الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التلفيق والأخذ بالرخصة وحكمهما
إعداد
حجة الإسلام الشيخ محمد علي التسخيري
جمهورية إيران الإسلامية
باسمه تعالى
الأخذ بالرخص وحكمه
معنى الأخذ بالرخص:
تطلق الرخصة في قبال العزيمة..
ويراد بها كما قيل: ما شرعه الله من الأحكام تخفيفًا على المكلف في حالات خاصة تقتضي هذا التخفيف في قبال العزيمة (وهي ما شرعه الله أصالة من الأحكام العامة التي لا تختص بحال دون حال ولا بمكلف دون مكلف)(1) .
ولا ريب في أن المراد من الرخصة في هذا البحث لا يركز على هذا المعنى، ذلك أن المقصود هنا من العزيمة هو الحكم المجعول للشيء بعنوانه الأولى، أما الرخصة فهي الحكم المجعول للشيء بعنوانه الثانوي (كما في حالة الاضطرار، والإكراه) .
وهذا اصطلاح أصولي لا يمكننا أن نحمل عليه ما جاء في الحديث النبوي الشريف (إن الله يحب أن تؤتى رخصة كما يحب أن تؤتى عزائمه)(2) أو ما جاء عن الإمام محمد ابن علي الجواد (ع)((إن الله يغضب على من لا يقبل رخصته)) (3) .
وإنما المتبادر منها في الفهم العرفي الأحكام غير الإلزامية في قبال الأحكام الإلزامية وهذا هو المقصود من أكثر التعبيرات الواردة في الروايات وإن كان البعض منها يشير بقرينة ما إلى الأحكام الثانوية في قبال الأحكام الأولية.
وعلى أي حال فلا ريب في أن المراد هنا هو المعنى العرفي، يقول الألباني:" لا يخفى أن المراد بالرخصة في هذا الباب هو المعنى العام وهو ما رخص الله للعبد فيما يخفف عنه وهذا أعم مما اصطلح عليه الأصوليون من التعريف والتقسيم، فيشمل ما يستباح مع قيام المحرم، وما انتقل من تشديد إلى تخفيف وتيسير ترفيها وتوسعة عن الضعفاء فضلاً عن أصحاب المعاذير، فكل تخفيف يقابل تشديدًا فهو رخصة شرعها الله لأربابها. كما شرع العزائم لأصحابها "(4) .
(1) أصول الفقه المقارن للسيد الحكيم نقلاً عن علم أصول الفقه لخلاف ص 138.
(2)
مسند أحمد باب 2، ح 108.
(3)
سفينة البحار، 1 / 17 – 25 مصطلح رخص.
(4)
عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق ص 114.
والمقصود من مصطلح الأخذ بالرخص أو تتبع الرخص ليس ما يتبادر لأول وهلة وهو العمل بالرخصة الشرعية في مواردها فهذا أمر لا يختلف عليه أحد، بل هو مما يحبه الشارع ويندب إليه وربما كان ترك العمل به – أحيانا – حرامًا، كما في الترخيص في الإفطار بالسفر – إذا صح أن نطلق عليه (رخصة) . فإنه يحرم الصوم فيه على رأي بعض المذاهب كالمذهب الإمامي مثلاً.
بل المقصود به هنا هو استعراض الفتاوى في الموارد المختلفة واتباع تلك التي تخلو من عنصر الإلزام في محاولة من المكلف للجمع بين أمرين.
الأول: الالتزام بالإطار الشرعي والفرار من المعصية.
الثاني: تسهيل الأمر على نفسه إلى أقصى ما يمكن؛ بملاحظة أي الفتاوى أخف وأسهل فيتبعها في مختلف الموارد.
متى يمكن تصور النزاع:
والحقيقة هي أن مسألة تتبع الرخص إنما تتم في إطار عملية أوسع منها هي عملية (التلفيق بين الفتاوى) ذلك أن التلفيق قد يتم بين إلزاميين أيضًا، بل وربما جلب على المكلف مؤنة أكبر تميل نفسه إليها فيتبع هذا المنهج لإلزام نفسه بها أو ربما كانت الفتويان منسجمتين في التعبير عن خط واحد، كما سيأتي في فوائد التلفيق إن شاء الله تعالى.
فليستا إذن عمليتين متطابقتين. على أنه لا معنى لتصور التلفيق من قبل المجتهد؛ إذ لا ريب في أن المتجهد عندما يصل إلى تحديد مواقفه من المواضيع على ضوء استنباطاته فإنما يجب عليه العمل بما توصل إليه، ولا يجوز له حينئذ اتباع رأي الآخرين، وإنما يمكن تصور التلفيق وبالتالي تتبع رخص الفتاوى من قبل غير المجتهدين، ولا يتم هذا إلا إذا قلنا بجواز التقليد ولم نلتفت لما قيل في عدم جوازه من قبل الحشوية وغيرهم ومع جواز التقليد فإن مسألتنا هذه لا تتصور إذا قلنا بلزوم تقليد الأعلم بكل شروطه دون منافس، وحينئذ فلا مجال للرجوع إلى غيره ولا معنى حينئذ للتلفيق وتتبع الرخص.
أما مجال القيام بذلك فهو فيما إذا لم نقل بضرورة تقليد الأعلم أيا كان، أو توفر هناك فردان أو أكثر مع التساوي في المرتبة العليا (الأعلمية) فالمجال واسع لهذه المسألة (1) .
فلنسر إذن مع مقدمات الموضوع حتى نصل إلى المقصود.
الاجتهاد والتقليد في الفروع ومعرفة التشريع:
إن الاجتهاد إذا فسرناه بعملية استفراغ الوسع لاستنباط الأحكام الشرعية أو الوظائف العملية (شرعية أو عقلية) من أدلتها التفصيلية، أو أنه عملية إرجاع الفروع إلى الأصول المعتمدة شرعًا أو ما يقرب من هذه المعاني دونما نظر إلى الاجتهاد بمعنى العمل بالآراء الظنية غير المعتبرة، إذا فسرناه كذلك فإنا لا نجدنا بحاجة للحديث مفصلا عن لزومه – باستمرار – بعد وضوح قيام الشريعة بوضعه انسجامًا مع خلودها والاجتهاد واجب كفائي – بلا ريب – حفاظًا على أحكام الإسلام من الاندراس والضياع حيث حثت الشريعة على تحصيل العلوم الشرعية؛ قال تعالى {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:] .
والآية واضحة في الوجوب الكفائي للاجتهاد دون العيني منه – وهو ما نسب إلى علماء حلب – بالإضافة إلى ما في الواجب العيني من عسر عظيم، وكذلك قيام السيرة في الرجوع إلى فتوى الأصحاب والرواة.
أما التقليد فجوازه لغير المجتهدين يكاد يكون بديهة حتى عبر صاحب (كفاية الأصول) أنها حالة فطرية جبلية (2) وقد قامت عليه السيرة العقلانية وهذه هي حالة المجتمعات في صدر الإسلام مما يحقق الإمضاء الشرعي لهذه الحالة، وهناك أدلة من النصوص القرآنية والنبوية على ذلك.
(1) ربما يقال: بأنه يمكن تصور التلفيق مع القول بانحصار الرجوع إلى الأعلم فيما لو علم باختلاف المجتهدين في الفتوى. أما لو لم يعلم بالوفاق أو الاختلاف فهو مخير بينهما. إلا أنه قد يقال: إن مفروض المسألة هو ما لو علم باختلافهما فهو يتبع الفتوى المرخصة دون الملزمة.
(2)
كفاية الأصول 2 / 359.
عدم جواز رجوع المجتهد إلى رأي غيره:
وإذا حصل الباحث على رتبة الاجتهاد لم يجز له الرجوع إلى غيره وذلك لما أفاده الشيخ الأنصاري رحمه الله في رسالته الموضوعة في الاجتهاد والتقليد من دعوى الاتفاق على عدم الجواز لانصراف الإطلاقات الدالة على جواز التقليد عمن له ملكة الاجتهاد واختصاصها بمن لا يتمكن من تحصيل العلم بها.
وقد فصل المحقق القمي صاحب القوانين المحكمة بين القادر على إعمال الملكة وغير القادر فأجاز للثاني أن يقلد غيره فقال: " ودليل المانع (للمجتهد من التقليد مطلقًا) وجوب العمل بظنه إذا كان له طريق إليه إجماعًا، خرج العامي بالدليل وبقي الباقي وفيه منع الإجماع فيما نحن فيه ومنع التمكن من الظن مع ضيق الوقت فظهر أن الأقوى الجواز مع التضييق، واختصاص الحكم به "(1) .
ويقول السيد الخوئي معلقًا على كلام المرحوم الشيخ الأنصاري رحمه الله وما أفاده (قد) يكون هو الصحيح وذلك لأن الأحكام الواقعية قد تنجزت على من له ملكة الاجتهاد بالعلم الإجمالي أو بقيام الحجج والأمارات عليها في محلها وهو يتمكن من تحصيل بتلك الطرق، إذا لا بد له من الخروج من عهدة التكاليف المنتجزة في حقه ولا يكفي في ذلك أن يقلد الغير إذ لا يترتب عليه الجزم بالامتثال (2) .
والظاهر أن بناء العقلاء في مجال رجوع الجاهل إلى العالم يشمل حالة المجتهد الذي يمنعه مانع من الاستنباط كضيق الوقت وغيره ويتجلى هذا بشكل أكثر وضوحًا فيما لو افترضنا وجود مساحة كبرى لم يستطع استنباطها بعد.
(1) القوانين المحكمة 2 / 143.
(2)
التنقيح في شرح العروة الوثقى (الاجتهاد والتقليد) ص 30.
اعتبار الأعلمية في المقلد:
والمراد بالأعلمية هو أن يكون صاحبها أقوى ملكة من غيره في مجالات الاستنباط (1) .
وهذا الشرط هو المشهور بين علماء الشيعة وخصوصًا في العصور الأخيرة (2) وهو مذهب أحمد وابن سريج والقفال من أصحاب الشافعي وجماعة من الأصوليين وقد اختاره الغزالي المستصفى 2 / 125. كما نقل عن محمد بن الحسن (3) .
وقد ذهب جماعة من علماء الإمامية ممن تأخر عن الشهيد الثاني إلى عدم الاشتراط (4) .
وليس لنا في هذا المقام إلا الإشارة إلى بعض الأدلة في المقام ويترك البحث المفصل إلى محله.
وقد استدل لعدم اشتراط الرجوع إلى الأعلم حتى في حالة العلم بالخلاف بينه وبين غيره بوجوه:
منها: التمسك بإطلاق الأدلة الواردة في جواز الرجوع إلى الفقيه بل قد يقال: إن الغالب فيمن كان الناس يرجعون إليهم عدم الأعلمية مع العلم باختلاف الفتاوى بل شكل هذا سيرة عامة عبر القرون منذ صدر الإسلام.
ومنها: أن هذا الأمر متعسر جدا.
ومنها: بناء العقلاء.
ومنها: تطابق الصحابة وإجماعهم على ذلك.
وقد نوقش في هذه الأدلة:
أما الأول: فلأن محل الكلام هو ما لو علم بالمخالفة بين العالم والأعلم ونحن لا نعلم أن الرجوع كان في هذه الصورة لتكون الروايات نصا في ذلك فلا يبقى إلا الإطلاق والإطلاق لا يشمل المتعارضين لأن شموله لهما يستلزم الجمع بين الضدين أو النقيضين، ولا مجال للقول بالتخيير باعتبار أن رفع اليد عن إطلاق الدليلين المتعارضين أولى من رفع اليد عن أصليهما، وذلك أن الدليلين هنا – كما يقول السيد الخوئي رحمه الله – ليس لهما نص وظاهر بل دلالتهما بالظهور والإطلاق فلا مناص من الحكم بتساقطهما، بعد أن لم يكن الجمع العرفي بينهما، وقد نوقشت الأدلة الباقية بإنكارها.
(1) الأصول العامة للفقه المقارن ص 459 نقلاً عن إحكام الأحكام – للآمدي 3 / 173، ويقول صاحب العروة " المراد من الأعلم من يكون أعرف بالقواعد والمدارك للمسألة وأكثر اطلاعًا " لنظائرها وللأخبار وأجود فهما " للأخبار والحاصل أن يكون أجود استنباطًا "(العروة الوثقى المسألة 17) .
(2)
يقول صاحب المعالم ابن الشهيد الثاني ص (388)" وإن كان بعضهم أرجح في العلم والعدالة من بعض تعين عليه تقليده وهو قول الأصحاب الذين وصل إلينا كلامهم وحجتهم عليه أن الثقة بقول الأعلم أقرب وأوكد، ويحكى عن بعض الناس القول بالتخيير ".
(3)
عمدة التحقيق ص 54.
(4)
مستمسك العروة الوثقى 1 / 24.
وقد استدل لوجوب الرجوع إلى الأعلم بأدلة:
الدليل الأول – أن مشروعية التقليد إنما تم إثباتها بالكتاب والسنة أو بالسيرة.
أما المطلقات الشرعية فهي لا تشمل المتعارضين (وهو موردنا إذ نتحدث في حالة ما إذا علمنا بالتنافي بين فتوى العالم وفتوى الأعلم) .
وأما السيرة العقلائية فهي تجري على الرجوع للأعلم عند العلم بالمخالفة وهي ممضاة وإذا سقطت فتوى غير الأعلم عن الحجية تعين الرجوع إلى الأعلم بعد أن علمنا بعدم وجوب الاحتياط لأنه غير ميسور.
وأما السيرة العقلائية فهي تجري على الرجوع إلى الأعلم عند العلم بالمخالفة وهي ممضاة وقد اعتمد المرحوم السيد الخوئي هذا الوجه وحده على الظاهر (1) .
وربما يناقش في هذا الاستدلال بما سنذكره عند طرح مسألة التبعيض من أنه يمكن تصور شمول الإطلاقات للفتويين المتعارضتين. على أننا لا نعلم بوجود سيرة عقلائية ممضاة في هذا المجال بعد أن وجدنا العقلاء يرجعون إلى المتخصصين خصوصًا المتقاربين منهم – مع علمهم إجمالاً بوجود تخالف بينهم وبين من هم أشد منهم تخصصًا – باعتبارات منها موضوع التسهيل من جهة والاحتمال العقلائي بمطابقة الواقع وإن كانوا يرجحون ذلك.
وبتعبير آخر ليس هناك علم بالإلزام العقلائي بالرجوع إلى الأعلم مع كون الطرف الآخر حائزًا للشروط المطلوبة (2) ونحن نتحدث في مجال تشريعي علم فيه أن الاجتهاد هو طريق شرعي مقبول، وهو متوفر في كليهما حسب الفرض فلا معنى لتشبيه المورد بمجالات التردد الفردي بين المتخصصين في الأمور الخطيرة كما نراه عادة في كتابات العلماء. على أننا لا نعلم بالإمضاء الشرعي وخصوصًا إذا لاحظنا هذه السيرة المتشرعية العامة في الرجوع إلى الصحابة أيا منهم أو الرجوع إلى العلماء من أتباع الأئمة دونما نكير ودونما منع معتبر من مثل هذه الظاهرة المتسعة في عرض الزمان وطوله. بل كان الأئمة يرجعون إلى العلماء دونما اشتراط للأعلمية (3) .
(1) التنقيح: كتاب الاجتهاد والتقليد تقريرات الغروي ص 142.
(2)
يطرح الإمام الخميني كما في (تهذيب الأصول) 2 / 550 هذه الفكرة فيقول " ثم إنه ينبغي البحث عن بناء العقلاء في تقديم رأي الأعلم – لمخالفة إجمالاً أو تفصيلاً هل هو على نحو اللزوم أو من باب حسن الاحتياط؟ لا يبعد الثاني لكون الرأيين واجدين للهلاك وشرائط الحجية والأمارية ولكنه يعود فيناقش ما طرحه باعتبار أن أمر الشرع عظيم لا يتسامح فيه
(3)
وتشهد لذلك روايات كثيرة يرجع فيها الإجماع إلى محمد بن مسلم الثقفي وأبي نصير ويونس بن عبد الرحمن، ومعاذ بن مسلم وأمثالهم دونما ملاحظة لهذا الشرط ولا معنى للقول: والإمام كان يعلم أنهم لا يختلفون في الفتوى بل يمكن ادعاء اليقين باختلافهم جريًا على طبيعة الحال. وكمثال لذلك نقل عن معجم الرجال للشيخوني رحمه الله 1 / 94 نقلاً عن المرحوم الكني في باب فضل الرواية والحديث الرواية التالية: عن جعفر بن وهب قال حدثني أحمد بن حاتم عن ماهويه قال: كنت معه (يعني أبا الحسن الثالث) عليه السلام أسأله عمن آخذ منه ديني؟ وكتب أخوه أيضًا: " لذلك نكتب إليهما: فهمت ما ذكرتما فاعتمدا في دينكما على كبير في حبنا، وكل كثير التقدم في أمرنا فإنهم كافوكما إن شاء الله تعالى ".
على أن مسألة العسر تبدو صحتها يومًا بعد يوم خصوصًا مع افتراض سعة المساحة الإسلامية وتكاثر العلماء إلى حد كبير، والإسلام ينظر للأمور نظرته العامة الشاملة. وذلك يتضح بالخصوص إذا لاحظنا التصوير الذي نقلناه عن صاحب العروة عن الأعلمية.
ومن المناسب أن ننقل ما ذكره العلامة الكبير النجفي في هذا الصدد؛ إذ يقول:
إنما الكلام في نواب الغيبة بالنسبة إلى المرافعة إلى المفضول منهم وتقليده مع العلم بالخلاف وعدمه، والظاهر الجواز لإطلاق أدلة النصب المقتضي حجية الجميع على جميع الناس، وللسيرة المستمرة في الإفتاء والاستفتاء منهم مع تفاوتهم في الفضيلة ودعوى الرجحان بظن الأفضل يدفعها.. (مع إمكان منعها في كثير من الأفراد المنجبر نظر المفضول فيها في زمانه بالموافقة للأفضل في الأزمنة السابقة وبغيرها) .
إنه لا دليل عقلاً ونقلاً في وجوب العمل بهذا الرجحان في خصوص المسألة، إذ لعل الرجحان في أصل شرعية الرجوع إلى المفضول وإن كان الظن في خصوص المسألة بفتوى الفاضل أقوى نحو شهادة العدلين.
ومع فرض عدم المانع – عقلاً فإطلاق أدلة النصب بحاله ونفوذ حكمه في خصوص الواقعة يستلزم حجية ظنه في كليها وأنه من الحق والقسط والعدل وما أنزل الله فيجوز الرجوع إليه تقليدًا أيضًا.
بل لعل أصل تأهل المفضول وكونه منصوبًا يجري على قبضه وولايته مجرى قبض الأفضل، من القطعيات التي لا ينبغي الوسوسة فيها خصوصًا بعد ملاحظة نصوص النصب الظاهرة في نصب الجميع الموصوفين بالوصف المذكور لا الأفضل منهم وإلا وجب القول انظروا إلى الأفضل منكم لا (رجل منكم) كما هو واضح بأدنى تأمل.
ومن ذلك يعلم أن نصوص الترجيح أجنبية عما نحن فيه من المرافعة ابتداءً أو التقليد لذلك مع العلم بالخلاف وعدمه ومن الغريب اعتماد الأصحاب عليها في إثبات هذا المطلب حتى أن بعضًا منهم جعل مقتضاها ذلك مع العلم بالخلاف الذي عن جماعة دعوى الإجماع على تقديمه حينئذ لا مطلقًا فجنح إلى التفصيل في المسألة بذلك.
وأغرب من ذلك الاستناد إلى الإجماع الحكمي عن المرتضى في ظاهر الذريعة والمحقق الثاني في صريح حواشي الجهاد من الشرائع على وجوب الترافع ابتداءً إلى الأفضل وتقليده بل ربما ظهر من بعضهم أن المفضول لا ولاية له أصلاً مع وجود الأفضل ضرورة عدم إجماع نافع في أمثال هذه المسائل، بل لعله العكس فإن الأئمة (ع) مع وجودهم كانوا يأمرون الناس بالرجوع إلى أصحابه من زرارة ومحمد بن مسلم وأبي بصير وغيرهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ولى لقضاء بعض أصحابه مع حضور أمير المؤمنين (ع) الذي هو أقضاهم قال في الدروس " لو حضر الإمام في بقعة وتحوكم إليه فله رد الحكم إلى غيره إجماعًا ".
على أنه لم نتحقق الإجماع عن المحقق الثاني وإجماع المرتضى مبتنى على مسألة تقليد المفضول الإمامة العظمى مع وجود الأفضل.
وأخيرًا يقول: (فيجوز حينئذ نصبه والترافع إليه وتقليده مع العلم بالخلاف وعدمه)(1) .
ويقول المرحوم الحر العاملي وهو إخباري في معرض رده على الأصوليين: " إنه – أي القول بالتقليد – يستلزم وجوب معرفة المقلد بأن الذي يقلده مجتهد مطلق ولا سبيل له إلى ذلك كما لا يخفى فيلزم تكليفه بما لا يطيق وكذلك تكليفه بمعرفة الأعلم بين المجتهدين مع التعدد"(2) .
يقول صاحب كتاب ولاية الفقيه " وللقائل بعدم الاعتبار (للأعلمية) أن يستدل بـ
…
استقرار السيرة في زمان النبي صلى الله عليه وسلم والأئمة على الرجوع والإرجاع إلى آحاد الصحابة من غير لحاظ الأعلمية مع وضوح اختلافهم في الفضيلة" (3) .
(1) جواهر الكلام 2 / 24.
(2)
الفوائد الطوسية للشيخ الحر العاملين ص 211.
(3)
ولاية الفقيه 2 / 179 ورغم أنه يتحدث في باب القضاء إلا أن عبارته كعبارة صاحب الجواهر رحمه الله تشمل باب الفتوى أيضًا، وإن كانت عبارة صاحب الجواهر أصرح وهي تؤكد على حالة العلم بالخلاف أيضًا.
ويقول الفاضل التوني رحمه الله المتوفى سنة 1021هـ في الوافية:
التقليد: وهو قبول قول من يجوز عليه الخطأ (1) من غير حجة ولا دليل ويعتبر في المفتي الذي يستفتى منه، بعد الشرائط المذكورة، على النحو المذكور، وأن يكون مؤمنًا ثقة (2) ولم يتعرض مطلقًا لشرط الأعلمية.
الدليل الثاني – مما استدلوا به على وجوب الرجوع إلى الأعلم دليل الإجماع وهذا الاستدلال باطل على أي نحو فسرنا الإجماع، فسواء أردنا به اتفاق الآراء أو أردنا به الاتفاق الكاشف عن رأي المعصوم فإنه هنا غير تام بعد وضوح عدم اتفاق الآراء فيه بل ربما يدعى الاتفاق على عدمه في بعض العصور وكذلك وضوح عدم كشفه عن رأي المعصوم عليه السلام .
الدليل الثالث – بعض الروايات منها مقولة عمر بن حنظلة (3) الدالة على تقديم حكم الأفقه، ولكنها واردة في مقام القضاء لا الفتوى.
ومنها ما جاء في عهد الإمام علي (ع) لمالك الأشتر (اختر للحكم بين الناس أفضل عريتك)(4) وهي أيضا في باب القضاء.
ومنها: ما في كتاب الاختصاص من قوله صلى الله عليه وسلم ((إن الرئاسة لا تصلح إلا لأهلها فمن دعى الناس إلى نفسه وفيهم من هو أعلم منه لم ينظر الله إليه يوم القيامة)) (5) .
ولكنها مرسلة بالإضافة إلى أنها تتحدث عن مجال الولاية والحكومة.
ومنها: ما جاء عن الإمام محمد بن علي الجواد من قوله لعمه " يا عم إنه لعظيم عند الله أن تقف غدًا بين يديه فيقول لك / لما تفتي عبادي بما لم تعلم وفي الأمة من أعلم منك "(6) .
وهي مرسلة لا يحتج بها بالإضافة إلى تركيزها على عدم علم المفتي.
(1) الإخراج المعصوم. وهذا التعريف هو ما نص عليه الغزالي في المستصفى ج 2 ص 387.
(2)
الوافية، الطبعة الجديدة بقم ص 299.
(3)
وسائل الشيعة الباب 9 من أبواب صفات القاضي.
(4)
نهج البلاغة 4 / 30 طبعة بيروت.
(5)
بحار الأنوار 2 / 110.
(6)
نهج البلاغة 4 / 30 طبعة بيروت.
الدليل الرابع – أن فتوى الأعلم أقرب إلى الواقع فلا مناص من الأخذ بها.
وأجاب عنها السيد الخوئي رحمه الله بأن الأقربية إن أريد منها أن فتواه بالفعل أقرب فهذا لا نسلمه وإن أريد أن من شأن فتاواه أن تكون أقرب قلنا إن الأقربية الطبيعية لم تجعل ملاكًا للتقليد ولا لوجوبه (1) .
الدليل الخامس – هو الرجوع إلى الأصل العقلي في مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير (بين الأعلم وغيره) .
ولكن بعد أن تم لدينا الدليل الاجتهادي (السيرة) فإنه ليس هناك مجال للرجوع إلى الأصل العقلي في مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير باعتبار ما له من رتبة متأخرة. والغريب أن البعض من العلماء رجعوا إليه مباشرة وقبل مناقشة أي من الأدلة الاجتهادية المدعاة على أن في كون إنتاج هذا الأصل هو التعيين (للأعلم مثلا) كلاما لا مجال للتفصيل فيه (2) .
على أي حال فقد قلنا إن المشهور شهرة عظيمة بين المتأخرين من علماء الإمامية هو القول بالاشتراط (3) .
حكم التبعيض والتلفيق:
ونقصد بالتلفيق: عدم التقيد بفتوى مجتهد واحد والرجوع في مقام العمل إلى فتوى أكثر من واحد سواء كان ذلك في العمل المركب الارتباطي أو في الأعمال المستقلة عن بعضها.
(1) التنقيح ص 147.
(2)
يراجع بحوث المرحوم الشهيد الصدر في كتابه (دروس في علم الأصول) الحلقة الثالثة الجزء الأول ص 185 – 187.
(3)
كما أن هذا هو رأي أكثرية أعضاء مجمع فقه أهل البيت (ع) بمدينة قم.
وقد عرفه الألباني بأنه (هو الإتيان بكيفية لا يقول بها مجتهد. وذلك بأن يلفق في قضية واحدة بين قولين أو أكثر يتولد منها حقيقة مركبة لا يقول بها أحد كمن توضأ فمسح بعض شعر رأسه مقلدًا للإمام الشافعي وبعد الوضوء مس أجنبية مقلدًا للإمام أبي حنيفة فإن وضوءه على هذه الهيئة حقيقة مركبة لم يقل بها كل من الإمامين)(1) ومن الواضح أنه يتحدث عن عمل واحد في هذا المثال دون أن يكون التلفيق في الأجزاء الارتباطية وإنما قلد فردًا في جزء الوضوء وآخر في عدم ناقضية مس الأجنبية، ومن الطبيعي أن القائل بجواز التلفيق في عمل مركب ارتباطي يقول به – من باب الأولى – في أعمال مستقلة.
وقد عبر عن عملية التلفيق هذه في كتب الفقه الإمامي بالتبعيض وهو ما أرجحه باعتبار ما في مصطلح التلفيق من إيحاءات سلبية.
يقول المرحوم اليزدي في (العروة الوثقى) :
مسألة 33: " إذا كان هناك مجتهدان متساويان في العلم كان للمقلد تقليدًا أيهما شاء ويجوز التبعيض في المسائل ".
ويقول في المسألة 45:
" في صورة تساوي المجتهدين يتخير بين تقليد أيهما شاء كما يجوز له التبعيض حتى في أحكام العمل الواحد حتى أنه لو كان – مثلاً – فتوى أحدهما وجوب جلسة الاستراحة واستحباب التثليث في التسبيحات الأربع، وفتوى الآخر بالعكس؛ يجوز أن يقلد الأول في استحباب التثليت والثاني في استحباب الجلسة ".
ويقول الإمام الخميني رحمه الله إذا كان المجتهدان متساويين في العلم يتخير العامي في الرجوع إلى أيهما، كما يجوز له التبعيض في المسائل يأخذ بعضها من أحدهما وبعضها من الآخر (2) .
(1) عمدة التحقيق ص 91 – 92.
(2)
تحرير الوسيلة 1 / 4.
الآراء في المسألة وتاريخها:
حاول الشيخ الألباني استعراض جملة من الآراء فأكد على أن التلفيق وإن لم يكن في عصره صلى الله عليه وسلم باعتباره من العوارض التي لا يمكن وجودها حين التبليغ والتشريع، ولكنه كان ساريًا في عصر الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، فقد كان المرء يستفتي بعضهم في مسألة ثم يستفتي غيره في غيرها، ولم ينقل عن أحد منهم قوله بوجوب مراعاة أحكام مذهب من قلده، ولم يؤثر ذلك عن الأئمة الأربعة وغيرهم من المجتهدين بل نقل عنهم ما يشير إلى خلاف ذلك.
ويستطرد فيقول " فظهر من هذا أن أخذ المستفتي في عهد السلف بقول أحد علماء الصحابة في مسألة وأخذه بقول غيره من الصحابة أو التابعين في مسألة ثانية لا يقال له تلفيق، ولو أدى إلى تركب حقيقة لم يقل بها المفتيان؛ بل هو من قبيل تداخل أقوال المفتين بعضها في بعض تداخلا طبيعيًّا غير ملحوظ ولا مقصود، وكتداخل اللغات بعضها ببعض في لسان العرب"(1) .
وهكذا اعتبر طرح مسألة التلفيق بهذا النحو أمرًا مستحدثًا. ونقل عن العلامة الكواكبي في كتابه (أم القرى) الإنكار على منكري جواز التلفيق وقوله: " والحال ليس ما يسموه التلفيق إلا عين التقليد " وأضاف " وكل مقلد عاجز طبعًا عن الترجيح بين مراتب المجتهدين فبناء عليه يجوز له أن يقلد في كل مسألة دينية مجتهدًا ما، ويضيف: وهل يتوهم مسلم أن أبا حنيفة كان يمتنع أن يأتم بمالك أو يأبى أن يأكل ذبيحة جعفر، كلا بل كانوا أجل قدرًا من أن يخطر لهم هذا التعصب على بال ".
ثم نقل عن ابن تيمية ما ملخصه (إن تكليف العامي بتقليد الأعلم في الأحكام فيه حرج وتضييق، ثم ما زال عوام كل عصر يقلد أحدهم لهذا المجتهد في مسألة، وللآخر في أخرى، ولثالث في ثالثة، وكذلك إلى ما لا يحصى. ولم ينقل إنكار ذلك عليهم ولم يؤمروا بتحري الأعلم والأفضل في نظرهم) .
ثم إنه استند إلى ما هو الشائع من أنه لا يجب التزام مذهب معين وهكذا استمر في تأييد هذا المنحى بنقل مختلف الأقوال.
ومن المناسب أن ننقل هنا نصا للشيخ عبد العلي الأنصاري في فواتح الرحموت في شرح مسلم الثبوت لابن عبد الشكور إذ يقول " وقيل: لا يجب الاستمرار ويصح الانتقال، وهذا هو الحق الذي ينبغي أن يؤمن به ويعتقد به لكن لا ينبغي أن يكون الانتقال للتلهي، فإن التلهي حرام قطعًا في التمذهب كان أو في غيره؛ إذ لا واجب إلا ما أوجبه الله تعالى والحكم له، ولم يوجب على أحد أن يتمذهب بمذهب رجل من الأئمة، فإيجابه تشريع جديد. ولك أن تستدل عليه بأن اختلاف العلماء رحمة بالنص وترفيه في حق الخلق) .
(1) عمدة التحقيق ص 94.
أما الإمامية: فرغم أننا نقلنا عن إمام كبير من فقهائهم جواز التبعيض وهو منقول عن غيره أيضًا. إلا أنه لم يكن معروفًا لديهم باعتبار مشهورية فتوى ضرورة تقليد الأعلم شهرة عظيمة، وقلة الموارد التي يعلم فيها بالتساوي في المرتبة العلمية حتى ينطرح مثل هذا الموضوع.
وعلى أي حال فالمهم هو الاستدلال للأمر والرجوع إلى أدلة الاجتهاد والتقليد لمعرفة الحق في البين، أما الأقوال فإنما يستأنس بها إذا لم تصل إلى حد الإجماع الكاشف عن نظر الشارع (1) .
رأي المرحوم السيد الحكيم رحمه الله :
فالإمام الحكيم يقول في مستمسكه في ذيل المسألة 33 من مسائل (العروة الوثقى) ما يلي:
" قد عرفت أنه مع اختلاف المجتهدين في الفتوى تسقط إطلاقات أدلة الحجية عن المرجعية، وينحصر المرجع بالإجماع، فمشروعية التبعيض تتوقف على عموم الإجماع على التخيير بينهما لصورة التبعيض ولم يتضح عموم الإجماع ولم أقف عاجلاً على من ادعاه، بل يظهر من بعض أدلة المانعين عن العدول في غير المسألة التي قد قلد فيها المنع عن التبعيض، فراجع كلماتهم ومثلها دعوى السيرة عليه في عصر المعصومين، فالتبعيض إذًا لا يخلو من إشكال.
نعم بناء على كون التقليد هو الالتزام بالعمل بقول مجتهد معين لا مانع من التبعيض لإطلاقه أدلة الحجية " (2) .
وقد وضح هذا في موضع آخر فقال ما ملخصه: إن التقليد هو العمل اعتمادًا على رأي الغير، فإن اتفق المجتهدون أمكن تقليدهم جميعًا ولا يشترط التعيين، وإن اختلفوا امتنع أن يكون الجميع حجة للتكاذب الموجب للتنقاض ولا واحد معين لأنه بلا مرجح ولا التساقط لأنه خلاف الإجماع والسيرة، فالحجة ما يختاره وهو الالتزام فالالتزام مقدمة للتقليد لا عينه (3) .
(1) ذيل المستصفى من علم الأصول 2 / 4.
(2)
مستمسك العروة الوثقى 1 / 42.
(3)
مستمسك العروة الوثقى، ص 11 – 13.
وذكر في ذيل المسألة 45 من (العروة الوثقى) :
" إنه قد يشكل في العمل الواحد الارتباطي الذي تم العمل فيه بفتويين فهو أمر تخالفه الفتويان معًا. وأجاب: إننا بعد البناء على جواز التبعيض لا نقدح مخالفة كل مجتهد على حدة في غير مورد التقليد لهما " وأضاف:
" فإن قلت: المجتهد المفتي بعدم وجوب جلسة الاستراحة إنما يفتي بذلك في الصلاة المشتملة على التسبيحات الثلاث، كما أن المفتي بالاقتصار على تسبيحة واحدة إنما يفتي بذلك فيما اشتمل على جلسة الاستراحة، فترك جلسة الاستراحة والاقتصار على تسبيحة واحدة ليس عملاً بفتوى المجتهدين ولو على نحو الانضمام.
قلت: الارتباط بين الأجزاء في الثبوت والسقوط لا يلازم الارتباط بينهما في الفتوى ".
فالمرحوم السيد الحكيم لا يجد هذا إشكالاً وإنما الإشكال في نظره هو سقوط الأدلة عن شمول الفتويين المتعارضتين من المجتهدين المتساويين ولا إجماع أو سيرة تشملهما فتمنحهما الحجية.
وهذا المعنى يمكن إسراؤه إلى حالة ما لو أفتينا بعدم اشتراط الأعلمية في التقليد وتعارضت فتويا العالمين.
إلا أننا حتى لو قبلنا مبناه في أن التقليد هو العمل وليس الالتزام بالعمل، أمكننا أن نقول بشمول الأدلة لحالتي التعارض بين الفتويين من باب ما أشرنا إليه من السيرة الجارية في كل العصور الأولى على الرجوع إلى المجتهدين والإرجاع إليهم. وطبيعي أن ذلك كان يتم مع العلم بالمخالفة بينهم؛ الأمر الذي يقرر الشمول لهذا المورد أيضًا.
رأي المرحوم السيد الخوئي:
وهو يرى أن التقليد هو الاستناد إلى رأي الغير في مقام العمل مستندًا في ذلك إلى أنه الذي تؤكده اللغة وما يتبادر من الأخبار (1) .
وعندما يعالج رحمه الله مسألة المجتهدين المتساويين المختلفين في الفتوى وموضوع شمول أدلة الحجية لكلتا الفتويين يؤكد أن التخيير بينهما – رغم أنه المعروف بين الأصحاب – مرفوض.
(1) التنقيح – الاجتهاد والتقليد – تقريرات المرزا الغروي ص 77 – 81.
فالإطلاقات لا يمكنها أن تشمل المتعارضين. والسيرة العقلائية الجارية على التخيير بينهما غير ثابتة؛ بل العقلاء يعتمدون الاحتياط وسيرة المتشرعة لم يحرز كونها متصلة بزمان الشارع، والإجماع منقول بخبر الواحد، ولا يمكننا الاعتماد عليه من جهة، ومن جهة أخرى فإنها مسألة مستحدثة لم يتعرض لها الفقهاء في كلماتهم.
هذا وقد قلنا بإمكان ادعاء السيرة المتشرعية؛ بل القطع بها لمن يلاحظ هذه الحالة الشائعة في كل العصور وخصوصًا في عصر صدر الإسلام.
على أنه من الممكن أن نتصور شمول أدلة الحجية للفتويين المتعارضتين، لا من باب اعتبار المكلف عالمًا بمضمون الفتويين معًا ليلزم منه الجمع بين الضدين أو النقيضين؛ بل من باب الجامع بين الفتويين. ولا مانع من تعلق الشوق المولوي بأحد فردين يحقق كل منهما غرضه، أو يقال: إن مصلحة التسهيل على المكلفين بإرجاعهم إلى المجتهدين – رغم العلم باختلافهم – تولد شوقًا إجماليا لعمل المكلفين بإحدى الفتاوى التي تمت من خلال عملية مشروعة، ولا نجد في هذا ضيرًا ومخالفة لأي أمر عقلي.
فقد توجه الدولة مثلاً مراكز متنوعة لتصدير الأوامر، وهي تعلم أن اجتهادات هذه المراكز قد تختلف في تفسيرها للقوانين واكتشاف مرادات الحاكم؛ إلا أنها تتغاضى عن ما يحدث نتيجة ذلك من مخالفات غير مقصودة تحقيقًا للمصلحة العليا وهي تطبيق قوانينها إلى أقصى حد ممكن. ولكي يتوضح هذا الأمر لنلاحظ إمكان أن يصرح الحاكم بهذا الموضوع دونما إحساس بأي نقص أو مشكلة في تقبل ذلك.
أما لغة الاحتياط فقد لا نجد لها مجالاً في كثير من الأحوال القانونية العامة خصوصًا إذا لاحظنا الأمر على الصعيد البشري العام.
وقد أشار السيد الخوئي رحمه الله في نهاية بحثه هنا إلى أننا قد نتصور جعل الحجية لكل منهما مشروطًا بالأخذ به، وهو أمر معقول ثبوتًا؛ إلا أنه ناقش فيه إثباتًا بأن الأدلة جعلت الحجية لفتوى الفقيه دون تقييد بعنصر الالتزام بها.
وهنا نقول بإمكان أن يدعي أحد بأنه رغم عدم التقييد بالالتزام في الموارد العادية فقد يمكن أن يدعي أن الفهم العرفي الذي يواجه حالة التخالف بين الموردين يلجأ إلى هذا التقييد.
ويتوضح هذا الفهم العرفي عندما نلاحظ ما جاء في الأخبار الدالة على التوسعة في الخبرين المتعارضين، وأن المكلف له أن يأخذ بأيهما شاء من باب التسليم طبعًا؛ إذا تغاضينا عن ما في سندها وعممنا دلالتها لغير الروايتين المتعارضتين؛ بل حتى لو لم نعمم ولم يتم إسنادها فإنها تكشف عن حالة عرفية في الفهم.
وعلى أي حال، فقد يقال إن القائلين بأن التقليد هو الالتزام لا يواجهون هذه المشكلة وفيهم من أمثال صاحب الكفاية (رحمة الله عليه) وصاحب العروة حيث يقول " التقليد هو الالتزام بالعمل بقول مجتهد معين وإن لم يعمل بعد ".
إلا أنه قد يقال هنا: إن الملحوظ في البين هو الطريقية – حتى على رأي هؤلاء – وليس المراد أخذ الالتزام بنفسه موضوعًا حتى يمكن أن تشمله الإطلاقات.
ثم إنه على رأي غالب علماء المذاهب الأربعة لابد من الصيرورة إلى جواز التلفيق أو التبعيض بعد أن لم يشترطوا الأعلمية من جهة، وبعد أن اعتبروا أنها جميعًا موصلة إلى الحق، ولم نعثر على حجة قوية للقائلين برفض التبعيض.
ثم إن السيد الخوئي رحمه الله في ذيل هذا البحث فرق بين حالتين: حالة عدم العلم باختلاف الفتويين، وحالة العلم بالاختلاف في مجال العمل بهما في عمل مركب واحد ارتباطي، فأجازها في الأولى ولم يجزها في الثانية حتى على تقدير التعميم في الدليل باعتبار أن صحة الأجزاء الارتباطية ارتباطية أيضًا، فإذا أتى بجزء طبق فتوى واحتمل بطلان ما أتى به واقعًا، وأتى بالجزء الآخر طبق فتوى الآخر واحتمل البطلان؛ فهو يشك في صحة صلاته ولا حجة معتبرة لديه في صحتها، ولا يفتي أي من المجتهدين بصحتها فلا بد من الإعادة وهو معنى البطلان.
والظاهر أن ما قاله المرحوم السيد الحكيم أمتن في البين.
ولم نستطع أن نتبين الفرق بين الحالتين بالنسبة لهذا المورد.
تتبع الرخص:
قلنا: إن هذه المسألة فرع لمسألة التلفيق، فإذا تم ما قيل في جوازه كان هناك مجال للحديث عن موضوع تتبع الرخص، يقول صاحب فواتح الرحموت: " ويتخرج منه، أي مما ذكر أنه لا يجب الاستمرار على مذهب، جواز اتباعه رخص المذاهب. قال في فتح القدير: لعل المانعين للانتقال إنما منعوا لئلا يتتبع أحد رخص المذاهب وقال هو رحمه الله تعالى: ولا يمنع منه مانع شرعي إذ للإنسان أن يسلك الأخف عليه إذا كان إليه سبيل بأن لم يظهر من الشرع المنع والتحريم
…
" (1) .
وأضاف صاحب الفواتح: " لكن لابد أن لا يكون اتباع الرخص للتلهي، كعمل حنفي بالشطرنج على رأي الشافعي قصد إلى اللهو، وكشافعي شرب المثلث للتلهي به. ولعل هذا حرام بالإجماع لأن التلهي حرام بالنصوص القاطعة"(2) .
(1) العروة الوثقى، المسألة الثامنة من أبواب التقليد ص 4، من طبعة المكتبة العلمية بطهران.
(2)
حاشية المستصفى للغزالي 2 / 404، طبعة دار صادر.
فما هو الموقف من هذه الحالة؟
إن مقتضى جواز التلفيق جواز اتباع الرخص حتى ولو كان ذلك عن قصد، فما الداعي الذي دعى بعض العلماء إلى رفضه؟.
ما يمكن أن يذكر من دواعي الرفض هو:
أولاً: أن فتح هذا الباب يؤدي إلى التحلل فالإنسان ميال لتخفيف أعباء التكاليف، فإذا ما تتبع الرخص فقد صفة المؤمن الملتزم.
ثانيًا: إنه يؤدي إلى التحايل على الشرع وفتح منافذ لتطبيق الحرام بالتركيب بين ترخيصين مثلاً.
ثالثًا: أنه يؤدي إلى مخالفة حكم الحكم الشرعي.
رابعًا: أنه يؤدي إلى المضرة والمفسدة.
خامسًا: أنه يؤدي إجمالاً إلى حالة مقطوع بفسادها وحرمتها.
سادسًا: تفسيق متتبع الرخص على المرسل على ما جاء عن الإمام أحمد في رواية عنه.
سابعًا: أنه لا ينسجم مع حصر المذاهب بالمذاهب الأربعة والإجماع على لزوم اتباع أحدها بمفرده.
ومن الجدير بالذكر أن ما جاء في الأمر السابع أمر غريب جدًّا، فإن تتبع الرخص لا يتنافى في نفسه مع حصر المذاهب، ولا إجماع على لزوم اتباع أحد المذاهب الأربعة بمفرده؛ بل ليس هناك إجماع على لزوم حصر المذاهب بالأربعة. على أن كل الدواعي التي دعت إلى حصرها لا تجد لها ما يبررها إن قبلنا أنها كانت مبررة سابقًا – وهذا ما نرفضه أيضًا" كما رفضه الكثير من العلماء والمحققين (1) .
والذي أعتقد بأن هذه الدوافع المذكورة توجد بنحو الإجمال في بعض الحالات. الأمر الذي دفع العلماء إلى تحريم أصل هذا التتبع من باب سد الذرائع وتحريم مقدمة الحرام؛ بل إن بعض هذه الدواعي والموانع يشكل دليلاً – لو تحقق – على رد كل الموارد، وهو ما ذكر في الداعي الثالث حيث يتشكل علم إجمالي يمنع من العمل بأطرافه.
والحق هو أننا لا نستطيع أن نغلق بابًا ينسجم مع القواعد الشرعية – لو تمت – لمجرد أنه أمر يسهل فيه التحايل، أو قد يؤدي إلى المفسدة، أو مخالفة الحكم الشرعي إلا إذا غلبت هذه الأمور عليه وبشكل استثنائي.
(1) يمكن هنا الرجوع إلى ماكتبه أستاذنا السيد محمد تقي الحكيم في (أصول الفقه المقارن ص 599.
والحقيقة هي أنه يقل من يتتبع الرخص شخصيًّا وبقصد التلهي.. ودعنا من شعر الشعراء وقصص القاصين.. فالباب بنفسه مفتوح.
بعض الفوائد التي تتصور لانفتاح باب التبعيض والاستفادة من الرخص:
وما يمكن أن يذكر هنا من فوائد لانفتاحه يمكن تصويره بما يلي:
أولاً: ليس لنا أن نغلق بابًا للتسهيل تفتحه القواعد، فلماذا نمنع فردًا يستطيع الاستفادة من رخصة مذهب يعتبر بشرعيته إجمالاً، وربما كانت هناك حالات تؤثر فيها هذه الرخصة أثرًا كبيرًا كما في أمور الزواج والطلاق مثلاً.
ثانيًا: قد يتطلب التخطيط لبرنامج إسلامي موحد لتنظيم شؤون جانب حياتي اللجوء إلى فتوى معينة – ولا نصر على كونها ترخيصية – تنسجم مع المصلحة العامة وتشكل مع غيرها مجموعة متكاملة، وهو ما يسمى أحيانا بالدافع الذاتي في انتقاء الفتوى، وهذا ما يمكن أن يطرح مثلاً في مسألة توحيد أوائل الشهور القمرية أو مسألة عدم الاعتبار بطلاق الغضبان وغيرها.
ثالثًا: ربما يجد الباحث المسلم لكي يكتشف مذهبًا حياتيًّا كالمذهب الاقتصادي الإسلامي، أو المذهب الاجتماعي فتاوى منسجمة مع بعضها لدى مفتين متعددين لكنها تشكل وجهًا واحدًا لخط عام، فإنه يستطيع أن يطرح ذلك الخط كصورة اجتهادية عن المذهب المذكور؛ وهذا ما فعله المرحوم الشهيد الصدر – وهو من كبار المجتهدين – في كتابه (اقتصادنا) وقال مبررًا ذلك: " إن اكتشاف المذهب الاقتصادي يتم خلال عملية اجتهاد في فهم النصوص وتنسيقها والتوفيق بين مدلولاتها في اطراد واحد وعرفنا أن الاجتهاد يختلف ويتنوع تبعًا لاختلاف المجتهدين في طريقة فهمهم للنصوص وعلاجهم للتناقضات التي قد تبدو بين بعضها والبعض الآخر، وفي القواعد والمناهج العامة للتفكير الفقهي التي يتبنونها. كما عرفنا أيضا أن الاجتهاد يتمتع بصفة شرعية وطابع إسلامي ما دام يمارس وظيفته، ويرسم الصورة ويحدد معالمها ضمن إطار الكتاب والسنة ووفقًا للشروط العامة التي لا يجوز اجتيازها
…
وينتج عن ذلك كله ازدياد ذخيرتنا بالنسبة إلى الاقتصاد الإسلامي، ووجود صور عديدة له كلها شرعي وكلها إسلامي، ومن الممكن حينئذ أن نتخير في كل مجال أقوى العناصر التي يجدها في تلك الصورة وأقدرها على معالجة مشاكل الحياة وتحقيق الأهداف العليا للإسلام، وهذا مجال اختيار ذاتي يملك الباحث فيه حريته ورأيه " ويضيف:
" إن ممارسة هذا المجال الذتي ومنح الممارس حقًّا في الاختيار ضمن الإطار العام للاجتهاد في الشريعة قد يكون أحيانا شرطًا ضروريًّا من الناحية الفنية لعملية الاكتشاف".
ويضيف متسائلًا: " هل من الضروري أن يعكس لنا اجتهاد كل واحد من المجتهدين – بما يتضمن من أحكام – مذهبًا اقتصاديًا متكاملاً وأسسًا موحدة منسجمة مع بناء تلك الأحكام وطبيعتها؟
ونجيب على هذا السؤال بالنفي لأن الاجتهاد الذي يقوم على أساسه استنتاج تلك الأحكام معرض للخطر. وما دام كذلك فمن الجائز أن يضم اجتهاد المجتهد عنصرًا تشريعيًّا غريبًا على واقع الإسلام.. ولهذا يجب أن نفصل بين واقع التشريع الإسلامي كما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وبين الصورة الاجتهادية كما يرسمها مجتهد معين (1) .
وهكذا يقول بأن فتح باب التبعيض وحتى باب اتباع الرخص – ولكن بشكل يبعده عن الابتذال – أمر مرغوب فيه.
والله أعلم
محمد علي التسخيري
(1) اقتصادنا 2 / 380.