المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌حوادث السيرإعدادالشيخ عبد القادر محمد العماري - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ٨

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد الثامن

- ‌الأخذ بالرخص الشرعية وحكمهإعدادالدكتور: وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌موضوع: " الأخذ بالرخص الشرعية وحكمه

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادالدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادالشيخ خليل محيي الدين الميس

- ‌الرخصة (التلفيق)إعدادالشيخ خليل محيي الدين الميس

- ‌التلفيق والأخذ بالرخصة وحكمهماإعدادحجة الإسلام الشيخ محمد علي التسخيري

- ‌الأخذ بالرخص الشرعية وحكمهإعدادمحمد رفيع العثماني

- ‌حكمالرخصة وتتبع الرخصفي الفقه الإسلامي

- ‌الأخذ بالرخصةإعدادأ. د. حمد عبيد الكبيسي

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادالشيخ مجاهد الإسلام القاسمي

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادأ. د. عبد العزيز عزت الخياط

- ‌الرخصةإعدادالشيخ محمد الشيباني بن محمد بن أحمد

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهتتبع الرخص – التلفيق ورأي الفقهاء فيهإعدادفضيلة الشيخ مصطفى كمال التارزي

- ‌الأخذ بالرخص وحكمهإعدادالشيخ الطيب سلامة

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادالدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين

- ‌الأخذ بالرخص وحكمهإعدادالدكتور أبو بكر دوكوري

- ‌بيع العربُونإعدادفضيلة الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌بيع العربُونإعدادالدكتور وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌بيع العربونإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌بيع المزايدةإعدادفضيلة الشيخ محمد المختار

- ‌عقد المزايدةبين الشريعة الإسلامية والقانوندراسة مقابلةمع التركيز على بعض القضايا المعاصرةإعدادعبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان

- ‌قواعد ومسائلفيحوادث السيرإعدادالقاضي محمد تقي العثماني

- ‌ موضوع "حوادث السير

- ‌حوادث السيرإعدادد. عبد الله محمد عبد الله

- ‌حوادث السيرإعدادالشيخ عبد القادر محمد العماري

- ‌حوادث السيرإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌التطبيقات الشرعيةلإقامة السوق الإسلاميةإعدادالدكتور علي محيي الدين القره داغي

- ‌التطبيقات الشرعيةلإقامة السوق الإسلاميةإعدادالأستاذ الدكتور / علي السالوس

- ‌الائتمان المولد على شكل بطاقةمع صيغة مقترحة لبطاقة ائتمانية خالية من المحظورات الشرعيةإعدادسعادة الدكتور محمد القري بن عيد

- ‌بطاقات الائتمانإعدادالشيخ حسن الجواهري

- ‌سر المهنة الطبية بين الكتمان والعلانيةإعدادالدكتور أحمد رجائي الجندي

- ‌مسؤولية الطبيبإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌مداواة الرجل للمرأةوالمرأة للرجلإعدادالدكتور محمد علي البار

- ‌نقص المناعة المكتسبة (الإيدز)الأحكام المتعلقة بالمرضى والمصابينإعدادأ. د. مصطفى عبد الرؤوف أبو لسان

- ‌بعض المشاكل الأخلاقية والاجتماعيةالناتجة عن مرض الإيدز(نقص المناعة المكتسبة)إعدادالدكتور محمد علي البار

- ‌مرض الإيدز(نقص المناعة المكتسبة)أحكامه وعلاقة المريض الأسرية والاجتماعيةإعدادالدكتور سعود بن مسعد الثبيتي

- ‌التداوي بالمحرماتإعدادالدكتور محمد علي البار

- ‌بحوث مجمعية

- ‌حُسن وفاء الديونوعلاقته بالربط بتغير المستوى العام للأسعارإعدادالدكتور صالح بن زابن المرزوقي البقمي

- ‌ربط الأجور بتغير المستوى العام للأسعارفي ضوء الأدلة الشرعيةإعدادد. حمزة بن حسين الفعر

- ‌الربط القياسي للأجور بالمستوى العام للأسعارتحليل من منظور إسلامي لمشكلة الأجورفي ظل التضخم والعلاج المقترحإعدادد. عبد الرحمن يسري أحمد

- ‌التضخم والربط القياسيدراسة مقارنة بين الاقتصاد الوضعيوالاقتصاد الإسلاميإعدادالدكتور شوقي أحمد دنيا

- ‌ربط الأجور بتغير المستوى العام للأسعاربين الفقه والاقتصادإعدادد. محمد أنس الزرقا

- ‌ندوة قضايا العملةالربط القياسي للديون بعملة اعتباريةإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌ملاحظات أساسيةفي مسألة ربط الأجور والمستحقاتإعدادالدكتور سيف الدين إبراهيم تاج الدين

- ‌مشاكل البنوك الإسلاميةمحاورإعدادمجموعة دلة البركة

- ‌مشاكل البنوك الإسلاميةمحاورإعدادبيت التمويل الكويتي

- ‌الصعوبات التي تواجه البنوك الإسلاميةوتصورات لكيفية مواجهتهاإعدادأ. د. إسماعيل حسن محمد

- ‌مشاكل البنوك الإسلاميةعقد السلم ودوره في المصرف الإسلاميإعدادالشيخ صالح الحصين

- ‌مشكلات البنوك الإسلامية في الوقت الحاضرإعدادد. محمد نجاة الله صديقي

- ‌في مشكلات المصارف الإسلاميةإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌حكم المشاركة في أسهم الشركات المساهمةالمتعاملة بالرباتجربة مجموعة دلة في أسلمة الشركاتعن طريق شراء أسهمهاإعدادالشيخ صالح عبد الله كامل

- ‌المشاركة في شركات تتعامل بالحرامإعدادالشيخ عبد الله بن بيه

الفصل: ‌حوادث السيرإعدادالشيخ عبد القادر محمد العماري

‌حوادث السير

إعداد

الشيخ عبد القادر محمد العماري

قاضي المحكمة الشرعية بالدوحة – قطر

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة:

لا ريب أن حوادث السير وما تحدثه المركبات الميكانيكية من سيارات ونحوها من أضرار بالأرواح والممتلكات أثناء سيرها بالطرق العامة بقيادة سائقها والتي لم تكن موجودة في السابق، وما يحدثه الإنسان عن طريق الخطأ يندرج تحت ما يسميه القانونيون جرائم الإهمال، ومع الأسف إن بعض القانونيين المسلمين يجهلون أن فقهاءنا الأوائل رحمهم الله قد بحثوا في جرائم الإهمال بحسب ما كان يحدث في بيئتهم وقرروا فيها أحكاما شرعية مأخوذة من النصوص العامة والخاصة في شريعة الإسلام، ولم يكلف هؤلاء القانونيون أنفسهم للبحث في كتب الفقه الإسلامي، بل اعتمدوا على ما يقوله الأجانب على تراثهم، من ذلك ما جاء في كتاب (جريمة الإهمال) للدكتور أبو اليزيد علي المتيت نقلا عن (ليون بوشيه) الفرنسي عن تطور جرائم الإهمال في مصر في العصور المختلفة، فقد جاء تحت عنوان: العصر الإسلامي (وبعد الفتح الإسلامي لمصر سنة (641 م) تغيرت القوانين المصرية بما يتلائم مع الدين الجديد، دين الإسلام، فطبقت القواعد الواردة في القرآن الكريم، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، جاء بالقرآن الكريم:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 178] كما يقول تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَاّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَاّ أن يَصَّدَّقُواْ فإن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 92] .

ص: 718

يبين ذلك أن مصر بعد أن انتقلت من ولاية رومانية إلى ولاية إسلامية، أخضعت لقواعد أحكام الدين الإسلامي، وقد اتخذ الدين الإسلامي جزاء إنسانيا واجتماعيا في نفس الوقت عتق عبد، ودفع تعويض للمجني عليه أو لذويه، فإن لم يكن لدى الجاني عبد، وليس من الميسور عليه أن يعوض المجني عليه أو ذويه عما أصابهم من ضرر، فعليه أن يصوم شهرين، وعلق المؤلف على ذلك بقوله: من ذلك يتبين أن القرآن الكريم لم يذكر صراحة إلا القتل بإهمال، لذلك يجب أن نتبع القياس والاجتهاد في حالات الضرب أو الجرح بإهمال، ونلاحظ أن القانون الإسلامي جعل التعويض اختياريا وليس إجباريا، فإن كان اختياريا بالنسبة للمجني عليه أو ذويه لهم أن يطلبوه أو لا يطلبونه، فقد كان كذلك اختياريا بالنسبة للجاني فله أن يدفعه وإن لم يستطع فصيام شهرين. معنى ذلك أن العصر الإسلامي كان يتميز بأنه عصر ديني يؤمن فيه الناس بالله ورحمته ويطلبون غفرانه.

ثم قال بعد ذلك: ظلت مصر متبعة التشريع الإسلامي حتى ظهرت تشريعاتنا الحديثة سنة (1883) ميلادية وعدلت سنة (1937) ميلادية متبعة التشريع الفرنسي، آخذة بالمواد (319 – 320)"ملغاة" عقوبات، وأصبح الإهمال جريمة يعاقب عليها في مصر، وللمجني عليه أن يرفع الدعوى المدنية مطالبا بالتعويض عما أصابه من أضرار، كما للنيابة العامة أن تحرك الدعوى العمومية لمؤاخذة الفاعل جنائيا عن خطته (المادة 238، 244 / عقوبات على القتل والجرح بالإهمال

إلخ) والدكتور عفا الله عنه وإن حرص على أن ينوه بحكمة التشريع الإسلامي في عتق الرقبة ونظرته الإنسانية في ذلك، إلا أنه وقع في خطأ كبير في متابعته للأستاذ الفرنسي الذي فهم من الآية أن التعويض اختياري، فإن شاء الجاني أن يدفعه للمجني عليه، أو لا يدفعه، ويصوم بدلا من ذلك شهرين متتابعين، إذا عجز عن عتق الرقبة، والآية لا تقتضي ذلك، فالدية المسلمة إلى أهل المجني عليه ليس مختارا في دفعها الجاني، أو عدم دفعها، بل هو حق ثابت لأهل المجني عليه، لا تقبل الإسقاط، إلا إذا تنازلوا عنها باختيارهم، كما أنه لو كان للمجني عليه ورثة صغار، لا يستطيع أحد أن يتنازل عن حقهم في التعويض، وهذا أمر معروف في الفقه الإسلامي، فالأمر ليس راجعا إلى حقهم في التعويض، وهذا أمر معروف في الفقه الإسلامي، فالأمر ليس راجعا إلى اختيار الجاني، والآية بينت أن في قتل الخطأ دية وكفارة، وكل ذلك ملزم به الجاني، فالدية حق المجني عليه، والكفارة حق الله، ولو رجع المؤلف إلى المراجع الإسلامية لما وقع في الخطأ، الخطأ الآخر الذي وقع فيه المؤلف هو أنه قرر أن الإهمال لم يكن جريمة يعاقب عليها في مصر إلا بعد أن طبق في مصر التشريع الفرنسي وقد ظن أنه لا نصوص فقهية إسلامية تعرضت لجريمة الإهمال، إلا ما جاء في الآية الكريمة، التي تبع في تفسيرها ليون بوشيه، الذي أساء فهم الآية، وجعل التعويض في الإسلام على الجاني اختياريا، فإن شاء دفعه، وإن لم يشأ لم يدفعه.

ص: 719

والمعروف أن القرآن الكريم ليس فيه تفصيلات الأحكام الفقهية، وإنما فيه بعض الأحكام يذكرها لمناسبتها ليقاس عليها، وتؤخذ تفاصيل الأحكام من السنة، واجتهادات الفقهاء، إذ القرآن ليس كتاب قانون قضائي، حتى تقتصر عليه في الأحكام القضائية، إذ مهمة القرآن أعم وأشمل، وهو كتاب هداية وإرشاد، وليس من مهمته أن يأتي بتفصيلات الأحكام، وهذه الأحكام القضائية تعتمد على اجتهادات العلماء حسب الوقائع والأحداث، فيستنبطون الحكم من الكتاب والسنة، والإجماع والقياس، والسوابق القضائية في أحكام السلف وأقوالهم من الصحابة والتابعين.

والذي يجب أن نعترف به أن غلق باب الاجتهاد اثر على حيوية الفقه الإسلامي ونشاطه، ومع ذلك فإن الفقهاء على مر التاريخ بحثوا في كل المسائل التي تعرض عليهم، وأصدروا فيها أحكاما مناسبة لزمانهم مستندين على نصوص عامة وخاصة، غير أنه ليس هناك حصر وتنظيم وتقنين للأحكام والفتاوى، مما جعل بعض الباحثين يتيه في الكتب، ولا يستطيع أن يستخلص منها ضالته، ورحم الله عبد القادر عودة الذي قام بجهد مشكور، عندما ألف في القانون الجنائي الشرعي مجلدين، كانت بحق فتحا عظيما في مجال تقريب الأحكام الشرعية الجنائية، من فهم الباحثين المعاصرين، ومقارنتها بالقوانين الوضعية، فكان هذان المجلدان من اهم المراجع الآن للقضاة والباحثين، فقد غاص رحمه الله في التراث الفقهي الإسلامي، واستخرج لآلئ هي أعظم من أصالتها وبريقها ولمعانها، مما أتت به القوانين الوضعية من نظريات. وأعتقد أن مؤلف كتاب (جرائم الإهمال) الذي حظي بشهادة دكتوراه الدولة في العلوم القانونية من جامعة باريس، ودبلوم معهد العلوم الجنائية من جامعة نانسي بفرنسا، لو كلف نفسه بالاطلاع على كتاب عبد القادر عودة، أو كتاب الشيخ محمد أبو زهرة (الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي) ؛ لسهل عليه معرفة حكم الفقه الإسلامي في جريمة الإهمال، ولعرف كيف سبقت الشريعة الإسلامية أحدث النظريات فيما يتعلق بالموضوع الذي يبحثه.

ص: 720

كيف يدعي أن الإهمال لم يكن جريمة يعاقب عليها في مصر إلا بعد أن أخذت بالقانون الفرنسي، وهذه نصوص الفقهاء كلها تؤكد وتنص على مسؤولية المهمل في الشرع الإسلامي، إذا ترتب على إهماله ضرر بالغير، ومن جملة نصوص الفقهاء مثلا أنه يؤاخذ الذي يترك غريقا يغرف ولا ينقذه، ويعتذر بصلاته، ويحق عليه العقاب، لأنه يترك اللازم يعمل ما دونه لزوما، كذلك نصوا على مسؤولية الطبيب الذي يتسبب بإهماله في وفاة المريض، أو إلحاق الضرر به.

وإننا هنا نذكر ما قاله العز بن عبد السلام فيما يتعلق بالغريق في كتابه (قواعد الأحكام) وقد كان ابن عبد السلام رئيسا للقضاة في مصر في عهد المماليك، قال:(تقديم إنقاذ الغرقى المعصومين عند الله أفضل من الصلاة، والجمع بين المصلحتين ممكن، بأن ينقذ الغريقُ، ثم يقضي الصلاة، ومعلوم أن ما فاته من أداء الصلاة لا يقارب إنقاذ إلا بالفطر، فإنه يفطر وينقذه، وهذا أيضا من باب الجمع بين المصالح؛ لأن في النفوس حقا لله تعالى، وحقا لصاحب النفس، فقدم ذلك على أداء الصوم) .

وجاء في كتاب المحلى لابن حزم، أن رجلا استسقي على باب قوم فلم يسقوه، حتى مات من العطش، فضمنهم عمر بن الخطاب ديته، ومعلوم أن الحكم بالدية إذا كانوا قد امتنعوا عن سقيه إهمال، أما إذا كان الامتناع متعمدا من اجل قتله فإن عليهم القصاص، كمن يحبس شخصا ويمنعه الطعام والشراب حتى يموت، فإن هذا يقول عنه الفقهاء ترك قصد به القتل، فهو ترك يحمل معني الإيجاب، ونص الفقهاء أن الأم إذا منعت ولدها الرضاع حتى مات فقد قتلته، أن قصدت ذلك، وكذلك إذا تركت الأم سرة ولدها من غير ربط، ولا يخفى أن الفقهاء لهم وجهات نظر مختلفة في مثل هذه الأمور، كغيرها من الموضوعات التى تختلف فيها الاجتهادات وفي مثله جرائم الترك، وجرائم الفعل.

ص: 721

يقول الشيخ محمد أبو زهرة: (وإنه بعد استعراض الآراء المختلفة والمناهج المختلفة، ننتهي بلا ريب إلى أن فقهاء المسلمين قد سبقوا إلى دراسة الموضوع دراسة وافية من كل ناحية، حتى الأمثلة التي يسوقها العلماء في الفقه الحديث هي بعض الأمثلة التي ذكرها فقهاء المسلمين قديما، ولعل النقل الذي نقلناه عن ابن حزم يوضح تمام التوضيح كيف كان يربط ابن حزم بين الترك والجريمة ربطا يجعله سببا بها، وكيف يكون بفرض العمد والخطأ، وهو نص لم نظفر بمثله موضحا مبينا محررا في الكتب التي تصدت لبيان وضع هذه الجريمة في القوانين الحديثة، وأنا لهذا اسجل سبق المسلمين إلى تحرير هذه الجريمة بما لم يسبقوا بمثله، وأنه بالمقارنة بالفقه الحديث والفقه الإسلامي، نجد الفقه الحديث يتلاقي مع مذهب أبي حنيفة في الجملة، فأبو حنيفة لم يعتبر أن الجريمة بالترك تكون عقوبتها كعقوبة الجريمة بالفعل، وإن كان يفرض لها عقوبة، ولا يخليها من معني الإجرام، ولذلك يقرر فقهاء المذهب الحنفي، أن من يكون في بادية، ومعه فضل ماء، وبجواره شخص لا ماء معه، ويغلب على ظنه أنه سيموت أن لم يشرب من ماء صاحب الماء، وامتنع الآخر عن سقيه فقاتله فقتله، فإنه لا دية له؛ لأن المنع اعتداء، فكان طالب الماء حاله حال المعتدي عليه، وهذا يدل على أن أبا حنيفة يعتبر الترك إجراما، وإن لم تكن عقوبته هي عقوبة الفعل في الجريمة. والفقه الألماني يتقارب مع مذهب مالك والظاهرية، وإن كان دونهما لأنه اعتبر الترك جريمة إذا كان تركا لواجب قانوني، بينما هذان المذهبان وغيرهما لا يفرقان على تركه تعريض حياة للتلف، يتحول إلى واجب قضائي، وإن ذلك مقرر حتى في مذهب أبي حنيفة، فإرضاع الأم لولدها واجب ديني عليها؛ ولكن إذا كان الولد لا يلقم إلا ثديها، أو لم يكن للولد ولا لأبيه مال يستأجر به ظئرا لترضعه. ويخشى على الولد الهلاك، فإن ذلك الواجب ينتقل من الواجب الديني المجرد إلى الواجب القضائي الذي يحكم به القضاء، ونرى من هذا تعميما في الفقه الإسلامي لم يسبقه سابق ولم يلحقه لاحق)(1) .

يلاحظ أن القوانين الوضعية في هذا المجال تفرق بين واجبات إنسانية خلقية، وواجبات قانونية، فإذا كان الذي ترك يملك الترك بحكم القانون لا يعد قاتلا، وإن كان الذي ترك لا يملك الترك بحكم القانون، كترك السرة من غير ربط، يعد قاتلا، إما في الشريعة الإسلامية فإن من يرى إنسانا متعرضا للأذى عليه أن يعمل كل ما في طاقته لمنع الأذى، لا فرق بين الماء والزاد والافتراس، وقد ثبت ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم:((من كان عنده فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان عنده فضل زاد فليعد به على من لا زاد له)) ، ويقول الراوي: ثم أخذ يعدد الأصناف حتى ظننا أنه ليس لنا حق في فضل أموالنا، وكان ذلك في سفر. فالإسلام أوجب التعاون، وأوجب كل فعل فيه إنقاذ للنفس البشرية، ودفع الأذى عنها.

(1) الجريمة للشيخ أبو زهرة

ص: 722

إن التراث الفقهي الإسلامي يجب أن يكون محل اهتمام الحقوقيين العرب، وليس من واجبهم أن يدرسوه فقط، بل واجبهم أن يقوموا بنشره باللغات الحية، فإن ذلك واجب ديني ووطني وحضاري، وقد رأينا كيف أن عدة محاضرات ألقيت في المؤتمر الدولي بباريس قبل حوالي ثلاثين عاما، جعلت المؤتمرين يعترفون بسمو الفقه الإسلامي، وإنه لا يقل أهمية عن القوانين الحديثة، ونلاحظ مع الأسف أن كثيرا المثقفين العرب من الحقوقين والأدباء والفنانين وغيرهم ممن هم يهتمون بالثقافة الغربية، أكثر من اهتمامهم بتراثهم، بل لا يلقون بالا لما عندهم، فترى كثيرا منهم يحمل أرفع الشهادات من الجامعات الغربية في الأدب والتربية والفن والتاريخ والقانون، وغيرها من العلوم النظرية، وتراه ملما بكل صغيرة وكبيرة في حياة الغرب وتاريخه وثقافته وجغرافيته، وإذا تحدث تجد نصف كلامه باللغة الأجنبية من كثرة ما يستشهد به من الثقافة الغربية، ويذكر أسماء الأدباء والقادة والمسرحيين والفنانين وغيرهم، واسماء المناطق والبلدان والجبال والأنهار والمسارح والمتاحف، ولكنه لا يعرف شيئا عن بلادهن ولا عن تراثه جاهلا بأبسط المعلومات في الثقافة الإسلامية، والتاريخ الإسلامي، ولا أدل على ذلك مما يذكر بأن إحدى الجامعات السعودية استدعت خبيرا في التعليم من إحدى البلاد العربية لمراجعة المناهج التي وضعت للجامعة، وأرادوا تكريم الخبير بتنظيم زيارة له للأماكن المقدسة، فبعد أن انتهى إلى العمرة، والطواف بالكعبة، قالوا له: غدا أن شاء الله ستسافر إلى المدينة المنورة لزيارة الرسول صلى الله عليه وسلم، والصلاة في الحرم النبوي، فقال: لم إذا نذهب المدينة أليس الرسول مدفونا هنا في الكعبة؟ فقد كان يظن أن قبر الرسول داخل الكعبة، وأن الناس إنما يطوفون حول الكعبة من أجل أن القبر داخلها

أليس هذا الموقف مما يثير الحزن والأسى؟

ص: 723

إننا ندعو المثقفين العرب والمسلمين أن يلتفتوا إلى ما عندهم، ولا يتركوا منا عند غيرهم، مما فيه فائدة لأمتهم، فليس ما عند غيرهم كله مفيد، كما أنه ليس كل ما عندنا مفيد، ومع الأسف أننا لا نهتم إلا بما يجب أن نتركه، ونهيل عليه الترابِ.

وإننا نرى أن الاهتمام بالإيجابي من تراثنا ونشره، وخاصة في مجال الفقه أمر تتطلبه الحضارة العالمية، ففوق أنه واجب ديني وطني، فهو متطلب وعمل حضاري، والجهل بتراثنا خزي وعار.

ص: 724

نصوص من كتب فقهاء الإسلام عن حوادث السير

ووسائل النقل في عصرهم

1-

في فقه الحنفية (1) :

من كتاب المبسوط – لشمس الدين السرخسي – عن كتاب ظاهر الرواية لمحمد بن الحسن الشيباني – المتوفى (189) هجرية:

(وإذا سار الرجل على دابة – أي الدواب كانت – في طريق المسلمين، فوطئت إنسانا بيد أو رجل وهي تسير فقتلته، فديته على عاقلة الراكب. والأصل في هذا أن السير على الدابة في طريق المسلمين مباح مقيد بشرط السلامة، بمنزلة المشي فإن الحق في الطريق لجماعة المسلمين، وما يكون حقا للجماعة يباح لكل واحد استيفاؤه بشرط السلامة؛ لأن حقه في ذلك يمكنه من الاستيفاء، ودفع الضرر عن الغير واجب عليه، فيقيد بشرط السلامة ليعتدل النظر من الجانبين، ثم إنما يشترط عليه هذا القيد فيما يمكن التحرز عنه؛ دون ما لا يمكن التحرز عنه تعذر عليه استيفاء حقه؛ لأنه لا يمتنع من المشي والسير على الدابة مخافة أن يقتل بما لا يمكن التحرز عنه فأما ما يستطاع الامتناع عنه لو شرطنا عليه صفة السلامة من ذلك لا يمتنع عليه استيفاء حقه وإنما يلزمه به نوع احتياط في الاستيفاء.

(1) المبسوط، الجزء (26) ، المجلد (13) طبع دار المعرفة

ص: 725

إذا عرفنا هذا فنقول: التحرز عن الوطء على شيء في وسع الراكب إذا أمعن النظر في ذلك، فإذا لم يسلم كان جانيا، وهذه جناية منه بطريق المباشرة؛ لأن القتل إنما حصل بفعله حين كان هو على الدابة التي وطئت، فتجب عليه الكفارة وعلى عاقلته الدية، وإن نفحته برجلها وهي تسير فلا ضمان على الراكب لقوله عليه الصلاة والسلام:((الرجل جبار)) أي هدر والمراد: نفحة الدابة بالرجل وهي تسير، وهذا لأنه ليس في وسعه التحرز من ذلك؛ لأن وجه الراكب أمام الدابة لا خلفها، وكذلك النفحة بالذنب، ليس في وسعه التحرز. عن ذلك وقال ابن أبي ليلى: هو ضامن لجميع ذلك، وقاس الذي يسير على الدابة بالذي أوقف دابته في الطريق فنفحت برجلها أو يدها، فكما أن هناك يجب ضمان الدية على عاقلته فكذلك هنا، ولكنا نقول في الفرق بينهما هو ممنوع من إيقاف الدابة على الطريق؛ لأن ذلك مضر بالمارة، ولان الطريق ما أعد لإيقاف الدواب فيه فيكون هو في شغل الطريق بما لم يعد الطريق له متعديا والمتعدي في التسبب يكون ضامنا، فلهذا يسوى فيه بين ما يمكن التحرز عنه وبين ما لا يمكن وهذا لأنه أن كان لا يمكن، التحرز عن النفحة بالرجل والذنب فهو يمكنه التحرز عن إيقاف الدابة؛ بخلاف الأول، فإن السير على الدابة في الطريق مباح له؛ لأن الطري معد لذلك، ولأنه لا يضر بغيره وهو محتاج إلى ذلك فربما لا يقدر على المشي فيستعين بالسير على الدابة، وإذا لم يكن نفس السير جناية قلنا لا يلزمه ضمان ما لا يستطاع الامتناع منه، (ألا ترى) أن الماشي في الطريق لا يكون ضامنا لما ليس في وسعه الامتناع منه بخلاف الجالس والنائم في الطريق.

ولو كدمت أو صدمت أو خبطت أو ضربت بيدها إنسانا وهو يسير عليها فذلك كله مما يمكن التحرز عنه فيكون موجبا للدية على عاقلته بمنزلة ما لو وطئت، إلا أن هذه الأسباب لا تلزمه الكفارة عندنا؛ لأن الكفارة جزاء مباشرة القتل فلا تجب بالتسبب على ما نبينه، وإن ضربت بحافرها حصاة أو نواة أو حجرا أو شبه ذلك فأصاب إنسانا وهي تسير فلا ضمان عليه؛ لأن هذا لا يمكن التحرز عنه فهو بمنزلة التراب والغبار المنبعث من سنابكها إذا فقأ عين إنسان إلا أن يكون حجرا كبيرا فيضمن؛ لأن ذلك مما يستطاع الامتناع منه وإنما ينبعث الحجر الكبير بخرق منه في السير. ولو راثت أو بالت في السير فعطب إنسان بذلك لم يكن عليه ضمان لأنه لا يمكنه التحرز عن ذلك، قالوا: وكذلك إذا وقفت لتبول أو لتروث؛ لأن من الدواب ما لا يفعل ذلك حتى يقف فهذا مما لا يستطيع الامتناع عنه، وكذلك اللعاب يخرج من فيها. ولو وقع سرجها أو لجامها أو شيء محمول عليها من أداتها أو متاع الرجل الذي معه يحمله فأصاب إنسانا في السير كان ضامنا؛ لأن هذا مما يمكن التحرز عنه وإنما سقط لأنه لم يشد عليها أو لم يحكم ذلك، فكأنه ألقاه بيده على الطريق، وكذلك من عطب به بعدما وقع على الأرض فإن عثر به أو تعرقل فهو ضامن له، بمنزلة ما لو وضعه بيده على الطريق.

ص: 726

والراكب والرديف والسائق والقائد في الضمان سواء؛ لأن الدابة في أيديهم وهم يسيرونها ويصرفونها كيف شاؤوا وذلك مروي عن شريح رحمه الله إلا أنه لا كفارة على السائق والقائد فيما وطئت لأنهما مسببان للقتل، والكفارة جزاء مباشرة القتل، فأما الراكب والمرتدف فمباشران القتل بفعليهما فعليهما الكفارة، كالنائم إذا انقلب على إنسان فقتله، وإذا أوقف دابته في طريق المسلمين أو في دار لا يملكها بغير إذن أهلها فما أصابت بيد أو رجل أو ذنب أو كدمت أو سال من عرقها أو لعابها على الطريق فزلق به إنسان فضمان ذلك على عاقلته، لأنه متعد في هذا التسبب فإنه ممنوع من إيقاف الدابة في ملك غيره بغير إذنه، وكذلك في طريق المسلمين هو ممنوع من إيقاف الدابة خصوصا إذا كان يضر بالمار ولكن لا كفارة عليه لانعدام مباشرة القتل منه.

وإذا أرسل الرجل دابته في الطريق فما أصابت في وجهها فهو ضامن له كما يضمن الذي سار به ولا كفارة عليه، لأنه سائق لها ما دامت تسير على سنن إرساله، فإذا عدت يمينا أو شمالا فلا ضمان عليه؛ لأنها تغيرت عن حالتها وأنشأت سيرا آخر باختيارها فكانت كالمنفلتة؛ إلا أن لا يكون لها طريق غير الذي أحدثت فيه، فحينئذ يكون ضامنا على حاله؛ لأنه إنما سيرها في الطريق الذي يمكنه أن يسير فيه وإنما سارت في ذلك الطريق، فكان هو سائقا لها ووقفت ثم سارت فيه برئ الرجل من الضمان إذا، لأنها لما وقفت فقد انقطع حكم إرساله ثم أنشأت بعد ذلك سيرا باختيارها فهي كالمنفلتة، فإن ردها فالذي ردها ضامن لما أصابت في فورها ذلك، لأنه سائق لها في الطريق الذي ردها فيه، وإذا حل عنها وأوقفها ثم سارت هي فلا ضمان عليه لأن حكم فعله قد انقطع بما أنشأت من السير باختيارها.

قال: وإذا اصطدم الفارسان فوقعا جميعا فماتا، فعلى عاقلة كل واحد منهما دية صاحبه عندنا استحسانا، وفي القياس على عاقلة كل واحد منهما نصف دية صاحبه، وهو قول زفر والشافعي، وجه القياس أن كل واحد منهما إنما مات بفعله وفعل صاحبه لأن الاصطدام فعل منهما جميعا، فإنما وقع كل واحد منهما بقوته وقوة صاحبه، فيكون هذا بمنزلة ما لو جرح نفسه وجرحه غيره، ولكن استحسنا لما روي عن علي رضي الله عنه أنه جعل دية كل واحد من المصطدمين على عاقلة صاحبه، والمعنى فيه أن كل واحد منهما موقع لصاحبه فكأنه أوقعه عن الدابة بيده، وهذا لأن دفع صاحبه إياه علة معتبرة لإتلافه في الحكم، فأما قوة المصطدم فلا تصلح أن تكون علة معارضة لدفع الصادم. فهو بمنزلة من وقع في بئر حفرها رجل في الطريق، يجب الضمان على الحافر وإن كان لولا مشيه وثقله في نفسه لما هوى في البئر.

ص: 727

وكذلك لو دفع إنسان غيره في بئر حفرها رجل في الطريق فالضمان على الدافع دون الحافر، وإن كان لولا حفره لذلك الموضع لما أتلفه بدفعه. وعلى هذا الأصل قالوا: لو أن رجلين تجاذبا حبلا فانقطع الحبل فماتا جميعا، فإن مات كل واحد منهما بفعل صاحبه بأن وقع على وجهه، فعلى عاقلة كل واحد منهما دية صاحبه، لأنه إنما وقع على وجهه بجذب صاحبه إياه، وإن وقع كل واحد منهما على قفاه فلا شيء على واحد منهما: لأن سقوطه على قفاه بقوة نفسه لا بجذب صاحبه إياه، وإن سقط واحد منهما على وجهه والآخر على قفاه فدية الساقط على وجهه على عاقلة صاحبه، ولو قطع إنسان الحبل بينهما فسقط كل واحد منهما على قفاه ومات فديتهما على عاقلة القاطع للحبل لأنه كالدافع لكل واحد منهما، ولو كان الصبي في يد أبيه فجذبه رجل من يده فمات فديته على عاقلة الجاذب؛ لأن الأب محق في إمساكه والجاذب متعد في تسبيبه، وكذلك لو تجاذبا صبيا يدعي أحدهما أنه ابنه والآخر يدعي أنه عبده فالدية على عاقلة الذي يدعي أنه عبده؛ لأن الشرع جعل القول قول من يدعيه ابنه، فيكون هو محقا في إمساكه والآخر متعديا في جذبه.

ولو جذب ثوبا من يد إنسان وهو يدعي أنه ملكه فتخرق الثوب من جذبهما، ثم أقام المدعي البينة أنه كان له فله نصف قيمة الثوب على صاحبه، لأنه كان يكفيه الإمساك باليد وما كان يحتاج إلى الجذب فيجعل التخريق مجالا به على فعلهما جميعا، ولو عض ذراع إنسان فنزع ذراعه من فيه فسقطت أسنان العاض فهو هدر، ولو انقطع لحم صاحب الذراع فأرش ذلك على العاض، لأنه محتاج إلى جذب الذراع من فيه فإن العض يؤلمه وهو إنما قصد دفع الألم عن نفسه فيكون محقا في الجذب والآخر متعديا في العض، ولو أخذ بيد إنسان فجذب صاحب اليد يده فعطبت يده، فإن كان أخذه بيده ليصافحه فلا ضمان على الذي أخذ؛ لأن الجاذب ما كان يحتاج إلى ما صنع فيكون هو الجاني على يد نفسه، وإن كان أخذ يده ليعصره فالضمان على الآخذ؛ لأن الجاذب محتاج إلى الجذب لدفع الألم عن نفسه. ولو جلس على ثوب إنسان فقام صاحبه فتخرق الثوب من جذبه فالضمان على الجالس عليه، لأنه متعد في الجلوس على ذيل الغير بغير إذنه.

ص: 728

والذي بينا في اصطدام الفارسين فكذلك الجواب في اصطدام الماشيين، فإن كان أحدهما حرا والآخر عبدا فقيمة العبد على عاقلة الحر، ثم يأخذها ورثة الحر؛ لأن كل واحد منهما صار قاتلا لصاحبه فيجب على عاقلة الحر قيمة العبد، ثم إن تلف العبد الجاني وأخلف بدلا فيكون بدله لورثة المجني عليه وهو الحر، وإذا أوقف الرجل دابته في ملكه فما أصابت بيد أو رجل أو غير ذلك فلا ضمان عليه فيه لأنه غير متعد في إيقافها في ملكه، وكذلك إن كان الملك له ولغيره؛ لأن لكل واحد من الشريكين أن يوقف دابته في الملك المشترك، ويستوي إن قل نصيبه أو كثر، (أرأيت) لو قعد في الملك المشترك أو توضأ فعطب إنسان بوضوئه أكنت أضمنه ذلك؟ لا أضمنه شيئا من هذا.

وإذا سار الرجل على دابته فضربها أو كبحها باللجام فنفحت برجلها أو بذيلها لم يكن عليه شيء لأنه يحتاج إلى ضربها أو كبحها باللجام في تسييرها، ولا يمكنه التحرز عن النفحة بالرجل والذنب، ولو خبطت بيد أو رجل أو كدمت أو صدمت فقتلت إنسانا فالضمان على الراكب سواء كان يملكها أو لا يملكها؛ لأن التحرز عن هذا كله ممكن، ولو سقط عنها ثم ذهبت على وجهها فقتلت إنسانا لم يكن عليه شيء لأنها منفلتة فالذي سقط منها ليس براكب ولا قائد ولا سائق والمنفلتة جرحها جبار لأنها عجماء، بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه أنه قال:((العجماء جبار)) . هي المنفلتة عندنا، ذكره في الأصل، والله أعلم.

ص: 729

2-

من فقه المالكية:

في المدونة: (قلت) : أرأيت إذا اصطدم فارسان فقتل كل واحد منهما صاحبه؟ (قال) مالك: عقل كل واحد منهما على قبيل صاحبه وقيمة كل فرس منهما في مال صاحبه. (قال) : أرأيت لو أن سفينة صدمت سفينة أخرى فكسرتها فغرق أهلها؟ (قال) : قال مالك: إن كان ذلك من الريح غلبتهم - أو من شيء - ولا يستطيعون حبسها منه فلا شيء عليهم وإن كانوا لو شاؤوا أن يصرفوها فهم ضامنون.

وفي بداية المجتهد لابن رشد اختلفوا في الفارسين يصطدمان فيموت كل واحد منهما فقال مالك وأبو حنيفة وجماعة: على كل منهما دية الآخر، وذلك على العاقلة. وقال الشافعي وعثمان البتي: على كل واحد منهما نصف دية صاحبه؛ لأن كل واحد منهما مات من فعل نفسه وفعل صاحبه.

قال أحمد الدردير في شرحه الكبير لمختصر خليل: وإن تصادما أي المكلفان أو غيرهما (أو تجاذبا) حبلا أو غيره، كأن جذب كل منهما يد صاحبه فسقطا (مطلقا) سواء كانا راكبين أو ماشيين أو مختلفين أو بسفينتين على الراجح (قصدا) منهما (فماتا) معا، فلا قصاص لفوات محله، (أو) مات (أحدهما فقط) (فالقود) جواب للمسألتين وهو على حذف مضاف؛ أي: فأحكامه أنه إذا كان أحدهما بالغا والآخر صبيا فلا قصاص على الصبي، أو كان أحدهما حرا والآخر رقيقا فلا يقتص للرقيق من الحر.

ص: 730

ويحكم بحكم القود أيضا فيما لو قصد أحدهما التصادم أو التجاذب دون الآخر، وهو داخل في قوله قصدا (وحملا عليه) أي على القصد عند جهل الحال لا على الخطأ، وإنما يظهر في موت أحدهما فقط للقصاص من الحي (عكس السفينتين) إذا تصادمتا فتلفتا أو إحداهما، وجهل الحال فيحملان على عدم القصد، فلا قود ولا ضمان؛ لأن جريهما بالريح وليس من عمل أربابهما، وهذه العلة تدل على أن المراد بعدم القصد هو العجز لا الخطأ، وهو كذلك على الراجح،وأما الخطأ ففيه الضمان؛ فظهر أن لقوله: عكس السفينتين فائدة حيث حمل على العجز. وأما المتصادمان ففي العمد القود كما قال وفي الخطأ الضمان. ولو سفينتين فيهما ولا شيء في العجز بل هدر، ولو غير سفينتين كما أشار إليه بقوله:(إلا لعجز حقيقي) أي إلا أن يكون لصادمهما لعجز حقيقي لا يستطيع كل منهما أن يصرف نفسه أو دابته عن الآخر فلا ضمان بل هدر، ولا يحملان عند الجهل عليه بل على العمد كما تقدم؛ لكن الراجح أن العجز الحقيقي في المتصادمين كالخطأ، فيه ضمان الدية في النفس والقيم في الأموال بخلاف السفينتين فهدر، وحملا عند الجهل عليه؛ لأن جريهما بالريح كما تقدم (لا لخوف غرق أو ظلمة) فخرج من قوله: عكس السفينتين أي فإنهما يحملان على العجز عند الجهل فلا قود ولا ضمان (إلا لخوف غرق أو ظلمة) فالضمان: أي لا أن قدروا على الصرف فلم يصرفوا خوفا من غرق أو نهب أو أسر أو وقوع في ظلمة حتى تلفتا أو إحداهما أو ما فيهما من آدمي أو متاع، فضمان الأموال في أموالهم والدية على عواقلهم؛ لأن هذا ليس من العجز الحقيقي لقدرتهم على الصرف، وليس لهم أن يسلموا من الهلاك بهلاك غيرهم (وألا) يكون التصادم في غير السفينتين أو فيهما أو التجاذب قصدا، بل خطأ (فدية كل) من الآدميين (على عاقلة الآخر) للخطأ وقيمة فرسه مثلا، وإنما خص الفرس لأن التصادم غالبا يكون في ركوب الخيل (في مال الآخر) لا على عاقلته؛ لأن العاقلة لا تحمل غير الدية (كثمن العبد) ، أي قيمته لا يكون على عاقلة لأنه مال بل في مال الحر، ودية الحر في رقبة العبد حالة، فإن تصادما فماتا؛ فإن زادت دية الحر على قيمة العبد لم يضمن سيده الزائدة، لأنها تعلقت برقبة العبد، ورقبته زالت، ولو زادت قيمة العبد على دية الحر أخذ سيده الزائد من مال الحر حالا. اهـ.

ص: 731

قال محمد بن يوسف العبدري الشهير بالمواق في شرجه التاج والإكليل لمختصر خليل (1) : (وإن تصادما أو تجاذبا مطلقا قصدا فماتا أو أحدهما فالقود. قال مالك: إذا اصطدم فارسان فمات الفرسان والراكبان فدية كل واحد على عاقلة الآخر وقيمة فرس كل واحد في مال الآخر. قال مالك: ولو أن حرا وعبدا اصطدما فماتا جميعا فقيمة العبد في مال الحر، ودية الحر في رقبة العبد. فإن كانت قيمة العبد أكثر من دية الحر كان الزائد لسيد العبد في مال الحر، وإن كانت دية الحر أكثر لم يكن على السيد من ذلك شيء. وقال في رجلين اصطدما وهما يحملان جرتين فانكسرتا: غرم كل واحد ما كان على صاحبه، وإن انكسرت إحداهما غرم ذلك له صاحبه.

قال مالك في السفينتين تصطدمان فتغرق إحداهما بما فيها فلا شيء في ذلك على أحد؛ لأن الريح تغلبهم إلا أن يعلم أن النواتية لو أرادوا صرفها قدروا فيضمنوا وإلا فلا شيء عليهم، قال ابن القاسم: ولو قدروا على حبسها إلا أن فيها هلاكهم وغرقهم فلم يفعلوا فليضمن عواقلهم دياتهم ويضمنوا الأموال في أموالهم، وليس لهم أن يطلبوا نجاتهم بغرق غيرهم، وكذلك لو لم يروهم في ظلمة الليل وهم لو رأوهم لقدروا على صرفها فهم ضامنون لما في السفينة، ودية من مات على عواقلهم، ولكن لو غلبتهم الريح أو غفلوا لم يكن عليهم شيء) انتهى.

(1) شرح التاج والإكليل لمختصر خليل، لمحمد بن يوسف العبدري (الشهير بالمواق) : 6 / 243

ص: 732

عن ابن يونس وابن عرفة قال ابن شاس: وسواء كان المصدومون راكبين أو ماشين أو بصيرين أو ضريرين أو أحدهما ضريرا وبيده عصا، وإن تعمد الاصطدام فهو عمد محض فيه حكم القصاص، ولو كانا صبيين ركبا بأنفسهم أو أركبهما أولياؤهما فالحكم فيهما كما في البالغين إلا في القصاص، ولو جذبا حبلا فانقطع فتلف فكاصطدامهما، وإن وقع أحدهما على شيء فأتلفه ضمناه. ابن عرفة يؤيد هذا ما في المدونة والمجموعة: إن اصطدم فرسان فمر أحدهما على صبي فقطع أصبعه ضمناه – انظر هنا في ابن عرفة القصاص، من قتل خارجة، ولم يلتفت لإثبات قوله: أردت عَمْرًا وأراد الله خارجة، ومن قتل رجلا عمدا يظنه غيره ممن لو قتله لم يكن فيه قصاص، ومن رمى رجلا بحجر فاتقاها المرمي عليه فقتلت آخر، كما لو هرب أمام القاتل فسقط على طفل فقتله كالأربعة الذين تعلق بعضهم ببعض، وسقطوا على الأسد فقتلهم، (وحملا عليه عكس السفينتين إلا لعجز حقيقي إلا كخوف غرق أو ظلمة) قد تقدم جميع ما نقل ابن يونس عن ابن القاسم في اصطدام السفينتين والراكبين، وقال ابن الحاجب: ولو اصطدم فارسان عمدا فأحكام القصاص، وإلا فعلى عاقلة كل واحد دية الآخر، ثم قال: فإن اصطدم سفينتان فلا ضمان بشرط العجز عن الصرف، والمعتبر العجز حقيقة لا لخوف غرق أو ظلمة، ابن عبد السلام: قول ابن الحاجب يوهم أن حكم الفارسين مخالف لحكم السفينتين، وليس كذلك؛ لأن الفارسين إذا جمح بهما فرساهما فكان تلف لم يضمنا، إلا أن الفارسين إذا جهل أمرهما حمل على أنهما قادران على إمساكهما، وفي السفينتين على العجز. ابن عرفة: قوله: إذا جمح الفرس ولم يقدر راكبه على صرفه أنه لا يضمن، يرد بقولها: أن جمحت دابة براكبها فوطئت إنسانا فهو ضامن، وبقولها: إن كان في رأس الفرس اعتزام فحمل بصاحبه فاصطدم فصاحبه ضامن؛ لأن سبب جمحه من راكبه وفعله به، إلا أن يكون إنما نفر من شيء مر به في الطريق من غير سبب راكبه فلا ضمان عليه (وإلا فدية كل على عاقلة الآخر وفرسه في مال الآخر كثمن العبد) .

ص: 733

3-

في الفقه الشافعي:

من روضة الطالبين – للإمام النووي – المتوفى سنة (676 هـ) ما يلي:

الطرف الرابع في اجتماع سببين متقاومين وفيه مسائل:

إحداهما: إذا اصطدم حران ماشيان، فوقعا وماتا، فكل واحد مات بفعله وفعل صاحبه، فهو شريك في القتلين، ففعله هدر في حق نفسه مضمون في حق صاحبه، فالصحيح أن في تركة كل واحد منهما كفارتين بناء على أن الكفارة لا تتجزأ، وأن قاتل نفسه عليه كفارة، وأما الدية، فتسقط نصف دية كل واحد، ويجب نصفها، ثم إن لم يقصدا الاصطدام بأن كانا أعميين، أو في ظلمة، أو في برين، أو غافلين، فهو خطأ محض، فعلى عاقلة كل واحد نصف دية الآخر. وإن تعمدا الاصطدام فوجهان أحدهما: أن الحاصل عمد محض، ويجب في مال كل واحد نصف دية الآخر؛ قاله أبو إسحاق، واختاره الإمام الغزالي وأصحهما عند الأكثرين وهو نصه في الأم: أن الحاصل شبه عمد لأن الغالب أن الاصطدام لا يفضي إلى الموت، فلا يتحقق فيه العمد المحض، ولذلك لا يتعلق القصاص إذا مات أحدهما دون الآخر، فيجب على عاقلة كل واحد نصف دية الآخر مغلظة.

الثانية: إذا كان المصطدمان راكبين، فحكم الدية والكفارة كما ذكرنا، فلو تلفت الدابتان، ففي تركة كل واحد نصف قيمة دابة صاحبه، ولو غلبتهما الدابتان، فجرى الاصطدام والراكبان مغلوبان، فالمذهب أن المغلوب كغير المغلوب كما سبق، وفي قول أنكره جماعة أن هلاكهما وهلاك الدابتين هدر؛ إذ لا صنع لهما ولا اختيار، فصار كالهلاك بآفة سماوية، ويجري الخلاف فيما لو غلبت الدابة راكبها أو سائقها، وأتلف مالا هل يسقط الضمان عنه؟

ص: 734

فرع: سواء في اصطدام الراكبين اتفق جنس المركوبين وقوتهما، أم اختلف، كراكب فرس، أو بعير مع راكب بغل أو حمار، وسواء في اصطدام الرجلين اتفق سيرهما، أو اختلف، بأن كان أحدهما يمشي والآخر يعدو، وسواء كانا مقبلين، أم مدبرين، أو أحدهما مقبلا والآخر مدبرا، قال الإمام: لكن لو كانت إحدى الدابتين ضعيفة بحيث يقطع بأنه لا أثر لحركتها مع قوة الدابة الأخرى، لم يتعلق بحركتها حكم، كغرز الإبرة في جلدة العقب مع الجراحات العظيمة، وسواء وقع المصطدمان مقبلين أو مستقلين، أو أحدهما مستلقيا والآخر مكبا، وعن المزني أنه إذا وقع أحدهما مكبا والآخر مستلقيا، فالمكب مهدر وعلى عاقلته ضمان المستلقي، وعن ابن القاص مثله تخريجا، وعنه أن المكبين مهدران، والمذهب الأول وبه قطع الجمهور: ولو اصطدام ماش وراكب لطول الماشي وهلكا، فالحكم ما سبق.

فرع: تجاذب رجلان حبلا فانقطع، فسقطا وماتا، وجب على عاقلة كل واحد نصف دية الآخر ويهدر النصف، سواء وقعا مكبين أو مستقلين، أو أحدهما هكذا، والآخر كذلك، لكن قال البغوي: إن أكب أحدهما، واستلقى الآخر فعلى عاقلة المستلقي نصف دية المكب مغلظة، وعلى عاقلة المكب نصف دية المستلقي مخففة، وهذا إن صح اقتضى أن يقال مثله في الاصطدام، هذا إذا كان الحبل لهما أو مغصوبا، فإن كان لأحدهما والآخر ظالم، فدم الظالم هدر، وعلى عاقلته نصف دية المالك، ولو أرخى أحد المتجاذبين، فسقطا الآخر وماتا، فديتاهما جميعا على عاقلة القاطع.

ص: 735

فرع: ما ذكرنا أنه يهدر نصف قيمة الدابة ويجب النصف الآخر هو فيما إذا كان الدابة للراكب، فإن كانت مستعارة أو مستأجرة لم يهدر منها شيء؛ لأن العارية مضمونة، وكذا المستأجر إذا أتلفه المستأجر.

الثالثة: إذا اصطدم صبيان أو مجنونان؛ نظر، إن كانا ماشيين، أو راكبين ركبا بأنفسهما فهما كالبالغين إلا أنا إذا أوجبنا هناك دية مغلظة، فهي هنا مخففة، إلا إذا قلنا: عمد الصبي والمجنون عمد، وإن أركبهما من لا ولاية له عليهما، لم يهدر شيء من ديتهما، ولا من قيمة الدابتين ولا شيء على الصبيين، ولا على عاقلتهما، بل إن كان المركب واحدا، فعليه قيمة الديتين، وعلى عاقلته دية الصبيين، وإن أركب هذا واحدا وذاك آخر، فعلى كل واحد نصف قيمة كل دابة، وكذا يضمن ما أتلفته دابة من أركبه بيدها أو رجلها، وعلى عاقلة كل واحد نصف ديتي الصبيين، هذا هو الصحيح المعروف الذي قطع به الأصحاب، وقال الداركي وابن المرزبان: يلزم عاقلة كل مركب دية من أركبه، قال الشيخ أبو حامد: هذا غلط، قال في (الوسيط) : فلو تعمد الصبي والحالة هذه، احتمل أن يحال الهلاك عليه إذا قلنا: عمده عمد؛ لأن المباشرة مقدمة على التسبب، وهذا احتمال حسن، فإن قيل به، فحكمه كما لو ركبا بأنفسهما، والاعتذار عنه تكلف، ولو وقع الصبي فمات، فقد أطلق الشيخ أبو حامد أنه يتعلق بالمركب الضمان، وقال المتولي: إن كان مثله لا يستمسك على الدابة، ولم يقعده وجب الضمان، وإن كان يستمسك، فإن كان ينقله من موضع إلى موضع، فلا ضمان، سواء أركبه الولي أو غيره، لأنه لا يخاف منه الهلاك غالبا، وإن أركبه ليتعلم الفروسية، فهو كما لو تلف في يد السباح، وفي كل واحد من الإطلاق والتفصيل نظر، أما إذا أركبهما ولياهما لمصلحتهما فوجهان، أصحهما: لا ضمان على الولي، كما لو ركبا بأنفسهما إذ لا تقصير، والثاني قول القفال: يجب الضمان؛ لأن في الإركاب خطرا، هكذا أطلق جماعة الوجهين، وخصهما الإمام بالإركاب لزينة أو حاجة غير مهمة، قال: فأما إذا مست حاجة أرهقت إلى إركابه للانتقال إلى مكان، فلا ضمان قطعا، ثم الوجهان مخصوصان بما إذا ظهر ظن السلامة، فأما إذا أركبه الوالي دابة شرسة جموحا، فلا شك أنه يتعلق به الضمان.

ص: 736

الرابعة: اصطدام المرأتين كالرجلين، فإن اصطدم حاملان فماتتا ومات جنيناهما، وجب في تركة كل واحدة منهما أربع كفارات على الصحيح، وهو إيجاب الكفارة على قاتل نفسه، وعدم تجزئة الكفارة، فإن لم نوجبها على قاتل نفسه، وجب ثلاث كفارات، وإن قلنا بالتجزئة، وجب ثلاثة أنصاف كفارة، وعلى عاقلة كل واحدة نصف دية صاحبتها ونصف غرة كل جنين.

الخامسة: اصطدم عبدان، فمات أحدهما، وجب نصف قيمته متعلقا برقبة الحي، وإن ماتا فمهدران؛ لأن ضمان جناية العبد تتعلق برقبته سواء اتفقت قيمتهما أم اختلفت، وإن اصطدم حر وعبد ومات العبد، فنصفه هدر، وتجب نصف قيمته، وهل تكون على الحر أم على عاقلته؟ فيه الخلاف في تحمل العاقلة قيمة العبد، وإن مات الحر، وجب نصف ديته متعلقا برقبة العبد، وإن ماتا معا، فإن قلنا: قيمة العبد لا تحملها العاقلة، وجب نصفها في تركة الحر، ويتعلق به دية الحر؛ لأنه بدل رقبته وإن قلنا: تحمل العاقلة القيمة، فنصف قيمة العبد على عاقلة الحر، ويتعلق به نصف دية الحر، فيأخذ السيد من العاقلة نصف القيمة، ويدفع نصف الدية إلى ورثة الحر، إما من عين المأخوذ وإما من غيره، قال الإمام: والوجه أن يثبت لورثة الحر مطالبة عاقلته بنصف المبلغ، وإن كان ملكه السيد ليتوثقوا به وكذا إذا تعلق أرش برقبة عبد، فقتله أجنبي ثبت للمجني عليه مطالبة قاتل الجاني بالقيمة، ويثبت للمرتهن مطالبة قاتل المرهون بالقيمة ليتوثق بها، وليكن هذا مبنيا على أن المرتهن هل له أن يخاصم الجاني؟ وفيه خلاف سابق؟ الأصح: المنع وبتقدير أن يخاصم ويأخذ، فإن لم يصر المأخوذ ملكا للراهن، لم يصح التوثق، وإن صار فجعل المرتهن نائبا عنه قهرا بعيد.

ص: 737

السادسة: اصطدم مستولدتان لرجلين فماتتا، أهدر نصف قيمة كل منهما، ووجب نصف قيمة كل واحدة على سيد الأخرى؛ لأن ضمان جناية المستولدة على سيدها، كما سيأتي في بابه إن شاء الله تعالى، والمذهب أنه يضمن أقل الأمرين من أرش الجناية وقيمة مستولدته؛ وإن كانتا حاملين فماتتا، وأجهضتا جنينيهما، فحكم القيمة ما ذكرنا، وأما ضمان الجنينين، فإن كانا رقيقين، فعلى سيد كل واحدة مع نصف القيمة الأخرى نصف عشر قيمتها لنصف جنينيها، وإن كانتا حاملين بحرين غرة لجنين الأخرى، وإن كانتا حاملين بحرين من السيدين، فنصف كل جنين هدر؛ لأن المستولدة إذا جنت على نفسها وألقت جنينا كان هدرا، وعلى كل واحد من السيدين نصف غرة جنين الأخرى، وتصير الصورة من صور التقاص، وإذا فضل لأحدها شيء أخذه؛ وإن كانت إحداهما حاملا فألقت جنينها ميتا، فنصف الغرة على سيد الحامل، فإن كان للجنين أم وارثة، فلها نصف سدس الغرة، والباقي لسيد الحامل، وعليه للجدة نصف سدس أيضا ليكمل لها سدس الغرة.

السابعة: إذا اصطدمت سفينتان، وغرقتا بما فيهما، فإما أن يحصل الاصطدام بفعلهما، وإما لا، فهما حالان:

الأول: بفعلهما، فينظر إن كانت السفينتان وما فيهما ملكا للملاحين المجريين لهما، فنصف قيمة كل سفينة وما فيها مهدر، ونصف قيمتها ونصف قيمة ما فيها على صاحب الأخرى، فإن هلك الملاحان أيضا، فهما كالفارسين يموتان بالاصطدام، وإن كانت السفينتان لهما وحملا الأموال والأنفس تبرعا أو بأجرة، نظر إن تعمدا الاصطدام بما يعد أهل الخبرة مفضيا إلى الهلاك، تعلق بفعلهما القصاص حتى إذا كان في كل سفينة عشرة أنفس مثلا يقرع بينهم لموتهم معا، فمن خرجت قرعته، قتل به الملاحان، وفي مال كل واحد منهما نصف ديات الباقين، فيكون على كل واحد تسع ديات ونصف مع القصاص، وفي مال كل واحد من الكفارات بعدد من في السفينتين من الأحرار والعبيد، وعلى كل واحد منهما نصف قيمة ما في السفينتين لا يهدر منه شيء، ونصف قيمة سفينة صاحبه، ويهدر نصفها، ويجري التقاص في القدر الذي يشتركان فيه، وإن تعمدا الاصطدام بما لا يفضي إلى الهلاك غالبا وقد يفضي إليه، فهو شبه عمد، والحكم كما ذكرنا إلا أنه لا يتعلق به قصاص، وتكون الدية على العاقلة مغلظة، وإن لم يتعمدا الاصطدام بل ظنا أنهما يجريان على الريح فأخطأا، أو لم يعلم واحد منهما أن بقرب سفينته سفينة أخرى، فالدية على العاقلة، وإن كانت السفينتان لغير الملاحين، وكانا أجيرين للمالك، أو أمينين، لم يسقط شيء من ضمان السفينتين بل على كل واحد منهما نصف قيمة كل سفينة، وكل واحد من المالكين مخير بين أن يأخذ جميع قيمة سفينته من أمينه، ثم هو يرجع بنصفها على أمين الآخر، وبين أن يأخذ نصفها منه ونصفها من أمين الآخر، وإن كان المجريان عبدين، فالضمان يتعلق برقبتهما.

ص: 738

الحال الثاني: أن يحصل الاصطدام لا بفعلهما، فإن وجد منهما تقصير بأن توانيا في الضبط فلم يعدلاهما عن صوب الاصطدام مع إمكانه، أو سيرا في ريح شديدة لا تسير في مثلها السفن، أو لم يكملا عدتهما من الرجال والآلات، وجب الضمان على ما ذكرنا. وإن لم يوجد منهما تقصير، وحصل الهلاك بغلبة الرياح وهيجان الأمواج، ففي وجوب الضمان قولان، أحدهما: نعم، كالفارسين إذا غلبتهما دابتاهما، وأصحهما: لا، لعدم تقصيرهما، كما لو حصل الهلاك بصاعقة بخلاف غلبة الدابة، فإن ضبطهما ممكن باللجان، وقيل: القولان إذا لم يكن منهما فعل، بأن كانت السفينة مربوطة بالشط أو مرساة في موضع، فهاجت ريح فسيرتها، فأما إذا سيراهما، ثم غلبت الريح، وعجزا عن ضبطهما، فيجب الضمان قطعا، والمذهب طرد القولين في الحالين، فإن قلنا: يجب الضمان، فهو كما لو فرطا، ولكن لم يقصدا الاصطدام، وإن قلنا بالأظهر: لم يجب ضمان الأحرار، ولا ضمان الودائع والأمانات فيهما، ولا ضمان الأموال المحمولة بالأجرة إن كان مالكها أو عبده معها يحفظها، وإن استقل المجريان باليد، فعلى القولين في أن يد الأجير المشترك هل هي يد ضمان؟ وإن كان فيهما عبيد، فإن كانوا أعوانا أو حفاظا للمال لم يجب ضمانهم، وإلا فهم كسائر الأموال، وعلى هذا لو اختلف صاحب المال والملاحان، فقال صاحب المال: كان الاصطدام بفعلكما، وقالا: بل بغلبة الريح، صدقا بيمينهما، ومتى كان أحدهما مفرطا أو عامدا دون الآخر، خص كل واحد منهما بالحكم الذي يقتضيه حاله على ما ذكرنا، ولو صدمت السفينة المربوطة بالشط فكسرتها فالضمان على مجري السفينة الصادمة.

ص: 739

فرع: إذا خرق واحد سفينة، فغرق ما فيها من نفس ومال، وجب ضمانه، ثم إن تعمد الخرق بما يفضي إلى الهلاك غالبا كالخرق الواسع الذي لا يدفع، وجب القصاص والدية المغلظة في ماله، وإن تعمده بما لا يحصل به الهلاك غالبا، فهو شبه عمد، وكذا لو قصد إصلاح السفينة فنفذت الآلة في موضع الإصلاح فغرقت به السفينة، وإن أصابت الآلة غير موضع الإصلاح، أو سقط من يده حجر، أو غيره، فخرقت السفينة، فهو خطأ محض.

4-

في فقه الحنابلة:

من كتاب مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإمام أحمد بن حنبل الشيباني:

الفصل الثالث:

فيما يحدث في الطريق العام ونحوه:

مادة (1434)

لكل إنسان حق المرور بجمله ودابته في الطريق ولو محملة بحطب ونحوه بشرط السلامة من العدوان والضرر الذي يمكن التحرز منه، فلو عثر برجله في المشي المعتاد إنسان آخر فلا ضمان عليه، أو اصطدم بدابته عاقل بصير يراها أو صاح فيها له، وهو مستدبر، ويجد له منحرفا فتلف بذلك أو تلف ثيابه بما عليها من حطب ونحوه لا ضمان عليه، أما لو كان أعمى أو طفلا أو مجنونا أو لا منحرف له أو كان مستدبرا ولم ينبهه فعليه الضمان (1) .

(1) ش: ج 2، ص 379، الأولى / جـ 2، ص 431، الجديدة. ك: ج 2، ص 372، الأولى / جـ 4، ص 129، الجديدة

ص: 740

مادة (1435)

ربط الدابة وإيقافها في الطريق عدوان فيضمن رابطها أو موقفها ما تتلفه أو يتلف بسبب فعلها، فلو وطئت بيد أو رجل، أو كدمت بفم أو صدمت مارا، أو جفلت بسببها دابة مارة، أو بالت أو راثت فزلق بذلك إنسان فالضمان لازم (1) .

مادة (1436)

الحفر في الطريق العام لغير مصلحة الناس عدوان، فلو حفر لنفسه، أو حفر قنه بأمره بئرا أو نحوها، ولو في فناء داره، ضمن ما يتلف بها، وكذا لو حفرها حر بإذنه سواء كان بأجر أو لا، جاهلا أنها ليست ملكه، أما لو علم بأنه طريق عام فالضمان على الحافر، أما لو حفر بئرا في سابلة واسعة لانتفاع الناس بلا ضرر عليهم لا ضمان عليه، لكن لو كانت الطريق ضيقة أو يتضرر الناس بحفرها ففيه الضمان (2) .

(1) ش: جـ 2، ص 371، الأولى / جـ 2، ص 426، الجديدة ك: جـ 2، ص 366، الأولى / جـ 4، ص 119، الجديدة – الفروع: جـ 2، ص 815، الجديدة

(2)

ش: جـ 2، ص 373، الأولى / جـ 2، ص 427 – 428، الجديدة: ـ ك: جـ 2، ص 367، الأولى / جـ 2، ص121 – 122، الجديدة

ص: 741

الفصل الخامس:

في أحكام الاصطدام:

(مادة 1452)

إذا اصطدم ساعيان أو فارسان ضمن كل منهما ما فات على الآخر من نفس ومال (1) .

مادة (1453)

لو اصطدمت سفينتان واقفتان أو سائرتان في بحر بتفريط القيمين ضمن كل منهما سفينة الآخر وما فيها من نفس ومال، وإن كان التفريط من أحدهما فعليه الضمان، وإن (لم) يكن تفريط؛ كما لو هاجت ريح شديدة غلبتهما على ضبطها وتحريفها، فلا ضمان؛ وإن كانت إحداهما واقفة ضمنها مع ما فيها قيم السائرة إن فرط وإلا فلا ضمان (2) .

كلمة (لم) ليست موجودة بالأصل والسياق يوجبها، وقد ذكر المؤلف رحمه الله تهميشه إلى جانب هذه المادة قوله:(تركت صفة المصعدة والمنحدرة لندرتها) وقد وردت هذه الأوصاف في نصوص المصادر السابقة.

(1) ش: جـ 2، ص 380، الأولى / جـ 2، ص 431، الجديدة – ك: جـ 2، ص 373، الأولى جـ 4، ص 130، الجديدة. الشرح الكبير 5 / 456

(2)

ش: جـ 2، ص 380، الأولى / جـ 2، ص 431، الجديدة – ك: جـ 2، ص 373، الأولى / جـ 4، ص 130، الجديدة. الشرح الكبير 5 / 456

ص: 742

مادة (1454)

عدم استعداد اليم بحمل الآلات اللازمة عادة من أدوات وعمال تفريط وكذا نومه مع تركها سائرة (1) .

مادة (1455)

يقبل قول قيم السفينة بيمينه في عدم تفريطه وفي أنه غلب عن ضبطها (2) .

مادة (1456)

السفينة المشرفة على الغرق يجب إلقاء ما يظن بإلقائه نجاتها، فلو ألقى متاعه ومتاع غيره لا ضمان عليه، لكن لو امتنع صاحب المتاع من إلقائه، فألقاه آخر ضمنه (3) .

وفي المغني لابن قدامة – رحمه الله (4) :

مسألة: قال (وإذا اصطدم الفارسان فماتت الدابتان ضمن كل واحد منهما قيمة دابة الآخر) وجملته: أن على كل واحد من المصطدمين ضمان ما تلف من الآخر من نفس أو دابة أو مال، سواء كانت الدابتان فرسين أو بغلين أو حمارين أو جملين، أو كان أحدهما فارسا والآخر غيره، سواء كانا مقبلين أو مدبرين، وبهذا قال أبو حنيفة وصاحباه وإسحاق.

وقال مالك والشافعي: على كل واحد منهما نصف قيمة ما تلف من الآخر؛ لأن التلف حصل بفعليهما، فكان الضمان منقسما عليهما، كما لو جرح إنسان نفسه وجرحه غيره فمات منهما، ولأن كل واحد منهما مات من صدمة صاحبه وإنما هو قربها إلى محل الجناية فلزم الآخر ضمانها، كما لو كانت واقفة بخلاف الجراحة، إذا ثبت هذا فإن قيمة الدابتين إن تساوتا تقاصا وسقطتا، وإن كانت إحداهما أكثر من الأخرى فلصاحبها الزيادة، وإن ماتت إحدى الدابتين فعلى الآخر قيمتها، وإن نقصت فعليه نقصها.

(1) ش: جـ 2، ص 380، الأولى / جـ 2، ص 431، الجديدة – ك: جـ 2، ص 373، الأولى جـ 4، ص 130، الجديدة. الشرح الكبير 5/ 456

(2)

ش: جـ 2، ص 381، الأولى / جـ 2، ص 432، الجديدة – ك: جـ 2، ص 373، الأولى / جـ 4، ص (130) الجديدة.

(3)

ش: جـ 2، ص 381، الأولى جـ 2 ص 381، الجديدة – ك: جـ 2، ص 374، الأولى / جـ 4، ص 132، الجديدة

(4)

المغني لابن قدامة: 4 / 89

ص: 743

فصل: فإن كان أحدهما يسير بين يدي الآخر، فأدركه الثاني فصدمه، فماتت الدابتان أو إحداهما، فالضمان على اللاحق لأنه الصادم والآخر مصدوم فهو بمنزلة الواقف.

مسألة: قال: (وإن كان أحدهما يسير والآخر واقفا فعلى السائر قيمة دابة الواقف) نص أحمد على هذا لأن السائر هو الصادم المتلف فكان الضمان عليه، وإن مات هو أو دابته فهو هدر لأنه أتلف نفسه ودابته، وإن انحرف الواقف فصادفت الصدمة انحرافه فهما كالسائرين لأن التلف حصل من فعلهما، وإن كان الواقف متعديا بوقوفه مثل أن يقف في طريق ضيق فالضمان عليه دون السائر لأن التلف حصل بتعديه فكان الضمان عليه كما لو وضع حجرا في الطريق أو جلس في طريق ضيق فعثر به إنسان.

مسألة: قال: (وإن تصادم نفسان يمشيان فماتا فعلى عاقلة كل واحد منهما دية الآخر) روي هذا عن علي رضى الله عنه، والخلاف فيها في الضمان، كما الخلاف فيما إذا اصطدم الفارسان إلا أنه لا تقاص ههنا في الضمان، لأنه على غير من له الحق لكون الضمان على عاقلة كل واحد منهما. وإن اتفق أن يكون الضمان على من له الحق مثل أن تكون العاقلة هي الوارثة، أو يكون الضمان على المتصادمين تقاصا، ولا يجب القصاص سواء كان تصادمهما عمدا أو خطأ؛ لأن الصدمة لا تقتل غالبا فالقتل الحاصل بها مع العمد عمد الخطأ، وإلا فرق بين البصيرين والأعميين والبصير والأعمى. فإن كانتا امرأتين حاملتين فهما كالرجلين، فإن أسقطت كل واحدة منهما جنينا فعلى كل واحدة نصف جنينها ونصف ضمان جنين صاحبتها؛ لأنهما اشتركا في قتله، وعلى كل واحدة منهما عتق ثلاث رقاب: واحدة لقتل صاحبتها، واثنتان لمشاركتهما في الجنين، وإن أسقطت إحداهما دون الأخرى اشتركتا في ضمانه وعلى كل واحدة عتق رقبتين.

وإن أسقطتا معا ولم تمت المرأتان ففي مال كل واحدة ضمان نصف الجنين بغرة إذا سقطا ميتين. وإن اصطدم راكب وماش.

ص: 744

فصل: وإن اصطدم عبدان فماتا هدرت قيمتهما؛ لأن قيمة كل واحد منهما تعلقت برقبة الآخر فسقطت بتلفه، وإن مات أحدهما تعلقت قيمته برقبة الحي، فإن هلك قبل استيفاء القيمة سقطت لفوات محلها، وإن تصادم حر وعبد فماتا تعلقت دية الحر برقبة العبد ثم انتقلت إلى قيمة العبد، ووجبت قيمة العبد في تركة الحر فيتقاصان، فإن كانت دية الحر أكثر من قيمة العبد سقطت الزيادة – لأنها لا متعلق لها – وإن كانت قيمة العبد أكثر أخذ الفضل من تركة الجاني، وفي مال الحر عتق رقبة، ولا شيء على العبد لأن تكفيره بالصوم فيفوت بفواته، وإن مات العبد وحده فقيمته في ذمة الحر؛ لأن العاقلة لا تحمل العبد، وإن مات الحر وحده تعلقت ديته برقبة العبد وعليه صيام شهرين متتابعين، وإن مات العبد قبل استيفاء الدية سقطت، وإن قتله أجنبي فعليه قيمته، ويتحول ما كان متعلقا برقبته إلى قيمته لأنها بدله وقائمة مقامه وتستوفى ممن وجبت عليه.

مسألة: قال: (وإذا وقعت السفينة المنحدرة على الصاعدة فغرقتا، فعلى المنحدرة قيمة السفينة الصاعدة أو أرش ما نقصت إن أخرجت؛ إلا أن يكون قيم المنحدرة غلبته الريح فلم يقدر على ضبطها) وجملته أن السفينتين إذا اصطدمتا لم تخلوَا من حالين، أحدهما: أن تكونا متساويتين كاللتين في بحر أو ماء واقف، أو كانت إحداهما منحدرة والأخرى صاعدة فنبدأ بما إذا كانت إحداهما منحدرة والأخرى صاعدة؛ لأنها مسألة الكتاب ولا يخلوان من حالين:

أحدهما: أن يكون القيم بها مفرطا بأن يكون قادرا على ضبطها أو ردها عن الأخرى فلم يفعل، أو أمكنه أن يعدلها إلى ناحية أخرى فلم يفعل، أو لم يكمل آلتها من الحبال والرجال وغيرهما، فعلى المنحدرة ضمان الصاعدة؛ لأنها تنحط عليها من علو فيكون ذلك سببا لغرقها، فتنزل المنحدرة بمنزلة السائرة والصاعدة بمنزلة الواقف. وإن غرقتا جميعا فلا شيء على المصعد، وعلى المنحدر قيمة المصعد أو أرش ما نقصت إن لم تتلف كلها؛ إلا أن يكون التفريط من المصعد بأن يمكنه العدول بسفينته والمنحدر غير قادر ولا مفرط فيكون الضمان على المصعد لأنه المفرط، وإن لم يكن من واحد منهما تفريط، لكن هاجت ريح أو كان الماء شديد الجرية فلم يمكنه ضبطها فلا ضمان عليه لأنه لا يدخل في وسعه ضبطها، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.

ص: 745

الحال الثاني: أن يكونا متساويتين، فإن كان القيمان مفرطين ضمن كل واحد منهما سفينة الآخر بما فيها من نفس ومال، كما قلنا في الفارسين يصطدمان، وإن لم يكونا مفرطين فلا ضمان عليهما، وللشافعي في حال عدم التفريط قولان: عليهما الضمان لأنهما في أيديهما فلزمهما الضمان كما لو اصطدم الفارسان لغلبة الفرسين لهما. ولأن الملاحين لا يسيران السفينتين بفعلهما ولا يمكنهما ضبطهما في الغالب ولا الاحتراز من ذلك، فأشبه ما لو نزلت صاعقة أحرقت السفينة، ويخالفان الفرسين فإنه ممكن ضبطهما والاحتراز من طردهما، وإن كان أحدهما مفرطا وحده فعليه الضمان وحده، فإن اختلفا في تفريط القيم، فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل عدم التفريط وهو أمين فهو كالمودع، وعند الشافعي أنهما إن كانا مفرطين فعلى كل واحد من القيمين نصف سفينته ونصف سفينة صاحبه، كقوله في اصطدام الفارسين على ما مضى.

فصل: فإن كان القيمان مالكين للسفينتين بما فيهما تقاصا، وأخذ ذو الفضل فضله، وإن كانا أجيرين ضمنا ولا تقاص ههنا؛ لأن من يجب به غير من يجب عليه، وإن كان في السفينتين أحرار فهلكوا وكانا قد تعمدا المصادمة، وذلك مما يقتل غالبا فعليهما القصاص، وإن كانوا عبيدا فلا ضمان على القيمين إذا كانا حرين؛ وإن لم يتعمدا المصادمة أو كان ذلك مما لا يقتل غالبا وجبت دية الأحرار على عاقلة القيمين، وقيمة العبيد في أموالهما، وإن كانا القيمان عبدين تعلق الضمان برقبتيهما، فإن تلفا جميعا سقط الضمان، وأما مع عدم التفريط فلا ضمان على أحد، وإن كان في السفينتين ودائع ومضاربات لم تضمن لأن الأمين لا يضمن ما لم يوجد منه تفريط أو عدوان، وإن كانت السفينتان بأجرة فهما أمانة أيضا لا ضمان فيهما، وإن كان فيهما مال يحملانه بأجرة إلى بلد آخر فلا ضمان لأن الهلاك بأمر غير مستطاع.

ص: 746

فصل: وإن كانت إحدى السفينتين قائمة والأخرى سائرة، فلا ضمان على الواقفة، وعلى السائرة ضمان الواقفة إن كان مفرطا، ولا ضمان عليه إن لم يفرط على ما قدمناه. اهـ.

وذكر أبو الفرج في شرحه الكبير للمقنع نحو ما تقدم.

وفي الفروع لابن مفلح رحمه الله (1) :

وإن اصطدم راجلان أو راكبان أو ماش وراكب - قال في الروضة: بصيران أو ضريران أو أحدهما – فماتا أو دابتاهما ضمن كل واحد متلف الآخر، وقيل: نصفه، وقدم في الرعاية: وإن غلبت الدابة راكبها بلا تفريط لم يضمن، وجزم به في الترغيب. وإن اصطدما عمدا ويقتل غالبا فهدر، والأشبه عمد، وما تلف للسائر منهما لا يضمنه واقف وقاعد، في المنصوص: وقيل: بلى، مع ضيق الطريق، وفي ضمان سائر ما أتلف لواقف وقاعد في طريق ضيق وجهان، وإن اصطدم قنان ماشيان فهدر، لا حر وقن فقيمة قن، وقيل: نصفها في تركة حر، ودية حر، ويتوجه الوجه أو نصفها في تلك القيمة. وإن اصطدمت سفينتان فغرقتا ضمن كل واحد متلف الآخر، وفي المغني: إن فرطا؛ وقاله في المنتخب، وأنه ظاهر كلامه، ولا يضمن المصعد منهما بل المنحدر إن لم يغلبه ريح؛ نص عليه. وفي الواضح وجه: لا يضمن منحدر، وفي الترغيب: السفينة كدابة، والملاح كراكب، ويصدق ملاح في أن تلف مال بغلبة ريح، ولو تعمد الصدم فشريكان في إتلاف كل منهما ومن فيهما فإن قتل غالبا فالقود وإلا شبه عمد، ولا يسقط فعل المصادم في حق نفسه مع عمد ولو خرقها عمدا وأو شبه عمد أو خطأ عمل على ذلك، وهل يضمن من ألقى عدلا مملؤا بسفينة ما فيها أو نصفه أو بحصته؛ يحتمل أوجها، وإن أركب صبيين غير وليهما فاصطدما ضمن – وفى الترغيب: تضمن عاقلته ديتهما، وإن ركباها فكالبالغين مخطئين، وكذا أن أركبهما ولي المصلحة، قال ابن عقيل: ويثبتان بأنفسهما، وفي الترغيب: إن صلحا للركوب وأركبهما ما يصلح لركوب مثلهما وإلا ضمن، ويضمن كبير صدم الصغير، وإن مات الكبير ضمنه من أركب الصغير. نقل حرب: إن حمل رجل صبيا على دابة فسقط ضمنه إلا أن يأمره أهله بحمله. اهـ.

(1) الفروع: 6 / 6 – 8

ص: 747

وفي الإنصاف على المقنع (1) :

قوله: (وإن اصطدم نفسان) قال في الروضة: بصيران أو ضريران أو أحدهما، قلت: وكذا قال المصنف والشارح (فماتا فعلى عاقلة كل واحد منهما دية الآخر) هذا المذهب جزم به الخرقي والمحرر والمفتي والشرح والزركشي والنظم والوجيز والمنور ومنتخب الآدمي وغيرهم في الرعايتين والحاوي الصغير والفروع، وقيل: يجب على عاقلة كل منهما نصف الدية وهو تخريج لبعضهم.

تنبيه: ظاهر كلام المصنف أنه سواء كان تصادمهما عمدا أو خطأ وهو صحيح وهو المذهب وعليه أكثر الأصحاب، وقيل: إذا كان عمدا يضمنان دون عاقلتيهما وقال في الرعاية وهو أظهر: (قوله: وأن كانا راكبين فماتت الدابتان فعلى كل واحد منهما قيمة دابة الآخر) وهذا المذهب جزم به في المغني والشرح الكبير والمحرر وغيرهم وقدمه في الفروع وغيره، وقيل: على كل واحد منهما نصف قيمة دابة الآخر، وقدم في الرعايتين: إن غلبت الدابة راكبها بلا تفريط لم يضمن، وجزم به في الترغيب والوجيز والحاوي الصغير. وقوله:(وإن كان أحدهما يسير والآخر واقفا فعلى السائر ضمان الواقف ودابته، إلا أن يكون في طريق ضيق قاعدا أو واقفا فلا ضمان عليه، وعليه ضمان ما تلف به) . ذكر المصنف هنا مسألتين:

إحداهما: ما يتلف السائر إذا كان الآخر واقفا أو قاعدا فقطع بضمان الواقف ودابته على السائر، إلا أن يكون في طريق ضيق قاعدا أو واقفا فلا ضمان عليه، وهو أحد الوجهين وهو المذهب منهما، ونص عليه وجزم به في المغني والشرح والوجيز، وهو ظاهر ما جزم به في الرعاية والحاوي، وقيل: يضمنه السائر سواء كان الواقف في طريق ضيق أو واسع، وقدمه في المحرر والنظم والزركشي وهو ظاهر كلام الخرقي وأطلقهما في الفروع.

المسألة الثانية: ما يتلفه الواقف أو القاعد للسائر في الطريق الضيق فجزم المصنف هنا أنه يضمنه، وجزم به في الشرح وشرح ابن منجا واختاره المصنف، والصحيح من المذهب أنه لا يضمن؛ نص عليه وقدمه في المحرر والنظم والرعايتين والحاوي الصغير الفروع. وأما ما يتلف للسائر إذا كان الطريق واسعا فلا ضمان على الواقف والقاعد على الصحيح من المذهب، وقطع به كثير منهم وقدمه في المحرر والنظم والرعايتين والحاوي والفروع وغيرهم، وقيل: يضمنه ذكره الزركشي وغيره.

(1) 10 / 35

ص: 748

تنبيهان:

أحدهما: قوله: (فعلى السائر ودابته ضمان الواقف يكون على عاقلة السائر، وضمان دابة الواقف يكون على نفس السائر، صرح به الأصحاب، فظاهر كلام المصنف غير مراد.

الثاني: قوله: (إلا أن يكون في طريق ضيق قاعدا أو واقفاِ) قال ابن منجا: لا بد أن يلحظ أن الطريق الضيق غير مملوك للواقف أو القاعد، لأنه إذا كان مملوكا لم يكن متعديا بوقوفه فيه، بل السائر هو المتعدى بسلوكه ملك غيره بغير إذنه. اهـ.

استنتجت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية من أقوال الفقهاء السابقين الحكم في بعض قضايا سير المركبات الحديثة وفيما يلي نص ما قالته اللجنة (1) :

أولا: إن تصادمت سيارتان وكان ذلك من السائقين عمدا فإن ماتا فلا قصاص لفوت المحل، وتجب دية كل منهما ودية من هلك معه من النفوس، وما تلف معه من السيارة والمتاع في مال صاحبه، بناء على عدم اعتبار اعتدائه وفعله في نفسه ومن هلك معه، واعتبار ذلك بالنسبة لصاحبه ومن هلك أو تلف معه، أو يجب نصف ديته ونصف دية من هلك معه ونصف قيمة ما تلف في مال صاحبه بناء على اعتبار اعتدائه وفعله في حق نسفه وحق صاحبه. وإن مات أحدهما دون الآخر اقتص منه لمن مات بالصدمة لأنها ما يغلب على الظن القتل به. وإن كان التصادم منهما خطأ وجبت الدية أو نصفها لكل منهما ولمن مات معه على عاقلة صاحبه، وتجب قيمة ما تلف من سيارة كل منهما أو متاعه أو نصفها في مال صاحبه بناء على ما تقدم، من الاعتبارين، وإن كان أحدهما عامدا والآخر مخطئا فكل حكمه على ما تقدم ومن كان منهما مغلوبا على أمره فلا ضمان عليه إلا إذا كان ذلك بسبب تفريط منه سابق.

(1) مجلة البحوث الإسلامية، العدد (26) ، 1409 – 1410 هـ

ص: 749

ثانيا: إذا صدمت سيارة سائرة واقفة في ملك صاحبها أو خارج طريق السيارات أو على جانب طريق واسع ضمن سائق السيارات ما تلف في الواقفة من نفس ومال بصدمته لأنه المتعدي، فإن انحرفت الواقفة فصادف ذلك الصدمة فالضمان بينهما على ما تقدم في تصادم سيارتين، وإن كانت واقفة في طريق ضيق غير مملوك لصاحبها فالضمان على صاحب الواقفة لتعديه بوقفه، ويحتمل أن يكون الضمان بينهما لتفريط كل منهما وتعديه، وإن صدمت سيارة نازلة من عقبة مثلا سيارة صاعدة فالضمان على سائق المنحدرة إلا إذا كان مغلوبا على أمره فلا ضمان عليه، أو كان سائق الصاعدة يمكنه العدول عن طريق النازلة فلم يفعل فالضمان بينهما. وإن أدركت سيارة سيارة أمامها فصدمتها ضمن سائق اللاحقة ما تلف من النفوس والأموال في سيارته والسيارة المصدومة، لأنه متعد بصدمه لما أمامه، والأمامية بمنزلة الواقفة بطريق واسع، إلا إذا حصل من سائق الأمامية فعل يعتبر سببا أيضا في الحادث، كأن يوقف سيارته فجأة أو يرجع بها إلى الخلف أو ينحرف بها إلى ممر اللاحق ليعترض طريقها، فالضمان بينهما على ما تقدم من الخلاف في حكم تصادم سيارتين.

ثالثا: وإذا وقف سائق سيارة بسيارته أمام إشارة المرور مثلا ينتظر فتح الطريق فصدمت سيارة مؤخرة سيارته صدمة دفعتها إلى الإمام، فصدمت بعض المشاة مثلا فمات أو أصيب بكسور؛ ضمن من صدمت سيارته مؤخرة السيارة الأخرى كل ما تلف من نفس ومال، لأنه متعد بصدمه، والسيارة الأمامية بمنزلة الآلة بالنسبة للخلفية فلا ضمان على سائقها لعدم تعديه.

هذا فيما يتعلق بالتصادم بين السيارتين أو أن تصدم سيارة أخرى، أما فيما يتعلق بحوادث دهس الأشخاص أو انقلاب السيارة أو سقوط شيء منها ونحوه فقد استنتجت اللجنة الأحكام الآتية:

أولا: إذا ساق إنسان سيارة في شارع عام ملتزما السرعة المقررة ومتبعا خط السير حسب النظام، فقفز رجل فجأة أمامه فصدمته السيارة ومات أو أصيب بجروح أو كسور، رغم قيام السائق بما وجب عليه من الفرملة ونحوها، أمكن أن يقال بتضمين السائق من مات بالصدم أو الكسر مثلا بناء على ما تقدم من تضمين الراكب أو القائد أو السائق ما وطئت الدابة بيديها، وقد يناقش بأن كبح الدابة وضبطها أيسر من ضبط السيارة، ويمكن أن يقال بضمان كل منهما ما تلف عند الآخر من نفس ومال بناء على ما تقدم عن الحنفية والمالكية والحنابلة ومن وافقهم في تضمين المتصادمين، ويمكن أن يقال بضمان السائق ما تلف من نصف الدية أو نصف الكسور لتفريطه بعدم احتياطه بالنظر لما أمامه من بعيد، وبضمان المصدوم نصف ذلك لاعتدائه بالمرور فجأة أمام السيارة دون الاحتياط لنفسه بناء على ما ذكره الشافعي وزفر وعثمان البتي ومن وافقهم في تضمين المتصادمين، ويحتمل أن يقال: إنه هدر. لانفرداه بالتعدي ولو قدر أنه اصطدم بجانب السيارة فمات أو كسر والسيارة على ما ذكر من الحال كان الضمان بينهما على ما تقدم من الاحتمالات.

ص: 750

ثانيا: إذا مر إنسان أو حيوان أمام سيارة (ونيت) مثلا، فاستعمل سائق السيارة الفرملة تفاديا للحادث، فسقط أحد الركاب، وقفز آخر، فماتا أو أصيبا بكسور، علما بأن باب السيارة قد أحكم إغلاقه؛ ضمن السائق دية من سقط، أو أرش إصابته؛ لأن سقوطه كان بعنف الفرملة، وقد كان عليه أن يعمل لذلك احتياطا من قبل فيهدئ من السرعة وليس له أن يتسبب في قتل شخص ليسلم آخر، ويحتمل ألا يضمن إذا كان متبعا للنظام في سرعته لأنه مأمور بالفرملة تفاديا للحادث؛ أما من قفز فهو كاسر لنفسه أو قاتلها فلا يضمنه السائق.

ثالثا: إذا تعهد السائق سيارته قبل السير بها، ثم طرأ عليها خلل مفاجئ في جهاز من أجهزتها مع مراعاة النظام في سرعته وخط سيره، وغلب على أمره فصدمت إنسانا أو حيوانا أو وطئته فمات أو كسر مثلا؛ لم يضمن السائق دية ولا قيمة، ولو انقلبت بسبب ذلك على أحد أو شيء فمات أو تلف فلا ضمان عليه لعدم تعديه وتفريطه، قال تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] .

وإن فرط السائق في تعهد سيارته أو زاد في السرعة أو في حمولتها أو نحو ذلك ضمن ما أصاب من نفس ومال، وإن سقط شيء من السيارة ضمنه إن كان في حفظه بأن كان موكولا إليه إلا أن عليه شده بما يصونه ويضبطه، وإن سقط أحد منها لصغره وليس معه قيم فأصيب ضمن ذلك لتفريطه.

ص: 751

رابعا: إن سقط شيء من السيارة فأصاب أحدا فمات أو كسر، أو أصاب شيئا فتلف؛ ضمن ما أصاب من نفس أو مال لتفريطه، وإن سقط منها مكلف لازدحام يخالف نظام المرور فمات ضمن السائق لتعديه، ويحتمل أن يكون الضمان على السائق ومن هلك بالسقوط مناصفة لاشتراكهما في الاعتداء.

وأقرت اللجنة الدائمة مبدأ حق ولي الأمر في إصدار أنظمة ولوائح السير والمرور، وتفرض العقوبات على المخالفين بحسب ما يؤديه إليه اجتهاده انطلاقا من واجب ولي الأمر نحو رعاياه، والمحافظة على أرواحهم وممتلكاتهم، والسعي لتحقيق مصالحهم ودفع الضرر عنهم، وأن من عصى ولي الأمر في ذلك يعتبر من المعتدين ويستحق التعزير بما تقرره الأنظمة التي يضعها ولي الأمر من حبس وسحب رخصة القيادة وغرامة مالية أخذا برأي بعض العلماء في جواز التعزير بالمال.

وفيما يتعلق باشتراك أكثر من واحد في تحمل مسؤولية الحادث وتوزيع المسؤولية بين المسؤولين عن الحادث استنتجت اللجنة من أقوال الفقهاء الأحكام الآتية:

أولا: إذا صدمت سيارة إنسانا عمدا أو خطأ فرمته إلى جانب وأصابته سيارة أخرى مارة في نفس الوقت فمات:

(أ) فإن كانت إصابة كل منهما تقتله لو انفردت وجب القصاص، منهما له أو الدية عليهما مناصفة على ما تقدم من الخلاف والشروط في مسألة اشتراك جماعة في قتل إنسان سواء تساوت الإصابات أو كانت إحداهما أبلغ من الأخرى ما دامت الدنيا منها لو انفردت قتلت.

ص: 752

(ب) وإن تتابعت الإصابات وكانت الأولى منها تقتل، وجب القصاص أو الدية على سائق الأولى ويعزر سائق الثانية، وإن كانت الأولى لا تقتل ومات بإصابة الثانية فالقصاص أو الدية على سائق الثانية، ويجب على سائق الأولى جزاء ما أصاب من قصاص أو دية أو حكومة.

ثانيا: إذا أصابت سيارة إنسانا بجروح أو كسور وأصابته أخرى بجروح أو كسور أقل أو أكثر من الأولى، وكل من الإصابتين لا تقتل إذا انفردت، فمات المصاب من مجموع الإصابتين، وجب القصاص أو الدية على السائقين مناصفة.

ثالثا: إذا دفع إنسان آخر فسقط، أو أوثقه في طريق فأدركته سيارة ووطئته فقتلته أو كسرته مثلا، فقد يقال: على السائق ضمان ما أصاب من نفس أو كسر ويعزر الدافع أو الموثق بعقوبة دون الموت أو بحبس حتى يموت؛ لأن السائق مباشر والموثق أو الدافع متسبب، ويحتمل أن يكون الضمان عليهما قصاصا أو دية أو حكومة لأن كليهما مشترك مع السائق في ذلك.

رابعا: إذا أصابت سيارة إنسانا أو مالا وأصابته أخرى في نفس الوقت أو بعده، ولم يمت، وتمايزت الكسور أو الجروح أو التلف، فعلى كل من السائقين ضمان ما تلف أو أصيب بسيارته قل أو كثر.

ص: 753

خامسا: إذا أصابت سيارتان إنسانا بجروح أو كسور ولم تتمايز ولم يمت، أو أصابت شيئا أو أتلفته، فعليهما القصاص في العمد وضمان الدية والمال بينهما مناصفة.

سادسا: إن استعمل السائق المنبه (البوري) من أجل إنسان أمام سيارته أو يريد العبور فسقط من قوة الصوت أمام سيارته، ووطئته سيارة فمات أو كسر مثلا ضمنه السائق، وإن سقط تحت سيارة أخرى ضمنه سائقها؛ لأنه مباشر ومستعمل المنبه متسبب، ويحتمل أن يكون بينهما لاشتراكهما كالممسك مع القاتل، وإن سقط فمات أو كسر مثلا بمجرد سماعه الصوت ضمنه مستعمل المنبه.

سابعا: إذا خالف السائق نظام السير المقرر من جهة السرعة أو عكس خط السير وأصاب إنسانا أو سيارة أو أتلف شيئا عمدا أو خطأ ضمنه، وإن خرج إليه إنسان أو سيارة من منفذ فحصل الحادث ففي من يكون عليه الضمان احتمالات: الأول: أن يكون على السائق المخالف للنظام لاعتدائه ومباشرته، ويحتمل أن يكون على من خرج من المنفذ فجأة لأنه لم يتثبت ولم يحتط لنفسه ولغيره، وعلى من خالف نظام المرور التعزير بما يراه الحاكم أو نائبه، ويحتمل أن يكون الضمان عليهما للاشتراك في الحادث، وإن اعترضته سيارة في خطها النظامي أو زحمته فإن كان ذلك عمدا منه، فالضمان عليه وإن كان خطأ فالضمان عليهما، وعلى مخلف النظام الحق العام وهو التعزير بما يراه الحاكم.

ص: 754

إذا كان من المسلَّم به في الفقه الإسلامي، أن لولي الأمر حق وضع الأنظمة والقوانين التي تنظم حياة الناس وتحفظ أرواحهم وممتلكاتهم. ألا يكون من الحق أن تحدد تلك الأنظمة والقوانين الحالات التي يكون فيها سائق السيارة مسؤولا عن الحادث، والحالات التي لا يكون فيها مسؤولا، بدلا من أن يترك الأمر للاحتمالات؟ أليس من الواجب أن تكون الأحكام حاسمة وقاطعة وعلى منهج واحد ونسق واحد ولا يختلف فيها الحكم بين قاض وقاض؟

فبعض القضايا لا يسوغ فيها اختلاف وجهات النظر بحجة أن هذا مباشر. وأن هذا متسبب في الحادث، فلا مجال للاحتمالات والاختلاف في وجهات النظر، في مثل قضية سائق ملتزم السير الصحيح حسب النظام. فقفز رجل أمامه فجأة فصدمته السيارة ومات أو أصيب بجروح أو كسور. أليس من العدل أن نقول: إن الرجل الذي قفز أمام السيارة قد جنى على نفسه، ولا يتحمل سائق السيارة مسؤولية في الحادث؟ لم إذا لا يتحمل كل إنسان مسؤولية الخطأ الذي يرتكبه ويترك القاضي تحديد الخطأ ونسبته من وقائع القضية وظروفها؟

ص: 755

الذي جعل بعض القضاة يحكم بمسؤولية سائق السيارة وتضمينه دية الرجل في مثل هذه القضية أن هناك قاعدة فقهية تقول: " إذا اجتمع المباشر والمتسبب يضاف الحكم إلى المباشر "، وهناك قاعدة أخرى تقول:" المباشر ضامن وإن لم يتعمد "، وأخرى تقول:" المتسبب لا يضمن إلا بالتعمد "؛ لكن الذي لم يتنبه له هؤلاء هو أن الفقهاء قد ذكروا أن السبب قد يتغلب على المباشرة، وذلك في حالة إذا لم تكن المباشرة عدوانا (1) وهنا لم تكن المباشرة عدوانا فيتغلب السبب عليها إذا اجتمع مع المباشرة، فيتعين الحكم ببراءة المباشر، وعدم تضمينه في هذه الحالة، ومثل ذلك لو أن سائق السيارة يسوق سيارته في الشارع الرئيسي العام ملتزما نظام السير، فخرجت أمامه سيارة من شارع فرعي فاعترضت طريق السيارة الأولى فصدمت الأولى الثانية، فإن المسؤول في هذه الحالة سائق السيارة الثانية الذي لم يتوقف حتى تمر السيارة الأولى، ولا شيء على سائق السيارة الأولى، وإن كانت هي المباشرة للصدم ما دام سائقها ملتزما بأصول السواقة.

(1) مجلة الأحكام العدلية، المواد (90، 92، 93)

ص: 756

فالشرط في تحميل المباشر المسؤولية هو أن تكون مباشرته للضرر ذاتية مستقلة غير ملجئة، أي لا تكون المباشرة مبنية على السبب وناشئة عنه. فإذا وقع شخص آخر نحو سيارة أثناء سيرها فسقط تحت عجلاتها ودهسته، فإن السيارة في هذه الحالة هي التي باشرت الضرر من الوجهة المادية البحتة، ومع ذلك فلا يمكن مساءلة قائد السيارة وتضمينه باعتباره مباشرا، إذ لا دخل له في وقوع الحادث الذي يرجع في الحقيقة إلى فعل الشخص الدافع، وإن كان فعله هذا يظهر كمجرد سبب، إلا أن الضرر ينسب إليه لأنه هو الذي ألجأ السيارة إلى مباشرة الضرر. فالأول متسبب، والثاني مباشر، ومع أن القاعدة الشرعية تقول:" إنه عند اجتماع المتسبب والمباشر تعلق الضمان بالمباشر دون المتسبب " إلا أن المباشرة هنا ناشئة عن المسبب لذلك يتعلق الضمان بالمتسبب لأن القاعدة هذه مقيدة بألا يكون الفعل المؤدي إلى التلف مباشرة مبنيا على الفعل المتسبب ملجئا إلى الفعل المباشر، كما هو الحال هنا فيتحمل المتسبب هنا كامل المسؤولية إذا كان الفعل المباشر لا عدوان فيه، أما إذا كان الفعل المباشر فيه عدوان اشترك المتسبب والمباشر في الضمان، والمتسبب لا يضمن مع المباشر، إذا كان هذا السبب شيئا لا يعمل بانفرداه في الإتلاف، أما إذا كان الإتلاف نتيجة اجتماعهما كان الضمان عليهما.

ص: 757

ولا يخفى ما لحركة السيارات من دور لا ينكر في حوادث السير مما يحتم على القاضي تحمل مسؤولية الموازنة والمقارنة ليتبين إلى من ينسب الحادث حقيقة. فقد يسند الحادث منطقيا وعقليا إلى عاملٍ وسببٍ شارَكَ السيارة ودفعها إلى مباشرة الحادث، وقد يكون كل من السيارة والعامل الآخر مباشرا للضرر كما يحدث في حالات التصادم، ولا يعني ذلك أن كل سبب يشترك مع السيارة في وقوع الحادث يرفع بالضرورة الضمان عن قائد السيارة، والمهم أن يكون هناك استقصاء، وبحث كل العوامل والأسباب التي أدت إلى الحادث ومعرفة دور كل طرف فيه ومدى تأثيره في الحادث.

وهنا نذكر بعض أمثلة لحوادث السيارات التي قد تختلف حولها وجهات النظر، ولكن الرأي الأجدر بالترجيح يكون واضحا لمن أراد أن يتجرد عن التقليد:

1-

وقع تصادم بين سيارة (أ) وسيارة (ب) نتيجة إقدام قائد سيارة (أ) على قيادتها بسرعة، وعدم التهدئة عند التقاطع وانحرافه جهة اليسار مما أدى إلى اصطدامه بالسيارة (ب) التي كان قائدها وقت وقوع الاصطدام متخذا الوضع العادي المرعي في السير، وفي الجانب الأيمن من الطريق، ولم يقع فيه أي فعل أثر في التلف وحصله، وجلب الضرر بذاته دون واسطة وكان علة له، فإن قائد السيارة الثانية لا يكون قد أتى بفعل متلف بذاته، ومن ثم لا يعد مباشرا لتدخل أمر بين سير هذه السيارة وبين الضرر الناجم عن هذا الأمر، هو الصدمة التي أحدثتها السيارة الأولى بتلك السيارة مما يجعل قائدها متسببا في الضرر وليس مباشرا.

ص: 758

2-

كان قائد السيارة (أ) يسير على يمين الطريق بسرعة معتدلة بينما كان يسير خلفه قائد السيارة (ب) والذي عند اقترابه منه حاول أن يتجاوزه، ولم يسلك في ذلك السلوك المعتاد بأن يتم التجاوز من جهة اليسار بل على العكس من ذلك حاول أن يتخطاه من اليمين، وإذا كانت تلك السيارة على يمين الطريق تحرك قائدها يمين الطريق العام وسار في الجزء الترابي منه وحاول تجاوز السيارة الأخرى أيضا فاصطدم بها فوقع الحادث، فإنه يكون المباشر لهذا الحادث، ويقتصر دور قائد السيارة الثانية على كونه متسببا فلا يسأل.

3-

إذا تحرك قائد السيارة (أ) إثر إضاءة النور الأخضر وفي وسط التقاطع أقبلت السيارة (ب) بالرغم من أن إشارة المرور لم تكن تسمح له بالسير فصدم السيارة نتيجة خطئه ومخالفته لإشارة المرور الحمراء، فإن هذه السيارة تكون هي الصادمة ومن ثم المباشرة للضرر. أما السيارة الأولى فلا تعد إلا مجرد ظرف هيأ لوقوع الحادث لوقوع الحادث، ولكنه لم يحصله بذاته بدون واسطة فلا يعد قائدها مباشرا للضرر لتدخل أمر بين فعلها وبين الضرر الناجم، وهذا الأمر هو الصدمة التي أخذتها السيارة الثانية.

ص: 759

4-

بينما كان قائد السيارة يقود سيارته بسرعة كبيرة في اتجاه مضاد لاتجاه سيارتين، وكانتا تلتزمان يمين الطريق في اتجاهما، إذ بقائد السيارة الأولى ينحرف تجاه السيارتين فصدم بهما على التوالي حيث وقع الحادث وانتهى بوفاته، لا بد هنا أن يقال: إنه هو الذي باشر الصدم ونجم القتل نتيجة لاصطدام فهو المسؤول وهو المباشر، فلا يتحمل سائقها أي مسؤولية مع المباشر لأن الضرر لم ينجم مباشرة عن حركة السيارتين لتدخل أمر بين حركتهما وبين الضرر الناجم، وهو الصدمة التي أحدثتها سيارة المتوفى بهما.

5-

كانت السيارة (أ) يقودها سائقها ويركب معه شخص آخر فحصل تصادم بين هذه السيارة والسيارة (ب) فتوفي قائد السيارة (أ) مع الراكب الذي معه، وكان الصدم نتيجة انحراف السيارة (أ) من الناحية اليمنى إلى الناحية اليسرى من الطريق انحرافا حادا بآثار فرامل ظاهرة طولها عشرون ياردة تقريبا، في الوقت الذي كانت فيه السيارة الثانية آتية من الاتجاه المقابل في خط سيرها الطبيعي، فلا شك أن الذي يتحمل المسؤولية في هذا الحادث هو سائق السيارة (أ) لأنه يعتبر هو المباشر، أما سائق السيارة الأخرى فلا يصدق عليه وصف المباشرة، وإنما هو مجرد متسبب لا يلزمه الضمان إلا إذا كان متعديا.

6-

بينما كان قائد سيارة نقل عام يسير في الطريق العام ملتزما الجانب الأيمن من الطريق كما يمليه واجب القيادة؛ إذ بسيارة نقل خاص قادمة من الاتجاه المضاد تنحرف نحوه تاركة الجانب الأيمن المخصص لها ومقتحمة عليه طريقه، فكان لا بد من اصطدامها به، وترتب على ذلك تهشمها وانقلاب السيارة الأولى ووفاة سائق سيارة النقل الخاص وشخص آخر يركب معه، ولا ريب أن سبب الحادث هنا هو انحراف المتوفى بسيارته النقل الخاص التي كان يركبها المجني عليه الثاني معه من مسارها إلى مسار السيارة النقل العام الذي لم يرتكب خطأ، وإن اعتراض المجني عليه لسيارة النقل العام والاصطدام بها يرتفع إلى مقام الخطأ الجسيم من قبل المجني عليه.

ص: 760

هذه الأمثلة مع وضوح الحكم فيها إلا أن هناك من القضاة من تبنى فكرة المباشرة بصورة جامدة، ويتأثر نتيجة الضرر إذا كان جسيما وخاصة في حالة الوفاة فيحرص بعض القضاة أن يحكموا بالدية في حالة الوفاة نتيجة حوادث السيارات انطلاقا من مبدأ "لا يبطل دم في الإسلام" وهو مبدأ صحيح، ولكن ليس من عدل الإسلام أن يتحمل الدية من ليست عليه مجرد المباشرة. وبعضهم يحتج بأن النائم إذا وقع على إنسان فقتله يضمن الدية مع أنه ليس له اختيار. وواضح أن هذه المسألة تختلف عن حوادث السيارات، فإن هذه مباشرة بدون واسطة، وفى إمكان النائم قبل أن ينام أن يتحرى ما يمكن أن يحدث لما يصدر منه أثناء نومه فلا يؤذي أحدا، والقتيل في حالة وقوع النائم عليه لم يكن من قبله نشاط أدى إلى حدوث القتل، ونستطيع أن نطبق مبدأ "لا يبطل دم في الإسلام" في حالة ما إذا كان فاعل القتل مجهولا وتعذرت معرفته أو تعذر الحصول عليه، فعند ذلك تتحمل الدولة أو بيت المال الدية، فالأصل أن يتحمل الجاني أو عاقلته الدية فإذا تعذر ذلك يتحمل بيت المال الدية، فلو أن سيارة مجهولة صدمت شخصا ولم يتعرف عليها فإن الدولة هي التي تضمن الدية.

ففي خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل رجل في زحام فاستشار عمر علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال علي: (لا يبطل دم في الإسلام) فوداه عمر من بيت مال المسلمين وحول وجوب الدية على بيت المال. يقول الشيخ محمد أبو زهرة: الكلام في هذا يحتاج إلى بحث ثلاثة أمور:

الأمر الأول: إذا كانت الدية على العاقلة ولم يكن ثمة عاقلة، لا من عصبة نسبية ولا سببية ولا موالاة – عند من يقول به – أتجب الدية في بيت المال باعتباره عاقلة من ليس له عاقلة، قال بعض التابعين وأبو حنيفة والشافعي تجب الدية في بيت المال، وبنوا ذلك على ثلاثة أمور:

أولها: أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع دية الأنصاري الذي قتل بين اليهود من بيت المال، وأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ودى رجلا قتل في زحام من بيت المال، وقد أشار عليه بذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذ قال له:(لا يبطل دم في الإسلام) .

ثانيها: أن ميراث من لا وارث له يؤول إلى بيت المال، فيكون عليه تبعة بهذا الاعتبار، إذ أن الغرم بالغنم، وحيث آل ماله إذا مات يكون مسؤولا عما يرتكب مما ولا يعترض على هذا بأن تركات أهل الذمة تؤول إليه، فهل يتحمل دياتهم؟ ونجيب عن ذلك بالإيجاب فإنه لا يبطل أيضا دم أحد ممن يستظلون بالراية الإسلامية، ويتحمل التبعة عن كل فعل لا يتحمل تبعته أحد ويكون فيه تعويض للأرواح المقتولة، والنبي صلى الله عليه وسلم عندما دفع دية الأنصاري كان يدفع الدية عن الذين تحملوها من اليهود.

ثالثها: أن الدولة مسؤولة بمقتضى التكافل الاجتماعي عن كل دم، حتى لا يذهب دم هدرا.

والذين أوجبوا الدبة عن بيت المال أوجبوها في بيت مال الضوائع التي تؤول إليه التركات التي لا يعرف لها وارث، فكانت ضامنة بهذا الاعتبار، وهذا رأي أبي حنيفة، والشافعي، والحنابلة لا يوجبون ذلك وقولهم غير راجح.

الأمر الثاني: الذي يجب بحثه، أنه إذا لم يمكن أداء من بيت المال أيذهب الدم هدرا؟ قال بعضهم: يذهب الدم هدرا، إذ لا يوجد من يلتزم، ولكن الحق أنه لا يسقط، وهو القول الآخر، بل يستمر الوجوب عن بيت المال وغيره؛ لأن التقصير في الأداء لا يسقط الدين، بل تجب الدية عن القاتل، وإن لم يكن عنده استمرت عن بيت المال، والأداء واجب عليه حتى يؤدي.

ص: 761

الأمر الثالث: الذي يجب بحثه إذا كان الأداء عن القاتل بسبب عفو ولي الدم، وعجز عن أداء ما وجب عليه، أتجب الدية على بيت المال؟ إن الذين قالوا: إن ما يجب من مال يكون بصلح، يعتبرونه دينا كسائر الديون يكون الأداء فيه عند الميسرة، لقوله تعالى في شان الديون:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] .

والذين قالوا: إن الواجب هو الدية، وتكون على الجاني لا ينقلونها إلى بيت المال، ولكن تكون نظرة إلى ميسرة، وهم لا يقررون انتقال الدين إلى بيت المال في حال ما إذا كان الأداء واجبًا على العاقلة، فأولى ألا ينتقل الأداء إليه، عندما يكون الوجوب عن الجاني نفسه، والأمر في هذا يرجع إلى الذين عفوا، فعليهم الانتظار حتى يتيسر، والله تعالى يقول:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] وليس من الاتباع بالمعروف اتباع المعسر، كما أنه ليس من الأداء بإحسان المطل.

ويصح أن يكون الأداء من بيت مال الزكاة من سهم الغارمين المذكور في القرآن الكريم، وقد بينا ذلك في بحث الزكاة فارجع إليه (1) .

وقال الشيخ محمد بن إبراهيم – رئيس القضاء السابق بالمملكة العربية السعودية – رحمه الله: ما يجب على بيت المال دفعه من الديات والديون في حالات:

الأولى: إذا مات أحد المسلمين وعليه دين دية أو غيرها من الديون، ولم يخلف له وفاء فعلى ولي الأمر قضاؤه من بيت المال كما ثبت ذلك بالأحاديث الصحيحة.

الثانية: إذا جنى إنسان على آخر فقتله وكانت الجناية خطأ أو شبه عمد ولم يكن له عاقلة موسرة، فالمشهور من المذهب أن الدية تكون في بيت المال، وإن كان له عاقلة موسرة فعليها الدية إن صدقته.

الثالثة: إذا حكم القاضي بالقسامة في قضية القتل، فنكل الورثة على حلف أيمان القسامة ولم يرضوا بيمين المدعى عليه وداه الإمام من بيت المال.

الرابعة: كل مقتول جهل قاتله: كمن مات في زحمة أو طواف أو نحو ذلك فديته في بيت المال، أما الدية التي يحكم بها على الجاني لكون القتل عمدا فتجب عليه في ماله حالة، وتكون من ضمن الديون في ذمته: إن كان موسرا ألزمه الوفاء، وإن كان معسرا فنظرة إلى ميسرة، ويسوغ أن يدفع له في حالة إعساره من الزكاة ما يوفي به هذه الدية لأنه من الغارمين الذين هم أحد أصناف الزكاة الثمانية، فإن مات مدينا فعلى ولي الأمر قضاء دينه من بيت مال المسلمين. قال الشيخ تقي الدين: وتؤخذ الدية من الجاني الخطأ عند تعذر العاقلة في أصح قولي العلماء إذا رأى الإمام المصلحة فيه، ونص على ذلك الإمام أحمد، ويتوجه أن يعقل ذوو الأرحام عند عدم العصبة إذا قلنا: تجب النفقة عليهم (2) .

(1) العقوبة في الفقه الإسلامي (ص 633 – 634)

(2)

الاختيارات الجلية للشيخ البسام بأسفل نيل المآرب: 4 / 413 – 414

ص: 762

الحوادث التي تسببها البهائم للسيارات:

ومن المعلوم أن الدول قد خصصت طرقا للسيارات لا يمر فيها المشاة، ولا تسمح لمالكي المواشي أن يتركوا مواشيهم مهملة عند هذه الطرق، وذلك لما يترتب من حوادث السير عندما تمر الماشية أمام السيارة ويحصل الاصطدام، ويؤدي ذلك إلى تلف في الأرواح والممتلكات، فإذا خالف أرباب المواشي التنبيهات والأوامر التي يصدرها ولي الأمر، وتركوا مواشيهم ترعى بالقرب من طريق السيارات ولم يحفظوها ويمنعوها عن الذهاب إلى طرق السيارات، فما الحكم إذا حصلت الأضرار بسبب اعتراض البهيمة لطريق السيارة وحصول الاصطدام؟

لا شك أننا لم نجد نصا فقهيا واضحا يتعلق بهذا الموضوع، وفقهاؤنا معذورون في ذلك لعدم وجود السيارات في عصرهم، وقد اقتصر بحثهم على ما تتلفه البهائم مستندين إلى حديث البراء بن عازب ((قضي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها، وأن حفظ الماشية على أهل الماشية)) ، وحديث ((العجماء جبار)) وبسبب تعارض هذين الحديثين اختلفت وجهات نظر الفقهاء، وبعضهم وفق بين الحديثين، فتكون جنايتها جبار في حال وغير جبار في حال أخرى، فذكر الفقهاء مسائل فضمنوا المالك ما تتلفه بهيمته إذا فرط في حفظها، كما ضمنوا راكب البهيمة المتصرف فيها، وكذا السائق والقائد جناية يدها وفمها ووطئها برجلها، ولا يضمن من نفحت برجلها أو بذنبها، لأنه لا يمكنه أن يمنعها منه، ومن نفر البهيمة أو نخسها ضمن وحده جنايتها دون المتصرف فيها لأنه المتسبب، ومن ذلك أيضا لو حل رباطا عن نحو فرس أو حل قيدا عن مقيد فذهب ما فيه أو تلف ما فيه شيء ضمنه، لأنه تلف بسبب فعله كربط دابة في طريق ضيق أو طرح نحو حجر بها فيضمن ما تلف بذلك، وكذا لو ربط دابة أو أوقفها بطريق واسع ويده عليها فأتلفت شيئا أو جنت بيدها أو رجلها أو فمها ضمن، ومثله لو اقتنى كلبا عقورا فيضمن إذا عقر.

ص: 763

هذه الأمثلة ذكرها الفقهاء، ونتساءل: فهل في إمكاننا على ضوء ذلك أن نجعل إهمال صاحب الناقة مثلا لناقته التي تركها تذهب إلى طريق السيارات أن يتحمل مسؤولية ما يترتب على اعتراضها للسيارات وما تسببه من حوادث، ويغرم الديات والأورش، وقيمة الأموال التي تلفت بسببها، حيث تصطدم بها السيارة ولا يستطيع قائدها أن يتلافى الحادث خاصة في الطرق الطويلة التي تسرع فيها السيارات؟

وهنا نجد قرارا لهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية نقله فضيلة الشيخ عبد الرحمن البسام في تعليقه على كتاب (نيل المآرب) ونصه ما يلي:

عدم ضمان البهائم التي تعترض الطرق العامة المعبدة بالأسفلت إذا تلفت نتيجة اعتراضها الطريق المذكورة، فصدمت فهي هدر، وصاحبها آثم بتركها وإهمالها لما يترتب على ذلك من أخطار جسيمة تتمثل في إتلاف الأنفس والأموال، وتكرار الحوادث المفجعة، ولما يترتب على حفظها وإبعادها عن الطرق العامة من أسباب السلامة وأمن الطرق، والأخذ بالحيطة، وحفظ الأموال والأنفس تحقيقا للمقتضى الشرعي وتحريا للمصالح العامة، وامتثالا لأوامر ولي الأمر (1) .

هذا القرار حل جزءا من المشكلة، وهو إهدار البهيمة على صاحبها، وعدم استحقاقه لشيء مقابل تلفها، وهذا يعني أن هيئة كبار العلماء ضمنت مالك البهيمة قيمة بهيمته عندما قررت أنها هدر، ألا يمكن أن نقول: إنه أيضا يضمن ما سببته بهيمته بسبب إهماله لها من أضرار أخرى ترتبت على الحادث فيما لو أدى الحادث إلى موت سائق السيارة فيضمن الدية، ويضمن التلف الذي حصل بالسيارة؟

(1) الاختيارات الجلية: 3 / 179 – 180

ص: 764

وما الذي يمنع من ذلك خاصة إذا أمر ولي الأمر أصحاب المواشي أن يحفظوا مواشيهم ولا يهملوها وأنذرهم بأنهم يتحملون المسؤولية في حالة دخول أي بهيمة إلى الطريق العام الذي تسير فيه السيارات، وإذا كانت هيئة كبار العلماء قد صرحت بأن مالك البهيمة يأثم في هذه الحالة، ألا يمكن أن يترتب على هذا الإثم مسؤولية حقوقية نحو الآخرين الذين تضرروا بسبب هذا الإثم؟ أعتقد أن علماء الإسلام في مجمع الفقه الإسلامي من واجبهم شرعا أن يحسموا هذه المشكلة بقرار فقهي يضمن أولئك الذين خالفوا أوامر ولي الأمر، وأهملوا مواشيهم تذهب إلى طريق السيارات، تعرض حياة الناس وأموالهم للخطر، وأمر طبيعي أن يكون ذلك بعد أن يتأكد القاضي أن سائق السيارة كان ملتزما نظام السير، ولم يصدر منه أي تهور أو تقصير، وليس في إمكانه تلافى الحادث.

والذي نراه أن النقابات في هذا العصر يمكن أن تقوم مقام العاقلة في البلدان التي فيها النقابات، كما أن التأمين التعاوني أيضا يمكن أن يقوم مقام العاقلة، لكن إذا لم تكن هناك نقابات، وليس هناك تأمين تعاوني فهل يجوز للمسلم أن يؤمن ضد الحوادث في شركات التأمين التجارية باعتبار أن ذلك ضرورة ملحة تقتضيها حاجات الإنسان الحياتية في هذا العصر خاصة في حالة إلزام الدولة بالتأمين لكل من يريد أن يسوق سيارة؟ أعتقد أن ذلك جائز للفرد لأنه لا حيلة له إذا كانت هناك مسؤولية فهي على المسلمين جميعا بوقوفهم موقفا سلبيا، ولم يضعوا حلولا مناسبة تتفق مع شريعتهم من كل النواحي، ونرى من المناسب هنا أن ننقل فتوى الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود – التي تجيز التأمين ضد حوادث السيارات ونصها:

(التأمين على السيارات)

إن الله سبحانه في كتابه وعلى لسان نبيه بين الحلال والحرام بيانا واضحا فقال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119]، وقال:{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل:116]، وقال:{أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59] .

ص: 765

وفي البخاري ومسلم: عن النعمان بن بشير، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)) .

فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن الحلال المحض بين واضح لا مجال للشك فيه، وأن الحرام المحض بين لا يختلج في القلب الجهل به، ولكن بينهما أمور مشتبهات لا يعلم أكثر الناس حقيقة الحكم فيها، هل هي من الحلال أو من الحرام؟ ومفهوم الحديث أن القليل من الناس وهم أهل العلم والمعرفة يعرفون حكم الله في هذه المشتبهات، فيلحقون الحلال بنظيره من الحلال، والحرام بنظيره من الحرام.

فالذين يخاف عليهم من الوقوع في الحرام عند مقاربتهم للمشتبهات هم العوام الذين تحفى عليهم غوامض الأحكام، ويتجاسرون على الأشياء المشتبهات بدون سؤال عن الحلال والحرام، كان أن العلماء ينبغي أن يتركوا المشتبهات عندما يخفى عليهم طريق الحكم فيها، لحديث:((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)) .

ثم إن هذه المشتبهات تقع في العقود والشروط والمبايعات، والأنكحة والأطعمة والرضاع، وقد ترجم عليها البخاري في صحيحه، فقال:(باب تفسير المشتبهات) ، ثم ساق بسنده عن عقبة بن الحارث أنه تزوج أم يحيى بن أبي إهاب، فجاءت امرأة سوداء فقالت: إني قد أرضعتكما، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كيف وقد قيل؟ ففارقها عقبة ونكحت زوجا غيره، ثم ذكر حديث عبد الله بن زمعة مع عتبة بن أبي وقاص، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((الولد لك يا عبد الله بن زمعة واحتجبي منه يا سودة)) . فأمر سودة أن تحتجب عنه مع أنه محكوم بكونه أخاها، لكن لما رأى قرب شبه بعتبة بن أبي وقاص أمرها أن تحتجب عنه، وهو من باب اتقاء الشبهات.

فمن هذه المشتبهات ما قع مشكلا مشتبها في وقت إلى أن يتصدى له من يخرجه من حيز الاشتباه والغموض إلى حيز التجلي والظهور حتى يصير واضحا جليا لا مجال فيه للاشتباه.

فمن هذا النوع قضية التأمين على السيارات فهي وإن أشكل على الكثير من الناس حكمها من أجل تجدد حدوثها وغموض أمرها، وعدم سبق الحكم من الفقهاء فيها باسمها، فإن لها في الفقه الإسلامي أشباها ونظائر ينبغي أن ترد إليها ويؤخذ قياسها منها، كما يرد الفرع إلى أصله والنظير إلى نظيره.

وهذا يعد من القياس الصحيح الذي نزل به الكتاب والسنة وعمل به الصحابة رضي الله عنهم، فإنهم كانوا يمثلون الوقائع بنظائرها ويشبهونها بأمثالها، ويردون بعضها إلى بعض في أحكامها، ففتحوا للعلماء باب الاجتهاد ونهجوا لهم طريقه وبينوا لهم سنة تحقيقه وتطبيقه، كما سيأتي بيانه.

ص: 766

(الأصل في العقود الإباحة حتى يقوم دليل التحريم)

ذهب الإمام أبو حنيفة – رحمه الله – إلى أن الأصل في العقود والشروط الحظر إلى أن يقوم دليل الإباحة، وهذا هو مذهب الظاهرية وعليه تدل نصوص الإمام الشافعي وأصوله، وذهب الإمام مالك إلى أن الأصل في العقود الإباحة إلا ما دل الدليل على تحريمه، وعليه تدل نصوص الإمام أحمد وأصوله، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله.

فقد قال شيخ الإسلام – رحمه الله: "إن الأصل في العقود الصحة والجواز، ولا يحرم ويبطل منها إلا ما دل الشرع على إبطاله وتحريمه بنص صحيح أو قياس صريح". قال: "وأصول الإمام أحمد المنصوصة عنه تجري على هذا القول ومالك قريب منه" – انتهى (1) .

وقد نهج هذا المنهاج العلامة ابن القيم – رحمه الله – قال: (الخطأ الرابع: فساد اعتقاد من قال: إن عقود المسلمين وشروطهم ومعاملتهم على البطلان حتى يقوم دليل الصحة، فإذا لم يقم عندهم دليل على صحة عقد أو شرط أو معاملة، استصحبوا بطلانه فأفسدوا بذلك عقودا كثيرة من معاملات الناس وشروطهم بلا برهان من الله بناء على هذا الأصل، وجمهور الفقهاء على خلافه، وأن الأصل في العقود والشروط الصحة، حتى يقوم الدليل على البطلان، وهذا القول هو الصحيح، فإنه لا حرام إلا ما حرم الله ورسوله، كما أنه لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله، ولا دين إلا ما شرعه الله ورسوله)(2) .

إذا ثبت هذا، فإن صفقة عقد التأمين على حوادث السيارات، وهو أن يتفق الشخص الذي يريد التأمين على سيارته مع شركة التأمين، سواء كان التأمين كاملا أو ضد الغير، فيدفع قدرا يسيرا من المال على تأمينها مدة معلومة من الزمان، كعام كامل بشروط وقيود والتزامات معروفة عند الجميع. من أهمها: كون السائق يحمل رخصة سياقة، فمهما أصيبت هذه السيارة أو أصابت غيرها بشيء من الأضرار في الأنفس والأموال خلال المدة المحددة، فإن الشركة ملزمة بضمانه بالغا ما بلغ.

(1) الفتاوى القديمة: 2 / 326

(2)

إعلام الموقعين: 2 / 34

ص: 767

ويستفيد المؤمِّن على سيارته حصول الأمان والاطمئنان على نفسه وعلى سيارته التي يسوقها بنفسه، أو يسوقها رجل فقير لا مال له ولا عاقلة، فيستفيد عدم المطالبة والمخاصمة في سائر الحوادث التي تقع بالسيارة متى كان التأمين كاملا، وتقوم شركة التأمين بإصلاحها عند حدوث شيء من الأضرار بها، ومثل هذا الأمان والاطمئنان يستحق أن يبذل في حصوله نفيس الأثمان.

وليس فيه من المحذور سوى الجهالة بالأضرار التي قد تعظم في بعض الأحوال فتقضي بهلاك بعض النفوس والأموال وقد لا تقع بحال.

وهذه الجهالة مغتفرة من سائر الضمانات، فقد ذكر الفقهاء صحة الضمان عن المجهول وعما لا يجب.

قال في المغني: ويصح ضمان الجنايات، سواء كانت نقودا كقيم المتلفات أو نفوسا كالديات؛ لأن جهل ذلك لا يمنع وجوبه بالإتلاف فلم يمنع جوازه بالالتزام قال: ولا يشترط معرفة الضمان عنه ولا علمه بالمضمون به لصحة ضمان ما لم يجب

اهـ.

ص: 768

وهذه هي نفس قضية التأمين على ضمان حوادث السيارات، ثم إن هذه الجهالة في عقد التأمين لا تفضي إلى نزاع أبدا، لتوطين الشركة أمرها في عقدها على التزام الضمان بالغا ما بلغ فلا تحس بدفع ما يلزمها من الغرامة في جنب ما تتحصل عليه من الأرباح الهائلة.

وقد دعت إليها الحاجة والضرورة في أكثر البلدان العربية، بحيث لا يمنح السائق رخصة السياقة إلا في سيارة مؤمنة وإلا اعتبروه مخالفا لنظام سير البلد، وهذه مما يزول بها شبهة الشك في إباحتها وتتمخض للجواز بلا إشكال.

وفي هذا التأمين مصلحة كبيرة أيضا، وهي أن المتصرفين بقيادة السيارات هم غالبا يكونون من الفقراء الذين ليس لهم مال ولا عاقلة، فمتى ذهبت أرواح بعض الناس بسببهم وبسوء تصرفهم فلن تذهب معها دياتهم لورثتهم، بل يجب أن تكون مضمونة بهذه الطريقة.

إذ من المعلوم أن حوادث السيارات تقع دائما باستمرار، وأن الحادثة الواحدة تجتاح هلاك العدد الكثير من الناس، ومن الحزم وفعل أولي العزم ملاحظة حفظ دماء الناس وأموالهم.

وهذا التأمين وإن كان يراه الفقير أنه من الشيء الثقيل في نفسه ويعده غرامة مالية عليه حال دفعه لكنه يتحمل عنه عبئا ثقيلا من خطر الحوادث، مما يدخل تحت عهدته ومما يتلاشى معها ما يحس به من الغرامة لكون المضار الجزئية تغتفر في ضمن المصالح العمومية

والله أعلم.

ص: 769

(إزالة الشبهات اللاحقة لتأمين السيارات)

إن العقود والشروط والشركات والمبايعات كلها مبنية على جلب المصلحة ودرء المفسدة، بخلاف العبادات، فإنها مبنية على التشريع والاتباع لا على الاستحسان والابتداع. والفرق بينهما هو أن العبادات حق الله، يؤخذ فيها بنصوص الكتاب والسنة. أما المعاملات، فإنها مبنية على جلب المصلحة ودرء المفسدة، إذ هي من حقوق الآدميين بعضهم مع بعض، بحيث يتعامل بها المسلم مع المسلم، والمسلم مع الكافر، فمتى كان الأمر بهذه الصفة، فإنه ليس عندنا نص صحيح ولا قياس صريح يقتضي تحريم هذا التأمين يعارض به أصل الإباحة أو يعارض به عموم المصلحة المعلومة بالقطع. إذ العقود والشروط عفو حتى يثبت تحريمها بالنص أو بالقياس الصحيح.

والتحريم هو حكم الله المقتضي للترك اقتضاء جازما كما حققه أهل الأصول، وهذه الشركة المنعقدة للتأمين إن رأت في نفسها من مقاصدها أو رآها الناس أنها تجارية استغلالية. لكن حقيقة الأمر فيها والواقع منها أنها يتحصل منها اجتماع المنفعتين منفعتها في نفسها في حصول الأرباح لها ومنفعة الناس بها، فهي شركة تعاونية محلية اجتماعية تشبه شركة الكهرباء والأسمنت وغيرهما، فكل هذه الشركات تدخل في مسمى التعاون بين الناس؛ لأن الشخص غني بإخوانه قوي بأعوانه، ويد الله مع الشريكين، ما لم يخن أحدهما صاحبه، فهي من جنس المشاركة بالوجوه ومشاركة الأبدان ومشاركة المفاوضة. وقد حصل الخلاف قديما بين الفقهاء في جواز هذه المشاركات، فمنهم من قال بجوازها، ومنهم من قال بمنعها، كما حصل الخلاف في شركة التأمين على حد سواء، ثم زال الخلاف عن هذه الشركات كلها واستقر الأمر على إباحتها على اختلاف أنواعها.

ص: 770

ووجه الإشكال دعوى دخولها في مسمى الجهالة والغرر الذي نهى عنه الشارع. كما روى مسلم في صحيحه: قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر) .

وفسر هذا الغرر المنهي عنه بثلاثة أمور:

(أحدها) المعدوم: كبيع حبل الحبلة، وبيع ما في بطون الأنعام، وبيع ما ليس عندك ونحوه.

(الثاني) بيع المعجوز عن تسليمه: كبيع الآبق.

(الثالث) المجهول المطلق: كبعتك عبدا من عبيدي أو ما في بيتي، ومنه بيع الحصاة وبيع الملامسة والمنابذة، وضربة الغائص، وبيع الحظ والنصيب المسمى باليانصيب، فكل هذه داخلة في بيع الغرر المنهي عنه شرعا، لكونها يقع فيها النزاع غالبا نظير ما يقع في القمار، فإن هذا العبد الآبق إنما يبيعه صاحبه بدون ثمن مثله مخاطرة، فإن تحصل عليه قال البائع: غبنتني، فإن لم يجده قال المشتري: غبنتني رد علي ثمني.

وهذا المعنى منتف في هذه المشاركة التي مبناها على التعاون الاجتماعي الصادر عن طريق الرضاء والاختيار بدون ضرر ولا خداع.

فجواز المشاركة هذه أشبه بأصول الشريعة، وأبعد عن كل محذور، إذ هي مصلحة محضة للناس بلا فساد.

غير أن فيها تسليم شيء من النقود اليسيرة في توطيد تأمين السيارة، ومن السهل أن يختصرها الشخص من زائد نفقته كذبيحة يذبحها لأدنى سبب أو بلا سبب؛ لأن كل عمل كهذا فإنه يحتاج بداعي الضرورة إلى مال ينظمه ويقوم بالتزام لوازمه، وليس عندنا ما يمنع بذل المال في التزام الضمان كما قالوا بجواز: اقترض لي ألفا ولك منه مائة، وأنه جائز، ومنه ضمان الحارس بأجره.

ص: 771

فصحة هذا الضمان، والتزام لوازمه يتمشى مع نصوص الإمام أحمد وأصوله.

قال في المغني: (دلت مسألة الخرقي على ضمان المجهول كقوله: ما أعطيته فهو علي، وهذا مجهول، فمتى قال: أنا ضامن لك ما على فلان، أو ما يقضي به عليه، أو ما تقوم به البينة، أو ما يقر به لك، أو ما يخرجه الحساب، صح الضمان بهذا كله، وبهذا قال أبو حنيفة ومالك) .

قال: (وفيه صحة ضمان ما لم يجب، وصحة الضمان عن كل من وجب عليه حق، وفيه صحة الضمان في كل حق من الحقوق المالية الواجبة، أو التي تؤول إلى الوجوب) اهـ.

وقال في المغني أيضا:

(ويصح ضمان الجنايات، سواء كانت نقودا كقيم المتلفات أو نفوسا كالديات؛ لأن جهل ذلك لا يمنع وجوبه بالإتلاف فلم يمنع جوازه بالالتزام) . قال: (ولا يشترط معرفة الضمان للمضمون عنه ولا العلم بالمضمون به) .

وهذه هي نفس قضية ضمان التأمين على السيارات، فإن شركة التأمين تلتزم ضمان الديات وأروش الجنايات وقيم المتلفات، كما ذكر جوازه صاحب المغني والشرح الكبير والإقناع، ولا يقدح في صحته جهل الضامن للمضمون به ولا المضمون عنه، فنصوص الإمام أحمد وأصوله تتسع لقبولها كنظائرها من الضمانات وكذلك الإمام مالك وأبو حنيفة كما ذكرنا موافقتهما على ذلك.

ص: 772

غير أن الإمام أحمد أكثر تصحيحا للعقود والشروط من سائر الأئمة، ونصوص مذهبه تساير التطور في العقود المستحدثة.

وإنما وقع اللبس فيها على من قال بتحريمها من علماء هذا العصر، كابن عابدين وغيره من جهة أنهم اعتقدوها قمارا أو جهالة أو غررا، أو التزام ما لا يلزم، أو كونها على عمل مجهول قد يفضي إلى غرامات باهظة.

ويتمسكون بما بلغهم من العمومات اللفظية، والقياسات الفقهية التي اعتقدوا شمولها لمثل هذا العقد، يظنونها عامة أو مطلقة وهي لا تنطبق في الدلالة والمعنى على ما ذكروا، أو يعللون بطلان مثل هذا العقد بكونه لم يرد به أثر ولا قياس.

والله سبحانه قد أمر عباده بالوفاء بالعقود في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وهو شامل لكل عقد يتعاقده الناس فيما بينهم ويلتزمون الوفاء به، ولم يكن قمارا ولا ربا ولا خديعة.

إذ الأصل في العقود الصحة والإباحة إلا ما قام الدليل على تحريمه، لكون العقود والشروط والمشاركات من باب الأفعال العادية التي يفعلها المسلم مع الكافر، وليست من العبادات الشرعية التي تفتقر إلى دليل التشريع.

ص: 773

فمن أعطى الشركة مالا على حساب التزام ضمان سيارته بطيب نفس منه والتزمت الشركة لوازمه، فإن مقتضى الشرع يحكم بصحة هذا الضمان، أخذا من قوله تعالى:{أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، ومن قوله:{لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]، وفي الحديث:((لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه)) ، وهذا العوض قد خرج عن طيب نفس من مالك السيارة ومن الشركة، فثبت بذلك إباحته، وقواعد الشرع لا تمنعه لأنه عمل مقصود للناس يحتاجون إليه، وربما يجبرون بطريق النظام عليه، إذ لولا حاجتهم إليه لما فعلوه؛ لأن المال عزيز على النفوس لا تسخو ببذله إلا في سبيل منفعتها، وفي هذا النظام هو في حاجة إلى تأمين سيارته لحصول الاطمئنان والأمان عما عسى أن ينجم عنها من حوادث الزمان.

وبما أن هذه الشركة هي من ضمن العقود التي أمر الله بالوفاء بها ومن حسن التجارة الواقعة بين الناس بالتراضي، ومن جنس المشاركة بالأبدان، والوجوه والمفاوضة، فإنها أيضا من جنس الصلح الجائز بين المسلمين، لما روى أبو داود والدارقطني من حديث سليمان بن بلال، حدثنا كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عن أبي هريرة، قال:(قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا، والمسلمون على شروطهم)) . وكثير بن زيد قال يحيى بن معين: هو ثقة، وضعفه في موضع آخر، وروى الترمذي من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما، والمسلمون على شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا)) . قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن هذا الحديث يترقى إلى الصحة بتعدد طرقه، مع العمل عليه بإجماع أهل العلم.

ص: 774

فهذا الاشتراك الاجتماعي الأهلي المنعقد للضمان في تأمين حوادث السيارات يعتبر من التعاون المباح، وما ينتج عنه من الأرباح فحلال لا شبهة فيه، أشبه بشركات الكهرباء والأسمنت ونحوها، ويدخل في عموم الصلح الجائز بين المسلمين وإباحته تتمشى على ظاهر نصوص مذهب الإمام أحمد.

قال في الإقناع: (وهو من الكتب المعتمدة عند الحنابلة لمؤلفه – موسى الحجاوي) : ويصح ضمان أروش الجنايات نقودا كانت كقيم المتلفات أو حيوانا، كالديات، لأنها واجبة أو تؤول إلى الوجوب .... اهـ.

وسبق قول صاحب المغني:

وهذه تشبه قضية ضمان التأمين على السيارات، حيث تلتزم الشركة ضمان الديات وأروش الجنايات وقيم المتلفات، كأضرار السيارات ونحوها من كل ما هو واجب بالضمان أو يؤول إلى الوجوب، ولا يشترط معرفة المضمون ولا المضمون به.

ولا يقدح في صحة هذا الضمان كون المؤمن على سيارته يدفع شيئا من المال، فإن هذا لا يقدح في صحة الضمان والحالة هذه، إذ ليس عندنا ما يمنعه.

ولا يقدح في صحة هذا الضمان تبرع الشركة بدفع الديات وقيم الأضرار والمتلفات بدون رجوع فيه إلى الحد، فإن هذا كله جائز على قواعد المذهب، إذ من المعلوم شرعا وعرفا أن الجناية تتعلق بالجاني المباشر لها في خاصة العمد، وعلى العاقلة في قتل الخطأ فيما زاد على الثلث من الدية؛ غير أن التزام الشركة بضمان هذه الجنايات، وإن عظم أمرها وعدم الرجوع على أحد في غرمها أنه صحيح جائز، وهو مما يجعل الجاني الذي لم يتعمد وكذا عاقلته في راحة عن المطالبة والغرامة، وهو خير من كونهم يتكففون الناس في سؤال هذه الغرامة أعطوهم أو منعوهم.

ص: 775

وغاية ما يدركون عليها في الجهالة عن قدر الغرامة، وهي مغتفرة فيها كسائر أمثالها من الضمانات والشركات التي لا تخلو من الجهالة كشركة الأبدان والوجوه والمفاوضة، فإن فيها كلها شيئا من الجهالة، وقد تكلم بعض الفقهاء المتقدمين بعدم جوازها من أجله، ثم استقر الأمر على أن مثل هذه الجهالة مغتفرة.

قال في الإقناع: "ويصح ضمان ما لم يجب، وضمان المجهول كضمان السوق، وهو أن يضمن ما يجب على التاجر للناس من الديون، وهو جائز عند أكثر أهل العلم كمالك وأبي حنيفة وأحمد " اهـ.

وقال في الاختيارات: "ويصح ضمان المجهول، ومنه ضمان السوق، وهو أن يضمن ما يلزم التاجر من دين وما يقبضه من عين مضمونة وتجوز كتابته والشهادة به لمن لم ير جوازه؛ لأن ذلك محل اجتهاد " اهـ.

فهذه المشاركات وما يترتب عليها من الالتزامات التي هي بمعنى الضمانات كلها من الأشباه والأمثال والنظائر، التي يجب أن يقاس بعضها على بعض في الإباحة كشركة الأبدان وشركة الوجوه وشركة المفاوضة، ومثله شركة الكهرباء والأسمنت، ولأن حمل معاملة الناس وعقودهم وشروطهم على الصحة حسب الإمكان أولى من حملها على البطلان بدون دليل ولا برهان

والله أعلم (1) .

الديات والكفارة

إذا أدى حادث السير إلى الوفاة فإن المخطئ يتحمل الدية، وعليه الكفارة باعتباره قتل خطأ من قبله، وقد تقدم أن الدية تكون على العاقلة، والعاقلة عند جمهور الفقهاء هم العصبة من الذكور، وعند الأحناف ورواية للمالكية هم أهل الديوان، إن كان الجاني من أهل الديوان، وإلا فعاقلته عصبته، والديوان هو: الزمام الذي يجمع فيه الإمام أفراد الجند على عطاء يخرج لهم من بيت المال في أوقات معلومة.

(1) من كتاب أحكام عقود التأمين ومكانتها من شريعة الدين، الطبعة الأولى

ص: 776

وقال أبو بكر الأصم وابن علية: إن دية قتل الخطأ يتحملها الجاني نفسه ولا شيء على العاقلة، ودليلهما أن تحرير الرقبة المؤمنة في الآية واجب على القاتل، فكذلك الدية في الموضعين (1) .

وعلى الرغم من أن حجة الجمهور هي الأقوى حيث ورد في السنة أحاديث صحيحة في ذلك إلا أنه في العصر الحاضر يتعذر من الناحية العملية الحكم على العاقلة، وفي إمكاننا هنا أن نعتمد على قول شيخ الإسلام ابن تيمية في الاختيارات حيث قال:(وتؤخذ الدية من الجاني خطأ عند تعذر العاقلة في أصح قولي العلماء، ولا يؤجل على العاقلة إذا رأى الإمام المصلحة فيه، ونص على ذلك الإمام أحمد)(2) .

وإذا لاحظنا أن الأئمة اختلفوا في من يتحمل الدية ابتداء هل هو الجاني أو العاقلة، ورجحنا القول أن الذي يتحملها ابتداء هو الجاني كما يقول أبو حنيفة ومالك، والمذهب عند الحنابلة، استطعنا أن نقول: إنه يحكم على الجاني بالدية، ثم له الحق أن يطالب عاقلته إن كانت له عاقلة.

ويقول الأستاذ عبد القادر عودة (3) – رحمه الله: "إن نظام العاقلة على ما فيه من عدالة لا يمكن أن يقوم في عهدنا الحاضر؛ لأن أساسه وجود العاقلة، وهي ليس لها وجود الآن إلا في النادر، والنادر لا حكم له، فلا محيص من الأخذ بأحد الرأيين اللذين أخذ بهما الفقهاء من قبل؛ إما الرجوع على الجاني بكل الدية، أو الرجوع على بيت المال، والرجوع على الجاني يؤدي إلى إهدار دماء أكثر المجني عليهم لأن المتهمين فقراء، وهذا لا يتفق مع أغراض الشريعة التي تقوم على حفظ الدماء وحياطتها، وعدم إهدارها، والرجوع إلى بيت المال يرهق الخزانة العامة، ولكنه يحقق المساواة والعدالة، ويحقق أغراض الشريعة، والخوف من إرهاق الخزانة لا يقف حائلا دون تحقيق المساواة والعدالة، ولا يصح أن يحول دون تحقيق أغراض الشريعة، فالحكومة تستطيع أن تدبر أمرها بفرض ضريبة عامة يخصص دخلها لهذا النوع من التعويض، وتستطيع أن تفرض ضريبة خاصة على المتقاضين لهذا الغرض، وإذا كانت الحكومات العصرية تلزم نفسها بإعانة الفقراء أو العاطلين فأولى أن تلزم نفسها بتعويض ورثة القتيل المنكوبين، ولقد سبقتنا بعض البلاد الأوربية إلى هذا العمل فأنشأت صندوقا - لتعويض المجني عليه في الجرائم - إيراده المبالغ المتحصلة من الغرامات التي تحكم بها المحاكم، وهذا هو بالذات ما قصدته الشريعة الإسلامية من نظام العاقلة ".

(1) انظر الجصاص: 2 / 223، القرطبي: 5 / 531، وكتاب العاقلة في الفقه الإسلامي للدكتور يوسف رجب

(2)

الاختيارات الفقهية - ص (294) ط / دار الفكر، وانظر كتاب نيل المآرب: 4 / 463

(3)

التشريع الجنائي: 2 / 199

ص: 777

مقدار الدية

كانت دية النفس في الجاهلية مائة من الإبل، وجاء الإسلام فأقر هذا القدر من الإبل وفرض إلى جانبها الفضة والذهب والبقر والشياه والحلل حسب البيئات، قال ابن أبي ليلى: وكانت الدية في الجاهلية مائة من الإبل فأقرها الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم إنه فرض على أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشياه ألفي شاة، وعلى أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق عشرة آلاف درهم، وعلى أهل اليمن الحلل مائة حلة (1) .

وفي هذا العصر قررت الدولة الإسلامية التي تحكم بالشريعة في القتل مبلغا مناسبا حسب الظروف الاقتصادية لكل دولة باعتبار أن ذلك المبلغ يقابل قدر الدية في الفقه الإسلامي، وبعض الدول ساوت بين المسلمين وغير المسلمين في الدية اعتمادا على قول الإمام أبي حنيفة، ولعل هذا الرأي هو الأجدر بالتطبيق، فقد قال سيدنا علي رضي الله عنه:"إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا وأموالهم كأموالنا" ويؤيد ذلك ظاهر الآية: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] .

دية المرأة

يكاد الفقهاء يجمعون على أن دية المرأة على النصف من دية الرجل، ولم ينقل عن أحد من الفقهاء أنها مثل الرجل إلا ما نقل عن ابن علية والأصم، وحجتهما أن الآية لم تذكر أن دية المرأة على النصف من دية الرجل فهي عامة، فالمرأة تدخل في تعبير المؤمن كما هو المعهود في نصوص الشرع.

فالآية عامة، وليس هناك مخصص لهذا العموم لا آية قرآنية ولا حديث نبوي صحيح، بل يؤكد ذلك ما جاء في حديث عمرو بن حزم في أوله:((وفي النفس المؤمنة مائة من الإبل)) وكلمة نفس تطلق على الذكر والأنثى، كما أن الرجل يقتل بالمرأة فتعين أن تكون ديتها كديته، وكتاب عمرو بن حزم هذا الذي قال فيه: إن دية المرأة على النصف من دية الرجل، هذه الجملة في بعض الروايات وليست في كل الروايات، وهو حديث لم يبلغ من قوة السند ما يمكن به التخصيص.

(1) انظر كتاب الدية للدكتور عوض إدريس

ص: 778

ولكن قد يقال: من حيث المعقول، إن المرأة في الغالب ليس في فقدها على أهلها خسارة مادية كما هو في فقد الرجل المكلف بمسؤوليات أكبر من متطلبات الأسرة المادية؛ فجاءت ديتها أقل من دية الرجل، وليس ذلك لأنها أقل إنسانية منه؛ لأن الدية ليست هي مقابل الإنسان ولكنها تعويض للأسرة عما فقدوه بموت مورثهم الذي يكون في الغالب هو عائل الأسرة.

دية الجنين

إذا سقط الجنين ميتا بجناية على أمه عمدا أو خطأ فيه غرة، وهي نصف عشر دية الأب أو عشر دية الأم (1) .

ويرى الفقهاء أنه لا تتحقق الجناية على الجنين إلا إذا انفصل من أمه وعللوا ذلك بأنه هناك شك في وجود الجنين قبل أن ينفصل عن أمه، ولكن بعد تقدم الوسائل الطبية كما يقول الأستاذ عبد القادر عودة: نستطيع أن نقول: إن الرأي الذي يجب العمل به هو مسؤولية الجاني إذا تبين بصفة قاطعة أن الانفصال ناشيء عن فعل الجاني سواء انفصل في حياة أمه أو بعد وفاتها (2) .

ديات الأعضاء والمعاني والأروش

الأعضاء التي تجب فيها الدية أربعة أنواع:

الأول – الذي لا نظير له في البدن: وهي الأنف واللسان والذكر والصلب ومسلك البول ومسلك الغائط، وهذه في كل منها دية كاملة في المذاهب الأربعة، أما الجلد فالشافعي يرى فيه الدية إن سلخ جميعه، ويرى مالك أن الدية تجب في الجلد إذا فعل الجاني فعلا كأن جذمه أو برصه أو سوده، أما أبو حنيفة وأحمد فيريان في الجلد حكومة، أما شعر الرأس فيرى أبو حنيفة أن الدية تجب في شعر الرأس للرجل والمرأة إذا لم ينبت، وفي شعر اللحية وحدها الدية، وما عدا ذلك من الشعور كشعر الشاربين والحاجبين ففيه حكومة، وكذلك يرى أحمد ويزيد أن الدية في الحاجبين، أما مالك والشافعي فلا يجب عندهما في الشعور إلا الحكومة لأنه إتلاف جمال دون منفعة، والدية لا تجب إلا في ما كان فيه منفعة، كما تجب الدية في اليدين، وفي أحد اليدين نصف الدية، واختلفوا في معنى اليد، فرأى البعض أن لفظ اليد يطلق على كل الذراع إلى المنكب، ورأى البعض أنه يطلق على الكف فقط.

(1) انظر عمدة السالك في المذهب الشافعي، ونيل المآرب في المذهب الحنبلي: 4 / 455

(2)

انظر التشريع الجنائي: 2 / 297

ص: 779

ويجب في كل أصبع عشر الدية (10 %) لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كتب إلى أهل اليمن بأن في كل أصبع من أصابع اليد والرجل عشرا من الإبل، ولا يفضل أصبع على أصبع، لما روى عمرو بن شعيب عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((الأصابع كلها سواء، عشر عشر من الإبل)) ولأنه جنس تجب الدية فيه فيقسم على أعداده، وفى كل أنملة من غير الإبهام ثلث دية الأصبع، وفي كل أنملة من الإبهام نصف دية الأصبع؛ لأنه لما قسمت دية اليد على عدد الأصابع قسمت دية الأصبع على عدد أنامله، وإن جنى على يد فشلت، أو على أصبع فشلت، أو على أنملة فشلت وجنى بشللها ما يجب في قطعها لأن المقصود بها هو المنفعة فوجب في إتلاف منفعتها ما وجب في إتلافها، وإن قطع يدا شلاء، أو أصبعا شلاء، أو أنملة وجبت فيها الحكومة لأنه إتلاف جمال من غير منفعة، وفي مذهب أحمد رأى بأن فيها ثلث الدية.

ويجب في الرجلين الدية لما رواه معاذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((وفي الرجلين الدية)) وفي أحد الرجلين نصف الدية لما رواه عمرو بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((في الرجل نصف الدية)) وفي الرجل نفس الخلاف الذي في اليد، فالبعض يرى أن لفظ الرجل يشمل القدم حتى نهاية الفخذ، والبعض يرى أنه يطلق على القدم فقط، وترتب على هذا الخلاف نفس ما ذكرناه في اليدين.

ص: 780

ويجب في كل أصبع من أصابع الرجلين عشر الدية، ويجب في كل أنملة غير أنملة الإبهام ثلث دية الأصبع، وفي كل أنملة من الإبهام نصف دية الأصبع لما ذكر في اليد، وتجب الدية في قدم الأعرج ويد الأعسر إن كانتا سليمتين؛ لأن العرج إنما يكون من قصر أحد الساقين، وذلك ليس ينقص فيه القدم، والعسر لقصر العضد أو الذراع أو اعوجاج الرسغ، وذلك ليس ينقص في الكف فلا يمنع هذا كمال الدية في القدم والكف.

وتجب في العينين الدية لقوله عليه السلام من كتاب عمرو بن حزم: ((في العين خمسون من الإبل)) . يدل ذلك على أن في العينين مائة من الإبل، وعين الأعور فيها نصف الدية عند أبي حنيفة والشافعي وفيها الدية كاملة عند مالك وأحمد، وتجب الدية بقلع العينين، كما تجب بذهاب الإبصار مع بقاء العينين قائمتين.

وتجب الدية في الأذنين وفي إحداهما نصف الدية لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في كتابه لعمرو بن حزم: ((وفي الأذن خمسون من الإبل)) . فأوجب في الأذن خمسين، فدل على أنه يجب في الأذنين الدية كاملة، وإن قطع بعضها من نصف أو ثلث أو ربع وجب في الدية بقسطه، وفي قطع الأذنين الدية، ولو كان السمع سليما، وهذا ما يراه أبو حنيفة والشافعي وأحمد وبعض فقهاء مذهب مالك، ولكن بعض فقهاء مالك يرى في قطع الأذنين مع بقاء السمع سليما حكومة.

ص: 781

وفي الشفتين الدية لما في كتاب عمرو بن حزم قال: ((وفي الشفتين الدية)) ، وفي إحداهما نصف الدية كالعينين والأذنين، وإن قطع بعض الشفة وجب فيه بقدره، فإن جنى عليهما فشلتا وجبت فيهما الدية كاملة، وإن تقلصتا مع بقاء منفعتهما ففيها حكومة.

وفي الحاجبين الدية عند أبي حنيفة وأحمد، وفى أحدهما نصف الدية إذا أزيل الشعر بحيث لا ينبت، ويرى مالك والشافعي أن في إزالة شعر الحاجبين حكومة.

الثديان والحلمتان

تجب الدية في ثديي المرأة لأن فيهما جمالا ومنفعة، وتجب في إحداهما نصف الدية، وتجب الدية أيضا كاملة في الحلمتين إذا قطعتا دون الثديين، وفي إحداهما نصف الدية لأن في الحلمتين منفعة الثديين، ويشترط مالك لوجوب الدية في الحلمتين أن ينقطع اللبن أو يفسد، فإن لم يتوفر هذا الشرط ففي الحلمتين حكومة، أما باقي الأئمة فلا يشترطون هذا الشرط ويرون الدية في الحلمتين مطلقا.

أما ثديا الرجل فليس فيها إلا الحكومة عند مالك والشافعي لأن في ذهابهما ذهاب جمال، من غير منفعة، وفي مذهب الشافعي من يرى في ثدي الرجل وحلمتيه الدية، ولكن هذا الرأي ليس المذهب، ولكنه يتفق مع مذهب أحمد فهو يرى أن في ثديي الرجل وحلمتيه الدية، وحجته أن ما وجب فيه الدية من المرأة وجب فيه من الرجل، ولأنهما عضوان يحصل بهما الجمال وليس في البدن غيرهما.

ويرى أبو حنيفة أن في ثديي الرجل وحلمتيه حكومة، وقد بنى رأيه على أن ثديي الرجل وحلمتيه ليس فيهما جمال ولا منفعة (1) .

الأنثيان

تجب الدية في الأنثيين لما روي أن في كتاب الرسول لعمرو بن حزم: ((وفي البيضتين الدية)) ولأن فيهما جمالا ومنفعة، فإن النسل يكون بهما، وهما وكاء المني، وفي كل واحدة منهما نصف الدية؛ لأن وجوب الدية في شيئين يوجب نصفها في أحدهما، وإن أشل الأنثيين فعليه الدية كاملة حيث أذهب منفعتهما، فإن قطعهما لم تجب فيهما إلا دية واحدة، ويرى أبو حنيفة ومن يقول من فقهاء مذهبي مالك وأحمد بأن ذكر الخصي والعنين فيه حكومة، ويرى هؤلاء أنه إذا قطع الأنثيان مع الذكر مرة واحدة ففيهما ديتان، دية للأنثيين ودية للذكر، وكذلك الحكم لو قطع الذكر مرة واحدة ففيهما ديتان، دية للأنثيين ودية للذكر، وكذلك الحكم لو قطع الذكر قبل الأنثيين، أما إذا قطع الأنثيان قبل الذكر، ففي الأنثيين الدية وفي الذكر حكومة؛ لأنه يصبح بعد قطع الأنثيين ذكر خصي وذكر الخصي فيه حكومة، أما القائلون بأن ذكر الخصي والعنين فيه الدية وهم الشافعية وبعض فقهاء مذهبي مالك وأحمد فيوجبون في قطع الذكر والأنثيين ديتين سواء قطعت الأنثيان قبل الذكر أم بعده (2) .

(1) بدائع الصنائع: 7 / 311 – 323، شرح الدردير: 4 / 243، المهذب: 2 / 223، المغني: 9 / 623

(2)

المغني: 9 / 628 – 629، المهذب: 2 / 223، بدائع الصنائع: 7 / 324، مواهب الجليل: 6 / 261

ص: 782

الشفران

الشفران أو الأسكتان: هما اللحم المحيط بالفرج من جانبيه إحاطة الشفتين بالفم، وفي الشفرين دية كاملة إذا قطعا حتى ظهر العظم، وفي أحدهما نصفها؛ لأن فيهما جمالا ومنفعة في المباشرة وليس في البدن غيرهما من نوعهما، فإن جنى عليهما حتى أشلهما ففيهما الدية لأنه أزال المنفعة كما لو أنه قطعهما (1) .

الأليتان

يرى أبو حنيفة والشافعي وأحمد أن الدية تجب في الأليتين، وأن نصف الدية يجب في الألية الواحدة؛ لأنهما عضوان من جنس واحد ليس في البدن نظيرهما، ولأن فيهما جمالا ظاهرا ومنفعة كاملة. والأليتان همها ما علا وأشرف من الظهر عن استواء الفخذين، وفيهما الدية إذا أخذتا إلى العظم الذي تحتهما، وفي ذهاب بعضهما بقدره؛ لأن ما وجبت الدية فيه كله وجب في بعضه بقدره، فإن جهل مقدار البعض وجبت حكومة لأنه نقص تعذر تقديره.

ويرى بعض فقهاء مذهب مالك أن في الأليتين حكومة فقط سواء أخذتا إلى العظم الذي تحتهما أو ذهب بعضهما، ويرى البعض الآخر أن فيهما الدية (2) .

(1) المغني: 9 / 639، المهذب: 2 /223، البحر الرائق: 8 / 307، مواهب الجليل: 6 /261

(2)

المغني: 9 / 620، المهذب: 2 / 222، البحر الرائق: 8 / 307، المدونة: 6 /113، مواهب الجليل: 6 / 262

ص: 783

اللحيان

ويرى الشافعي وأحمد أن في اللحيين الدية، وهما العظمان اللذان فيهما الأسنان السفلى لأن فيهما نفعا وجمالا وليس في البدن مثلهما، فكانت فيهما الدية كسائر ما في البدن منه شيئان في أحدهما نصف الدية، وإن قلنا بما عليهما من الأسنان وجبت ديتهما ودية الأسنان ولم تدخل دية الأسنان في ديتهما (1) .

أشفار العينين

تجب الدية في أشفار العينين – أي جفونهما – عند أبي حنيفة والشافعي وأحمد لأن فيهما جمالا ظاهرا ونفعا كاملا، وهي أربعة ليس مثلها في البدن، فيجب ربع الدية في كل واحد منهما ويرى مالك أن في الأشفار الاجتهاد أي الحكومة؛ لأنه لم يرد نص بأن فيها شيئا مقدرا، والتقدير لابد فيه من نص ولا يثبت بالقياس كما يرى بقية الأئمة (2) .

أهداب العينين

يرى أبو حنيفة وأحمد أن في أهداب العينين الأربعة الدية كاملة؛ لأن فيها جمالا ظاهرا أو نفعا كاملا، وفي كل واحد منها ربع الدية، لكن إذا قطعت الأهداب مع الأجفان ففيها كلها دية واحدة؛ لأن الأهداب تابعة للأجفان كحلمة الثدي مع الثدي والأصابع مع الكف.

ويرى مالك والشافعي أن في الأهداب حكومة لأنها جمال لا منفعة فيه، وإذا قطعت الأهداب مع الأجفان ففي مذهب الشافعي رأيان: رأي يرى أن لا شيء في الأهداب لأنها شعر نابت في العضو وهو الجفن، ورأي يرى أن في الجفنين الدية، وفي الهدب الحكومة لأن فيه جمالا (3) .

(1) المغني: 9 / 619، المهذب: 2 / 220

(2)

المغني: 9 / 592، المهذب: 2 / 215، بدائع الصنائع: 7 / 324 و311، مواهب الجليل: 6 / 247

(3)

مواهب الجليل: 6 / 247، بدائع الصنائع 7 / 311 و344، المهذب: 2 / 219، المغني: 9 / 593

ص: 784

الأسنان

يجب في كل سن خمس من الإبل لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب في كتاب عمرو بن حزم: ((في السن خمس من الإبل)) ولما رواه عمرو بن شعيب عن الرسول: ((في الأسنان خمس خمس)) ويستوي السن بالناب والناب بالضرس فأرشها سواء لما روى أبو داود عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((في الأصابع سواء، والأسنان سواء الثنية والضرس سواء هذه وهذه سواء)) .

ويجب الضمان في سن من قد ثغر: وهو الذي أبدل أسنانه وبلغ حدا إذا قلعت سنه ولم يعد بدلها، فأما سن الصبي الذي لم يثغر فلا يجب بقلعها في الحال شيء لأن العادة عود سنه، فإن مضت مدة ييأس من عودها وجب أرشها، وإذا عادت لم يجب فيها أرش، ولكن إن عادت قصيرة أو مشوهة ففيها حكومة، وإن عادت خارجة عن صف الأسنان بحيث لا ينتفع بها ففيها الدية، وإن كان ينتفع بها ففيها حكومة.

وإن قلع سن من أثغر وجبت ديتها في الحال، فإن عادت لم تجب الدية وعليه ردها وإن كان قد أخذها، وهذا رأي أبي حنيفة وأحمد ويرى مالك أنه لا يرد شيئا لأن العادة أنها لا تعود، فإن عادت فهي هبة مجردة، وفي مذهب الشافعي يأخذ البعض برأي مالك والبعض بالرأي المضاد.

وتجب دية السن فيما ظهر من اللثة لأن ذلك هو المسمى سنا، وما في اللثة يسمى سنخا، فإذا كسر السن ثم جاء آخر فقلع السنخ ففي السن أرشها وفي السنخ حكومة، كما لو قطع إنسان أصابع رجل ثم قطع آخر كفه، وإن قلعت السن بسنخها لم يجب فيها أكثر من الأرش، وإن كسر بعض السن ففيه من أرشه بقدر ما كسر.

ص: 785

وإن قلع سنا مضطربة لكسر أو مرض وكانت منافعها باقية من المضغ وضغط الطعام وجب أرشها، وكذلك إذا ذهب بعض منافعها وبقي بعضها في رأي أحمد، أما مذهب الشافعي ففيه رأيان: رأي يرى الأرش، ورأي يرى أن مقدار النقص يجهل قدره فيكون فيها الحكومة، أما إذا ذهبت منافعها كلها ففيها حكومة أو ثلث ديتها على رأي في مذهب أحمد.

وإن قلع سنا فيها داء أو أكلة فإن لم يذهب شيء من أجزائها ففيها دية السن الصحيحة لأنها كاليد المريضة، وإن سقط من أجزائها شيء سقط من أرشها بقدر الذاهب ووجب الباقي.

وإن جني عليه فتغير لون السن إلى السواد أو الخضرة أو الحمرة أو الصفرة ففي مذهب مالك فيها الأرش إن كان التغير إلى الخضرة والحمرة والصفرة يساوي التغير إلى السواد وإلا فحكومة، ومذهب أبي حنيفة فيها الأرش إذا كانت الصفرة بمنزلة السواد، وعند الشافعي يجب فيها حكومة في جميع الحالات في رأي، وفي رأي تجب الدية في السواد إذا زالت المنفعة وإلا فحكومة، وهذا أحد الرأيين في مذهب أحمد، والرأي الثاني في التسويد الدية (1) .

وإذا جنى على أسنانه كلها دفعة واحدة ففيها مائة وستون من الإبل بحساب كل سن خمس من الإبل وهذا رأي مالك وأبي حنيفة وأحمد – ولو أن هذا المقدار يزيد عن دية كاملة لأن النص جعل أرش كل سن خمسا من الإبل، وفي مذهب الشافعي رأيان: أحدهما يأخذ بما يراه الأئمة الثلاثة، وهو الرأي الراجح وحجته أن ما ضمن على انفراد لا ينقص ضمانه بانضمام غيره إليه، وثانيهما أنه لا يجب في الأسنان كلها إذا قلعت دفعة واحدة إلا دية واحدة لأنه جنس ذو عدد فلا يضمن بأكثر من دية كأصابع اليدين (2) .

(1) مواهب الجليل: 6 / 263، بدائع الصنائع: 7 / 310، المهذب: 2 / 219، والمغني: 9 / 611

(2)

التشريع الجنائي الإسلامي – الأستاذ عبد القادر عودة: ص (269 – 274)

ص: 786

الكفارة

تجب الكفارة في قتل الخطأ – قال تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92) } [النساء: 92] .

وتجب الكفارة في مال القاتل لا يشاركه فيها أحد لأنها عبادة، وتجب ولو كان المقتول ذميا عند الجمهور، وقال المالكية: لا تجب بقتل الذمي، وهي كما في الآية عتق رقبة وإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، واختلفوا في الإطعام إن لم يستطع الصيام فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد في إحدى روايتيه: إنه لا يجزئ الإطعام، والرواية الأخرى عند أحمد: يجزئ الإطعام، وللشافعي في ذلك قولان، الأصح عنده أنه لا إطعام، ولا تجب الكفارة بالتسبب عند أبي حنيفة، وتجب عند الجمهور (1) .

وللأستاذ عبد القادر عودة – رحمه الله – رأي يقول: "إن الكفارة بعد إلغاء الرق لا تكون بعتق رقبة، وإنما تكون بالتصدق بقيمة الرقبة إذا كان لدى القاتل ما يفيض عن حاجته، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، وتقدير قيمة الرقبة يترك لأولياء الأمور"(2) .

وتجب الكفارة عند الشافعي وأحمد على القاتل إذا كان بالغا أو غير بالغ عاقلا أو مجنونا مسلما أو غير مسلم لا يستثنى من ذلك إلا الحربي، فتجب على الذمي والمعاهد والمستأمن، ويرى مالك أنها تجب على الصبي والمجنون ولكنها لا تجب إلا على مسلم، أما أبو حنيفة فلا تجب عنده إلا على المسلم البالغ العاقل فلا تجب على الصبي ولا على المجنون ولا على غير المسلم.

(1) انظر في ذلك: رحمة الأمة ص (348) ، والمغني لابن قدامة 12 / 228 تحقيق التركي والحلو

(2)

التشريع الجنائي: 2 / 228

ص: 787

وتعدد الكفارة بتعدد الجناة في قتل يوجب الكفارة، وهناك رواية عند أحمد وقول عند الشافعي بأن على الجميع كفارة واحدة، واختلف في قاتل نفسه فرأى الشافعي أن على قاتل نفسه الكفارة في ماله لأن القتل محرم، والنص عام يدخل فيه قاتل النفس، وعند أحمد روايتان، أما الإمام مالك وأبو حنيفة فلا كفارة عندهما على قاتل نفسه؛ لأن النص مقصود به قتل الغير بدليل قوله تعالى:{وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] وقاتل نفسه لا تجب فيه دية، كما أن عامر بن الأكوع قتل نفسه خطأ ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بكفارة (1) .

العقوبات التبعية

القتل الخطأ: لا يحرم القاتل من الميراث، وإنما يحرمه فقط من الدية عند مالك، وعند أبي حنيفة يحرم قاتل الخطأ من الميراث إذا كان مباشرا فإن كان بالتسبب فلا يحرمه من الميراث.

والرأي الراجح عند الشافعية أنه يحرم من الميراث مطلقا، أما الحنابلة فيرون أن القتل المضمون هو القتل المانع من الميراث، أما القتل غير المضمون فلا يمنع من الميراث كالقتل دفاعا عن النفس والقتل قصاصا.

التعزير والزجر

الأصل في الشريعة أن التعزير لا يكون إلا إذا ارتكب الإنسان معصية ليس فيها حد، ولكن يجوز التعزير للمصلحة العامة وإن لم يرتكب معصية (2) .

قال الأستاذ عبد القادر عودة: والوصف الذي جعل علة للعقاب هو الإضرار بالمصلحة العامة أو النظام العام، فإذا توفر هذا الوصف في فعل أو حالة استحق الجاني العقاب، وإذا تخلف الوصف فلا عقاب، وعلى هذا يشترط في التعزير للمصلحة العامة أن ينسب إلى الجاني أحد أمرين:

1-

أنه ارتكب فعلا يمس المصلحة العامة أو النظام العام.

2-

أنه أصبح في حالة تؤذي المصلحة العامة أو النظام العام.

(1) المغني: 1 / 38 -39، والتشريع الجنائي: 2 / 175

(2)

تحفة المحتاج: 9 / 178

ص: 788

ويستدل الفقهاء على مشروعية التعزير للمصلحة العامة بأن الرسول صلى الله عليه وسلم حبس رجلا اتهم بسرقة بعير، ولما ظهر فيما بعد أنه لم يسرقه أخلى سبيله، ووجه الاستدلال أن الحبس عقوبة تعزيرية، والعقوبة لا تكون إلا عن جريمة وبعد ثبوتها، وقد يحتج بذلك على السجن خلال التحقيق ليتبين صحة التهمة من عدمها.

ويستدلون أيضا بما فعل عمر رضي الله عنه عندما نفى نصر بن حجاج خشية افتتان النساء به، ونظرية التعزير للمصلحة العامة تسمح باتخاذ أي إجراء لحماية أمن الجماعة وصيانة نظامها من الأشخاص المشبوهين والخطرين ومعتادي الإجرام، ودعاة الانقلابات والفتن، والنظرية بعد ذلك تقوم على قواعد الشريعة العامة التي تقضي بأن الضرر الخاص يتحمل لدفع الضرر العام، وأن الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف (1) .

لا ريب أن الخطأ ليس عليه عقوبة، لكن إذا وقع ولي الأمر أنظمة وقوانين للمحافظة على حياة الناس وأموالهم مثل قوانين المرور التي تفرض على الناس التقيد بها من أجل السلامة، فإذا خالف الشخص هذه الأنظمة، وارتكب خطأ بأن تسبب في وفاة شخص أو صدمه فإنه يعاقب عقوبة تعزيرية إلى جانب إلزامه بالتعويض من دية أو أرش، فالعقوبة التعزيرية هنا بسب مخالفته تعليمات ولي الأمر، وولي الأمر تجب طاعته في غير معصية كما هو معروف في الشرع. كما أن الإهمال والتهور وعدم التبصر والتحرز الذي يسبب الضرر بالغير يستحق العقوبة المناسبة كما تنص بذلك القواعد العامة للشريعة.

(1) التشريع الجنائي: 2 / 152

ص: 789

ولولي الأمر أن يفرض في هذا الإطار عقوبات مالية انطلاقا من جواز التعزير بالمال في الشريعة كما يرى كثير من الفقهاء في مختلف المذاهب الإسلامية، ومن الأدلة على ذلك إباحته صلى الله عليه وسلم سلب من يصطاد في حرم المدينة للذي يجده، وأمره بكسر دنان الخمر وشق ظروفه، وأمره عبد الله بن عمر بحرق الثوبين المعصفرين، وتضعيفه الغرامة على من سرق من غير حرز، وسارق ما لا قطع فيه الثمر والكثر، وكاتم الضالة، وأمر عمر وعلي رضي الله عنهما بتحريق المكان الذي يباع فيه الخمر، وأخذ شطر مال مانع الزكاة (1) .

الخلاصة

يتلخص هذا البحث في أن حوادث السير الناتجة عن السيارات والمركبات الميكانيكية مسألة جديدة لم يتعرض لها الفقهاء السابقون، ولكنها تدخل في جرائم الخطأ والإهمال وما تحدثه السفن والبهائم عند تصادمها، وقد ذكرت ما قاله فقهاء المذاهب في هذا الشأن، وما يمكن أن نستخلصه من أحكام فيما يترتب على الحوادث من قتل الخطأ الذي تفرض بسببه الدية والكفارة وما يستطيع الحاكم أن يفرضه من تعزير في حالة التهور أو عدم التبصر، وبينت كيف أن الحكم على العاقلة في هذا الزمان غير عملي، وأن الواجب أن تفرض الدية على الجاني نفسه، والحالات التي يمكن أن يرجع بها إلى بيت المال، وفي نظرى أن ذلك يجب أن ينحصر في حالة عدم تبين الجاني انطلاقا من مبدأ (لا يبطل دم في الإسلام) .

(1) انظر الحسبة في الإسلام لابن تيمية ص (4) ، والطرق الحكمية ص (250) ، وكتاب التعزير في الشريعة الإسلامية للدكتور عبد العزيز عامر ص (396) وما بعدها

ص: 790

تعرضت لما ذكره الفقهاء عن المباشرة والتسبب في الحوادث، وبينت ما لحركة السيارات من دور مما يتحتم على القاضي تحمل المسؤولية الموازنة والمقارنة ليتبين إلى من ينسب الحادث حقيقة، وذكرت بعض الأمثلة التي قد تختلف فيها وجهات النظر ووضوح الرأي الأجدر بالترجيح فيها.

وفيما يتعلق بالحوادث التي تسببها البهائم المهملة باعتراضها طرق السيارات، وما جرى في هذه المسألة من اختلاف وجهات النظر، ورأيت أن يتحمل أصحاب البهائم المسؤولية في دفع التعويضات بسبب إهمالهم لمواشيهم، وعدم امتثال تعليمات أولياء الأمور فيما يتعلق بالمحافظة على أرواح الناس وممتلكاتهم، ولا يصح أن نكتفي بالقول: إنهم يأثمون.

وبحثت في مسألة التأمين ضد حوادث السيارات، وبينت أن الرأي الأمثل أن يكون هناك تأمين تعاوني، ولكن في حالة عدم وجود تأمين تعاوني، أليس من الأجدر أن يباح التأمين التجاري فيما يتعلق بحوادث السيارات للحاجة الماسة إلى ذلك؟!

وأوردت فتوى الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود في مسألة إباحة التأمين ضد حوادث السيارات.

ص: 791

وتعرضت لكفارة القتل الخطأ وبينت اختلاف العلماء في مسألة الإطعام التي لم تذكر في الآية وهل يمكن قياسها على كفارة الظهار، وذكرت رأي الأستاذ عبد القادر عودة فيما يتعلق بعتق الرقبة وأن الأولى في هذا العصر أن نقول: أن يتصدق بقيمة الرقبة، وتقديرها من جهة أولياء الأمور.

وتوصلت في هذا البحث بأن من حق ولي الأمر في الدولة الإسلامية أن يضع من الأنظمة والقوانين ما يكفل المحافظة على سلامة الناس وأملاكهم، وأن يضع من العقوبات التعزيرية ما يردع المخالفين بما في ذلك فرض العقوبات المالية.

وختاما، فإن هذا جهد متواضع، فما كان فيه من الصواب فمن الله، وما كان فيه من الخطأ فمني ومن الشيطان.

وأرجو من الله سبحانه وتعالى المغفرة، ونسأله تعالى أن يجعل أعمالنا كلها خالصة لوجهه الكريم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الشيخ عبد القادر محمد العماري

ص: 792

المراجع

أولا: الفقه الحنفي:

1-

المبسوط.

2-

بدائع الصنائع.

3-

رد المحتار على الدر المختار (حاشية ابن عابدين) .

4-

فتح القدير.

ثانيا: الفقه المالكي:

1-

الشرح الصغير للدردير.

2-

المدونة.

3-

فتح العلي المالك.

4-

منح الجليل.

ثالثا: الفقه الشافعي:

1-

روضة الطالبين للنووي.

2-

تحفة المحتاج – لابن حجر الهيتمي.

3-

كفاية الأخيار للحصني.

4-

المجموع.

5-

الأحكام السلطانية للماوردي.

رابعا: فقه الحنابلة:

1-

المغني لابن قدامة.

2-

كشاف القناع على الإقناع.

3-

مجلة الأحكام للقاري.

ص: 793

4-

نيل المآرب.

5-

الطرق الحكمية.

6-

إعلام الموقعين.

1-

التشريع الجنائي للأستاذ عبد القادر عودة.

2-

الدية بين العقوبة والتعويض للدكتور عوض أحمد إدريس – ط. دار مكتب الهلال بيروت – لبنان.

3-

الملتزم بتعويض الضرر الناجم عن حوادث السيارات للدكتور إبراهيم الدسوقي أبو الليل – طبع دار السلاسل.

4-

العاقلة في الفقه الإسلامي للدكتور سيف رجب قزامل – الطبعة الأولى.

5-

التعزير في الشريعة الإسلامية للدكتور عبد العزيز عامر.

6-

الجامع لأحكام القرآن للقرطبي.

7-

التشريع الجنائي – عبد الخالق النووي.

8-

مجلة البحوث الإسلامية – الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء بالسعودية.

ص: 794