الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2-تفاضل أهل الإيمان فيه:
قال تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابق بالخيرات بإذن الله} (1) فقسم الله تَعَالَى النَّاجِينَ مِنْهُمْ إِلَى مُقْتَصِدِينَ وَهُمُ الْأَبْرَارُ أَصْحَابُ الْيَمِينِ الَّذِينَ اقْتَصَرُوا عَلَى الْتِزَامِ الْوَاجِبَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ فَلَمْ يَزِيدُوا عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ ينقصوا منه، وإلى سابق الخيرات وهم المقربون الذين تقربوا إليه بالنوافل بعض الْفَرَائِضِ وَتَرَكُوا مَا لَا بَأْسَ بِهِ خَوْفًا مما به بأس، وَأَمَّا الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ فَفِي الْمُرَادِ بِهِ عَنِ الصَّالِحِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْكَافِرُ، فَيَكُونُ كَقَوْلِ اللَّهِ عز وجل فِي تَقْسِيمِهِمْ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ عِنْدَ الْبَعْثِ {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً *فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ *وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ*وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ*أُولَئِكَ المقربون} (2) إلى الآيات، وقسمهم عند الاحتضار كذلك فقال:{فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ*فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ*وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ*فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ*وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ*فَنُزُلٌ مِنْ حميم*وتصلية جحيم} (3) .
والقول الثاني أن المراد له عُصَاةُ الْمُوَحِّدِينَ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ، وَلَكِنْ ظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٍ، لَا يَخْرُجُ مِنَ الدِّينِ وَلَا يخرج من النَّارِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قِسْمٌ ثَالِثٌ فِي تُفَاضِلِ أَهْلِ الْإِيمَانِ. وَرَجَّحَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ القيم رحمه الله تعالى (4) .
(1) فاطر: 32.
(2)
الواقعة: 7-11.
(3)
الواقعة: 88-94.
(4)
وفي صحيح سنن الترمذي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال في هذه الآية {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفيناه من عبادنا
…
} قال: (هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة وكلهم في الجنة) حديث 4577ج3ص96.
وقد قمنا أحاديث الشفاعة التي دلت على أن العصاة يخرجون بالشفاعة من النار على مرات فيخرج أولاً أكثرهم إيماناً ثم الذين يلونهم حتى لا يبقى في النار إلا من خلت قلوبهم من الإيمان. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ النَّاسَ عُرِضُوا عَلَيَّ وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ، فمنها ما يبغ الثدي، ومنها ما يبغ دُونَ ذَلِكَ، وَعُرِضَ عَلَيَّ عُمَرُ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ يَجُرُّهُ. قَالُوا: فَمَا أَوَّلْتَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (الدِّينَ) . وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: أَدْرَكْتُ ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ، مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ. ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا مَجْزُومًا بِهِ. وَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم:(مليء عَمَّارٌ إِيمَانًا إِلَى مُشَاشِهِ (1)) (2) وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ)(3)، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: لَوْ وُزِنَ إِيمَانُ أَبِي بَكْرٍ بِإِيمَانِ أَهْلِ الْأَرْضِ لَرَجَحَ.
وقال فضيل: يقول أهل البدع: الإيمان بالإقرار بِلَا عَمَلٍ، وَالْإِيمَانُ وَاحِدٌ وَإِنَّمَا يَتَفَاضَلُ النَّاسُ بالأعمال ولا يتفاضلون بالإيمان. قال: فمن خالف ذَلِكَ فَقَدْ خَالَفَ الْأَثَرَ، وَرَدَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَوْلَهُ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: (الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَفْضَلُهَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عن
(1) يعنى اختلاط الإيمان بلحمه ودمه وعظمه وامتزاج بسائر أجزائه امتزاجاً لا يقبل التفرقة فلا يضره الكفر حين أكرهه عليه كفار مكة بضروب العذاب. فيض القدير ج6 ص4. والمُشاش كل عظم لا مخ فيه يمكنك تتبعه. وقال الجوهري: هي رءوس العظام اللينة التي يمكن مضغها. لسان العرب ص 4208.
(2)
صحيح. صحيح الجامع الصغير 5764.
(3)
رواه مسلم في الإيمان، باب كون النهي عن المنكر من الإيمان. وانظر صحيح مسلم بشرح النووي ج2ص21-25.
الطريق والحياء شعبة من الإيمان) (1) .
ومن أدلة التفاضل في الإيمان ما رواه ابن أبي عاصم في السنة عن حذيفة ابن الْيَمَانِ رضي الله عنه قَالَ: (الْقُلُوبُ أَرْبَعَةٌ: قَلْبٌ أَجْرَدُ كَأَنَّمَا فِيهِ سِرَاجٌ يُزْهِرُ، فَذَلِكَ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ. وَقَلْبٌ أَغْلَفُ فَذَلِكَ قَلْبُ الْكَافِرِ. وَقَلْبٌ مُصْفَحٌ فَذَلِكَ قَلْبُ الْمُنَافِقِ. وَقَلْبٌ فِيهِ إِيمَانٌ وَنِفَاقٌ وَمَثَلُ الْإِيمَانِ فِيهِ كَمَثَلِ شَجَرَةٍ يَسْقِيهَا مَاءٌ طَيِّبٌ، وَمَثَلُ النِّفَاقِ فِيهِ كَمَثَلِ قرحة يمدحها قيح ودم فأيهما غلب عليه غلبه)(2) .
وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ أَنَّ النَّاسَ مُتَفَاوِتُونَ فِي الدِّينِ بتفاوت الإيمان في قلوبهم بل والله يتفاوتون ويتفاوضون فِي عَمَلٍ وَاحِدٍ يَعْمَلُهُ كُلُّهُمْ فِي آنٍ وَاحِدٍ وَفِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ الْجَمَاعَةَ فِي الصَّلَاةِ صَافُّونَ كُلُّهُمْ فِي رَأْيِ الْعَيْنِ، مُسْتَوُونَ فِي الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَالْخَفْضِ وَالرَّفْعِ، وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ، وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ، وَالتِّلَاوَةِ وَسَائِرِ الْأَذْكَارِ وَالْحَرَكَاتِ والسكنات، في مسجد واحد
(1) رواه البخاري في الإيمان باب أمور الإيمان بلفظ: (الإيمان بضع وستون شعبة والحياء شعبة من الإيمان) ومسلم في الإيمان، باب بيان شعب عدد الإيمان وانظر الفتح ج1 ص67، شرح النووي ج2 ص3-6.
(2)
وصححه ابن القيم في إغاثة اللهفان عن حذيفة موقوفاً وفيه تسمية قلب المنافق الخالص بالقلب المنكوس. إغاثة اللهفان ج1 ص12. وقال المؤلف - الشيخ حافظ رحمه الله وَهَذَا الْمَوْقُوفُ قَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ حَسَنٍ، وذكر رواية الإمام أحمد له عن ابن سعيد الخدري رضي الله عنه مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بإسناد جيد حسن، وذكر رواية الإمام أحمد له عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه مرفوعاً، وفيه تسمية القلب الذي فيه إيمان ونفاق بالقلب المصفح، وتسمية قلب المنافق بالقلب المنكوس. وصحح الألباني الموقوف وقال: وقد خالفه ليث وهو ابن أبي سليم فقال عن عمر بن مرة عن أبي البختري عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره، وليث ضعيف لاسيما إذا خالف الثقات. انظر تحقيق كتاب الإيمان لابن أبي شيبة ص 17.