الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حكم
الرخصة وتتبع الرخص
في الفقه الإسلامي
إعداد
سعادة الدكتور إبراهيم كافي دونمز
كلية الإلهيات – جامعة مرمرة – استنبول
خطة البحث
التمهيد: ما يشمله موضوع الرخصة.
الباب الأول
الرخصة في معناها الاصطلاحي في أصول الفقه
1-
نظرة عامة لمفهومي العزيمة والرخصة.
2-
أنواع الرخصة.
3-
أسباب الرخصة وضابط العذر المسبب للرخصة.
4-
حكم الرخصة.
5-
مفاهيم وقضايا ذات صلة وثيقة بمفهوم الرخصة أو التي قد تؤدي إلى الالتباس.
الباب الثاني
التلفيق وتتبع الرخصة
1-
الأسس التاريخية والفكرية لاتباع المذاهب.
2-
التزام مذهب معين.
3-
التلفيق.
4-
تقويم حول التلفيق وتتبع الرخص.
الخاتمة.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
التمهيد
ما يشمله موضوع الرخصة
إن تحديد حقيقة مفاهيم كل علم له أهمية كبيرة في معالجة مسائل ذلك العلم والتوصل إلى نتائج سليمة بشأنها. أهمية هذا الأمر يتجلى لنا بصورة أكثر وضوحًا في التحليلات والتقويمات الفقهية وخاصة في مسائل علم أصول الفقه.
وهكذا مفهوم الرخصة من المفاهيم التي يجب فهمها جيدًا وتحديد مضمونها بشكل دقيق للتوصل إلى نتائج سليمة في المسائل الفقهية المتعلقة بهذا المفهوم (الرخصة) .
نقرر بادئ ذي بدء أن مفهوم الرخصة له مجال استعمال واسع في الأبحاث الفقهية انطلاقًا من معناه اللغوي إلى جانب معناه الاصطلاحي. ومن الملاحظ هنا أن النقطة المتفق عليها في جميع تلك الاستعمالات هي اعتمادها أساسًا على فكرة التيسير المنبثقة من مبدأ التيسير في الإسلام. ولكن عدم تحديد هذه الاستعمالات من جهة وعدم تحديد المضمون المتصور لهذا المفهوم بصورة دقيقة حسب كل استعمال من جهة أخرى تحمل في طياتها بعض المحاذير من الناحية المنهجية ومن حيث التفكير الحقوقي (الفقهي) .
ومما تبين لنا من خلال دراستنا أن مفهوم الرخصة تستعمل في الأبحاث الفقهية في ثلاثة معان هي:
1-
بمعنى مبدأ اليسر والتيسير في التشريع الإسلامي. والرخصة بهذا المعنى لها مضمون واسع جدًا حيث يمثل هذا المعنى أساس مبدأ من مبادئ الفقه الإسلامي وخاصة في الاجتهاد الاستصلاحي الذي يستفاد منه في جميع أنواع الاجتهاد الهادف إلى إيجاد الحلول المناسبة للمسائل الفقهية.
2-
بمعنى ما شرع من الأحكام للتيسير على العباد بناء على الأعذار المعتبرة شرعًا. وهذا المعنى هو مقابل العزيمة. والعزيمة هي ما شرع ليكون قانونًا عامًا لكل الملكفين في الأحوال العادية. وهذا الاستعمال هو الاستعمال الاصطلاحي لمفهوم الرخصة في أصول الفقه.
3-
بمعنى اختيار ما هو أيسر وأهون على الشخص من الاجتهادات المختلفة للمذاهب الفقهية. وهذا هو التلفيق بالمعنى الأعم. أما التلفيق بمعناه الأخص كما سنرى فهو جمع آراء مذاهب مختلفة في مسألة معينة حتى لا يمكن اعتبار هذا الجمع مقبولاً في أي مذهب من المذاهب.
قد اهتم الأصوليون ببيان المعنى الثاني من هذه المعاني في مؤلفاتهم الأصولية اهتمامًا كبيرًا. ونحن سنقوم بدراسة هذا النوع من الرخصة لابراز الفرق بينها وبين استعمالات الرخصة الأخرى من جهة ولكون هذا الموضوع هو الموضوع الرئيسي للجلسة التي سنعرض فيها بحثنا هذا من جهة أخرى.
وقد تناول العلماء المعنى الثالث من هذه المعاني بالبحث والتدقيق بعد مضي حقبة معينة من تاريخ التشريع الإسلامي وألف في ذلك مؤلفات متخصصة. وسنحاول تقويم الرخصة بهذا المعنى (تتبع الرخص) في الباب الثاني من بحثنا هذا لكون هذا الموضوع من الموضوعات المقررة تناولها في هذه الجلسة أيضًا.
أما الرخصة بالمعنى الأول مما كتب حولها متوزعة في مواضع شتى من أدب الفقه الإسلامي لكون الرخصة بهذا المعنى ذات مضمون واسع جدًا، إلا أنا نرى في بعض مؤلفات قواعد الفقه الكلية محاولة جمع شتات هذا الموضوع إلى حد معين.
ونحن لن نقوم في بحثنا هذا بتعداد النصوص المؤكدة على مبادئ التيسير والتي تشكل نقطة الانطلاق للأحكام المتعلقة بحكم الرخصة (بمعناها المقابل للعزيمة) وكذلك للآراء القائلة بالاستفادة من المذاهب المختلفة ولن نقوم أيضا بتعداد القواعد الكلية المتعلقة بهذا الموضوع لكون تلك القواعد والنصوص معلومة لدى جميع الباحثين.
من ناحية أخرى سنكتفي فقط ببيان النزعات المختلفة لعدم إطالة البحث ولن نقوم بنسبة الآراء إلى قائليها كما نتجنب ذكر الآراء المتعلقة بالتفاصيل مع إمكان الإكثار من ذكر أسماء العلماء في كل مسألة واعتناء علماء الأصول بدراسة هذه المواضيع بشكل واسع. وسنشير إلى المصادر عند لزوم ذلك ونذكر هذه الإحالات في التعليقات في نهاية البحث.
الباب الأول
الرخصة في معناها الاصطلاحي في أصول الفقه
نظرة عامة لمفهومي العزيمة والرخصة
العزيمة في اللغة هي القصد على وجه التأكيد. والرخصة بمعناها اللغوي هي اليسر والتيسير.
أما اصطلاحًا فقد عرفت العزيمة والرخصة بتعاريف كثيرة (1) ، ونحن نكتفي بذكر تعريف لكل منهما يوضح المقصود بهما دون سرد هذه التعاريف كلها وذكر الاعتراضات الواردة عليها.
العزيمة: هي الأحكام المشروعة دون اختصاص بأحوال معينة أما الرخصة: فهي الأحكام المشروعة المخالفة للأحكام الأصلية والخاصة بالأعذار المعتبرة شرعًا.
وفي الحقيقة أن نشوء مفهومي العزيمة والرخصة نتيجة للزوم توصيف الأحكام التكليفية باعتبارين من حيث الظروف المحيطة بالمكلف. فالأحكام المشروعة لجميع المكلفين في الحالات العادية تسمى بالعزيمة، أما في حالة قبول حكم مختلف للمكلف بسبب بعض الظروف المحيطة به والتي يعتبرها الشارع أعذارًا على أن يكون الحكم مقتصرًا على هذه الحالة، فنتحدث عن الرخصة.
لقد قام الشاه ولي الله الدهلوي بتحليل العامل الرئيسي وراء توصيف الأحكام التكليفية تحليلاً جيدًا من حيث فلسفة التشريع، حيث نبه في هذا الموضوع إلى النقاط التالية (سنحاول عرض الفكرة المطلوب تأكيدها دون نقل عبارة المؤلف)(2) .
من المعلوم في سياسة التشريع أن حفظ فكرة النظام يتحقق قبل كل شيء بتأمين مراعاة الأوامر والنواهي بالصورة المثلى ولكن هناك بعض العقبات الضرورية التي تقف أمام القيام بهذه المهمة (بالرغم من تحقيق مراعاة المكلفين للأوامر والنواهي بصورة مثالية) .
(1) انظر لهذه التعاريف والاعتراضات عليها: النملة، الرخص الشرعية وإثباتها بالقياس، ص: 12 – 49.
(2)
الدهلوي، حجة الله البالغة، 1 / 102 – 104.
فالمكلف حينئذ أمام أمرين:
1) أن يطالب بما يقتضيه هذا التكليف من الحرج والمشقة. وهذا أمر لا يمكن قبوله في التشريع الإسلامي لتعارضه الواضح مع مبدأ التيسير المقرر في النصوص الشرعية.
2) أن ينبذ فكرة التكليف وراء الظهر بالكلية وهذا يؤدي حتمًا إلى اعتياد الشخص لعدم مراعاة التشريع فيفقده فكرة الانضباط (يدرك هذا الأمر أحسن إدراك المشتغلون بالرياضة الروحية أو تربية الأطفال أو ترويض الحيوانات لتعويدهم القيام ببعض الأعمال) . لذلك نرى أن هذا الخيار معارض أيضا للتشريع الإسلامي كالخيار الأول، لما ذكرناه من أنه يؤدي إلى إزالة فكرة الطاعة والنظام. لذلك ينبغي العدول في هذه الحالات الخاصة إلى التمسك بأحكام هي بمثابة بدائل عن الحكم الأصلي المتروك، تمسكًا يشعر بالبقاء في إطار المشروعية وفي هذه الحالة أي في حالة ترك أحكام العزيمة والأخذ بأحكام الرخصة عند تحقق الأعذار المبيحة لذلك، يبقى المكلف متصرفًا في إطار التشريع ولا يؤدي ذلك إلى الإضرار بفكرة الالتزام بالأحكام الشرعية.
وقد لفت النظر الإمام الشاطبي إلى الناحية نفسها بالعبارات التالية (1) :
كل أمر شاق جعل الشارع فيه للمكلف مخرجًا، فقصد الشارع بذلك المخرج أن يتحراه المكلف إن شاء، كما جاء في الرخصة الشرعية المخرج من المشاق. فإذا توخى المكلف الخروج من ذلك على الوجه الذي شرع له. كان متمثلاً لأمر الشارع، آخذًا بالحزم في أمره، وإذ لم يفعل ذلك وقع في محظورين: أحدهما مخالف لقصد الشارع؛ والثاني سد أبواب التيسير عليه وفقد المخرج عن ذلك الأمر الشاق، الذي طلب الخروج عنه بما لم يشرع له.
مع ذلك الأصوليون لم يتفقوا على استعمال هذين المفهومين (العزيمة والرخصة) على وجه حصر الأحكام على هذين القسمين (2) .
كما لم يتفق الأصوليون على استعمال كلمة العزيمة بحيث يشمل جميع الأحكام التكليفية، فبينما يرى الجمهور أن الأحكام التكليفية الخمسة (الواجب، المندوب، الحرام المكروه، المباح) يمكن تسميتها بالعزيمة، يرى بعض الأصوليين أن العزيمة تطلق على الواجب فقط، والبعض الآخر يطلقها على الواجب والمندوب في حين يقصد البعض بالعزيمة جميع الأحكام التكليفية باستثناء الحرام (3) .
(1) الشاطبي، الموافقات، 1 / 346.
(2)
البخاري، كشف الأسرار، 2 / 298.
(3)
انظر لأصحاب الآراء: أبو النور زهير، أصول الفقه، 1 / 87 – 88؛ النملة، الرخص الشرعية، ص: 46 – 49؛ سليم، الرخص وأسباب الترخيص في الفقه الإسلامي، ص: 17 – 19.
لم يرد مفهوما العزيمة والرخصة في القرآن الكريم. أما السنة النبوية فمع ورودهما فيها في بعض الأحاديث إلا أننا لا نرى فيها توضيحًا لمضمون هذين المفهومين.
وبناء على ذلك لا نرى حاجة للخوض بالمناقشات التي دارت حول معنى العزيمة والرخصة الاصطلاحي ونكتفي ببيان ترجيحنا بأن الأحكام العامة المشروعة للأحوال العادية كلها من قبيل العزيمة وأنه لا حاجة إلى استعمال مصطلح العزيمة بالحالات التي لا توجد بمقابلها أحكام الرخصة – كما أكد ذلك كثير من الأصوليين – أخذًا في عين الاعتبار أن استعمال هذين المفهومين إنما هو نتاج الحاجة إلى تقويم التصرفات حسب الظروف المحيطة بالمكلف. فمن الطبيعي أن هذا يؤدي في نفس الوقت إلى قبول بقاء الحكم الأصلي المقابل للرخصة (العزيمة) في جميع الحالات التي يتحدث فيها عن الرخصة حيث لم يكن الحكم مؤقتًا ولم يوجد ظرف خاص يحيط بالمكلف.
من المسائل المتعلقة بمفهومي الرخصة والعزيمة هي مسألة كونهما صفات للفعل أم صفات للحكم، للأصوليين رأيان مختلفان في هذه القضية. فمن يرى أنهما من صفات الفعل. يعتبر قيام المسافر بصوم رمضان وعدم تأخير هذا الصوم (أي فعل الصوم) عزيمة بينما يعتبر تأخير الصوم (أي فعل التأخير) رخصة، أما من يرى أنهما من صفات الحكم، فيكون حكم عدم تأخير المسافر لصوم رمضان هو العزيمة وحكم تأخيره هو الرخصة (1) . ولا نرى حاجة للخوض في مناقشة هذه الآراء لكونها خلافات يغلب فيها الجانب النظري ولأنه ليس لها دور توجيهي في دراستنا هذه.
كما لا نرى حاجة في عرض الآراء المختلفة في مسألة كون العزيمة أو الرخصة من أقسام الحكم التكليفي أو الوضعي.
(1) أبو النور زهير، أصول الفقه، 1 / 85. 86.
2-
أنواع الرخصة
يمكننا أن نتناول التقسيمات الموضوعة لبيان أنواع الرخص في المؤلفات الأصولية في مجموعتين رئيسيتين:
(1)
الطريقة المتبعة في كتب الأصول لدى الأحناف.
(2)
الطريقة المتبعة في كتب الأصول لدى غير الأحناف وخصوصًا الشافعية.
فيما يلي سنحاول تعريف هاتين الطريقتين بخطوطهما الرئيسية:
(1)
الطريقة المتبعة في كتب الأصول لدى الأحناف (1) .
في المصادر الأساسية لأصول المذهب الحنفي ركز على التقسيم الرئيسي المبين أدناه في الفقرة (أ) ، ونتيجة لما يقال هنا تتكون التقسيمات التي سنبين في الفقرتين (ب) و (جـ) الآتيتين.
وعلى هذا سنتناول التقسيمات الواردة في مؤلفات الأصوليين الأحناف تحت ثلاثة عناوين هي:
أ) التقسيم الرئيسي (الرخصة من حيث كونها حقيقة أو مجازًا) .
ب) الرخصة من حيث إفادتها إباحة الفعل أو المنع من الفعل.
ج) الرخصة من حيث بقاء الحكم المقابل (العزيمة) وبقاء دليله أو عدم بقائها.
(1) الشاشي، أصول الشاشي، ص: 383 – 387: السرخسي، أصول السرخسي، 118/1 وما بعدها؛ البزدوي، كنز الوصول، 298/2 وما بعدها؛ البخاري، كشف الأسرار، 2 / 298 وما بعدها: سليم، أسباب الرخص، ص: 21 وما بعدها.
أ) التقسيم الرئيسي (الرخصة من حيث كونها حقيقة أو مجازًا) :
يقسم المؤلفون الأحناف الحالات التي يمكن إدخالها في إطار الرخصة إلى قسمين هما:
أ) الرخصة الحقيقة
ب) الرخصة المجازية.
ثم يقسمون هذين إلى نوعين آخرين فينتج بذلك أربعة أنواع من الرخص.
النوع الأول: إباحة التصرفات مع قيام الدليل المحرم لها وقيام حكمها جميعًا لعذر يقتضي ذلك.
وهذا النوع أجدر الأنواع باسم الرخصة في رأي المؤلفين الأحناف. يعد التلفظ بكلمة الكفر تحت الإكراه والإفطار في رمضان مكرهًا وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خوفًا من القتل،وانتهاك المحرم حظر الاصطياد بسبب الإكراه وأخذ مال غيره دون إذنه خوفًا من القتل وإتلاف مال غيره وهو مكره، وأمثال هذه التصرفات من هذا النوع. كما هو واضح من الأمثلة يقصد بالتصرفات التي يتعلقُ بها التحريمُ " الفعل"(مثل التلفظ بكلمة الكفر) و "الترك"(مثل الفطر في رمضان) معًا.
حكم هذا النوع: إباحة ارتكاب الشخص لهذه الأفعال الممنوعة. لكن ذلك الشخص لو أصر على عدم الاستفادة من الرخصة، وقتل بسبب ذلك لم يكن آثمًا بل يؤجر على ذلك. لأنه في هذه الحالات جميعها ما يزال دليل وحكم التحرير المتعلقان بحرمة ارتكاب ذلك الفعل باقيين، فذلك الشخص إنما يختار القيام بواجب العبودية لله، ويظهر متانة إيمانه وعقيدته.
لكن مما يجب التنبه إليه في هذا المقام أن الشخص إذا ألقى بنفسه إلى التهلكة بصورة تتجاوز حدود التمسك بحكم العزيمة كما إذا هجم على العدو مع علمه بأنه لا يضر العدو شيئًا، وقتل بسبب ذلك فإنه لا يؤجر على ذلك بل يكون آثمًا.
النوع الثاني: إباحة تصرف مع قيام الدليل المحرم إلا أن الحكم متراخ إلى ما بعد زوال العذر.
إن المؤلفين الأحناف مع عدهم هذا النوع من الرخصة، الحقيقة يذكرون أن هذا النوع في مرتبة أدنى من النوع الأول من حيث تسميته بالرخصة.
يشكل إباحة الفطر في حالة وجود السفر وأمثاله من الأعذار بسبب تراخي حكم حرمة الفطر في رمضان مثالاً لهذا النوع من الرخصة.
حكم هذا النوع هو إباحة ارتكاب الشخص لهذا الفعل الممنوع (الفعل الممنوع في مثالنا هو الفطر في رمضان) لكن إذا لم يتضرر الشخص بالصوم، فالأولى في حقه الأخذ بالعزيمة، وإذا تضرر فالأولى هو الأخذ بالرخصة. أما إذا علم الشخص أن الصوم سيؤدي به إلى الهلاك ومع ذلك أصر على الصوم ولم يأخذ بالرخصة ومات نتيجة ذلك فإنه يكون آثمًا. في هذه الحالة بخلاف الأمثلة التي في النوع الأول، لا يمكن القول بأن الشخص يختار القيام بواجب العبودية لله سبحانه وتعالى لأن الله سبحانه وتعالى قد أجل واجبه هذا إلى وقت قادم. فذلك الشخص يكون قد ابتدع هذا الواجب بنفسه. فهذا التصرف شبيه بقتل الشخص لنفسه أثناء القتال مع العدو.
النوع الثالث: إباحة تصرف بسبب عدم وجود الدليل المقتضي للحرمة وبسبب ارتفاع حكم الحرمة عن ذلك التصرف.
إن إباحة الأفعال التي كانت ممنوعة في الشرائع السابقة كالمحافظة على العضو الذي به ارتكب الإثم وعدم قطعه ولبس الملابس المتنجسة بعد غسلها بسبب نسخ هذه الأحكام الشاقة من مثل قطع العضو الذي ارتكب به الإثم وقص الجزء المتنجس من اللباس في الشريعة الإسلامية تعد أمثلة لهذا النوع من الرخصة.
هذه الأحكام التي تعد من الرخص من ناحية التأكيد على التيسير المراعي للأمة الإسلامية تشكل أحق الأنواع بالتسمية بالرخصة المجازية، حكم هذا النوع هو الأخذ بما يوصف به رخصة لعدم وجود حكم عزيمة يقابل هذا النوع من الرخصة أصلاً.
النوع الرابع: إباحة تصرف تعلق به حكم الحرمة بسبب خروج الدليل عن كونه مقتضيًا لحكم الحرمة مع بقاء حكم الحرمة مشروعًا في الجملة.
يشكل إباحة عقد السلم مع تحريم بيع المعدوم وجواز أكل وشرب المحرم في حالة الاضطرار أمثلة على هذا النوع من الرخصة.
في هذا النوع الذي يشكل الدرجة الثانية من الرخصة المجازية على ما يقول المؤلفون الأحناف، ليس من الصعب أن نفهم وصف السلم وما يشبهه من الأمثلة على أنها رخصة مجازية؛ إلا أن عد أكل الشخص المضطر وشربه الأطعمة المحرمة من نوع الرخصة المجازية يمكن أن يجرنا إلى نوع من التساؤل.
وإيضاح ذلك كالآتي: في رأي أكثر الأحناف: الأكل والشرب من الطعام المحرم في حالات الاضطرار ليس حرامًا بل هو مباح أي أن حكم الحرمة يعتبر ساقطًا. لأن الآية الكريمة تقول: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} . إذن حرمة الأشياء التي أخبرنا الشرع بحرمتها إنما تكون في الحالات التي لا يوجد فيها اضطرار. أما في حالة الاضطرار فتكون هذه الأشياء مباحة. وهذه الإباحة من الممكن إيضاحها من وجهين:
أ) عملاً بقاعدة الأصل في الأشياء الإباحة. (عند من يقول بمبدأ الإباحة الأصلية) .
ب) القول بأن حكم الإباحة في حالة الاضطرار أفادته الآية الكريمة بطريق الاستثناء من حكم التحريم (وهذا عند من يقول بأنه لا يمكن العلم بحل شيء أو حرمته إلا بتوقيف من الشرع)(يجب أن نبين أن المؤلفين تنبهوا إلى أنه يمكن أن يوجه اعتراض بأنه يلزم على هذا، القول بإباحة الكفر في قوله تعالى " إلا من أكره " وأجابوا عن ذلك الاعتراض بأن الاستثناء في هذه الآية ليس استثناء من حكم التحريم وإنما هو استثناء من " الغضب") .
يعتبر قصر المسافر الصلاة الرباعية عند الأحناف داخلاً في هذا النوع من الرخص.
ب) الرخصة من حيث إفادتها إباحة الفعل أو المنع من الفعل:
تنقسم أحكام الرخصة من هذه الحيثية إلى قسمين هما رخصة الفعل ورخصة الترك.
1-
رخصة الفعل: إذا كان حكم العزيمة الذي يقابل الرخصة مقتضيًا المنع من الفعل وكانت الرخصة مبيحة لارتكاب هذا الفعل الممنوع سميت هذه الحالات برخصة الفعل. فمثلاً الرخصة المبيحة للتلفظ بكلمة الكفر والرخصة المبيحة لأكل لحم الخنزير في بعض الحالات مع كون هذه التصرفات محرمة في الحالات الأخرى تعد من هذا القسم.
2-
رخصة الترك: إذا كان حكم العزيمة الذي يقابل الرخصة مقتضيًا للقيام بفعل والرخصة تبيح ترك ذلك الفعل الذي يجب القيام به سميت هذه الحالات برخصة الترك. فمثلاً الرخصة المبيحة للفطر في حالة السفر (وقضاء الصوم في أيام أخر) والرخصة المبيحة لقصر الصلاة الرباعية مع فرضية الصوم في رمضان وفرضية إتمام الصلاة الرباعية في الحضر تعد من هذا النوع. (قد أشرنا أعلاه إلى أن وصف الأحناف لقصر الصلوات الرباعية في السفر بأنها رخصة مجازًا والقصر في هذه الحالة إنما هو واجب لا مباح) .
ج) الرخصة من حيث بقاء الحكم المقابل وبقاء دليل أو عدم بقائهما:
تنقسم أحكام الرخصة من هذه الحيثية إلى قسمين هما رخصة الترفيه ورخصة الإسقاط.
1-
رخصة الترفيه: إذا لم يسقط حكم العزيمة ودليلها عن الاعتبار سميت الرخصة برخصة الترفيه. في الرخص التي تدخل في هذا القسم يمكن للمكلف أن يختار (يأخذ بالعزيمة أوبالرخصة) وهذه الرخصة على نوعين:
أ) بقاء حكم العزيمة وبقاء دليلها مع عدم تراخي الحكم. هذا النوع يطابق النوع الأول في التقسيم الرئيسي.
ب) بقاء حكم العزيمة وبقاء دليلها مع تراخي الحكم. وهذا النوع يطابق النوع الثاني في التقسيم الرئيسي.
2-
رخصة الإسقاط: في حالة سقوط حكم العزيمة ودليلها عن الاعتبار سمى الرخصة برخصة الإسقاط وهذا القسم يطابق النوع الثالث والرابع في التقسيم الرئيسي.
(2)
الطريقة المتبعة في كتب الأصول لدى غير الأحناف وخصوصًا الشافعية (1) .
لقد قام المؤلفون من الشافعية بتقسيم الرخصة من حيث أحكامها. فالرخصة في هذه الحيثية أربعة أنواع.
1-
الرخصة الواجبة: مثل أكل لحم الخنزير في حالة الاضطرار. فإذا أصر الشخص على عدم الأكل ومات بسبب ذلك فإنه يأثم. ومن الأمثلة على هذا النوع الفطر إذا خيف الهلاك من الجوع والعطش ولو كان الشخص مقيمًا وصحيحًا.
2-
الرخصة المندوبة: مثل قصر الصلوات الرباعية في السفر وفطر المسافر الذي يشق عليه الصوم ليقضيه في أيام أخر.
3-
الرخصة المباحة: مثل بيع السلم والعرايا
(1) الغزالي، المستصفى، 63/1 وما بعدها؛ الآمدي، الأحكام، 1 / 68 وما بعدها؛ سليم، أسباب الرخص، ص: 53 وما بعدها.
4-
الرخصة التي هي خلاف الأولى: مثل فطر الشخص المسافر إذا لم يضره الصوم والمسح على الخفين وجمع الصلوات إذا تحققت الشروط.
يضيف بعض الشافعية إلى هذه الأنواع نوعًا خامسًا هو الرخصة المكروهة ويمثلون له بقصر الصلاة في مسافة أقل من مسافة السفر المحدودة. لكن المؤلفين الآخرين يذكرون هذا المثال في النوع الرابع أي الرخصة التي هي خلاف الأولى.
يذكر الشاطبي (1) أن كلمة الرخصة تستعمل في أربعة معان هي:
1-
ما شرع لعذر شاق استثناء من أصل كلي يقتضي التحريم مع الاقتصار على موضع الحاجة فيه (الحالات الناشئة من العذر) .
2-
ما استثنى من أصل كلي يقتضي المنع مطلقًا من غير اعتبار لكونه لعذر شاق: كعقدي السلم والقراض.
3-
ما وضع عن الأمة الإسلامية من التكاليف الغليظة والأعمال الشاقة.
4-
أحكام الإباحة عمومًا والتي شرعها الله تعالى للتوسعة على عباده مع الأخذ بعين الاعتبار أنهم لم يخلقوا أساسًا إلا لعبادته سبحانه وأنه لا حق على الله واجبًا نحوهم.
ثم إن الشاطبي يذكر أن النوع الثاني والثالث من الرخص هذه لا يترتب على البحث فيها نتيجة، وأن الرخص بالمعنى الرابع يمكن أن تكون معتبرة لدى أرباب الأحوال ولذلك فالرخصة التي تبحث في أصول الفقه هي الرخصة بالمعنى الأول.
وهناك بعض المؤلفين يقسمون الرخصة من حيث سببها إلى قسمين:
1-
الرخصة ذات السبب الاختياري كالسفر.
2-
الرخصة ذات السبب الاضطراري مثل العطش المؤدي إلى الهلاك.
وأيضًا فإن بعض المؤلفين قد قسموا الرخصة إلى قسمين من ناحية بقاء التكليف أو عدم بقائه إلى ما بعد وقت الرخصة:
1-
الرخصة الكاملة: وهي ما لا يبقى فيها التكليف إلى ما بعد وقت الرخصة، مثل قصر الصلاة في السفر.
2-
الرخصة الناقصة: وهي تلك التي يجب فيها القضاء من بعد. مثل الإفطار للمسافر (2) .
(1) الشاطبي، الموافقات، 1 / 300 وما بعدها.
(2)
الطوفي، شرح مختصر الروضة، 1 / 466؛ النملة، الرخص الشرعية، ص: 143 – 145.
3-
أسباب الرخصة وضابط العذر المسبب للرخصة
إن استعمال مفهوم الرخصة بمعنى مبدأ التيسير وتطبيقاته في التشريع الإسلامي انطلاقًا من معنى اليسر في كلمة الرخصة يمكننا من زيادة إعداد أسباب الرخصة. لقد بين العلماء هذه الأسباب تحت عنوان " أسباب التخفيف " في حالات سبع هي:
1-
السفر.
2-
المرض.
3-
الإكراه.
4-
النسيان.
5-
الجهل.
6-
المشقة وعموم البلوى.
7-
النقص.
لكن يجب تناول أسباب الترخص بنظرة مختلفة في حالة استعمال مفهوم الرخصة بمعناها الاصطلاحي في أصول الفقه. لأنه حتى يمكن التحدث عن الرخصة بهذا المعنى فإنه يجب أن يكون هناك عذر يتيح للمكلف عدم الأخذ بحكم العزيمة، واتباع حكم الرخصة محدد باستمرار حالة العذر هذه. أما التخفيف فيقصد به الأحكام التي شرعت للتيسير على جميع المكلفين في بعض الأحوال دون اشتراط وجود عذر خاص للمكلف، مع هذا فالأحوال التي تعد أعذارًا في مجال الرخص هي في نفس الوقت أسباب للتخفيف. لذلك يمكن القول بأن التخفيف سواء كان من حيث أسبابه أم من حيث المجالات المتعلقة به مفهوم أكثر مشمولاً من الترخص.
وعلى هذا فالأحوال التي ذكرت كأسباب للتخفيف ليست جميعها أسبابًا للترخص بالمعنى الاصطلاحي. (فمثلاً لا يمكن عد النسيان والجهل سببًا للترخص بهذا المعنى) .
فأسباب الترخص يمكن جمعها في أربعة مواد هي:
1-
السفر.
2-
المرض.
3-
الإكراه.
4-
الاضطرار.
إن هذه الأسباب جميعها تشترك في كونها تهدف إلى التيسير، وكونها حالات تنطوي على مشقة.
(إن الغاية من قول بعض المؤلفين " إن سبب الرخصة المشقة" (1) الإشارة إلى الباعث على تشريع حجم الرخصة. أما نحن فنقصد " بأسباب الرخصة " هنا الحالات التي يمكن أن يتحقق فيها حكم الرخصة لا الباعث على تشريع حكم الرخصة) .
(1) الشاطبي، الموافقات، 1 / 314.
لكن حالة السفر فقط من بين هذه الأسباب لم يشترط لها بالضرورة وجود المشقة من حيث الأحكام المتعلقة بهذه الحالة. واتفق العلماء على جواز تطبيق الأحكام الخاصة بالسفر متى وجد السفر بالشروط المحددة من قبل الشارع. إن أحكام الترخص المتعلقة بحالة السفر قد بحثت بشكل واسع في المؤلفات القديمة والحديثة. لذلك لن نقوم بالبحث هنا في هذه الأحكام، أما الحالات الثلاثة الأخرى فهي حالات يمكن أن تقوم بتقويمات مختلفة تبعًا لدرجة المشقة التي تحتوي عليها.
المرض من بين هذه الحالات له مجال ضيق من التطبيق ولا حاجة لدراسة الأحكام الخاصة المتعلقة بهذه الحالة في بحثنا هذا (1) .
بالنسبة إلى السببين الآخرين (الاضطرار والإكراه) فهذا السببان لهما مجالات واسعة جدًا تتيح الفرصة لوجهات نظر مختلفة من حيث أحكام الرخصة. إن الإكراه مع أنه يمكن عدة نوعا من الاضطرار إلا أننا هنا نرى – كما هو واضح من عنوان " أنواع الرخص " – أن بعض العلماء يرتبون نتائج مختلفة على هاتين الحالتين.
هذه التقويمات المختلفة يمكن أن نوضحها كما يلي:
إن الفكرة التي تبناها جمهور العلماء (الأحناف في ظاهر الرواية، والشافعية على الأصح، والمالكية والحنابلة في المختار عندهم) في موضوع الأكل أو الشرب من المحرمات في حالة الاضطرار هي ارتفاع حكم الحرمة بالنسبة لذلك الشخص وبالتالي لزوم اعتبار ذلك كمن يقتل نفسه بسبب امتناعه عن فعل مباح (كالأكل والشرب) ووجهة نظرهم في قولهم هذا، إدراكهم لمقصد الشارع من التحريم ونتيجة لإدراكهم هذا إفادتهم بأن القيمة المستهدفة حفظها بهذا التحريم هي " النفس " أيضا ولا يتحقق الحفاظ عليها إلا بالإقدام على ذلك الفعل المحرم. هناك فريق آخر من العلماء (أبو يوسف والظاهرية وبعض الشافعية والحنابلة) يذهبون إلى أن الشخص الذي يتجلد ويصبر على عدم الأكل والشرب من المحرم ويرضى بالموت إنما يظهر مدى تمسكه بدينه، كما قد ذكرنا أن الحنفية في النوع الأول من الرخصة الحقيقة من التقسيم الرئيسي للرخصة يرون بأن الشخص الذي يصر على الصوم أو على عدم الأكل من مال غيره رغم الإكراه لا يأثم، بل يكسب الأجر بسبب قيامه بواجبه الديني. وهذا يبين لنا أن الفقهاء مع اتفاقهم على أن " الدين " يمثل أعلى المراتب عند ترتيب القيم الضرورية، فإنهم يبدون آراء مختلفة بشأن اعتبار أي التصرفات وفي أي الحالات يتحقق بها حفظ الدين. وبعبارة أخرى يختلفون في شأن تطبيق المبدأ على الأحداث.
(1) انظر: سليم، الرخص، ص: 56 وما بعدها.
فمن هذا القبيل أي الاختلاف في التقويم عند تطبيق المبدأ على الأحداث أن الشخص الذي يصر على الصوم ويجابه الإكراه يؤجر ولو مات بسبب ذلك (ويعتبر أنه مات في سبيل القيام بواجب العبودية له تعالى لغيرته الدينية) لكن الشخص الذي يموت نتيجة إصراره على الصوم في حالة وجود السفر أو عذر شرعي آخر يعتبره الشارع مبيحا ًللفطر ومؤجلاً لوجوب الصلاة إلى عدة من أيام أخر (وهو يعلم أن هناك خطرًا على نفسه) يكون آثمًا.
لقد وضع العلماء المسلمون بعض المعايير المتعلقة بأحوال الإكراه والضرورة (الضرورة والاضطرار مشتقة من الضرر بحسب المعنى اللغوي وتستعمل إحداهما في مكان الأخرى عند الفقهاء. لكن الضرورة تعبير عن حالة مجردة وعامة أما الاضطرار فهو عبارة عن ظهور هذه الحالة إلى الوجود في شكل أحداث واقعية)(1) . وتناولوا الإكراه خصوصًا كنظرية. ولكنهم قد اهتموا أثناء دراستهم – بشكل أزيد – بالنتائج الفقهية والحقوقية لهاتين الحالتين أي بالأحكام الموضوعة التي هي موضوع النزاعات الحقوقية ولذلك عند معالجتهم لهذه القضية نظروا إليها من حيث حقوق العباد أيضا (2) .
وفي الحقيقة فإن مفهوم الرخصة إنما يخاطب جانب التدين عند الشخص غالبًا. أي أنها مفهوم يحقق الطمأنينة للشخص من حيث عدم تصرفه مخالفًا لمرضاة الله سبحانه حتى في حالات العذر التي يواجهها خلال قيامه بواجب العبودية لله تعالى ولذلك يجب تقويم هذه الحالات بحسب ظروف كل مكلف وبحسب درجة تأثير المشقة وكذلك بحسب التوازن بين المشقة التي تسببها حالة العذر وبين مدى أهمية حكم العزيمة الذي سيترك لوجود ذلك العذر. إذن يلزم القبول لعدم وجود حدود وقواعد قطعية للعذر الذي يشكل سببًا لحكم الرخصة كما يرى كثير من المؤلفين ويجب ترك ذلك لتقدير المكلف. من المؤكد أن هذا التقدير ليس اتباعًا للهوى وإنما هو حق تقدير يجب استعماله في ضوء المبادئ التي أوجدت الشروط المذكورة لحالات الإكراه والضرورة.
وتجدر الإشارة إلى أن جمهور الفقهاء قد ذهبوا إلى أن الرخص المنصوص عليها إذا كانت مما يعقل معناها يمكن أن يقاس عليها غيرها من الجزئيات التي تشاركها في علة الحكم. وأما أبو حنيفة وأصحابه – باستثناء أبي يوسف – فقد ذهبوا إلى منع القياس على الرخص.
(1) انظر: موسوعة الفقه الإسلامي، 14 / 61 وما بعدها.
(2)
انظر في هذا الموضوع: الزحيلي، نظرية الضرورة الشرعية.
قبل أن نختم هذا العنوان نريد أن نشير إلى تقسيم ذكره محمد الطاهر بن عاشور بشأن العلاقة بين العزيمة والرخصة حيث قام ابن عاشور بتقسيم الضرورة إلى هذا التقسيم الثلاثي (1) :
1-
ضرورة خاصة مؤقتة: أي حالات الرخصة التي يدرسها الفقهاء والأصوليون.
2-
ضرورة عامة مطردة: أي حالات الضرورة والحاجة التي تحمل صفتي العموم والاطراد (مثل حالة تجويز عقد السلم) .
3-
ضرورة عامة مؤقتة: أي حالات الضرورة والحاجة المؤقتة والتي لها صفة العموم. ويشكو ابن عاشور من عدم الاهتمام بهذا القسم الثالث أنه وإن كان من الممكن عند التحقيق اعتبار الأمثلة التي ذكرها هنا داخلاً في القسم الثاني (بالاستفادة من مناهج الاستحسان والاستصلاح) فإننا نرى أن لهذا التقسيم أهمية كبيرة وأن مؤسسات الإفتاء يجب عليها القيام بتحديد الضرورات في هذا الإطار وبإنارة الطريق أمام المجتمعات المسلمة.
4-
حكم الرخصة
يرى جمهور الفقهاء أن في حالة الاضطرار يصبح ارتكاب بعض الأفعال المحرمة (مثل أكل لحم الخنزير) واجبًا. مع هذا فإن هناك فريق من هؤلاء العلماء يعتبر هذه الرخصة رخصة إسقاط وإن تسميته بالرخصة من باب المجاز وليس من باب الحقيقة. فعلى هذا الرأي يكون ارتكاب ذلك الفعل من العزيمة أساسًا. أما إذا تناولنا القضية من وجهة نظر العلماء القائلة باعتبار هذه الحالات من الرخصة فإن حكم الرخصة يكون واجبًا في بعض الأحوال. إذا صرفنا النظر عن هذه الحالات ونظرنا إلى الرخصة على إطلاقها دون بحث لخصوصيات كل مسألة على حدة وكذلك دون بحث لحالة كل مكلف على حدة فإن القاعدة أن حكم الرخصة هي الإباحة. أي أنه إذا تحققت شروط الرخصة (أي في حالة وجود عذر يعتبره الشارع مسوغًا لترك العزيمة) فإنه يصبح ارتكاب فعل يحرم ارتكابه في الأحوال العادية مباحًا وكذلك يصبح أداء فعل يجب فعله في الأحوال العادية مباحًا. وفي هذه الحالة فإنه يكون من الأولى إذا تحققت شروط الرخصة إباحة ارتكاب فعل يكره ارتكابه في الأحوال العادية وكذلك إباحة ترك فعل يندب فعله في الأحوال العادية.
(1) ابن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، ص: 90 – 91.
يقول الشاطبي (1) مشيرًا إلى معنى الإباحة في هذا الاستعمال " الإباحة المنسوبة إلى الرخصة هل هي من قبيل الإباحة بمعنى رفع الحرج، أم من قبيل الإباحة بمعنى التخيير بين الفعل والترك؟ فالذي يظهر من نصوص الرخص أنها بمعنى رفع الحرج لا بالمعنى الآخر".
وفي الصفحات التالية لهذه الصفحات يوضح الشاطبي (2) الفرق بين وجهتي النظر هاتين قائلاً:
" إذا فرعنا على أن الرخصة مباحة بمعنى التخيير بينها وبين العزيمة، صارت العزيمة معها من الواجب المخير؛ إذ صار هذا المترخص يقال له: إن شئت فافعل العزيمة وإن شئت فاعمل بمقتضى الرخصة. وما عمل منهما فهو الذي واقع واجبًا في حقه، على وزان خصال الكفارة. فتخرج العزيمة في حقه عن أن تكون عزيمة.
وأما إذا فرعنا على أن الإباحة فيها بمعنى رفع الحرج، فليست الرخصة معها من ذلك الباب؛ لأن رفع الحرج لا يستلزم التخيير. ألا ترى أن رفع الحرج موجود مع الواجب. وإذا كان كذلك تبينا أن العزيمة على أصلها من الوجوب المعين المقصود للشارع. فإذا فعل العزيمة لم يكن بينه وبين من لا عذر له فرق، لكن العذر رفع الحرج عن التارك لها إن اختار لنفسه الانتقال إلى الرخصة. وقد تقرر قبل أن الشارع إن كان قاصدًا لوقوع الرخصة، فذلك بالقصد الثاني. والمقصود بالقصد الأول هو وقوع العزيمة "
لقد تبنى العلماء آراء مختلفة حول الإجابة على سؤال أيهما أفضل: استعمال هذا الإذن أم عدم استعماله (أيهما أولى الأخذ بالعزيمة أم الأخذ بالرخصة) . مع أن القاعدة في حكم الرخصة هي إباحة ارتكاب الفعل المحرم وترك الفعل الواجب؟ والشاطبي بعد عرضه لأدلة كلا الرأيين وتعليلاتها بتوسع لا يبدي رأيًا واضحًا على صورة قاعدة وإنما يفيد أن هذا يتغير تبعًا لنظر المجتهد وأنه يجب تقديم المسألة في إطار الإيضاحات التي تذكر حول مفهوم المشقة (3) .
(1) الشاطبي، الموافقات، 1 / 318.
(2)
الشاطبي، الموافقات: 1 / 350 – 351.
(3)
الشاطبي، الموافقات: رأي " الأخذ بالعزيمة أولى " 1 / 323 – 338، رأي " الأخذ بالعزيمة ليس بأولى " 1 / 339 – 345؛ تقويم الشاطبي، 1 / 344.
عند دراسة الآراء حول هذه المسألة والأمثلة التي يذرها جمهور الأصوليين في أنواع الرخصة المندوبة والرخصة التي هي خلاف الأولى يمكن أن نستنتج أن الذين توصلوا إلى نتائج مختلفة في هذا الموضوع انطلقوا من النقاط الآتية:
1-
وجود أدلة خاصة (نصوص) حول بعض المسائل.
2-
إمكان تقويم عدم الأخذ بالرخصة بأنه إظهار للغيرة الدينية.
3-
لزوم التقويم من حيث قوة التأثير العذر المعدود سببا للرخصة على المكلف.
وعلى هذا إذا لم يكن الرأي القائل بالمفاضلة بين الرخصة والعزيمة مستندًا إلى السبب الأول من الأسباب الثلاثة المشار إليها أعلاه أي على وجود دليل خاص فإنه يجب تقويم الحالة في كل حادثة ولكل مكلف على حدة. حول هذا المعنى يقول الشاطبي " إن الرخصة إضافية لا أصلية ما لم يحد فيها حد شرعي فيوقف عنده " ثم يعطي أمثلة تحمل أوجهًا إضافية تختلف حسب الأحداث والأمثلة (1) .
5-
مفاهيم وقضايا ذات صلة وثيقة بمفهوم الرخصة
أو التي قد تؤدي إلى الالتباس
المصلحة: إن المصلحة هي ما يجب جلبه من المنافع ودفعه من المضار لحفظ القيم التي يقصد الشارع المحافظة عليها وتحقيق المبادئ التي حددها الشارع أو التي لا تخالف تلك المبادئ. إذن فالمصلحة مفهوم أشمل من الرخصة وهي شاملة لها أيضًا.
المانع: هو ما يلزم من وجوده عدم الحكم ولا يلزم من عدم وجود الحكم. أما العذر الذي نتحدث عنه عند موضوع الرخصة فيقصد منه: " ما تتحقق معه مشروعية الحكم مثل المشقة والحاجة والضرورة فلا يدخل المانع في العذر كالحيض لأن المشروعية لا تتحقق معه، ومن هنا لا يسمى إسقاط الصلاة عن الحائض رخصة لأن الحيض مانع من المشروعية ".
(1) الشاطبي، الموافقات، 1 / 314.
الورع – الأخذ بالأحوط: كما بينا سابقًا فإن أكثر أسباب الرخصة (الحالات التي يمكن التحدث فيها من وجود الرخصة) قابلة للتقدير بحسب الأحداث والمكلفين. وهكذا فإن مفهومي الاحتياط والورع مع كونهما من المفاهيم التي فيها واسع من التطبيق فكذلك لها دور بارز في تحديد دخول الأفعال المحرمة في الأصل في إطار الرخصة أو عدم دخولها. من ناحية أخرى فإنه يمكن تفسير تطبيق بعض الصحابة والسلف الصالح للأحكام الشاقة على أنفسهم بأنه (النظر إلى الرخصة على أنها صلاحية) وعدم استعمال الحق المعطى لهم بالرخصة وكذلك محاولة تعويد النفس على المشاقة وتجنب الميوعة والتساهل.
الاستحسان: حتى يمكن التحدث عن الرخصة يجب:
أ) وجود حكم أصلي عام في تلك المسألة، ب) والإشارة إلى حكم مؤقت بدل ذلك الحكم الأصلي العام بسبب الحالات الخاصة المحيطة بالمكلف (التي يمكن اعتبارها أعذارًا) . وينتهي حكم الرخصة عندما ترتفع هذه الحالة. في مقابل ذلك على سبيل المثال مع حكم الفقهاء بعدم صحة العقد بسبب الجهالة (القياس) فإن في بعض الحالات قرر الفقهاء ارتفاع الجهالة وعلة النهي (احتمال النزاع) بسبب وجود عرف مستقر مثلاً، ولذلك أفتوا أيضا بجواز ذلك العقد (الاستسحان) . ونوع الحكم في كلتا الحالتين هو العزيمة. أي أن حكم التحريم في الحالات التي يوجد فيها سبب التحريم وكذلك حكم الجواز في الحالات التي قد زال فيها هذا السبب يعتبر داخلاً في حكم العزيمة وفي أحكام نافذة في حق جميع المكلفين.
حالة الاضطرار وحقوق الآخرين: إن فتح باب الرخصة في الشريعة الإسلامية أمام الشخص المضطر للحفاظ على حياته وتخلصه من بعض المشاق لا يعني إعطاء الصلاحية المطلقة (أن يتصرف كما يريد) . فقبل كل شيء لم يجوز الإسلام قتل الشخص لنفس مصونة أخرى لإنقاذ حياته هو كما حكمت الشريعة الإسلامية بوجوب الضمان في مقابل الأضرار المادية التي يسببها الشخص المضطر للآخرين.
الاستفادة من الرخصة في حالات المعصية: هناك رأيان رئيسيان في مسألة الاستفادة من الرخصة في حالات الاقتران بالمعصية. يرى الأحناف أن هذه الحالة لا تمنع الاستفادة من الرخصة بينما يرى الشافعية والحنابلة والظاهرية عدم جواز الاستفادة من الرخصة في هذه الحالة. أما المالكية فعندهم قولان يوافقان الرأيين المذكورين.
الباب الثاني
التلفيق وتتبع الرخص
1-
الأسس التاريخية والفكرية لاتباع المذاهب
حتى يمكن تحليل قضية المذاهب في تاريخ التشريع الإسلامي جيدًا يجب التفريق بين العناوين الثلاثة الآتية: 1 – ظهور المذاهب وتكونها. 2 – استقرار المذاهب (تقبل المجتمع لقانون المذهب) . 3 – انتشار المذاهب في مناطق معينة وتمسك أهلها بها.
ليست هناك حاجة إلى دراسة العنوان الأول والثالث من هذه العناوين الثلاثة في بحثنا هذا. ويكفي أن نقول حول العنوان الأول ما يلي:
إن كل من عنده ذوق حقوقي (ملكة فقهية) يقبل أن القضاة أو الفقهاء (الحقوقيين) يمكن أن يسلكوا طرقًا مختلفة في استنباط الأحكام من مصدر يمكن فهمه على أوجه متباينة. من ناحية أخرى عند تذكرنا لحقيقة وجود وجهات نظر متباينة وهامة في تحديد مادة السنة التي هي المصدر الرئيسي الثاني للتشريع الإسلامي (وصول الحديث إلى يد عالم مع عدم وصوله إلى يد عالم آخر قبل تدوين السنة، وتصحيح عالم لحديث مع رد عالم آخر لصحة ذلك الحديث قبل تدوينها أو بعد تدوينها وبالتالي اعتبار الأول أن الموضوع منظم بالنص واعتبار الآخر أن هناك فراغًا تشريعيًّا في هذا الموضوع) وندرك بسهولة أن اختلاف الآراء يكتسب بعدًا جديدًا. أما فيما يتعلق بالعنوان الثالث فلن نقوم بعد العوامل التي ساعدت على انتشار المذاهب في المناطق المختلفة والمذكورة في كتب تاريخ التشريع الإسلامي (كحصول مذهب ما على دعم من الدولة في حقبة معينة من الزمن) .
حتى يمكن إيجاد الإجابة السليمة على سؤال " هل يلزم اتباع مذهب معين وهل يوجد محذور في الاستفادة من مذاهب متعددة "؟ يجب أن ندرس العنوان الثاني المذكور أعلاه أي أن نحاول تحديد الحاجة التي أدت إلى استقرار المذاهب. كما هو معلوم فإن المذاهب لم تكن موجودة في عهد الصحابة الكرام والتابعين. كان المرء المسلم إذا عرضت له مسألة يرجع إلى رأي عالم يثق فيه ويتصرف طبقًا لذلك. وكان القضاة يحلون المنازعات التي يواجهونها حسب اجتهاداتهم أو حسب اجتهاد من سيتبعون من المجتهدين الآخرين.
ويتبين لنا أن بعد مضي حقبة من الزمن بدأت تظهر في المجتمع مشاكل مهمة من إجراء تطبيق أحكام متعارضة في مناطق القطر الإسلامي المختلفة.
هناك مسائل كثيرة قد أبدى الفقهاء فيها آراء مضادة بسبب اختلاف الدليل ووجهات نظر متباينة. وقد لا يصعب القيام بإيضاح هذه الخلافات من الناحية العلمية. فمثلاً يمكن لفقيه أن يحكم بإيجاب ضمان في حادثة بينما يحكم فقيه آخر بعدم إيجاب ضمان في نفس الحادثة. كما يمكن أن يحكم فقيه بلزوم إجابة الزوجة إلى طلبها التفريق بينها وبين زوجها بينما يحكم فقيه آخر بعدم التفريق في تلك القضية. كذلك من الممكن أن يحكم فقيه بوجوب القصاص في حادثة في حين يحكم فقيه آخر بعدم القصاص، ويمكن أن يوجد لجميع تلك الاجتهادات تفسيرات علمية مقنعة، فكتب الفقه مليئة بأمثال هذه الاختلافات وما زال العلماء يدافعون عن هذه الآراء المختلفة حتى يومنا هذا.
وهكذا ليس من الصعب أن تحافظ هذه الحلول المتضادة على وجودها دون الإضرار بمشاعر العدالة لدى الأفراد في دول مختلفة أو في أزمنة مختلفة، وكذلك في داخل الدولة نفسها عند اختيار أحد هذه الحلول وتطبيقه على جميع الناس حتى لو كانت النتيجة صعبة التحمل لأحد الأطراف. والمثل القائل " الأصبع الذي تقطعه الشريعة لا يؤلم " يعكس هذا الفهم.
ولكن إذا أبيح تطبيق أحكام مختلفة على أفراد يعيشون في نفس المجتمع، فإن ذلك يؤدي إلى توليد مشاكل هامة في مدة قصيرة كما يسبب في نشوء فوضى تشريعية.
وهكذا فإن عبد الله بن المقفع الذي كان من كتاب الدولة العباسية تنبه إلى تطور الأحداث نحو هذا الاتجاه في العالم الإسلامي في أوائل عهد العباسيين وشعر بالحاجة إلى اقتراح التدابير الكفيلة بإنهاء الفوضى التشريعية في تقريره الهام الذي قدمه للخليفة العباسي.
وباختصار فإن المقفع كان يقترح سلوك منهج التقنين بصورة شاملة لكافة أراضي الدولة.
ولا شك أنه كانت هناك بعض المحاذير في تدوين الأحكام الفقهية إلى جانب فوائدها العديدة. من ناحية أخرى فإن عدم تدوين السنة التي هي إحدى المصادر الرئيسية للتشريع الإسلامي حتى ذلك الوقت كان من أهم العوامل التي يجب أخذها بعين الاعتبار في هذا المقام. لهذا السبب نرى الإمام مالكًا لم يوافق على اقتراح الخليفة بالتقنين (1) .
والخلاصة نرى أن المحاولة الأولى للتقنين في العالم الإسلامي لم تكلل بالنجاح لكن هذا لا يعني أن الحاجة التي دفعت هذه المحاولة إلى الظهور قد ارتفعت بل إن الشعور بالحاجة إلى التقنين قد ازداد بتقدم الزمن.
(1) محمصاني، مقدمة في إحياء علوم الشريعة، ص: 95 وما بعدها.
هكذا فإن المجتمعات الإسلامية تجاه هذا المأزق (وهو قيام الحاجة لوجود قانون موحد مع عدم استطاعة تحقيق ذلك) قامت بمعالجة هذه المشكلة بحل تلقائي وكان هذا الحل هو استقرار المذاهب الفقهية والاعتماد على مذهب معين وتوظيفه كقانون أساسي.
وبذلك فإن حلول مذهب معين وإن اعتبرت ضعيفة في بعض المسائل بالنسبة إلى حلول المذاهب الأخرى من حيث استجابتها لحاجات المجتمع، وقوتها في نظر الفقيه أو القاضي وكذلك من حيث طمأنتها لمشاعر العدالة، فإن تحقيق وحدة التشريع قد غطى على المحاذير الأخرى.
وهكذا فالعالم الإسلامي بغض النظر عن بعض التنظيمات الجزئية والمحدودة لم ينجح في وضع قانون يحتوي على أحكام فقهية مستفادة من مذاهب مختلفة إلا في أوائل القرن العشرين الميلادي (بوضع قانون الأحوال الشخصية في الدولة العثمانية قيد التنفيذ في عام 1917) وبعبارة أخرى أولت المجتمعات الإسلامية اهتمامًا أكبر لوظيفة الأمن الحقوقي من وظائف الحقوق الأخرى (وظيفة العدالة ووظيفة موافقة المقصد) .
إذن فالسبب الرئيسي وراء الالتزام بمذهب معين التزامًا متشددًا، - بغض النظر عن أدوار التعصب - - هو البحث عن التناسق التشريعي وعدم التناقض.
فإن كان من الممكن القول بأن المذاهب الفقهية مناهج تشريعية لها من الأصول والمبادئ ما يضمن التناسق والانسجام بين اجتهاداتها، يمكن اعتبار الالتزام بمذهب معين من أحسن الوسائل المتبعة في سبيل تحقيق ذلك المطلب، فإذا أمعنا النظر في الاتجاهات التي برزت إلى الوجود في العهود المتقدمة التي بدأت فيها كتابة المؤلفات الأصولية (وخاصة بالنظر في المناقشات الدائرة والآراء المطروحة حول أصول المذهب الحنفي) نستطيع القول بأن العلماء ينظرون إلى المذاهب (وخاصة إلى مذاهب أنفسهم) بهذه النظرة أي بأنها عبارة عن مجموعة من القواعد والمبادئ المتناسقة فيما بينها داخل إطار المذهب الواحد.
مع هذا لا يمكن إنكار وجود جوانب من هذا القبيل معرضة للانتقاد في كل مذهب. بغض النظر عن ذلك ليس من الممكن اعتبار الاستفادة من آراء المذاهب الأخرى (مع كون القواعد الأصولية للمذهب المتبع متناسقة فيما بينها نظريا) والتي يلجأ إليها نتيجة الاحتياجات التي تحدث في الحياة العملية والتغيرات في ظروف الحياة والمجتمع أو نتيجة لإعادة النظر في الأدلة المستندة إليها (وخاصة السنة النبوية) ، حيث يقوم المختصون في مجال الفقه باقتباس أحكام المذاهب الفقهية الأخرى في بعض المسائل – مع التزامهم أساسًا بمذهب معين – أو يقومون بدراسة كل مسألة من جديد بغية التوصل إلى حل أمثل لا يمكن اعتبار تلك الاستفادة بهذه الصورة إضلالاً لفكرة تحري عدم التناقض.
في ظروفنا المعاصرة ليس من الصعب تلبية هذه الحاجة من حيث المسائل التي هي موضوع المنازعات القانونية والقرارات القضائية إذ من الممكن إحالة الموضوع إلى أهل الاختصاص (الخبراء) لإيجاد الحل الأمثل، المؤيد بالدليل الأقوى، يلبي احتياجات المجتمع وطموحاته. ونتيجة لذلك يمكن كشف صلاحية هذه الحلول وتوحيد تطبيقاتها بآلية الاجتهاد القضائي.
وهكذا من الممكن القيام بتغيير ما يجب تغييره من هذه الحلول المطروحة بتغير الظروف والأوضاع ويدل هذا الأمر على عدم وجود ما يبرر وجوب التزام بمذهب معين في مجال التشريع (التقنين) .
ومن ناحية أخرى يلزم تناول هذا الموضوع من جانب الفرد المسلم أيضا إذا أخذنا بعين الاعتبار تنظيم الفقه الإسلامي لواجبات الشخص نحو ربه بالإضافة إلى المجالات القانونية المعهودة في العصر الحاضر. فرغبة الفرد المسلم تطبيق القواعد المتناسقة فيما بينها في حياته الدينية بمعناه الضيق (في مسائل العبادات ومسائل الحلال والحرام) يعتبر من الأمور الطبيعية.
فكما أن معايشة الفوضى التشريعية بسبب تطبيق أحكام مختلفة لمسائل متشابهة في البلاد التي ليس فيها قانون موحد، مؤد إلى الانزعاج، فكذلك تنظيم الشخص لحياته الدينية وفق قواعد متغيرة غير متزنة يسبب انزعاجًا أكثر (لكون دائرة الحياة الدينية أوسع نطاقًا) من فوضى النزاعات الدنيوية كما هو الحال في قرارات المحاكم.
فيمكننا من هذا الوجه القول بأن التزام مذهب معين طريقة آمنة للشخص، ولكن ليس معنى هذا أنها هي الطريقة التي يجب اتباعها أو أنها أحسن الطرق.
عند بحث القضية من حيث عوام الناس، لا يمكن أن ننتظر من العامي في حالة اختياره حكمًا من الأحكام من مذهب آخر، النظر في الأدلة التي استنبطت منها هذا الحكم ولا المعرفة فيما إذا وقع في التناقض باختياره هذا الحكم أم لا من الناحية الأصولية. لذلك يجب إيجاد بديل لهذا الشخص يجعله يشعر بنفس الثقة التي يشعر بها عند التزامه مذهبًا معينًا، وذلك ليتسنى للشخص القيام بواجب العبودية لله تعالى بنفس مطمئنة، لتحقيق ذلك يمكن اقتراح طريقتين إحداهما عامة والأخرى خاصة:
أما طريقة الأمان العامة فهي قبول جواز العمل برأي أي مجتهد من المجتهدين شريطة أن لا يكون مخالفًا للإجماع (حين يتعذر التوفيق بين هذه الصورة المطبقة وبين رأي أي عالم من العلماء) . فالشخص الذي يتبع هذه الطريقة سيكون نقطة انطلاقه هي كون المجتهدين قد بذلوا ما في وسعهم للتوصل إلى الصواب (الحق) عند الله تعالى، وكون مصادرهم واحدة وأنه لا يوجد دليل واضح يدل على أن أحد هذه الآراء هو الموافق لما هو الحق في علم الله سبحانه تعالى.
إن هذا التصرف يعد متناسقًا (منسجمًا) من ناحية أساسه الفلسفي (بنظرة كلية) لكون مصادر الاجتهاد واحدة وكذلك الهدف من الاجتهاد واحد. أما عند النظر إلى جزئيات الموضوع، فليس من السهل اعتبار هذا العمل منسجمًا في نفسه، لأنه لا يؤمن الشخص بهذه الطريقة من أن يعمل في مسألة ما بقول مجتهد لا يجيز نسخ الكتاب بالسنة المتواترة، بينما يعمل في مسألة أخرى بقول مجتهد آخر يجيز نسخ الكتاب بالسنة المتواترة، كما لا يؤمن من أن يختار رأي مجتهد يعطي الحديث المشهور (وهو ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم صحابي ثم تواترت في الطبقات المتلاحقة) قيمة إضافية من الناحية الأصولية في حين يختار رأي عالم آخر في مسألة أخرى يرى أن الحديث المشهور من أخبار الآحاد ويستفيد منه من الناحية الأصولية بهذا الاعتبار.
مع ذلك يمكن اعتماد الشخص على بعض المبادئ (كالضرورة والحاجة – وهما من مبادئ الفقه المتفق عليها) عند قيامه بجميع أحكام المذاهب المختلفة في حياته الدينية، يمكن عد ذلك الاعتماد ضمانًا يزيل الخوف من اختيار الآراء عشوائيًا دون رجوع إلى معايير سليمة.
أما طريقة الأمان الخاصة فهي اعتماد ما يرجحه الأشخاص أو المؤسسات – المتأهلة للترجيح – من الاجتهادات بناء على قوة دليله وملاءمته لظروف العصر. والغالب في مثل هذه الترجيحات بعدها عن التناقض الأصولي إذ الأغلب أنها تعتمد على مراجعة درجة الأحاديث من حيث الصحة وعدمها أو تعتمد على التفسيرات المتنوعة للعلماء أو أنها عبارة عن تقويم لبعض الآراء المختلفة المتعلقة بالمصلحة من حيث مراعاتها للظروف الراهنة.
يمكن القول بأن هذه الطريقة الثانية هي أسلم الطرق للعوام لأنها تحقق لهم استدامة حياتهم الدينية دون السقوط في تناقضات، كما أن المضي في هذا الطريق بمتابعة النشرات التي يذكر فيها أدلة الرأي الراجح مع مناقشة الآراء الأخرى مما يساعد الشخص على تنمية ثقافته الفقهية وهذا يؤدي بالطبع إلى رفع مستوى الأمة الثقافي.
ومن الواضح أنه يقع على عاتق المؤسسات الإسلامية من أمثال مجمع الفقه الإسلامي مسؤوليات كبيرة في مجال إنارة العقول المسلمة وبيان الترجيحات الفقهية التي سيتبعونها عن ثقة واطمئنان.
وبتناول الآراء المتعلقة بمسألة التزام مذهب معين ثم بمسألة التلفيق باختصار انطلاقًا من هذه التحليلات نختم بحثنا هذا.
2-
التزام مذهب معين (1)
قبل دراسة قضية التلفيق يجب تناول آراء العلماء حول مسألة التزام مذهب معين لكونها ذات صلة وثيقة بموضوع التلفيق.
بعد الإشارة مقدمًا إلى مجال الحديث هنا هو حال المكلف الذي ليس من أهل الاجتهاد، علينا أن نبين أننا نسعى للإجابة على سؤال " هل يجب على الشخص الالتزام بمذهب معين في المسائل الشرعية العملية؟ " وقد سبقت الإشارة إلى الأسس الفكرية والتاريخية التي أوجدت الحاجة إلى اتباع مذهب معين على ساحة الأفراد أو الدول. ولكننا نشاهد بعد أن وصلت أتباع المذاهب إلى درجة التعصب لها، ظهور آراء يقول أصحابها بوجوب الالتزام بمذهب معين، بل وجوب الاستمرار على هذا المذهب (حتى فوج منهم يقول بوجوب تعزير من يفارق مذهبه إلى مذهب آخر) . وفي المقابل نرى العلماء المحققين يسعون إلى إثبات فقدان دليل شرعي يوجب على من ليس من أهل الاجتهاد، التزام مذهب من المذاهب بصفة مستمرة، بل قرر هؤلاء العلماء بأن الواجب على مثل هذا الشخص سؤال من يراه أهلاً للسؤال من العلماء والتعلم منهم ومن ثم التصرف حسب أقوالهم.
3-
التلفيق
التلفيق لغة: هو خيط طرفي الثوب بضم أحدهما على الآخر. وانطلاقًا من هذا المعنى استعملت هذه الكلمة في علمي الفقه والأصول بمعنى الجمع بين الأحكام المختلفة. علاوة على هذه النقطة المتفق عليها، تجدر الإشارة إلى أن كلمة " التلفيق " يتم استعمالها في كتب الفقه والأصول في ثلاثة معان:
1-
في كتب الفقه نرى أحيانا استعمال كلمة التلفيق بمعنى الجمع بين حكمين مختلفين لا ينبثق الاختلاف من الخلافات الاجتهادية. فمثلاً يقصد هذا المعنى إذا قيل: " لا يجوز في كفارة اليمين إطعام بعض الفقراء وكسوة البعض الآخر ".
2-
وقد تطلق كلمة " التلفيق " في كتب أصول الفقه على إبداء رأي جديد في المسألة لم يقل به أحد من المجتهدين السابقين والذي يتعارض مع النقطة المشتركة للاجتهادات السابقة في تلك المسألة. ومن الواضح أن هذه القضية التي يتم تناولها غالبًا في مبحث الإجماع تحت عنوان " إحداث قول ثالث " لا تتعلق بالتقليد بل تتعلق بالاجتهاد، ويمكن تسميتها بـ " التلفيق في الاجتهاد ".
3-
وتستعمل كلمة التلفيق غالبًا في كتب الفقه والأصول بالمعنى التالي:
- العمل بالآراء الاجتهادية المتعددة مجتمعة في مسألة معينة (أو كالمجتمعة في حالة العمل برأي قبل زوال " تأثير " الآخر) بصورة مركبة لا يقول بها أي واحد من المجتهدين هؤلاء. وهذا هو المعنى الأخص للتلفيق، ويمكن تسميته بـ " التلفيق في التقليد ".
(1) انظر في هذا الموضوع وفي موضوع التلفيق: - الدهلوي، الإنصاف في بيان سبب الاختلاف، مصر 1372. - محمد بن عبد العظيم المكي، القول السديد في بعض مسائل الاجتهاد والتقليد، مصر 1412هـ – 1992م. - محمد أحمد فرج السنهوري، التلفيق بين أحكام المذاهب، مجلة البحوث. - الاجتهاد في الفقه الإسلامي) KARAMAN (Hayreddin) ، Islam Hukukun-da Ictihad، Ankara 1975
لقد بدأت المناقشة حول هذه المسألة منذ القرن السابع الهجري وتعددت الآراء حولها، فهناك من يرى عدم جوازه مطلقًا وفي مقابل ذلك ذهب بعض العلماء إلى جواز هذه الفعلة. مع ذلك نجد أن العلماء المحققين وأخص بالذكر الباحثين المعاصرين يشترطون لجواز العمل بالتلفيق مراعاة بعض القيود التي يمكن تلخيصها كما يلي:
(1)
وجود الحاجة إلى التلفيق.
(2)
عدم تعريض الحياة الدينية لتحكم الأهواء بتتبع الرخص دائمًا.
(3)
عدم الاستخدام من هذه الطريقة بغرض التحايل على القانون.
(4)
مراعاة الاحتياط في مسائل الحلال والحرام.
4-
تقويم حول التلفيق وتتبع الرخص:
إن التلفيق بمعناه الأعم يعني الاستفادة من أحكام المذاهب المختلفة وبالتالي اختيار ما هو أيسر على الشخص من اجتهادات المذاهب الفقهية أيضًا.
وإذا قيل بتجويز التلفيق معناه الأخص (بمعنى جمع اجتهادات مختلفة في مسألة واحدة بصورة مركبة لا يقرها أحد من أصحاب هذه الاجتهادات) فيكون من مقتضى الأولوية القول بتجويز هذا الأمر (أي الاستفادة من آراء المذاهب المختلفة دون إحداث حالة مركبة) ضمن الشروط المذكورة للتلفيق بمعناه الأخص.
ولكن ينبغي التنبه إلى أن احتمال عدم مراعاة الشرط المذكور في الفقرة "2" قوي جدًا. لأن العامل الموجه للشخص عند اختياره الأحكام السهلة من المذاهب المختلفة هو ميل النفس إلى الأسهل في غالب الأحيان. ولا يتم تحقيق الهدف المنشود من مبدأ التيسير في الشريعة الإسلامية إلا باستعمال هذا المبدأ موافقًا للمقاصد الكامنة وراءه (مطابقًا لما يراد الإشارة إليه بقاعدة " إذا ضاق الأمر اتسع") . أما استعمال هذا المبدأ وفق الأهواء والشهوات فيؤدي إلى إبعاده عن هدفه الأساسي، وبذلك تتحكم الرغبات والميول النفسية في الحياة الدينية.
كما ذكرنا عند بياننا الأسس التاريخية والفكرية لاتباع المذاهب إن الموضوع الذي يتحدث حوله هنا ليس مسألة الأحكام التي يستفاد منها في حل الاختلافات القضائية (القانون والتقنين) بل موضوع حديثنا هو القواعد التي لها مؤيدات أخروية فقط والتي يتبعها المسلم لينال سعادة الدنيا والآخرة، أي – باختصار – مسألة تنظيم الحياة الدينية.
ومن هذه الحالة يمكن أن نقول بأنه يجب على الشخص الاهتمام بفكرة (مبدأ) التناسق، والعلم بأنه سيخدع نفسه في الحقيقة عند عدم تقيده بالشروط الموضوعة للتلفيق، وكذلك التصرف كفقيه نفسه عند قيامه بترجيح بين العزيمة أو الرخصة كما ذكر ذلك الإمام الشاطبي.
الخاتمة
إن التنظيمات التي تهدف إلى القضاء على الاختلاف بين قواعد الحقوق المطبقة في نفس الدولة بقدر الإمكان وإلى تحقيق وحدة التشريع وبالتالي المنع من حدوث الفوضى التشريعية، وإن المبادئ والتصورات من مثل مبدأ " لا جريمة ولا عقوبة بلا نص " الذي يؤكد على لزوم معرفة الأفراد مقدمًا كيفية معاملة القانون لهم منذ ارتكابهم للأفعال التي يعتبرها القانون من الجرائم ولزوم عدم ترك هذه القضية إلى التقديرات الشخصية المتكونة عقب حدوث تلك الأفعال، وكذلك مبدأ " الحكم العادي " القائل بوجوب النظر في القضية في المحاكم العادية وليس في المحاكم الاستثنائية المشكلة بعد ارتكاب الشخص للجريمة، كل ذلك يعتبر من فروع فكرة "الأمن الحقوقي" بشكل عام. إن الفكرة الأساسية التي تعتمد عليها مثل هذه الأفكار وفكرة " دولة القانون" التي يهتم بها الباحثون في القانون العام في يومنا هذا اهتمامًا بالغًا هي فكرة المشروعية (الشرعية) . وبعبارة أخرى فإن النقطة التي تركزت فيها الجهود الفكرية للبشرية بغية توصيل القانون (الحقوق) الذي هو مجموعة القواعد المنظمة لحياة المجتمع المؤيدة بقوة الدولة إلى الصورة المثلى كانت فكرة المشروعية.
أما الشريعة الإسلامية فهي نظام لا يكتفي بتنظيم علاقات أفراد المجتمع فيما بينهم بل يتجاوز ذلك إلى تنظيم واجبات الفرد نحو خالقه. كما لا تقتصر الشريعة على دعم قواعدها بقوة الدولة بل تهدف من جانب آخر إلى الحفاظ على هذه القواعد بالمؤيدات الأخروية.
وفي هذه الحالة يمكن التحدث عن تصرفات للشخص (القيام ببعض الأفعال واجتناب بعض الأفعال الأخرى) سيحاسب عليها أمام خالقه تعالى وإن لم تكن تلك التصرفات موضوعًا للدعوى في الدنيا. ومؤيدات مثل هذه التصرفات ذات صبغة دينية.
فكما تحمل فكرة المشروعية المتعلقة بتطبيق القواعد الموضوعة قيد التنفيذ في حياة المجتمع أهمية عظمى فكذلك من المهم وجود تنظيم للأحكام المتعلقة بحياة الأفراد قائم على أساس المشروعية ومريح لضمير الفرد.
وهكذا فإن العلماء المسلمين الذين أولوا اهتمامًا كبيرًا لفكرة المشروعية، أرادوا أن يقعدوا التغيرات الحاصلة في بعض الحالات في وصف أفعال المكلف التي توصف داخل نظام معين بالفرض أو الواجب والمندوب والحرام والمكروه (أحكام العزيمة) أرادوا أن يقعدوا تلك النظريات بالفكرة نفسها ضمن نظام معين وحاولوا تكوين نظرية متعلقة بهذا الموضوع بتناول هذه الحالات في إطار مفهوم الرخصة.
ويمكن اعتبار موقف العلماء المسلمين من هذه المسألة في نفس الوقت ضرورة ونتيجة للتمسك بفكرة التناسق وعدم التناقض التي تلهمها وتوجه إليها نصوص كثيرة من مثل الآية الكريمة {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] نتيجة لاعتقادهم بأن الشريعة الإسلامية نظام يحتوي على كل فكر ولا ينطوي على تناقضات داخلية.
عندما ندرس هذه الحالات الخاصة وأحكامها نرى أنه ليس للشخص صلاحية الإخلال بأحكام الأحوال العادية مهما كانت الظروف، فمثلاً لا يجوز للشخص أن يقتل غيره لينقذ حياة نفسه. إن القيام ببعض الأفعال التي تحرم في الأحوال العادية في حالة الاضطرار (كأكل لحم الخنزير) واجب عند جمهور العلماء بينما يرى فريق من العلماء أن حالة العذر هذه لا تخرج الفعل عن كونه حرامًا بل يسقط العقوبة فقط، ولذلك فارتكاب هذا الفعل إنما هو مباح وليس بواجب، كما أوضحنا في بحثنا هذا فإن هناك اختلافًا في تقويم بعض الحالات الواقعية وتطبيق المبادئ على الأحداث كهذا الاختلاف وأمثاله.
من الممكن اعتبار التزام مذهب معين لشخص ليست عنده القدرة على الاطلاع على أدلة الأحكام وتقويمها، يمكن اعتباره طريقة أكثر أمانًا لتحقيق انتظام الحياة الدينية وتناسقها لدى ذلك الشخص. إلا أن العلماء المحققين لم يروا بأسًا بتطبيق أحكام مذاهب مختلفة عند الحاجة إلى ذلك دون أن يؤدي ذلك إلى تصرف الأشخاص حسب أهوائهم ومع الأخذ بعين الاعتبار مبدأ الأخذ بالأحوط في مسائل الحرام. إن هناك وظائف هامة تقع على عاتق الأشخاص والمؤسسات التي تتولى القيام بعملية الإفتاء وواجب البحث الإسلامي من حيث القيام بالتوصيات اللازمة وإنارة أفكار المجتمعات الإسلامية وذلك بالتوصل إلى الآراء التي تستجيب لحاجات المجتمع حسب ظروف الحياة المعاصرة أحسن استجابة والأكثر موافقة لمقاصد الشارع والأقوى دليلاً للوجوه المذكورة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
سعادة الدكتور إبراهيم كافي دونمز
كلية الإليهات – جامعة مرمرة – استنبول
المراجع
* ابن عاشور (محمد الطاهر)
- مقاصد الشريعة الإسلامية، تونس، 1978.
* أبو النور زهير (محمد)
- أصول الفقه، القاهرة، 1412 – 1992.
* الآمدي (سيف الدين)
- الإحكام في أصول الأحكام، القاهرة، 1968.
* البخاري (عبد العزيز)
- كشف الأسرار، استانبول، 1308 هـ.
* البزدوي (علي بن محمد)
- كنز الوصول إلى علم الأصول، استانبول، 1308هـ.
* الدهلوي (أحمد بن عبد الرحيم)
- حجة الله البالغة، 1322 هـ. (المطبعة الخيرية) .
- الإنصاف في بيان سبب الاختلاف، مصر 1372.
* الزحيلي (وهبة) .
- نظرية الضرورة الشرعية، بيروت، 1402 – 1982.
* السرخسي (شمس الأئمة)
- أصول السرخسي، تحقيق: أبو الوفاء الأفغاني، حيدر أباد، 1372 هـ.
* سليم (محمد حسني إبراهيم)
- الرخص وأسباب الترخيص في الفقه الإسلامي، القاهرة، 1407 – 1987.
* الشاشي (أبو علي) .
- أصول الشاشي، بيروت، 1402 – 1982.
* الشاطبي (أبو إسحق إبراهيم بن موسى) . - الموافقات في أصول الشريعة، دون تاريخ (المطبعة الرحمانية) .
* الطوفي (نجم الدين)
- شرح مختصر الروضة، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، بيروت، 1402 – 1982.
* الغزالي (محمد بن محمد)
- المستصفى من علم الأصول، مصر، 1324 هـ.
* محمد أحمد فرج السنهوري
- التلفيق بين أحكام المذاهب، مجلة البحوث.
* محمد بن عبد العظيم المكي
- القول السديد في بعض مسائل الاجتهاد والتقليد، مصر 1412 هـ – 1992 م.
* محمصاني (صبحي)
- مقدمة في احياء علوم الشريعة، بيروت، 1962.
* موسوعة الفقه الإسلامي، مادة " الاضطرار "، 14 / 61 – 105، مصر 1975.
* الموسوعة الفقهية، مادة " الرخصة "، 22/ 151 – 165، الكويت 1412 – 1992.
* النملة (عبد الكريم بن علي بن محمد)
- الرخصة الشرعية وإثباتها بالقياس، الرياض، 1410 هـ.
- (الاجتهاد في الفقه الإسلامي)
KARAMAN (Hayredding) ، Islam Hukukunda Ictihad، Ankara 1975.