العمل بحديث زيد ابن أسلم، لأن حديث زيد بن أسلم فيه المقال المذكور، وحديث عمرو بن شعيب ورد من طرق يقوي بعضها بعضًا، ولأنه يتضمن الحظر، وهو أرجح من الإباحة، كما تقرر في الأصول (7) .

(1) تدريب الراوي 221.

(2)

شرح الشيخ أحمد محمد شاكر لمسند الإمام أحمد 11 /14 و15 وانظر أيضا نيل الأوطار 5 /162 – 163.

(3)

نيل الأوطار 5 /162.

(4)

نيل الأوطار 5 /162.

(5)

بداية المجتهد 2 /163.

(6)

الزرقاني على الموطأ 2 /99.

(7)

نيل الأوطار 5/ 163.

ص: 441

آراء الفقهاء في حكم بيع العربون:

اختلف الفقهاء في حكم بيع العربون فمنعه الحنفية، والمالكية، والشافعية، والشيعة الزيدية، وأبو الخطاب من الحنابلة، وروي المنع عن ابن عباس والحسن (1)، وقال ابن رشد والشوكاني: المنع قول الجمهور (2) . وأجازه الإمام أحمد، وروي الجواز عن عمر وابنه، وعن جماعة من التابعين، منهم مجاهد، وابن سيرين، ونافع بن الحارث (3) ، وزيد بن أسلم (4) .

أدلة المانعين:

استدل المانعون لبيع العربون بما يأتي:

1-

حديث النهي عن بيع العربون.

وهذا دليل قوي، لما بيناه من أن هذا الحديث مقبول عند أكثر علماء الحديث.

2-

في بيع العربون غرر:

قال ابن رشد الجد: "ومن ذلك – أي من الغرر المنهي عنه – ((نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع العربان)) وقال أيضًا: "الغرر الكثير المانع من صحة العقد يكون في ثلاثة أشياء: أحدهما العقد، والثاني أحد العوضين، والثالث الأجل فيهما، أو في أحدهما، فأما الغرر في العقد، فهو مثل ((نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة)) وعن بيع العربان " (5) .

وقال ابن رشد الحفيد: "وإنما صار الجمهور إلى منعه، لأنه من باب الغرر، والمخاطرة، وأكل المال بغير عوض"(6) . وقد ورد التعليل بالغرر، وأكل المال بالباطل، في كثير من كتب المالكية (7) والغرر متحقق في بيع العربون، لأنه بيع مستور العاقبة، لا يدري كل من البائع والمشتري: هل يتم البيع، أم لا؟ وأكل المال بالباطل متحقق فيه، بصورة واضحة، إذا عدل المشتري وباع البائع سلعته بالثمن الذي اتفق به مع المشتري، أو بأكثر منه.

3-

فيه شرطان فاسدان: أحدهما شرط كون ما دفعه المشتري للبائع يكون مجانًا، إن اختار ترك السلعة، والثاني شرط الرد على البائع، إذا لم يقع منه الرضا بالبيع (8) .

4-

بيع العربون بمنزلة الخيار المجهول، لأن المشتري اشترط أن له رد المبيع من غير ذكر مدة، فلم يصح، كما لو قال: ولي الخيار متى شئت رددت السلعة ومعها درهمًا" (9) .

(1) المنتقى 4 /157، ونهاية المحتاج 3/ 459، والبحر الزخار 3 /259، والمغني 4 /289 مع الشرح الكبير.

(2)

بداية المجتهد 2 /162، ونيل الأوطار 5 /163.

(3)

هكذا في بداية المجتهد، وفي المغني 4/ 289 والقرطبي 5 /150:"عبد الحارث".

(4)

بداية المجتهد 2/ 289، والقرطبي 5/ 150.

(5)

المقدمات الممهدات 1/ 221.

(6)

بداية المجتهد 2 /163.

(7)

وبالغ القرطبي فقال: إنه من باب بيع القمار، والغرر، والمخاطرة، وأكل المال بالباطل، بغير عوض ولا هبة، وذلك باطل بإجماع – الجامع لأحكام القرآن 5 /150.

(8)

نيل الأوطار 5 /163.

(9)

المغني مع الشرح الكبير 4/ 289.

ص: 442

أدلة المجوزين:

استدل المجوزون لبيع العربون بما يأتي:

1-

حديث زيد بن أسلم (1) .

وفي هذا الحديث المقال الذي ذكرنا، فلا يصح الاحتجاج به.

2-

ما روي عن نافع بن عبد الحارث أنه اشترى لعمر دار السجن من صفوان بن أمية، فإن رضي عمر وإلا فله كذا وكذا. قال الأثرم: قلت لأحمد: تذهب إليه؟ قال: أي شيء أقول؟ هذا عمر رضي الله عنه. قال ابن قدامة: "وإنما صار أحمد فيه إلى ما روي فيه عن نافع بن عبد الحارث

وذكر الخبر ثم قال: فأما إن دفع إليه من قبل البيع درهمًا، وقال: لا تبع هذه السلعة لغيري، وإن لم أشترها منك، فهذا الدرهم لك، ثم اشتراها منه بعد ذلك بعقد مبتدئ وحسب الدرهم من الثمن صح لأن البيع خلا عن الشرط المفسد، ويحتمل أن الشراء الذي اشتري لعمر كان على هذا الوجه، فيحمل عليه، جمعًا بين فعله، وبين الخبر، وموافقة القياس، والأئمة القائلين بفساد العربون (2) يستفاد من كلام ابن قدامة هذا أنه يرى العمل بحديث النهي عن بيع العربون، ويرى أن المنع هو القياس، ويؤول فعل عمر بما يتفق مع الحديث والقياس.

3-

القياس على ما قاله سعيد بن المسيب وابن سيرين، من أنه لا بأس إذا كره المشتري السلعة أن يردها، ويرد معها شيئًا، فقد قال الإمام أحمد: هذا في معناه.

ذكر ابن قدامة هذا الدليل ولم يعلق عليه (3) ??وسيأتي الحديث عن هذه الصورة، وأنها ليست من بيع العربون.

وإني أرجح المنع لقوة دليله، فإن حديث النهي أكثر رجال الحديث يصححونه، وحديث الجواز أكثرهم يرده، والغرر في بيع العربون متحقق، وأكل المال بالباطل متحقق أيضا في بعض صوره، وما اعتمد عليه المجوزون من أقوال بعض الصحابة والتابعين لا يقوى على معارضة أدلة المانعين.

(1) نيل الأوطار 5 /163، لم يستدل في المغني ولا في المقنع بهذا الحديث.

(2)

المغني مع الشرح الكبير 4/ 289.

(3)

المغني مع الشرح الكبير 4/ 289.

ص: 443

صور من البيع تشتبه ببيع العربون وليست منه:

1-

قد يدفع المشتري للبائع مبلغًا من المال، على أنه إن أمضى البيع احتسبه من الثمن، وإن لم يمضه أخذ ما دفعه. البيع بهذه الصورة صحيح لأن الغرر الذي فيه مغتفر. فهو بيع بالخيار قدم فيه جزء من الثمن. قال الباجي: وأما العربان الذي لم ينه عنه، فهو أن يتباع منه ثوبًا أو غيره بالخيار فيدفع إليه بعض الثمن مختومًا عليه، إن كان مما لا يعرف بعينه، على أنه إن رضي البيع كان من الثمن، وإن كره رجع إليه ذلك، لأنه ليس فيه خطر يمنع صحته، وإنما فيه تعيين للثمن أو بعضه (1) وقال الحطاب: قال مالك: "وأما من اشترى شيئًا وأعطى عربانًا على أنه إن رضيه أخذه، وإن سخطه رده، وأخذ عربانه، فلا بأس به "(2) . ولا بد لصحة هذه الصورة من تحديد مدة الخيار، كما هو الشأن في خيار الشرط.

2-

قد يدفع طالب الشراء لصاحب السلعة مبلغًا من المال، ويقول له:"لا تبع هذه السلعة لغيري، وإن لم أشترها منك فما دفعته هو لك، ثم يشتريها منه بعد ذلك بعقد مبتدئ، ويحسب المبلغ الذي دفعه من الثمن (3) . هذا البيع صحيح، والفرق بينه وبين بيع العربون الممنوع، أن البيع هنا خلا من الشرط المفسد، لأن هذه الصورة عبارة عن اتفاقين، الاتفاق الأول ذكر فيه شرط ترك العربون ولكن لم يقترن به العقد، والاتفاق الثاني تم فيه العقد مجردًا عن الشرط. هذا إذا تم البيع، أما إذا لم يتم، فإن صاحب السلعة لا يستحق شيئًا، لأنه يأخذه بغير عوض، ولا يصح جعله عوضًا عن انتظاره وتأخيره البيع من أجل المشتري، لأنه لو كان عوضًا عن ذلك ما جاز جعله من الثمن حال الشراء، ولا يمكن أن يقال: هو عوض عن الانتظار في حالة عدم الشراء، أما في حال الشراء فهو جزء من الثمن، لأن الانتظار بالبيع لا يجوز المعاوضة عنه، ولو جازت لوجب أن يكون معلوم المقدار كما في الإجارة "(4) . كما يقول ابن قدامة. أما في بيع العربون الممنوع، فإن العقد يفسد، سواء تم البيع أم لم يتم، لأن الشرط فيه اقترن بالعقد فأفسده حتى في الحالة التي يختار فيها المشتري إمضاء العقد.

(1) المنتقى 4 /158.

(2)

الحطاب 4 /369.

(3)

هذه هي الصورة التي حمل عليها ابن قدامة شراء نافع دار السجن لعمر.

(4)

المغني مع الشرح الكبير 4 /289 والعبارة الأخيرة في كلام ابن قدامة قد يفهم منها أن المعاوضة على الانتظار بالبيع تجوز إذا كان الانتظار معلوم المقدار

ص: 444

3-

قد يشتري شخص سلعة، ثم يتفق مع البائع على أن يردها ومعها شيء من المال. هذه هي الصورة التي قاس عليها الإمام أحمد صورة بيع العربون الممنوع عند الجمهور. قال ابن المسيب وابن سيرين: لا بأس إذا كره السلعة أن يردها ويرد معها شيئًا (1) . ولا خلاف بين الفقهاء في جواز هذه الصورة، إذا كان البيع الأول نقدًا، أما إذا كان إلى أجل فقد منعه مالك في بعض الحالات، وهي ما إذا كانت الزيادة نقدًا، أو إلى أجل أبعد من الأجل الأول، لأن هذا فيه ذريعة إلى بيع الذهب بالذهب إلى أجل، وإلى بيع ذهب وعرض بذهب، لأن المشتري يدفع الزيادة والسلعة في الثمن الذي عليه، هذا إذا كان الثمن ذهبًا. وفيه أيضا بيع وسلف، لأن المشتري إذا كان قد اشترى السلعة بمئة مثلاً إلى أجل، ثم اتفق على أن يرد للبائع السلعة ومعها عشرة، فإن المسألة تؤول إلى أن المشتري باع السلعة بتسعين وأسلف البائع عشرة إلى الأجل الذي اتفقا عليه في البيع الأول، وعندئذ يقبضها من نفسه لنفسه وأجاز الشافعي هذه الإقالة مطلقا، لأنها عنده شراء مستأنف، لا فرق بينها وبين ما إذا كان لرجل على آخر مائة مؤجلة فاشترى منه سلعة بتسعين، وعجل له العشرة، وهذا جائز بإجماع، ولم يذهب الشافعي إلى ما ذهب إليه مالك من سد الذريعة، لأنه يرى أن حمل الناس على التهم لا يجوز (2) . ورأي الشافعي أولى بالاتباع في هذه المسألة، فإن المالكية بالغوا في سد الذريعة هنا مبالغة غير مقبولة. وقياس بيع العربون على هذه الصورة غير مقبول، لأن هذه الصورة هي إقالة للبيع، وهي شراء مستأنف، ولا مانع من أن يشتري شخص سلعة بمئة نقدًا، ثم يبيعها لمن اشتراها منه بتسعين نقدًا.

4-

قد يشتري الرجل سلعة إلى أجل، ثم يتقايل المتعاقدان على أن يدفع البائع للمشتري شيئًا من المال. قال مالك في الرجل يبتاع العبد أو الوليدة بمئة دينار إلى أجل، ثم يندم البائع، فيسأل المبتاع أن يقيله بعشرة يدفعها إليه نقدًا، أو إلى أجل، ويمحو عنه المئة دينار، قال مالك: لا بأس بذلك. وهذه المسألة لا خلاف في جوازها، لأن هذه إقالة، "والإقالة إذا دخلتها الزيادة أو النقصان تكون بيعًا مستأنفًا، ولا حرج في أن يبيع الإنسان الشيء بثمن، ثم يشتريه بأكثر منه"(3) .

(1) المغني مع الشرح الكبير 4/ 289.

(2)

بداية المجتهد 2 /141.

(3)

بداية المجتهد 2 /141، والمنتقى 4/ 164.

ص: 445

العربون في قوانين البلاد العربية:

أولاً: العربون في القانون المصري:

تنص المادة 103 من القانون المدني على ما يأتي:

1-

دفع العربون وقت إبرام العقد يفيد أن لكل من المتعاقدين الحق في العدول عنه، إلا إذا قضى الاتفاق بغير ذلك.

2-

فإذا عدل من دفع العربون فقد، وإذا عدل من قبضه رد ضعفه، هذا ولو لم يترتب على العدول أي ضرر.

فالقانون المصري اعتبر دفع العربون في حالة عدم الاتفاق دليلاً على ثبوت حق العدول لكل من المتعاقدين، ولكنه عدول بمقابل، هو قدر العربون، فإذا استعمل المشتري في عقد البيع حقه في العدول وجب عليه ترك العربون، وإذا استعمل البائع حقه في العدول وجب عليه رد العربون للمشتري ومعه مثله، من غير نظر إلى مقدار الضرر الذي يصيب أحد الطرفين من جراء عدول الطرف الآخر. وجاءت بعض قوانين البلاد العربية مطابقة للقانون المصري (1) .

ثانيًا: العربون في القانون العراقي:

تنص المادة 92 من القانون المدني العراقي على ما يأتي:

1-

يعتبر دفع العربون دليلاً على أن العقد أصبح باتًّا، لا يجوز العدول عنه، إلا إذا قضى الاتفاق بغير ذلك.

2-

فإذا اتفق المتعاقدان على أن العربون جزاء للعدول عن العقد، كان لكل منهما حق العدول، فإن عدل من دفع العربون وجب عليه تركه، وإن عدل من قبضه رده مضاعفًا.

فالقانون العراقي يرى أن العربون في حالة عدم الاتفاق، يكون جزءًا من الثمن، وإن دفعه دليل على أن العقد أصبح باتًّا لا خيار فيه، فإذا تخلف أحد المتعاقدين عن تنفيذ العقد كان للطرف الآخر إجباره على التنفيذ، كما له أن يطلب فسخ العقد مع التعويض، ولكن لا مانع من أن يتفق المتعاقدان على أن لكل منهما حق العدول على النحو الذي ورد في الفقرة الثانية.

والفرق بين القانون المصري والقانون العراقي هو أن القانون المصري يجعل دفع العربون في حالة عدم الاتفاق دليلاً على أن لكل من المتعاقدين حق العدول، والقانون العراقي يجعل دفع العربون في حالة عدم الاتفاق دليلاً على أن العقد أصبح باتًّا لا يجوز العدول عنه، إلا بالاتفاق بين الطرفين.

وكل من القانون المصري والقانون العراقي متأثر بالقوانين الغربية، يقول الدكتور السنهوري:"وقد انقسمت القوانين الأجنبية بين هاتين الدلالتين: فالقوانين اللاتينية بوجه عام تأخذ بدلالة العدول، أما القوانين الجرمانية فتأخذ بدلالة البت، وغني عن البيان أن كلتا الدلالتين قابلة لإثبات العكس، فإذا تبين من اتفاق المتعاقدين، أو من الظروف أن المقصود من العربون هو غير ما يؤخذ من دلالته المفروضة، وجب الوقوف عند ما أراده المتعاقدان"(2) .

(1) مصادر الحق في الفقه الإسلامي 2 /93.

(2)

مصادر الحق 2 /99 و101 و102.

ص: 446

والقانون المدني الأردني، مع أن أحكامه مستمدة من الفقه الإسلامي، فقد تبع في هذه المسألة القانون المصري، ونصت المادة 107 منه على الآتي:

1-

دفع العربون وقت إبرام العقد يفيد أن لكل من المتعاقدين الحق في العدول عنه، إلا إذا قضى الاتفاق بغير ذلك.

2-

فإذا عدل من دفع العربون فقده، وإذا عدل من قبضه رده ومثله.

وقد حاول كل من الدكتور السنهوري (1) وواضع المذكرة الإيضاحية للقانون الأردني (2) تأصيل المادة من الفقه الإسلامي.

ومشروع قانون المعاملات المالية العربي الموحد، الذي يستمد أحكامه من الفقه الإسلامي أيضًا، تنص المادة 158 منه على الآتي:

دفع العربون المتفق عليه في العقد يفيد أن دافعه مخير بين البقاء على عقده، والعدول عنه، فإذا لم يعدل كان العربون جزءًا مقدمًا من العوض الذي التزم به في العقد، وإن عدل أصبح العربون حقًّا لقابضه مقابل العدول، ما لم ينص على خلاف ذلك.

إن هذه المادة، لو لم ترد فيها عبارة:"ما لم ينص على خلاف ذلك" لقلنا أنها مأخوذة من مذهب الإمام أحمد، لكن ورود هذه العبارة في آخرها يجعلها لا تختلف عن نصوص القوانين العربية التي ذكرتها، وتبعدها عن مذهب الإمام أحمد، لأن هذه العبارة تجيز للعاقدين أن يتفقا على أن يكون العدول حقًّا للطرفين على نحو ما تقرره تلك القوانين، والإمام أحمد لا يقول بها.

ولعل القانون الوحيد في قوانين البلاد العربية الذي أخذ برأي الجمهور في منع العربون، هو قانون المعاملات المدنية لسنة 1984 (السوداني) فقد نصت المادة (47) منه على الآتي:

لا يجوز دفع العربون ولا استلامه، ومع ذلك إذا قضت المحكمة بنشوء العقد يعتبر كل مبلغ مدفوع جزءًا من المقابل، ولها أن تقضي بأي تعويض تراه عادلاً نظير أي إخلال بالعقد.

ثالثًا: حاجة الناس إلى العربون في تعاملهم:

لا أجد حاجة عامة أو خاصة للتعامل بالعربون، تجعل التعامل به جائزًا، ولو كانت هنالك حاجة فإنها غير متعينة، ،غير معتبرة.

غير متعينة؛ لأن في البيع مع خيار الشرط بشروطه الشرعية غنى عنه. وغير معتبرة؛ لأن الشارع نهى عنه في حديث عمرو بن شعيب الذي صححه أكثر المحدثين.

رابعًا: مسائل تتعلق ببيع العربون:

طلب ممن يكتبون في "بيع العربون " الإجابة عن ست مسائل هي:

1-

هل يجوز العربون في بيع النقد بجنسه وفي الصرف؟

(1) مصادر الحق 2 /99 و101 و102.

(2)

المذكرات الإيضاحية للقانون المدني الأردني 1 /116

ص: 447

قلنا في تكييف بيع العربون أنه يتضمن خيار شرط للمشتري بمقابل في حالة رد المبيع، وبيع النقد بجنسه، والصرف لا يجوز فيهما خيار الشرط، ولو كان بغير مقابل عند الأئمة الأربعة، يقول الكمال بن الهمام في الكلام عن الصرف:"وشرطه التقابض للبدلين قبل الافتراق، وإن اختلف الجنس ولهذا لم يصح فيه أجل، ولا خيار شرط، لأن خيار الشرط يمنع ثبوت الملك أو تمامه على الرأيين منهم، وذلك يخل بالقبض المشروط، وهو القبض الذي يحصل به التعيين (1) . وجاء في المدونة: قلت لابن القاسم هل يجوز مالك الخيار في الصرف؟ قال: لا (2) . وقال الشيرازي: "ويجوز شرط خيار ثلاثة أيام في البيوع التي لا ربا فيها، فأما البيوع التي فيها الربا، وهي الصرف وبيع الطعام بالطعام، فلا يجوز فيها شرط الخيار، لأنه لا يجوز أن يتفرقا قبل إتمام البيع، ولهذا لا يجوز أن يتفرقا إلا عن قبض العوضين، فلو جوزنا شرط الخيار لتفرقا ولم يتم البيع بينهما (3) وقال في المقنع: لا يثبت – خيار الشرط – إلا في البيع

قال في الحاشية: ويستثنى منه ما يشترط فيه القبض لصحته كالصرف والسلم (4) .

وإذا كان الصرف لا يجوز فيه خيار الشرط، فإنه لا يجوز فيه العربون من باب أولى، لا على رأي من يمنع بيع العربون، ولا على رأي من يجوزه أما على رأي من يمنعه فالأمر ظاهر، لأن الصرف بيع، والبيع لا يجوز فيه العربون، ولو لم يكن مما يشترط فيه التقابض، وأما على رأي من يجوز بيع العربون، فلأن بيع العربون فيه خيار شرط، وخيار الشرط لا يجوز في العقد الذي يشترط فيه التقابض، والصرف يشترط فيه التقابض، فلا يجوز فيه خيار الشرط، ولا العربون.

2-

هل يجوز أن يكون العربون مبلغًا مستقلا عن سعر السلعة؟

هذه المعاملة المسؤول عنها لا تدخل في بيع العربون المعروف في الفقه الإسلامي، الذي اختلف الفقهاء في حكمه، فمنعه الأئمة الثلاثة، وجوزه الإمام أحمد، لأن بيع العربون الذي أجازه الإمام أحمد يكون العربون فيه مسحوبًا من الثمن، إذا أخذ المشتري السلعة، والمعاملة المسؤول عن حكمها يكون فيها العربون مستقلا عن الثمن، وصورة هذه المعاملة فيما يظهر لي هي: أن يشتري شخص من آخر سلعة بألف ريال، على أن يكون له الخيار مدة معلومة، مقابل مئة ريال، يدفعها للبائع، سواء أخذ السلعة بالألف، أم ترك البيع، إذا كان هذا التصوير للمعاملة هو المراد، فإنها تكون من بيع الاختيار الذي أصدر مجمع الفقه الإسلامي فيه قرارًا بعدم الجواز في دورة مؤتمره السابع.

هذا وقد ذكر الدسوقي من صور بيع العربون الممنوعة "قول البائع للمشتري: لا أبيعك السلعة إلا إذا أعطيتني دينارًا آخذه مطلقًا سواء أخذت السلعة أو كرهت أخذها"(5) .

(1) فتح القدير 5 /367، وانظر أيضا بدائع الصنائع 5 /219.

(2)

المدونة الكبرى 10 /21.

(3)

المهذب 1 /258.

(4)

المقنع 2 /36.

(5)

الدسوقي على الشرح الكبير 3 /63.

ص: 448

3-

هل يجوز العربون في الخدمات كما في السلع؟

العربون لا يجوز في جميع العقود عند من يمنعه في البيع، يقول الدسوقي:" بيع العربان يجري في البيع والإجارة، لا في البيع فقط، كما هو ظاهر المصنف، والظاهر منعه في جميع العقود، لأنه من أكل أموال الناس بالباطل (1) . أما في مذهب الحنابلة المجوزين لبيع العربون، فقد قال محشي المقنع " وحكم الإجارة كالبيع " ذكره في الوجيز والفروع (2) ولم يذكر ابن قدامة الإجارة، وقال بعد ما أورد رأي المانعين لبيع العربون: "وهذا هو القياس، وإنما صار أحمد فيه إلى ما روي عن نافع بن عبد الحارث

(3) ، ولهذا فإني أرى قصر جواز العربون في مذهب الحنابلة على ما نص عليه فقهاؤهم، وهو البيع والإجارة.

4-

هل يجوز العربون عند شراء الأوراق المالية كالأسهم؟

لا يجوز على رأي الجمهور العربون في شراء الأوراق المالية كالأسهم، لأنها لا تخرج عن كونها بيعًا، وبيع العربون لا يجوز عندهم. ويجوز على رأي الحنابلة إذا كانت الأوراق مما يجوز شراؤه.

5-

هل يجوز العربون في بيع المرابحة؟

لا يختلف حكم العربون في بيع المرابحة عنه في بيع المساومة فكلاهما بيع، فمن يمنع العربون في بيع المساومة يمنعه في بيع المرابحة، ومن يجوزه في بيع المساومة، يجوزه في بيع المرابحة، ولا خصوصية لبيع المرابحة في منع العربون، وجوازه.

6-

هل يلزم في بيع العربون أن تكون السلعة حاضرة للمعاينة، أم يجوز عند المواعدة على الشراء؟

يبدو لي أن المقصود بهذا السؤال هو معرفة حكم العربون في بيع المرابحة للآمر بالشراء، وليس المقصود منه معرفة حكمه في بيع العين الغائبة، المملوكة للبائع، كما يتبادر إلى الذهن من عبارة:"أن تكون السلعة حاضرة للمعاينة " لأن بيع العين الغائبة ليس فيه مواعدة؛ إنما المواعدة في بيع المرابحة للآمر بالشراء.

(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 /63.

(2)

حاشية المقنع 2 /31.

(3)

المغني مع الشرح الكبير 4 /289.

ص: 449

إذا كان هذا الذي بدا لي هو المقصود فإن حكم العربون يختلف باختلاف المرحلة التي يدفع فيها، في بيع المرابحة للآمر بالشراء، لأن هذا البيع يتم على مرحلتين: الأولى مرحلة المواعدة، والثانية مرحلة إبرام عقد البيع. فإذا كان دفع العربون في المرحلة الثانية، أي مشروطًا في عقد البيع، فإن حكمه هو ما بيناه في مشروعية العربون، المنع عند الأئمة الثلاثة، والجواز عند الإمام أحمد.

وإذا كان دفع العربون في المرحلة الأولى، مرحلة المواعدة، فإن أخذنا برأي القائلين بالإلزام في المواعدة، فإن الحكم لا يختلف عنه في مرحلة البيع، لأن المواعدة الملزمة عقد في الواقع.

وإن أخذنا برأي القائلين بعدم إلزام المواعدة – وهو ما قرره مجمع الفقه – فإن العربون بمعناه الفقهي الذي بيناه لا يمكن تصوره فيها، لأن العربون لا يكون إلا في عقد لازم، كالبيع والإجارة، والمواعدة غير اللازمة ليست بيعًا، ولا عقدًا، وإنما هي وعد من الآمر بالشراء غير ملزم له، فهو بالخيار إن شاء اشترى، وإن شاء ترك من غير أن يدفع عربونًا، فإذا شرط البائع على الآمر بالشراء أن يدفع له عربونًا، ويفقد هذا العربون إذا ترك الشراء فإن هذا يكون تناقضًا مع كون الوعد غير ملزم.

والله أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ص: 450

ملخص البحث

بيع العربون المعروف في الفقه الإسلامي هو أن يشتري الرجل السلعة، ويدفع للبائع مبلغًا من المال، على أنه إن أخذ السلعة يكون ذلك المبلغ محسوبًا من الثمن، وإن تركها، فالمبلغ للبائع. وتكييف بيع العربون على هذا هو أنه بيع يثبت فيه الخيار للمشتري، فإذا أمضى البيع، كان العربون جزءًا من الثمن، وإذا رد البيع فقد العربون، فهو خيار شرط، يقابله مال في حالة الرد، وهذا الخيار للمشتري وحده، أما البائع، فإن البيع لازم بالنسبة له، لا يستطيع رده، وهذا الخيار غير محدد بمدة. وقد ورد في بيع العربون حديثان: أحدهما ينهى عنه، والآخر يحله، وفي كل من الحديثين مقال: غير أن الحديث الذي ينهى عنه أكثر رجال الحديث يصححونه، والحديث الذي يحله أكثرهم يردونه.

وقد اختلف الفقهاء في حكم بيع العربون، فمنعه الجمهور، منهم الحنفية والمالكية والشافعية، وأبو الخطاب من الحنابلة، وأجازه الإمام أحمد، واستدل الجمهور على المنع بحديث عمرو بن شعيب الذي ينهى عن بيع العربان، وبأن في بيع العربون غررًا، واستدل الإمام أحمد بما روي عن نافع بن عبد الحارث أنه اشترى لعمر دار السجن من صفوان بن أمية، فإن رضي عمر، وإلا فله كذا وكذا، وبالقياس على ما قاله سعيد بن المسيب وابن سيرين من أنه لا بأس إذا كره المشتري السلعة أن يردها، ويرد معها شيئًا.

وقد ذكر الفقهاء صورًا تشتبه ببيع العربون، وليست منه، ومنها: أن يدفع المشتري للبائع مبلغًا من المال، على أنه إن أمضى البيع احتسبه من الثمن، وإن لم يمضه أخذ ما دفعه؛ البيع بهذه الصورة صحيح باتفاق. ومنها: أن يدفع طالب الشراء لصاحب السلعة مبلغًا من المال، ويقول له: لا تبع هذه السلعة لغيري، وإن لم أشترها منك فما دفعته هو لك، ثم يشتريها منه بعد ذلك بعقد مبتدئ، ويحسب المبلغ الذي دفعه من الثمن. هذا البيع صحيح أيضًا، إذا تم البيع، وإذا لم يتم لا يستحق صاحب السلعة شيئًا. ومنها أن يشتري شخص سلعة ثم يتفق مع البائع على أن يردها ومعها شيء من المال.

هذه الصورة صحيحة، وهي التي قاس عليها أحمد صورة بيع العربون الممنوع عند الجمهور، والقياس غير مقبول عند المانعين لبيع العربون، لأن هذه الصورة هي شراء مستأنف، ولا مانع من أن يشتري شخص سلعة بمئة نقدًا، ثم يبيعها لمن اشتراها منه بتسعين نقدًا، ومنها أن يشتري الرجل سلعة إلى أجل، ثم يتقايل المتعاقدان على أن يدفع البائع للمشتري شيئًا من المال.

وهذه المعاملة لا خلاف في جوازها، لأنها بيع مستأنف، ولا مانع من أن يبيع الإنسان الشيء بثمن إلى أجل ثم يشتريه بأكثر منه.

هذا وقد جوزت قوانين البلاد العربية – ما عدا القانون السوداني – دفع العربون بالصورة الممنوعة عند الجمهور، وذهب بعضها إلى أبعد من هذه الصورة، فجعل دفع العربون في العقد من غير اتفاق بين المتعاقدين دليلاً على أن لكل من المتعاقدين العدول عن العقد، فإذا عدل من دفع العربون فقده، وإذا عدل عن قبضه رد ضعفه.

ص: 451

ورأي الجمهور أَولى بالاتباع عندي، لقوة دليله، أما الجواب عن ست مسائل فهو:

1-

لا يجوز العربون في بيع النقد بجنسه، ولا يجوز في الصرف على رأي الأئمة الأربعة، لامتناع خيار الشرط فيهما.

2-

إذا جعل العربون مبلغًا مستقلا عن سعر السلعة، فإنه لا يدخل في بيع العربون المعروف في الفقه الإسلامي، ويدخل في بيع الاختيار الذي أصدر مجمع الفقه فيه قرارًا بعدم الجواز في دورة مؤتمره السابع.

3-

لا يجوز العربون في جميع العقود عند الجمهور، ونص الإمام أحمد على جوازه في البيع، وألحق بعض فقهاء الحنابلة الإجارة بالبيع، والظاهر أن مذهب الحنابلة لا يقبل التوسع في الجواز، لأن القياس عندهم هو منع العربون في البيع.

4-

لا يجوز على رأي الجمهور العربون في شراء الأوراق المالية، لأنها لا تخرج عن كونها بيعًا، ويجوز عند الحنابلة بشرط أن تكون الأوراق المالية مما يجوز شراؤه.

5-

لا يختلف حكم العربون في بيع المرابحة عنه في بيع المساومة، ولا خصوصية لبيع المرابحة في منع العربون أو جوازه.

6-

في بيع المرابحة للآمر بالشراء، إذا كان دفع العربون في المرحلة الثانية، أي في مرحلة البيع، فإنه لا يجوز عند الجمهور، ويجوز عند الإمام أحمد، أما إذا كان في المرحلة الأولى، أي في مرحلة المواعدة، فإنه لا يجوز عند الأئمة الأربعة، بل لا يتصور، لأن العربون لا يكون إلا في عقد لازم كالبيع، والمواعدة ليست بيعًا، ولا عقدًا لازمًا عند الجميع.

ص: 452

القرار المقترح

الاقتراح الأول:

هذا الاقتراح مبني على رأي الجمهور المانع لبيع العربون، وهو الرأي الذي رجحته. لا يجوز بيع العربون، ويفسخ إن وقع، ويرد للمشتري عربونه إذا لم يتم البيع، ويفسخ أيضا إذا تم البيع، وكان المبيع قائمًا، فإن فات مضى بقيمته، ويحسب العربون من القيمة.

الاقتراح الثاني:

هذا الاقتراح مبني على رأي الإمام أحمد لبيع العربون، يجوز بيع العربون. ويحتسب العربون من الثمن إذا تم الشراء، ويكون من حق البائع إذا لم يتم.

الاقتراح الثالث:

هذا الاقتراح مبني على رأي الإمام أحمد أيضا مع تعديل يمنع من أن يترتب على الجواز أكل مال البائع العربون بالباطل: يجوز بيع العربون، إذا حددت مدة الانتظار، ويحتسب العربون من الثمن إذا تم الشراء، أما إذا عدل المشتري عن الشراء، فلا يجوز للبائع أن يأخذ من العربون إلا مقدار الخسارة التي لحقته بسبب عدول المشتري، ويرد إليه الباقي.

هذه الاقتراحات هي في بيع العربون بمفهومه الفقهي، أي في الحالة التي يشترط فيها في صلب العقد أن العربون يحتسب من الثمن إذا تم الشراء، ويكون حقًّا للبائع إذا عدل المشتري عن الشراء. أما إذا لم يوجد هذا الشرط، ولا عرف يقوم مقامه، واشترى شخص سلعة ودفع للبائع مبلغًا من المال ولو سماه عربونًا، فإن هذا لا يصدق عليه اسم بيع العربون في الفقه الإسلامي، وإنما يكون بيعًا باتًّا دفع فيه جزء من الثمن، ويجب فيه على المشتري تسليم باقي الثمن، وعلى البائع تسليم السلعة.

والله أعلم

الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

ص: 453

المصادر

كتب التفسير:

أحكام القرآن – أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد المعروف بابن العربي (543 هـ) دار إحياء الكتب العربية 1376 هـ.

كتب الحديث:

الموطأ – مالك بن أنس (179 هـ) بهامش المنتقى – مطبعة السعادة.

مسند الإمام أحمد – أحمد بن حنبل (241 هـ) مع شرح الأستاذ أحمد محمد شاكر – مطبعة دار المعارف بمصر 1375 هـ - 1377 هـ.

صحيح الترمذي بشرح ابن العربي – أبو عيسى محمد بن عيسى السلمي (279 هـ) المطبعة المصرية بالأزهر – 1350 هـ.

تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي – الإمام الحافظ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (911 هـ) المطبعة الخيرية بمصر (1307 هـ) .

شرح الزرقاني على الموطأ – محمد بن عبد الباقي بن يوسف الزرقاني (1122 هـ) مطبعة الاستقامة بالقاهرة 1379 هـ.

نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار – الإمام محمد بن علي الشوكاني (1255 هـ) مطبعة البابي الحلبي 1372 هـ.

كتب الفقه:

المذهب الحنفي:

بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع – علاء الدين أبو بكر بن مسعود الكاساني (587 هـ) مطبعة الجمالية بمصر 1910 هـ.

فتح القدير شرح الهداية – كمال الدين الهمام (861 هـ) المطبعة الأميرية بولاق 1317 هـ

المذهب المالكي:

المدونة الكبرى – مالك بن أنس (179 هـ) مطبعة السعادة 1323 هـ.

المقدمات الممهدات لبيان ما اقتضته رسوم المدونة من الأحكام الشرعيات أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد (520 هـ) مطبعة السعادة.

بداية المجتهد ونهاية المقتصد – أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد القرطبي (595 هـ) مطبعة الاستقامة 1370 هـ.

مواهب الجليل لشرح مختصر خليل – محمد بن محمد بن عبد الرحمن الحطاب (954 هـ) مطبعة السعادة 1329 هـ.

الدسوقي على الشرح الكبير – محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي (1230 هـ) مطبعة مصطفى محمد.

ص: 454

المذهب الشافعي:

المهذب: إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي (476 هـ) عيسى البابي الحلبي.

المجموع شرح المهذب – أبو زكريا محيي الدين بن شرف النووي (676 هـ) مطبعة التضامن الأخرى.

نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج – شمس الدين محمد بن أبي العباس أحمد بن حمزة بن شهاب الدين الرملي (1004 هـ) مطبعة البابي الحلبي سنة 1357 هـ.

المذهب الحنبلي:

المغني مع الشرح الكبير – موفق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة

(630 هـ) الطبعة الثانية 1347 هـ.

حاشية على المقنع – الشيخ سليمان بن الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب. مكتب الرياض الحديثة.

المذهب الشيعي:

البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار – أحمد بن يحيى بن المرتضى بن مفضل بن منصور الحسني (840 هـ) القاهرة 1948 هـ.

المؤلفات الحديثة:

مصادر الحق في الفقه الإسلامي – الدكتور عبد الرزاق السنهوري.

الغرر وأثره في العقود – الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير.

كتب اللغة:

المصباح المنير – أحمد بن محمد الفيومي (770 هـ) .

القاموس المحيط – محمد بن يعقوب مجد الدين الفيروز أبادي 817 هـ

ص: 455

حُكم العربُون في عُقوُد البيع والإجَارَة

إعداد

فضيلة الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع

القاضي بمحكمة التمييز بالمنطقة الغربية

وعضو هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

بحث في بيع العربون وحكمه

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد الأمين المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه والتابعين إلى يوم الدين. وبعد.

فقد اتجه جمهور العلماء ومحققوهم إلى أن الأصل في العبادات الحظر حتى يرد الشرع بالتشريع أمرًا أو نهيًا أو كراهة أو ندبًا. وأن الأصل في المعاملات الإباحة حتى يرد الشرع بالتشريع أمرًا أو نهيًا أو كراهة أو ندبًا أو تقييدًا أو تخصيصًا، وتقدير هذه القاعدة إحدى قواعد الإمام أحمد بن حنبل وأصلاً من أصول مذهبه.

ومن منطلق هذه القاعدة كان القول بإباحة بيوع العربان مذهبّه ومذهب أصحابه من عبده، والقول بذلك من مفردات هذا المذهب، وقبل الدخول في ذكر أقوال أهل العلم في هذه المسألة يحسن التمهيد لذلك بما يعطي التصور الشامل لها من حيث التعريف والتصوير وتحرير محل الاختلاف فيها، إذ الحكم على الشيء فرع من تصوره.

تعريف العربون لغة:

العربون قيل: إنه من الإعراب وهو إعطاء العربون، قال في القاموس عن الفرَّاء: أعربت إعرابًا وعرَّبت تعريبًا إذا أعطيت العربان. وقال شمر: الإعراب في البيع أن يقول الرجل للرجل: إن لم آخذ هذا البيع بكذا فلك كذا وكذا من مال.

وذكر الزبيدي في تاج العروس أن للعربون ثماني لغات هي: الإعراب، العُربان كعثمان، العربون بضمهما، العربون محركة العين، الإربون بإبدال العين همزة، الربون بحذف العين من رَبَن، العربون بفتح فسكون فضم. وذكر لغة تاسعة حكاها ابن عديس قال: نقلت من خط ابن السيد قال: أهل الحجاز يقولون: أخذ مني عُرُبَّان بضمتين وتشديد الباء.

وقيل: بأن العربون مشتق من التعريف وهو البيان لأنه بيان للبيع، فيقال: أعرب في كذا وعرَّبَ وعَرْبَن وهو عربان وعربون، قال في المصباح: هو القليل من الثمن أو الأجرة يقدمه الرجل إلى الصانع أو التاجر ليرتبط العقد بينهما حتى يتوافيا بعد ذلك إعرابًا لعقد البيع، أي إصلاحًا وإزالة فساد لئلا يملكه غيره باشترائه. وقيل بأن الأربون مشتق من الإربة وهي العقدة لأن به انعقاد البيع (1) .

(1) القاموس؛ تاج العروس؛ لسان العرب؛ المصباح.

ص: 456

تعريف العربون في الاصطلاح الشرعي:

عرفه الإمام مالك رحمه الله في كتابه الموطأ فقال: هو أن يشتري الرجل العبد أو الوليدة أو يتكارى الدابة ثم يقول الذي اشترى منه أو تكارى منه: أعطيك دينارًا أو درهمًا أو أكثر من ذلك أو أقل على أني إن أخذت السلعة أو ركبت ما تكاريت منك فالذي أعطيتك هو من ثمن السلعة أو من كراء الدابة. وإن تركت ابتياع السلعة أو كراء الدابة فما أعطيتك لك.

اهـ.

وعرفه بعضهم بقوله: العربون هو ثمن استعمال الحق في العدول عن عقد شراء أو إجارة يجري الاتفاق بين طرفيه على تعيين هذا الثمن، ويلتزم بمقتضاه من يستعمل هذا الحق أن يدفع هذا الثمن ليحق له العدول عن الالتزام بذلك العقد (1) .

وقد اختلف العلماء رحمهم الله قديمًا وحديثًا في حكم بيع العربون فذهب جمهورهم من الحنفية والمالكية والشافعية إلى القول ببطلانه مستندين في القول بذلك إلى ما روى الإمام أحمد والنسائي وأبو داود ومالك في الموطأ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: ((نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع العربان.))

ففي موطأ مالك قال: حدثني يحيى بن مالك عن الثقة عنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العربان.)) قال مالك: فيما نرى والله أعلم أن يشتري الرجل العبد أو الوليدة أو يتكارى الدابة ثم يقول للذي اشترى منه أو تكارى منه: أعطيك دينارًا أو درهمًا أو أكثر من ذلك أو أقل على أني إن أخذت السلعة أو ركبت ما تكاريت منك فالذي أعطيتك هو من ثمن السلعة أو من كراء الدابة وإن تركت ابتياع السلعة أو كراء الدابة فما أعطيتك لك، باطل بغير شيء. قال مالك في الرجل يبتاع العبد أو الوليدة بمئة دينار إلى أجل ثم يندم البائع فيسأل المبتاع أن يقبله بعشرة دنانير يدفعها إليه نقدًا أو إلى أجل ويمحو عنه المئة التي له. قال مالك: لا بأس بذلك (2) .

وكذلك يستندون في القول ببطلان بيع العربون إلى ما فيه من الغرر وأكل أموال الناس بالباطل، قال الزرقاني في شرح الموطأ: وهو – أي بيع العربون – باطل عند الفقهاء لما فيه من الشرط والغرر وأكل أموال الناس بالباطل. اهـ (3) .

(1) الوسيط للدكتور عبد الرزاق السنهوري: ج4/ ص 86-92.

(2)

موطأ مالك: 2 /609.

(3)

الزرقاني. شرح الموطأ: 3 /251.

ص: 457

وقال ابن قدامة في المغني في معرض ذكر علة القول ببطلان بيع العربون لدى القائلين به: لأنه شرط للبائع شيئًا بغير عوض فلم يصح كما لو شرطه لأجنبي، ولأنه بمنزلة الخيار المجهول فإنه اشترط أن له رد المبيع من غير ذكر مدة فلم يصح، كما لو قال: ولي الخيار متى شئت رددت السلعة ومعها درهم. اهـ (1) .

ونظرًا إلى أن أكثر أقوال أهل العلم في القول ببطلانه هم فقهاء المالكية، وغيرهم من فقهاء الحنفية والشافعية يتفقون معهم في منعه والقول ببطلانه، فقد يكون إيراد النصوص الفقهية عن المالكية مغنيًا عن إيراد النصوص عن غيرهم في معنى المنع والقول بالبطلان.

فقد ذكر الدكتور عبد الرزاق السنهوري في كتابه "مصادر الحق" مجموعة من النقول عن مجموعة من فقهاء المالكية أنقلها وأدعو الله لجامعها بالمغفرة والرحمة:

جاء في القوانين الفقهية لابن جزي ما نصه: النوع الثالث من البيوعات الفاسدة بيع العربان وهو ممنوع إن كان على ألا يَرُدَّ البائع العربان إلى المشتري إذا لم يتم البيع بينهما فإن كان على أن يرده إليه إذا لم يتم البيع فهو جائز. اهـ (2) .

وجاء في الحطاب ما نصه: وكبيع العربان أن يعطيه شيئًا على أنه إن كره البيع لم يُعِدْ إليه. وفسره مالك في موطئه: بإعطاء البائع أو المشتري درهمًا أو دينارًا على أنه إن أخذ البيع فهو من الثمن وإلا بقي للبائع. أبو عمر: ما فسره به مالك عليه فقهاء الأمصار لأنه غرر وأكل مال بالباطل. قال مالك: وأما من اشترى شيئًا وأعطى عربانًا على أنه إن رضيه أخذه وإن سخطه رده وأخذ عربانه فلا بأس به

قال ابن الحاجب: ومنه بيع العربان وهو أن يعطي شيئًا على أنه إن كره البيع أو الإجارة لم يُعدْ إليه؛ قال في التوضيح: فإن فاتت مضت بالقيمة. اهـ (3) .

وجاء في الخرشي ما نصه: ((وقد نهى عليه الصلاة والسلام عن بيع العربان)) ، وهو أن يشتري السلعة بثمن، على أن المشتري يعطي البائع أو غيره شيئًا من الثمن على أن المشتري إن كره البيع لم يُعِدْ إليه ما دفعه، وإن أحب البيع حاسبه به من الثمن لأنه من أكل أموال الناس بالباطل وغرر

ومثل البيع الإجارة فلا فرق بين الذوات والمنافع. اهـ (4) .

وجاء في الشرح الكبير للدردير ما نصه: وكبيع العربان اسم مفرد ويقال: أربان بضم أول كلٍّ، وعربون وأربون بضم أولهما وفتحه وهو أن يشتري أو يكتري السلعة ويعطيه – أي يعطي المشتري البائع – شيئًا من الثمن على أنه – أي المشتري – إن كره البيع لم يعد إليه ما أعطاه، وإن أحبه حاسبه به من الثمن أو تركه مجانًا؛ لأنه من أكل أموال الناس بالباطل. اهـ (5)

(1) المغني: 4 /58.

(2)

القوانين الفقهية لابن جزي ص 258- 259.

(3)

الحطاب: 4 /369-370.

(4)

الخرشي: 2 /78.

(5)

الشرح الكبير للدردير: 3 / 63.

ص: 458

وقال الزرقاني في شرح موطأ الإمام مالك جـ2 صـ251 ما نصه: وهو أي بيع العربون باطل عند الفقهاء لما فيه من الشرط والغرر وأكل أموال الناس بالباطل فإن وقع فسخ وإن فات مضى لأنه مختلف فيه، فقد أجازه أحمد وروي عن ابن عمر وجماعة من التابعين: ويرد العربان على كل حال. قال ابن عبد البر: ولا يصح ما روي عنه صلى الله عليه وسلم من إجازته فإن صح احتمل أنه يحتسب على البائع من الثمن إن تم البيع وهذا جائز عند الجميع. اهـ (1) .

وذهب الإمام أحمد وجمهور أصحابه إلى القول بصحة بيع العربون ويُمثَّلُ النص الآتي من المغني لابن قدامة مذهب الإمام أحمد في بيع العربون، ووجه القول بصحته وذكر مستنده على ذلك كما أنه يذكر القائلين ببطلانه ووجهة قولهم بذلك، ثم يناقش قولهم وحججهم فيقول: والعربون في البيع هو أن يشتري السلعة فيدفع إلى البائع درهمًا أو غيره على أنه إذا أخذ السلعة احتسب من الثمن وإن لم يأخذها فذلك للبائع

قال أحمد: لا بأس به، فعله عمر رضي الله عنه.

وعن ابن عمر أنه أجازه وقال ابن سيرين: لا بأس به. وقال سعيد بن المسيب وابن سيرين: لا بأس إذا كره السلعة أن يردها ويرد معها شيئًا. وقال أحمد هذا في معناه. واختار أبو الخطاب أنه لا يصح وهو قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي، ويروى ذلك عن ابن عباس والحسن ((لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العربون)) رواه ابن ماجه، ولأنه شرط للبائع شيئًا بغير عوض فلم يصح كما لو شرطه لأجنبي ولأنه بمنزلة الخيار المجهول فإنه اشترط أن له رد المبيع من غير ذكر مدة فلم يصح، كما لو قال ولي الخيار متى شئت رددت السلعة ومعها درهمًا وهذا هو القياس وإنما صار أحمد فيه إلى ما روي فيه عن نافع بن عبد الحارث أنه اشترى لعمر دار السجن من صفوان بن أمية، فإن رضي عمر وإلا فله كذا وكذا، قال الأثرم: قلت لأحمد: تذهب إليه، قال: أي شيء أقول، هذا عمر رضي الله عنه؟ وضعّف الحديث المروي، روى هذه القصة الأثرم بإسناده، فأمَّا إن دفع إليه قبل البيع درهمًا وقال: لا تبع هذه السلعة لغيري، وإن لم أشترها منك فهذا الدرهم لك، ثم اشتراها منه بعد ذلك بعقد مبتدأ وحسب الدرهم من الثمن صح، لأن البيع خلا عن الشرط المفسد، ويحتمل أن الشراء الذي اشتراه لعمر كان على هذا الوجه فيحمل عليه جمعًا بين فعله وبين الخبر وموافقة القياس والأئمة القائلين بفساد العربون. وإن لم يشتر السلعة في هذه الصورة لم يستحق البائع الدرهم، لأنه يأخذه بغير عوض ولصاحبه الرجوع فيه، ولا يصح جعله عوضًا عن انتظاره وتأخير بيعه من أجله، لأنه لو كان عوضًا عن ذلك لما جاز جعله من الثمن في حال الشراء، ولأن الانتظار بالمبيع لا تجوز المعارضة عنه ولو جازت لوجب أن يكون معلوم المقدار كما في الإجارة. اهـ (2) .

(1) موطأ الإمام مالك: 2 /251.

(2)

المغني: 6 /331-332، طبعة حجر، تحقيق الدكتور عبد الله التركي.

ص: 459

وقال ابن القيم رحمه الله في كتابه بدائع الفوائد (الجزء الرابع) ما نصه: وقال في رواية الميموني: لا بأس بالعربون، وفي رواية الأثرم وقد قيل له:((نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن العربان)) فقال: ليس بشيء، واحتج أحمد بما روى نافع بن عبد الحارث أنه اشترى لعمر دار السجن فإن رضي عمر وإلا فله كذا وكذا، قال الأثرم: فقلت لأحمد: فقد يقال هذا؟ قال: أي شيء أقول هذا عمر رضي الله عنه. اهـ.

وقد احتج القائلون ببطلان بيع العربون بحديث عمرو بن شعيب، وقد تقدم نقله من الموطأ وأورده المجد في المنتقى وقال عنه الشوكاني في نيل الأوطار ما نصه: الحديث منقطع لأنه من رواية مالك أنه بلغه عن عمرو بن شعيب ولم يدركه فبينهما راوٍ لم يسم، وسماه ابن ماجه فقال: هو مالك عن عبد الله بن عامر الأسلمي، وعبد الله لا يحتج بحديثه، وفي إسناد ابن ماجه هذا أيضا حبيب كاتب الإمام مالك وهو ضعيف لا يحتج به، وقد قيل: إن الرجل الذي لم يسم هو ابن لهيعة، ذكر ذلك ابن عدي وهو أيضا ضعيف، ورواه الدارقطني والخطيب عن مالك عن عمرو بن الحارث عن عمرو بن شعيب وفي إسنادهما الهيثم بن اليمان وقد ضعفه الأزدي. اهـ (1) .

وقال الصنعاني في كتابه سبل السلام بعد ذكره حديث عمرو بن شعيب ما نصه: وأخرجه أبو داود وابن ماجه وفيه راوٍ لم يسم وسمي في رواية فإذا هو ضعيف وله طرق لا تخلو من مقال. وروي عن عمر وابنه وأحمد جوازه. اهـ (2) .

وقال ابن الأثير نقلاً عن تاج العروس: وحديث النهي منقطع. وقال الإمام أحمد في رواية الأثرم وقد قيل له: ((نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع العربان فقال: ليس بشيء.)) ويظهر والله أعلم رجحان القول بصحة بيع العربون للأثر والمعنى وانتفاء الدليل على المنع وإمكان الإجابة عن حجج القائلين ببطلانه.

أما الأثر ففي نيل الأوطار للشوكاني قال: وأخرج عبد الرزاق في مصنفه عن زيد بن أسلم أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العربان في البيع فأجازه، قال: وهو مرسل وفي إسناده إبراهيم بن أبي يحيى وهو ضعيف. اهـ (3) .

وفي المغني النص المتقدم عن الإمام أحمد في إجازته بيع العربون قال: قال أحمد: لا بأس به وفعله عمر رضي الله عنه، وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أجازه. وقال ابن سيرين: لا بأس به. وقال سعيد بن المسيب وابن سيرين: لا بأس إذا كره السلعة يردها ويرد معها شيئًا، وقال أحمد هذا في معناه. اهـ.

وأما المعنى فإن مالك السلعة قد حبسها عن عرضها للبيع، وحُرِمَ فرصة بيعها بعقد ناجز وبسعر قد يكون أفضل مما باعها به بطريق بيع العربون، وفي هذا ضرر محقق على البائع أو محتمل، وقد أشار إلى هذا المعنى الدكتور عبد الرزاق السنهوري في كتابه (مصادر الحق) فقال: فالعربون لم يشترط للبائع بغير عوض، إذ العوض هو الارتباط والانتظار بالبيع وتوقيف السلعة حتى يختار المشتري وتفويت فرصة البيع من شخص آخر لمدة معلومة. اهـ (4) .

(1) نيل الأوطار للشوكاني 5 /62-163.

(2)

سبل السلام للصنعاني 2 /334.

(3)

نيل الأوطار للشوكاني 5 /162.

(4)

مصادر الحق: 2 /101.

ص: 460

وأما دليل القائلين بالمنع من النقل فهو حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وقد تقدم إيراد ما ذكره أهل العلم في رده؛ ومنهم الإمام أحمد رحمه الله في رواية الأثرم فقد قيل له:((نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن العربان)) ، فقال: ليس بشيء. وهذا يعني أن دليلهم النقلي لا يصح الاحتجاج به وليس لهم دليل نقلي غيره.

أما دليلهم العقلي فيمكن مناقشته بما يعطي القناعة بسقوطه وعدم اعتباره. فهم يقولون بأن بيع العربون يشتمل على المحاذير الآتية:

أولاً: هو من قبيل أكل أموال الناس بالباطل.

ثانيًا: ما فيه من الغرر الموجب لبطلانه.

ثالثًا: ما فيه من شرط شيء للبائع بغير عوض في حال الرد.

رابعًا: هو بمنزلة الخيار المجهول.

خامسًا: لمخالفته القياس.

سادسًا: ((ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من النهي عنه)) وإن كانت طرقه كلها لا تخلو من مقال إلا أن بعضها يقوي بعضًا كما ذكر الشوكاني في نيل الأوطار (1) .

فقولهم: بأن العربون من أكل أموال الناس بالباطل غير صحيح، فالعربون ثمن حبس السلعة وعوض عن حرمان صاحبها من فرص عرضها للبيع لتحصيل بيع ناجز، وقد يكون بسعر أفضل. وقد ذكر هذا المعنى الدكتور عبد الرزاق السنهوري في كتابه مصادر الحق فقال: فالعربون لم يشترط للبائع بغير عوض، إذ العوض هو الانتظار بالبيع وتوقيف السلعة حتى يختار المشتري وتفويت فرصة البيع من شخص آخر لمدة معلومة. اهـ.

وقولهم: بأن فيه غررًا موجبًا لبطلانه قول غير صحيح، فقدر العربون معروف، ولا بد لاعتباره من مدة معينة تعطي دافع العربون مهلة ليختار أثناءها إمضاء العقد أو الرد. نعم لو كانت مدة الخيار مجهولة لتصور الغرر في ذلك ولكننا نشترط لصحة بيع العربون أن تكون المدة معلومة.

(1) موطأ مالك: شروح مختصر خليل؛ المغني لابن قدامة؛ الموسوعة الفقهية الكويتية؛ نيل الأوطار؛ سبل السلام.

ص: 461

وقولهم: بأن المشتري شرط للبائع شيئًا بغير عوض غير صحيح، فالبائع حبس السلعة عن عرضها للشراء وحرم من فرص بيعها بما قد يكون أكثر غبطة ومصلحة فالعربون عوض هذا الحرمان.

وقولهم: هو بمنزلة الخيار المجهول، هذا صحيح إذا خلا بيع العربون من خيار محدد بوقت معين أما إذا كان الخيار في بيع العربون معينًا بمدة محدودة فليس بمنزلة الخيار المجهول، وحينما نقول بصحة بيع العربون نشترط أن يكون الخيار في الرد أو الإمساك في مدة معلومة.

وقولهم: لمخالفته القياس، هذا القول مسلم به لو كان العربون في غير مقابله عوض، ولكننا نرى أن العربون في مقابله عوض هو الانتظار بحبس السلعة وحجبها عن الرغبة في شرائها وذلك لصالح مشتريها، وفي مقابله ما دفعه عربونًا للانتظار بها حتى يقرر ما يراه إمضاءً أو ردًّا.

وأما الاحتجاج بحديث عمرو بن شعيب فقد تكرر نقل أقوال أهل العلم في رده وأنه ليس بشيء، وأما القول بأن طرقه وإن كانت لا تسلم من مقال إلا أن بعضها يقوي بعضًا، هذا القول فيه نظر، فالضعيف لا يقوي ضعيفًا ولا تستقيم بالضعفاء قوة.

وللدكتور السنهوري إجابة عن حجج القائلين ببطلان بيع العربون يحسن به إيرادها إكمالاً للفائدة وتأكيدًا لإجابتنا عن هذه الحجج. فقد ذكر ما ذكره ابن قدامة رحمه الله في كتابه المغني عما يتعلق بمسألة بيع العربون، ثم عقب على ذلك بقوله:

أولاً: إن الذين يقولون ببطلان بيع العربون يستندون في ذلك إلى حديث النبي عليه السلام الذي ((نهى عن بيع العربون)) ، ولأن العربون اشترط للبائع بغير عوض، وهذا شرط فاسد لأنه بمنزلة الخيار المجهول إذا اشترط المشتري خيار الرجوع في البيع من غير ذكر مدة كما يقول: ولي الخيار متى شئت رددت السلعة ومعها درهمًا.

ثانيًا: إن أحمد يجيز بيع العربون، ويستند في ذلك إلى الخبر المروي عن عمر – وضَعَّفَ الحديث المروي في النهي عن بيع العربون – وإلى القياس على صورة متفق على صحتها، هي أنه لا بأس إذا كره المشتري السلعة أن يردها ويرد معها شيئًا قال أحمد: هذا في معناه.

ص: 462

ثالثًا: ونرى أنه يستطاع الرد على بقية حجج من يقولون ببطلان بيع العربون، فالعربون لم يشترط للبائع بغير عوض، إذ العوض هو الانتظار بالبيع وتوقيف السلعة حتى يختار المشتري، وتفويت فرصة البيع من شخص آخر لمدة معلومة، وليس بيع العربون بمنزلة الخيار المجهول، إذ المشتري إنما يشترط خيار الرجوع في البيع بذكره مدة معلومة إن لم يرجع فيها مضت المدة وانقطع الخيار. اهـ (1) .

تكييف العربون:

اختلف القائلون بصحة بيع العربون في تكييفه هل هو شرط جزائي استحقه البائع لقاء تخلف المشتري عن الوفاء بالالتزام بالشراء، أو هو تعويض عن ضرر محقق على البائع أو محتمل.

فالذين يقولون بأنه تعويض عن شرط جزائي لقاء العدول عن الشراء، يقولون بأن العربون في نظر الشارع معناه أن المتبايعين قد أرادا إثبات حق الرجوع لكل منهما في نظير الالتزام بدفع قيمة العربون فجعلا العربون مقابلاً لحق الرجوع، ومن ثم لا يجوز تخفيض العربون إذا تبين أن الضرر الذي أصاب الآخر أقل من قيمته، كما لا يجوز زيادته إذا تبين أن الضرر الذي أصاب الطرف الآخر أكبر، كما لا يجوز إلغاء العربون ولو لم يترتب على العدول ضرر (2) .

(1) مصادر الحق: 2/ 101-102.

(2)

الوسيط للسنهوري: 4 /90.

ص: 463

والذين يقولون بأن العربون ليس شرطًا جزائيًّا، وإنما هو تعويض عن ضرر واقع أو محتمل الوقوع بوجوب قولهم بأن صرف النظر عن عرض البضاعة للبيع لقاء الالتزام ببيعها على من بذل العربون يحجب فرص بيعها بسعر ناجز، وقد يكون بسعر أفضل. وحجب الفرص المتاحة فيه ضرر على مالك السلعة إما ضرر محقق وإما ضرر محتمل. أما الضرر المحقق فيتضح فيما إذا تقدم إلى مالك السلعة؛ من يريد شراءها بسعر أفضل وببيع ناجز، فيمتنع من ذلك لقاء التزامه ببيعها على من بذل العربون في شرائها. وأما الضرر المحتمل فيتضح كذلك من حجب فرص بيعها لقاء الالتزام، وذلك بإبعادها عن عرضها للبيع الذي هو مظنة المصلحة والغبطة. ففي حجب السلعة عن عرضها للبيع حرمان مالكها من تشوفه لبيعها بعقد ناجز وبسعر قد يكون أفضل، وهذا عين الضرر.

فإذا قلنا بأن العربون شرط جزائي فإن هذا القول يجعل العربون خاضعًا للنظر القضائي عند النظر في الضرر الموجب لاستحقاقه حيث إن الشرط الجزائي تعويض، اتفق المتعاقدان على تقديره وذلك عن الضرر الذي ينشأ عن الإخلال بالعقد. ولهذا كان للقاضي حق النظر في مقدار هذا الشرط فإذا كان مبالغًا في تقديره فله حق تخفيضه وله حق إلغائه في حال انتفاء الضرر. وهذا النظر القضائي لا يصح إجراؤه في العربون لكونه تعويضًا عن ضرر محقق أو محتمل لقاء امتناع بائع السلعة بيعَ عربونٍ عن عرضها للبيع وفوات مصلحته في ذلك.

ولو قلنا بأن العربون تعويض عن ضرر فإن للقضاء حق التدخل في تغيير مقداره زيادة أو نقصًا، فإذا كان الضرر أقل من المعين فللقاضي حق تخفيضه، وإن كان أكثر فله حق زيادته، وهذا لا يتأتى في العربون، إذ هو شيء جرى اتفاق المتعاقدين على تعيينه واستحقاقه على من يَعْدِل عن إمضاء العقد.

وهذه الإيرادات على تخريج العربون على الشرط الجزائي أو التعويض عن الضرر تجعلنا نبحث عن تكييف للعربون يسلم من هذه الإيرادات ويتفق مع حقيقة العربون.

وعليه فقد يظهر لنا وجه لتخريج العربون على تكييف قد تظهر سلامته من الإيرادات. ذلك أن العربون جزء من الثمن وأن استحقاق البائع إياه بعد اختيار المشتري الرد أنه جزء زائد على الثمن الذي جرى التقابل بين المشتري والبائع، وتوضيح هذا أن المشتري اشترى السلعة بالثمن الذي جرى تحديده به وأن العربون جزء من الثمن فإذا رغب المشتري العدول عن البيع فمخرجه من ذلك بيعه السلعة على مالكها الأول بسعرها الذي اشتراها به ناقصًا قدر العربون. وبهذا نستطيع الخروج من الإيرادات السابقة ومن الإيرادات كذلك على بيع العربون واعتبار بطلانه بها.

وقد يخرج بيع العربون على بيع ناجز بين البائع والمشتري بثمن معين؛ يدفع المشتري جزءًا من الثمن هو العربون، والباقي يدفعه في حال اختياره نفاذ البيع ويعطيه البائع وعدًا بشرائه ما باعه إياه في حال رغبته عن المبيع وبثمن أقل من ثمن مشتراه بقدر العربون.

ويذكر الدكتور السنهوري أن الفقه الغربي يتفق مع المذهب الحنبلي في أن المشتري يفقد العربون إن كره البيع وإن اختاره حسب العربون من الثمن، وأن جميع القوانين المدنية في البلاد العربية تأخذ بذلك.

وبعد أن تم لنا تعريف العربون واستعراض أقوال أهل العلم في حكمه ومناقشة حجج القائلين ببطلانه وذكر مستند القول بصحته يحسن بنا النظر في حاجة المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية إليه كعنصر تنشيط للتجارة والاستثمار.

ص: 464

لا شك أن الحركة الاقتصادية في العالم قد تطورت أحوالها وظروفها ومقومات نشاطها وأسباب تعدد طرقها، وقد اتسمت بالجدية في الأداء، والدقة في احتساب الزمن واعتبار الكلمة في الإلزام والالتزام؛ وهذا يعني إيجاد ضوابط للجدية في التعامل إيجابًا وقبولاً. ولا شك أن الأخذ بمبدأ العربون من أهم ضوابط الجدية في الحركات الاقتصادية بيعًا وشراء وإجارة. وهذا يعني أن الناس في حاجة إلى الأخذ ببيوع العربون في معاملاتهم، لا سيما وفي الأخذ به من الفوائد والاطمئنان إلى سلامة التحرك التجاري ما لا يخفى، وقد اتضح من المناقشة السابقة ما يجعل العربون أمرًا مشروعًا في دلالته ومعناه. والعلم عند الله تعالى.

وقد رغبت الأمانة العامة لمجمع الفقه الإسلامي التعرض في البحث إلى أحكام المسائل الآتية:

1-

هل يجوز العربون في بيع النقد بجنسه وفي الصرف؟

2-

هل يجوز أن يكون العربون في الخدمات كما في السلع؟

3-

هل يجوز اعتبار العربون مبلغًا مستقلاً عن ثمن السلعة؟

4-

هل يجوز العربون عند شراء الأوراق المالية كالأسهم؟

5-

هل يجوز العربون في بيع المرابحة؟

6-

هل يلزم في بيع العربون أن تكون السلعة حاضرة للمعاينة، أم يجوز عند المواعدة بالشراء؟

حكم بيع العربون في بيوع الصرف:

لا يخفى أن بيوع المصارفة لها حالان: الحال الأول أن تكون المصارفة في جنس واحد كبيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة، فهذه الحال يشترط لصحة المصارفة فيها شرطان أحدهما المماثلة والثاني التقابض في مجلس العقد. الحال الثانية أن تكون المصارفة بين جنسين مختلفين كالذهب بالفضة أو العملات الورقية بهما، أو بعضها ببعض، كالدولار الأمريكي بالريال السعودي، أو الجنيه المصري بالجنيه الاسترليني، فهذه الحال يشترط لها شرط واحد هو التقابض عند المصارفة في مجلس العقد، ودليل ذلك كله قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال:((الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل سواء بسواء يدًا بيد فإذا اختلف الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد)) . رواه الإمام أحمد ومسلم.

وأخذًا بهذه الأحكام في المصارفة، ومن هذه الأحكام التقابض في مجلس العقد، وحيث إن بيع العربون يقتضي تأخير الثمن حتى اختيار المشتري ما يراه من إمضاء البيع أو رده، وعليه فلا يجوز بيع العربون في بيوع الصرف في كلا الحالين. والعلم عند الله تعالى.

ص: 465

حكم كون العربون مبلغًا مستقلا عن ثمن السلعة:

نظرًا إلى أن العربون في مقابلة حبس السلعة والامتناع عن عرضها لقاء الالتزام ببيعها على دافع العربون، فلا يظهر لي مانع من اعتبار العربون مبلغًا مستقلاً عن ثمن السلعة حتى لو كان العربون عينًا، إلا أنه في حال اختيار إمضاء البيع فيجب أن يحتسب هذا المبلغ من الثمن، وفي حال كونه جنسًا غير جنس الثمن فيجب أن يُقَوَّمَ – أي جنس الثمن – حتى يُعرفَ مقداره ويحسب من ثمن المبيع، أما إذا اختار دافع العربون الرد فإن العربون من حق المدفوع إليه سواء أكان مبلغًا من الثمن من جنس ثمن المبيع أو كان من غير جنسه أو كان عينًا.

حكم العربون في الخدمات:

سبق إيراد ما في موطأ مالك من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده حيث قال الإمام مالك بعد روايته الحديث لتصوير بيع العربون ما نصه: "وذلك فيما نرى والله أعلم أن يشتري الرجل العبد أو الوليدة أو يتكارى ثم يقول للذي اشترى منه أو تكارى منه: أعطيك دينارًا أو درهمًا أو أكثر أو أقل على أني إن أخذت السلعة أو ركبت ما تكاريت منك فالذي أعطيتك من ثمن السلعة أو كراء الدابة، وإن تركت ابتياع السلعة أو كراء الدابة فما أعطيتك لك. اهـ.

فهذا الإمام مالك رحمه الله يفسر العربون بأنه دفعة أولى في الشراء أو الإيجار في حال تمام البيع، وفي حال العدول عن الشراء أو الكراء يكون العربون للبائع أو المؤجر. فالإمام مالك رحمه الله وإن كان يرى بطلان بيع العربون إلا أنه يراه جاريًا في الإجارة كما يراه جاريًا في البيع.

ولا يخفى أن بيع العين أو إجارتها بيع في كلا العقدين فواحدهما بيع عين أو بيع منفعة وفي كل منهما معنى بيع العربون وهذا يعني جواز العربون في الخدمات كجوازه في بيوع الأعيان بقول الدسوقي في حاشيته على الدردير ما نصه: بيع العربان يجري في البيع والإجارة لا في البيع فقط. اهـ (1) .

ويقول الخرشي ما نصه: ومثل البيع والإجارة، فلا فرق بين الذوات والمنافع. اهـ (2) .

حكم العربون في شراء الأسهم:

لا يخفى أن السهم في الشركات المساهمة حصة مشاعة في شركة ذات حصص محدودة وأن ملكية هذا السهم تعني امتلاك مقدار هذا السهم في الشركة، فإذا كانت الشركة من الشركات المباح نشاطها وأصل وجودها، فتداول أسهمها بالبيع والشراء جائز، وكل شيء يجوز بيعه حالاً ومؤجلاً؛ فإن العربون في شرائه أو بيعه جائز. والعلم عند الله تعالى.

(1) حاشية الدسوقي على الدردير: 3 /63.

(2)

الخرشي: 5 /78.

ص: 466

حكم العربون في بيع المرابحة:

المرابحة هي أن يبيع الرجل على آخر سلعة بربح مقداره نسبة معينة من كامل قيمتها مع قيمتها الشرائية أو بقيمتها الشرائية وبزيادة مبلغ معين، ولا شك أن معنى العربون متحقق في هذا النوع من البيوع، وبناء على ذلك فلا يظهر مانع من اعتباره وجواز البيع به. والله أعلم.

حكم المواعدة على الشراء وأخذ العربون لذلك:

من المعلوم أن العربون دفعة أولى من ثمن المبيع في حال اختيار إمضاء البيع وهو تعويض عن ضرر واقع أو محتمل الوقوع في حال العدول عن الشراء، وأنه لا يكون إلا في عقد بيع أو إجارة استكملت فيه شروطه وأركانه. والمواعدة على البيع والشراء لا تعتبر بيعًا ولا شراء، وإنما هي وعد من كل من البائع والمشتري بذلك، والمبيع عند المواعد بالبيع لا يزال في ملكه وتحت تصرفه، وتصرفه فيه نافذ قبل الوعد وبعده سواء كان ذلك بيعًا أو هبة أو وقفًا أو غير ذلك من التصرفات المعتبرة. ولكن يبقى على الواعد بالبيع موجب الإخلال بالالتزام بالوعد بالبيع، وهذا يقتضي منه الاحتياط لهذا الالتزام بحجب السلعة عن عرضها لقاء الالتزام بالوعد ببيعها على من التزم له ببيعها عليه؛ وهذا المعنى هو معنى العربون.

ونظرًا إلى أن العربون لا يكون إلا في عقد بيع وهو دفعة أولى من الثمن في حال اختيار إمضاء البيع فلا يظهر لنا وجاهة القول بجواز العربون في المواعدة على الشراء وهذا لا يعني القول بعدم جواز أن يدفع الواعد للموعود له بالشراء شيئًا من المال لقاء الوفاء بالوعد ببيع السلعة عليه، ولكننا لا نسمي هذا المال عربونًا، ويمكن أن يكون من الشروط الجزائية، وهو خاضع للاتفاق بين المتواعدين إن اتفقا على أن يكون جزءًا من الثمن في حال الشراء؛ لزم الاتفاق ونفذ.

وإن اتفقا على استحقاقه للموعود له دون اعتباره جزءًا من الثمن في حال الشراء فهما على ما اتفقا عليه؛ إذ المسلمون على شروطهم إلا شرطًا حرم حلالاً أو أحل حرامًا.

هذا ما تيسر إيراده وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع

ص: 467

مراجع البحث

1-

موطأ الإمام مالك.

2-

شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك.

3-

المنتقى للمجد بن تيمية.

4-

نيل الأوطار على المنتقى للشوكاني.

5-

سبل السلام شرح بلوغ المرام للصنعاني. 6- المغني لابن قدامة.

7-

بدائع الفوائد لابن القيم.

8-

مصادر الحق للدكتور عبد الرزاق السنهوري.

9-

الوسيط في شرح القانون المدني للسنهوري.

10-

الموسوعة الفقهية الكويتية.

11-

لسان العرب.

12-

القاموس المحيط.

13-

تاج العروس.

ص: 468