الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بيع العربُون
إعداد
الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي
رئيس قسم الفقه الإسلامي ومذاهبه
بجامعة دمشق
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم:
الحمد لله تعالى، والصلاة والسلام على النبي المصطفى وعلى آله وصحبه ذوي العلا. وبعد:
فإن الحياة الاقتصادية المعاصرة تتطلب عنصرين مهمين: السرعة في التعامل، والتوثيق؛ وقد اصطلح الناس من أجل هذا الدخول في معاملات وعقود تحقق هذين المطلبين، ليطمئن الناس على مصالحهم وشؤون حياتهم، ومن أهم عناوين العقود الجارية في الأسواق: بيع العربون.
ويتكرر السؤال والاستفتاء حول هذا البيع، أهو صحيح أم باطل؟ وهل بقاء العربون في يد البائع حين فسخ العقد جائز شرعًا، ويحل أخذه؟ وهل العقد لازم؟ وغير ذلك من التساؤلات.
لذا وجدت من الخير بحث هذا الموضوع في إطار الفقه المقارن، لمعرفة أحكام هذا البيع على نحو يطمئن إليه المسلم في بيعه وإجارته وغيرهما.
خطة البحث:
1-
تعريف بيع العربون، مشروعيته، حاجة الناس إليه في تعاملهم.
2-
أحكامه:
- هل يجوز العربون في بيع النقد بجنسه وفي الصرف؟
- هل يجوز أن يكون العربون مبلغًا مستقلا عن سعر السلعة؟
- هل يجوز العربون في الخدمات، كما في السلع؟
3-
مسائل:
- هل يجوز العربون عند شراء الأوراق المالية، كالأسهم؟
- هل يجوز العربون في بيع المرابحة؟
- هل يلزم في بيع العربون أن تكون السلعة حاضرة للمعاينة، أم يجوز عند المواعدة على الشراء؟
(1)
تعريف بيع العربون
مشروعيته، حاجة الناس إليه في تعاملهم
تعريف بيع العربون:
في العربون لغة ست لغات: عَرَبون وأربون كحَلَزون، وعُرْبون وأربون كعُصفور، وعُرْبان وأربان كقُرْبان، أفصحها فتح العين والراء، ثم ضم العين وإسكان الراء، ثم الضم والألف. وأما الفتح مع الإسكان فلحن لم تتكلم به العرب.
وهو أعجمي معرب، وأصله في اللغة: التسليف والتقديم، وهو ما عقد به البيع.
وهو أن يشتري الرجل شيئًا، فيدفع إلى البائع من ثمن المبيع درهمًا أو غيره مثلاً، على أنه إن نُفَّذ البيع بينهما، احتسب المدفوع من الثمن، وإن لم يُنَفَّذ، يجعل هبة من المشتري للبائع. فهو بيع يثبت فيه الخيار للمشتري: إن أمضى البيع كان العربون جزءًا من الثمن، وإن رد البيع فقد العربون، ومدة الخيار غير محددة بزمن، وأما البائع فإن البيع لازم له (1) .
وقال بعض الحنابلة: لا بد من أن تقيد فترة الانتظار بزمن محدد، وإلا فإلى متى ينتظر البائع؟ (2) .
وبعبارة أخرى: أن يشتري السلعة، ويدفع إلى البائع درهمًا أو أكثر، على أنه إن أخذ السلعة، احتسب به من الثمن، وإن لم يأخذها فهو للبائع (3) .
حاجة الناس إليه في تعاملهم:
ساد التعامل ببيع العربون قديمًا وحديثًا، وأصبحت طريقة البيع العربون في عصرنا الحاضر أساسًا للارتباط في التعامل التجاري الذي يتضمن التعهد بتعويض ضرر الغير عن التعطل والانتظار (4) .
جريان العربون في البيع والإجارة:
يجري العربون في عقود البيع وفي الإجارة كما صوره الإمام مالك بقوله: وذلك فيما نرى – والله أعلم – أن يشتري الرجل العبد أو الوليدة، أو يتكارى الدابة، ثم يقول للذي اشترى منه أو تكارى منه: أعطيك دينارًا أو درهمًا أو أكثر من ذلك أو أقل، على أني إن أخذت السلعة أو ركبت ما تكاريت منك، فالذي أعطيك هو من ثمن السلعة أو من كراء الدابة، وإن تركت ابتياع السلعة أو كراء الدابة، فما أعطيتك لك
…
ثم قال مالك: باطل بغير شيء (5) .
وصحح الحنابلة الإجارة بالعربون كالبيع بالعربون: وهو دفع بعض ثمن أو أجرة بعد عقد، لا قبله، ويقول: إن أخذته أو جئت بالباقي، وإلا فهو لك، فإن وفى فما دفع فمن ثمن، وإلا فلبائع ومؤجر (6) .
(1) المنتقى على الموطأ: 4 /157؛ الشرح الكبير للدردير: 3 /63؛ القوانين الفقهية: ص 258؛ مغني المحتاج: 2 /39؛ المغني: 4 /232 وما بعدها؛ نيل الأوطار: 5 /153؛ شرح المجموع للنووي: 9 /368؛ الفقه الإسلامي وأدلته للدكتور وهبة الزحيلي: 4 /448.
(2)
غاية المنتهى: 2 /26.
(3)
الموسوعة الفقهية: 9/ 93.
(4)
مصادر الحق للسنهوري: 2 /96 وما بعدها، المدخل الفقهي العام للأستاذ الشيخ مصطفى الزرقاء: ف 234.
(5)
المنتقى على الموطأ: 4 /157.
(6)
غاية المنتهى: 2 /26.
مشروعيته:
اتجه العلماء في حكم بيع العربون والإجارة بالعربون اتجاهين: اتجاه الجمهور، واتجاه الحنابلة.
1-
أما الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية وأبو الخطاب الحنبلي فقالوا: أنه عقد ممنوع غير صحيح، فاسد عند الحنفية، باطل عند غيرهم. وهو قول ابن عباس والحسن البصري (1) .
واستدلوا على عدم جوازه بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: ((نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع العربون)) (2) .
- وعلة النهي اشتماله على شرطين فاسدين؛ أحدهما: كون ما دفعه إليه يكون مجانًا، إن اختار ترك السلعة، والثاني: شرط الرد على البائع إذا لم يقع منه الرضا بالبيع.
- وفيه غرر، وأكل لأموال الناس بالباطل.
- ولأنه شرط للبائع شيئًا بغير عوض، فلم يصح، كما لو شرطه لأجنبي.
- ولأنه بمنزلة الخيار المجهول، فإنه اشترط أن يكون له رد المبيع من غير ذكر مدة، فلم يصح، كما لو قال: ولي الخيار متى شئت رددت السلعة، ومعها درهمًا. وهذا هو مقتضى القياس.
2-
وأما الحنابلة في ظاهر الرواية عن الإمام أحمد فقالوا: لا بأس به، وهو عقد صحيح (3) .ودليلهم: ما أخرجه عبد الرزاق في مصنفه من حديث زيد بن أسلم أنه: ((سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العربان في البيع، فأحله)) (4) .
- وفعله عمر رضي الله عنه، بدليل ما روي عن نافع بن الحارث:"أنه اشترى لعمر دار السجن من صفوان بن أمية بأربعة آلاف درهم، فإن رضي عمر، كان البيع نافذًا، وإن لم يرض فلصفوان أربعمئة درهم"(5) . ومن ها هنا قال الإمام أحمد: لا بأس ببيع العربون؛ لأن عمر فعله.
- وضعّف الإمام أحمد الحديث المروي في بيع العربان، وذلك صحيح كما تقدم في تخريجه.
(1) بداية المجتهد: 2/ 161؛ الشرح الكبير للدردير: 3/ 63؛ القوانين الفقهية ص 258؛ مغني المحتاج: 2/ 39؛ شرح المجموع للنووي: 9 /368؛ حاشية قليوبي وعميرة على شرح المحلى للمنهاج: 2/ 186؛ المغني: 4/ 223؛ المنتقى على الموطأ: 4/ 157؛ الفقه الإسلامي وأدلته: 4 /449.
(2)
حديث منقطع رواه مالك في الموطأ وأحمد والنسائي وأبو داود وابن ماجه، ضعفه ابن حجر في التخليص الحبير: 3 /17، وفيه راو لم يسمّ، وسمي في رواية، فإذا هو ضعيف، وفيه طرق لا تخلو من مقال (انظر نيل الأوطار: 5 /153؛ سبل السلام: 3/ 17؛ الموطأ مع تنوير الحوالك: 2/ 151) .
(3)
المغني: 4/ 232 وما بعدها؛ غاية المنتهى: 2 /26؛ إعلام الموقعين: 3/ 400 وما بعدها؛ ط محي الدين.
(4)
حديث مرسل، وفي إسناده إبراهيم بن أبي يحيى، وهو ضعيف (نيل الأوطار: 5/ 153) .
(5)
روى هذه القصة أبو بكر الأثرم بإسناده.
- وروي عن ابن سيرين أنه قال عن بيع العربون: لا بأس به، وقال سعيد بن المسيب وابن سيرين: لا بأس إذا كره السلعة أن يردها، ويرد معها شيئًا. وقال أحمد: هذا في معناه، أي في معنى بيع العربون، والله أعلم.
- وأخرج البخاري في باب ما يجوز من الاشتراط عن ابن سيرين قال: قال رجل لكريّه: ارْحَلْ ركابَك، فإن لم أرحل معك في يوم كذا وكذا، فلك مئة درهم، فلم يخرج، فقال شريح:"من شرط على نفسه طائعًا غير مكره، فهو عليه ". فهذا دليل واضح على أن من اشترط شيئًا على نفسه، وجب عليه الوفاء به.
- وأجاز بيع العربون والشرط فيه مجاهد، ومحمد بن سيرين كما تقدم، وزيد ابن أسلم، ونافع بن عبد الحارث، وقال أبو عمر: وكان زيد بن أسلم يقول: أجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- وذكر الإمام أحمد أن محمد بن مسلمة الأنصاري اشترى من نَبَطي حزمة حطب، واشترط عليه حملها إلى قصر سعد، واشترى عبد الله بن مسعود جارية من امرأته، وشَرَطَتْ عليه: أنه إن باعها، فهي لها بالثمن. وفي ذلك اتفاقهما على صحة البيع والشرط، ذكره الإمام أحمد وأفتى به (1) .
ترجيح:
رجح الشوكاني رحمه الله رأي الجمهور، للنهي الوارد في حديث عمرو بن شعيب، فإنه وإن كان ضعيفًا إلا أنه قد ورد من طرق يقوي بعضها بعضًا. ولأنه حديث يتضمن الحظر، وهو أرجح من الإباحة كما تقرر في علم الأصول (2) .
والذي أراه هو ترجيح رأي الحنابلة بيعًا وإجارة بعد العقد، عملاً بالوقائع الكثيرة التي دلت على جوازه في عصر الصحابة والتابعين، فهو قول صحابي وافقه عليه آخرون، واتجاه كبار التابعين من فقهاء المدينة.
- ولأن الأحاديث الواردة في شأن بيع العربون لم تصح عند الفريقين.
- ولأن عرف الناس في تعاملهم على جوازه والالتزام به.
ولحاجة الناس إليه ليكون العقد ملزمًا ووثيقة ارتباط عملية بالإضافة إلى الأوامر الشرعية بالوفاء بالعقود في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] وبخاصة حيث كثر التحلل من الالتزامات من غير سبب ولا تراضٍ بين الطرفين لفسخ العقد بالإقالة، ودفعًا للضرر عن البائع الذي قد تفوته فرصة أخرى ببيع سلعته.
(1) إعلام الموقعين: 3/ 401.
(2)
نيل الأوطار: 5 /153.
- ولأن المشتري اشترط على نفسه بدفع العربون وإقراره، وتعارف الناس على استحقاق البائع ما دفعه له إن نكل عن البيع، وقد روى البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال:" مقاطع الحقوق عند الشروط ولك ما شرطت" وقال البخاري في باب الشروط في القرض: وقال ابن عمر وعطاء: إذا أحله في القرض جاز (1) .
- وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((المسلمون على شروطهم)) (2) وفي رواية أخرى ((المسلمون عند شروطهم ما وافق الحق من ذلك)) (3) .
- ولأن واقعة شراء دار صفوان سمع بها الصحابة واطلعوا عليها ولم ينكروها، وهي واضحة في استحقاق البائع مبلغ العربون. ومثله الإجارة، سواء دفع العربون سلفًا أو لم يدفع؛ لأن المشتري أو المستأجر الناكل إنما التزم بدفع العوض، ويصبح دينًا في ذمته، فيستحقه البائع أو المؤجر استحقاقًا شرعيًّا سليمًا.
- ولأن الناكل يعلم سلفًا بأنه يخسر المبلغ الذي يقدمه مع السلعة المردودة عند نكوله، كما ذكر سعيد بن المسيب وابن سيرين وغيرهما، وذلك المبلغ هو العربون، الذي يخسره المشتري أو المستأجر الناكل مقابل نكوله.
- وليس العربون أكلاً لأموال الناس بالباطل، وإنما هو في مقابل ضرر التعطل والانتظار، وتفويت الفرصة في صفقة أخرى، بل هو مشروط سلفًا كما تقدم.
- وليس في بيع العربون غرر؛ لأن المبيع معلوم والثمن معلوم، والقدرة على التسليم متوفرة، أما الغرر الناشئ عن احتمال نكول المشتري عن الشراء فلا يضر؛ لأن البائع يحسب حساب هذا الاحتمال، ولأن هذا الأمر موجود في الخيارات كخيار الشرط وخيار الرؤية ونحوهما. ثم إن الحنابلة الذين أجازوا العربون اشترطوا تقييد الانتظار بزمن، وإلا فإلى متى ينتظر؟!
- قال ابن القيم: والمقصود أن للشروط عند الشارع شأنًا ليس عند كثير من الفقهاء، والالتزام بالشرط كالالتزام بالنذر، بل الشروط في حقوق العباد أوسع من نقص النذر في حق الله، والالتزام به أوفى من الالتزام بالنذر (4) .
- والخلاصة: إن العربون إما متبرع به البائع أو المؤجر، أو مؤديً بشرط التزمه المشتري أو المستأجر الناكل، أو جزء من الثمن أو الأجرة إن تم العقد.
(1) نيل الأوطار: 3/ 400.
(2)
حديث صحيح كما ذكر السيوطي، أخرجه أبو داود والحاكم عن أبي هريرة.
(3)
حديث صحيح أيضا كما ذكر السيوطي، أخرجه الحاكم عن أنس وعائشة.
(4)
إعلام الموقعين: 3/ 401-402.
(2)
أحكام العربون
هناك أحكام في عقد العربون ينبغي بيانها وهي ما يلي:
- هل يجوز العربون في بيع النقد بجنسه وفي الصرف؟
عقد الصرف: هو بيع النقد بالنقد جنسًا بجنس أو بغير جنس، أي بيع الذهب بالذهب، أو الفضة بالفضة، أو الذهب بالفضة أو بالعكس، مصوغًا ونقدًا (1) . وهو بيع جائز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز بيع الأموال الربوية ببعضها عند اتحاد الجنس مع المماثلة أو المساواة، أو عند اختلاف الجنس، ولو مع التفاضل بشرط التقابض بأن كان يدًا بيد.
فالتقابض شرط في إباحة عقد الصرف، منعًا من الوقوع في ربا الفضل، أو ربا النسيئة، ولا يجوز اشتمال الصرف على الأجل، وإلا فسد الصرف؛ لأن قبض البدلين مستحق قبل الافتراق، والأجل يؤخر القبض، فيفسد العقد (2) .
ويترتب على اشتراط عدم التأجيل في بيع النقد بجنسه أو الصرف: أنه لا يجوز العربون فيهما؛ لأنه يؤدي إلى التأجيل، والتأجيل يفوَّت شرط تقابض البدلين في مجلس العقد، مما يؤدي إلى الوقوع في ربا النسيئة: وهو تأجيل قبض أحد البدلين عن مجلس العقد، والربا حرام.
- هل يجوز أن يكون العربون مبلغًا مستقلا عن سعر السلعة؟
ذكرت فيما تقدم أن الحنابلة قالوا: يصح بيع العربون وإجارته: وهو دفع بعض ثمن أو أجرة، بعد عقد لا قبله، ويقول: إن أخذته أو جئت بالباقي، وإلا فهو لك، فإن وفى فما دفع فمن ثمن وإلا فلبائع ومؤجر (3) .
وهذا التصور لعقد العربون بيعًا أو إجارة يدل على أن العربون إنما هو جزء من الثمن أو الأجرة إن تم العقد، فلا يجوز أن يكون مبلغًا مستقلا عن سعر السلعة.
- هل يجوز العربون في الخدمات كما في السلع؟
يجوز العربون في الإجارة كما يجوز في البيع كما أبان الحنابلة فيما تقدم، والإجارة واردة على المنافع أو الأعمال، وهي بيع المنفعة، فتشبه الإجارة البيع من هذا القبيل، والمنفعة أو العمل خدمة يقدمها المؤجر في إجارة المنافع كالسكنى في الدار، أو المستأجر في إجارة الأعمال كعمال البناء والحمالين، فلا يكون هناك مانع من العربون في أداء الخدمات، كالاتفاق مع طبيب أو مهندس مثلاً على القيام بكشف على مريض أو إجراء عملية جراحية، أو تقديم تصميم لبناء أو رسم خريطة، فذلك استئجار على عمل أو مقاولة، فيجوز دفع العربون من المستفيد لمن يتعهد بتقديم خدمة من الخدمات.
(1) فتح القدير مع العناية: 5 /284؛ البدائع: 5 /215؛ رد المحتار: 244.
(2)
الفقه الإسلامي وأدلته للدكتور وهبة الزحيلي: 4 /637-638.
(3)
غاية المنتهى: 2 /26.
(3)
مسائل
هناك مسائل متعلقة ببيع العربون وهي ما يلي:
- هل يجوز العربون عند شراء الأوراق المالية كالأسهم؟
إن شراء الأوراق المالية كالأسهم نوع من أنواع البيوع، وبما أنه يجوز بيع العربون – على ما رجحت من مذهب الحنابلة – فيجوز العربون في هذا النوع من التعامل، توثيقًا للعقد، وبعدًا من إلحاق الضرر بمالك الأسهم التي يتم مبادلتها عادة بسرعة في الأسواق المالية وغيرها.
- هل يجوز العربون في بيع المرابحة؟
يشترط في بيع المرابحة شروط صحة البيع العامة وشروط خاصة بها وهي علم المشتري بالثمن الأول في مجلس العقد، والعلم بمقدار الربح أو الخسارة في مجلس العقد، وأن يكون رأس المال والربح والخسارة من النقود الرائجة في التعامل أو من المثليات وهي المكيلات والموزونات والزرعيات والعدديات المتقاربة، وألا ينتج عن البيع مرابحة ربا، كبيع قفيز حنطة بقفيز حنطة ونصف قفيز، وأن يكون العقد الأول الذي تملك به البائع السلعة صحيحًا غير فاسد.
فإذا توافرت هذه الشروط العامة والخاصة، جاز بيع المرابحة بالعربون، لأنه كسائر البيوع، إلا أنه إذا اشتمل العقد على الربا، كبيع صاعين من الحنطة بثلاثة آصع من الشعير، وجب التقابض في مجلس العقد، فإذا كان إلى أجل فسد للربا، والعربون يؤدي للتأجيل، فيفسد العقد في هذه الحالة دون غيرها.
- هل يلزم في بيع العربون أن تكون السلعة حاضرة للمعاينة، أم يجوز عند المواعدة على الشراء؟
يجوز بيع العين أو السلعة الحاضرة، والغائبة أو غير المرئية عند جمهور الفقهاء غير الشافعية، ويثبت خيار الرؤية في بيع الغائب الموصوف، وفي هذه الحالة سواء دفع العربون أو لم يدفع، يصح العقد، ولكن يبقى الخيار للمشتري، ويظل العقد غير لازم يجوز فسخه، واسترداد العربون.
ولا يجوز العربون على المواعدة على الشراء؛ لأن الحنابلة الذين صححوا عقد العربون بيعًا أو إجارة قالوا كما تقدم: "هو دفع بعض ثمن أو أجرة بعد عقد لا قبله
…
" وبما أن المواعدة على الشراء ليست عقدًا، فلا يجوز فيها التعامل بالعربون.
الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي
خاتمة البحث
تبين لدينا من البحث حول بيع العربون ما يأتي:
1-
يتصور العربون في كل من البيع والإجارة وشراء الأوراق المالية كالأسهم وبيع المرابحة وفي الخدمات العامة كالاتفاق مع طبيب أو مهندس أو مقاول على عمل معين.
2-
عقد العربون جائز في العقود السابقة على الراجح وهو مذهب الحنابلة خلافًا للجمهور ولا يجوز عقد العربون في بيع النقد بجنسه وفي الصرف وفي المواعدة على الشراء، ولا يصح إلا بعد عقد لا قبله، ولا يجوز أن يكون العربون مبلغًا مستقلا عن سعر السلعة، وإنما هو جزء من الثمن أو الأجرة.
3-
يكون النكول في عقد العربون للمشتري أو المستأجر الذي يدفع العربون، بشرط تحديد مدة للانتظار، أما العقد بالنسبة للبائع فهو لازم، وكذا بالنسبة للمشتري، فإن نكل خسر العربون.
4-
لا يتنافى اشتراط العربون مع مقتضى العقد، ويحل شرعًا للبائع أخذه طيبًا حلالاً إذا نكل العاقد الآخر عن إتمام العقد؛ لأنه إما تبرع في النهاية أو شرط اشترطه الناكل عن الصفقة على نفسه إذا اختار فسخ العقد، ولا يعد أكلاً لأموال الناس بالباطل، وإنما هو في مقابل الضرر الذي لحق بالبائع أو المؤجر بتفويت فرصة إبرام صفقة أخرى.
والحمد لله رب العالمين
ملخص البحث
تعارف الناس بيع العربون وتعاملوا به كثيرًا في الحياة التجارية قديمًا وحديثًا، وأصبح قاعدة مستقرة مألوفة لا تثير نزاعًا ولا إشكالاً، والناس بحاجة ماسة إليه لتوثيق العقود والتأكد من إبرام الصفقة والالتزام بها والوفاء بشروطها.
والعربون جزء من الثمن أو الأجرة، وهو جائز في البيع والإيجار، فإن تم العقد احتسب من البدل، وإن نكل المشتري أو المستأجر عن العقد، استحقه البائع. ويجوز أيضا في شراء الأوراق المالية كالأسهم، وفي بيع المرابحة وفي تقديم الخدمات من طبابة أو هندسة أو مقاولة.
واختلف العلماء في شأنه فريقين؛ الجمهور يمنعونه والحنابلة يجيزونه، ولكل فريق أدلة نقلية وعقلية، تبين منها ضعف الأحاديث التي استند إليها الفريقان، وقد رجحت مذهب الحنابلة لقوة أدلته بالعرف العملي وفعل الصحابة والتابعين، وكون العربون اشترطه المشتري أو المستأجر على نفسه، فوجب عليه الوفاء، وحل للبائع أخذه حلالاً طيبًا شرعًا، لأدلة مشروعيته الكثيرة من الأثر والعرف والحاجة إليه، ومنها:((المسلمون على شروطهم)) و" مقاطع الحقوق عند الشروط، ولك ما شرطت".
وليس العربون أكلاً لأموال بالباطل، وإنما هو في مقابل ضرر التعطل والانتظار، ويشترط له أن يكون الانتظار في وقت معين، منعًا من إلحاق الضرر بالبائع وتحقيقًا للمصلحة. ولكن العقد بالنسبة للبائع لازم. وهو لازم أيضا للمشتري عملاً بمبدأ استقرار المعاملات ووفاء بالعقود، فإن اختار المشتري أو المستأجر النكول عن العقد، خسر العربون.
وليس في بيع العربون غرر؛ لأن المبيع معلوم والثمن معلوم، والقدرة على التسليم متوفرة.
ولا يجوز عقد العربون في عقود الصرف (بيع النقد بالنقد) ولا في المواعدة على الشراء؛ لأنه لا يصح إلا بعد عقد لا قبله، ولا يجوز أن يكون العربون مبلغًا مستقلا عن سعر السلعة، وإنما هو جزء من الثمن أو الأجرة.
التوصية المقترحة في بيع العربون
عقد العربون جائز للحاجة في البيع والإيجار بشرط تحديد زمن معين للانتظار، وكذا في بيع وشراء الأوراق المالية كالأسهم، وفي بيع المرابحة إلا في حال الوقوع في الربا، وفي حال تقديم العربون في مقابل الخدمات كما في السلع. لا يصح في الصرف ولا في المواعدة على الشراء. ويعد العربون جزءًا من الثمن أو الأجرة بعد عقد لا قبله، في حالات إباحته، وعند إتمام العقد، فإن لم يتم العقد، كان حقًّا للبائع، بسبب إضراره وانتظاره وتعطله، وقبول الناكل عن العقد خسارته حال نكوله.
الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي
أهم المصادر
- فتح القدير لابن الهمام، مطبعة مصطفى محمد بالقاهرة.
- بداية المجتهد لابن رشد، مطبعة الاستقامة بمصر.
- المنتقى على الموطأ للباجي، مطبعة السعادة بمصر.
- الشرح الكبير للدردير مع حاشية الدسوقي، مطبعة البابي الحلبي.
- القوانين الفقهية لابن جزي، مطبعة النهضة بفاس.
- شرح المجموع للنووي، مطبعة الإمام بمصر.
- مغني المحتاج للخطيب الشربينى، مطبعة البابي الحلبي.
- المغني لابن قدامة المقدسي، الطبعة الثالثة بدار المنار بالقاهرة.
- غاية المنتهى للشيخ مرعي بن يوسف، الطبعة الأولى بدمشق.
- إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن قيم الجوزية، طبع القاهرة، تحقيق محيى الدين عبد الحميد.
- الموسوعة الفقهية الكويتية.
- الفقه الإسلامي وأدلته للدكتور وهبة الزحيلي، دار الفكر بدمشق.
- نيل الأوطار للشوكاني، طبع البابي الحلبي.
- مصادر الحق للسنهوري، الطبعة الثانية بالقاهرة 1958.
- المدخل الفقهي العام للأستاذ مصطفى الزرقاء، الطبعة السابعة بدمشق.