الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أسباب الإنحراف عن المسيرة الإسلامية
وبعد فإنه على الرغم من قوة تيار الكفر والضلال الذي يحاول أن يسوق أمتنا بعصاه، ويلقي بها في مهاوي الضياع والفناء، وعلى الرغم من محاولة أنصار الجاهلية الحديثة جهدهم وتجميعهم جندهم ليقطعوا هذه الأمة الإِسلامية العريقة عن عقيدتها، ويجتثوا إسلامها من حياتها فإن هناك بصيصاً من النور، ورفيفاً من الأمل يلمحه المراقب للأحداث متمثلاً في ذاك التيار الوليد الذي يحبو ويحاول الحركة، ويتلمس الطريق كي يصدَّ ذاك التيار الأهوج المدمر، ويرده على أعقابه وينقذ البلاد والعباد من آثاره وأخطاره. وما ذاك التيار الحبيب إلا هذه البراعم الندية، والزهرات المتفتحة هنا وهناك من الشباب المسلم المؤمن الذي فتح عينيه على الحياة، واستيقظ على صيحات بعض الدعاة والمصلحين الذين حركوا فيه الغيرة والحمية وأثاروا فيه العاطفة الدينية والنفس الأبية، ويحاول هؤلاء الشباب أن ينهضوا بالأمة بعد طول تأخر، وينقذوها من الأعداء والأخطار، فيسعون جادين مخلصين، ويدأبون غير هيابين ولا وجلين، لكنهم سرعان ما يُفاجاون بأنهم ما يزالون في مكانهم، وأنهم قد رجعوا بعد طول سير وشدة نصَب إلى موضعهم الذي كانوا قد انطلقوا منه وغادروه، فيأسفون لذلك ويحزنون، وييأس بعضهم فيقعد، ويعيد الكرة ويسعى من جديد آخرون ويجرب هؤلاء ويعملون.
* إن نجاح المسيرة الإسلامية يتحقق بأمرين:
الأول: الهداية إلى الصراط المستقيم، وذلك بالتعرف عليه ومعرفة حدوده
وأبعاده. وقد شرع الله لنا أن ندعوه دائماً كي يهدينا إلى الصراط المستقيم، فنحن دائماً نردد في صلاتنا وفي خارج صلاتنا.
{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [سورة الفاتحة، آية 6، 7]
وكان المعصوم صلى الله عليه وسلم عندما يقوم من الليل يسأل ربه الهداية قائلاً: "اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون. اهدني لما اختلف فيه مِن الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم". [رواه مسلم من حديث عائشة]
الثاني: إتباع هذا الصراط المستقيم وعدم الميل عنه يميناً أو شمالًا.
[سورة الأنعام، آية 153]
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً، ثم قال: هذا سبيل الله، ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن شماله، وقال: هذه سبل، على كلل سبيل منها شيطان يدعو إليه، وقرأ:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} . [رواه أحمد والحاكم وصححه وأقرَّة الذهبي]
ووضح هذا بمثال فقال صلى الله عليه وسلم: "ضرب الله تعالى مثلاً صراطاً مستقيماً، وعلى جنبتي الصراط سوران، فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعاً ولا تتعرجوا، وداع يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد الإِنسان أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه، فالصراط الإِسلام، والسوران حدود الله تعالى، والأبواب المفتحة محارم الله تعالى، وذلك الداعي على رأس الصراط المستقيم كتاب الله، والداعي من فوق واعظ الله في قلب كل مسلم".
[رواه أحمد والحاكم بسند صحيح من حديث النواس بن سمعان]
والإستقامة على الطريق أمر في غاية المشقة والصعوبة، ذلك أن النفس البشرية أمارة بالسوء، والدنيا مليئة بالمغريات وشياطين الإِنس والجن، كل ذلك يحاول أن يحرف المسيرة ويحرف العاملين بها عن الدرب القويم.
لذلك كانت أشق آية أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم كما يقول ابن عباس: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [سورة هود، آية 112]
فانحراف المسيرة يأتي من أحد هذين الأصلين، إما من جهل الصراط وعدم العلم به وهذا هو الضلال، ومن هنا أتى النصارى الذين سماهم الله بـ (الضالين) إذ عبدوا الله على جهل، وإما أن يأتي من عدم الاستقامة عليه واتباعه مع العلم به، وهذا حال اليهود الذين يعرفون الحق ولا يتبعونه؛ ولذلك سماهم الله (المغضوب عليهم)
وأما حال الذين أنعم الله عليهم فهو معرفة الحق واتباعه:
{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [سورة الفاتحة، الآيتين 6، 7]
عن علي رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قل اللهم اهدني وسدِّدْني واذكر (1) بالهدى هدايتك الطريق، والسداد سداد السهم". [رواه مسلم]
أيها الأخوة: إن من نعمة الله علينا أن الصراط المستقيم الذي ينبغي لنا أن نسلكه واضحة معالمه معروفة حدوده محفوظ في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. يقول المصطفى صلوات الله وسلامه عليه: "تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يرِدا عليَّ الحوض". [رواه الحاكم بسند صحيح]
وهذا الدرب لم ولن يخلو من السالكين مصداقاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم مَن خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك". [رواه مسلم والترمذي]
فالصراط المستقيم محفوظة تعاليمه في الكتب وفي الصدور، فإذا طلبنا في هذا الطريق القويم فإننا سنهتدي بحول الله وقوته وسنصل إلى الهدف المنشود إن شاء الله:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [سورة العنكبوت، آية 69]
* فمن أسباب الإنحراف:
أ - اعتماد أصول غير إسلامية
فمن ذلك اعتماد كثير من الكتاب ورجال الدعوة والفكر على الأحاديث الضعيفة والموضوعة.
(1) تذكر ذلك يا علي في حالة دعائك هذا المعنى.
وقد أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بالتثبت فيما نروي فقال: "مَن حدث عني بحديث يُرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين". [رواه مسلم]
"كفى بالمرء إثماً أن يُحدَّث بكل ما سمع". [رواه أبو داود والحاكم بسند صحيح من حديث أبي هريرة]
وعليه: كفى بالمرء إثماً أن يعمل بكل ما سمع.
فالحديث الضعيف إنما يفيد الظن المرجوح بلا خلاف بين العلماء.
وإذا كان كذلك فكيف يقال يجوز العمل به والله عز وجل قد ذمه في غير ما آية من كتابه:
{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [سورة النجم، آية 28]
"إياكم وَالظن فإن الظن أكذب الحديث". [متفق عليه من حديث أبي هريرة]
ب - اعتماد المنهج الفلسفي الكلامي في إرساء العقيدة
وعمدة المنهج الفلسفي الكلامي نظريات عقلية وأصول فلسفية.
وهذا المنهج يختلف مع المنهج الرباني القرآني في طريقة الإستدلال.
فالإستدلال القرآني أساسه الوحي والإِيمان بالرسالة، والغاية التي يدعو إليها المنهج القرآني عبادة الله، وعبادته متضمنة لمعرفته وتوحيده، أما عمدة المنهج الفلسفي فهي تلك النظريات والأقيسة التي جعلوها أصولًا للعقائد، وهذه الأدلة سبيلها وعر لا يسهل الإرتقاء إليه وقد ينقطع السالك قبل الوصول إلى مراده.
قد اقتضت الأقيسة الباطلة رفض الكتاب والسُّنَّة فردّوا كثيراً من الأسماء والصفات. وأكثر الكتب التي الفت بعد القرون الثلاثة كلها تسير على هذا المنهج الكلامي والفلسفي، ولا تزال هذه الكتب تُدرَّس إلى يومنا هذا ويتخرج عليها رجال في الجامعات فتؤثر فيهم أثراً كبيراً.
جـ - الإشتغال بالبدع:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وكُل بدعة ضَلالة وكل ضلالة في النار". [رواه مسلم]
"مَن أحدث في أمرنا هذا ما لَيس منه فهو رَد". [متفق عليه من حديث عائشة]
قال بعض السلف: كل عبادة لم يتعبدها أصحاب رسول الله فلا تتعبدوها. وقال حسان بن عطية المحاربي: "ما ابتدع قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سنتهم مثلها ثم لا يعيدها إليهم إلى يوم القيامة". [رواه الدارمي بسند صحيح]
وقال ابن مسعود: "كم من مريد للخير لم يبلغه". [رواه الدارمى بسند صحيح]
فهذا معناه أن النية وحدها لا تكفي لتصحيح الفعل، بل لابد أن يضاف إلى ذلك التقيد بالمشروع.
وقد يقول قائل: هل معرفة البدع التي أُدخلت في الدين أمر هام؟
والجواب:
نعم لأنه لا يتم للمسلم التقرب إلى الله إلا باجتنابها، ولا يمكن ذلك إلا بمعرفتها وإلا وقع في البدع وهو لا يشعر.
ومثل ذلك معرفة الشرك وأنواعه، فإن من لا يعرف ذلك وقع فيه كما هو مثاهد من كثير من المسلمين الذين يتقربون إلى الله بما هو شرك: كالنذر للأولياء والصالحين والحلف بهم والطواف بقبورهم وبناء المساجد عليها وغير ذلك مما هو معلوم شركه عند أهل العلم.
لذلك فلا يكفي في التعبد الاقتصار على معرفة السنة فقط بل لابد من معرفة ما يناقضها من البدع، كما لا يكفي في الإِيمان التوحيد، دون معرفة ما يناقضه من الشركيات، وإلى هذه الحقيقة أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:
"مَن قال لا إله إلا الله، وكفر بما يُعبد مِن دون الله، حرُم ماله ودمه وحسابه على الله". [رواه مسلم]
فلم يكتف عليه السلام بالتوحيد، بل ضم إليه الكفر بما سواه، وذلك يستلزم معرفة الكفر، وإلا وقع فيه وهو لا يشعر، وكذلك القول في السنة والبدعة ولا فرق، ذلك لأن الإِسلام قام على أصلين عظيمين:
1 -
أن لا نعبد إلا الله.
2 -
وأن لا نعبده إلا بما شرع.
فثبت مما تقدم أن معرفة البدع أمر لابد منه، لتسلم عبادة المؤمن من البدع التي تنافي التعبد الخالص لله تعالى، فالبدع من الشر الذي يجب معرفته لا لِإتيانه، بل
لاجتنابه على حد قول الشاعر:
عرفت الشر لا للشر
…
ولكن لِتوَقيه
ومن لا يعرف الشر
…
من الخير يقع فيه
وهذا المعنى مستقى من السنة:
فقد قال حذيفة بن اليمان: "كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أساله عن الشر مخافة أن يدركني. فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؛ قال: نعم. قلت: هل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن. قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يستنون بغير سنتي ويهدون بغير هدي، تعرف منهم وتنكر. فقلت: هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها". [متفق عليه]
[دخن: فساد واختلاف][إعداد لفيف من العلماء]