الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فيقول كما ذكر القرآن ذلك على لسانه: «رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ» (128 البقرة) وفيه يقول الله تعالى: «إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ» (131: البقرة) .. وفيه يقول سبحانه: «ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» (67: آل عمران) وإبراهيم هو أبو الأنبياء، وعلى دينه- وهو الإسلام- كان جميع الأنبياء من بعده! وعلى هذا، فليس المراد «بالإسلام» هو الشريعة الإسلامية التي جاء بها محمد عليه الصلاة والسلام، خاصة، إذ ليست هذه الشريعة بدعا من الشرائع السماوية التي سبقتها، بل هى وما قبلها من الشرائع- من يهودية ونصرانية وغيرهما- على سواء.. فجميعها شريعة الله، وكلها «الإسلام» الذي هو الدين عند الله، ولا دين غيره.
والخلاف الذي بين الإسلام، وبين اليهودية والنصرانية ليس اختلافا ناشئا عن حقيقة هاتين الديانتين، وإنما جاء الخلاف نتيجة لما حدث فيهما من تبديل وتحريف، ولو أنهما سلما من هذا التحريف والتبديل لالتقيا مع الإسلام. ولكان أتباعهما من المسلمين..
الآيات: (86- 89)[سورة آل عمران (3) : الآيات 86 الى 89]
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَاّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)
التفسير: قوله تعالى: «كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ» .
الاستفهام هنا ليس على حقيقته، وإنما هو استنكار واستبعاد لمن يطمع من هؤلاء الضالين أن يلبس ثوب المهتدين، وأن يرجو العون والتوفيق من الله، بعد أن أعطى الله ظهره، وكفر به وبآياته المضيئة بين يديه! وهؤلاء الضالون هم الذين كفروا من أهل الكتاب- وخاصة اليهود- الذين كفروا بعد إيمانهم.. فقد كانوا قبل بعثة محمد يؤمنون بأن نبيا عربيا سيبعث كما قال الله تعالى:«الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ، يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ» (157: الأعراف) ..
ثم جاءهم النبي المنتظر، ورأوا فيه وبين يديه دلائل الحق التي تشهد له أنه رسول الله، ووافقت صفته عندهم ما تحدثت به كتب الله التي بين أيديهم عنه.. ومع هذا أبوا إلا عنادا وكفرا.. فأنكروا كلمات الله، وجحدوا الحق الذي تحدثهم به، وبهذا تحولوا من الإيمان إلى الكفر.. كما يقول الله تعالى:«كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ» .. وكما يقول سبحانه «فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ» (89: البقرة) .
والواو فى قوله تعالى: «وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ» وفى قوله:
«وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ» يمكن أن تكون للعطف على قوله تعالى: «كَفَرُوا» وهذا يعنى أنهم جمعوا المتناقضات التي لا تستقيم على عقل عاقل.. إذ جمعوا الكفر مع ما شهدوا من الحق الذي يطالعهم من وجه الرسول، ومع ما بين
يديه من آيات بينات.. وهذا أمر لا يكون إلا ممن سفه نفسه، وركب رأسه، وتعلق بأذيال شيطانه! كما يمكن أن تكون هذه الواو للحال، بمعنى أنهم كفروا فى تلك الحال التي يشهدون فيها دلائل النبوة، ويرون آياتها.. فهم والحال كذلك فى أمر مختلف.. الكفر عن علم وعمد! وفى قوله تعالى:«وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» ما يكشف عن حقيقة الاستفهام الإنكارى الذي بدأت به الآية، وهو:«كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ» .. فهؤلاء القوم قد اتخذوا الظلم مركبا، فاعتدوا اعتداء منكرا على الحقّ الذي بين أيديهم، حتى لقد اجترءوا على إفساد الكتاب السماوي الذي يؤمنون به، ويعيشون فيه.. «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» فكيف يهدى الله هؤلاء القوم الظالمين، الذين يشهدون الحق، ويستيقنونه، ثم يكفرون به؟ إنهم ليسوا أهلا لخير أبدا.
وكلمة «القوم» هنا تعنى أن هذا الظلم الذي ركبه هؤلاء السفهاء هو ظلم جماعى، تواطأ عليه القوم جميعا، ولم يقم فيهم رجل رشيد ينكر عليهم هذا المنكر، فكان ظلما غليظا، وداء قاتلا، لا يرجى له شفاء أبدا.. إنه أشبه بالوباء الذي ينزل بجماعة من الجماعات، فيأتى عليها بين يوم وليلة.
ولهذا كانت العقوبة الواردة على هؤلاء الظالمين عقوبة عامة قاصمة:
«أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» .. إنهم بمعزل من رحمة الله.. تحيط بهم لعنة الله ولعنة ملائكته، ولعنة الناس أجمعين: المؤمنين منهم وغير المؤمنين.. أما المؤمنون فلأنهم من حزب الله، يحاربون من حارب الله، ويلعنون من يلعنه الله.. وأما غير المؤمنين فإنهم على خلاف مع هؤلاء القوم الظالمين.. لهم ظلم غير ظلمهم، ودين غير دينهم..
فهم على عداوة- ظاهرة أو خفية- معهم.. ثم إنهم هم أنفسهم يتبرأ بعضهم من بعض، ويكفر بعضهم ببعض، ويلعن بعضهم بعضا، وذلك حين تقع بهم الواقعة، ويرون سوء المصير الذي هم صائرون إليه.. هكذا شأن جماعات الضالين والمفسدين، يجمعهم الضلال والفساد إلى حين.. ثم يفرّق بينهم الضلال والفساد يوم يقوم الناس لرب العالمين.. وفى هذا يقول الله تعالى:
«الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ» (67: الزخرف) ويقول سبحانه: «وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ» (25: العنكبوت) .
والضمير فى قوله تعالى: «خالِدِينَ فِيها» يعود إلى اللعنة، أي هم خالدون فى هذه اللعنة الواقعة عليهم من الله والملائكة والناس، لا تزايلهم أبدا..
وقوله تعالى: «وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ» إشارة إلى أن هذه اللعنة واقعة عليهم فى هذه الدنيا، كما هى واقعة عليهم يوم القيامة.. إنهم يلقون جزاء هذا الظلم الغليظ معجلا ومؤجلا معا.
والاستثناء فى قوله تعالى: «إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» هو وارد على هذا الحكم الواقع على أولئك الظلمة وما رماهم الله به من لعنة عاجلة فى الدنيا وآجلة فى الآخرة.. بمعنى أن من تاب من هؤلاء الملعونين، ورجع إلى الله من قريب، وأصلح ما أفسد من دينه فإن مغفرة الله تسعه، ورحمة الله تعالى تناله، وترتفع عنه تلك اللعنة التي أحاطت به، وينزل منازل المؤمنين، الذين رضى الله عنهم، وتقبّل عنهم أحسن ما عملوا..