الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأخذ بالرخص الشرعية وحكمه
إعداد
الدكتور: وهبة مصطفى الزحيلي
رئيس قسم الفقه الإسلامي ومذاهبه
بجامعة دمشق
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وبعد:
فإن الأخذ بالرخص الشرعية هو حديث العصر، ومحل عناية وسؤال الكثيرين من الناس الذين يؤثرون العمل بالأيسر والأسهل، ما دامت الشريعة قامت على مبدأ اليسر والسماحة ودفع الحرج، ولأن تعقد الحياة المعاصرة وتشابك المصالح والعلاقات الاجتماعية في التعامل يدفع إلى البحث عن الرخصة في حال الضرورة أو الحاجة، فضلا عن ضعف الهمم والعزائم في التمسك بالأحكام الشرعية العامة، وهي التي تسمى عند الأصوليين بالعزيمة.
لذا وقع اختياري على بحث هذا ال
موضوع: " الأخذ بالرخص الشرعية وحكمه
" وهو الموضوع الأول من مواضيع الدورة الثامنة لمجلس مجمع الفقه الإسلامي. ويحتاج إلى جمع شتاته وقضاياه التي بحثها الأصوليون في مجالين: الحكم الشرعي الوضعي، والتقليد، وهو من الناحية العملية حري بالبحث والتحقيق في ضوء النتائج المتوخاة منه، المتمثلة في الأخذ بالراجح، والأجدر بالاتباع، ويلاحظ أن خطة البحث المطلوبة من أمانة المجمع جمعت بين ثلاث مواضيع أصولية، كان الأجدر بحث كل منها على حدة: وهي الرخصة، وتتبع الرخص، والتلفيق، فهو إذن موضوع شامل موضوعات ثلاثة.
خطة البحث:
1-
الرخصة، تعريفها، أنواعها، مع بيان فقهي لأمثلة كل نوع، ضوابط الأخذ بالرخصة.
2-
تتبع الرخص، ورأي الفقهاء والأصوليين فيه.
3-
التلفيق ورأي الفقهاء والأصوليين فيه.
4-
ترجيح ما هو أحق بالاتباع، وخاصة في عصرنا الحاضر.
(1)
الرخصة، تعريفها، أنواعها
مع بيان فقهي لأمثلة كل نوع، ضوابط الأخذ بالرخصة
تعريف الرخصة:
تطلق الرخصة عند محققي علماء الأصول في مواجهة ما يسمى بالعزيمة، وما للرخصة فيه بحال لا يطلق عليه اسم العزيمة، فهما اسمان متقابلان متلازمان مفهوما وعملا. أما العزيمة عند الأصوليين: فهي ما شرع من الأحكام الكلية ابتداء لتكون قانونا عاما لكل المكلفين في جميع الأحوال، كالصلاة والزكاة وسائر الشعائر الإسلامية الكلية (1) . وتتنوع العزيمة إلى الأحكام الخمسة: وهي الواجب والمندوب والحرام والمكروه والمباح.
ومعنى شرعية العزيمة ابتداء: أنها لم تسبق في شريعتنا بأحكام أخرى في موضوعها، ويعد الحكم الشرعي الذي جاء ناسخا لحكم آخر كالحكم الابتدائي، من حيث إنه رفع الحكم الأول المنسوخ، وجعله كأن لم يكن.
ويدخل تحت العزيمة: ما شرع لسبب اقتضى تشريعه؛ إذ لا وجود لهذا الحكم إلا بعد وجود سببه، فكان تشريعه ابتدائيا، كتحريم سب الأنداد:(الأصنام والأوثان ونحوها) في قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] . فإنها نزلت لما قال المشركون للمسلمين: "لتنتهن عن سب آلهتنا أو لنهجون إلهكم ".
وكذلك يدخل تحت العزيمة: ما دعت المصلحة العامة إلى تشريعه من أول الأمر، كالبيع والإجارة والمضاربة والقصاص والحدود.
(1) كشف الأسرار على أصول البزدوي: 1 / 618؛ مرآة الأصول لمنلاخسرو: 2 /390؛ الموافقات للشاطبي: 1 / 300؛ شرح العضد على مختصر ابن الحاجب: 2 / 8؛ أصول الشاشي: ص 113 وما بعدها؛ الأحكام للآمدي: 1 / 68؛ شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع: 1 / 94؛ شرح الإسنوي للمنهاج: 1 / 91؛ روضة الناظر وجنة المناظر في أصول الفقه لابن قدامة: 1 / 171؛ المدخل إلى مذهب الإمام أحمد لابن بدران: ص 71.
وكذلك يدخل فيها المستثنيات من العموميات، كما في قوله تعالى:{وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 229] فإن الله تعالى حرم أخذ شيء من المهر المستحق للمرأة إلا في حال الخوف من التقصير في حقوق الله تعالى، فيكون الأخذ في هذه الحال عزيمة.
وأما الرخصة: فهي في اللغة العربية: التيسير والتسهيل، قال الجوهري في الصحاح: الرخصة في الأمر: خلاف التشديد فيه، ومن ذلك: رخص السعر: إذا سهل وتيسر، وأرخصه الله فهو رخيص، وأما الرخصة – بفتح الخاء -: فهو الشخص الآخذ بالرخصة، كما قال الآمدي. والرخصة عند الأصوليين: هي الأحكام التي شرعها الله تعالى بناء على أعذار (1) العباد، رعاية لحاجاتهم، مع بقاء السبب الموجب للحكم الأصلي (2) .
وعرفها الشاطبي بقوله: هي ما شرع لعذر شاق، استثناء من أصل كلي يقتضي المنع، مع الاقتصار على مواضع الحاجة فيه (3) .
وذكر الشافعية تعريفها بقولهم: هي الحكم الثابت على خلاف الدليل لعذر (4) . وقيد: "على خلاف الدليل " احتراز عما أباحه الله تعالى من الأكل والشرب وغيرهما، فلا يسمى رخصة؛ لأنه لم يثبت على المنع منه دليل. والعذر: هو المشقة والحاجة.
وأمثلتها: التلفظ بالكفر عند الإكراه، والأكل من الميتة عند الضرورة، فالعذر في الأول: هو الإكراه، وفي الثاني: هو ضرورة حفظ النفس، مع بقاء سبب الحكم الأصلي، وهو في الأول: وجود أدلة وجوب الإيمان وحرمة الكفر، وفي الثاني: هو ضرر الميتة. أما إذا لم يبق السبب الموجب للحكم الأصلي، كحل ترك المسلم الثبات لعشرة من الكفاربعد أن كان ممنوعا، فلا يسمى رخصة؛ لأن الحكم الأصلي: وهو وجوب الثبات للعشرة قد زال سببه، وهو قلة المسلمين، وحين أبيح لهم ترك هذا الثبات، وألزموا بالثبات أمام اثنين فقط، لم يكونوا قلة، وإنما كانوا كثرة.
(1) الأعذار: كالاضطرار ومشقة السفر، والحاجة إلى ثمن الغلات قبل إدراكها، وإباحة ترك الجماعة في الصلاة لمرض أو نحوه (غاية الوصول شرح لب الأصول لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري: ص 18.
(2)
مرآة الأصول: 2 / 394؛ التقرير والتحبير: 2 / 146؛ فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت: 1 / 116؛ شرح العضد على مختصر المنتهى لابن الحاجب: 2 / 8؛ الإبهاج للسبكي: 1 / 51؛ روضة الناظر: 1 / 172؛ المدخل إلى مذهب أحمد: ص 71.
(3)
الموافقات: 1 / 301.
(4)
الإحكام في أصول الأحكام للآمدي: 1 / 68؛ المستصفى للغزالي: 1 / 63؛ شرح المحلي على جمع الجوامع: 1 / 92؛ شرح الإسنوي: 1 / 89.
أنواع الرخصة:
للعلماء منهجان في بيان أنواع الرخصة، وهما منهج الشافعية والحنابلة، ومنهج الحنفية.
المنهج الأول: للشافعية والحنابلة: قسم علماء الأصول من الشافعية والحنابلة الرخصة إلى أربعة أنواع (1) :
الأول – واجبة: كأكل الميتة للمضطر؛ فإنه واجب لعذر هو حفظ الحياة، ودليله قوله تعالى:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] .
الثاني – مندوبة: كقصر الصلاة للمسافر إذا قطع مسافة ثلاثة أيام فصاعدًا، بوسائط النقل القديمة، وإنما كان القصر مندوبا لقول عمر رضي الله عنه:" صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته ".
الثالث – مباحة: كعقد السلم (السلف) وهو بيع آجل بعاجل، والعرايا، والإجارة، والمساقاة، وشبه ذلك من العقود؛ فإنها رخصة بلا نزاع؛ لأن السلم والإجارة عقدان على معلوم مجهول، فالمسلم فيه غير موجود عند التعاقد، ومنفعة المأجور غير قائمة عند العقد، وإنما تستوفى مع مرور الزمن، وكلاهما مجهول غير معروف تماما. والعرايا: بيع الرطب على رؤوس الأشجار خرصًا بالتمر القديم، جوزت للحاجة إليها استثناء من شرط التماثل أو المساواة في البيوع الربوية، والتمر مال ربوي، والرطب ينقص إذا جف، فلم تتحقق المماثلة المطلوبة شرعا. أخرج أحمد والبخاري ومسلم عن سهل بن أبي حثمة قال:((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع التمر بالتمر، ورخص في العرايا أن يشتري بخرصها، يأكلها أهلها رطبا)) . وأخرج أحمد والبخاري عن زيد بن ثابت: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في بيع العرايا أن تباع بخرصها كيلا)) (2) . والخرص: التخمين والتقدير. قال الإمام مالك: العرية: أن يعري الرجل الرجل النخلة، أي يهبها له أو يهب ثمرها، ثم يتأذى بدخوله عليه، ويرخص الموهوب له للواهب أن يشتري رطبها منه بتمر يابس. وقال يحيى بن سعيد الأنصاري: العرايا (جمع عرية) : أن يشتري الرجل ثمر النخلات لطعام أهله رطبا بخرصها تمرا. أي بتقديرها تمرا.
وإنما كانت هذه الأنواع رخصة؛ لأن طريق كل منها غير متعين لدفع الحاجة؛ إذ يمكن الاستغناء عنه بطريق آخر، فالسلم مثلا يمكن الاستغناء عنه بالقرض.
الرابع – خلاف الأولى: كفطر المسافر الذي لا يتضرر بالصوم. وإنما كانت هذه الرخصة خلاف الأولى أخذا من قوله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] فالصوم مأمور به في السفر أمرا غير جازم، وهو يتضمن النهي عن تركه، وما نهي عنه نهيا غير صريح، فهو خلاف الأولى.
والخلاصة: إن مدار تقسيم الشافعية والحنابلة للرخصة هو العذر، كما لا حظنا في تعريفهم الرخصة.
وقال الشاطبي مبينًا حكم الرخصة عند المالكية: حكم الرخصة الإباحة مطلقا من حيث هي رخصة، وأما وجوب تناول المحرمات في حال الاضطرار، فيرجع إلى عزيمة أخرى هي المحافظة على الحياة، كما دل عليه قوله تعالى:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] وقوله سبحانه: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29] . واستدل الشاطبي بأدلة كثيرة لتأييد رأيه، أفاض فيها في الجزء الأول من الموافقات.
(1) المستصفى: 1 / 63؛ الإبهاج للسبكي: 1 / 52؛ شرح جلال الدين المحلي على جمع الجوامع: 1 / 52؛ شرح الإسنوي: 1 / 90؛ الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 75.
(2)
نيل الأوطار: 5 / 200، ط العثمانية المصرية.
المنهج الثاني، للحنفية: قسم الحنفية الرخصة إلى أربعة أنواع (1) :
الأول – إباحة الفعل المحرم عند الضرورة أو الحاجة، ومثاله: التلفظ بالكفر عند الإكراه عليه بالقتل، أو بقطع بعض الأعضاء، مع اطمئنان القلب بالإيمان، ودليله قوله تعالى:{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106] .
ومثل الإفطار في رمضان عند الإكراه، والجناية على الإحرام بحج أو عمرة، وإتلاف مال غيره عند الإكراه، وحل الأكل من الميتة عند الجوع الشديد، وإباحة شرب الخمر عند الظمأ الشديد. وحكمه: الجواز إلا إذا خاف الشخص هلاك نفسه أو ذهاب عضو من أعضائه، فحينئذ يصير العمل بالرخصة واجبا، فإذا لم يعمل بها حتى مات، كان آثمًا، لتسببه في قتل نفسه، وهذا ينطبق على البدعة الجديدة وهي الإضراب عن الطعام، حتى الموت، والله تعالى يقول:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] ويقول سبحانه: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] .
ولكن الحنفية قالوا: إن الأخذ بالعزيمة أولى في حال الإكراه عن الكفر، ولو قتل كان مأجورا (2) . واستدلوا عليه بما يروى: أن مسيلمة الكذاب أخذ اثنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال للأول: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله. قال: فما تقول في؟ قال: وأنت أيضا، فخلى سبيله، وقال للآخر: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله، قال: فما تقول في: قال: أنا أصم لا أسمع، فأعاد عليه ثلاثا، فأعاد جوابه، فقتله. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:((أما الأول فأخذ برخصة الله تعالى، وأما الثاني فصدع بالحق، فهنيئا له)) (3) .
الثاني – إباحة ترك الواجب إذا كان في فعله مشقة تلحق المكلف، كإباحة الفطر في رمضان للمسافر والمريض، قال الله تعالى:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] فهذا النص يقضي بأن المسافر والمريض لا يجب عليهما الصوم في حال السفر والمرض. ومثله قصر الصلاة الرباعية في السفر؛ لقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101] .
الثالث – إباحة العقود والتصرفات التي يحتاج الناس في مخالفتها للقواعد المقررة، كعقد السلم ونحوه، كما تقدم بيانه عند الشافعية؛ فإن السلم من قبيل بيع المعدوم، وبيع المعدوم باطل، ولكن الشارع أجازه لحاجة الناس إليه. ومثله عقد الاستصناع: وهو طلب العمل من الصانع في شيء مخصوص، كاستصناع المفروشات الخشبية والكراسي والحلي، والثياب والأحذية ونحوها على ثمن معلوم. الشيء المصنوع معدوم عند التعاقد، وأجيز العقد للحاجة استحسانًا.
الرابع – رفع الأحكام الشاقة التي كانت مشروعة في الشرائع السابقة، والتخفيف فيها عن الأمة الإسلامية، كاشتراط قتل النفس للتوبة من العصيان فيما كان مقررا في ظرف زمني معين على اليهود، كما حكى القرآن الكريم في قوله تعالى:{فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54] وتطهير الثوب بالقرض: قطع موضع النجاسة، وإيجاب ربع المال في الزكاة، وبطلان الصلاة في غير موضع العبادة المخصوص من البيع والكنائس، ونحو ذلك مما أشار إليه القرآن الكريم جملة في قوله تعالى:{رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286] وقوله سبحانه في بيان خصائص رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ومهامه: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] والإصر: الثقل، أي العبء الثقيل، وهو التكاليف الشاقة.
(1) التقرير والتحبير: 146/2؛ فواتح الرحموت: 1 / 116 – 119؛ كشف الأسرار: 1 / 635 وما بعدها؛ مرآة الأصول: 2 / 395 وما بعدها..
(2)
فواتح الرحموت: 171؛ مرآة الأصول: 2 / 395: التقرير والتحضير: 2 / 147؛ كشف الأسرار: 1 / 63.
(3)
التلخيص الحبير لابن حجر: 4 / 103.
وهذا النوع رخصة مجازا؛ إذ لا شبه بينه وبين الرخصة؛ لأن الأصل لم يبق مشروعا في حق المسلمين، فلا عزيمة تواجه هذا النوع حتى يطلق عليه أنه رخصة في مقابلتها، إلا أنه لما ترتب على انتفاء هذه التكاليف من شريعتنا اليسر والسهولة في حقنا بالنسبة للأمم السابقة، أطلق عليها عند الحنفية اسم الرخصة تجوزا وتوسعا، أما عند غير الحنفية، فلا يعتبر هذا النوع من باب الرخصة (1) .
ويظهر مما ذكر أن الرخصة عند الحنفية تنقسم إلى قسمين: مباح وواجب.
وذكر الشاطبي إطلاقات أربعة للرخصة، منها ما هو خاص ببعض الناس، ومنها ما هو عام للناس كلهم، ثم قال كما تقدم: حكم الرخصة الإباحة مطلقا، من حيث هي رخصة، وأقام الأدلة على ذلك (2) .
تقسيم آخر للرخصة: قسم الحنفية الرخصة أيضا قسمين: رخصة ترفيه، ورخصة إسقاط (3) . ورخصة الترفيه هي الرخصة الحقيقية: وهي التي يكون حكم العزيمة معها باقيا ودليله قائما، ولكن رخص في تركه تخفيفا عن المكلف، كما بينا في النوع الأول، كالتلفظ بالكفر عند الإكراه، وإتلاف مال غيره، أو الفطر في رمضان عند الإكراه. وهي نوعان:
النوع الأول – هو الكامل في الرخصة: وهو ما أباحه الشارع مع قيام الدليل المحرم وقيام حكمه جميعا. مثل إجراء كلمة الكفر على اللسان عند الإكراه عليه بالقتل أو القطع، دليل الحرمة الدال على وجوب الإيمان قائم أبدا، ولكن رخص للمكره النطق بالكفر تفاديا لما قد يلحقه من ضرر في نفسه صورة بخراب بدنه، ومعنى بزهوق روحه، وأما حق الله فيفوت صورة ظاهرًا بالتلفظ بكلمة الكفر باللسان، ولا يفوت معنى؛ لأن قلبه مطمئن بالإيمان. فرخص التلفظ لعذر، وجاز للمكره تقديم حق نفسه وتكريما من الله وفضلا ورحمة. ومثله أيضا ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا خاف الشخص القتل، فله مراعاة حق نفسه. وينطبق هذا أيضا على ترك الصلاة المفروضة عينا، والصوم المفروض عينا، وأكل مال الغير، كل ذلك يجوز تركه عند الخوف من القتل أو القطع بالإكراه.
النوع الثاني – ما أبيح فعله مع قيام الدليل المحرم دون حكمه، كإفطار المسافر في رمضان؛ فإن دليل الحرمة قائم وهو شهود شهر رمضان، أما الحكم فغير قائم؛ لأن الشارع رخص في الإفطار لعذر السفر، لكن الأخذ بالعزيمة الأولى، لقيام الدليل إلا إذا أدى السفر لضعف الصائم، فيكون الأخذ بالرخصة أولى.
وأما رخصة الإسقاط وهي الرخصة المجازية: فهي التي لا يكون حكم العزيمة معها باقيا، كإباحة أكل الميتة أو شرب الخمر عند الجوع الشديد أو الظمأ الشديد؛ فإن حرمة الأكل أو الشرب سقطت حال الاضطرار. وهي نوعان أيضًا:
النوع الأول – وهو أتم في المجاز من النوع الثاني: وهو ما وضع عنا من الإصر والأغلال التي كانت على من قبلنا، كقتل النفس لصحة التوبة، وقرض موضع النجاسة، وقطع الأعضاء الخاطئة، وإيجاب ربع المال. ويسمى هذا النوع رخصة مجازا؛ لأن الأصل ساقط لم يبق مشروعا، فلم يكن رخصة إلا مجازا من حيث هو نسخ، تمحض تخفيفا، أي أنه لما ترتب على عدم تشريع هذه الأحكام في شريعتنا اليسر والسهولة، أطلق عليه اسم الرخصة تجوزا وتوسعا.
النوع الثاني – وهو أقرب إلى الحقيقة من النوع الأول: وهو ما سقط عن العباد مع كونه مشروعا في الجملة، كإباحة العقود التي يحتاج إليها الناس مع مخالفتها للقواعد العامة، كعقد السلم، فنظرًا لسقوط الحكم الأول أصلا، سمي الثاني رخصة مجازا، ومن حيث بقي الحكم الأول مشروعًا في الجملة: وهو بطلان بيع المعدوم، كان الحكم الثاني هو السلم شبيها بالرخصة الحقيقية.
والظاهر ألا معنى لهذه التفرقة بين رخصة الترفيه ورخصة الإسقاط؛ لأن النصوص الشرعية لم تفرق بين حال الإكراه وحال الاضطرار؛ لأن الإكراه نوع من الاضطرار، وفي الحالتين أبيح المحظور للضرورة. وإن كل الرخص شرعت للترفيه والتخفيف مع بقاء حكم الحظر ودليله، كل ما في الأمر أنه لا إثم في فعل المحظورات.
والرخصة من أنواع الحكم الوضعي؛ لأن الضرورة سبب في إباحة المحظور، وطروء العذر سبب في التخفيف بترك الواجب، ودفع الحرج سبب في تصحيح بعض العقود.
(1) الإبهاج شرح المنهاج للعلامة تاج الدين السبكي: 1 / 51.
(2)
الموافقات: 1 / 307 وما بعدها.
(3)
كشف الأسرار مع نور الأنوار: 1 / 635 – 644
ضوابط الأخذ بالرخصة:
تبين من تعريف الرخصة وأنواعها: أن العذر أو المشقة هو سبب الترخيص، عملا بقاعدة " المشقة تجلب التيسير " وما يتفرع عنها من القواعد مثل:" إذا ضاق الأمر اتسع " و " الضرورات تبيح المحظورات " و " الحاجة تنزل منزلة الضرورة، عامة كانت أو خاصة".
والمكلف هو الذي يقدر ما يتعرض له من المشاق، فتكون الصعوبة التي يجدها في تطبيق الحكم الشرعي العام سببا شرعيًّا للتسهيل والتخفيف.
والعذر: هو المشقة والحاجة، والمراد بالمشقة: هي المشقة الزائدة غير المحتملة أو المتجاوزة للحدود العادية، أما المشقة المعتادة المحتملة فلا تسوغ التخفيف؛ لأن جميع الأعمال والتكاليف الشرعية لا تخلو من المشقة، إلا أنها محتملة، كأداء العبادات من صلاة وصيام وحج، وإيتاء النفقة للمستحق، والجهاد لدفع شر الأعداء، وأعمال المكاسب المعيشية، فكل ذلك يستلزم نوع مشقة عادية، لا تنافي التكليف، ولا تبيح الترخيص، أو التخفيف.
وأمثلة العذر: حال الضرورة والحاجة والإكراه، والسفر والمرض، والخوف الشديد.
أما الضرورة: فضابطها: هي التي يترتب على عصيانها خطر، كما في الإكراه الملجئ، وخشية الهلاك جوعا.
وأما الحاجة: فهي ما يترتب على عدم الاستجابة إليها عسر وصعوبة، وكونها عامة، أي تشمل جميع الأمة، وكونها خاصة: هي التي يحتاج إليها طائفة من الناس، كأهل بلد أو حزمة، وليس المراد أن تكون فردية (1) . هذا في نطاق التشريع العام.
ولكن قد تكون الضرورة أو الحاجة شخصية في نطاق العبادات، كالمصلي الذي لا يقدر على القيام، فيصلي قاعدا أو مضطجعا، والمريض الذي يعجز عن أداء العبادة، فيصلي إيماء. وهذا يرجع لمعيار المشقة في الواقع التي تختلف بين العبادات والمعاملات.
(1) المدخل الفقهي للأستاذ الشيخ مصطفى الزرقاء: ف / 603.
ففي العبادات: لكل عبادة مرتبة معينة من المشاق المؤثر فيها إسقاطًا أو تخفيفًا.
وأما المعاملات فإنها تتأثر بمرتبة واحدة من المشاق، وهي أدنى المشاق فيها.
والفرق بين العبادات والمعاملات: هو أن المصالح في كل منها تختلف عن الأخرى، فالمصالح المترتبة على العبادات باقية إلى الأبد مع الفوز برضاء الله تعالى، فلا يليق تضييع تلك المصالح بأقل مشقة مع يسر احتمالها. قال العز بن عبد السلام: الأولى في ضبط مشاق العبادات: أن تضبط مشقة كل عبادة بأدنى المشاق المعتبرة في الشرع، في تخفيف تلك العبادة، فإن كانت مثلها أو أزيد منها ثبتت الرخصة بها، وإن كانت أدنى أو أقل منها لم يثبت الترخيص بها (1) .
وأما الإكراه: فهو حمل الغير على أن يفعل ما لا يرضاه، ولا يختار مباشرته لو ترك ونفسه. أي إنه التهديد بإلحاق ضرر بالنفس أو العرض أو المال، كالتهديد بالقتل أو الضرب، أو الجرح أو القطع، أو الحبس أو أخذ مال يضره، أو الاعتداء على عرضه، ونحو ذلك. وهو يختلف عن الضرورة.
قال البزدوي: إن حال الضرورة أشد على النفس من حال الإكراه، فهي تبيح الفعل مطلقا، أما الإكراه فقد يبيح الفعل، وقد لا يبيحه، فإذا ثبتت الإباحة في حال الإكراه، عرف أن الاضطرار قد تحقق (2) .
والاضطرار: الوقوع في الحرج أو المشقة إذا فعل الإنسان شيئا أو ترك شيئا، مثل أكل الميتة عند الجوع الشديد، وشرب الخمر عند العطش الشديد، وزيادة المرض إذا أدى الإنسان العبادة بكيفيتها المعتادة.
والسفر: هو الخروج من الموطن على قصد المسير إلى موضع بينه وبين ذلك الموطن مسيرة ثلاثة أيام فأكثر، بسير الإبل ومشي الأقدام، وتقدر بعشرين ساعة وثلث، أو بمسافة 86 كم في رأي الحنفية، أو 96 كم في رأي الشافعية.
المرض: هو هيئة غير طبيعية في بدن الإنسان ينجم عنها بالذات آفة في الفعل، كالتيمم بالتراب للصلاة عند وجود مشقة باستعمال الماء، كالخوف على النفس أو العضو، أو زيادة المرض، أو بطء البرء، أو حدوث شين قبيح في عضو ظاهر.
والخوف الشديد: هو الذعر الذي يتملك الإنسان بسبب عدو أو حيوان مفترس مثلا، فيجوز ترك الواجب عنده، كترك صلاة الجمعة والجماعة إذا خاف الإنسان من عدو يترقبه، أو وحش يفترسه.
(1) قواعد الأحكام: 2 / 112.
(2)
كشف الأسرار: 4 / 1056، 1518.
تفاوت المشاق:
كل هذه الأمثلة للأعذار فيها مشقة تبيح التخفيف أو الترخيص، والمشقة متفاوتة بحسب الأحوال. قال الشاطبي (1) : إن سبب الرخصة المشقة، والمشاق تختلف بالقوة والضعف، وبحسب الأحوال، وبحسب قوة العزائم وضعفها، وبحسب الأزمان، وبحسب الأعمال، فليس سفر الإنسان راكبا مسيرة يوم وليلة، في رفقة مأمونة، وأرض مأمونة، وعلى بطء، وفي زمن الشتاء وقصر الأيام، كالسفر على الضد من ذلك، في الفطر والقصر. وكذلك الصبر على الجوع والعطش يختلف باختلاف هذه الأحوال.
وإذا كان كذلك، فليس للمشقة المعتبرة في التخفيفات ضابط مخصوص، ولا حد محدود يطرد في جميع الناس، ولذلك أقام الشرع في جملة منها السبب مقام العلة، فاعتبر السفر؛ لأنه أقرب إلى مظان وجود المشقة، وترك كل مكلف على ما يجد، وبحسب الاجتهاد، كالمرض، كثير من الناس يقوى في مرضه على ما لا يقوى عليه الآخر، فتكون الرخصة مشروعة بالنسبة إلى أحد الرجلين دون الآخر، وهذا لا مرية فيه.
فإذًا ليست أسباب الرخص بداخلة تحت قانون أصلي. ولا ضابط مأخوذ باليد، بل هو إضافي (أي نسبي) بالنسبة إلى كل مخاطب في نفسه.
وهناك وجه آخر: وهو أن المكلف قد يحمله دافع على العمل حتى يخفف عليه ما يثقل على غيره من الناس، من ذلك أخبار المحبين الذين صابروا الشدائد وتحملوا أعباء المشقات من تلقاء أنفسهم؛ فإنهم اعترفوا بأن تلك الشدائد والمشاق سهلة عليهم، بل لذة لهم ونعيم، فالمشاق تختلف بالنسب والإضافات.
وهناك وجه ثالث دل عليه الشرع، كوصال الصيام؛ فإن الشارع أمر بالرفق رحمة بالعباد، ثم فعله من فعله بعد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن سبب النهي – وهو الحرج والمشقة – مفقود في حقهم.
(1) الموافقات: 1 / 314، ط المكتبة التجارية بمصر.
تصادم المشقة مع النص:
قال ابن نجيم المصري (1) : المشقة والحرج إنما يعتبر في موضوع لا نص فيه، وأما مع النص بخلافه، فلا يجوز التخفيف بالمشقة، ولذا قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله بحرمة حشيش الحرم المكي وقطعه إلا الإذخر (نبات طيب الرائحة) . وكذلك يقول أبو حنيفة بتغليظ نجاسة الأرواث، لقوله عليه الصلاة والسلام – فيما رواه البخاري وغيره – "إنها ركس " أي نجس. ويقول أبو حنيفة أيضا بنجاسة بول الإنسان المنصوص على نجاسته، فهذا وإن كان فيه مشقة وعمت به البلوى، فلا يعفى عنه. وعلى هذا فالمشقة هنا لم تجلب التيسير، بسبب وجود النص على النجاسة.
صحة الفعل مع المشقة:
ذكر الزركشي في قواعده (2) هذا الحكم، فقال: من خفف عليه للمشقة لو تكلف وفعل، صح إذا لم يخش الهلاك أو الضرر العظيم، كالمريض يتحمل المشقة في حضور الجمعة، والفقير يتحمل المشقة بحضور عرفات، وسقط عنه الفرض. فإن خشي ذلك، وهو بهذه الحالة، فيجب عليه الفطر إذا كان صائمًا في رمضان، فإن صام عصى. قال الغزالي: ويحتمل ألا ينعقد؛ لأنه عاص به، فكيف يتقرب بما يعصي، ويحتمل أن يقال: إنما عصى لجنايته على الروح التي هي حق الله تعالى، فيكون كالمصلي في الدار المغصوبة، يعصي لتناوله حق الغير، وكذلك هذا لم يعص من حيث إنه صائم، بل من حيث سعيه في الهلاك.
وقال القرافي (3) : إذا كان المريض يخشى على نفسه أو عضو من أعضائه أو منفعة من منافعه، فهذا يحرم عليه الصوم.
ويجري هذا بالنسبة لفقير عاجز عن المشي لأداء الحج، أو مريض يقوم حال أداء الصلاة ونحوهما.
(1) الأشباه والنظائر: 1 / 117؛ رسائل ابن عابدين: 2 / 120.
(2)
مخطوط قواعد الزركشي: ق 196 ب.
(3)
الفروق: 2 / 23.
(2)
تتبع الرخص
ورأي الفقهاء والأصوليين فيه
إن الكلام السابق عن الرخصة تصنيف بارع لعلماء الأصول، متعلق بما قرره الشرع بنصوص صريحة أو بالقياس على النص الشرعي، وهذا لا خلاف فيه.
أما تتبع الرخص فالغالب استعماله في تتبع رخص المذاهب الفقهية، وهو محل خلاف بين العلماء. ومعناه: أن يأخذ الشخص من كل مذهب ما هو أهون عليه وأيسر فيما يطرأ عليه من المسائل. وقد شرط متأخرو العلماء في التقليد ألا يؤدي إلى تتبع الرخص.
وللأصوليين آراء ثلاثة فيه: " مشدد ومضيق ومتوسط (1) ، ومنشأ الخلاف كما ذكر الشعراني في كتابه " الميزان الكبرى ": وهو فقه مقارن، أن آراء العلماء تتردد بين تشديد وتخفيف، فتراه يذكر في مئات المسائل الفقهية آراء أئمة المذاهب، ثم يردها إلى مرتبتي الميزان، مخفف ومشدد.
1-
أما المشدد فهم قوم كثيرون منهم النووي في فتاويه والغزالي، والمالكية والحنابلة في الأصح عندهم قالوا: يمتنع تتبع الرخص في المذاهب؛ لأنه ميل مع أهواء الناس، والشرع جاء بالنهي عن اتباع الهوى، قال الله تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] فلا يصح رد المتنازع فيه إلى أهواء النفوس، وإنما يرد إلى الشريعة. فلو اختار من كل مذهب ما هو الأهون عليه، قال أبو إسحاق المروزي: يفسق، وقال ابن أبي هريرة: لا يفسق.
(1) البحر المحيط للزركشي: 6 / 325 وما بعدها، ط وزارة الأوقاف بالكويت: شرح المحلي على جمع الجوامع: 2 / 328؛ المستصفى: 2 / 125؛ شرح الإسنوي: 3 / 266؛ مسلم الثبوت: 2 /356؛ تبصرة الحكام: 1 / 59؛ الموافقات للشاطبي: 4 / 133 وما بعدها؛ فتاوى الشيخ عليش: 1 / 58؛ المدخل إلى مذهب أحمد: 195.
قال ابن عبد البر وابن حزم: لا يجوز للعامي تتبع الرخص إجماعًا. والسبب أنه مؤد إلى إسقاط التكليف في كل مسألة مختلف فيها.
2-
وأما المخفف فهم بعض المالكية كالقرافي وأكثر أصحاب الشافعي، والراجح عند الحنفية، قالوا: يجوز تتبع رخص المذاهب؛ لأنه لم يوجد في الشرع ما يمنع منه؛ إذ للإنسان أن يسلك الأخف عليه، إذا كان له إليه سبيل، بأن لم يكن عمل بآخر، بل إن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم العملية والقولية تقتضي جوازه؛ فإنه عليه الصلاة والسلام ((ما خير بين شيئين إلا اختار أيسرهما)) (1)، ((وكان صلى الله عليه وسلم يحب ما خفف على أمته)) (2) وقال:((بعثت بالحنيفية السمحة)) (3) . وقال الشعبي: " ما خير رجل بين أمرين، فاختار أيسرهما إلا كان ذلك أحبهما إلى الله تعالى ".
وقد أخذ بهذا الرأي الكمال بن الهمام في التحرير، وصاحب مسلم الثبوت: محب الله بن عبد الشكور.
3-
وأما المتوسط فهو القرافي قال: يجوز تتبع الرخص بشرط ألا يترتب عليه العمل بما هو باطل عند جميع من قلدهم، كما إذا قلد الإمام مالك في عدم نقض الوضوء بلمس المرأة بغير شهوة، وقلد الإمام الشافعي في عدم وجوب ذلك الأعضاء في الوضوء، أو عدم وجوب مسح جميع الرأس، فإن صلاته تكون باطلة عند الإمامين لعدم صحة الوضوء عند كل منهما. ومضمون هذا الرأي ألا يؤدي تتبع الرخص إلى التلفيق.
والذي أراه: أن القيد الذي ذكره القرافي وهو: ألا يترتب على تتبع الرخص بما هو باطل لدى جميع من قلدهم " لا دليل عليه من نص أو إجماع، وإنما هو قيد ذكره بعض المتأخرين، كما قرر الكمال بن الهمام في تحريره، فإذا جاز للشخص مخالفة بعض المجتهدين في كل ما ذهب إليه، جازت مخالفته في بعض ما ذهب إليه من باب أولى، كما قال صاحب تيسير التحرير.
(1) أخرجه الترمذي، وفي آخره (ما لم يكن مأثما) والبخاري بلفظ (بين أمرين قط) ومالك (في أمرين) .
(2)
رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها.
(3)
أخرجه أحمد في مسنده من حديث جابر بن عبد الله، ومن حديث أبي أمامة، وأخرجه الخطيب، ورواه الديلمي في مسند الفردوس من حديث عائشة رضي الله عنها (المقاصد الحسنة للسخاوي: ص 109) .
وأما ما نقل عن ابن عبد البر: أنه لا يجوز للعامي تتبع الرخص إجماعا، فلا نسلم صحة النقل عنه، ولو سلمنا ذلك لا نقر بوقوع الإجماع؛ لأن في تفسيق متتبع الرخص عن أحمد روايتين. وحمل القاضي أبو يعلي الرواية المفسقة على غير متأول ولا مقلد. قال ابن أمير الحاج في التقرير على التحرير: وذكر بعض الحنابلة: أنه إن قوي الدليل، أو كان عاميًّا لا يفسق، وفي روضة النووي والبحر المحيط للزركشي أن ابن أبي هريرة قال: لا يفسق.
شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام: وللعامي أن يعمل برخص المذاهب، وإنكار ذلك جهل ممن أنكره؛ لأن الأخذ بالرخص محبوب، ودين الله يسر، وما جعل عليكم في الدين من حرج (1) . وحاصل ما جاء في أمالي عز الدين المذكور: أنه ينظر إلى الفعل الذي فعله المكلف: فإن كان مما اشتهر تحريمه في الشرع أثم، وإلا لم يأثم (2) .
وأرى أن الراجح جواز تتبع الرخص للضرورة أو الحاجة، دون تعمد التتبع أو قصد العبث والتلهي، وبشرط ألا يؤدي ذلك إلى التلفيق الممنوع الآتي بيانه؛ لأن تتبع الرخص أمر واقعي لا مهرب منه في واقع الإفتاء والاستفتاء، حيث يجوز للإنسان أن يعمل بما أفتاه به المفتي دون السؤال عن المذهب، فلو تعدد الاستفتاء لعالمين أو أكثر من علماء المذاهب، وأفتى كل عالم بمذهبه وجب على السائل العمل بالفتوى، وقد يقع في التلفيق من حيث لا يدري، وإن درى فهو معذور، إذ لا دليل على المنع.
(1) فتاوى الشيخ عليش: 1 / 78.
(2)
البحر المحيط للزركشي: 6 /326
(3)
التلفيق
ورأي الفقهاء والأصوليين فيه
أجاز أكثر المحققين من أتباع أئمة المذاهب تقليد المجتهد في المسائل الفرعية العملية التي تثبت بطريق اجتهادي ظني، لا في مسائل العقائد أو الأصول العامة، كمعرفة الله وصفاته ودلائل النبوة، وكل ما علم من الدين بالضرورة (البداهة) من جميع التكاليف الشرعية، كأركان الإسلام ، وحرمة الربا والزنى، وحل البيع والزواج ونحوها.
وانتشرت ظاهرة التقليد بعد عصر أئمة المذاهب الاجتهادية في أوائل القرن الرابع الهجري، واستمرت إلى عصرنا، وكان من أثر انتشار التقليد بين المسلمين: أن أكثر العلماء المتأخرين بعد انتهاء القرن العاشر الهجري شرطوا لجواز تقليد مذهب الغير ألا يؤدي إلى التلفيق بين المذاهب، فحكموا ببطلان العبادة المركبة، بالاعتماد على أحكام متغايرة بين الأئمة، حتى إن بعض الحنفية حكى فيه إجماع المسلمين، والتزمه الشافعية حكما مقررا في مسائل الفقه، ولم يظهر كلام في التلفيق قبل القرن السابع الهجري.
قال ابن حجر وغيره من الشافعية: القول بجواز التلفيق خلاف الإجماع.
وأرى أن ادعاء الإجماع يحتاج إلى حجة ودليل، ولا دليل.
تعريف التلفيق:
التلفيق: هو الإتيان بكيفية لا يقول بها المجتهد. ومعناها أن يترتب على العمل بتقليد المذاهب، والأخذ في قضية واحدة ذات أركان أو جزئيات بقولين أو أكثر: الوصول إلى حقيقة مركبة، لا يقرها أحد، سواء الإمام الذي كان على مذهبه، والإمام الذي انتقل إليه، فكل واحد منهم يقرر بطلان تلك الحقيقة الملفقة في العبادة.
ويتحقق التلفيق إذا عمل المقلد في واقعة بالقولين معا، أو بأحدهما مع بقاء أثر الثاني. مثل أن يقلد شخص مذهب الشافعي في الاكتفاء بمسح بعض الرأس في الوضوء، ثم يقلد الذي صلى به على هذا النحو، لم يقل به هؤلاء الأئمة إذا عرض على كل واحد منهم على حدة، فالشافعي يعتبره باطلا لنقضه باللمس، وأبو حنيفة لا يجيزه لعدم مسح ربع الرأس، ومالك لا يقره لعم مسح جميع الرأس، أو لعدم دلك أعضاء الوضوء، وأحمد لا يصححه لترك مسح جميع الرأس، ونحو ذلك (1) .
ومن أمثلة التلفيق في الأحوال الشخصية: أن يتزوج امرأة بلا ولي ولا صداق (مهر) ولا شهود، مقلدا كل مذهب فيما لا يقول به الآخر. لكن هذا من التلفيق المؤدي إلى المحظور، فلا يجوز كما سنبين؛ لأنه يخالف الإجماع، ولم يقل أحد بهذه الصورة (2) .
(1) شرح الإسنوي: 3 / 266؛ عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق للباني: ص 91.
(2)
شرح التنقيح للقرافي: ص 386.
وأمثلة التلفيق الممنوع أيضًا: أن يطلق شخص زوجته ثلاثا، ثم تتزوج بابن تسع سنين بقصد التحليل مقلدا زوجها في صحة الزواج للشافعي، فأصابها، ثم طلقها مقلدا في صحة الطلاق وعدم العدة للإمام أحمد، فيجوز لزوجها الأول العقد عليها (1) . قال الشيخ علي الأجهوري الشافعي: إن مثل هذا ممنوع في زماننا، ولا يجوز ولا يصح العمل بهذه المسألة؛ لأنه يشترط عند الإمام الشافعي أن يكون المزوج للصبي أبًا له أو جدًّا، وأن يكون عدلا، وأن يكون في تزويجه مصلحة للصبي، وأن يكون المزوج للمرأة وليها العدل بحضرة عدلين، فإذا اختل شرط، لم يصح التحليل، لفساد الزواج.
ومن أمثلة التلفيق: لو استأجر شخص مكانا موقوفا تسعين سنة فأكثر، من غير أن يراه، مقلدًا في المدة للشافعي وأحمد، وفي عدم الرؤية لأبي حنيفة، فيجوز.
مجال التلفيق:
إن قضية التلفيق مثل التقليد مجالهما كما نوهت سابقا في المسائل الاجتهادية الظنية، أما العقائد وكل ما علم من الدين بالضرورة من متعلقات الحكم الشرعي، وهو ما أجمع عليه المسلمون ويكفر جاحده، فلا يصح فيه التقليد، فضلا عن القول بالتلفيق. وعليه فلا يجوز التلفيق المؤدي إلى إباحة الحرام كالنبيذ والزنا مثلاً.
والمقصود بالنبيذ: كل شراب مسكر متخذ من غير العنب، وهو حرام باتفاق العلماء في الرأي المفتى به عند الحنفية وهو رأي محمد بن الحسن رحمه الله، ويحد عند جمهور العلماء غير الحنفية من شرب من النبيذ ما لا يسكر؛ لأن ما أسكر كثيره، فقليله حرام، والحرام فيه الحد.
(1) عمدة التحقيق، المرجع السابق: صـ101.
مشروعية التلفيق:
للعلماء رأيان في التلفيق: رأي أكثر المتأخرين: المنع أو عدم الجواز، ورأي جماعة آخرين: الجواز.
ودليل القائلين بمنع التلفيق: هو التخريج على ما قاله علماء الأصول في الإجماع من منع إحداث قول ثالث إذا اختلف العلماء فريقين في حكم مسألة، فقال الأكثرون: لا يجوز إحداث قول ثالث ينقض ما كان محل اتفاق، كعدة الحامل المتوفى عنها زوجها، فيها رأيان: وضع الحمل، وأبعد الأجلين، فلا يجوز إحداث قول يقول: إن عدتها بالأشهر فقط.
والواقع هناك فرق بين الحالتين:
أولاً – لأن موضوع إحداث القول الثالث مرفوض في حال اتحاد المسألة، بينما في التلفيق تكون المسألة متعددة.
ثانيًا – بناء على الرأي المختار، لم يكن في مسألة التلفيق ناحية متفق عليها، فالدلك في الوضوء مسألة كانت موضع اختلاف بين الأئمة، والنقض باللمس مسألة أخرى، وكلا المسألتين موضع خلاف، فالتلفيق فيهما لا يؤدي إلى خرق مجمع عليه، فالقياس مع الفارق (1) .
ويمكننا بالإضافة لذلك مناقشة دعوى بطلان التلفيق بطريقتين: طريقة المنع أو النفي، وطريقة إثبات العكس (2) .
أما طريقة المنع: فهي أن التلفيق مبني على واقع التقليد، وكل من التلفيق والتقليد من وضع المتأخرين، ولم يعرف التلفيق عند السلف، لا في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام وصحابته ولا في عهد أئمة المذاهب وتلامذتهم. أما في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا مجال للتلفيق قطعا؛ لأنه عهد تبليغ الوحي الذي لا حاجة فيه للاجتهاد. وأما في عصر الصحابة والتابعين، فكذلك لم يعرف بينهم، وإنما كان السائل يسأل من شاء منهم، فيفتيه دون أن يلزمه بقوله، أو يحجر عليه العمل بفتوى غيره، مع علمه بكثرة تباين أقوالهم.
(1) بحوث المؤتمر الأول لمجمع البحوث الإسلامي في الأزهر بمصر: ص 95.
(2)
راجع كتاب عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق: ص 92 – 110 بتصرف.
وكذلك الأئمة الأربعة وغيرهم من أصحاب الاجتهاد، لم ينقل عن أحدهم منع العمل بمذهب غيره، بل كان كل منهم يقتدي خلف الآخر، مع اطلاعه على مخالفته له في الاجتهاد الظني، فدل هذا على أن المستفتي كان يأخذ بأقوال العلماء في مسألتين أو أكثر، ولا يقال: إنه لفق أو وصل إلى حقيقة لم يقل بها المفتون، وإنما يعد ذلك من قبيل تداخل أقوال المفتين، بعضها في بعض بالنسبة إلى هذا المستفتي تداخلا غير مقصود، كتداخل اللغات بعضها ببعض في لسان العرب.
وأكثر من هذا، فإن القول بمنع التلفيق يؤدي إلى عدم جواز التقليد الذي أوجبوه على العوام – من ناحية المبدأ – وإن كان التقليد غالبا ليس تلفيقا، ويناقض المبدأ القائل بأن اختلاف الأئمة رحمة للأمة، ويعارض الأساس الذي قامت عليه الشريعة من اليسر والسماحة، ورفع الحرج ودفع المشقة.
وأما الاستدلال بطريقة إثبات العكس بعد افتراض صحة قولهم بمنع التليفق والتسليم بما قالوا، فيظهر مما قرره أولئك العلماء، وهو أنه لا يجب التزام مذهب معين في جميع المسائل، ومن لم يكن ملتزما مذهبا معينا، جاز له التلفيق، وإلا أدى الأمر إلى بطلان عبادات العوام، إذ لا يكاد أحدنا يجد عاميا يفعل عبادة موافقة لمذهب معين.
وأما اشتراطهم ضرورة مراعاة الخلاف بين المذاهب إذا قلد أحدهما مذهبا، أو ترك مذهبه في مسألة، فهو أمر عسير، سواء في العبادات أو المعاملات، وهو يتنافى مع سماحة الشريحة ويسرها ومسايرتها لمصالح الناس.
فمن توضأ مثلاً، ومسح بعض رأسه مقلدا للشافعي، فوضوءه صحيح فإذا مس عضوه (ذكره) بعدئذ مقلدا أبا حنيفة، جاز له الصلاة؛ لأن وضوء هذا المقلد صحيح بالاتفاق؛ لأن لمس الفرج غير ناقض عند أبي حنيفة،فإذا قلده شخص في عدم نقض ما هو صحيح عند الشافعي، استمر الوضوء على حاله بتقليده لأبي حنيفة، وحينئذ لا يقال: إن الوضوء غير صحيح لبطلانه في كلا المذهبين؛ لأن المسألتين قضيتان منفصلتان؛ لأن الوضوء قد تم صحيحا بتقليد الشافعي، ويستمر بعد اللمس بتقليد أبي حنيفة، فالتقليد لأبي حنيفة إنما هو في استمرار الصحة، لا في ابتدائها.
وأما ما ادعاه بعض الحنفية (1) من قيام الإجماع على منع التلفيق، فهو إما باعتبار اتفاق أهل المذهب، أو باعتبار الأكثر والغالب، أو باعتبار السماع، أو بالنسبة للظن، إذ لو كانت المسألة مجمعا عليها لنص فقهاء المذاهب الأخرى على الإجماع؛ لأن المجمع عليه لابد من أن يكون بين أهله مشهورًا ظاهرا منصوصًا عليه، فلا يكفي السكوت والاحتمال. ولا أدل على عدم الإجماع من مخالفة كثير من العلماء المتأخرين صراحة (2) .
(1) رسم المفتي في حاشية ابن عابدين: 1 / 69 وما بعدها؛ الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام للقرافي: 250 وما بعدها.
(2)
عمدة التحقيق: المرجع السابق، 106 وما بعدها
وقال الكمال بن الهمام في التحرير، وتابعه تلميذه ابن أمير الحاج (1) : إن المقلد له أن يقلد من شاء، وإن أخذ العامي (أي غير المجتهد) في كل مسألة بقول مجتهد أخف عليه، لا أدري ما يمنعه من النقل أو العقل، وكون الإنسان يتتبع ما هو الأخف عليه من قول مجتهد مسوغ له الاجتهاد، ما علمت من الشرائع ذمه عليه ((وكان صلى الله عليه وسلم يحب ما خفف عن أمته.))
وأما أن الإمامين اتفقا على بطلان عمل الملفق: فهذا قول لا تنهض به حجة، فإن المقلد لم يقلد كلًّا منهما في مجموع عمله، وإنما قلد كلًّا منهما في مسألة معينة غير التي قلد فيها غيره، ولا حرج في هذا، ومجموع العمل لم يوجب أحد النظر إليه، لا في اجتهاد ولا في تقليد، وإنما هو اختراع لحكم شرعي ممن ليس أهلا للقول به، ولله سبحانه خطابه، ولكل خطاب أثره.
جاء في تنقيح الحامدية لابن عابدين: ما يدل على أن في مُنْيَةِ المفتي ما يفيد جواز الحكم المركب، وأن الشيخ الطرسوسي مشى على الجواز، كذلك أفتى العلامة أبو السعود في فتاويه بالجواز، وجزم العلامة ابن نجيم في رسالته (في بيع الوقف بغبن فاحش) بأن المذهب جواز التلفيق، ونقل الجواز عن الفتاوى البزازية.
وصحح الجواز ابن عرفة المالكي في حاشيته على الشرح الكبير، وأفتى العلامة العدوي وغيره بالجواز؛ لأنه فسحة (2) .
وذهب الجمهور، ومنهم بعض الشافعية إلى أن الإجماع المنقول بالآحاد، كهذا الإجماع المدعى هنا، لا يوجب العمل، لأن الإجماع قطعي، فيتطلب في نقله مستندا مناسبا له.
هذا فضلا عن أن دعوى الإجماع ممنوعة، فقد حكى الثقات الخلاف، كالفهامة الأمير والفاضل البيجوري. قال الشفشاوني في تركيب مسألة من مذهبين أو أكثر: إن الأصوليين اختلفوا في هذه المسألة، والصحيح من وجهة النظر جوازه.
والخلاصة: إن دين الله يسر، لا عسر، وإن القول بجواز التلفيق من باب التيسير على الناس. قال الله تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وقال عز وجل: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28] وقال سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((بعثت بالحنيفية السمحة)) (3) .
(1) التحرير وشرحه: 3 / 350 وما بعدها.
(2)
حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 20/1.
(3)
سبق تخريجه، وهو حديث صحيح.
التلفيق الممنوع:
ليس القول بجواز التلفيق مطلقا، وإنما هو مقيد في دائرة معينة، فمنه ما هو باطل لذاته كما إذا أدى إلى إحلال المحرمات كالخمر والزنى ونحوهما، ومنه ما هو محظور لا لذاته بل لما يعرض له من العوارض، وهو ثلاثة أنواع (1) :
أولها – تتبع الرخص عمدا: بأن يأخذ الإنسان من كل مذهب ما هو الأخف أو الأهون عليه، بدون ضرورة أو عذر، وهذا محظور سدًّا لذرائع الفساد بالانحلال من التكاليف الشرعية.
قال الغزالي: " ليس لأحد أن يأخذ بمذهب المخالف بالتشهي، وليس للعامي أن ينتقي من المذاهب في كل مسألة أطيبها عنده، فيتوسع
…
" إلخ (2) . ويندرج تحت هذا النوع بالأولى تتبع الرخص للتلهي والأخذ بالأقوال الضعيفة من كل مذهب اتباعًا للملاذ والأهواء.
الثاني – التلفيق الذي يستلزم نقض حكم الحاكم؛ لأن حكمه يرفع الخلاف درءًا للفوضى.
الثالث – التلفيق الذي يستلزم الرجوع عما عمل به تقليدا، أو عن أمر مجمع عليه لازم لأمر قلده.
مثال الحال الأولى: ما نقل عن الفتاوى الهندية: لو أن فقيها قال لامرأته: أنت طالق ألبتة. وهو يرى أن الطلاق يقع ثلاثا، فأمضى رأيه فيما بينه وبينها، وعزم على أنها حرمت عليه، ثم رأى بعدئذ أنها تطليقة رجعية، أمضى رأيه الأول الذي كان عزم عليه، ولا يردها إلى أن تكون زوجته، برأي حدث من بعد.
وكذلك لو كان في الابتداء يراها تطليقة رجعية، فعزم على أنها امرأته، ثم رأى بعدئذ أنها ثلاث، لم تحرم عليه، ولكن ينبغي الانتباه إلى أن الرجوع بعد العمل لا يجوز إذا كانت في حادثة واحدة، لا في مثلها، بدليل ما ذكر في الفتاوى الهندية: أنه لو كان يرى في قوله لامرأته: " أنت طالق ألبتة" أنها تطليقة رجعية، فله مراجعتها، ثم قال لامرأة أخرى:" أنت طالق ألبتة" وهو يرى يوم قال ذلك أنها ثلاث، حرمت عليه المرأة الأخرى بهذا القول. وهذا ما صرح به الإمام السبكي وتبعه عليه جماعة. ويلاحظ أن الرجوع عن التقليد بعد العمل باطل، كما صرح الأصوليون، مقيد فيما إذا بقي من آثار الفعل السابق أثر يؤدي إلى تلفيق العمل بشيء، لا يقول به كل من المذهبين.
(1) رسم المفتي لابن عابدين: 1 / 69؛ الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام للقرافي: ص 79؛ فتاوى الشيخ عليش: 1 / 68، 71.
(2)
المستصفى: 2 / 125.
ومثال الحال الثانية: لو قلد رجل أبا حنيفة في الزواج بلا ولي، فيستلزم العقد صحة إيقاع الطلاق؛ لأن صحة الطلاق لازم لصحة الزواج إجماعًا، فلو طلقها ثلاثا، ثم أراد تقليد الشافعي في عدم وقوع الطلاق، لكون عقد الزواج بلا ولي (1) ، فليس له ذلك، لكونه رجوعا عن التقليد في أمر لازم إجماعا (2) .
وأرى أن القول بهذا أمر حتمي؛ لأنه يحتاط في قضايا الأنساب أكثر مما يحتاط في غيرها، وإلا ترتب عليه أن تكون العلاقة السابقة علاقة محرمة، وأن الأولاد أولاد زنى. وينبغي سد كل باب يؤدي إلى مثل هذا التحايل في كل أمر خطير كالزواج مثلا، أو في كل ما يتوصل به إلى العبث بالدين، أو الإضرار بالبشر، أو الفساد في الأرض.
وأما في مجال العبادات والتكاليف التي لم يجعل الله بها حرجا على عباده، فلا يكون التلفيق ممنوعا، ولو استلزم الرجوع عما عمل به أو عن أمر لازم لآخر إجماعا، ما لم يفض إلى الانحلال من ربقة التكاليف الشرعية، أو إلى الذهاب بالحكمة الشرعية باتباع الحيل التي تغاير الشريعة أو تضيع مقاصدها.
حكم التلفيق في التكاليف الشرعية:
تبين مما سبق أن مجال التلفيق هو في الفروع الاجتهادية الشرعية الظنية، أي المختلف فيها، أما في العقائد والإيمان والأخلاق وكل ما علم من الدين بالضرورة، فليس داخلا في التلفيق؛ لأنه لا يجوز فيها التقليد اتفاقا، بل وليست مجالا للاجتهاد، حتى تكون محلًّا للخلاف الذي يبنى عليه التقليد والتلفيق
وحيث إن التلفيق يتأتى في المسائل الفرعية، فليزم تفصيل الحكم فيها.
تنقسم الفروع الشرعية إلى ثلاثة أنواع (3) :
الأول – ما بني في الشريعة على اليسر والسماحة، مع اختلافه باختلاف أحوال المكلفين.
الثاني – ما بني على الورع والاحتياط.
الثالث – ما يكون مناطه مصلحة العباد وسعادتهم.
(1) إذ أن الطلاق لم يصادف محلا، وأراد الزوج أن يعقد على المرأة عقدا جديدا
(2)
أي إن القول بعدم جواز هذا ليس من أجل التلفيق وحده، بل بسبب الرجوع عما قلده فيه بعد العمل به، مع بقاء أثره.
(3)
عمدة التحقيق: ص 127 وما بعدها.
أما النوع الأول: فهو العبادات المحضة، وهذه يجوز فيها التلفيق للضرورة أو للحاجة؛ لأن مناطها امتثال أمر الله تعالى والخضوع له مع عدم الحرج، فينبغي عدم الغلو بها؛ لأن التنطع يؤدي إلى الهلاك.
أما العبادات المالية، فإنها مما يجب التشدد بها احتياطا، خشية ضياع حقوق الفقراء، فينبغي على المزكي ألا يأخذ بالقول الضعيف، أو يلفق من كل مذهب ما هو أقرب لإضاعة حق الفقير. وعلى المفتي أن يفتي في هذا النوع بما هو الأحوط والأنسب، مع مراعاة حال المستفتي، وكونه من أصحاب العزائم أم لا.
وأما النوع الثاني: فهو المحظورات، وهي مبنية على الاحتياط والأخذ بالورع (1) أو التلفيق إلا عند الضرورات الشرعية؛ لأن الضروروات تبيح المحظورات، وورد في الحديث الصحيح:((ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم)) (2) فالأمر قيده بالاستطاعة، والنهي أطلقه، لدفع ضرر المنهي عنه.
وكون المحظورات لا يسوغ فيها التلفيق؛ لأنها مبنية على الورع والاحتياط، مستند إلى حديث ابن مسعود:((ما اجتمع الحرام والحلال، إلا غلب الحرامُ الحلالَ)) (3) وحديث ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)) (4) .
وأما أن المحظورات المتعلقة بحقوق العباد لا يجوز فيها التلفيق؛ فلأنها قائمة على أساس صيانة الحق ومنع الإيذاء أو العدوان، فلا يباح التلفيق فيها؛ لأنها نوع من الاحتيال للاعتداء على الحق وإضرار العباد.
(1) الورع: الكف عن الشبهات تحرجا وتخوفا من الله تعالى، ثم استعير للكف عن الحلال أيضًا.
(2)
متفق عليه بين البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. شرح صحيح مسلم: 9 / 101؛ رياض الصالحين: ص 83.
(3)
رواه البيهقي من حديث ابن مسعود، وفيه ضعف وانقطاع، وقال الزين العراقي: لا أصل له. المقاصد الحسنة: ص 362.
(4)
رواه الترمذي والنسائي عن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وأما النوع الثالث: فهو المعاملات والحدود وأداء الأموال من خراج وعشر وخمس المعادن، والمناكحات. فالمناكحات وما يتعلق بها من المفارقات مبناها سعادة الزوجين وأولادهما، ويتحقق المبنى بالحفاظ على الرابطة الزوجية، وتحقيق الحياة الطيبة فيها. كما قرر القرآن الكريم في قوله تعالى:{فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] فكل ما يؤيد هذا الأصل يعمل به، ولو أدى في بعض الوقائع إلى التلفيق، إلا أنه ينبغي ألا يتخذ التلفيق ذريعة لتلاعب الناس بأقضية الزواج والطلاق، مراعاة للقاعدة الشرعية، وهي أن " الأصل في الأبضاع التحريم " صيانة لحقوق النساء والأنساب، وحينئذ يكون التلفيق ممنوعًا.
وأما المعاملات، وأداء الأموال، والحدود المقررة، وصيانة الدماء ونحوها من التكاليف المراعى فيها مصالح البشرية والمرافق الحيوية، فيجب الأخذ فيها من كل مذهب: ما هو أقرب إلى مصلحة العباد وسعادتهم، ولو لزم منه التلفيق، لما فيه من السعي وراء تأييد المصلحة التي قصدها الشرع، ولأن مصالح الناس تتغير بتغير الزمان، والعرف وتطور الحضارة والعمران، ومعيار المصلحة: هو كل ما يتضمن صيانة الأصول الكلية الخمسة وهي: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل (النسب) ، والمال؛ وصيانة كل مصلحة مقصودة شرعا من الكتاب أو السنة أو الإجماع، وهي المصالح المرسلة المقبولة.
والخلاصة: إن ضابط جواز التلفيق وعدم جوازه: هو أن كل ما أفضى إلى تقويض دعائم الشريعة والقضاء على سياستها وحكمتها، فهو محظور، وخصوصا الحيل، وأن كل ما يؤيد دعائم الشريعة، وما ترمي إليه حكمتها وسياستها لإسعاد الناس في الدارين بتيسير العبادات عليهم، وصيانة مصالحهم في المعاملات، فهو جائز مطلوب.
والتلفيق الجائز في تقديري: هو عند الحاجة أو الضرورة، وليس من أجل العبث، أو تتبع الأيسر والأسهل عمدًا بدون مصلحة شرعية. وهو مقصور على بعض أحكام العبادات، والمعاملات الاجتهادية، لا القطعية.
(4)
ترجيح ما هو أحق بالاتباع
وخاصة في عصرنا
المذاهب الفقهية الإسلامية ثروة علمية خصبة لا نظير لها ولا مثيل في العالم، وهي تدل على ثراء الفكر الإسلامي ونضجه وعمقه وسعة أفق الفقهاء، وإسهامهم الشامل في خدمة الإسلام وبقائه حيًّا مرنًا صالحًا للتطبيق في كل زمان ومكان، إذ لم يتركوا جانبًا من جوانب الحياة في عصرهم إلا وجدوا له حلًّا وحكمًا بالحل أو الحرمة، فجزى الله سادتنا أئمة المذاهب خير الجزاء، ولن يخلفهم التاريخ لابتكارهم أصول الاجتهاد، واقتفائهم سيرة الصحابة والتابعين.
وقد استفاد المسلمون من فقههم واجتهادهم فوائد لا تنكر، فوجب علينا تقديرهم، وطلب الرحمة الإلهية لهم، ويعد المساس بواحد منهم إنكارًا للجميل، وتنكرا للمعروف الواجب الوفاء به، وظلما واضحا، بل ويأثم كل من نالهم بسوء؛ لأنهم - رضوان الله عليهم - بذلوا أقصى ما في وسعهم بالاجتهاد، وكانوا على جانب عظيم من العلم والتقوى والورع، بل إنهم لم يقصدوا باجتهادهم ما سمي بعدهم بالمذاهب؛ لأن كل إمام منهم كان ينهى الناس عن اتباعه، ويأمر بالاجتهاد، ويمنع التقليد.
لكن ما قدموه من ثمار يانعة وحلول عظيمة هو اجتهاد أمر به الشرع، وهم على حق فيما عملوا، وأدوا به واجبهم العلمي، وفريضة الاجتهاد المطلوبة شرعا، وكل اجتهاد حق، قد يخالف الصواب، وقد يخطئ، ومن اطلع على أسباب اختلاف الفقهاء عذرهم، ومن قرأ أدلة كل إمام فيما ذهب إليه اقتنع بوجهة نظره.
إلا أن الحق لا يتعدد، ونظرًا لأننا لا ندري ما هو الحق والصواب بين الاجتهادات لانقطاع الوحي جاز لنا تقليد أئمة الاجتهاد والثقات والذين دققت آراؤهم وتبلورت اجتهاداتهم وثبت النقل عنهم وأبان تلامذتهم الراجح منها من المرجوح، والصحيح من الضعيف.
غير أننا إذا تمكنا من الترجيح بين آراء المجتهدين، وتوافرت لدينا مُكْنَةُ النظر ودقة الفهم، خلافا لأدعياء الاجتهاد الذين هم أشبه بالجهلاء، فعلينا الترجيح وألا نركن إلى كابوس التقليد المذهبي والتعصب الضيق؛ فإن التعصب أيضا ضرر وجهل، وحماقة وغباء؛ لأن العالم مطالب بالعمل بما صح دليله، وترجح برهانه، وكان أنسب لمقتضيات المصلحة، ومعايير مقاصد الشريعة العامة بالحفاظ على الدين والنفس والعقل، والنسب أو العرض والمال.
كما يلزمنا مراعاة الظروف الاستثنائية والأحوال الطارئة والضرورات والحاجات العامة للناس أو الخاصة بطائفة معينة غير محصورة؛ لأن ذلك من أصول الشريعة وضوابطها وقواعدها العامة أيضًا.
ولا يستطيع أحد إنكار قانون التطور والتجديد، ولكن في المجال المقرر شرعا وهو الأحكام القياسية والمصلحية. أما الثوابت التي جاءت بها النصوص التشريعية أو الأحكام الأساسية، فلا تقبل التبدل والتغير، مثل أصول الحلال والحرام التي وردت بها النصوص القطعية لإصلاح الأزمان والأجيال، ومبادئ الشريعة العامة، مثل: مبدأ الرضائية في العقود، وسريان الإقرار على المقر نفسه دون غيره، وضمان الضرر، ومنع الاعتداء، وسد الذرائع إلى المفاسد والشرور، ورعاية المصالح والحقوق والواجبات التي قامت عليها أحكام الشريعة، وإن اختلفت وسائل حمايتها ورعايتها. مع التزام مبدأ إحقاق الحق وإبطال الباطل. ورعاية القاعدة الشرعية والقانونية " لا مساغ للاجتهاد في مورد النص " أي النص القطعي أو الصريح أو الإجماع. أما النص الظني فهو مجال الاجتهاد.
وإذا كنا نريد الخير لأنفسنا وشريعتنا، ونخلص لديننا واتباع أحكام ربنا، فعلنيا إزاء الآراء الاجتهادية المحضة التزام الخطة التالية في الترجيح والاتباع، علما بأن الاتباع: هو سلوك التابع طريق المتبوع، وأخذ الحكم من الدليل بالطريق التي أخذ بها متبوعه، فهو اتباع قائم على العمل بالقول الذي صح دليله. وأما التقليد: فهو الأخذ بقول الغير من غير حجة، وهذا سبيل العوام.
والترجيح يكون على وفق ما يلي:
اتفق العلماء على وجوب العمل بالنصوص القطعية الثبوت أو الدلالة أو الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة أو البداهة، مثل: وجوب الصلوات الخمس، والصيام، والزكاة، والحج، وأصول الإيمان والإسلام كالنطق بالشهادتين، وتحريم جرائم الزنى، والربا، والسرقة، وشرب الخمر، والقتل وعقوبتها المقدرة لها، والكفارات المقدرة، ونحو ذلك مما دلت عليه آيات القرآن الكريم والأحاديث المتواترة كأحاديث الزكاة، والرجم في رأي بعض العلماء، واتفقوا على العمل بإجماع العلماء. وهذا كله لا مجال للاجتهاد فيه.
أما ما يجوز الاجتهاد فيه: وهو الأحكام التي ورد فيها نص ظني الثبوت والدلالة، أو ظن أحدهما، والأحكام التي لم يرد فيها نص قاطع ولا إجماع، كالأحكام القياسية والمصلحية، والعرفية، فهو مجال الترجيح.
وعلى العلماء أن يأخذوا بما دل عليه ظاهر النص، أو الحديث الصحيح، أو كان محققا لمصلحة تتفق مع جنس المصالح التي بنى الشرع الأحكام عليها، أو تعارف الناس عليها دون تصادم مع نص شرعي.
ولا يجوز للمفتي أو المجتهد أن يفتي برأي ضعيف أو بما يصادم الحديث الصحيح؛ لأن رائده طلب الحق والصواب، دون تأثر بعصبية مذهبية أو انتماء لمدرسة فكرية معينة، مع كون الحق يظهر في اتباع رأي آخر؛ لأن الشرع والعقل يوجبان العلم بالدليل الراجح.
قال شيخ الإسلام: عز الدين بن عبد السلام (1) : ومن العجب العجيب أن الفقهاء المقلدين يقف أحدهم على ضعف مأخذ إمامه، بحيث لا يجد لضعفه مدفعا، وهو مع ذلك يقلد فيه، ويترك من شهد له الكتاب والسنة والأقيسة الصحيحة لمذهبهم، جمودا على تقليد إمامه، بل يتحايل لدفع ظواهر الكتاب والسنة، ويتأولها بالتأويلات البعيدة الباطلة، نضالا عن مقلده.
وقال الإمام أبو شامة في خطبة: " الكتاب المؤمل في الرد إلى الأمر الأول ": ينبغي لمن اشتغل بالفقه ألا يقتصر على مذهب إمام معين، بل يرفع نفسه عن هذا المقام، وينظر في مذهب كل إمام، ويعتقد في كل مسألة صحة ما كان أقرب إلى دلالة الكتاب والسنة المحكمة، وذلك سهل عليه، إذا كان قد أتقن علوم الاجتهاد، وليتجنب التعصب والنظر في طرائق الخلاف المتأخرة؛ فإنها مضيعة للزمان، ولصفوه مكدرة (2) .
وأكد القرافي هذا الاتجاه الصحيح في العمل بآراء المذاهب، فقال: إن الحاكم إن كان مجتهدا، فلا يجوز له أن يحكم أو يفتي إلا بالراجح عنده؛ وإن كان مقلدا، جاز له أن يفتي بالمشهور في مذهبه وأن يحكم به، وإن لم يكن راجحا عنده، مقلدا في رجحان القول المحكوم به إمامه الذي يقلده، كما يقلده في الفتيا. أما الحكم أو الفتيا بما هو مرجوح، فخلاف الإجماع (3) .
(1) قواعد الأحكام: 2 / 135، ط الاستقامة.
(2)
الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض للسيوطي: ص 61؛ وفي معنى ذلك انظر إعلام الموقعين: 4 / 412.
(3)
الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام: ص 79، 80؛ تبصرة الحكام: 1 / 66؛ فتاوى الشيخ عليش: 1 / 64، 68.
خاتمة البحث
يتبين لنا من خلال البحث ما يلي:
1-
العمل بالرخصة (وهي ما شرع من الأحكام استثناء لعذر) أمر مباح مساو للعمل بالعزيمة (وهي الأحكام الأصلية الكلية) وقد تكون مندوبة لحاجة، أو واجبة إذا كانت سببا للحفاظ على الحياة، أو خلاف الأولى عند عدم الحاجة.
2-
العذر المبيح للأخذ بالرخصة: هو الضرورة أو الحاجة أو المشقة أو الإكراه، أوالسفر أو المرض أو الخوف الشديد ونحو ذلك مما يتلاءم مع سماحة الشريعة ويسرها.
3-
وضابط المشقة في العبادات يختلف بحسب كل عبادة تؤثر فيها إسقاطا أو تخفيفا، وأما في المعاملات فهي مرتبة واحدة من المشاق، وهي أدنى المشاق فيها.
4-
والمشقة أو دفع الحرج إنما يعتبر في موضع لا نص فيه. ويصح الفعل مع المشقة إلا إذا أدت إلى الضرر أو احتمال الوقوع في الهلاك بحسب غلبة الظن أو اليقين.
5 – لا مانع من تتبع الرخص أو الأخذ بما هو أهون وأيسر على المكلف للضرورة أو الحاجة، دون تعمد التتبع أو قصد العبث والتلهي، وبشرط ألا يؤدي إلى التلفيق الممنوع.
6-
التلفيق الممنوع ثلاثة أنواع: تتبع الرخص عمدًا، والذي يستلزم نقض حكم الحاكم، والذي يستلزم الرجوع عن الحكم بعد العمل به، أو بعد الأمر اللازم لأمر آخر مجمع عليه.
7-
التلفيق جائز للضرورة أو الحاجة في أحكام الشريعة المبنية على اليسر والسماحة كالعبادات المحضة، وفي الأحكام المبنية على مصالح العباد وسعادتهم كالمعاملات والعقود، وبناء الأسرة، ولا يجوز في العبادات المالية كالزكاة، ولا في المحظورات المبنية على الورع والاحتياط كقضايا الزواج هدما، والعلاقات المشبوهة بين الرجل والمرأة، والمحظورات المتعلقة بحقوق العباد صونا للحق ومنعا للاعتداء.
ويكون ضابط جواز التلفيق ومنعه: هو أن كل ما أفضى إلى تقويض دعائم الشريعة والقضاء على سياستها وحكمتها، فهو محظور، وكل ما أيد دعائم الشريعة وصان حكمتها وسياستها لإسعاد الناس في الدراين بتيسير العبادات عليهم، وصيانة مصالحهم في المعاملات، فهو جائز مطلوب.
8-
على المفتي أو المجتهد التزام ثوابت الشريعة وأحكامها الأساسية، وفي المتغيرات يلزمه اتباع ظاهر الكتاب والسنة، والإفتاء بالراجح من آراء أئمة المذاهب، والترجيح يكون باتباع الحديث الصحيح، ثم مراعاة المصالح الزمنية، والأعراف الصحيحة التي لا تصادم نصوص الشريعة، وملاحظة مبدأ سد الذرائع إلى الفساد والشرور والنزاع؛ لأن العمل بالراجح أمر يوجبه الشرع والعقل.
9-
آن للمقلدين أن يتخلوا عن العصبية المذهبية التي تفرق ولا تجمع، وتضر ولا تنفع؛ لأن الله تعالى إنما تعبدنا بالعمل بالكتاب والسنة وما يرد إليهما.
والحمد لله رب العالمين
ملخص البحث
إن موضوع " الأخذ بالرخص الشرعية وحكمه " من أهم مواضيع العصر التي يسأل عنها كثير من الناس بسبب ميلهم للأخذ بالأخف والأيسر أو الأهون، مع مراعاة قواعد الشريعة وأحكامها العامة، وهو يتناول موضوعات ثلاثة هي: الرخصة وحكمها، وتتبع الرخص، والتلفيق.
أما الرخصة: فهي الحكم الثابت على خلاف الدليل لعذر، والعذر: هو المشقة أو الحاجة، وتطلق في مقابل العزيمة: وهي ما شرع من الأحكام الكلية ابتداء؛ لتكون قانونا عامًّا لكل المكلفين في جميع الأحوال.
ومنشأ الترخيص أو التخفيف في الشريعة الإسلامية: هو الأخذ باليسر والسماحة ودفع الحرج الذي امتازت به على الشرائع السابقة، مراعاة لأحوال الملكفين من الناس، وضمانا لخلود الشريعة وديمومتها وبقائها مع اختلاف الأزمان والعصور.
والأخذ بالرخصة أمر مباح، وقد يصبح مندوبا كقصر الصلاة الرباعية في حال السفر، في رأي الجمهور أو واجبًا في رأي الحنفية، وقد يصبح واجبًا إذا ترتب على الرخص الحفاظ على النفس كضرورات تناول الأطعمة والأشربة في حال الإضرار أو الإكراه. وقد تكون الرخصة حقيقية وهي رخصة الترفيه: وهي التي يكون حكم العزيمة معها باقيا، والدليل قائما كالتلفظ بالكفر في الظاهر عند الإكراه، وإتلاف مال الغير مكرهًا، وقد تكون مجازية: وهي التي لا يكون حكم العزيمة معها باقيا، وإنما يسقط الحكم كإباحة تناول المحرمات، وشرب الممنوع عند الضرورة، وتعاطي المخدرات في حال العلاج أو الدواء، كالعمليات الجراحية. وأمثلة العذر المبيح للترخيص أو التخفيف: الضرورة، والحاجة، والإكراه، والسفر، والمرض، والخوف الشديد نحو ذلك.
وضابط المشاق في المعاملات مرتبة واحدة وهي أدنى المشاق فيها، وفي المعاملات متفاوتة، فلكل عبادة مرتبة معينة من المشاق المؤثرة فيها إسقاطا أو تخفيفا، وتختلف المشاق بالقوة والضعف، وبحسب الأحوال، وبحسب قوة العزائم وضعفها، وبحسب الأزمان، وبحسب الأعمال، وكذلك الصبر على الجوع والعطش يختلف باختلاف هذه الأحوال، لذا أقام الشرع في جملة منها السبب مقام العلة، كالسفر والمرض. وتعتبر المشقة والحرج في موضع لا نص فيه. ويصح الفعل مع تحمل المشقة إلا إذا خشي المكلف الهلاك أو الضرر العظيم. فيجب حينئذ الأخذ بالرخصة، ويعصي إن لم يأخذ بها.
ويباح للإنسان تتبع الرخص أو الأخذ بالأهون والأخف للضرورة أو الحاجة، بشرطين: ألا يتتبع الرخص عمدا، ولا يقصد العبث والتلهي، وألا يؤدي إلى التلفيق الممنوع؛ لأن تتبع الرخص أمر واقع لا مهرب منه في واقع الإفتاء والاستفتاء، حين يسأل الشخص عن حكم مسائل متعددة علماءَ المذاهب، فيفتونه بحسب مذاهبهم.
ومجال التلفيق كالتقليد في المسائل الاجتهادية الظنية، لا في العقائد والأصول التشريعية العامة، وكل ما علم من الدين بالضرورة من متعلقات الحكم الشرعي، وهو كل ما أجمع عليه المسلمون ويكفر جاحده.
وقد ناقشت دعوى إبطال التلفيق من ناحيتين: طريقة المنع، وطريقة إثبات العكس، أما المنع: فإن القول بعدم مشروعية التلفيق يؤدي إلى عدم جواز التقليد الواجب على العوام غير المجتهدين، وإنه لم يثبت على منع التلفيق دليل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن صحابته الكرام، ولا عن أئمة المذاهب، حيث إن التلفيق ظهر الكلام فيه في العهود المتأخرة بعد انتهاء القرن السابع الهجري، ولم ينقل عن الصحابة والتابعين وأئمة الاجتهاد منه العمل بمذهب غيره. وأما إثبات العكس: فهو أنه إذا لم يجب على أحد التزام مذهب معين، كما قرر العلماء، جاز لغير الملتزم التلفيق، وإلا بطلت عبادات العوام وهم أكثر المؤمنين، كل ذلك متفق مع سماحة الشريعة ويسرها.
وأما اشتراط ضرورة مراعاة الخلاف بين المذاهب، فهو أمر عسير على أغلب الناس، سواء في العبادات أو المعاملات، بل هو أمر يتنافى مع سماحة الشريعة ويسرها.
ولم يقم دليل على وجود الإجماع على منع التلفيق، وأيد جواز التلفيق جماعة ثقات من العلماء كالكمال بن الهمام، وابن نجيم المصري، وصاحب الفتاوى البزازية، والشيخ الطرسوسي، وأبو السعود، وابن عرفة، والعلامة العدوي، والفهامة الأمير، والفاضل البيجوري، والشفشاوني وغيرهم.
وأما مجموع العمل المركب من مسألتين، فلم يوجب أحد النظر إليه، في الاجتهاد أو التقليد، وإنما هو اختراع لحكم شرعي ممن ليس أهلا للقول به، ويكون تقليد كل عالم في مسألة منفصلة عن المسألة الأخرى التي قلد فيها عالما آخر. وإنما يعد ذلك من قبيل تداخل أقوال المفتين.
والتلفيق الممنوع ثلاثة أنواع: تتبع الرخص عمدا، والذي يستلزم نقض حكم الحاكم، والذي يؤدي إلى الرجوع عن الأمر بعدما عمل به تقليدا لمجتهد.
ويكون التلفيق جائزا للضرورة أو الحاجة في العبادات المبنية على التسامح، وأحكام العقود والمعاملات القائمة على رعاية المصالح وتحقيق سعادة العباد. وضابط التلفيق: هو أن كل ما أفضى إلى تقويض دعائم الشريعة والقضاء على سياساتها وحكمتها، فهو محظور، وكل ما أيد دعائم الشريعة، وصان حكمتها وسياستها لإسعاد الناس في الدارين، فهو جائز مطلوب.
ثم ذكرت أن ما أنجزه أئمة المذاهب ثروة فقهية خصبة لا نظير لها ولا مثيل في التاريخ، وأن هؤلاء الأئمة بذلوا أقصى جهودهم لإصابة الحق والصواب، فجزاهم الله عن الأمة خير الجزاء، لكن الحق لا يتعدد، وكل اجتهاد عرضة للخطأ والصواب، ويجب علينا العمل بما يتفق مع ظواهر القرآن والسنة وإجماع الأمة، وبما كان الاعتماد في الرأي على حديث صحيح، لا ضعيف، وفي غير ذلك نعمل بما يلائم المصلحة والعرف، ويتفق مع الحاجات الزمنية المتجددة، مع التزام مبدإ إحقاق الحق وإبطال الباطل، ورعاية مضمون القاعدة الشرعية " لا مساغ للاجتهاد في مورد النص ".
الدكتور: وهبة مصطفى الزحيلي
التوصية المقترحة
الصادرة عن المجمع في موضوع البحث
أ – لا حرج ولا جناح على أحد بالعمل بالرخص الشرعية لعذر أو مشقة غير محتملة عادة، ويترك أمر تقدير المشقة في العبادات للمكلف، ويكتفى في المعاملات بأدنى المشاق، وقد تصير الرخصة أمرا مندوبا أو واجبا أو خلاف الأولى.
ب – ولا مانع من تتبع رخص المذاهب الشرعية والأخذ بالأهون والأيسر أو الأخف للضرورة أو الحاجة، دون قصد تتبع الرخص عمدا من غير مسوغ، وبشرط ألا يؤدي ذلك إلى التلفيق الممنوع شرعا، لإخلاله بواجب احترام أحكام الشريعة.
ج – التلفيق الممنوع: هو ما أدى إلى تتبع الرخص عمدا، أو استلزم نقض حكم الحاكم، أو الرجوع عما عمل به تقليدا، أو عن أمر مجمع عليه لازم لأمر قلده معتبر شرعًا.
د – التلفيق جائز للضرورة، أو الحاجة في أحكام الشريعة المبنية على اليسر والسماحة كالعبادات المحضة غير المالية، وفي أحكام المعاملات القائمة على مبدإ رعاية المصالح ودفع المضار والمفاسد، ما لم يؤد كل ذلك إلى تقويض دعائم الشريعة والقضاء على سياستها وحكمتها لإسعاد الناس في الدارين.
هـ – على المفتي أو المجتهد أو المقلد التزام ثوابت الشرعية وأحكامها الأساسية، وله في مجال الأحكام القياسية المصلحية أو العرفية مراعاة المصالح الزمنية، والأعراف التي لا تصادم نصا شرعيًّا، وملاحظة سد الذرائع إلى المفاسد والمضارِّ، ولا بد في الترجيح بين الآراء من التزام ظاهر القرآن والسنة، والعمل بالحديث الصحيح، وعدم الخروج عن الإجماع. ولا داعي للعصبية المذهبية بعدئذ.
أهم المصادر
- كشف الأسرار على أصول البزدوي ومعه نور الأنوار، طبع مكتب الصنايع، 1307هـ.
-مرآة الأصول في شرح مرقاة الوصول، مطبعة البوسنوي، 1302 هـ.
- شرح عضد الملة والدين على مختصر المنتهى لابن الحاجب، المطبعة الأميرية.
- الموافقات للشاطبي، المكتبة التجارية بمصر.
- فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت في أصول الفقه، مطبعة بولاق 1322 هـ.
- أصول الشاشي، طبع دلهي، 1303 هـ.
- الإحكام في أصول الأحكام للآمدي، مطبعة صبيح بالقاهرة، 1347 هـ.
- الفروق للقرافي، الطبعة الأولى: 1345 هـ.
- الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام للقرافي، ط حلب، سوريا.
- قواعد الأحكام في مصالح الأنام لشيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام، ط الاستقامة.
- تبصرة الحكام، ط البابي الحلبي بمصر.
- فتاوى الشيخ عليش، طبع مصر.
- غاية الوصول شرح لب الأصول لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري، مطبعة البابي الحلبي، 1354 هـ.
- حاشية البناني على شرح جلال الدين المحلي على جمع الجوامع لابن السبكي، المطبعة الأميرية.
- نهاية السول شرح منهاج الوصول إلى الأصول، مطبعة صبيح.
- رسائل ابن عابدين، طبع محمد هاشم الكتبي بدمشق.
- الأشباه والنظائر للسيوطي، المكتبة التجارية بمصر.
- المستصفى للغزالي، المكتبة التجارية بمصر.
- الإبهاج للسبكي، مطبعة التوفيق الأدبية.
- التقرير والتحبير لابن أمير الحاج، مطبعة بولاق، 1316 هـ.
- إعلام الموقعين لابن قيم الجوزية، تحقيق محيي الدين عبد الحميد.
- روضة الناظر وجنة المناظر في أصول الفقه، المطبعة السلفية بمصر، 1342 هـ.
- الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض للسيوطي، طبع الجزائر، 1325 هـ.
- مخطوط قواعد الزركشي في المكتبة الظاهرية بدمشق.
- البحر المحيط للزركشي، طبع وزارة الأوقاف بالكويت.
- المدخل إلى مذهب الإمام أحمد لابن بدران، إدارة الطباعة المنيرية بمصر.
- المدخل الفقهي العام للأستاذ الشيخ مصطفى الزرقاء، الطبعة السابعة بدمشق.
- أصول الفقه الإسلامي للدكتور وهبة الزحيلي، مطبعة دار الفكر بدمشق.
- الضوابط الشرعية للأخذ بأيسر المذاهب للدكتور وهبة الزحيلي، دار الهجرة بدمشق.
- عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق للشيخ محمد سعيد الباني، مطبعة حكومة دمشق، 1341 هـ.
- بحوث المؤتمر الأول لمجمع البحوث الإسلامية بمصر.