الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103]
ويكون المعنى: وَما أرسلنا من رسول ولا نبي، إِلا إذا تمنى هذه الأمنية السامية ألقى الشيطان في سبيله العثرات، وأقام بينه وبين مقصده العقبات ووسوس في صدور الناس، فثاروا في وجهه، وجادلوه بالسلاح حينًا وبالقول حينًا آخر، فإذا ظهروا عليه والدعوة في بدايتها. ونالوا منه وهو قليل الأتباع، ظنوا أن الحق في جانبهم، وقد يستدرجهم الله جريًا على سنته، يجعل الحرب بينهم وبين المؤمنين سِجالاً، فينخدع بذلك الذين في قلوبهم شك ونفاق، ولكن سرعان ما يمحق الله ما ألقاه الشيطان من الشبهات، وينشىء من ضعف أنصار الحق قوة، ومِن ذُلهم عزة، وتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى ليعلم الذين أوتوا العلم أن ما جاء به الرسل هو الحق، فتُخبت له قلويهم، وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم. هذا هو الحق: وما عدا ذلك فهو باطل.
تفسير رائع للعلامة الشنقيطي
لقد فسر العلامة محمد الأمين الشنقيطي الآية تفسيرًا رائعًا فقد ذكر في تفسيره: ونحن وإن ذكرنا أن قوله: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} [الحج: 52] يُستأنس به لقول من قال: إن مفعول الإلقاء المحذوف تقديره: ألقى الشيطان في قراءته ما ليس منها، لأن النسخ هنا هو النسخ اللغوي، ومعناه الِإبطال والِإزالة من قولهم: نسخت الشمس الظل، ونسخت الريح الأثر، وهذا كأنه يدل على أن الله ينسخ شيئًا ألقاه الشيطان، ليس مما يقرؤه الرسول أو النبي، فالذي يظهر لنا أنه الصواب وأن القرآن يدل عليه دلالة واضحة، وإن لم ينتبه له من تكلم على الآية من المفسرين: هو أن ما يلقيه الشيطان في قراءة النبي الشكوك والوساوس المانعة من تصديقها وقبولها، كإلقائه عليهم أنها سحر أو شعر، أو أساطير الأولين، وأنها مفتراة على الله ليست منزلة من عنده.
والدليل على هذا المعنى: أن الله بين أن الحكمة في الإِلقاء المذكور امتحان الخلق، لأنه قال:{لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [الحج: 53]
ثم قال: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} فقوله: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ} الآية:
يدل على أن الشيطان يُلقي عليهم: أنه الذي يقرؤه النبي ليس بحق فيصدقه الأشقياء، ويكون ذلك فتنة لهم، ويكذبه المؤمنون الذين أوتوا العلم، ويعلمون أنه الحق لا الكذب كما يزعم لهم الشيطان في إلقائه.
فهذا الامتحان لا يناسب شيئًا زاده الشيطان من نفسه في القراءة، والعلم عند الله تعالى. وعلى هذا القول، فمعنى نَسخُ ما يلقي الشيطان: إزلته وإبطاله، وعدم تأثيره في المؤمنين الذين أوتوا العلم.
ومعنى يُحكم آياته: يُتقنها بالإحكام، فيُظهر أنها وحي منزل منه بحق، ولا يؤثر في ذلك محاولة الشيطان صدَّ النَاس عنها بإلقائه المذكور، وما ذكره هنا من أنه يسلط الشيطان فيلقي في قراءة الرسول والنبي، فتنة للناس ليظهر مؤمنهم من كافرهم. بذلك الامتحان، جاء موضحًا في آيات كثيرة قدمناها مرارًا كقوله:
وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة: 143]
وقوله: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} [الإسراء: 60] أي لأنها فتنة، كما قال:
{أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} الآية [الصافات: 62 - 63 - 64]
لأنه لما نزلت هذه الآية قالوا: ظهر كذب محمد صلى الله عليه وسلم لأن الشجر لا ينبت في الموضع اليابس، فكيف تنبت شجرة في أصل الجحيم إلى غير ذلك من الآيات، كما تقدم إيضاحه مرارًا، والعلم عند الله تعالى.
واللام في قوله: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} الآية.
الأظهر أنها متعلقة بألقى أي ألقى الشيطان في أمنيَّة الرسل والأنبياء، ليجعل الله ذلك الِإلقاء فتنة للذين في قلوبهم مرض، خلافًا للحوفي القائل: إنها متعلقة بـ (يُحكِم)، وابن عطيه القائل: إنها متعلقة بـ (ينسخ).
ومعنى كونه: فتنة لهم أنه سبب لتماديهم في الضلال والكفر.
وقوله: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [الحج: 53]
أي كفر وشك. [انظر أضواء البيان ج 5/ 732]
من فوائد الآية
1 -
إلقاء الشيطان في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم الشكوك والوساوس المانعة من تصديقها وقبولها، كإلقائه على الكفرة أنها سحر أو شعر أو أساطير الأولين، وأنها مفتراة على الله، كما ذكر القرآن ذلك كله، ورَدَّ هذه الشبهات كلها.
2 -
الأنبياء عليهم السلام كلهم يتمنون إيمان قومهم، ولكن الشياطين تضع العراقيل والعقبات والوساوس في صدور الناس، وهذه الوساوس جعلها الله اختبارًا للذين في قلوبهم مرض وشك، فيجازيهم على أعمالهم، وليعلم الله في هذا الاختبار المؤمنين بالحق، ويهديهم إلى صراط مستقيم.
3 -
بيان سنة الله في إلقاء الشيطان في قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم أو النبي للفتنة.
4 -
بيان أن الفتنة يهلك فيها مرضى القلوب وقساتها، ويخرج منها المؤمنون أكثر يقينًا وأعظم هدىً.
5 -
بيان حكم الله تعالى بين عباده يوم القيامة بإكرام أهل الإِيمان والتقوى وإهانة أهل الشرك والمعاصي. [الفوائد الأخيرة مأخوذة من كتاب أيسر التفاسير لأبي بكر الجزائري ج 3/ 171]