المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الأخذ بالرخصةإعدادأ. د. حمد عبيد الكبيسي - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ٨

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد الثامن

- ‌الأخذ بالرخص الشرعية وحكمهإعدادالدكتور: وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌موضوع: " الأخذ بالرخص الشرعية وحكمه

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادالدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادالشيخ خليل محيي الدين الميس

- ‌الرخصة (التلفيق)إعدادالشيخ خليل محيي الدين الميس

- ‌التلفيق والأخذ بالرخصة وحكمهماإعدادحجة الإسلام الشيخ محمد علي التسخيري

- ‌الأخذ بالرخص الشرعية وحكمهإعدادمحمد رفيع العثماني

- ‌حكمالرخصة وتتبع الرخصفي الفقه الإسلامي

- ‌الأخذ بالرخصةإعدادأ. د. حمد عبيد الكبيسي

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادالشيخ مجاهد الإسلام القاسمي

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادأ. د. عبد العزيز عزت الخياط

- ‌الرخصةإعدادالشيخ محمد الشيباني بن محمد بن أحمد

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهتتبع الرخص – التلفيق ورأي الفقهاء فيهإعدادفضيلة الشيخ مصطفى كمال التارزي

- ‌الأخذ بالرخص وحكمهإعدادالشيخ الطيب سلامة

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادالدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين

- ‌الأخذ بالرخص وحكمهإعدادالدكتور أبو بكر دوكوري

- ‌بيع العربُونإعدادفضيلة الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌بيع العربُونإعدادالدكتور وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌بيع العربونإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌بيع المزايدةإعدادفضيلة الشيخ محمد المختار

- ‌عقد المزايدةبين الشريعة الإسلامية والقانوندراسة مقابلةمع التركيز على بعض القضايا المعاصرةإعدادعبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان

- ‌قواعد ومسائلفيحوادث السيرإعدادالقاضي محمد تقي العثماني

- ‌ موضوع "حوادث السير

- ‌حوادث السيرإعدادد. عبد الله محمد عبد الله

- ‌حوادث السيرإعدادالشيخ عبد القادر محمد العماري

- ‌حوادث السيرإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌التطبيقات الشرعيةلإقامة السوق الإسلاميةإعدادالدكتور علي محيي الدين القره داغي

- ‌التطبيقات الشرعيةلإقامة السوق الإسلاميةإعدادالأستاذ الدكتور / علي السالوس

- ‌الائتمان المولد على شكل بطاقةمع صيغة مقترحة لبطاقة ائتمانية خالية من المحظورات الشرعيةإعدادسعادة الدكتور محمد القري بن عيد

- ‌بطاقات الائتمانإعدادالشيخ حسن الجواهري

- ‌سر المهنة الطبية بين الكتمان والعلانيةإعدادالدكتور أحمد رجائي الجندي

- ‌مسؤولية الطبيبإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌مداواة الرجل للمرأةوالمرأة للرجلإعدادالدكتور محمد علي البار

- ‌نقص المناعة المكتسبة (الإيدز)الأحكام المتعلقة بالمرضى والمصابينإعدادأ. د. مصطفى عبد الرؤوف أبو لسان

- ‌بعض المشاكل الأخلاقية والاجتماعيةالناتجة عن مرض الإيدز(نقص المناعة المكتسبة)إعدادالدكتور محمد علي البار

- ‌مرض الإيدز(نقص المناعة المكتسبة)أحكامه وعلاقة المريض الأسرية والاجتماعيةإعدادالدكتور سعود بن مسعد الثبيتي

- ‌التداوي بالمحرماتإعدادالدكتور محمد علي البار

- ‌بحوث مجمعية

- ‌حُسن وفاء الديونوعلاقته بالربط بتغير المستوى العام للأسعارإعدادالدكتور صالح بن زابن المرزوقي البقمي

- ‌ربط الأجور بتغير المستوى العام للأسعارفي ضوء الأدلة الشرعيةإعدادد. حمزة بن حسين الفعر

- ‌الربط القياسي للأجور بالمستوى العام للأسعارتحليل من منظور إسلامي لمشكلة الأجورفي ظل التضخم والعلاج المقترحإعدادد. عبد الرحمن يسري أحمد

- ‌التضخم والربط القياسيدراسة مقارنة بين الاقتصاد الوضعيوالاقتصاد الإسلاميإعدادالدكتور شوقي أحمد دنيا

- ‌ربط الأجور بتغير المستوى العام للأسعاربين الفقه والاقتصادإعدادد. محمد أنس الزرقا

- ‌ندوة قضايا العملةالربط القياسي للديون بعملة اعتباريةإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌ملاحظات أساسيةفي مسألة ربط الأجور والمستحقاتإعدادالدكتور سيف الدين إبراهيم تاج الدين

- ‌مشاكل البنوك الإسلاميةمحاورإعدادمجموعة دلة البركة

- ‌مشاكل البنوك الإسلاميةمحاورإعدادبيت التمويل الكويتي

- ‌الصعوبات التي تواجه البنوك الإسلاميةوتصورات لكيفية مواجهتهاإعدادأ. د. إسماعيل حسن محمد

- ‌مشاكل البنوك الإسلاميةعقد السلم ودوره في المصرف الإسلاميإعدادالشيخ صالح الحصين

- ‌مشكلات البنوك الإسلامية في الوقت الحاضرإعدادد. محمد نجاة الله صديقي

- ‌في مشكلات المصارف الإسلاميةإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌حكم المشاركة في أسهم الشركات المساهمةالمتعاملة بالرباتجربة مجموعة دلة في أسلمة الشركاتعن طريق شراء أسهمهاإعدادالشيخ صالح عبد الله كامل

- ‌المشاركة في شركات تتعامل بالحرامإعدادالشيخ عبد الله بن بيه

الفصل: ‌الأخذ بالرخصةإعدادأ. د. حمد عبيد الكبيسي

‌الأخذ بالرخصة

إعداد

أ. د. حمد عبيد الكبيسي

عميد المعهد الإسلامي لإعداد الدعاة

بغداد

بسم الله الرحمن الرحيم

الأخذ بالرخصة

1-

تعريف الرخصة:

أما في اللغة: فالرخصة في الأمر خلاف التشديد، والرخص ضد الغلاء. ورخصت في كذا أذنت بعد نهي. والرخص الناعم اللين (1) .

ونقل الآمدي عن أهل اللغة أن الرخصة التيسير والتسهيل (2) .

وأما في الاصطلاح: فهي: "الحكم الثابت على خلاف الدليل لعذر "(3) .

فـ " الحكم ": جنس في التعريف.. و " الثابت على خلاف الدليل ": قيد أول، أشير فيه " بالثابت " إلى أن الترخيص لا بد له من دليل وراء العذر، وإلا لزمت مخالفة الدليل السالم من المعارض، وأريد بالدليل: الدليل الشرعي القائم، أي السالم من النسخ والمعارضة المسقطة. ويحترز بهذا القيد عن الحكم الذي لم يخالف دليلاً شرعيا أصلاً. أو يخالف دليلاً شرعيا لكنه منسوخ، أو عام لحقه تخصيص.

وتصوير النوع الأول بأن لم يرد دليل على المنع أصلاً لا عام ولا خاص. كحل المنافع التي ورد الشرع بإباحتها من أكل وشرب ولبس وما إليها بناء على الراجح من أن الأصل في المنافع الحل.

وتصوير النوع الثاني بأن يرد دليل على المنع لكنه منسوخ كما في جواز فرار الواحد من أكثر من مقاتلين في الجهاد. أو بأن يكون هناك عام معارض بخاص، كما في منع قتل المستأمن على خلاف ما يقضي به عموم الآية. {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36] .

فهذا كله ليس ثابتًا على خلاف الدليل القائم بل على وفقه. فليس من الرخصة في شيء.

وورد في التعريف قيد ثان وهو "العذر " أعم من الضرورة كما في أكل الميتة. أو المشقة كما في فطر المسافر، أو الحاجة كما في بيع السلم.

(1) لسان العرب 8 / 306.

(2)

الإحكام في أصول الأحكام: 1 / 188.

(3)

الإسنوي على المنهاج: 70/1، وأصول السرخسي: 1 / 117.

ص: 192

وقد احترز به عن:

أ- جميع التكاليف، فإنها ثابتة على خلاف الدليل. إذ الأصل عدم التكليف لكن ثبوتها لا لعذر بل للابتلاء.

ب- كل حكم ثبت لمانع لا لعذر. كما في ترك الحائض الصوم ونحوه، إذ العذر لدينا في المشروعية، كالسفر والمرض مع الصوم (1) .

وقد عرف بعض الأصوليين الرخصة بأنها: ما تغير من عسر إلى يسر لعذر مع قيام السبب للحكم الأصلي (2) . أو: ما شرع لعذر شاق استثناء من أصل كلي يقتضي المنع مع الاقتصار على مواضع الحاجة فيه (3) . وهم بهذا إنما يريدون وضع تعريف يعم الرخصة الحقيقية والمجازية. وهل الرخصة من أقسام الحكم الوضعي؟ إلى هذا ذهب بعض الأصوليين (4) . وذهب بعضهم إلى أنها من أقسام الحكم التكليفي، بينما ذهب فريق إلى أنها تدخل في تقسيم فعل المكلف.

والتحقيق أن الخلاف في هذا لفظي لا تترتب عليه ثمرة سوى المنهجية في الكتابة والتبويب (5) .

فالعزيمة والرخصة ينقسم الحكم إليهما باعتبار كونه على وفق الدليل القائم أو على خلافه. وفي كل من الرخصة والعزيمة يوجد من الشارع جعل الشيء (العذر أو عدمه) سببًا في حكم تكليفي.

فمن نظر إلى الجعل ذهب إلى أن الرخصة قسم للحكم الوضعي، ومن نظر إلى الحكم المسبب ذهب إلى أنها قسم للحكم التكليفي.

وفي هذا يقول (الكمال بن الهمام) : "وقيل للشارع في الرخص حكمان: كونها وجوبًا أو ندبًا أو إباحة وهو من أحكام الاقتضاء والتخيير. وكونها مسببة عن عذر طارئ في حق المكلف يناسب تخفيف الحكم عليه مع قيام الدليل على خلافه؛ وهو من أحكام الوضع لأنه حكم بالمسببية ولا بدع في جواز اجتماعهما في شيء واحد من جهتين "(6) .

(1) الإسنوي 1 / 71. والقرافي.

(2)

جمع الجوامع: 1 / 119 – 120. التقرير والتحبير: 2 / 148. المستصفى: 1 / 98. ومسلم الثبوت 10/ 119.

(3)

الموافقات: 1 / 301.

(4)

الموافقات: 1 / 187.

(5)

كتابنا أصول الأحكام: 198.

(6)

التقرير والتحبير: 2/ 153.

ص: 193

2-

أنواع الرخص:

لما كانت الرخص مبنية على أعذار العباد، وأعذارهم مختلفة؛ اختلفت أنواع الرخص فانقسمت بالاستقراء لأنواع أربعة:

الأول: إباحة الفعل المحظور عند الضرورة أو الحاجة، كإباحة التلفظ بكلمة الكفر مع اطمئنان القلب بالإيمان إذا أكره المؤمن على ذلك. لقول الله تعالى {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] .

والعمل بالعزيمة في هذه الحالة أولى من العمل بالرخصة لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الأسيرين اللذين أخذهما مسيلمة الكذاب (1) : ((أما الأول فقد أخذ برخصة الله، وأما الثاني فقد صدع بالحق فهنيئًا له)) .

ومن هذا أيضًا: إباحة أكل الميتة عند الضرورة لدفع المخمصة لقول الله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] .

وقد اختلف الفقهاء في حكم الميتة والخمر والخنزير ونحوها في حالة الاضطرار أنها تصير مباحة أو تبقى على الحرمة ويرتفع الإثم.

فذهب بعضهم إلى أنها لا تحل ولكن يرخص الفعل في حالة الاضطرار إبقاء للمهجة كما في الإكراه على الكفر وأكل مال الغير. وهو رواية عن أبي يوسف وأحد قولي الشافعي. وذهب أكثر الأصوليين من الحنفية إلى أن الحرمة ترفع في هذه الحالة ويصير الأكل مباحًا (2) .

الثاني: إباحة ترك الواجب وتأخير أدائه عن وقته، كإباحة الفطر في رمضان لمن كان مسافرًا أو مريضًا.

والعمل بالعزيمة في هذا النوع أولى. إلا أن يؤدي العمل بها إلى الضرر فيكون الأخذ بالرخصة أولى (3) .

والإباحة المذكورة في هذين النوعين لا يراد بها الإباحة الاصطلاحية، بل يراد بها رفع الحرج وتجويز الفعل – أعم من أن يكون بطريق التساوي بين الفعل والترك أو بدونه، فيشمل الإباحة الاصطلاحية والوجوب والندب بطريق الرجوع إلى عزيمة أصلية لا إلى الرخصة بعينها (4) .

وقد بين الإسنوي وجه الشمول فقال: " الرخصة واجبة ومندوبة ومباحة ".

(1) كشف الأسرار على البزدوي 2 / 316، والقرطبي: 10 / 189 من رواية الحسن البصري مرسلاً.

(2)

كشف الأسرار على البزدوي: 2 / 322.

(3)

كشف الأسرار: 2 / 30. والتلويح: 2 / 128.

(4)

الموافقات للشاطبي: 1 / 307 – 318.

ص: 194

فالواجبة كأكل الميتة للمضطر على الصحيح المشهور في مذهبنا (الشافعي) .

والمندوبة فكالقصر للمسافر بشرطه المعروف.

وأما المباح فالصواب تمثيله بالسلم والعرايا والإجارة والمساقاة وشبه ذلك من العقود فإنها رخصة بلا نزاع، لأن السلم والإجارة عقدان على معدوم مجهول، والعرايا بيع الرطب بالتمر فجوزت للحاجة إليها، فهي مباحة لا طلب في فعلها ولا في تركها (1) .

الثالث: تصحيح بعض العقود والتصرفات بطريق الاستثناء من أصل كلي يقتضي المنع. كما في السلم. فبالرغم من أنه بيع لما ليس عند الإنسان الذي ورد النهي عنه بقوله عليه السلام: ((ولا يحل بيع ما ليس عندك)) (2) فقد ورد الترخيص فيه استثناء من القاعدة العامة في البيوع لحاجة الناس إلى هذا النوع من العقود.

وهذا النوع عدة الحنفية مما يطلق عليه اسم الرخصة مجازًا وهو إلى حقيقة الرخصة أقرب (3) .

الرابع: إطلاق الرخصة على ما وضع عن أمتنا من التكاليف الغليظة والأعمال الشاقة التي كانت مشروعة على الأمم السالفة.

وهذا الإطلاق مجازي وهذا النوع بعيد عن حقيقة الرخصة الاصطلاحية (4) . وفيه يقول البزدوي: " وأما أتم نوعي المجاز فما وضع عنا من الإصر والأغلال. فإن ذلك يسمى رخصة مجازًا. لأن الأصل ساقط لم يبق مشروعًا فلم يكن رخصة إلا مجازًا من حيث هو نسخ تمحض تخفيفًا "(5) .

وقد قسم بعض الأصوليين من الحنفية الرخصة إلى قسمين: رخصة ترفيه ورخصة إسقاط. وفرقوا بينهما بأن رخصة الترفيه يكون حكم العزيمة فيها باقيًا ودليله قائمًا. مثل الفطر في رمضان بسبب السفر والتلفظ بعبارات الردة بسبب الإكراه.

أما رخصة الإسقاط فلا يكون حكم العزيمة معها باقيًا. بل إن الحال التي اقتضت الترخيص أسقطت حكم العزيمة وجعلت الحكم المشروع فيها هو الرخصة فقط. مثل قصر الصلاة في السفر. إذ المسافر سقطت عنه الأربع. ولو صلاها كانت الركعتان الأخيرتان نافلة (6) .

(1) شرحه على منهاج البيضاوي: 1 / 71 – 72. وجمع الجوامع: 1 / 121.

(2)

جزء من حديث أصحاب السنن وصححه الترمذي. راجع الموافقات: 1 / 304.

(3)

البزدوي: 3 / 321.

(4)

المستصفى: 1 / 98.

(5)

أصوله مع كشف الأسرار: 2 / 320. والموافقات 10 / 304.

(6)

كشف الأسرار: 2 / 322 – 325. والتلويح: 2 / 129 – 130.

ص: 195

وإذا كنا في عرضنا لتقسيمات الرخصة عرضًا أوليًّا تختفي معه الاختلافات فإن هذا لا يعني أن المسألة اتفاقية وأن الخلاف معدوم؛ إذ قضية كهذه، للاصطلاح فيها دخل، وللمنهجية والذوق فيها اعتبار: لا يمكن إلا أن تكون محل خلاف وتفاوت.

وقد وجدنا الأصوليين تتفاوت طريقتهم في قضية تقسيم الرخصة وبيان أنواعها. وحسبي أن أستوفي طرائق أربعة منهم هم: البزدوي، والغزالي، والبيضاوي، والشاطبي.

فالبزدوي يرى أن الرخص أربعة:

نوعان من الحقيقة أحدهما أحق من الآخر.

ونوعان من المجاز أحدهما أتم من الآخر.

1-

أما أحق نوعي الحقيقة فما استبيح مع قيام المحرم وقيام حكمه جميعًا. فهو الكامل في الرخصة مثل المكره على إجراء كلمة الكفر أنه يرخص له إجراؤها والعزيمة في الصبر. وكذلك الذي يأمر بالمعروف إذا خاف القتل.

2-

وأما الثاني فما يستباح بعذر مع قيام السبب موجبًا لحكمه غير أن الحكم متراخ. مثل المسافر رخص له أن يفطر بناء على سبب تراخي حكمه.

3-

وأما أتم نوعي المجاز فما وضع عنا من الإصر والأغلال، فإن ذلك يسمى رخصة مجازًا لأن الأصل ساقط لم يبق مشروعًا فلم يكن رخصة إلا مجازًا من حيث هو نسخ تمحض تخفيفًا.

4-

وأما القسم الرابع فما سقط عن العباد مع كونه مشروعًا في الجملة. فمن حيث سقط أصلاً كان مجازًا. ومن حيث بقي مشروعًا في الجملة كان شبيهًا بحقيقة الرخصة (1) . ومثل له برخصة السلم.

والغزالي يرى أن الرخصة تطلق حقيقة ومجازًا.

1-

فالحقيقة في الرتبة العليا كإباحة النطق بكلمة الكفر بسبب الإكراه.

2-

وأما المجاز البعيد عن الحقيقة فتسمية ما حط عنا من الإصر والأغلال التي وجبت على من قبلنا في الملل المنسوخة رخصة.

3-

ويتردد بين هاتين الدرجتين صور بعضها أقرب إلى الحقيقة وبعضها أقرب إلى المجاز (2) . وذكر منها القصر والفطر في حق المسافر.

والبيضاوي يرى أن الرخصة تنقسم إلى ثلاثة أقسام: واجبة. ومندوبة، ومباحة. فالواجبة كأكل الميتة للمضطر. وأما المندوبة فكالقصر للمسافر بشرطه. وأما المباحة فكالفطر للمسافر. وعقب الإسنوي على التمثيل للمباح فقال: والصواب تمثيله بالسلم والعرايا (3) .

(1) أصوله مع كشف الأسرار: 2 / 315 – 322.

(2)

المستصفى: 1 / 98.

(3)

الإسنوي على المنهاج: 1 / 71 – 72.

ص: 196

والشاطبي يرى أن الرخصة تطلق بإطلاقات أربعة:

الأول: ما شرع لعذر شاق استثناء من أصل كلي يقتضي المنع مع الاقتصار على مواضع الحاجة فيه.

الثاني: ما استثني من أصل كلي يقتضي المنع مطلقًا من غير اعتبار بكونه لعذر شاق.

الثالث: ما وضع عن هذه الأمة من التكاليف الغليظة والأعمال الشاقة.

الرابع: ما كان من المشروعات توسعة على العباد مطلقًا مما هو راجع إلى نيل حظوظهم وقضاء أوطارهم. فإن العزيمة الأولى هي التي نبه عليها قول الله {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] فإذا وهب لهم حظًا ينالونه فذلك كالرخصة لهم لأنه توجه إلى غير المعبود، واعتناء بغير ما اقتضته العبودية (1) .

ولعل الفرق بين هذه التقسيمات يعود إلى أسباب مصلحية رآها المجتهدون في آحاد المسائل وأحكام النوازل (2) ، واعتبارات فنية في التبويب ومنهجيته.

3-

ضوابط الأخذ بالرخصة:

تكمن هذه الضوابط في ثبوت دليل الرخصة وقيام أسبابها وعللها مع التثبت من تحقق دواعيها أعم من أن تكون هذه الدواعي ضرورة أو حاجة أو ترفيها.

ومن هذا السلم مثلاً. فإنه رخصة تستند إلى دليل من السنة بما رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين فقال ((من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)) (3) . في مقابل النهي عن بيع ما ليس عند البائع الوارد في حديث حكيم بن حزام قال: قلت يا رسول الله، يأتيني الرجل فيسألني عن البيع ليس عندي ما أبيعه منه ثم أبتاعه من السوق؛ فقال:((لا تبع ما ليس عندك)) (4) .

وما ورد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك)) (5) .

ومثل هذه الرخص المنصوص عليها بأعيانها يقاس عليها عند أغلب القائلين بالقياس. فقد قاسوا صحة بيع العنب بالزبيب على بيع العرايا المرخص بها في الحديث. ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمر بالتمر ورخص في العرايا أن يشترى بخرصها يأكلها أهلها رطبًا)) (6) .

(1) الموافقات: 1 / 301 – 305.

(2)

المستصفى: 1 / 99.

(3)

حديث صحيح. رواه الجماعة.

(4)

حديث صحيح. رواه الجماعة.

(5)

صححه النسائي وابن ماجه. انظر نيل الأوطار: 5 / 252.

(6)

متفق عليه.

ص: 197

ومنع بعض الحنفية القياس على الرخص بأنها منح من الله تعالى فلا تتعدى فيها مواردها (1) .

والراجح جواز القياس إذا وجدت أركانه وشرائطه بأن الأدلة الدالة على حجية القياس غير مختصة بنوع من الأحكام دون نوع (2) .

على أن الخلاف في حقيقة الأمر يعود إلى التسمية والتلقيب، حيث أجرى هؤلاء الحنفية القياس فيما يسميه الجمهور رخصة، وقالوا: هذا ليس من القياس، وإنما من باب ما في معنى الأصل (3) .

ومن ضوابط العمل بالرخصة أن لا يكون الحرج الداعي لها ناتج عن معصية فإن الرخصة نعمة وتيسير، والنعمة لا تناط بالمعصية.

ومن أجل هذا الضابط اختلف الفقهاء في تناول المحرمات للضرورة وقصر الصلاة وفي الرخص بالفطر في سفر المعصية.

فذهب الحنابلة والشافعية وغيرهم إلى اعتبار هذا الضابط: قال ابن قدامة ليس للمضطر في سفر المعصية الأكل من الميتة كقاطع الطريق. وقال سعيد بن جبير: إذا خرج يقطع الطريق فلا رخصة له. فإن تاب وأقلع عن معصيته حل له الأكل (4) .

ويقول ابن حزم: "ومن كان في سبيل معصية كسفر لا يحل أو قتال لا يحل فلم يجد شيئًا يأكله إلا الميتة لم يحل له أكله حتى يتوب"(5) .

ويقول ابن قدامة في أبواب القصر: ولا تباح هذه الرخص في سفر المعصية. نص عليه أحمد. وهذا قول الشافعي (6) .

والمالكية والحنفية لم يفرقوا بين سفر المعصية وغيره. وخالف ابن حزم مسلكه – الذي قدمناه في قصر الصلاة للعاصي بسفره؛ إذ القصر عنده واجب – ونص على أنه يقصر المسافر ولو كان لمعصية (7) وذهب إلى فرض الفطر في السفر طاعة أو معصية (8) .

والراجح اشتراط أن لا يكون في معصية. لأن الله سبحانه قال: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] .

(1) الإسنوي على المنهاج: 3 / 35.

(2)

الإسنوي على المنهاج: 3 / 34.

(3)

الإسنوي على المنهاج: 3 / 35.

(4)

المغني: 9 / 414.

(5)

المحلى: 8 / 331.

(6)

المغني: 2 / 216.

(7)

المحلى: 4/ 264.

(8)

المحلى: 6 / 243.

ص: 198

ومن الضوابط أن لا يتوسع فيما يستند من تناول المحظور إلى الضرورة لأن الضرورة تقدر بقدرها (1) .

فذهب الحنفية والحنابلة وأكثر الشافعية وبعض المالكية إلى عدم إباحة ما زاد على ما تدعو إليه الحاجة ويسد به الرمق ويندفع الهلاك.

وذهب جمهور المالكية ورواية عند الحنابلة إلى إباحة التناول إلى الشبع.

يقول ابن قدامة: وفي الشبع روايتان: أظهرهما لا يباح وهو قول أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن مالك وأحد القولين للشافعي

لأنه بعد سد الرمق غير مضطر. والثانية يباح له الشبع

ويحتمل أن يفرق بين ما إذا كانت الضرورة مستمرة وبين ما إذا كانت مرجوة الزوال (2) .

وهناك ضابط انفرد الشاطبي بالتصريح به وهو طمأنينة نفس المترخص للعمل بالرخصة. فقال: إن الرخصة إضافية لا أصلية، بمعنى أن كل أحد في الأخذ بها فقيه نفسه ما لم يوجد فيها حد شرعي فيوقف عنده (3) .

ويوضح الشاطبي مقصده بأن " المشاق تختلف بالقوة والضعف وبحسب الأحوال، وبحسب قوة العزائم وضعفها. وبحسب الأمان وبحسب الأعمال

ولذلك أقام الشرع في جملة منها (الرخص) السبب مقام العلة (ويقصد بالعلة الحكمة) فاعتبر السفر لأنه أقرب مظان وجود المشقة. وترك كل مكلف على ما يجد. وترك كثيرًا منها موكولاً إلى الاجتهاد

فإذًا ليست أسباب الرخص بداخلة تحت قانون أصلي ولا ضابط مأخوذ باليد، بل هو إضافي بالنسبة إلى كل مخاطب في نفسه. فمن كان من المضطرين معتادًا للصبر على الجوع ولا تختل حاله بسببه كما كانت العرب وكما ذكر عن الأولياء، فليست إباحة الميتة له على وزان من كان بخلاف ذلك " (4) .

وهذا الذي رآه الشاطبي دقيق وسديد حيث أناط الأخذ بالرخصة وترك العزيمة إلى فقه الآخذ وطمأنينة قلبه وذمته ودينه.

وكأن الشاطبي في هذا الذي انفرد به إنما يأخذ مذهبه من فقه الحديث النبوي عن وابصة بن معبد قال: ((جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله عن البر والإثم فقال: جئت تسأل عن البر والإثم؟ فقلت والذي بعثك بالحق ما جئت أسألك عن غيره، فقال: البر ما انشرح له صدرك، والإثم ما حاك في صدرك وإن أفتاك عنه الناس)) (5) .

(1) الأشباه والنظائر للسيوطي: 84.

(2)

المغني: 412 – 413 والبجيرمي على المنهج 4 / 307، والدسوقي: 2 / 115، وتفسير القرطبي: 2 / 210، والإباحة عند الأصوليين للأستاذ سلام مدكور:350.

(3)

الموافقات: 1 / 314.

(4)

الموافقات: 1 / 315.

(5)

مسند الإمام أحمد: 4 / 194 و 224. وسنن الدارمي: 2 / 246.

ص: 199

4-

تتبع الرخص:

لم يختلف الفقهاء والأصوليون في جواز تتبع الرخص الشرعية الثابتة بالكتاب والسنة إذا تحققت دواعيها:

لعمومات قول الله سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] .

وقول الله سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28] .

ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه)) (1) .

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: من حديث ابن عباس: ((إن الله عز وجل يحب أن تؤتى رخصه كما يجب أن تؤتى عزائمه)) (2) .

لكنهم اختلفوا في تتبع رخص المذاهب الاجتهادية وما يتصل بها من استحسانات وحيل شرعية جلبًا لليسر ودفعًا للعسر عن المكلفين.

فذهب بعضهم إلى الجواز، وبعضهم إلى المنع، وبعضهم إلى الجواز بشروط.

أ- مذهب جواز الرخص:

ذهب بعض الحنفية إلى جواز اتباع رخص المذاهب. لعدم وجود مانع شرعي يمنع منه، ولأن الإنسان له أن يسلك المسلك الأخف عليه إن كان له إليه سبيل. يقول ابن أمير الحاج: إن مثل هذه التشديدات التي ذكروها في المنتقل من مذهب إلى مذهب إلزامات منهم لكف الناس عن تتبع الرخص وإلا فأخذ العامي بكل مسألة بقول مجتهد يكون قوله أخف عليه لا أدري ما يمنع منه عقلاً وشرعًا (3) .

وإلى الجواز ذهب العز بن عبد السلام من الشافعية. فهو يقول: لا يتعين على العامي إذا قلد إمامًا في مسألة أن يقلده في سائر مسائل الخلاف لأن الناس من لدن الصحابة إلى أن ظهرت المذاهب يسألون فيما يسنح لهم العلماء المختلفين من غير نكير، سواء اتبع الرخص في ذلك أو العزائم (4) .

ب – مذهب منع تتبع الرخص:

ذهب جمهور الفقهاء إلى منع تتبع الرخص في المذاهب. يقول الإمام الغزالي: إن العامي ليس له أن ينتقي من المذاهب من كل مسألة أطيبها عنده (5) .

ويرى ابن السبكي أنه: " يمتنع تتبع الرخص في المذاهب بأن يأخذ من كل منها ما هو الأهون فيما يقع من المسائل ". وحكى الجلال المحلي الخلاف في تنسيق هذا المتتبع (6) .

ويقول الشوكاني: "أما لو اختار المقلد من كل مذهب ما هو الأهون عليه والأخف له فقال أبو إسحاق المروزي: يفسق، وقال ابن أبي هريرة: لا يفسق لأنه متأول "(7) .

(1) أخرجه البخاري. انظر الفتح 1 / 93 سلفه.

(2)

معجم الطبراني: 11/ 255 ط ثانية والحديث حسنه المنذري في الترغيب ووثق رجاله صاحب مجمع الزوائد.

(3)

العطار على جمع الجوامع: 2 / 442.

(4)

العطار على جمع الجوامع: 2 / 442.

(5)

المستصفى: 2 / 391.

(6)

جمع الجوامع مع حاشية العطار: 2 / 441.

(7)

إرشاد الفحول 253.

ص: 200

والشاطبي أحد الأعلام الذين ذهبوا إلى منع تتبع الرخص حيث خصص صفحات من كتابه الموافقات لهذا الغرض. فيقول: ومتى خيرنا المقلدين في مذاهب الأئمة لينتقوا منها أطيبها عندهم لم يبق لهم مرجع إلا اتباع الشهوات في الاختيار، وهذا مناقض لمقصد وضع الشريعة. فلا يصح القول بالتخيير على حال (1) .

وكشف عن وجه المنع من تتبع رخص المذاهب فقال: وقد أدى إغفال هذا الأصل (منع المقلد من أن يتخير في الخلاف) إلى أن صار كثير من مقلدة الفقهاء يفتي قريبه أو صديقه بما لا يفتي به غيره من الأقوال اتباعًا لغرضه وشهوته أو لغرض ذلك القريب وذلك الصديق، ولقد وجد هذا في الأزمنة السالفة فضلاً عن زماننا، كما وجد فيه تتبع رخص المذاهب اتباعًا للغرض والشهوة فيما لا يتعلق به فصل قضية، وفيما يتعلق به ذلك " (2) .

وأورد الشاطبي بعد ذلك نماذج ووقائع لهذين النوعين من تخير رخص المذاهب واتباع الحيل الشرعية (3) .

ونقل عن رجل من فقهاء هذا الصنف أنه كان يقول: إن الذي لصديقي علي إذا وقعت له حكومة أن أفتيه بالرواية التي توافقه.

وذكر أن كثيرًا ما يسأل من تقع له مسألة من الأيمان ونحوها: لعل فيها رواية أو لعل فيها رخصة.

ثم قال بعد ذلك: " وهذا مما لا خلاف بين المسلمين ممن يعتد به في الإجماع أنه لا يجوز ولا يسوغ ولا يحل "(4) .

ونقل الشاطبي اعتراض بعض المتأخرين على من منع من تتبع رخص المذاهب وأن قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((بعثت بالحنيفية السمحة)) يقتضي جواز ذلك لأنه نوع من اللطف بالعبد، والشريعة لم ترد بقصد مشاق العباد. فرد هذا الاعتراض بقوله: إن الحنيفية السمحة إنما أتى فيها السماح مقيدًا بما هو جار على أصولها، وليس تتبع الرخص ولا اختيار الأقوال بالتشهي بثابت من أصولها. بل تتبع الرخص ميل مع أهواء النفوس والشرع جاء بالنهي عن اتباع الهوى (5) .

(1) الموافقات: 4 / 131

(2)

الموافقات: 4 / 135.

(3)

الموافقات 4 / 135 – 139.

(4)

الموافقات: 4 / 140.

(5)

الموافقات: 4 / 145.

ص: 201

ثم أعقب الشاطبي هذا كله بجملة مما في اتباع الرخص من المفاسد: كالانسلاخ من الدين بترك اتباع الدليل إلى اتباع الخلاف. وكالاستهانة بالدين إذ يصير بهذا الاعتبار سيالاً لا ينضبط. وكترك ما هو معلوم إلى ما ليس بمعلوم. وكانخرام قانون السياسة الشرعية بترك الانضباط إلى أمر معروف. وكإفضائه إلى القول بتلفيق المذاهب على وجه يخرق إجماعهم. وغير ذلك من المفاسد الأخرى (1) .

وإلى المنع من تتبع الرخص ذهب ابن القيم. فقال: وبالجملة فلا يجوز العمل والإفتاء في دين الله بالتشهي والتخير وموافقة الغرض، فيطلب القول الذي يوافق غرضه وغرض من يحابيه فيعمل به ويفتي ويحكم به. ويحكم على عدوه ويفتيه بضده، وهذا من أفسق الفسوق وأكبر الكبائر (2) .

ثم يقول: ولا يجوز للمفتي تتبع الحيل المحرمة والمكروهة. ولا تتبع الرخص لمن أراد نفعه. فإن تتبع ذلك فسق وحرم استفتاؤه (3) . وحكى ابن حزم الإجماع على منع تتبع الرخص (4) .

جـ – مذهب التفصيل في تتبع الرخص:

يرى أصحاب هذا المذهب أن الأخذ بالرخص لا يعني تتبعها والبحث عنها قصدًا للتحلل من التكاليف وإنما يعني الانتقال من تكليف أشد إلى تكليف أخف لسبب شرعي.

في ضوء هذا اختار العطار من الشافعية جواز تتبع الرخص لا على الإطلاق بل مع مراعاة ما اعتبره المجتهد في المسألة التي وقع التقليد فيها مما يتوقف عليه صحتها كي لا يقع في حكم مركب (ملفق) من اجتهادين، كما إذا توضأ ومسح بعض الرأس على مذهب الإمام الشافعي، ثم صلى بعد لمس مجرد عن الشهوة على مذهب الإمام مالك في عدم النقض. فهذا تلفيق في أجزاء الحكم " وهو ممنوع "(5) .

(1) الموافقات: 4 / 147.

(2)

إعلام الموقعين: 4 / 211.

(3)

أعلام الموقعين: 4 / 222.

(4)

مراتب الإجماع: 175 نقلاً عن موسوعة الفقه الإسلامي.

(5)

انظر حاشيته على جمع الجوامع: 2 / 442.

ص: 202

ونقل عن القرافي في شرح المحصول القول بجواز تتبع الرخص بشروط:

الأول: أن لا يكون التتبع موقعًا في أمر يجمع على إبطاله إمامه الأول وإمامه الثاني.

الثاني: أن يكون التتبع في المسألة المدونة للمجتهدين الذين استقر الإجماع عليهم دون من انقرضت مذاهبهم.

الثالث: أن لا تترك العزائم رأسًا بحيث يخرج عن ربقة التكليف الذي هو إلزام ما فيه كلفة (1) .

ومن هذا الفريق الإمام ابن تيمية، فإنه فرق بين حالتين:

الأولى: اعتقاد الشيء واجبًا أو حرامًا ثم يعتقده – بطريق تتبع الرخص – غير واجب ولا حرام. وقد مثل لهذه الحالة بما نص عليه بقوله: " مثل أن يكون طالبًا لشفعة الجوار فيعتقد أنها حق له، ثم إذا طلبت منه شفعة الجوار اعتقد أنها ليست ثابتة. أو مثل من يعتقد إذا كان أخًا مع جد أن الإخوة تقاسم الجد، فإذا صار جَدًّا مع أخ اعتقد أن الجد ينفرد بالميراث دونهم

فمثل هذا ممكن في اعتقاده حل الشيء وحرمته، ووجوبه وسقوطه بحسب هواه. هو مذموم بخروجه، خارج عن العدالة. وقد نص الإمام أحمد وغيره على أن هذا لا يجوز " (2) .

الثانية: أن يكون تتبع الرخص بطريق الانتقال من قول فقهي إلى قول فقهي آخر إذا تبين للمتتبع ما يوجب رجحان قول على قول: وهذا الرجحان يكون بأحد طريقين كما نص على ذلك الإمام ابن تيمية بقوله: " إما بالأدلة المفصلة إن كان يعرفها ويفهمها وإما بأن يرى أحد رجلين أعلم بتلك المسألة من الآخر وهو أتقى لله فيما يقوله، فيرجع عن قوله إلى قول هذا. فهذا يجوز، بل يجب. وقد نص الإمام أحمد على ذلك "(3) .

(1) انظر حاشيته على جمع الجوامع: 2 / 442.

(2)

الفتاوى: 20 / 220.

(3)

الفتاوى: 20 / 221.

ص: 203

وزاد الإمام ابن تيمية الأمر توضيحًا بأن جعل أصل الانتقال من حكم اجتهادي إلى آخر يعود إلى أن العامي هل عليه أن يلتزم مذهبًا معينًا يأخذ بعزائمه ورخصه؟ وحكى الأوجه في المسألة عند الأئمة المجتهدين. ثم قال بعد ذلك: " لا ريب أن التزام المذاهب والخروج عنها إن كان لغير أمر ديني مثل أن يلتزم مذهبًا لحصول غرض دنيوي

فهذا مما لا يحمد عليه، بل يذم عليه في نفس الأمر، ولو كان ما انتقل إليه خيرًا مما انتقل عنه. وهو بمنزلة من لا يسلم إلا لغرض دنيوي. وأما إن كان انتقاله من مذهب إلى مذهب لأمر ديني مثل إن تبين رجحان قول على قول فيرجع إلى القول الذي يرى أنه أقرب إلى الله ورسوله: فهو مثاب على ذلك " (1) .

وعلى العموم فإن قضية الانتقال من مذهب إلى مذهب مسألة هي ذاتها موضع خلاف الفقهاء.

والرأي الراجح أن العامي إذا عمل بقول مجتهد في حادثة فليس له الرجوع عنه في مثلها لأنه قد التزم ذلك القول بالعمل به بخلاف ما إذا لم يعمل به.

وقيل يلزمه العمل به بمجرد الإفتاء، وقيل يلزمه بالشروع بالعمل، وقيل يلزمه إن وقع في نفسه صحته بأن ينشرح له صدره وأن لا يكون قاصدًا للتلاعب وقيل لا يجب عليه التزام مذهب معين فله أن يأخذ فيما يقع له بهذا المذهب تارة وبغيره أخرى (2) .

5-

التلفيق ورأي الفقهاء والأصوليين فيه:

بحث الأصوليون مسألة التلفيق في نطاق بحثهم لقضية التقليد والانتقال من مذهب إلى آخر.

فذهب الشيخ عبد القادر الورديفي المغربي إلى " أن الانتقال من مذهب إلى آخر جار في سائر الأمصار وفيما تقدم من الأعصار إلا فيما قل من الأقطار. وحكمه الجواز ولا قائل بمنعه إلا جاهل أو متعصب "(3) .

وذكر أن الأصوليين اختلفوا في تركيب مسألة من مذهبين أو أكثر. ورأى " أن الصحيح من جهة النظر جوازه. فمن ذلك ما ذكره الشعبي عن أصبغ من أن جميع ما يضطر الناس إليه ولا يجدون منه بدًّا ولا محيدًا – مثل حارس الزرع يستأجر من يحرسه بجزه منه ولا يجد من يحرس له إلا بذلك الوجه – فأرجو أن لا يكون به بأس (4) .

(1) الفتاوى: 20 / 222.

(2)

راجع الفتاوى: 20 / 220. والعطار على جمع الجوامع: 2 / 439 و 442. والموافقات: 4 / 144 وإرشاد الفحول: 253.

(3)

انظر سعد الشموس والأقمار ص 258.

(4)

انظر سعد الشموس والأقمار ص 259.

ص: 204

ونسب الخلاف في التلفيق إلى أصل مذهب الإمام مالك. وبين المقصود به نقلاً عن ابن عرفة، ونصه: إعمال دليل الخصم في لازم مدلوله الذي أعمل في نقيضه دليل آخر (الضمير في مدلوله يعود على الدليل، والضمير في نقيضه يعود على المدلول) .

وذلك كالعقد الباطل يحكم له بحكم الصحيح بعد الفوات. ومثاله: الإمام مالك يقول بفساد نكاح المرأة نفسها للحديث ((أيما امرأة نكحت

)) وقال الإمام أبو حنيفة يجوز قياسًا على البيع. فأعمل مالك دليله في الحياة وهو الفسخ متى غير عليه الحاكم.

وأعمل دليل أبي حنيفة في لازم مدلوله بعد الممات فأوجب توارثهما. أو مثاله: إعمال الإمام مالك دليل مخالفه الإمام أبي حنيفة رحمهما الله القائل بعدم فسخ صريح الشغار في لازم مدلوله، ومدلوله عدم فسخه، ولازمه ثبوت الإرث بين الزوجين، وهذا المدلول، وهو عدم الفسخ، عمل في نقيضه دليل آخر وهو دليل فسخه.

فمالك يرى فسخه مطلقًا، وإن حدث موت أو كان ولد فإن الولد يلحق بأبيه ويثبت الإرث بين الزوجين ويفسخه بطلاق (1) .

ويخلص الشيخ المغربي إلى القول: فتحصل مما ذكر أن التلفيق موجود بشروطه وهو الانتقال من عزيمة إلى ما هو أعزم منها، أو مصلحة دينية دنيوية إلى ما هو أصلح منها أو إلى رخصة بشروطها. وما عدا ذلك كله مروق من الدين من شر الأنفس والأهواء والشياطين الملحدين (2) .

وفسر العطار التلفيق في التقليد بالتلفيق في أجزاء الحكم. ومثل له بالمتوضئ يمسح بعض الرأس اتباعًا لمذهب الإمام الشافعي، ثم يصلي بعد لمس مجرد من الشهوة اتباعا لمذهب الإمام مالك. ففي هذا تلفيق في أجزاء حكم واحد وهو صحة صلاته التي أداها بهذا الوضوء وهذا غير جائز. أما تتبع الأحكام الاجتهادية في جزئيات المسائل فإنه جائز (3) .

ويتبين من نص ابن عابدين وتمثيله أنه يريد بالتلفيق في التقليد التلفيق في أجزاء الحكم. إذ قال: وإن الحكم الملفق باطل بالإجماع. مثاله " متوضئ سال من بدنه دم ولمس امرأة ثم صلى، فإن صحة صلاته ملفقة من المذهب الشافعي والحنفي، والتلفيق باطل فصحته منتفية "(4) .

(1) انظر سعد الشموس والأقمار ص 259 – 260.

(2)

انظر سعد الشموس والأقمار ص 264.

(3)

حاشية العطار على جمع الجوامع: 2 / 442.

(4)

رد المحتار على الدر المختار 1 / 77.

ص: 205

أما تتبع المذاهب في جزئيات المسائل فإن ابن عابدين لا يرى وجود مانع منه فهو يقول: أما لو صلى يومًا على مذهب وأراد أن يصلي يومًا آخر على غيره لا يمنع منه. فيحصل مما ذكرناه أنه ليس على الإنسان التزام مذهب معين، وأنه يجوز له العمل بما يخالف ما عمله على مذهبه مقلدًا فيه غير إمامه مستجمعًا شروطه، ويعمل بأمرين متضادين في حادثتين لا تعلق لواحدة منهما بالأخرى، وليس له إبطال عين ما فعله بتقليد إمام آخر، لأن إمضاء الفعل كإمضاء القاضي لا ينقض " (1) .

بل إن ابن عابدين ذهب إلى أبعد من هذا في أمر الانتقال من مذهب إلى مذهب فأجازه بعد العمل إذا لم يؤد إلى نقضه. كما إذا صلى ظانًّا صحتها على مذهبه. ثم تبين بطلانها في مذهبه وصحتها على مذهب غيره، فله تقليده ويجتزئ بتلك الصلاة (2) . ونسب إلى الشرنبلالي قوله:" لو أفتى مفت بشيء من هذه الأقوال الضعيفة في المذهب في مواضع الضرورة طلبًا لليسر كان حسنًا ".

ونسب ابن أمير حاج إلى الروياني القول بجواز تقليد المذاهب والانتقال إليها بشرط أن لا يجمع بينها على صورة تخالف الإجماع، كمن تزوج بغير صداق ولا ولي ولا شهود فإن هذه الصورة لم يقل بها أحد. ووافق ابن دقيق العيد الروياني في هذا الاشتراط (3) .

والآمدي اختار أن الشخص إذا حدثت له حادثة وأراد الاستفتاء عن حكمها فهو مخير في سؤال من شاء من العلماء سواء تساووا أو تفاضلوا (4) .

وعرض الآمدي قضية من اتبع بعض المجتهدين في حكم حادثة وعمل بقوله فيها، فهل له اتباع غير ذلك المجتهد في حكم آخر.

فحكى الخلاف في هذا. ورأى أن الحق جوازه نظرًا إلى ما وقع عليه إجماع الصحابة من تسويغ استفتاء العامي لكل عالم في مسألة، وأنه لم ينقل عن أحد من السلف الحجر على العامة في ذلك، ولو كان ذلك ممتنعًا لما جاز من الصحابة إهماله أو السكوت عن الإنكار عليه. ولأن كل مسألة لها حكم نفسها (5) .

أما إذا عين الشخص مذهبًا معينًا وقال أنا على مذهبه وملتزم به، فهل له الرجوع إلى الأخذ بقول غيره في مسألة من المسائل؟ فإن الآمدي ذكر فيها الخلاف فقال: جوزه قوم نظرًا إلى أن التزامه لمذهب معين غير ملزم له. ومنع من ذلك آخرون لأنه بالتزامه المذهب صار لازمًا له. والمختار إنما هو التفصيل: وهو أن كل مسألة من مذهب الأول اتصل عمله بها فليس له تقليد الغير فيها. وما لم يتصل عمله بها فلا مانع من اتباع غيره فيها (6) .

(1) رد المحتار: 1/ 77.

(2)

رد المحتار: 1 / 78.

(3)

التقرير والتحبير: 3 / 352.

(4)

الأحكام: 4 / 316 – 318.

(5)

الأحكام: 4 / 318.

(6)

الأحكام: 4 / 319.

ص: 206

ومنع الشاطبي القول بتلفيق المذاهب على وجه يخرق إجماعهم (1) .

والإمام ابن تيمية منع من التلفيق بمنعه تخير الأحكام بالهوى والتشهي واعتقاد الشيء واجبًا وغير واجب بالرجوع من قول إلى قول.. ومثل له بمن يعتقد إذا كان أخًا مع جد أن الإخوة تقاسم الجد فإذا صار جَدًّا مع أخ اعتقد أن الجد يحجبهم.

أما إذا تبين له ما يوجب رجحان قول على قول بالأدلة أو استفتاء الأعلم والأتقى فإن الرجوع جائز بل واجب (2) .

6-

الترجيح:

بعد استعراض آراء الفقهاء والأصوليين في تتبع الرخص والتلفيق في الأحكام الشرعية، والرغبة في الوصول إلى ما هو أحق بالاتباع وخاصة في عصرنا الحاضر؛ ينبغي أن يفرق بين أمرين:

الأول: تتبع الرخص والتلفيق من آحاد الناس سواء كان فتوى للغير أو أن يعمل بها بنفسه.

الثاني: أن يكون التتبع والتلفيق في نطاق عمل المجامع الفقهية ولجان الفتوى. فبالنسبة لآحاد الناس نرى أن الراجح هو القول بمنع تتبع رخص المذاهب والقول بالمنع من التلفيق بين فتاوى المذاهب على وجه يخرق إجماعهم لما في ذلك من مفسدة اتباع الهوى والتخير بالتشهي والتحايل على حدود التكليف وخرم ضوابط التعبد بشرع الله، وهذا القسم هو الذي بحثه الأصوليون والفقهاء واختلفوا فيه، ورأى جمهرتهم منعه، منعًا للفساد والعدوان على شرع الله؛ خاصة في العصور التي يقل بها الفقهاء الورعون، والمفتون المؤهلون لهذا المنصب.

(1) الموافقات: 4 / 148.

(2)

الفتاوى: 20 / 220.

ص: 207

وقد سجل الشاطبي موقفًا للمازري في الامتناع من الأخذ برخص المذاهب أو التلفيق بين الأحكام جديرًا بالاعتبار في عصرنا هذا. وذلك في قوله: ولست ممن يحمل الناس على غير المعروف المشهور من مذهب مالك وأصحابه، لأن الورع قل بل كاد يعدم وكثرت الشهوات وكثر من يدعي العلم ويتجاسر على الفتوى فيه. فلو فتح لهم باب في مخالفة المذهب لاتسع الخرق على الراقع وهتكوا حجاب هيبة المذاهب. وهذا من المفسدات التي لا خفاء فيها. " ويعقب الشاطبي على كلام المازري فيقول:" فانظر كيف لم يستجز – وهو المتفق على إمامته – الفتوى بغير مشهور المذهب ولا بغير ما يعرف منه، بناء على قاعدة مصلحية ضرورية، إذ قل الورع والديانة من كثير ممن ينتصب لبث العلوم والفتوى، فلو فتح لهم هذا الباب لانحلت عرى المذهب بل جميع المذاهب "(1) .

أما إذا كان تتبع رخص الفقهاء أو التلفيق بين فتاوى المذاهب في نطاق عمل المجامع الفقهية ولجان الفتوى: فإن الظاهر جوازه. بل وجوبه في عصرنا هذا. لأمن الفتنة من التخير بالأهواء والتشهي ولتوفر ضمانة الموضوعية. والحياد المجرد من فساد الغرض وسوء القصد، بوجود فقهاء أتقياء في المجامع ولجان الفتوى يحول اجتماعهم دون اللعب بالأحكام والعبث بشرع الله.

خاصة ونحن في عصر تشابكت فيه العلاقات وكثرت الوقائع وتداخلت التصرفات. فكلما أمكن ردها إلى حكم شرعي أو تخريجها عليه كان في ذلك خير وبركة لأمتنا وإبراز لشخصيتها وتحقيق لاستقلالها في تشريعها.

وقد وجدت ابن عابدين يذهب إلى أن المقلد لا ينفذ قضاؤه بخلاف مذهبه ولاسيما في زمانه حيث اعتاد السلطان أن ينص في منشوره على نهيه عن القضاء بالأقوال الضعيفة، فكيف بخلاف مذهبه. ولا يفرق ابن عابدين في هذا بين المفتي والقاضي.

فكان سند ابن عابدين في النهي هو توجيه السلطان (السلطة العليا) نحو وجهة معينة في القضاء (2) .

وفي ضوء توجيه السلطات الآن في أكثر البلاد العربية والإسلامية أن لا يلتزم بمذهب معين، ولتحقيق شيوع الاحتكام إلى الفقه الإسلامي: يكون الاعتماد على فتاوى المذاهب أو تتبع الرخص – بتخير المجامع الفقهية ولجان الفتوى – أمرًا مطلوبًا لا مندوحة منه.

والله من وراء القصد

أ. د. حمد عبيد الكبيس

(1) الموافقات: 4 / 146.

(2)

رد المحتار على الدر المختار 1 / 76 – 78.

ص: 208