الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إليه حاجة مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ، فَنَحْنُ قَائِلُونَ مُصَدِّقُونَ بِمَا فِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ مِنْ ذِكْرِ النُّزُولِ كَمَا يَشَاءُ رَبُّنَا وَعَلَى مَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ عز وجل غير مكلفين القول بصفته أو بصف الكيفية، بل نقف عند النصوص لا نعدوها ولا نقصر عنها، وقد تكلف جماعة فخاضوا في معنى ذلك، وفي الانتقال أو عدمه وفي خلو العرش منه سبحانه نَفْيًا وَإِثْبَاتًا، وَذَلِكَ تَكَلُّفٌ مِنْهُمْ وَدُخُولٌ فِيمَا لَا يَعْنِيهِمْ، وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ التَّكْيِيفِ لَمْ يَأْتِ فِي لَفْظِ النُّصُوصِ وَلَمْ يَسْأَلِ الصَّحَابَةُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حِينَ حَدَّثَهُمْ بِالنُّزُولِ، فَنَحْنُ نُؤْمِنُ ونصدق به كما آمنوا وصدقوا، فإن قال مُتَنَطِّعٌ: يَلْزَمُ مِنْ إِثْبَاتِ كَذَا كَيْتَ وَكَيْتَ، قُلْنَا لَهُ: أَنْتَ لَا تُلْزِمُنَا نَحْنُ فِيمَا تَدَّعِيهِ وَإِنَّمَا تُلْزِمُ قَائِلَ ذَلِكَ وَهُوَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَازِمًا لِمَا قَالَهُ حَقِيقَةً وَجَبَ الْإِيمَانُ بِهِ، إِذْ لَازِمُ الْحَقِّ حَقٌّ، وَإِنْ لَمْ يكن ذَلِكَ لَازِمًا لَهُ فَأَنْتَ مُعْتَرِضٌ عَلَى النَّبِيِّ =ما قَالَهُ حَقِيقَةً وَجَبَ الْإِيمَانُ بِهِ، إِذْ لَازِمُ الحق حق، وإن لم يكن ذَلِكَ لَازِمًا لَهُ فَأَنْتَ مُعْتَرِضٌ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَاذِبٌ عَلَيْهِ مُتَقَدِّمٌ بين يديه، فخير لك عدم الخوض فيما لا تعلمه، ونحن لا نعلم كيفية صفاته تعالى فلا نستطيع أن نجعل لوازمها في حق البشر لازمة في حقه تعالى.
25-إثبات أنه تعالى يرى في الآخرة الجنة:
-قال تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (1)، وَقَالَ تَعَالَى فِي شَأْنِ الْكُفَّارِ:{كَلَّا إِنَّهُمْ عن ربهم يومئذ لمحجوبون} (2) ، وقال تعالى {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} (3) والمراد بالزيادة رؤيته تعالى كما سيأتي في الحديث الصحيح إن شاء الله تعالى.
-وأما الأدلة من السنة، فمنها ما رواه مُسْلِمٍ عَنْ صُهَيْبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ يَقُولُ اللَّهُ عز وجل:
(1) القيامة: 22، 23.
(2)
المطففين: 15.
(3)
يونس: 26.
تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا، أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنْجِنَا مِنَ النَّارِ؟) قَالَ:(فَيُكْشَفُ الْحِجَابُ فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ) ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ {لِلَّذَيْنِ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وزيادة} (1) .
وفي الصحيحين عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَنَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ فَقَالَ: (إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ عِيَانًا كَمَا تَرَوْنَ هَذَا (2) لَا تُضَامُونَ (3) في رؤيته فإن استطعتم ألا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَصَلَاةٍ قبل غروبها فافعلوا) وَفِيهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أن أناساً قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (هَلْ تُضَارُّونَ (4) فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ ليلة البدر؟) قالوا: لا، قال:(فإنكم ترونه كذلك) .
(1) قال النووي رحمه الله: (هذا الحديث هكذا رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم من رواية حماد بن سلمة عن ثابت عن ابن أبي ليلة عَنْ صُهَيْبٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ أبو عيسى الترمذي وأبو مسعود الدمشقي وغيرهما: لم يروه هكذا مرفوعاً عن ثابت غير حماد بن سلمة ورواه سليمان بن المغيرة وحماد بن زيد وحماد بن واقد عن ثابت ابن أبي ليلة من قوله ليس فيه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ولا ذكر صهيب. وهذا الذي قاله هؤلاء ليس بقادح في صحة الحديث فقد قدمناه في الفصول أن المذهب الصحيح المختار الذي ذهب إليه الفقهاء وأصحاب الأصول والمحققون من المحدثين وصححه الخطيب البغدادي أن الحديث إذا رواه بعض الثقات متصلاً وبعضهم مرسلاً أو بعضهم مرفوعاً حكم المتصل وبالمرفوع لأنهما زيادة ثقة وهي مقبولة عند الجماهير من كل الطوائف والله أعلم) . صحيح مسلم بشرح النووي جـ 3 ص17.
(2)
هذا من تشبيه الرؤية بالرؤية لا المرئي بالمرئي فليس من التشبيه المنهي عنه.
(3)
تضامُون وتضامُّون بالتشديد والتخفيف، بالتشديد من الضم ومعناه تُزاحمون، وبالتخفيف من الضَّيم: أي لا يظلم بعضكم بعضاً. انظر لسان العرب ص2629.
(4)
يُحكى بالتشديد (تضاروُّن) وبالتخفيف (تضارُون) ، وبالتشديد معناه تختلفون وتتجادلون، وبالتخفيف من ضاره يضيره ضيراً: أي ضره. انظر النهاية جـ3 ص82.
وأما المنقول عن الصحابة في ذلك فمنه أن أبا بكر رضي الله عنه قرأ {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (1) فَقَالُوا مَا الزِّيَادَةُ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ تبارك وتعالى (2) . وَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: مِنْ تَمَامِ النِّعْمَةِ دُخُولُ الْجَنَّةِ وَالنَّظَرُ إِلَى وَجْهِ الله تبارك وتعالى في جنته.
وَقِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: كُلُّ مَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ يَرَى رَبَّهُ عز وجل؟ قال: نعم.
-وأما المنقول عن التابعين فمنه ما نقل عن سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أبي ليلى وعكرمة ومجاهد وقتادة والسدي وكعب وغيرهم رحمهم الله تعالى أنهم قالوا: الزِّيَادَةُ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ عز وجل.
-وأما طبقة الأئمة الأربعة وغيرهم من الأئمة والعلماء فقد نقل عن مالك ابن أنس رحمه الله أنه قال: النَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَى رَبِّهِمْ عز وجل يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَعْيُنِهِمْ وَسُئِلَ رحمه الله عَنْ قَوْلِهِ عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا ناظرة} (3) أَتَنْظُرُ إِلَى اللَّهِ عز وجل؟ قَالَ: نَعَمْ. قال أشهب: إِنَّ أَقْوَامًا يَقُولُونَ: تَنْظُرُ مَا عِنْدَهُ قَالَ: بل تنظر إليه نظراً. وقال الأوزاعي رحمه الله: إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَحْجُبَ اللَّهُ عز وجل جَهْمًا وَأَصْحَابَهُ عَنْ أَفْضَلِ ثَوَابِهِ الَّذِي وَعَدَهُ اللَّهُ أَوْلِيَاءَهُ حِينَ يَقُولُ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} فَجَحَدَ جَهْمٌ وَأَصْحَابُهُ أَفْضَلَ ثَوَابِهِ الَّذِي وَعَدَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَوْلِيَاءَهُ. وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: مَنْ لَمْ يَقُلْ إِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ يُرَى فِي الجنة فهو جهمي. وقال الشافعي رحمه الله وَقَدْ جَاءَتْهُ رُقْعَةٌ مِنَ الصَّعِيدِ فِيهَا: مَا تَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {كَلَّا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} (4) ؟ فقال رحمه الله: لما أن حجب
(1) يونس: 26.
(2)
صححه الألباني عنه، تخريج السنة 473، 474.
(3)
القيامة: 22، 23.
(4)
المطففين: 15.
هَؤُلَاءِ فِي السُّخْطِ كَانَ فِي هَذَا دَلِيلٌ على أن أولياءه يرونه في الرضا. وقال المزني: سمعت الشافعي يَقُولُ فِي قَوْلِهِ عز وجل: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} : فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ تبارك وتعالى يوم القيامة.
وسئل أحمد رحمه الله: أَلَيْسَ رَبُّنَا تبارك وتعالى يَرَاهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ؟ أَلَيْسَ تَقُولُ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ؟ قَالَ أَحْمَدُ: صَحِيحٌ. وقال رحمه الله فِي قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} وَلَا يَكُونُ حِجَابٌ إِلَّا لِرُؤْيَةٍ، أَخْبَرَ اللَّهُ سبحانه وتعالى أَنَّ من شاء الله ومن أراد أن يراه والكفار لا يرونه.
*بيان أنه لا تعارض بين ما ثبت في رؤية الله عز وجل وقوله تعالى: {لا تدركه الأبصار} (1) أو قوله لموسى {لن تراني} (2) :
لا منافاة بين الرؤية المثبتة وبين هاتين الآيتين، فإن الإدراك غير الرؤية، فالإدراك يعني الإحاطة، أما الله تعالى فلا تحيط به الرؤية كما لا يحيط به العلم {ولا يحيطون به علماً} (3)، وإن كان سبحانه يرى في الجنة. والبعض يجعل قوله تعالى:{لا تدركه الأبصار} بمعنى لا تراه، أي في الدنيا (4) . أما قوله تعالى لموسى لما قَالَ:{رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تراني} فهذا في الدنيا وإلا
(1) الأنعام: 103.
(2)
طه: 110.
(3)
طه: 110.
(4)
ولعلّ الأول أقرب، إذ أن سياق الآية أقرب إلى تقرير صفة لازمة له سبحانه، بخلاف قوله تعالى لموسى:{لن تراني} ، فلم يقل لن أرى أو لا أرى، كما قال هنا:{لا تدركه الأبصار} وذلك لأن المقصود ليس تقرير أن الله لا يرى وإنما نفى ذلك في الدنيا: والله أعلم. ومن استخدام= = (لن) للنفي في الدنيا قوله تعالى: {ولن يتمنوه أبداً} [البقرة: 95] أي الموت مع أنه عز وجل قال: {ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك} [الزخرف:77] فالمراد نفي ذلك في الدنيا. انظر شرح الواسطية للشيخ محمد خليل هراس ص73.