الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التضخم والربط القياسي
دراسة مقارنة بين الاقتصاد الوضعي
والاقتصاد الإسلامي
إعداد
الدكتور شوقي أحمد دنيا
قسم الاقتصاد الإسلامي
كلية الشريعة – جامعة أم القرى
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
منذ فترة ليست بالقصيرة يعيش الاقتصاد المعاصر ظاهرة اقتصادية مرضية تتجسد في التقلبات السعرية الحادة ذات الاتجاه الصعودي عموماً، والتي تشتهر اليوم باسم ظاهرة التضخم. ومما زاد الأمر سوءاً اقتران هذه الظاهرة أخيراً بظاهرة مرضية أخرى مقابلة لها هي ظاهرة الانكماش أو الركود، مما جعلنا نعيش ما يعرف بظاهرة الركود التضخمي. وغير خاف أنه إذا كان علاج ظاهرة التضخم أو ظاهرة الركود صعباً فإن علاج ظاهرة الركود التضخمي أشد صعوبة.
ومن المعروف أن لظاهرة التضخم جذوراً تضرب في أعماق الماضي لدى العديد من الشعوب، لكنها في عصرنا هذا اكتسبت مواصفات وسمات جديدة من حيث تضخمها واستفحالها وتعقد وتعدد عواملها وأسبابها، وتضخم آثارها وتباين سياسات مواجهتها. ومن ثم استمرارها حتى أصبحت جزءاً من نسيج الاقتصاد المعاصر. أو حسب التعبير الطبي مرضاً متوطناً. (1)
ونظراً لعظم وجسامة الآثار السلبية لها من جانب وقصور ومخاطر مواجهتها من جانب آخر، أخذ الفكر الاقتصادي يتخذ حيالها مسلكاً مفاده العمل على معايشتها لكن على الوضع الأفضل؛ بعبارة أخرى العمل على الوقاية والحماية من آثارها. ومن هنا جاء البحث في سياسة الربط القياسي، كوسيلة لتقليل مضار التضخم طالما أنه من المتعذر القضاء عليه.
(1) خيرات البيضاوي: التضخم وآثاره في العلم الثالث، معهد الإنماء العربي، بيروت، 1986 (ص 7) .
وقد سبق أن كانت هناك محاولات متعددة من قبل الاقتصاديين المهتمين بالاقتصاد الإسلامي، لكن الأمر ما زال في حاجة إلى المزيد من الجهود لاستجلاء أبعاده من الناحية الاقتصادية والناحية الشرعية.
وبالرغم من أن الأهداف التي قدم من أجلها هذا البحث هي التعرف على آثار المعدلات المرتفعة للتضخم على الأطراف المتعاملة وكذلك على النقود وعلى الاقتصاد القومي عموماً. وعلى كيفية التعامل مع التضخم المرتفع في بعض البلدان التي عايشته. والإجابة على تساؤلين هما: هل هناك معيار شرعي للتفريق بين التضخم العادي والتضخم المرتفع بما يواكب العصر الحاضر؟ وهل يؤثر ارتفاع معدل التضخم على الحكم الشرعي المتعلق بربط الديون والعقود الآجلة بتغير المستوى العام للأسعار؟ بالرغم من هذا إلا أنه من باب العرض المتكامل للموضوع، ومن ثم المزيد من الفائدة فإن الهدف لن يقف عند ذلك، بل يتعداه إلى استعراض سريع لمفهوم التضخم وأسبابه وآثاره وعلاجه، وكذلك استعراض موقف الاقتصاديين الإسلاميين من سياسة الربط القياسي، ولتحقيق هذه الأهداف فإن البحث يحتوي على العناصر التالية:
1-
أساسيات التضخم.
2-
الاقتصاد الإسلامي والتضخم.
3-
الفقه الإسلامي ومشكلة التضخم.
4-
الاقتصاد الوضعي وسياسية الربط القياسي.
5-
الاقتصاديون الإسلاميون وسياسة الربط القياسي.
6-
الفقهاء القدامى وعملية الربط القياسي.
7-
منهج التعرف على الحكم الشرعي للربط القياسي.
8-
ما نراه حيال موضوع التضخم والربط القياسي.
1 -
أساسيات التضخم
1 -
1 مفهوم التضخم: مما يعرفه الاقتصاديون جيداً أنه ليس هناك تعريف واحد للتضخم، بل إن هناك تعاريف عديدة كل منها ينطلق من زاوية من زوايا التضخم، كما أنه ليس هناك تعريف من هذه التعاريف لا ترد عليه ملاحظات، تكثر أو تقل. ومرجع ذلك كله تعقد ظاهرة التضخم وتنوع وتداخل عواملها، وتشعب آثارها. (1)
وأظن أننا هنا لسنا مطالبين بتقصي هذه المسألة والخوض العميق في لجتها. ويكفينا أن نذكر تعريفين للتضخم لهما شهرتهما ولهما حظ واسع من الاعتراف والقبول. رغم ما فيهما من ثغرات.
التعريف الأول: التضخم ارتفاع مستمر في المستوى العام للأسعار. وحيال هذا التعريف من المهم أن نلاحظ عدة ملاحظات، الأولى: أن التضخم هو عملية الارتفاع السعري، وليس هو أسعار مرتفعة. والثانية: استمرارية هذه الارتفاعات. والثالثة: أن كل ارتفاع ليس هو الأسعار المطلقة ولا الأسعار النسبية، وإنما هو المستوى العام للأسعار.
التعريف الثاني: التضخم انخفاض مستمر في سعر النقود، أو في قيمة النقود، أو في القوة الشرائية للنقود.
وبتأمل اقتصادي بسيط نجد مضمون التعريفين واحداً، رغم ما قد يكون لكل منهما من نكهة متميزة.
(1) لمزيد من المعرفة يراجع: بنت هانسن: مشكلات التضخم في البلاد الصغيرة، ترجمة د. صلاح الصيرفي، نشر معهد الدراسات المصرية، القاهرة؛ كروين: التضخم، ترجمة د. محمد عزيز، نشر جامعة قاريونس، ليبيا، 1981م (ص 21) وما بعدها؛ مايكل أبدجمان: الاقتصاد الكلي، ترجمة د. محمد إبراهيم منصور، دار المريخ، الرياض، (ص 361) ، وما بعدها؛ د. نبيل الروبي، التضخم في الاقتصاديات المتخلفة، مؤسسة الثقافة الجامعية، الإسكندرية، (ص 12) وما بعدها؛ د. فؤاد هاشم: اقتصاديات النقود والتوازن النقدي؛ 1959م، (ص 206) ؛ د. مصطفى رشدي: التحليل النقدي ونظرية الدخل القومي، الإسكندرية، 1971، T. Killick، Policy Economics، Heinemann، London: 1971، P. 158. (ص 62) W. C. Peterson، Income، Employment and Economic Growth، N. Y: W.W. Norton & Company، 1978، PP. 463 - 464.
1-
2- مقياس التضخم: (1) رغم ما يبدو من بساطة وسهولة التعرف على مقياس التضخم، وذلك من خلال التعريفين المذكورين. حيث لا يخرج مقياسه عن أن يكون المستوى العام للأسعار من حيث ما يعتريه من ارتفاعات. أو القوة الشرائية للنقود من حيث ما يعتريها من انخفاضات.
رغم هذه البساطة الظاهرية فإن المسألة أعقد من ذلك بكثير، لاعتبارات عديدة، منها: مفهوم المستوى العام للأسعار، وكيفية التعرف عليه وتحديده، وطبيعة الارتفاعات في هذا المستوى، وهل يدخل كل ارتفاع وإن قل؟ وطبيعة ومدى استمرارية هذه الارتفاعات، وهل هناك مدى زمني مقبول لهذه الاستمرارية؟ ثم طبيعة هذه الأسعار التي نتعامل معها، وهل هي الأسعار الحرة أو الأسعار الإدارية، إلى غير ذلك من العوامل التي تجعل من التعرف العلمي الدقيق على ظاهرة التضخم وتحديدها أمراً قد يكون بالغ الصعوبة بالرغم من أن الإحساس العادي بها من أقوى ما يكون ومن أيسر ما يكون. فليس هناك إنسان مهما كانت درجة ثقافته لا يشعر ولا يحس بوقع التضخم إذا ما كان موجوداً. ومع ذلك فإذا ما أخذنا هذا الشعور العادي وحاولنا أن نخضعه للدراسة العلمية فإن المسألة تغدو على غير ما كانت عليه من السهولة والبساطة.
ولعل من المفيد هنا أن نشير إلى أن الفكر الاقتصادي والإحصائي لم يقف عاجزاً إزاء هذه المسألة، بل قدم المزيد من المحاولات وما زال يعدل ويطور فيها. لقد ابتكر في ذلك ما يعرف بالأرقام القياسية للأسعار. ومهما حاولنا في هذه الورقة أن نتناول هذه الأرقام فإن من عنده معرفة سابقة بها لن يزيده القول هنا معرفة على معرفته، ومن ليست عنده معرفة سابقة فلن يكتسب معرفة ذات بال مما نقوله عنها هنا. لذا فإننا نكتفي بالإشارة إلى أهم أنواعها. وهي ثلاثة: الرقم القياسي لأسعار المستهلك، وهو يتعامل مع حزمة من السلع والخدمات الاستهلاكية ذات المواصفات الخاصة؛ والرقم القياسي لأسعار المنتج، وهو يتعامل مع حزمة من السلع والخدمات الإنتاجية؛ والرقم القياسي المعروف بمكمش الناتج القومي الإجمالي، وهو يتعامل مع كل المنتجات النهائية التي تم إنتاجها في المجتمع في فترة ما، والذي نحب أن نؤكد عليه هنا بخصوص هذه الأرقام أنها وخاصة منها الأولان لا تعبر بصدق كبير عن التضخم القائم، كما أنها صعبة التطبيق والاستخدام، وليست متاحة في أي وقت وفي كل الدول. وهي في حاجة إلى تعديل وتطوير مستمر. (2)
(1) د. مصطفى رشدي: الاقتصاد النقدي والمصرفي، بيروت – الدار الجامعية للطباعة والنشر، 1981 (ص 556) وما بعدها؛ د. نبيل الروبي، مرجع سابق.
(2)
ابدجمان. مرجع سابق. ص 363 وما بعدها، كروين. مرجع سابق. ص 22؛ د. محمد زكي شافعي: مقدمة في النقود والبنوك، دار النهضة العربية، القاهرة، (ص 62) وما بعدها؛ د. صقر أحمد صقر: النظرية الاقتصادية الكلية، الكويت – وكالة المطبوعات، 1977م، ص 52 وما بعدها.
ومهما يكن من أمر فإنه بفرض توفر هذه الأرقام فإن دلالتها على التضخم في ضوء التحفظات السابقة يمكن إدراكها، فلو كان الرقم القياسي للأسعار في سنة ما هو 120، وذلك بالنسبة لسنة أخرى، فإن معنى ذلك أن مستوى الأسعار قد ارتفع في هذه السنة عن تلك السنة بمقدار 20 % وهكذا. (1)
وتبقى درجة صدق تعبير هذا الرقم عن التضخم القائم فعلاً رهينة عوامل عديدة، منها ما يرجع إلى طريقة تركيب الرقم نفسه ومنها ما يرجع إلى نوعية السلع والخدمات المختارة، وكذلك غير المختارة، ولذلك فإن المقياس يجب أن يؤخذ بحذر كبير، وفي بعض الأحيان قد يكون خاطئاً بدرجة كبيرة إن لم يكن مضللاً فعلاً.
كذلك من المفيد هنا أن نشير إلى أنه من خلال التعريفين المذكورين للتضخم لم نجد تحديداً لمقدار التغير في المستوى السعري أو في قيمة النقود، ومعنى ذلك أن أي تغير طالما استمر يعتبر تضخماً. وفي هذا الصدد نجد بعض الاقتصاديين لا يبدون ارتياحاً كبيراً لاعتبار كل تغير مرتفع تضخماً، بل يرون التضخم قاصراً على التغير الكبير فقط، حيث إن مجرد التغير أمر عادي ولا يخلو منه مجتمع، ولا يعد ظاهرة مرضية، عكس التغير الكبير، ورغم ما لهذا الموقف من وجاهة إلا أن نقطة الضعف فيه هو عدم توافر مقياس موضوعي للارتفاعات أو الانخفاضات الكبيرة، وإنما هي معايير تحكمية، وغير عامة.
والبعض الآخر من الاقتصاديين يرون كل تغير تضخماً غير أنه ذو درجات متفاوتة، فهناك التضخم المعتدل أو العادي، وهناك التضخم المرتفع. ونفس الاعتراض يرد هنا، إذ ما هو الفيصل بين التضخم المعتدل والتضخم المرتفع؟
(1) وذلك طبقاً للمعادلة التالية: الرقم القياسي لسنة القياس – الرقم القياسي لسنة الأساس معدل التضخم = ــ × 100 الرقم القياسي لسنة الأساس
ليست هناك إجابة قاطعة يمكن تعميمها في هذا الشأن، فالأمر يختلف من حالة لأخرى ومن دولة لأخرى. وما ينظر إليه على أنه معتدل في دولة ينظر إليه على أنه مرتفع في أخرى. فهل المعتدل ما كان في حدود 5 % سنوياً؟ أو في حدود 10 % سنوياً؟ ليست هناك معلومات أو بيانات -على الأقل فيما اطلعت عليه- تمكن من الإجابة المحددة على ذلك (1) وسوف نرى في فقرة قادمة أن أمر هذه المسألة قد يكون أيسر لدى الفقهاء.
1-
3- أسباب التضخم: الجدل المحتدم بين الاقتصاديين حول عوامل وأسباب هذه الظاهرة لا يخفى على مهتم (2) وليس من مهمة هذا البحث الدخول في لجة هذا الموضوع وسبر أعماق جوانبه، وإنما يكفي التعرض الكلي له ثم استخلاص دلالته في موضوعنا.
يمكن القول إن ظاهرة التضخم هذه التي تعايشنا معها منذ فترة ليست بالقصيرة هي ظاهرة متعددة العوامل والأسباب والمولدات. وتعدد العوامل لا ينفي تفاوتها في الأهمية، ومعنى ذلك أنه لا خلاف بين الاقتصاديين، وإن اختلفت مدارسهم حول تعدد أسباب الظاهرة، لكن الخلاف بينهم حول مدى أهمية كل عامل ودرجة إسهامه في توليد هذه الظاهرة، وبإجمال شديد يمكن ذكر رؤوس هذه العوامل على النحو التالي:
1-
العامل النقدي: تعتبر زيادة كمية النقود من أهم العوامل المسببة لزيادة الطلب عن العرض، ومن ثم حدوث التضخم.
2-
العامل المالي التوسعي: ومن أسباب زيادة الطلب عن العرض ومن ثم حدوث التضخم زيادة الإنفاق الحكومي من جهة والتخفيضات الضريبية المتعاقبة وخاصة منها الضرائب المباشرة.
(1) د. نبيل الروبي، مرجع سابق، ص 29 وما بعدها. R.J. Boll، Inflation and the theory of mony، London: Alen & Unwin، 1964، P. 261.
(2)
أبدجمان، مرجع سابق، ص 374 وما بعدها. جيمس جوارتني، ريجاردوا ستروب: الاقتصاد الكلي، ترجمة د. عبد الفتاح عبد الرحمن وآخر، دار المريخ، الرياض، ص 401 وما بعدها؛ د. رمزي زكي: مشكلة التضخم في مصر. الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1980، ص 40 وما بعدها؛ باري سيجل: النقود والبنوك والاقتصاد، ترجمة د. طه عبد الله منصور وآخر، دار المريخ، الرياض، ص 553 وما بعدها؛ د. نبيل الروبي، مرجع سابق، ص 45 وما بعدها؛ د. محمود عبد الفضيل: مشكلة التضخم في الاقتصاد العربي: الجذور والمسببات والأبعاد والسياسات. مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1982، ص 37 وما بعدها؛ خيرات البيضاوي، مرجع سابق، ص 17 وما بعدها. T. Killick، OP. 160 - 171
3-
تزايد التكلفة: والتي تسبب تخفيض حجم العرض عن الطلب ومن ثم حدوث التضخم، وتزايد التكلفة قد يرجع إلى ارتفاع الأجور أو إلى ارتفاع الأرباح أو إلى ارتفاع أثمان المواد المستوردة أو ارتفاع الفوائد، وكل ذلك يولد بطريق أو بآخر ارتفاع الأسعار. ومن المعروف أن التضخم المستورد يمارس دوراً بارزاً في تغذية العملية التضخمية في البلاد النامية.
والملاحظ أن التضخم الناشئ هنا يسمى تضخم دفع التكلفة، والملاحظ أيضاً أنه في ظل هذا اللون من التضخم يهبط حجم الناتج ويتزايد حجم البطالة، مما يعني أن منحنى فيلبس الشهير لا ينحدر انحداراً سالباً على الأقل في المدى الطويل، وبالتالي التشكك في علاقة التقابل بين التضخم والبطالة. (1) وإذا كان كل من العامل الأول والعامل الثاني يولدان تضخم جذب الطلب، فإن وجود العناصر الاحتكارية ممثلة في نقابات العمال أو اتحادات المنتجين، وكذلك وجود ما يعرف بالتضخم المستورد؛ كل ذلك يولد النوع الثاني من التضخم وهو ما يعرف بتضخم دفع التكلفة. وفي الحقيقة فإنه في الكثير الغالب لا نجد استقلالية لأي من النوعين عن الآخر، بل كلاهما يمثل حلقة في العملية التضخمية التي حالما تبدأ فإن كلاً منهما يولد الآخر ويتولد عنه. (2)
ومما تجدر الإشارة إليه أن المزيد من الضرائب في بعض أنواعها يولد بدوره تضخم التكلفة، كما أن النص المفاجئ في بعض عناصر الإنتاج ومستلزماته يولد هو الآخر التضخم. وعموماً فإن التضخم في النهاية قد يرجع إلى تزايد الطلب لسبب أو لآخر، كما قد يرجع إلى نقص العرض، وكذلك لعوامل هيكلية.
1-
4- آثار التضخم: مع التسليم بعدم وجود مقياس موضوعي عام للتمييز بين التضخم العادي أو المعتدل، والتضخم المرتفع أو الجامح، إلا أن ذلك لا يعني أن الآثار السلبية لهذه الظاهرة مربوطة بحدة هذه الظاهرة ومدى ارتفاعها، ولذلك فإن ما قيل وما يقال عن هذه الآثار فإنه ينصرف فعلاً إلى التضخم المرتفع بالدرجة الأولى.
(1) أبدجمان، مرجع سابق، ص 389.
(2)
لمعرفة مفصلة بالعملية التضخمية راجع أبدجمان، مرجع سابق، ص 950 وما بعدها.
وقبل أن نتناول هذه الآثار السلبية قد يكون من المفيد الإشارة إلى ما يطرحه بعض الاقتصاديين من ضرورة التمييز بين التضخم المتوقع والتضخم غير المتوقع، ذاهباً إلى أن الكثير من تلك الآثار إنما يعود فقط من جراء التضخم غير المتوقع. (1) ومع التسليم بذلك ولو جزئياً إلا أنه من المهم التأكيد على صعوبة وتعذر توقع التضخم بشكل دقيق أو قريب منه في الكثير الغالب من الحالات.
فكثيراً ما لا يمكن توقعه، وأحياناً كثيرة يخيب التوقع، فلا يحدث التضخم مع توقعه، أو لا يحدث بنفس درجة التوقع، إنما قد يكون أقل أو أعنف، وفي كل ذلك يكون التضخم الواقع غير متوقع. وهنا نجد أن عملية التوقع وما يترتب عليها من إجراءات قد تحدث آثاراً سلبية ضارة في حد ذاتها على الاقتصاد القومي وعلى أطراف المعاملات، وعموماً فإن هناك اتفاقاً بين الاقتصاديين على أن للتضخم آثاراً متعددة يمكن ذكر أهمها فيما يلي:
1-
تدني كفاءة العملة في قيامها بوظائفها، (2) فمن المتعارف عليه أن للنقود وظائف فنية أربعاً؛ وسيط في المبادلة، ومقياس للقيمة، ومخزن للقيم، ووسيلة للمدفوعات الآجلة، ومن الملاحظ أن كل هذه الوظائف على درجة كبيرة من الأهمية في ظل اقتصاد نقدي؛ إذ إن تحقق هذه الوظائف على الوجه الأمثل يعد أحد الشروط الضرورية لعمل مثل هذا الاقتصاد بكفاءة عالية، ومما يلاحظ كذلك أن هذه الوظائف أو على الأقل الثلاث الأولى منها بينها قدر كبير من التلازم، بمعنى أن قيام الشيء بوظيفة منها يستدعي عادة قيامه ببقية الوظائف، ومن ثم فإنه من الصعب قبول مقولة: إن النقود تفقد وظيفتها كمخزن للقيم وتظل تمارس بقية الوظائف مثلاً. (3)
ومن المتعارف عليه أن التضخم يجعل النقود لا تؤدي تلك الوظائف بكفاءة، وكلما اشتد كلما فقدت النقود أهليتها للقيام بوظائفها، إلى أن تفقد أهليتها كاملة، بمعنى أن تصبح غير مقبولة بين الناس كوسيط للمبادلة، ومن ثم كوحدة للحساب، ومن ثم كمخزن للقيم، ومن باب أولى كوسيلة للمدفوعات الآجلة، كل ذلك عندما يشتد التضخم ويجمح حيث تفقد النقود قيمتها النقدية (القوة الشرائية العامة)(4) وعند ذلك فإن الأمر ينتهي بإبطال هذه العملة وإصدار عملة جديدة مكانها، وقد حدث ذلك في المجتمع الإسلامي أكثر من مرة كما حدث في العديد من المجتمعات الأخرى. يقول المقريزي:(أصبح ينفق أحدهم مئة درهم على ما كان ينفق فيه من قبل عشرين درهماً)(5)
2-
إعادة توزيع الدخل والثروة بين الأفراد والدولة من جهة وبين الأفراد وبعضهم البعض من جهة أخرى.
(1) باري سيجل، مرجع سابق، ص 591 وما بعدها؛ كروين، مرجع سابق، ص 111 وما بعدها، أبدجمان، مرجع سابق ص 367 وما بعدها.
(2)
باري سيجل، مرجع سابق، ص 599 R. J. Ball، Op cit.، P. 262. د. نبيل الروبي، مرجع سابق، ص 337.
(3)
باري سيجل، مرجع سابق، ص 13 وما بعدها
(4)
المقريزي: إغاثة الأمة، القاهرة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1975م؛ د. محمد عجمية، د. محمد محروس: فصول في التطور الاقتصادي، مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية، ص 112 – 126؛ د. محمد زكي شافعي، مرجع سابق ص 89
(5)
الإغاثة، ص 75. ومعنى هذا أن قيمة النقود أصبحت 20 % من قيمتها قبل التضخم، ومعنى ذلك أيضاً أن الرقم القياسي أصبح 500 %.
من المعروف أنه في ظل التضخم يتجه الدخل من الأفراد إلى الدولة، من خلال المزيد من الضرائب التي تولدت في المجتمع لمجرد وجود التضخم، (1) ومن خلال فقدان الديون العامة قيمتها الحقيقية، ولعل في ذلك ما يفسر لنا ولو جزئياً ما نجده من توان وعدم بذلك الجهد الكافي من قبل بعض الدول لمواجهة التضخم، رغم ما له من آثار ضارة.
أما عن تأثير التضخم في توزيع الدخول والثروات بين الأفراد فيمكن القول بوجه عام: إن بعض الأفراد والفئات تستفيد من التضخم وبعضها يضار منه، فأصحاب الأصول المالية والنقدية وأصحاب الدخول الثابتة مثل العمال والموظفين يضارون من التضخم، عكس أصحاب الأصول العينية وأصحاب الدخول الحرة، مثل التجار وأصحاب المهن الحرة. (2) وفي هذا الصدد يهمنا توضيح بعض المسائل:
أ- أثر التضخم على كل من المقرض والمقترض: من المقولات الاقتصادية الشائعة أن التضخم يفيد المقترض ويضر المقرض، وهذه المقولة صحيحة إلى حد كبير خاصة في ظل اقتصاد لا يؤمن بسعر الفائدة، أما في ظل الإيمان بنظام الفائدة فإن الأمر في النهاية يتوقف على مدى اقتراب أو ابتعاد التضخم الفعلي عن التضخم المتوقع. والاحتمالات ثلاثة:(3) عدم حدوث أي ضرر أو نفع لأي من الطرفين، استفادة المقرض، استفادة المقترض.
(1) باري سيجل، مرجع سابق، ص 581 وما بعدها؛ تقرير التنمية في العالم 1989، ص 86، النشرة العربية، مؤسسة الأهرام. T.Killick، OP. Cit، PP. 175 – 177 وقد أشار المقريزي إلى هذه المسألة – انظر إغاثة الأمة، ص 73
(2)
وهناك أثر توزيعي للتضخم تنبه له الفقهاء القدامى، وذلك عند تناولهم لرأسمال المضاربة وعدم جواز أن يكون بالفلوس عند بعض الفقهاء، حيث برروا قولهم بتعرض الفلوس لتقلبات كبيرة في قيمتها، ومعنى ذلك تأثر حقوق المضارب ورب المال عند انتهاء المضاربة بتغير قيمتها، انظر السرخسي: المبسوط، دار المعرفة، 11/160
(3)
باري سيجل، مرجع سابق، ص 591 وما بعدها
والبعض يصور المسألة تصويراً مغايراً فيقول: إنه لا يمكن الجزم بأن ضرراً قد لحق بالفئة المقرضة أو نفعاً قد جنته الفئة المقترضة، حيث إن المسألة في النهاية تتوقف على هيكل المحفظة المالية لكل فرد.
ومع التسليم بذلك إلا أن هذا لا ينفي الأثر المباشر للتضخم على عملية الإقراض، ومهما يكن الأثر النهائي الشامل على محفظة كل من المقرض والمقترض فإن هناك أثراً مباشراً قد نتج من عملية الاقتراض قد يكون ضاراً وقد يكون مفيداً.
والبعض يزعم هنا أن ما قد يلحق المقرض من ضرر لا يرجع إلى عملية الإقراض حد ذاتها، وإنما احتفاظه بأمواله في شكل نقدي، ومن ثم فهو مضار من التضخم حتى ولو لم يقرض، وبعض الاقتصاديين الإسلاميين قد تلقف هذا القول ونادى به في مواجهة الربط القياسي – كما سنشير إلى ذلك في حينه.
والحقيقة أن هذا مغالطة، فالمقرض قد أضير لسببين وليس لسبب واحد، السبب الأول: كون ثروته في شكل نقدي، والسبب الثاني: عملية الإقراض التي حالت بينه وبين تغير شكل ثروته لوقايتها من التضخم المستمر.
ب- أثر التضخم على أصحاب العقود الآجلة، مثل العمال والبائعين والمشترين وأصحاب المعاشات وغير ذلك، والمقولة الشائعة هنا أن التضخم يحابي أصحاب العمل والمشترين على حساب العمال والبائعين وأصحاب المعاشات، والحق أن هذه المقولة في حاجة إلى تحرير وتمحيص (1) ، فالأمر متوقف في النهاية على عاملين؛ القدرة على المساومة وفرض الشروط الملائمة والمعدلة، ثم المهارة في التوقع، ومعنى ذلك أنه ليس صحيحاً على إطلاقه وجود ضرر للعامل أو للبائع أو لصاحب المعاش، ولا وجود نفع للأطراف المقابلة لهم.
فمن الممكن أن يستفيد العامل من التضخم إذا ما كان ذا قدرة كبيرة على المساومة وفرض الشروط الملائمة في عقد الإجارة، وخاصة إذا ما جاء التضخم أقل مما توقع، وكذلك الحال بالنسبة للبائع إلى أجل، حيث قد يكون الثمن من الارتفاع بحيث يجب أي تضخم يحدث ويزيد، ويمكن أن يقال ذلك بالنسبة لأصحاب المعاشات، مع أنه غالباً ما يكون الموقف في غير صالحهم، ونظراً لأن الكثير من العمال خاصة في الدول النامية، وخاصة العاملين لدى الدولة لا يملكون القدر الكبير على المساومة، فإن التضخم في غالب أوضاعه ضار بهم، ولذلك نجد ما يعرف بالعلاوات الدورية، وإعانات غلاء المعيشة؛ كل ذلك تخفيفاً من آثار التضخم، مع التسليم بعدم كفايتها في تلافي تلك الآثار في معظم الحالات.
(1) باري سيجل، مرجع سابق، ص 594 وما بعدها؛ كروين، مرجع سابق، ص 32 وما بعدها، المقريزي: إغاثة الأمة، مرجع سابق، ص 72 وما بعدها؛ د. محمود عبد الفضيل، مرجع سابق ص79 وما بعدها
3-
تدني كفاءة الاقتصاد القومي: (1) إن التضخم يشوه هيكل الاستثمارات بحيث ينحاز إلى أشكال غير مفيدة لكنها ذات وقاية عالية من آثار التضخم، كما أنه يقلل من أحجامه ومجالاته، لما يحدثه من تأثير سلبي على كل من التكاليف وتقديراتها وكذلك الإيرادات، ثم إنه يقلل من المدخرات التي هي مصدر التمويل الحقيقي للاستثمارات، كذلك فإنه يسيء ويشوه من تخصيص الموارد حيث يحول دون جهاز الأسعار وإرسال الإشارات الصحيحة لمتخذي القرار الإنتاجي والاستهلاكي. (2)
4-
كما أنه يشوه من هيكل التجارة الخارجية، ويزيد من عجز الميزان التجاري، ومن اختلال أسعار الصرف. (3)
5-
وأخيراً فإنه يحد بقوة من عمليات الائتمان التجاري والاجتماعي، ولا يستغني مجتمع معاصر عن مثل تلك العمليات، وفي الوقت ذاته يفتح شهية الحكومات للمزيد من المديونية بما لذلك من آثار سلبية. (4)
وفي كلمة أن التضخم يزعزع كلاً من قاعدتي الكفاءة والعدالة. تلك القاعدتان اللتان يهتم بهما الإسلام غاية الاهتمام، ومن ثم فإن التضخم إذا كان مكروهاً لدى الاقتصاد الوضعي فإنه أشد كراهة لدى الاقتصاد الإسلامي.
1-
5- علاج التضخم: مهما قيل من وجود بعض المنافع للتضخم وخاصة المعتدل منه، مثل تمويل التنمية؛ فمما لا شك فيه أنه باتفاق جماهير الاقتصاديين يعد مرضاً اقتصادياً خطيراً، ومن ثم تجب مواجهته والعمل الجاد على علاجه وشفاء الاقتصاديات منه.
ولن ندخل هنا في معمعة طرق وأساليب العلاج وتحليل مدى نجاعة كل طريق في مواجهة التضخم، فلذلك مواطنه المتخصصة المستقلة، ولكن في هذه الدراسة الموجزة قد يكفي الإشارة السريعة إلى أهم هذه الطرق والتأكيد على بعض الدلالات المستخلصة.
(1) باري سيجل، مرجع سابق، ص 598 وما بعدها؛ د. محمد زكي شافعي، مرجع سابق ص 82 وما بعدها؛ د. فؤاد شريف: المشكلة النقدية، الطبعة الأولى، ص 4 وما بعدها؛ د. فؤاد مرسي، النقود والبنوك، الطبعة الأولى، ص 404 وما بعدها؛ د. مصطفى رشدي: الاقتصاد النقدي المصرفي، مرجع سابق، ص 560 وما بعدها
(2)
قام بشرح هذه المسألة شرحاً مفصلاً فريدمان، انظر باري سيجل، مرجع سابق ص 598
(3)
د. فؤاد مرسي، مرجع سابق، ص 405؛ أبو جمان، مرجع سابق، ص 376؛ خيرات البيضاوي، مرجع سابق، ص 37 وما بعدها.
(4)
د. نبيل الروبي، مرجع سابق، ص 347 وما بعدها.
لقد تبين لنا أن مصادر التضخم ترجع بوجه عام إلى كل من الطلب والعرض، حيث إن التضخم في جوهره ما هو إلا اختلال جوهري في العلاقة بينهما، حيث يكون الطلب من القوة والزيادة بما لا يواكبه العرض.
وقد رأينا أن منشأ هذا الاختلال قد يكون تزايداً في الطلب، وقد يكون تناقصاً في العرض، وقد يكون كلا الأمرين معاً، ومعنى ذلك أن أي علاج يراد له أن يكون فعالاً عليه أن يتعامل باقتدار مع تلك المصادر.
ولعل من جوانب الصعوبة هنا أنه في حالات ليست بالقليلة، لا نستطيع التشخيص الدقيق لمصدر التضخم، وهل هو جذب الطلب أو دفع التكلفة أو كلاهما أو أي شيء آخر؟
ويترتب على ذلك وجود احتمال قوي في عدم نجاعة وفعالية السياسة المتخذة، ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل ربما ترتب على تلك السياسة إذا لم تكن متوائمة مع المصدر المزيد من الآثار السلبية على الاقتصاد القومي.
ودلالة ذلك قد تكون في ضرورة أن يكون العلاج حزمة متكاملة من السياسات والإجراءات تقوم على عدة عناصر؛ من أهمها ما يلي:
1-
الإصلاح النقدي: وذلك بحسن التعامل مع عرض النقود بحيث تتواءم بقدر الإمكان مع حاجة الاقتصاد القومي، وكلما كانت هناك كوابح قوية تحول دون الحكومة والجهاز المصرفي والمزيد من النقود كلما كان الموقف أفضل حيال التضخم، ومعنى ذلك ضرورة تواجد سياسة نقدية رشيدة. (1)
2-
الإصلاح المالي: على أن يشتمل ذلك على أمرين معاً، الإنفاق العام والإيرادات العامة، وخاصة منها الضرائب والقروض. إن ترشيد الإنفاق العام يعد شرطاً ضرورياً لإمكانية مواجهة التضخم، وكذلك الحال في كل من الضرائب والقروض اللتين تعتبران من أهم مصادر الضغوط التضخمية، ومعنى ذلك حتمية توفر سياسة مالية رشيدة. (2)
(1) د. محمود عبد الفضيل: مشكلة التضخم في الاقتصاد العربي، مرجع سابق، ص 95؛ د. مصطفى رشدي: الاقتصاد النقدي، مرجع سابق، ص 568. كروين، مرجع سابق، ص 185 وما بعدها؛ د. رمزي زكي: مشكلة التضخم في مصر. مرجع سابق، ص 618 وما بعدها. T. Killick، OP. Cit.، PP. 182 – 184.
(2)
أبدجمان، مرجع سابق، ص 425 وما بعدها؛ كروين، مرجع سابق، ص 192 وما بعدها.
3-
الإصلاح المؤسسي: والمقصود به دعم وتوسيع رقعة المنافسة، والقضاء على ما يمكن القضاء عليه من أشكال الاحتكارات. (1)
4-
الإصلاح السياسي: وخاصة منه ما يتعلق بالجانب الإداري، وبدون إدارات عامة جيدة وأجهزة إدارية وفنية قادرة فإنه من الصعوبة بمكان ترشيد الإنفاق العام والإيرادات العامة. كذلك من المهم توافر التشريعات والسياسات الصحيحة، وتوافر المساءلة الشعبية الفعالة. (2)
ومن الواضح أن توفر كل تلك العناصر ليس بالأمر السهل، كما أنه من المهم أن تعمل مع بعضها في تناغم واتساق، فلا يكفي مجرد توافرها، وهذا أيضاً من الصعوبة توفيره.
ولا يخفي على مهتم ما هنالك من جماعات الضعف المختلفة ذات المصلحة والتي تقف بكل ما لديها من جبروت حيال الكثير من الإصلاحات، يضاف إلى ذلك ما أصبح معروفاً بأثر قصر النظر السياسي وما يحدثه من مزيد من التضخم.
وأخيراً فهنالك مسألة تجدر الإشارة إليها تتعلق بصعوبة مواجهة التضخم والعمل على اجتثاث جذوره، وهي ما أشار إليه بعض الاقتصاديين من وجود تكاليف اقتصادية باهظة لهذه العملية، عادة ما لا تتحملها الاقتصاديات القومية، والتي تتمثل في المزيد من البطالة ومن تدني حجم الناتج القومي، وقد قدرت بعض الدراسات أن تخفيض التضخم بمعدل 1 % سوف يؤدي إلى تخفيض حجم الناتج القومي الأمريكي بمقدار 10 %. (3)
وهذا ما حدا ببعض الاقتصاديين إلى الدعوة إلى المعايشة مع التضخم بدلاً من مواجهته، كما سنوضح ذلك عند حديثنا للربط القياسي.
ومهما يكن من أمر فلا ينبغي على الإطلاق أن تثني تلك الصعوبات الحكومات عن مواجهة التضخم بكل ما لديها من وسائل وأساليب، وألا تنسى في يوم ما أن التضخم مرض اقتصادي خطير.
(1) جيمس جواريني، مرجع سابق، ص 404 وما بعدها؛ أبدجمان، مرجع سابق، ص 379 وما بعدها.
(2)
باري سيجل، مرجع سابق (ص 565 وما بعدها)
(3)
أبدجمان، مرجع سابق (ص 426)
2-
الاقتصاد الإسلامي ومشكلة التضخم
في هذه الفقرة نهتم بالإجابة على سؤال مهم هو: هل يتعرض الاقتصاد الإسلامي لمشكلة التضخم؟ وللإجابة على هذا التساؤل نجد من المهم التمييز بين:
1-
الظروف العادية والظروف غير العادية.
2-
الاقتصاد الإسلامي كمبادئ وقوانين وسياسات، والاقتصاد الإسلامي كهياكل اقتصادية عاشت على أرض المجتمع الإسلامي. ومن ثم أخذت وصف (الإسلامي) من هذه الكينونة الواقعية.
فيما يتعلق بالمسألة الأولى فلا أظن أن أحدا يجادل في إمكانية تعرض الاقتصاد الإسلامي –حتى من منظور المبادئ والسياسات- للتضخم في ظل الظروف غير العادية مثل الحروب والكوارث الطبيعية والجفاف.. إلخ، من كل ما يسبب نقصاً طبيعياً حاداً في العرض، ومن ثم يتولد التضخم، وأرى أن خير مثال لذلك ما حدث في عام الرمادة في زمن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
أما في ظل الظروف العادية فيمكننا القول بثقة كبيرة: إن الاقتصاد الإسلامي كمبادئ وسياسات لا يتعرض لمشكلة التضخم، خاصة منه ما كان ذا مصدر داخلي شريطة توفر أمرين على الأقل هما التطبيق الفعلي والحقيقي لمبادئ الاقتصاد الإسلامي، وكذلك أن يكون الاقتصاد الإسلامي كواقع على درجة من القوة تمكنه من تحصين نفسه إلى حد كبير ضد التضخم المستورد. (1)
وفيما يتعلق بالمسألة الثانية فإن الاقتصادي الإسلامي كواقع عاش على أرض المجتمع الإسلامي عبر العصور المختلفة، ومن ثم ولهذا السبب وحده اكتسب هذه الصفة، إما أن يتمشى هذا الواقع مع المبادئ والأسس أو يخرج عليها، في الحالة الأولى ينطبق عليه ما قيل في المسألة الأولى، وفي الحالة الثانية فإن شأنه شأن الاقتصاد الوضعي تماماً بتمام.
(1) د. شوقي دنيا: النظرية الاقتصادية من منظور إسلامي، مكتبة الخريجي، الرياض، (ص 298 وما بعدها) ؛ د. أحمد الحسيني: تطور النقود في ضوء الشريعة الإسلامية، جدة، دار المدني، 1410 هـ (ص 44 وما بعدها)
وحيث إن العالم الإسلامي المعاصر لا يطبق في مجمله المبادئ الاقتصادية الإسلامية من جهة، كما أنه يرزح تحت كابوس التخلف الاقتصادي من جهة أخرى، فإن اقتصادياته معرضة وبشكل بارز لكل ألوان ومصادر التضخم، وعلينا أن ندرك أن التعرض للتضخم شيء ووجود التضخم فعلاً شيء آخر.
وعندما نقول: إن التطبيق السليم لمبادئ الاقتصاد الإسلامي يقي المجتمعات الإسلامية في ظل الظروف العادية من أن تقع فريسة للتضخم الجامح، فإن حيثيات هذه المقولة متوفرة، والتناول المفصل لها ليس من مهام هذا البحث، ويكفي أن نقول عنها كلمة كلية هي عدم وجود كل عوامل التضخم الداخلية التي أشرنا إليها سلفاً، سواء منها ما يرجع إلى جانب الطلب أو ما يرجع إلى جانب العرض.
ومع ذلك، ومع توارد الظروف غير العادية، ومع تشابك العلاقات الاقتصادية الدولية، ومع وجود درجات من عدم الالتزام الصارم بالمبادئ الاقتصادية الإسلامية، فإن الاقتصاد الإسلامي مهما كانت الزاوية التي تنظر منها فيه وإليه يمكن أن يتعرض للتضخم، بل هو معرض له بالفعل، كل هذا لا ينفي حقيقة راسخة هي الكراهية الشديدة للتضخم من قبل الاقتصاد الإسلامي والحرص على منعه، ومرجع ذلك ما يحدثه من آثار سلبية متعددة، ولا سيما منها ما يرجع إلى العدالة وعدم بخس الناس أموالهم، والوفاء بالعقود، وعدم أكل أموال الناس بالباطل، إضافة إلى آثاره الاقتصادية المعروفة والتي يوليها الاقتصاد الإسلامي عناية لا تقل بحال عن عناية الاقتصاد الوضعي إن لم تتفوق عنها. وفي هذا الصدد تجدر الإشارة إلى أنه من دواعي شدة كراهية الاقتصاد الإسلامي للتضخم أن بعض آثاره السلبية أشد ضراوة في الاقتصاد الإسلامي منه في الاقتصاد الوضعي، ويتمثل ذلك بوضوح في عمليات الائتمان وخاصة منها ما كان مصدره القروض، حيث إن القروض في الاقتصاد الإسلامي هي قروض حسنة، ليس لها عائد اقتصادي يواجه ما قد يطرأ عليها من تدهور في قيمتها عندما تكون هناك ضغوط تضخمية.
وبتتبع فترات التضخم التي مر بها المجتمع الإسلامي في عصوره السابقة نجدد أن مصدر التضخم لم يخرج في مجمله عن المصادر المعروفة لنا الآن، والتي من أهمها اختلال السياسة النقدية وصك المزيد من العملات وكذلك اختلال السياسة المالية؛ سواء من حيث الإسراف المتزايد في الإنفاق العام وسوء تخصيصه، أو في فرض المزيد من الضرائب والتي كان لها مردودها السلبي القوي على حجم المعروض من السلع والخدمات وكذلك سوء الأوضاع المؤسسية وشيوع الاحتكارات؛ سواء من قبل رجال الدولة أو التجار، وأخيراً ما قد يصاحب ذلك من عوامل طبيعية مثل الجفاف. (1)
(1) لمزيد من المعرفة يراجع المقريزي: الإغاثة، مرجع سابق.
3-
الفقه ومشكلة التضخم
المجتمع الإسلامي، رغم حرص الإسلام الشديد على تحقيق الاستقرار السعري قد عايش التضخم بدرجة أو بأخرى في بعض عصوره، ومن المتوقع في ضوء ذلك أن يكون الفقه قد عني بهذه المسألة. فهل تناول الفقهاء فعلاً هذه المشكلة وبينوا الحكم الشرعي حيالها على مستوى الأسباب وعلى مستوى النتائج؟ الظاهر حتى الآن، ومن خلال ما تم من دراسات معاصرة حيال هذا الموضوع، أنه كان للفقه كلمته حيال هذه المسألة على مستوى الآثار وخاصة ما يتعلق منها بأطراف التعاقدات، ومما يؤسف له عدم التفات أو تنبه الدراسات المعاصرة للشق الأول من القضية؛ وهو موقف الفقه من أسباب التضخم، مع أنه لا يقل أهمية ولا اهتماماً من الشق الثاني.
3-
1- إن الفقهاء قد أفاضوا في الحديث عن كل العناصر غير الطبيعية التي تعد مصادر التضخم، ومن ذلك:
1-
لقد تكلموا عن النقود وسكها وغشها وتنظيم تداولها ومسؤولية الدولة حيال حسن التعامل معها.
2-
وتكلموا عن الإنفاق العام ومجالاته وضوابطه وأهمية ترشيده ومسؤولية الدولة حيال كل تلك الجوانب.
3-
وتكلموا بإفاضة عن كل من الضرائب والقروض، وبينوا الضوابط والقيود الصارمة حيال استخدام الدولة لكل منها.
4-
وتكلموا عن الاحتكارات سواء من قبل العمال أو أصحاب الأعمال أو الدولة، ووضحوا الحكم الشرعي حيال تلك الممارسات الاحتكارية وكيفية مواجهتها.
معنى ذلك أن الفقه الإسلامي قد حفل بقضية أسباب ومصادر التضخم ربما بقدر أكبر من تناوله لقضية آثار التضخم. لكن الذي أوجد شيئاً من الغمامة فوق هذا الموضوع ربما لتناثر التناول لهذه القضية وتباعد أماكنها، وربما لعدم وجود إشارات منهم عند تناولهم لهذه المسائل بما لها من علاقة وطيدة بالتضخم، ومع ذلك تظل الحقيقة المتمثلة في عدم إمكانية التجادل حول تناولهم لأسباب التضخم في حين إمكانية التجادل في تناولهم لآثاره القائمة، وعذرهم في ذلك عدم تضخم القضية واستفحالها بالصورة التي تبدو فيها الآن، ولعل الرسالة الضمنية المهمة هنا هي عظم مسؤولية الفقهاء المعاصرين، وعدم دقة المنهج الفقهي المعاصر الذي ينطلق في بحثه لهذه القضية من منطلق وحيد هو: ماذا قال فيها الفقهاء سلفاً؟ وإنما المنهج الصحيح هو ما يسلك مسالك متعددة فيرجع إلى النصوص الشرعية والقواعد العامة، وأقوال الفقهاء في قضايا قريبة، مع عدم إهمال ما هنالك من أقوال فقهية في هذه القضية.
3-
2- ماذا عن موقف الفقه من التضخم على مستوى الآثار المترتبة وخاصة ما يتعلق منها بأطراف التعاقدات؟
أما ما يتعلق منها بالاقتصاد القومي فقد تحدث فيها العديد من العلماء منهم على سبيل المثال وليس الحصر الجويني والماوردي والغزالي وابن تيمية وابن القيم وابن خلدون والمقريزي. وبتجميع ما قالوه ومقارنته بما هو متعارف عليه الآن من الآثار السلبية للتضخم لا نجده يقل كثيراً عنه. (1) رغم أن وحدة التضخم وتعقده وتداخل عوامله لم تكن على مستوى ما نعايشه اليوم. ونظراً لأن هذا لجانب ليس من المهام الأساسية للبحث الحالي فلن ندخل في بسط القول فيه.
وأما ما يتعلق منها بأطراف التعاقدات فهو محل اهتمامنا.
وبداية علينا أن نناقش القول المعاصر بأن الفقهاء لم يتناولوا مشكلة التضخم من حيث آثارها على النحو الذي نعرفه الآن، ومصدر هذا القول هو أنه بالبحث في كتب الفقه على اختلاف مذاهبها لم نعثر على كلمة تضخم، ولا على كلمة المستوى العام للأسعار، ولا على كلمة انخفاض القوة الشرائية للنقود حيال مختلف السلع والخدمات، وطالما غابت تلك المصطلحات ولم تظهر في كتب الفقه فليس هناك مجال للقول بتناول الفقه لتلك المشكلة، ويمضي أصحاب هذا القول في تبيان وتأصيل موقفهم، فيقولون: إن كل ما عثرنا عليه لدى الفقهاء هو تعبير غلاء الفلوس ورخصها، ومن الأمثلة التي ضربوها نجد معنى هذه العبارة ينحصر في علاقتها بالذهب والفضة وليس بمختلف السلع والخدمات كما هو الحال في شأن التضخم، يضاف إلى ذلك أنهم لم يتحدثوا عن غلاء النقود ورخصها، وإنما جاء حديثهم الصريح عن الفلوس، تلك العملات المساعدة، والتي لم ترق لأن تكون نقداً كامل النقدية لها خاصية النقد المتمثلة في القوة الشرائية العامة وقوة الإبراء غير المحددة. ومناقشة هذا القول تسير في مسالك متعددة.
(1) وبذلك فنحن نتحفظ على تبرير الدكتور نجاة الله صديقي لعدم اهتمام الفقهاء بهذه النوعية من الآثار والتي أسماها الجوانب الضيقة، حيث يرى أن جهود الفقهاء القدامى حيال هذا الموضوع لم تكن على درجة من التفصيل والعمق، ويرجع السبب في ذلك جزئياً إلى بعد هذه الكتابات الفقهية عن فن إدارة الدولة وصنع السياسة العامة. وذلك في تعقيبه القيم على بحث د. حسن الزيان: استعراض للمؤلفات الإسلامية حول ربط المعاملات بتغير الأسعار (ص 13) . من أوراق حلقة عمل حول ربط الحقوق والالتزامات بتغير الأسعار من وجهة النظر الإسلامية. المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب التابع للبنك الإسلامي للتنمية، 27 – 30 شعبان 1407 هـ.
أولاً: لا نسلم بأن كلام الفقهاء في هذا الموضوع انحصر في الفلوس ولم يشمل النقود، فقد نقل ابن عابدين ما هنالك من خلاف في هذا المذهب حول شمول كلام علماء المذهب للنقود الذهبية والفضية أو عدم شموله. وفي ذلك يقول:(ورأيت في حاشية الشيخ خير الدين الرملي على البحر عند قوله: وحكم الدراهم كذلك. أقول: يريد به الدراهم التي لا يغلب غشها كما هو ظاهر، فعلى هذا لا يختص هذا الحكم بغالب الغش ولا بالفلوس) لكنه في كتاب آخر له أشار إلى أن الكثير من الفقهاء لا يدخلون النقود الذهبية والفضية تحت حكم فلوس في هذا الشأن. (1) وإذن فالمسألة عند الأحناف خلافية.
وعند المالكية نجد النص الصريح على أن ما جرى من كلام حول تغير سعر الفلوس وأثره لا يقف عند الفلوس بل يتعداها إلى النقود الذهبية والفضية، يقول الحطاب:(تنبيه: لا خصوصية في الفلوس بل الحكم كذلك في الدنانير والدراهم، كما أشار إليه في كتاب الصرف من المدونة، وصرح به في التلقين والجلاب وغيرهما، قال في التلقين: ومن باع بنقد أو اقترض ثم بطل التعامل به لم يكن عليه غيره إن وجد، وإلا فقيمته إن فقد. وقال في الجلاب: ومن اقترض دنانير أو دراهم أو فلوساً أو باع بها وهي سكة معروفة ثم غير السلطان السكة بغيرها، فإنما عليه مثل السكة التي قبضها ولزمته يوم العقد) . (2)
وكذلك الحال عند الشافعية فقد نص السيوطي على ذلك بقوله عقب الكلام على تغير سعر الفلوس أو كسادها: (فإن وقع مثل ذلك في الفضة بأن اقترض منه أنصافاً بالوزن ثم نودي عليها بأنقص أو بأزيد أو بالعدد، أو اقترض عدداً ثم نودي عليها بالوزن فلا يخفى قياسه على ما ذكر في الفلوس) . (3)
(1) لمعرفة مفصلة يراجع: حاشية ابن عابدين، دار الفكر، بيروت، 4/533 وما بعدها؛ رسائل ابن عابدين، دار إحياء التراث، بيروت: 2/62 وما بعدها
(2)
الحطاب: مواهب الجليل، دار الفكر، بيروت: 4/340
(3)
السيوطي: الحاوي، دار الكتب العلمية، بيروت: 1/97
والحال كذلك لدى الحنابلة، فيقول ابن قدامة: (قد ذكرنا أن المستقرض يرد المثل في المثليات سواء رخص سعره أو غلا أو كان بحاله
…
وإن كان القرض فلوساً أو مكسرة..) . (1) والمعروف أن النقود الذهبية الفضية تدخل في المثليات بلا خلاف، كذلك نجده يضيف إلى الفلوس النقود أو الدراهم المكسرة. والأمر أكثر صراحة عند الظاهرية حيث لا يرون أية تفرقة بين المواد المستخدمة نقوداً ذهباً أو فضة أو غير ذلك.
وهكذا يسقط زعم من زعم بأن كلام الفقهاء في هذا الشأن اقتصر وانحصر في الفلوس، فقد صرح جمهور الفقهاء بعدم التفرقة بين ما كان يعرف بالفلوس وما كان يعرف بالنقود، والخلاف الجاري في المذهب الحنفي إنما هو في بطلان الثمنية عند الكساد أو الانقطاع، حيث تظل النقود الذهبية والفضية على ثمنيتها وماليتها عكس الفلوس المتخذة من معادن رديئة قليلة القيمة الذاتية، أما عند تغير السعر فموقفهم واحد سواء كانت نقوداً أو فلوساً.
وثانياً: لا نسلم بأن الفلوس كانت في غالب حالاتها مجرد عملة مساعدة، بل كانت في معظم الحالات عملة رئيسية انفردت بالنقدية في بعض المجتمعات، وكانت أقوى –نقدياً- من العملات الذهبية والفضية في بعضها الآخر.
يقول فيها الإمام الحنفي أبو بكر بن الفضل شيخ الإمام السرخسي: (هي أعز النقود عندنا، تقوم بها الأشياء، ويمتهر بها النساء، ويشترى بها الخسيس والنفيس، بمنزلة الدراهم في ذلك الزمان)(2) يقصد أنها مثل الدراهم تماماً في الأزمنة السابقة التي كانت تسود فيها الدراهم. وقد أثبت المقريزي وهو أحد علماء المذهب الشافعي أن الفلوس في مصر كانت في بعض العصور أقوى وأوغل في النقدية من الدنانير والدراهم؛ إذ يقول: (إن الذي استقر أمر الجمهور بإقليم مصر عليه في النقد الفلوس خاصة، يجعلونها عوضاً عن المبيعات كلها.. ويصيرونها قيماً عن الأعمال جليلها وحقيرها، لا نقد لهم سواها ولا مال إلا إياها)(3) وفي عبارة أخرى له نجده يشير صراحة إلى أن الذهب والفضة كانت تنسب إلى الفلوس وتقوم بها، فيقال: كل دينار بكذا وكذا درهماً من الفلوس ((4)
(1) ابن قدامة: المغني، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض: 4/360
(2)
الكاساني: بدائع الصنائع، نشر زكريا يوسف: 2/843؛ وانظر الفتاوى البزازية على هامش الفتاوى الهندية: 1/249
(3)
وقد نص وشرح ذلك المقريزي، انظر الإغاثة (ص 79)
(4)
إغاثة الأمة (ص 76 و84)
وثالثاً: لا نسلم بأن غلاء الفلوس ورخصها تجاه الذهب والفضة لا تعكس التضخم كما نعرفه اليوم، ذلك أن الذهب والفضة لم يكونا في تلك العصور مجرد سلعة وإنما كانا نقوداً، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن معظم نصوص الفقهاء في هذا الشأن كانت مطلقة غلت الفلوس أو رخصت، وغلت النقود أو رخصت، وفهم هذه العبارات المطلقة لا يخرج عن مفهوم التضخم، وهذا لا يمنع من وجود بعض عبارات لهم تمثل مقدار التغير السعري هذا، فتنسبه إلى الذهب أو الفضة، وقد كان المتعارف عليه عندهم أن النقود هي قيم الأموال، ولا تقوم هي بالأموال، وبالتالي لم يتأت لهم إمكانية القول بأن النقود غلت أو رخصت بالنسبة للقمح مثلاً، وقد تساءل ابن عابدين عند بحثه لهذه المسألة باستنكار كيف يمكن تقويم النقود؟ وذهب إلى عدم إمكانية ذلك. (1) ثم إن التاريخ يؤكد على وقوع التضخم الجامح عندما تغيرت أسعار الفلوس. (2)
ورابعاً: من منظور تفرقة الفقهاء بين ما كانت خلقته نقداً وما اصطلح عليه الناس، وبين ما يروج ويتعامل به في كل البلاد وما لا يروج إلا في بلد معين. النقد الذي يروج في كل البلاد وهو بأصل خلقته نقد هو الذهب والفضة عند من قال بذلك من الفقهاء، وماعداه فهو نقود اصطلاحية، وهي تشمل الفلوس وهي تلك العملات المعدنية من غير الذهب والفضة التي كانت معروفة قديماً، كما تشمل أي شيء يصطلح عليه كنقد، (3) ومن ذلك النقود الورقية المعروفة لنا اليوم. ومثلما قال الشيخ الكبير مصطفى الزرقا:(من ادعى انحصار النقود الاصطلاحية في الفلوس فعليه البيان)(4) ومعنى ذلك كله أن ما لدينا من نقود يجري عليها ما سبق من أقوال للفقهاء، حتى بفرض قصر كلامهم على الفلوس، وعلينا هنا أن نزيل اشتباهاً ربما وقع فيه البعض، وهو أنه ليس معنى إلحاقنا نقودنا في هذه المسألة بالفلوس عدم جريان الربا فيها –كما زعم البعض أن الربا يجري فيها بالصفة الثمنية، وهي مع ذلك شبيهة بالفلوس من حيث الاصطلاح وعدم كون مادتها من ذهب أو فضة؛ أي عدم تناسب القيمة الغذائية السلعية، مع القيمة النقدية، وكونها تروج في بلد ولا تروج في أخرى، وكون قيمتها ذات قابلية عالية للتقلب، (5) ولا أعلم أن هناك مانعاً شرعياً من القول بذلك.
(1) حاشية ابن عابدين 4/537
(2)
المقريزي: إغاثة الأمة؛ الأسدي: التيسير والاعتبار.
(3)
ابن الهمام: شرح فتح القدير، بيروت، دار صادر: 5/287
(4)
المدخل الفقهي العام، دار الفكر.
(5)
يتفق معنا في ذلك الدكتور رفيق المصري، الإسلام والنقود، مركز النشر العلمي، جامعة الملك عبد العزيز، (ص 85 وما بعدها) وكذلك د. أحمد الحسني، مرجع سابق (ص 183)
3-
3- أثر تغير أسعار العملة بعد إبرام العقود:
بداية علينا أن نصوغ التساؤل المراد معرفة حكمه الشرعي بقدر كبير من الوضوح. في حال العقود التي ترتب حقوقاً والتزامات مستقبلية، بفرض أنه عند سداد هذه الالتزامات أو الوفاء بهذه الحقوق تغيرت أسعار العملة التي أبرمت بها سلفاً هذه العقود، فما الذي يسدد، هل هو مثل العملة التي هي محل العقد وزناً أو عدداً أو هو قيمتها؟ وإذا كان قيمتها فقيمة أية لحظة زمنية هي المعتبرة؟
هذا هو السؤال الذي تناوله الفقهاء على اختلاف مذاهبهم بالإجابة، ولعلنا نلاحظ أنه مهما كانت نوعية الإجابة فإننا لسنا أمام عملية ربط قياسي كما نعرفها اليوم، وإنما نحن أمام أمر واقع واتفق عليه سلفاً ثم تغير عند حلول موعد السداد فما الذي يسدد؟
بدراسة موقف الفقهاء حيال هذا الموضوع بغض النظر عن مذاهبهم تبين لنا أن هناك ثلاثة أقوال، نذكرها بشيء من الإيجاز:
أ- القول الأول: عدم الاعتداد بأي تغير يطرأ، قليلاً كان أو كثيراً، بمعنى أنه لا ينظر لأي تضخم أو كساد مهما كانت معدلاتهما، وعلى المدين أن يسدد مثل الذي سبق وتعاقد عليه وزنه أو عدده. هذا القول هو مشهور المذهب المالكي وكذلك المذهب الشافعي، وهو رأي المتقدمين في المذهب الحنبلي، وهو رأي غير راجح ولا معول عليه في المذهب الحنفي. وهذه بعض عباراتهم؛ يقول الدردير:(وإن بطلت معاملة من دنانير أو دراهم أو فلوس ترتبت لشخص على غيره من قرض أو بيع أو تغير التعامل بها بزيادة أو نقص عليه المثل حتى ولو كانت مئة بدرهم فصارت ألفاً بدرهم أو بالعكس)(1) يقول ابن قدامة: (وأما رخص السعر فلا يمنع ردها، سواء كان كثيراً مثل أن كانت عشرة بدانق، فصارت عشرين بدانق، أو قليلاً؛ لأنه لم يحدث فيها شيء، إنما تغير السعر فأشبه الحنطة إذا رخصت أو غلت) . (2)
(1) أحمد الدردير: الشرح الصغير، القاهرة، دار المعارف: 3/ 69
(2)
ابن قدامة، المغني: مرجع سابق: 4/360
وبالبحث والتحري حول مبررات أو حيثيات أو مؤيدات هذا القول وجدنا أنها ترجع إلى ما يلي:
1-
تحقيق العدالة بين الطرفين، فهذا المبلغ هو ما تم التعاقد عليه، ومن ثم فهو أقرب إلى حق الدائن.
2-
أن نقص سعر النقود هو مجرد فتور في رغبات الناس ولا يرجع إلى تغير في ذاتها، ولذا لا يعد عيباً يوجب القيمة.
3 – أن القول بالقيمة معناه إلزام للمدين بأكثر مما التزم، كما أن فيه مراعاة لحق الدائن، مع إهمال حق المدين.
4-
أن نقص السعر لا يعدو أن يكون مصيبة نزلت بالدائن، وهي ليست أشد ممن باع سلعة بعبد معين مثلاً، فمات بيد صاحبه قبل أن يدفعه للبائع. (1)
5-
وأعتقد أن أساس هذا الموقف يتمثل في الأحاديث الصحيحة التي تنص على أن الذهب بالذهب والفضة بالفضة.. إلخ مثلاً بمثل. وعلى أن الشرع قد أسقط اعتبار الجودة أو المالية في تلك الأموال عند مقابلتها ببعضها.
ومما يثير الاهتمام أن الفقهاء القدامى لم يشيروا إلى هذا الاعتبار صراحة وبكثرة في معرض بحثهم لهذه المسألة، رغم أن المعاصرين الذين تناولوا هذه القضية كان تركيزهم الكبير على هذا الحديث.
(1) الرهوني: حاشية الرهوني على شرح مختصر خليل للزرقاني، دار الفكر: 5/121. لكن هل تشبيه ذلك بالموت وبالتالي أخذه حكمه محل تسليم من الفقهاء على اختلاف المذاهب؟ الأمر في حاجة إلى تحرير ونظر.
ب- القول الثاني: مراعاة تغير الأسعار، بمعنى عدم النظر للمثل والتعويل على القيمة يوم ثبوت الدين في الذمة، دونما تمييز أو تفرقة بين التغير المعتدل والتغير المرتفع؛ هذا القول هو الراجح والمعول عليه عند الأحناف وهو كذلك المعول عليه والمختار عند متأخري الحنابلة، وهو خلاف المشهور عند المالكية والشافعية. يقول ابن عابدين:(وفي البزازية معزياً إلى المنتفى: غلت الفلوس أو رخصت فعند الإمام الأول – أبو حنيفة - والثاني أولاً – أبو يوسف -: (ليس عليه غيرها) أي ليس عليه إلا المثل، وقال الثاني – أبو يوسف - ثانياً: عليه قيمتها من الدراهم يوم البيع والقبض. وعليه الفتوى
…
وقد نقله شيخنا في بحره وأقره، فحيث صرح بأن الفتوى عليه في كثير من المعتبرات فيجب أن يعول عليه إفتاء وقضاء) (1) وابن تيمية يرى أنه في مختلف الديون من قروض وغيرها إذا نقصت قيمتها فمعنى ذلك أنها تعيبت بنوع من أنواع العيوب هو عيب النوع (إذ ليس المراد الشيء المعين، فإنه ليس هو المستحق وإنما المراد عيب النوع، والأنواع لا يعقل عيبها إلا نقصان قيمتها، وإذا أقرضه أو غصبه طعاماً فنقصت قيمته فهو نقص النوع، فلا يجبر على أخذه ناقصا، فيرجع إلى القيمة. وهذا هو العدل، فإن المالين إنما يتماثلان إذا استوت قيمتهما، وأما مع اختلاف القيمة فلا تماثل، ويخرج في جميع الديون من الثمن والصداق والفداء والصلح والقرض) .
(1) حاشية ابن عابدين: 4/534
وقال صاحب الدرر السنية تعليقاً على موقف ابن تيمية: (إن كثيراً من الأصحاب تابعوا الشيخ تقي في إلحاق سائر الديون بالقرض، وأما رخص السعر فكلام الشيخ صريح في أنه يوجب رد القيمة أيضاً، وهو الأقوى)(1)
ومن الملاحظ أن الحجة الأساسية وراء هذا القول هي العدل وعدم الضرر، فما التزم به المدين عليه مثله طالما توفر المثل، والمثلية تتحقق بتوفر شرطين أو عنصرين؛ تساوي القيمة أو التساوي في المالية والتماثل في الجنس أو بمعنى آخر في الشكل والصورة، وبفقد أحد العنصرين وخاصة عنصر المالية يزول التماثل (2) وفي تلك الحالة ليس أمامنا إلا الرجوع إلى القيمة، والملاحظ كذلك أن هذا ليس تبريراً قاصراً على ابن تيمية، فالسرخسي من الأحناف يقول:(ثم الملك نوعان، كامل وقاصر، فالكامل هو المثل صورة ومعنى، والقاصر هو المثل معنى، أي في صفة المالية، فيكون الواجب عليه هو المثل التام، إلا إذا عجز عن ذلك فحينئذ يكون المثل القاصر خلفاً عن المثل التام.. ولأن المقصود الجبران، وذلك في المثل أتم، لأن فيه مراعاة الجنس والمالية، وفي القيمة مراعاة المالية فقط)(3) لو دققنا النظر في كلام السرخسي نجده ينطق بأنه عند اختلاف المالية لا نكون أمام مثل، حيث قصر التماثل على حالتين فقط؛ التماثل التام وهو ما جمع بين الجنس والمالية، والتماثل القاصر وهو ما توفرت فيه المالية فقط. وهو كلام ابن تيمية نفسه.
يضاف إلى ذلك أنه باتفاق العلماء فإن العيوب في المعقود عليه ما تولد عنها نقص الثمن أو القيمة. يقول ابن قدامة في تعريف العيوب: (إنها النقائص الموجبة لنقص المالية؛ لأن المبيع إنما صار محلاً للعقد باعتبار صفة المالية، فما يوجب نقصاً فيه عيب)(4) أو ليس الثمن هو الآخر معقوداً عليه (5) ؟ وإذن فيجري عليه ما يجري على المثمن مع مراعاة اختلاف طبيعة كل منهما.
(1) المرداوي، الإنصاف: 5/127 وما بعدها؛ عبد الرحمن العاصمي، الدرر السنية: 5/110 وما بعدها، نشر دار الإفتاء بالرياض.
(2)
ابن تيمية، الفتاوى: 29/415 الرياض، توزيع دار الإفتاء
(3)
السرخسي، المبسوط: 11/50 مرجع سابق
(4)
ابن قدامة، المغني 4/349. مرجع سابق
(5)
الخرشي، شرح الخرشي على مختصر خليل، دار صادر، بيروت: 3/5
جـ- القول الثالث: التمييز بين التغير السعري المعتدل والتغير المرتفع؛ في الحالة الأولى لا ينظر للتغير السعري ويعول على المثل، وفي الحالة الثانية لا ينظر إلى المثل ويعول على القيمة، هذا القول قال به بعض علماء المالكية وبعض علماء الشافعية. يقول الإمام الرهوني المالكي معلقاً على القول المشهور في المذهب والقاضي برد المثل مهما كان التغير السعري:(ينبغي أن يقيد ذلك بما إذا لم يكثر جداً حتى يصير القابض لها كالقابض لما لا كبير منفعة فيه، لوجود العلة التي علل بها المخالف، حيث إن الدائن قد دفع شيئاً منتفعاً به لأخذ منتفع به، فلا يظلم بإعطائه ما لا ينتفع به)(1)، ويقول الإمام الرافعي الشافعي:(وهذا كله إذا لم يخرج المثل باختلاف المكان والزمان عن أن تكون له قيمة ومالية، وأما إذا خرج كما إذا أتلف عليه ماء في مفازة ثم اجتمعا على شط نهر أو بلد، أو أتلف عليه الجمد في الصيف واجتمعا في الشتاء فليس للمتلف بذلك المثل، بل عليه قيمة المثل في تلك المفازة وفي الصيف) . (2) ورغم ما في هذا القول من وجاهة حيث إنه يكاد يكون توفيقاً أو توسطاً بين القولين السابقين، وحيث إنه يراعي إلى حد كبير مقتضيات العدل وعدم الضرر مع تيسير المعاملات وعدم توقفها وعرقلتها عند أي تغير وإن كان عادياً، إلا أن مشكلته أنه لم يضع معياراً محدداً نميز به بين التغير المعتدل والتغير الكبير جداً، وإن كان يفهم منه أنه ما تجاوز النصف. على أية حال موضوع التمييز بين التغير السعري العادي والمرتفع سوف نفرد له فقرة قادمة.
3-
4- مناقشة هذه الأقوال:
قبل أن ندخل في مناقشة هذه الأقوال نحب أن نشير إلى أن الفقهاء حيال تلك المسألة فرقوا بين حالتين: حالة التراضي والاتفاق بين الطرفين وعند السداد على ما يدفع ويؤخذ، وحالة عدم وجود اتفاق. وما سبق من أقوال ينصرف إلى الحالة الثانية، أما الحالة الأولى فسنعرض لها بعد فراغنا من مناقشة هذه الأقوال. من المهم هنا التأكيد على النقاط التالية:
1-
واضح تماماً أن المسألة خلافية؛ ومعنى ذلك يحق لنا الأخذ بأي منها طالما كان متوائماً بدرجة أكبر مع واقعنا.
2-
إنها مسألة ذات اعتبارات متقابلة قوية، مما يجعل الحسم فيها صعباً، وكان تعليق الإمام المالكي الصائب أنها مسألة اضطرب فيها المتقدمون والمتأخرون. (3) وبعد أن أجرى مزيداً من البحث والدراسة قال فيها ابن عابدين: إنها مسألة ذات اشتباه، وهذا غاية ما ظهر لي فيها. (4) كل هذا مع الأخذ في الحسبان أن قضية التضخم لم تكن على هذه الدرجة من التعقيد التي هي عليها اليوم.
(1) الرهوني، مرجع سابق: 5/121
(2)
الرافعي: فتح العزيز، مطبوع على هامش كتاب المجموع، المكتبة السلفية: 11/278
(3)
الرهوني، مرجع سابق: 5/20
(4)
حاشية ابن عابدين: 4/538
3-
الملاحظ أن مبدأ العدل قد برز هنا بشكل واضح حتى عند الأقوال المتقابلة، فمن لا يعتد بالتغيير يتمسك بأن هذا هو العدل، ومن يذهب إلى القيمة يستند إلى أن ذلك هو العدل. الأول يرى أن المثل هو ما التزم به المدين عدداً وقدراً، والثاني يرى أن العدد والقدر خاصة في النقود إذا ما تدهورت قيمتها لا يعتبر مثلاً لما التزم به.
4-
الملاحظ أن أصحاب الرأي الأول أخرجوا التغير السعري من باب العيوب وأحكامها، حيث لم يطرأ على ذات النقد شيء وإنما هو مجرد فتور في رغبات الناس وقاسوا ذلك على المثمنات مثل الحِنطة، والحقيقة أن هذا القول محل نظر، فالعيب في كل شيء بحسبه، وهناك عيب الذات وهناك عيب النوع، والمفارقة هنا أنهم وضعوا للعيب معياراً دقيقاً وعاماً وهو كل ما يرتب نقصاً في المالية، وبتطبيق ذلك على النقود نجد ماليتها ليست في ذاتها وعينها وشكلها ورسمها وإنما هي في ماليتها وقوتها الشرائية، وقد صرح بذلك الإمام السرخسي. وإذا صح هذا بالنسبة للنقود الذهبية والفضية ذات القيمة الذاتية أو السلعية فإنه ليصح من باب أولى على نقودنا الورقية التي ليس لها إلا قيمة نقدية فقط. ومعنى ذلك أن أي شيء ينقص من هذه القيمة فإنما هو عيب حسب التعريف الفقهي للعيوب، ولم أجد من فصل القول في ذلك تفصيلاً شافياً من الفقهاء إلا ابن تيمية رحمه الله، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك.
5-
وما دمنا سلمنا بأن ذلك عيب في النقود قد طرأ بعد ثباتها في الذمة، فإما أن يضمن من هي في ذمته نقصان العيب أو يرجع القيمة، وضمان نقصان العيب في الأموال الربوية محل خلاف بين الفقهاء؛ البعض يمنعه لأنه ربا والبعض يجيزه، والرجوع إلى القيمة قد يكون مخرجاً من ذلك.
6-
ومما يزيد المسألة اشتباهاً الحديث الذي رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: ((كنت أبيع الإبل بالبقيع، أبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، فسألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا بأس بذلك إذا كان بسعر يومه)) وهذا الحديث روي بعبارات مغايرة بعض الشيء، فقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال:((لا بأس إذا تفرقتما وليس بينكما شيء)) دون عبارة ((إذا كان بسعر يومه)) ، والإشكال هنا إن صحت الرواية الأولى حيث يعد ذلك نصاً في عدم الاعتداد بالتغير السعري، والمثال يوضح ذلك.
هب أنه عند ثبوت البيع كان سعر الصرف بين الدرهم والدينار هو 1: 3، وأصبح سعره عند السداد 1: 4، وكان الثمن مقداره 180 درهماً، فلو راعينا قيمة هذه الدراهم عند ثبوتها في الذمة فإنها 180 ÷ 3 = 60 ديناراً، ولو راعينا قيمتها عند السداد لكانت 180 ÷ 4 = 45 ديناراً، النص يقول بالسعر عند السداد أي أنه يأخذ 45 ديناراً، رغم أنها أقل مما كانت عليه عند الالتزام، ومعنى ذلك عدم التعويل على القيمة يوم البيع، وبعبارة أخرى التمسك بالمثل وعدم الالتفات لأي تغير سعري، فإن صحت هذه الرواية فكيف يتأتى لهؤلاء الفقهاء الذين عولوا على القيمة واعتدوا بتغير الأسعار أن يوفقوا بين كلامهم وبين هذا النص النبوي؟ الأمر مطروح ليحرره لنا الفقهاء.
7-
هل من الممكن قياس هذه المسألة على مسألة الجائحة؟ وقد قال المالكية بوضعها على الطرف الثاني منعاً للظلم والإضرار (1) ، ربما كانت هناك فوارق بين المسألتين، لكنهما معاً يعدان مصيبة نزلت بأحد طرفي التعامل، ولا يمكن دفعها ولا الرجوع على المتسبب فيها، على أية حال الأمر في ذلك في يد الفقهاء، ومما يزيد الموقف اشتباهاً أن أصحاب الرأي الأول يقيسون هذه المسألة على مسألة الجائحة، لكن على أساس عدم وضعها.
(1) ابن رشد: بداية المجتهد، بيروت، دار المعرفة: 2/188؛ الخرشي، شرح الخرشي، 5/190؛ ابن تيمية، الفتاوى الكبرى: 30/278
3-
5- هل هناك معيار شرعي للتمييز بين التضخم المعتدل والتضخم المرتفع؟
بحث هذه المسألة يكتسب أهمية في حالة الأخذ بالقول الثالث الذي يميز التغير السعري القليل والتغير الكثير، ويمكن أن يكون له بعض الإفادة عند من يقول بالقول الأول، أو بمعنى أصح عند بعض من يقول بذلك وهم الحنابلة.
على أية حال من الملاحظ أن القول الذي يذهب إلى التمييز بين الارتفاع اليسير والارتفاع الكبير لا يحدد بوضوح المعيار الفاصل بين هذين المعدلين، ومع ذلك فيشتم منه أن التغير الكبير هو الذي يكاد يفقد النقود ماليتها، ومعنى ذلك أن تصبح وكأنها أبطلت أو كسدت أو انقطعت.
وباستخدام الأدوات التحليلية المعاصرة لقياس قيمة العملة أو قوتها الشرائية (1) فإننا نجد أن معدل التضخم الذي يكاد يفقد العملة قوتها الشرائية هو من الارتفاع بحيث يمكن النظر إليه على أنه حالة استثنائية قل أن تحدث؛ إذ عليه كي يفقد العملة أن يتجاوز 10000 % وذلك طبقاً للمعادلة التالية:
الرقم القياسي لأسعار سنة الأساس
القوة الشرائية للعملة = ــ × 100
الرقم القياسي لأسعار سنة المقارنة
فمثلاً لو كان الرقم القياسي لأسعار سنة المقارنة هو 10000 فإن قيمة العملة تكون:
100
ــ × 100 = 1 %
10000
لكن هل هذا المعدل الفاحش هو المتعارف عليه عند الاقتصاديين كمعدل مرتفع أو جامع للتضخم؟
في الواقع ورغم عدم تحديدهم للحد الفاصل بين المرتفع والمعتدل، إلا أنهم عادة لا يقصرون معدل التضخم الجامح على هذه المعدلات البالغة الارتفاع، ومتى ما وصل المعدل إلى أكثر من 20 %، فإنه يفكر فيه باهتمام على أنه قد يصير بعد فترة تضخماً جامحاً، أو هو نذير سوء.
(1) لمعرفة مفصلة بالمعاني المختلفة لقيمة النقود يراجع د. مصطفى رشدي: الاقتصاد النقدي، مرجع سابق (ص 440 وما بعدها)
ومهما يكن من أمر فمن الناحية الفقهية لو اقتصرنا على مضمون القول الثالث فإن المعدل المعول عليه للتضخم هو مثل هذه المعدلات البالغة الارتفاع، أما لو نظرنا في مواطن فقهية أخرى ذات صلة بموضوعنا مثل الجوائح والعيوب الغبن، فإننا نجد الأمر يختلف؛ حيث يذهب فريق من الفقهاء إلى أن المعول عليه في التفرقة بين اليسير والكثير في تلك المواطن هو غالباً الثلث؛ ومعنى ذلك أن معدل التضخم المرتفع هو الذي يفقد النقود ثلث قيمتها فأكثر، ومعنى ذلك أن يصبح الرقم القياسي للأسعار حوالي 300 % وعند ذلك يكون معدل التضخم هو 200 %، والفريق الآخر من الفقهاء يرى أن الحدود الفاصلة في تلك المواطن بين اليسير والكثير يرجع فيها إلى أهل الاختصاص فما يعدونه عالياً فهو عال بغض النظر عن كونه الثلث أو أكثر أو أقل، والمشكلة هنا أن أهل الاختصاص لا يتفقون على معيار فاصل بين التضخم العادي والتضخم المرتفع، بل لم يقدموا أصلاً مثل هذا المعيار حتى مع عدم الاتفاق على قبوله، فيما اطلعت عليه، وذلك باستثناء أرثر لويس (1)
ولو أخذنا بمعيار فقدان القيمة أو معيار نقصانها بمقدار الثلث فأكثر فإن معدلات التضخم التي تترجم هذه المعايير هي من الارتفاع بمكان حيث لا تقل عن 200 %، وهذا من المنظور الواقعي ربما كان حالة استثنائية وليس عادية (2) مع ملاحظة ضرورة التنبه لكون هذه المعدلات عادة ما تكون سنوية، وحيث إن الديون مثلاً قد تكون لمدة أكبر من عام، وكذلك مؤخر الصداق والمعاشات، فلابد من مراعاة التضخم بين لحظة ثبوتها ولحظة وفاتها مهما كانت المدة.
وبأخذ ذلك في الحسبان فإن الموقف قد يختلف، فمثلاً لو كان هناك دين لمدة خمس سنوات وكان معدل التضخم السنوي هو 50 % فمعنى ذلك أن معدل التضخم بين لحظة ثبوت الدين ولحظة سداده ليس 50 %، وإنما هو حوالي 250 %، فلو نظرنا إليه كمعدل سنوي فهو قليل لا يعول عليه، ولو نظرنا إليه خلال فترة الدين كلها فهو معدل مرتفع، ومن الواضح أن النظر الفقهي الصحيح هو ما ينظر إلى لحظة الثبوت ولحظة السداد ويراعي الفترة بينهما مهما كانت.
(1) حيث يصنف التضخم من حيث درجاته ومدى حدته إلى: تضخم زاحف، يتميز بزيادات متتالية في الأسعار لكنها غير عنيفة، ومنه يتولد ما يعرف بالتضخم العنيف، وحدد بدايته بتواجد معدل للتضخم يساوي 5 % سنوياً لمدة أربع سنوات متتالية إذا ما تجاوز الاقتصاد ذلك الحد دخل في مرحلة التضخم العنيف الذي يفقد العملة وظائفها الأساسية، وهذا التضخم العنيف بدوره يعد مقدمة للتضخم الجامح الذي يؤدي إلى انهيار النظام النقدي بأكمله كما حدث في ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى A. Lewis، Denelopment Planning، London: Allen، 1955، p. 134
(2)
ومع ذلك فقد تعرضت بعض الدول لمعدلات من التضخم أعلى من ذلك بكثير خاصة بين الحريين، لمزيد من المعرفة انظر د. محمد عجمية، مرجع سابق، ص 113 وما بعدها، وحتى خلال الثمانينات مازالت عدة بلدان تتعرض لمعدلات من التضخم تتكون من عدد من ثلاثة أرقام –100 فأكثر- ومعظمها من دول أمريكا الجنوبية، انظر الملحق
3-
6- مدى إمكانية الاتفاق والتراضي بين الطرفين عند السداد:
بدراستنا لأقوال الفقهاء في هذه المسألة لفت نظرنا مسألة قد تكون لها أهميتها الكبيرة في موضوعنا هذا، وهي أن الكثير منهم كان يشير إلى حالتين: حالة الإجبار والإلزام، وذلك عند عدم اتفاق الطرفين على حل ما، وحالة التراضي والاتفاق الثنائي، وما مضى من أقوال لهم ينصرف إلى الحالة الأولى، ويبقى التساؤل: هل هناك إمكانية بين الطرفين للتراضي والاتفاق فيما بينهما على موقف ما عند حلول موعد السداد؟ إن أهمية بحث هذه المسألة تكمن في فتح المزيد من المخارج وعدم الانحصار في مسلك واحد قد تكون له سلبياته الكبيرة، خاصة إذا ما وضعنا نصب أعيننا أن مقصد الشريعة تجاه المعاملات المالية –كما أفهمه- هو تيسيرها إلى أقصى حد ممكن لما لها من أهمية قصوى في حياة الناس، في إطار من العدالة وعدم الظلم والضرر، تكفلت الشريعة نفسها بوضع معالم هذا الإطار وضوابطه وحدوده، وما من عقد مالي إلا ونجد اشتراط الفقهاء حياله بألا يحتوي على ما يؤدي إلى المنازعة والاختلاف، لما في ذلك من تضييق وعرقلة لمهمة التبادل التي لا يستغني عنها الناس، وفي سبيل تحقيق هذا المطلب وجدنا الضرر اليسير يحتمل، ووجدنا الغبن اليسير، بل الكثير بضوابط معينة عند بعض العلماء هو الآخر يحتمل، ووجدنا العيوب اليسيرة الهينة لا تعرقل في معظم الحالات إتمام الصفقات ونفاذها. والباحث في هذه المسألة التي نحن بصددها لا يفتي ولا يصدر أحكاماً وإنما يضع بعض عبارات الفقهاء تحت النظر لمن لديه القدرة على استخراج ما وراءها من مضامين وما يمكن أن يستنبط منها من أحكام. يقول الإمام السيوطي في معرض حديثه عن هذا الموضوع:(وقولي: فالواجب إشارة إلى ما يحصل عليه من الجانبين، هذا على دفعه وهذا على قبوله، وبه يحكم الحاكم، أما لو تراضيا على زيادة أو نقص فلا إشكال، فإن رد أكثر من قدر القرض جائز بل مندوب، وأخذ أقل منه إبراء) ، ويحسن أن أنقل بقية عبارته لما فيها من فوائد أخرى (فإذا اقترض منه رطل فلوس فالواجب رد رطل من ذلك الجنس سواء زادت قيمته أو نقصت
…
وقولي: من ذلك الجنس احتراز من غيره؛ كأن أخذ بدله عروضاً أو نقداً ذهباً أو فضة، وهذا مرجعه إلى التراضي أيضاً، فإنه استبدال، وهو من أنواع البيع ولا يجبر فيه واحد منهم، فإن أراد أخذ بدله فلوساً من الجدد المتعامل بها عدداً فهل هو من جنسه لكون الكل نحاساً أو لا لاختصاصه بوصف زائد وزيادة قيمة؟ محل نظر، والظاهر الأول، لكن لا إجبار فيها لاختصاصها بما ذكر، فإن تراضيا على قدر فذاك) . (1) وللفقهاء كلامهم المطول حيال عمليات الوفاء والاستبدال وشروط صحتها. ولسنا هنا في ضرورة للدخول في تفاصيل ذلك، ولكنا فقط نشير إلى أنه عند حلول موعد الوفاء يمكن أن يتم التراضي بشرط مراعاة الشروط المتعلقة بها، ونحن في حاجة إلى بحث فقهي مستقل عن موضوع استيفاء الحقوق، وما يجوز وما لا يجوز فيها. (2)
(1) السيوطي: الحاوي، مرجع سابق: 1/97
(2)
مع الإشارة إلى ما قد يكون هنالك من أبحاث لم أطلع عليها إضافة إلى بحث طيب اطلعت عليه للدكتور نزيه حماد بعنوان (التصرف في الدين) ضمن كتاب دراسات في أصول المداينات في الفقه الإسلامي، الطائف، دار الفاروق، ومع ذلك فأعتقد أننا ما زلنا بحاجة إلى مزيد من الأبحاث في هذه المسألة.
4-
الاقتصاديون الوضعيون وسياسة الربط القياسي
4-
1- مفهوم الربط القياسي والغرض منه:
يقول كروين: (إن الغرض من التماس التقييس –الربط القياسي- هو المحافظ على القيمة الحقيقية لمتغيرات الاقتصادية التي تقاس عادة بالوحدات النقدية، ويتم ذلك بربط تلك المتغيرات بأرقام قياسية تستخدم لتحويلها إلى حجوم حقيقية)(1) مثال: لو أردنا القيام بالربط القياسي للأجور مثلاً، فيكون الهدف منه التأكد من أن الزيادات المتفق عليها في الأجور لرفع مستوى المعيشة قد حوفظ عليها طوال فترة الاتفاقية، فلو نص الاتفاق على زيادة حقيقية مقدارها 5 %، وبفرض أن الإنتاجية من المتوقع تحسنها بنسبة 5 % سنوياً، كما أنه من المتوقع زيادة الأسعار بنسبة 10 % سنوياً، فإن التفاوض الحالي حول زيادة الأجور النقدية يكون على أساس 15 %، وهب أن الأسعار ارتفعت بمعدل أكبر مما كان متوقعاً خلال فترة الاتفاق، ففي تلك الحالة تتغير الأجور النقدية تبعاً لذلك بنفس معدل ارتفاع الأسعار (أتوماتيكياً) ، فلو ارتفعت الأسعار زيادة عن المتوقع بمقدار 1 % فإن الأجور النقدية ترتفع بمقدار 1 % فوق الارتفاع المتوقع سلفا، وهو 10 % وبهذا فإنه في نهاية فترة الاتفاقية يكون الدخل الحقيقي للعمال قد ارتفع بنسبة 5 % بصرف النظر عن نسبة التضخم في الأسعار.
4-
2- أنواع الربط القياسي:
يمكن أن نجد أكثر من نوع من أنواع الربط، فمن حيث ما يربط به قد يكون برقم قياسي، وهو الغالب، وقد يكون بسلعة من السلع، وقد يكون بعملة حقيقية مثل الدولار والريال، أو حسابية مثل الدينار الإسلامي، ومن حيث مدى شموله للمتغيرات الاقتصادية، هناك ربط شامل لكل الحقوق والالتزامات وهناك ربط انتقائي ينصرف إلى بعض تلك المتغيرات، ومن حيث كونه إجبارياً أو اختيارياً يمكن أن يكون الربط إلزامياً، من قبل الدولة كما قد يكون اختيارياً من قبل المتعاقدين. (2)
(1) كروين، مرجع سابق (ص 199 وما بعدها)
(2)
كروين، مرجع سابق (ص 199 وما بعدها)
4 -
3- الدافع الأساسي وراء فكرة الربط القياسي:
برزت فكرة الربط إلى الوجود من نمو الشعور بتعذر القضاء على التضخم، وإذن فأفضل شيء يعمل في ضوء ذلك هو تعلم العيش معه على أفضل ما يستطاع، أو بعبارة أخرى العمل على تلافي ما يمكن تلافيه من آثاره. وهنا برزت فكرة الربط. (1)
وقد كانت سياسة الربط محل حوار ساخن بين الاقتصاديين، ما بين مؤيد ومعارض، كما أنها طبقت فعلاً في بلاد عديدة بصورة أو بأخرى، وأجريت دراسات عديدة حول نتائج هذه التطبيقات ومدى اتفاقها أو اختلافها عما قيل عنها نظرياً، ونظراً لتوفر الدراسات التي تناولت هذه المسألة، ولأن الدخول في تحليل فني مفصل لجزئياتها قد يستغرق حيزاً ليس بالهين، ولأن الذي يعنينا بالدرجة الأولى هو دلالة نتائج هذه الدراسات، من حيث ما لها من أثر في التكييف الشرعي للمسألة، فإننا نكتفي بذكر خطوط عريضة دون الغوص وراء التفسير والتعليل.
4-
4- مبررات الربط:
ذهب فريق من الاقتصاديين وخاصة ما يعرف منهم بالنقديين - وعلى رأسهم فريدمان- إلى تحبيذ سياسة الربط (2) وبعض هؤلاء يرى ضرورة أن تشمل سائر العقود والالتزامات حتى تحقق أهدافها بكفاءة، (3) وبعضهم يحبذ سياسة الربط الانتقائي، لتعذر الربط الشامل من جهة، ولما قد يولده من آثار حميدة من جهة أخرى، وأهم حجج الربط هي:
1-
إن الربط يدني من الآثار السلبية للتضخم على هيكل توزيع الدخول والثروات.
2-
إن الربط وخاصة في الأرصدة المالية يحول دون جعل المدخرات سالبة من جراء التضخم.
ومعنى ذلك أنه يساعد على النمو الاقتصادي، كما أنه يحول دون وقوع الاقتصاد في براثن الركود وتفشي البطالة، كما أنه ومن خلال التحفيز القطاعي يساعد في حسن تخصيص الموارد.
(1) أبدجمان، مرجع سابق (ص 431) ؛ كروين، مرجع سابق (ص 199)
(2)
أبدجمان، مرجع سابق، (ص 432 وما بعدها) ؛ د. محمد عبد المنان: ربط القيمة بتغير الأسعار، من أعمال حلقة ربط الحقوق بتغير الأسعار، من وجهة النظر الإسلامية (ص 3 وما بعدها) ؛ د. منور إقبال. مزايا ربط المعاملات بمستوى الأسعار ومساوئه، من أعمال حلقة ربط الحقوق المذكورة (ص 5 وما بعدها) M. Friedman، Monetary Corriection، London: Institute of Economic Affars، 1974
(3)
موريس آليه، الظروف النقدية لاقتصاد السوق، محاضرة ألقاها بالبنك الإسلامي للتنمية في 9/2/1992
3-
إن الربط إذا ما دعم بسياسات مالية ونقدية يسهل وييسر من مهمة علاج التضخم، من خلال تقليل الضغط على الحكومات لاتخاذ سياسات تضخمية، وتسهيل قبول السياسات المقاومة للتضخم.
4-
في جملة واحدة يرى بعض الاقتصاديين أن الربط لا مناص منه في ظل اقتصاد يرتكز على كم هائل من الالتزامات والعقود الآجلة، والتي يجب أن تحترم وأن تحمى من التغيرات في القوة الشرائية للنقود؛ وذلك لأنه يساعد في الحد من التضخم ويلطف من آثاره السلبية على كل من الكفاءة والعدالة.
هذه هي العناوين الكبرى لمبررات سياسة الربط كما صاغها الاقتصاديون الوضعيون، وهي نفسها التي يجادل بها من ذهب إلى تأييد الربط من الاقتصاديين الإسلاميين.
4-
5- مبررات عدم الربط:
لم يسلم الفريق الآخر من الاقتصاديين بما قاله الفريق المؤيد لسياسة الربط، مقدماً في ذلك العديد من المبررات، ذاهباً إلى أن سياسة الربط ضارة وغير مفيدة. (1)
1-
إن الربط في حد ذاته عمل تضخمي، بمعنى أنه بدلاً من أن يخفف من التضخم فإنه يزيده اشتعالاً وخاصة من حيث تأثير عملية الربط على منحنى العرض الكلي، يضاف إلى ذلك أنه اعتراف ضمني بأن التضخم لا يمكن علاجه، بل يمكن العيش معه، وفي ذلك ما فيه من تأثير سلبي على السياسات المضادة للتضخم.
(1) أبدجمان، مرجع سابق (ص 432 وما بعدها) ، كروين، مرجع سابق (206) ؛ د. عبد المنان، مرجع سابق (ص 6 –7) ؛ د. ضياء الدين أحمد: ربط القيمة بتغير الأسعار؛ تعليق على بحث د. عبد المنان المشار إليه سالفاً (ص 4 وما بعدها) ؛ د. منور إقبال، مرجع سابق (ص 8 وما بعدها) ؛ د. محمود عبد الفضيل، مرجع سابق، (ص 105 وما بعدها)
2-
من الصعوبة بمكان تقييس العقود كاملة، ومعنى ذلك أن الربط غير الشامل الذي هو الأسلوب العلمي سوف يؤدي بذاته إلى المزيد من الظلم والإجحاف بالكثير من الأطراف التي لم تتمكن من ربط تعاقداتها، يستوي في ذلك العمال وأصحاب الودائع وأصحاب المعاشات.. إلخ، كما أنه يحابي المقرض على حساب المقترض.
3-
إن الربط له أثر سلبي على كفاءة الاقتصاد ونموه، وذلك من نواح عديدة، منها أنه لا يسمح للأجور المربوطة بالتعديل فيها مجاراة للعوامل المستجدة مثل التغير في الإنتاجية، ومنها أنه يؤدي إلى ظهور وحدتين حسابيتين للعقود المربوطة والعقود غير المربوطة، وفي ذلك ما فيه من زعزعة الاستقرار الاقتصادي.
4-
هناك العديد من المشكلات التطبيقية التي تحول دون عمل هذا النظام بكفاءة، ومن ذلك مسألة اختيار الرقم القياسي المناسب، ومسألة توفر هذه الأرقام، خاصة في الدول النامية، ومسألة تعبير هذه الأرقام بصدق عن التضخم القائم، ثم تواجد العديد من العقود غير المرتبطة عند أية لحظة زمنية، فكيف يكون مصير هذه العقود؟
ومعنى ذلك أنه إذا كان التضخم يؤثر سلباً على كفاءة الاقتصاد وعدالته فإن الربط القياسي لا يخفف من ذلك، بل إنه في كثير من الحالات يحدث هو الآخر تشوهاً في مستوى العدالة وفي مستوى الكفاءة، بل ويزيد من حدة التضخم (1)
وتعتبر تلك المبررات لعدم الربط أساس موقف الاقتصاديين الإسلاميين الذين لا يؤيدون فكرة الربط، مع إضافة بعض المبررات التي تقتضيها الطبيعة المميزة للاقتصاد الإسلامي وخاصة منها ما يتعلق بموضوع الربا.
4-
6- نتائج عملية لتطبيق سياسة الربط:
من الناحية العملية تم استخدام سياسة الربط بصورة أو بأخرى في دول عديدة، وتمت دراسة تلك التجارب من قبل العديد من الاقتصاديين بهدف التعرف على آثارها عملياً، ومن ثم اختبار صحة المقولات النظرية المؤيدة والمعارضة، وفيما يلي بعض الملاحظات العامة حول ما أسفرت عنه هذه الدراسات من نتائج.
(1) تقرير التنمية، 1989 (ص91-92)
1-
قام كل من بيج وترولوب ببحث نتائج التقييس الذي طبق في واحدة وعشرين دولة صناعية، في ست عشرة حالة كانت الأجور مقيسة، وفي ثلاث عشرة حالة كانت الرواتب التقاعدية –المعاشات- مقيسة، وفي اثني عشرة حالة كانت بعض دخول الاستثمار مقيسة، وتبين أنه ما من قطر من هذه الأقطار حاول أبداً أن يطبق نظام التقييس الشامل، وخلصت الدراسة إلى القول بأنه لم يكن للربط أثر بارز في الأداء الاقتصادي لتلك البلدان، ولم يترك أثراً ملحوظاً بالنسبة لمشكلة التضخم، وقد اقتصر أثره التوزيعي على إعادة جزئية في التوزيع، وقد راعى حملة رأس المال أكثر من رعايته للعمال، ولم يكن له سوى أثر ضئيل على أصحاب المعاشات والضمان الاجتماعي ولم يكن له أثر واضح في عملية الإدخال (1)
2-
وفيما يتعلق بالبرازيل كدولة رائدة في عملية الربط، فإن بعض الدراسات تشير إلى أن معدلات التضخم قد هبطت بشدة، لكن ذلك كان مرجعه الأساسي السياسة المالية من جانب والنمو الاقتصادي السريع من جانب آخر، وبعض الدراسات الأخرى تشير إلى ما كان له من بعض الآثار الإيجابية سواء على مستوى الكفاءة وتخصيص الاستثمارات أو مستوى العدالة في توزيع الدخول (2)
وتشير دراسة أخرى لتجربة البرازيل إلى أن الربط وإن حقق فيها بعض الإيجابيات وخفف بعض التشويهات، إلا أنه أوجد تشويهات لا تقل سوءاً عن تلك التي قام بتخفيفها (3)
3-
من الواضح أن دلالة هذه النتائج يمكن أن تتجسد في أن التجربة العملية لم تبرهن بقوة على ما لهذا النظام من مزايا، ولم تحسم القضية عملياً بل ظلت كما كانت عليه نظرياً محل أخذ ورد.
(1) أشار إلى هذه الدراسة كروين، مرجع سابق (ص 201 وما بعدها) ؛ د. عبد المنان. مرجع سابق ص 17
(2)
كروين، مرجع سابق (ص 206)
(3)
د. ضياء الدين أحمد، مرجع سابق (ص5 وما بعدها) البنك الدولي، تقرير عن التنمية في العالم، 1988م (ص85 وما بعدها) وكذلك تقرير 1989م (ص 92) ؛ د. رمزي زكي، مرجع سابق (ص 688 وما بعدها)
مع ملاحظة ما هنالك من تحفظات على تلك الدراسات وعلى تعميم النتائج المستخلصة؛ لأن لكل دولة ظروفها الخاصة بها، ومع ذلك فلا يمكن تجاهل موقف دولة اعتبرت من أنجح البلدان في استخدام سياسة الربط من هذه السياسة بعد أن طبقتها لمدة 21 عاماً المتمثل في إلغائها تلك السياسة وعدولها عنها.
4-
7- نتائج عملية لتطبيق السياسة الدخلية:
من البرامج غير التقليدية –المالية والنقدية- التي طبقتها بعض الدول لمواجهة التضخم ما يعرف بالسياسة الدخلية المتمثلة في إجراءات حكومية تستهدف التأثير أو التحكم في معدلات الزيادة في الأجور والأسعار، ومن الواضح أن الركون إلى هذه السياسة يعني ضمناً التسليم بأن من مصادر التضخم الأصلية تزايد التكاليف وتعمد تزايد الأسعار، وبالتالي فالتدخل الحكومي لمنع ذلك يحول دون استمرارية التضخم، بل ويدني من معدلاته ويخفف من حدته، وقد جربت كثير من الدول هذه السياسة وعلى رأسها الولايات المتحدة وبعض دول أوربا وبعض دول أمريكا الجنوبية، إضافة إلى دول متفرقة في قارات أخرى.
ومما تجدر الإشارة إليه أنه كما كان هناك خلاف حاد بين الاقتصاديين حول فعالية سياسة الربط، وكما جاءت النتائج العملية غير حاسمة فإن الشيء نفسه حدث مع السياسة الدخلية، البعض يؤيدها بقوة ويرى أنها المخرج الوحيد من التضخم إذا ما عملت مع كل من السياسة المالية والنقدية، وبذلك يتحاشى المجتمع وقوع الاقتصاد فريسة للتضخم من جانب والبطالة من جانب آخر، والمنطلق الأساسي لهؤلاء هو ما هنالك من قوى احتكارية ضخمة تتمتع بها كل من نقابات العمال واتحادات رجال الأعمال، والقضية ببساطة يصورونها على أنه من خلال السياسة المالية والنقدية التوسعية يتحقق المزيد من العمالة وحجم الناتج و، عن طريق السياسة الدخلية يمكن الحد من التضخم الذي يصاحب ذلك عادة.
والبعض الآخر لا يؤيد هذه السياسة، معتمداً في ذلك على أنها تنطلق من منطلق غير مسلم به، وهو حدوث التضخم نتيجة ممارسات احتكارية، كما أنها غير فعالة، ثم إنها تشوه تخصيص الموارد وتسبب في عدم المساواة، إضافة إلى ما لها من تكاليف مرتفعة في تنفيذها، وأخيراً فهي تتعارض ومبدأ الحرية الاقتصادية، إن المؤسسات يمكنها التهرب الكبير من الرقابة على الأسعار بتخفيض الحجم أو درجة الجودة، ثم إن تجميد الأجور والأسعار يقلل كثيراً من فعالية جهاز الأسعار بتخفيض الحجم أو درجة الجودة، ثم إن تجميد الأجور والأسعار يقلل كثيراً من فعالية جهاز الأسعار في تخصيص الموارد بشكل حسن، ثم إنها تولد تضخماً مكبوتا، وهو أخطر من التضخم الظاهر، وهل كل المؤسسات مهما كانت أحجامها تخضع للرقابة؟!، وبالتالي سوف يتفشى الظلم (1)
ومن المهم أن نشير إلى أن نتائج التجارب العملية، وخاصة في الولايات المتحدة وكذلك في بعض دول أمريكا الجنوبية تشير إلى أن السياسة الدخلية بما لها من صور متعددة ودرجات متفاوتة لم تكن فعالة في تحقيق المطلوب منها في معظم تجاربها، بل لقد ولدت آثاراً سلبية تعود إلى كل من الكفاءة والعدالة، وإذن فمن المفضل عدم استخدامها إلا بحذر شديد وفي حالات خاصة محددة، وبمصاحبة السياسات المالية والنقدية، وكما طرحت السياسة الدخلية طرحت سياسة الدعم كمحاولة للتعايش مع التضخم وتخفيف آثاره السلبية، وهي بدورها كانت محل تأييد واعتراض (2)
ولعل أهم رسالة نخرج بها من هذا العرض المجمل للتضخم وطرق مواجهته هي أن التضخم مرض خبيث ليس من السهل علاجه بعد أن يتمكن من الجسم الاقتصادي، ويحتاج إلى تجنيد كل الأسلحة لمواجهته، وبقدر ما نتعرف على أسبابه الحقيقية ونباعد بين الاقتصاد وبينها بقدر ما ننجح في جعل الاقتصاد في منأى عن هذا المرض.
(1) لمعرفة مفصلة بهذه السياسة وما لها وما عليها نظرياً وعملياً يراجع ما يلي: أبدجمان، مرجع سابق، (ص 573- 601) ؛ جيمس جوارتني، مرجع سابق، (ص 402 وما بعدها) ؛ تقرير التنمية لعام 1988م، (ص85 وما بعدها) ؛ باري سيجل، مرجع سابق، (ص 704 وما بعدها) ؛ ميجل كيجويل ونيسان ليفياتان، تقرير عن مدى نجاح البرامج غير التقليدية لتحقيق الاستقرار، مجلة التمويل والتنمية عدد مارس 1992؛ ماريو بليجير وأوريان تشيستي، بعض الدروس المستفادة من برامج تحقيق الاستقرار غير التقليدية، مجلة التمويل والتنمية عدد سبتمبر سنة 1988 م
(2)
ومن المعروف أن الكثير من الدول النامية وغيرها جرب هذه السياسة لفترات طويلة، ولم تكن نتائجها حاسمة في تحسين الوضعية وتحقيق المستهدف منها، وهناك دراسات عديدة في هذا الصدد، وهناك تلخيص جيد لموقف هذه السياسة من التضخم، انظر: د. محمود عبد الفضيل، مرجع سابق (ص 106)
5-
الاقتصاديون الإسلاميون وسياسة الربط القياسي
فرضت سياسة الربط القياسي نفسها على بساط البحث أمام الاقتصاديين الإسلاميين منذ زمن ليس بالقصير، وقدمت فيها العديد من الدراسات، وعقدت لها بعض الندوات، وبمراجعة متأنية لما أتيح لي مما كتب –وهو ليس بالقليل- تبين لي أن هذه الدراسات في مجملها وسواء كانت في شكل بحث أو في شكل تعليق على بحث ذات مستوى عال من الجودة، على أن ذلك لا ينفي وجود بعض الملاحظات، وأرى أن استرجاع ما قيل هنا غير مفيد، ولكن المهم والمفيد هو إبداء هذه الملاحظات بالتركيز على ما يكون منها ذا أهمية في تنمية وإثراء المعرفة في هذا الموضوع، لاسيما وأن تلك الجهود السابقة مع عظم أهميتها إلا أنها لم تتمكن من حسم الموضوع حسماً تاماً وبالذات من الناحية الشرعية، ومن ثم فالمجال مازال متسعاً والباب مازال مفتوحاً أمام المزيد من البحوث في جوانب معينة في هذه القضية، حتى يمكن للجهات الشرعية المعنية أن تصدر ما تراه من أحكام حيالها.
وفيما يلي إشارة سريعة لما خرجت به من ملاحظات حول عدد لا يستهان به من الكتابات التي قدمت.
5-
1- لعل من أهم تلك الملاحظات أن معظم هذه الدراسات قد انطلق من الناحية الشرعية، من منطلق أنه كان لفقهائنا القدامى جهود مفصلة حيال هذا الموضوع، في حين أن هناك دراستين ذهبتا إلى أنه لم يكن لفقهائنا القدامى جهود في هذا الشأن (1) وإنما انصرف كل جهدهم للعلاج البعدي وليس للترتيب القبلي.
والواقع –كما سنوضح ذلك في فقرة قادمة- أن كلا المنطلقين غير صحيح.
كذلك نلاحظ أن غالبية تلك الدراسات قد انطلقت من منطلق أن موقف الفقهاء القدامى من هذه العملية هو الرفض دونما إشارة من جانب الرافضين لفكرة الربط إلى ما هنالك من تعدد في أقوال ومواقف الفقهاء، ودونما التفات من جانب المؤيدين منهم إلى أن هناك أقوالاً فقهية تساندهم.
(1) دراسة د. رفيق المصري: تدهور النقود والربط القياسي للقروض غير الربوية؛ دراسة د. شوقي دنيا: تقلبات القوة الشرائية للنقود، مجلة المسلم المعاصر، العدد 41 لسنة 1984م
5-
2- من الملاحظ كذلك أن مسألة الشروط في العقود لم تنل ما تستحقه من اهتمام، رغم أهميتها الكبرى في موضوع الربط، فالربط ما هو في حقيقته إلا شروط في العقد، وإنما لمست لمساً سريعاً من خلال تعرض بعض الدراسات للضرر وللجهالة، وقد ظهرت بعض الأفكار الغريبة الطريفة، ومن ذلك ما ذهب إليه بعضها في معرض ردها على ما هنالك من جهالة في ربط الأجور، بأن الجهالة في بيع المرابحة أكبر بكثير ومع ذلك لم تحرم المرابحة (1) فهل صحيح كون المرابحة تحتوي على عنصر كبير من الجهالة؟
الواقع أن كل المذاهب الفقهية تؤكد على ضرورة التوضيح الدقيق لكل العناصر المؤثرة والمكونة للثمن، حتى للصيغ التي تقال فيها، فكيف يدعى أن الثمن الأصلي في المرابحة مجهول؟؟؟ وليس معنى ذلك قبول أو رفض سياسة الربط، وإنما المعنى أنه يجب أن يكون موضوع الشروط في العقد من أهم الموضوعات التي تدرس بعناية للوصول إلى حكم شرعي سليم لهذه السياسة، وغير خاف ما هنالك من خلاف فقهي واسع حول هذه المسألة.
ولنا أن نأخذ بالرأي الميسر للتعامل، طالما أن الشرط لا يوقعنا في محظور شرعي، وعلى الأخص الربا والجهالة المفضية إلى المنازعة والخلاف.
5-
3- كذلك فقد غابت مسألة فقهية دقيقة وذات أهمية حاسمة في التعرف على الحكم الشرعي لأثر التضخم على أطراف المبادلة، وهي مسألة (الضمان) الذي يقع على كل طرف من أطراف العقد، وخاصة في العقود الآجلة، أي التي لم يسلم فيها أحد المعقود عليه مثل الثمن، الأجر، مؤخر الصداق، المعاش، بدل القرض،
…
إلخ، وعدم العناية الكافية بهذه المسألة رتب بعض التشوش، ومن ذلك ما قيل: كيف يعوض الدائن من المدين عن جرم لم يرتكبه؟ (2) إن المسؤولية عن محل العقد لم تعالج فقهياً على هذا النحو، وإنما عولجت على أساس أن المسؤول أمام الطرف الثاني في العقد هو الطرف الذي يقع عليه ضمان محل العقد وليس شخصاً آخر لا علاقة له بالعقد ولا بطرفه الثاني.
(1) د. شابرا في تعليقه على بحث د. عبد المنان، مشار إليه سلفاً (ص7) ، ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن د. عبد المنان يرى أنه إذا كان وجود الجهل في نظام الربط يؤثر على الحكم الشرعي له فإن جميع عقود الاستثمار فيها درجات من الجهل ومع ذلك لم تحظر، لقد غاب عن الدكتور عبد المنان، ما هنالك من تمييز واضح بين العقود المختلفة حيال مسألة الغرر والجهالة، وأنها لا تعامل معاملة واحدة، فلعقود المعاوضة وضع خاص ولعقود الاستثمار وضع آخر لاختلاف الطبائع، ومعروف أن الربط يجري عادة في عقود المعاوضة
(2)
د. حسن الزمان، مرجع سابق (ص 18)
5-
4- لم يجر تمييز واضح في هذه الدراسات بين أنواع الربط المختلفة، لا أقصد من حيث موضوع الربط ومجاله وإنما أقصد من حيث الإلزام والاختيار، ومن حيث ما يربط به، وهل هو رقم قياسي أو سلعة أو عملة أو غير ذلك، رغم أن التمييز في ذلك له أهميته، فمثلاً لم تتطرق دراسة –فيما تحت يدي- لمسألة مدى مشروعية تدخل الدولة في العقود وفرض ما تراه من ربط حيالها، فهل ذلك التدخل من حيث ذاته جائز أم لا؟ ومتى؟ وكيف؟ ومن جهة أخرى فقد ظهر تخوف لا محل له شرعاً في حال الربط الاختياري، وهو أن الدولة سوف تستغل الربط في زيادة الضرائب مثلاً (1) إن ذلك التخوف قد يكون له مبرر شرعي عندما يكون الربط إجبارياً، أما إن كان اختيارياً فلا أظن أنه يمنع لمجرد هذا الاحتمال، ثم إن المربوط به إن كان المستوى العام للأسعار فالهدف عندئذ هو منع أثر التضخم، وإن كان سلعة أو عملة أو حتى رقماً قياسياً لا يعبر بكفاءة عن مستوى الأسعار فإن الهدف غالباً يكون تخفيف أثر التضخم، وإذن فلا يقال بشكل مطلق: إن الربط بسلعة ما مرفوض لأنه لن يحقق دائماً الهدف، فمعيار الحل والحرمة ليس هو ذاك وإنما شيء آخر.
5-
5- في ثنايا هذه الدراسات ظهر تحمس مبالغ فيه في بعض الجوانب، ولا أظن أن منهج التعرف على الحكم الشرعي يرحب بذلك، فمثلاً وجدنا مقولة:(لماذا لا نؤمن صاحب المدخرات ولا نؤمن رجال الأعمال؟؟) و (إن الربط سوف يجعل الناس يبتعدون عن المخاطرة والدخول في لجنة المشروعات)(2) ، (إن الربط يعطي ميزة للمقترض لا يتمتع بها الشخص الذي يقرر تجميد أمواله)(3) ولا يخفى أنه عند التأمل في مثل تلك المقولات لا نجد لمضمونها تأثيراً يذكر في تكييف الحكم على الربط، بل إن بعضها يمكن أن يستخدم كمبرر للربط، وما المانع من تأمين صاحب المدخرات طالما أنه يقدمها دون عائد متوقع؟ إن تأمينه على رجوع أمواله كاملة له أهميته الشرعية والاقتصادية، بينما رجل الأعمال قد دخل على المخاطرة متحملاً لها، ولما تجلبه له أو عليه، فكيف يؤمن؟؟؟ وهل مطلوب من كل فرد أن يخاطر ويعمل في النشاط الاقتصادي بكل ما لديه من أرصدة؟ وماذا في تمييز المقرض على المكتنز المجمد لماله؟ إن المقرض قد أفاد غيره عكس المجمد لماله، والتمييز هنا مطلوب ولاسيما من الناحية الاقتصادية، وكذلك من الناحية الشرعية.
(1) د. محمد عارف، تعليقات على بحث الدكتور منور إقبال، مشار إليه سلفاً (ص 8)
(2)
د. شابرا: نحو نظام نقدي عادل، نشر المعهد العالمي للفكر الإسلامي (ص 57- 58)
(3)
د. صديقي، مرجع سابق (ص 10)
5-
6- ظهرت أفكار عديدة بخلاف ما سبق قد تكون دلالتها عدم متانة الأساس الشرعي الذي انطلقت منه هذه الدراسات أو بالأحرى بعضها، ومن ذلك على سبيل المثال:
1-
شاع ذكر أحاديث الربا ((الذهب بالذهب..)) وبعد الدراسات (1) فهمت المثلية في الحديث على أنها الاتفاق والتساوي في الجودة والصفة، أو بعبارة أخرى في القيمة المالية، مع أنه باتفاق العلماء لا اعتبار في هذا المجال لهذه الأشياء، بل الأكثر من ذلك الاتفاق على إهدارها وحظر أن يكون لها اعتبار في هذه المبادلات، ولا يخفى قول الرسول صلى الله عليه وسلم في المعاملة التي راعت القيمة المالية في التمر:((عين الربا)) .
2-
كان التخوف من الربا والاقتراب منه هاجساً قوياً لدى الطرفين، وهذا أمر محبب ومطلوب، لكن يجب أن يكون في ظل ضوابط محددة، وإلا حرمنا الكثير مما أحله الشرع بسبب هذا الهاجس، فمثلاً قيل: إنه لو حدث الاتفاق فإن صاحب الدين سيستفيد، ومعنى ذلك أنه بشكل أو بآخر سيرجع إليه أكثر مما له، وفي ذلك ربا (2)
ولو رجعنا إلى تحليل الفقهاء للمسألة، لوجدنا أولاً ليست كل زيادة ربا، وثانياً لقد قالوا برد القيمة، والقيمة مال مغاير وليس من جنس الدين أو الحق، وبذلك لا يكون هناك ربا، والمفهوم الفقهي للقيمة ينبغي أن يكون واضحاً لدى الاقتصاديين (3)
(1) ومن ذلك ما جاء في تعليق كل من د. محمد عارف وجيه، آي، لاليوالا على بحث الدكتور منور إقبال المشار إليه سلفاً
(2)
د. شابرا، مرجع سابق (ص 58)
(3)
عرف الفقهاء المثل بأنه المساوي في الجنس والمعنى، والقيمة بأنها مال مغاير في الجنس مساو في المعنى (المالية)
3-
ذهبت بعض الدراسات إلى تكييف القرض على أنه من باب الصدقة، واعترضت بشدة على دراسة أعطت عقد القرض لوناً من ألوان عقود التبادل أو المعاوضة (1) ومن الناحية الفقهية نجد القرض مغايراً للصدقة أو للهبة، ولنرجع لما قاله الفقهاء في تعريف عقد القرض قال خليل:(القرض إعطاء متمول في عوض متماثل في الذمة)(2) ويعرفه الأحناف بأنه ما تعطيه من مثلي لتتقاضاه، وقال ابن عابدين في شرحه لتعريف القرض: خرج الصدقة والهبة، ثم قال: القرض إعارة ابتداء معاوضة انتهاء (3)
وجميع الفقهاء يعتبرون القرض عقد مبادلة بينما الهبة أو الصدقة ليست مبادلة، وإنما هي إعطاء بغير رد، لكن القرض إعطاء برد، غاية الأمر أن المبادلة أو المعاوضة فيه ليست من قبل المماسكة والمشاحة كما هو الحال في البيع والإجارة مثلاً، ولذلك قالوا: إن القرض عقد يجمع بين التبرع والمعاوضة، فهو تبرع ابتداء معاوضة انتهاء، ومن حق الدائن أن يسترد قرضه كاملاً غير منقوص، بغض النظر عن مدى استفادة المقترض به، حتى ولو ضاع القرض نفسه من المقترض، يظل حق المقرض في استرداد قرضه قائماً، ومن ثم فمن الصعب فهم تبرير رفض أخذ الدائن قرضه كاملاً من حيث المقدار والمواصفات بأن المقترض ربما لم يستفد من هذا القرض إلا في آخر مدته، وهب أنه لم يستفد منه على الإطلاق فهل ذلك يسقط حق المقرض؟ إن المقرض قد ملك المقترض مالاً ووضعه تحت تصرفه الكامل، ومجرد هذا كاف في حق المقرض لاسترداد مثل قرضه كاملاً، وقد نص الفقهاء جميعاً على أنه عند الوفاء بالقرض يجوز التراضي على مثله أو أكثر أو أقل، وبالطبع فإن ذلك بمفرده لا يجوز الربط على القروض، وعلينا أن ندرك بوضوح أنه لا تلازم من حيث الحكم الشرعي بين الوفاء بالحقوق والالتزامات وبين الاتفاق على كيفية الوفاء عند ثبوت هذه الحقوق، فقد يجوز شيء عند الوفاء ويمنع عند ثبوت الدين، وقد يكون العكس، ومن الملاحظ أن جمهور الفقهاء عند تناولهم لمسألة: ماذا يرد عند تغير السعر؟ لم يفرقوا بين دين القرض ودين غيره (4)
(1) د. صديقي في تعليقه على بحثي د. حسن الزمان، المشار إليه سلفاً، والدراسة المعترض على ما فيها للدكتور شوقي دنيا، مشار إليها سلفاً
(2)
الدردير، الشرح الصغير: 3/ 291
(3)
ابن عابدين، حاشية ابن عابدين: 5/ 161
(4)
ابن عابدين، حاشية ابن عابدين: 4/ 533، 534؛ الحطاب، مواهب الجليل، 4/ 338؛ عبد الرحمن العاصمي، الدرر السنية، مرجع سابق: 5/ 110، ومع ذلك فلا خلاف حول ما هنالك من اختلافات في الحكم عندما يحدث الاتفاق عند ثبوت الدين، فقد يجوز الاشتراط في دين البيع أو الإجارة بشيء لا يجوز شرطه في عقد القرض
5-
7- وأخيراً فإن هذه الملاحظات لا تقلل من عظم الجهود التي بذلت، والهدف من طرحها تطوير هذه الجهود والمزيد من تجويدها.
وأنا على يقين من أنه لو كان للفقهاء المعاصرين دور بارز في تلك الجهود وقدموا دراسات فقهية حول هذه الجوانب التي تمكنت من إثارتها وما قد يكون هناك من جوانب أخرى، لجاء البحث الاقتصادي على نحو أفضل من هذا، ولعل ذلك يؤكد على حتمية التعاون الفعال بين الفقهاء والاقتصاديين خدمة للاقتصاد الإسلامي أولاً وللفقه ثانياً.
6-
الفقهاء القدامى وعملية الربط القياسي
سبق أن قلنا في تعليقنا على الدراسات التي قدمت من قبل الاقتصاديين الإسلاميين سلفاً: إنها قد انطلقت من منطلق أن الفقهاء القدامى كان لهم تحليل فقهي مفصل حيال مسألة الربط، بينما ذهبت دراستان إلى أنه لم يكن لهم شيء من هذا القبيل، وقلنا: إن كلا المنطلقين غير صحيح، ونحب هنا أن نوضح تلك المسألة، الواقع أنه كانت للفقهاء جهودهم حيال مسألة الربط لكنها لم تكن على هذا النحو من البروز والوضوح والبسط كما ذهبت إلى ذلك هذه الدراسات المعاصرة، إن الربط عمل ينشأ عند نشأة العقد أو الدين، أما أي عمل ينشأ إجبارياً كان أو اختيارياً بعد ذلك فلا يدخل في باب الربط، وكلام الفقهاء الذي كثيراً ما يشار إليه في الدراسات الاقتصادية المعاصرة كان من قبيل الحالة الثانية.
لكن ليس معنى ذلك أنهم قد غفلوا أو أهملوا كلية الحديث عن الحالة الأولى، فقد تناولوها هي الأخرى بالبحث والدراسة لكن بصورة عامة تشمل ما نحن فيه وغيره. ألم يتحدثوا باستفاضة عن الشروط في العقود من جهة وعن شروط المعقود عليه من جهة أخرى؟؟؟ أو لم يتحدثوا عن العديد والعديد من العقود الباطلة أو الفاسدة، وفي كثير منها تبين أن مناط الفساد أو البطلان هو ما هنالك من ربا أو غرر غير يسير أو جهالة
…
إلخ؟
إن الكلام في تلك المواطن كلها كفيل باستخراج الحكم الشرعي لعملية الربط القياسي التي نبحثها اليوم، ومع ذلك فقد وجدنا لبعضهم كلاماً مباشراً وصريحاً في مسألة الربط هذه.. ومن ذلك على سبيل المثال:
قال الحطاب: (ذكر ابن أبي زيد أن من أقرضته دراهم فلوس، وهو يوم قبضها مئة بدرهم، ثم صارت مئتين لم ترد عليه إلا عدة ما قبضت، وشرطكما غير ذلك باطل)(1) الشاهد هنا هو قوله: (وشرطكما غير ذلك باطل) ، فهو نص صريح مباشر في الربط من جهة وفي عدم شرعيته من جهة أخرى، ورغم صراحة هذه العبارة في عملية الربط إلا أنها وبكل أسف غير مفصلة، فلم توضح تبرير بطلان هذا الشرط، لكن يمكن معرفة ذلك من خلال دراسة قضية الشروط في العقد.
قال ابن رشد: لو قال: أبيعك ثوبي هذا بعشرة دراهم من صرف عشرين درهماً بدينار، قال ابن القاسم: البيع صحيح، ويلزمه نصف دينار، تحول الصرف كيفما حال –أي مهما كان سعر الصرف الجديد- حيث إنه أوجب له ثوبه بنصف دينار (2) ، وقد أيد ابن رشد موقف ابن القاسم هذا، والشاهد هنا ظهور مسألة الربط، حيث عند التعاقد شرط أو حدد البائع أن يكون الثمن هو عدد معين من عملة ما منظور إليه في ضوء سعر صرفه بعملة أخرى، وهذا ربط بعملة مغايرة، ثم قال: البيع صحيح، والأهم أنه يبين أن الذي له هو العملة المربوط بها وهي الدينار وليس العملة المباع بها ظاهرياً وهي الدراهم، وأوضح أن له ما ربط به مهما تحول أو تغير سعر الصرف.
وقد تعرض ابن رشد لهذه المسألة مرة أخرى فقال: سئل –أي ابن القاسم - عمن له على رجل عشرة دراهم مكتوبة عليه من صرف عشرين بدينار، فقال: أرى أن يعطيه نصف دينار، بالغاً ما بلغ من الدراهم إذا كان الدين من بيع، أما إذا كان من سلف فلا يأخذ منه إلا مثل ما أعطاه، وفسر ابن رشد بعض كلام ابن القاسم بقوله: إن ذكر (من صرف عشرين بدينار) معناه أنه لم يسم الدراهم (العشرة) إلا ليبين بها الجزء الذي أراد البيع به من الدينار فله ذلك الجزء (3) لاحظ أنه رغم أن الصك مكتوب بعدد معين من عملة معينة لكن ذلك كله مربوط بسعر صرف معين من عملة أخرى، وهنا روعي العمل بالعملة الأخرى إذا ما كان الدين من بيع، أما إن كان من قرض فليس له إلا مثل ما أخذ؛ أي عشرة دراهم أو ما تعادله عند السداد من ذهب.
(1) الحطاب: مواهب الجليل: 4/ 341
(2)
ابن رشد: البيان والتحصيل، بيروت، دار الغرب الإسلامي: 7/ 23
(3)
البيان والتحصيل: 6/ 487
7-
منهج التعرف على الحكم الشرعي للربط القياسي
لعل من أهم نتائج ما مضى من هذه الدراسة أن المنهج الذي سار عليه الاقتصاديون الإسلاميون في بحث مسألة الربط لم يكن خالياً من ملاحظات، ومعنى ذلك أنه في مجمله ليس هو المنهج الأفضل والأسلم، فقد تولد عنه كثير من المقولات التي لا نجد لها سنداً شرعياً قوياً.
ثم إن المواطن الفقهية التي ركن إليها الاقتصاديون وانطلقوا منها في دراسة الربط لا تنبئ عن ربط لا من بعيد ولا من قريب، وإنما هي في كيفية المعالجة والتصرف في حيال ما تم أو ما وقع، بعد ما انتهت الفترة الزمنية التي نشأت فيها هذه الحقوق، ومن الواضح أن الاعتماد أو الانطلاق على ذلك في الوصول إلى معرفة الربط أمر غير مأمون شرعاً، حيث كثيراً ما تكون هناك تفرقة وتمييز بين الحكم عند إتمام مقتضيات العقد وعند إنشاء العقد.
ومن ناحية أخرى فقد وجدنا لبعضهم عبارات صريحة في مسألة الربط، بغض النظر عن الحكم الذي قالت به عليها، لكن يلاحظ أن هذه العبارات من القلة بحيث يمكن القول بعدم الاطمئنان الكافي لبناء حكم شرعي أو رسم سياسة بناء عليها، وإذن نحن في حاجة إلى استخدام منهج أفضل مما سرنا عليه قبلاً، وفيما يلي أقدم بعض العناصر والتي قد تكون مهمة أو مفيدة في ذلك:
1-
بداية لابد من التمييز بين أنواع الربط المختلفة، ليس فقط من حيث محلها وإنما من حيث الإجبار والاختيار وما يربط به.
2-
علينا أن نحاكم هذه السياسة أو التصرف أمام المحظورات الشرعية وخاصة الربا والغرر والجهالة.
3-
وطالما أن الربط لا يخرج في حقيقته على أن يكون شرطاً في العقد فعلينا أن نعنى كل العناية بالشروط في العقود وهل اشتراط الربط من بين الشروط المقبولة شرعاً أم المرفوضة؟
4-
بفرض اجتياز سياسة الربط هذه الخطوات، بمعنى عدم وجود محظور شرعي فيها وعدم دخولها في الشروط المرفوضة عند ذلك فقط لا قبله، تدرس آثارها الاقتصادية دراسة عميقة؛ تبين حقاً ما لها من إيجابيات وما عليها من سلبيات، ثم نقارن ونرجح، وفي النهاية نطبق القواعد الشرعية المتعارف عليها، عند تعارض المصالح والمفاسد وعند تعارض الأضرار، وخاصة عندما يكون الربط إجبارياً وسياسة عامة من قبل الدولة.
5-
معنى الفقرة الرابعة، أن مجرد قول الاقتصاديين أو بعضهم بأن هذه السياسة تحقق العدالة وتحقق الكفاءة لا ينهض بمفرده دليلاً على الأخذ بها شرعاً وإنما لابد أولاً من التأكد من عدم دخولها في محظور شرعي، ومما يؤسف له أن الكثير من الدراسات السابقة لم تنتبه لذلك جيداً باستثناء دراسة واحدة فيما اطلعت عليه (1)
6-
من الواضح أن منهج القياس الأرسطي الذي برز في بعض الدراسات السابقة ليس هو المنهج الفقهي المعروف في التعرف على الحكم الشرعي، فمثلاً نجد مثل هذه المقولات:(النقود تستعمل كوسيلة للمدفوعات المؤجلة، والمتلقي لها لا يحصل في فترة التضخم السريع على ما يستحقه حقيقة، وربط المعاملات بالأسعار يصحح هذا الوضع، ومن ثم فهو أقرب إلى روح الشريعة الإسلامية) ، و (التضخم يخل بمبدأ العدالة، والربط يصحح الوضع، والعدالة مطلب إسلامي إذن الربط لا غبار عليه) إلى غير ذلك من المقولات التي لا تسلم من حيث الصياغة والشكل ولا من حيث المضمون، ولعل أقل ما يمكن أن يثار في وجه ذلك، هل العدالة في الربط أمر مؤكد؟ أم هي أمر احتمالي؟ ونحن نعرف أن الاحتمال إذا تطرق إلى شيء لا يصح اتخاذه دليلاً، والمعروف أن خبراء الاقتصاد أنفسهم شككوا قوياً في تعبير الرقم المقاس المختار عن حقيقة التضخم، ومن ثم عن العدالة، بل إن أثر التضخم ذاته على العدالة محل نظر، ويحتاج إلى دراسة كل حالة بحالتها.
خلاصة القول: إن استخدام هذه الأساليب في الوصول إلى الحكم الشرعي محفوف بالمخاطر والمزالق، والأفضل منه استخدام المناهج والأساليب المتعارف عليها بين الفقهاء في معرفة الحكم الشرعي.
(1) وهي الدراسة التي علق بها د. شابرا على دراسة د. عبد المنان
8-
ما نراه حيال موضوع التضخم والربط القياسي
عرضنا فيما سبق للتضخم ومخاطره ومضاره المتنوعة، ولأساليب وطرق مواجهته، ثم عرضنا لقضية الربط القياسي، ولانقسام الاقتصاديين حيالها ما بين مؤيد ومعارض، ثم عرضنا لموقف الاقتصاديين الإسلاميين لهذه القضية وقلنا: إنهم بدورهم قد انقسموا حيال تأييدها ورفضها، معتمدين على المبررات الاقتصادية المعروفة وضعياً، وكذلك على موقف الشريعة من تلك القضية، وأبدينا بعض الملاحظات حول الدراسات المقدمة في هذا الشأن، وفي ضوء ما تم عرضه يمكن الخلوص إلى ما يلي:
1-
أن يركز البحث الاقتصادي الإسلامي في هذا الموضوع على السياسات الاقتصادية المختلفة التي تحقق درجة حميدة من الاستقرار السعري، وألا ينشغل في هذا الشأن بمسائل أخرى قد لا تكون لها فائدة كبيرة.
وبهذا نتلافى بقدر الإمكان الآثار الضارة للتضخم، ولا نضطر لاستخدام سياسات يظن أنها تحد من آثاره في حين ما قد يكون لها من آثار ضارة، فنكون قد أزلنا الضرر بضرر.
معنى ذلك التأكيد على مخاطر التضخم ومحاذره الاقتصادية والشرعية، والطرق الكفيلة بالحد منه، وقد أكدت أكثر من دراسة سابقة أن ذلك هو الاتجاه الصائب.
2-
فيما يتعلق بمواجهة آثار التضخم يمكن القول: إن هناك مواجهة قبلية ومواجهة بعدية:
أ- المواجهة القبلية: والمتمثلة في سياسة الربط، وفي ضوء كل ما قيل عن هذه السياسة سواء من قبل الاقتصاديين الوضعيين أو الاقتصاديين الإسلاميين أرى أن يتم أولاً حسم للقضية من الناحية الشرعية بالتركيز على قضية الربا وقضية الجهالة ومدى سلطة الدولة في التدخل في العقود، فإذا ما اتضح بجلاء الموقف الشرعي وتبين أن العمل بها لا يوقعنا في محظور شرعي فإنني أرى أنه يمكن استخدامها في ظل ضوابط معينة أهمها: أن يكون معدل التضخم مرتفعاً، وأن يكون استخدامها اختيارياً، وأن تصحب بشكل صريح بالسياسات التي تواجه أسباب التضخم، وأن نتأكد اقتصادياً من أنها أفضل سياسة متاحة للحيلولة دون آثار التضخم السلبية، وأن يدرس كل عقد على حدة ويقرر بشأنه ما يصلح له؛ إذ لكل عقد أو ارتباط طبيعته الخاصة، ومن الواضح أن مسألة ربط الديون التي أصلها قروض تحتاج إلى نظر فقهي دقيق ومعمق، حتى لا نقع في الربا، بينما العقود الأخرى وإن كانت بعيدة عن ذلك إلا أنها في حاجة إلى التأكيد على مسألة الجهالة المفضية إلى المنازعة.
ب- المواجهة البعدية: بمعنى ماذا يحدث في ظل التضخم عند الوفاء بالعقود وسد الالتزامات؟ أعتقد أن هذه مسألة فقهية فنية، ترجع إلى الفقهاء المعاصرين وما يرونه حيالها، آخذين في الاعتبار أن قضية التضخم وما يتعلق بها ويتفرع عنها هي قضية معاصرة في المقام الأول، ومن ثم فينبغي عدم الاقتصار على معرفة أقوال الفقهاء القدامى المباشرة في هذه القضية، بل عليهم النظر في موضوعات فقهية متعددة وبخاصة ما يتعلق بالتصرف في الديون والحقوق والاعتياض عنها، ودور الاقتصاديين في هذا الأمر لا يعدو أن يكون تصويراً لبعض الجوانب الفنية التي تعين الفقهاء على التكييف الصحيح للمسألة.
كلمة ختامية
إن هذه الدراسة لوجازتها لم تقدم للقارئ من أبعاد وملامح مشكلة التضخم والتقلبات الحادة في قيم النقود على اختلاف أنواعها إلا النزر اليسير، والمشكلة أعقد بكثير من ذلك، سواء على مستوى الأسباب أو على مستوى الآثار أو على مستوى طرق العلاج، وهي بكل المقاييس أصبحت مزمنة، وقد برهنت كل التجارب حتى الآن على عدم نجاعة وسائل العلاج على اختلاف أنواعها، وإذن ما هو المخرج الحقيقي؟ إن بعض عمالقة الاقتصاد الوضعي اعترف صراحة بأن علم الاقتصاد لم يتمكن حتى هذه اللحظة من إنجاز الدور المناط به، وهو وضع إطار مؤسسي مناسب للنشاط الاقتصادي حتى يتمكن من إشباع الحاجات الإنسانية، وقال في عبارة بالغة الدلالة:(في الوقت الذي تحتفل فيه فرنسا بالذكرى المئوية الثانية لقيام الثورة الفرنسية وإعلان حقوق الإنسان فإنه يتعين علينا أن نعلن بأن أحد حقوق الإنسان الأساسية هو حقه في الحماية بصورة فعالة من أسلوب عمل اقتصاد السوق، الذي يفتقر إلى العدالة والأمانة)(1)
هل لنا معشر الاقتصاديين المسلمين أن نعي ذلك حق الوعي، وأن نجهر بغير أدنى قدر من التردد بأنه لا مخرج لنا من هذه الموبقات الاقتصادية إلا بالتطبيق الجيد الصحيح لكل مبادئ الاقتصاد الإسلامي؟؟؟ إن الأمر أكبر بكثير من أن يتقلص في النظر إلى مشكلة بذاتها ومحاولة إيجاد حلول لها، إن أبسط ما يوصف به مثل هذا المنهج أنه منهج عقيم.
إننا في حاجة إلى نظرة كلية تعيد تشكيل الحياة الاقتصادية برمتها، نظرة عميقة في نمط الاستهلاك ونمط الإنتاج، ونمط التنمية التي تنشد ونمط المؤسسات الملائمة ونمط العلاقات الاجتماعية والسياسية التي تشكل البيئة السليمة، ونمط الحكم والعلاقات المتفرعة منه، ونمط الأنظمة واللوائح والتشريعات السائدة، إن انتهاج ذلك كله كما جاء به الإسلام هو المخلص الوحيد لنا من هذه الأمراض الاقتصادية الخبيثة.
(1) موريس آليه، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، انظر محاضرته المشار إليها سابقاً
علينا أن نجهر بذلك ونتمسك به ونصر عليه ونجاهد بكل ما لدينا في تحقيقه على الأقل في بلاد المسلمين، وإن قيل فينا وعنا ما قيل، ومن يتشكك في ذلك فعليه أن يأتي لنا بعلاج ناجع للتضخم ليست له من الآثار السلبية ما قد يتفوق على آثار التضخم.
ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن بعض الاقتصاديين الوضعيين اعترف صراحة بأن علاج التضخم من أصعب الأمور، وذهب إلى أن تحقيق ذلك لا يتأتى في الأجل القصير، ثم إنه يتطلب توفر عدة شروط وقيام وتكاتف أكثر من سياسة (1) وهو بذلك يقترب قليلاً مما نقوله نحن هنا، مع التأكيد على أن مجرد القيام بتلك الأعمال والإجراءات التي نادى بها لم تتمكن من حل المشكلة، من جهة، كما أنها متعذرة التحقيق بمفردها من جهة ثانية؛ حيث لم تنطلق من منظور شامل متكامل للحياة الاقتصادية يختلف كثيراً عما نحن عليه الآن، وإذن فمازلنا نؤمن بأن العلاج الناجع لكل عللنا وأمراضنا الاقتصادية رهين بإعادة تشكيل حياتنا الاقتصادية برمتها على نهج جديد، لا يتمثل إلا في المنهج الإسلامي، نصوغ على هديه سلوكاتنا الإنتاجية وسلوكاتنا الاستهلاكية وسلوكاتنا حيال العالم الخارجي وسلوكاتنا الاجتماعية والثقافية والسياسية، وسلوكاتنا حيال بعضنا البعض معشر دول العالم الإسلامي.
الدكتور شوقي أحمد دنيا
(1) د. محمود عبد الفضيل، مرجع سابق (ص 106 وما بعدها) حيث قدم بعض المرئيات ليمكن للعالم العربي أن يعالج التضخم، وهي مع تقديرنا لها إلا أنها بمفردها غير كافية وغير فعالة
ملحق
معدل التضخم السنوي بمكمش الناتج القومي الإجمالي في الفترة من 1980 إلى 1990
الدولة المعدل السنوي للتضخم الدولة المعدل السنوي للتضخم
تنزانيا 25.7 سوريا 14.7
الصومال 49.7 الكميرون 5.6
تشاد 1.2 بيرو 233.7
بنجلاديش 9.6 تونس 7.4
أوغندا 107.0 تركيا 43.2
سيراليون 56.2 بولندا 54.3
بوركينا فاسو 4.6 كوستاريكا 23.5
بنين 1.9 الجزائر 6.6
الصين 5.8 ماليزيا 1.6
باكستان 6.7 الأرجنتين 395.1
غانا 42.7 إيران 13.8
موريتانيا 8.8 نيكارجوا 432.0
أندونيسيا 8.4 المكسيك 70.4
مصر 11.9 البرازيل 284.4
زمبابوي 10.8 المملكة العربية السعودية -5.2
بوليفيا 318.4 ليبيا 0.2
السنغال 6.6 إسرائيل 101.4
المملكة المتحدة 5.8 الإمارات العربية 1.1
اليابان 1.5 الولايات المتحدة 3.7
ألمانيا 2.7 الكويت -2.9
المغرب 7.2
المصدر: البنك الدولي، تقرير عن التنمية في العالم 1992 (ص 282، 283)
مراجع البحث
1-
خيرات البيضاوي، التضخم وآثاره في العالم الثالث، معهد الإنماء العربي، بيروت، 1976.
2-
بنت هانسن، مشكلات التضخم في البلاد الصغيرة، ترجمة د. صلاح الصيرفي، نشر معهد الدراسات المصرفية، القاهرة.
3-
كروين، التضخم، ترجمة د. محمد عزيز، نشر جامعة قاريونس، ليبيا، 1981
4-
مايكل أبدجمان، الاقتصاد الكلي، ترجمة د. إبراهيم منصور، دار المريخ، الرياض، 1988.
5-
د. نبيل الروبي، التضخم في الاقتصاديات المتخلفة، مؤسسة الثقافة الجامعية، الإسكندرية.
6-
د. فؤاد هاشم، اقتصاديات النقود والتوازن النقدي، دار النهضة العربية، القاهرة، 1970.
7-
د. مصطفى رشدي شيحة، التحليل النقدي ونظرية الدخل القومي، الإسكندرية، 1971.
8-
Killick T. policy Economics، London: Heinemann، 1977
9-
peterson W.C. Income. Employment and Economic Growth، N.Y: W.W Norion & Company ، 1978
10-
د. مصطفى رشدي شيحة، الاقتصاد النقدي والمصرفي، بيروت، الدار الجامعية للطباعة والنشر، 1981.
11-
د. محمد زكي شافعي، مقدمة في النقود والبنوك، القاهرة، دار النهضة العربية.
12-
د. صقر أحمد صقر، النظرية الاقتصادية الكلية، الكويت، وكالة المطبوعات، 1977.
13-
Ball R.g. Inflation and the theory of money، London: Allen & unwin، 1964
14-
جيمس جوارتني وريماردا ستروب، الاقتصاد الكلي، ترجمة د. عبد الفتاح عبد الرحمن وآخر، الرياض، دار المريخ.
15-
د. رمزي زكي، مشكلة التضخم في مصر، القاهرة، الهيئة المصرية للكتاب، 1980.
16-
باري سيجل، النقود والبنوك والاقتصاد، ترجمة د. طه عبد الله منصور، الرياض، دار المريخ، 1987.
17-
د. محمد عبد الفضيل، مشكلة التضخم في العالم العربي، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1982.
18-
المقريزي، إغاثة الأمة بكشف الغمة، القاهرة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1957.
19-
د. محمد عجمية ود. محمد محروس: فصول في التطور الاقتصادي، الإسكندرية، مؤسسة شباب الجامعة.
20-
البنك الدولي، تقرير عن التنمية في العالم 1989، النسخة العربية.
21-
السرخسي، المبسوط، بيروت، دار المعرفة.
22-
د. فؤاد شريف، المشكلة النقدية، الطبعة الأولى.
23-
د. فؤاد مرسي، النقود والبنوك.
24-
د. شوقي أحمد دنيا، النظرية الاقتصادية من منظور إسلامي، الرياض، مكتبة الخريجي، 1984
25-
د. أحمد الحسني، تطور النقود في ضوء الشريعة الإسلامية، جدة، دار المدني، 1410 هـ.
26-
د. محمد نجاة الله صديقي، بعض التعليقات، مع بحث د. حسن الزيان، استعراض للمؤلفات الإسلامية حول ربط المعاملات بتغير الأسعار، من أعمال حلقة ربط الحقوق والالتزامات بتغير الأسعار من وجهة النظر الإسلامية، البنك الإسلامي.
27-
د. حسن الزيان، استعراض للمؤلفات الإسلامية حول ربط المعاملات بتغير الأسعار، من أعمال حلقة عمل حول ربط الحقوق والالتزامات بتغير الأسعار من وجهة النظر الإسلامية، المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب، البنك الإسلامي للتنمية، جدة، 1407 هـ.
28-
ابن عابدين، حاشية ابن عابدين، بيروت، دار الفكر.
29-
ابن عابدين، رسائل ابن عابدين، بيروت، دار إحياء التراث.
30-
الحطاب، مواهب الجليل، دار الفكر، بيروت.
31-
السيوطي، الحاوي، بيروت، دار الكتب العلمية.
32-
ابن قدامة، المغني، الرياض، مكتبة الرياض الحديثة.
33-
الكاساني، بدائع الصنائع، القاهرة، نشر زكريا يوسف.
34-
مجموعة من العلماء، الفتاوى الهندية وبهامشها الفتاوى التيرازية.
35-
الأسدي، التيسير والاعتبار، القاهرة، دار الفكر العربي.
36-
الشيخ مصطفى الزرقا، المدخل الفقهي العام، بيروت، دار الفكر.
37-
د. رفيق المصري، الإسلام والنقود، جدة، جامعة الملك عبد العزيز.
38-
أحمد الدردير، الشرح الصغير، القاهرة: دار المعارف.
39-
الرهوني، حاشية الرهوني على الزرقاني، بيروت، دار الفكر.
40-
المرداوي، الإنصاف.
41-
عبد الرحمن العاصمي، الدرر السنية، الرياض، دار الإفتاء.
42-
ابن تيمية، الفتاوى الكبرى، الرياض، توزيع دار الإفتاء.
43-
الخرشي، شرح الخرشي مع مختصر خليل، بيروت، دار صادر.
44-
الرافعي، فتح العزيز، بهامش المجموع، المكتبة السلفية، المدينة المنورة.
45-
ابن رشد، بداية المجتهد، بيروت، دار المعرفة.
46-
Lewis A; Development planning، London: Allen، 1955.
47-
د. نزيه حماد، دراسات في أصول المداينات في الفقه الإسلامي، الطائف، دار الفاروق.
48-
Friedman M. monetary correction، London: Institute of Economic Affairs 1974
49-
د. محمد عبد المنان: ربط القيمة بتغير الأسعار، من أعمال حلقة ربط الحقوق بتغير الأسعار، مشار إليها سلفاً.
50-
د. منور إقبال، مزايا ربط المعاملات بمستوى الأسعار، من أعمال حلقة ربط الحقوق.
51-
موريس آليه، الظروف النقدية لاقتصاد السوق، محاضرة ألقاها في البنك الإسلامي للتنمية 1992.
52-
د. ضياء الدين أحمد، ربط القيمة بتغير الأسعار، تعليق على بحث د. عبد المنان، مشار إليه سلفاً.
53-
البنك الدولي، تقرير عن التنمية في العالم 1989، 1988.
54-
ميجل كيجويل ونيسان ليفياتان، تقرير عن مدى نجاح البرامج غير التقليدية لتحقيق الاستقرار، مجلة التمويل والتنمية، صندوق النقد الدولي، عدد مارس 1992.
55-
ماريو بليجير وأوريان تشيستي، بعض الدروس المستفادة من برامج تحقيق الاستقرار غير التقليدية، مجلة التمويل والتنمية، عدد سبتمبر 1988.
56-
د. رفيق المصري، تدهور النقود والربط القياسي للقروض غير الربوية من أعمال حلقة الربط المشار إليها سلفاً.
57-
د. شوقي دنيا، تقلبات القوة الشرائية للنقود، مجلة المسلم المعاصر، العدد 41 لسنة 1984.
58-
د. محمد عمر شابرا، ربط القيمة بتغير الأسعار: النظرية، التجربة، وقضايا من المنظور الإسلامي، تعليق مع بحث د. عبد المنان.
59-
د. محمد عارف، تعليقات على بحث الدكتور منور إقبال، مشار إليه سلفاً.
60-
د. محمد عمر شابرا، نحو نظام نقدي عادل، واشنطن، المعهد العالمي للفكر الإسلامي.
61-
جيه. آي. لاليوالا، مزايا وعيوب الربط، تعليق على بحث د. منور إقبال.
62-
ابن رشد، البيان والتحصيل، بيروت، دار الغرب الإسلامي.
63-
البنك الدولي، تقرير عن التنمية في العالم 1992.