الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لازمة من هذا العرض المبسوط لسلطان الله وقدرته، يشهد منه أولئك الذين يتخذون من الله أربابا يقولون عنهم إنهم شفعاؤنا عند الله، ويقولون فيهم:
«ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» (3: الزمر) - يشهد منه هؤلاء ألّا سلطان لأحد مع سلطان الله، ولا شفاعة لأحد فى أحد عند الله، إلا لمن يأذن له الله، ويرضى له الشفاعة، فضلا منه وكرما وإحسانا! وفى قوله تعالى:«وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» إشارة إلى امتداد سلطانه، وسعته، ونفوذه إلى كل شىء فى هذا الوجود، وامتلاكه ناصية كل شىء فيه!.
فالكرسى عادة يحتوى السلطان الجالس عليه، وهو فى حقيقته ليس إلّا شيئا صغيرا، لا يشغل إلا حيّزا محدودا مما يقع تحت يد السلطان من ملك.
ولكن كرسىّ الله- سبحانه وتعالى هو الوجود كلّه، بل إن الوجود كله- فى أرضه وسمائه، وما تحوى أرضه وسماؤه- هو مما يحويه هذا الكرسىّ، ويشتمل عليه..
فانظر إلى هذا الكرسي، الذي يضم فى كيانه الوجود كلّه، ثم انظر إلى عظمة الله سبحانه وتعالى، الذي لا يمثل كرسيّه إلا حيزا محدودا من سلطانه، على نحو ما يمثل كرسىّ صاحب الملك من ملكه.. ولله سبحانه وتعالى المثل الأعلى، وهو العزيز الحكيم.
الآية: (256)[سورة البقرة (2) : آية 256]
لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)
الدين فى صميمه جذوة من الحق، تسكن ضمير المؤمن، فتكون النور الهادي له، والقوة الموجهة لأفعاله وتصرفاته.
ومن هنا كان الدّين عقيدة ينعقد عليها الضمير، فلا يعرف أحد كنه ما انطوى عليه الضمير من الدين.. إنه سرّ بين الدّين وصاحبه.. لا سبيل لأحد إليه، ولا سلطان لمخلوق عليه.
ومن هنا أيضا لم يكن دينا ذلك الدين- إن سمّى دينا- الذي يجىء إلى الإنسان أو يجىء إليه الإنسان قسرا من غير اقتناع أو رضى.
ولهذا كانت دعوات الرسل إلى دين الله محملة بالشواهد والآيات التي تشهد بصدقها، وتحدّث بخبرها وما تحمل إلى الناس من هدى ونور.، حتى يكون الإيمان عن نظر واقتناع.
وإذا كانت الرسالات السماوية التي سبقت الإسلام قد جاءت إلى الناس بالآيات القاهرة، وبالمعجزات المذهلة، التي تقهر العقل وتتعامل مع الحواس، حيث كان العقل يومئذ غير أهل لأن يفكر ويقدر- فإن رسالة الإسلام، وقد التقت بالإنسانية فى رشدها، وبالعقل فى نضجه واكتماله- قد جاءت بآياتها ومعجزاتها فى مواجهة العقل، تحاجّه بالمنطق، وتجادله بالحكمة، وتأخذه بالموعظة الحسنة، حتى إذا اطمأن الإنسان ووجد برد السكينة فى صدره آمن عن يقين، ودان لله عن رضى! وهذا هو الدين الذي يعيش مع الإنسان، ما عاش معه عقله، وسلم له تفكيره.
وقوله تعالى: «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ» تقرير لحقيقة من أهم الحقائق العاملة فى الحياة، ومن أبرز السّمات التي قامت عليها دعوة الإسلام.. «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ» .. فهو نفى مطلق لكل صور الإكراه، المادية والمعنوية، التي تختل النّاس عن الحق، وتحملهم حملا على معتقد لم يعتقدوه، ولم يجدوا من جهته مقنعا!.
وليس هذا شأن الدين وحده، بل هو الشأن أو ما ينبغى أن يكون الشأن
فى حياة الإنسان كلها، لا يتلبّس بأمر إلا بعد أن ينظر فيه، ويطمئن إليه، ويرضى عنه، فيقدم أو يحجم عن هدى وبصيرة، وهذا هو ملاك النجاح فى كل أمر، ومنطلق الملكات الإنسانية كلّها فى وثاب وقوة، إلى أنيل؟؟؟
الغايات وأعظمها.
إن تحرير ضمير الفرد من الضلال والعمى، وفك عقله من الضّيق والإظلام، لا يكون إلا بتحرير إرادة الإنسان وإطلاقها من كل قهر أو قسر.. وإنه لن تصحّ إنسانية الإنسان، ولن يكتمل وجوده، إلا بالضمير الحر، والعقل المتحرر.. وإنه لا فرق بين الأحرار والعبيد وبين الإنسان وغير الإنسان إلا فى تلك المشاعر التي يجدها الإنسان فى كيانه من طاقات الحرية والتحرر، فيمتلك بها أمر نفسه، ويكتب بها خطّ مسيره ومصيره، كيف شاء، وعلى أي وجه أراد..
وفى الواقع أن ركوب الخطأ عن رأى الإنسان وتقديره، غير المدخول عليه بإكراه أو خداع، أو تضليل- هو خير من الانقياد للصواب عن قهر وقسر، وعن تمويه وتلبيس.. إذ الأول يسير ومعه عقله، وتفكيره، وليس ببعيد أن يلتقى يوما بالصواب الذي ضل عنه.. أما الآخر، فإنه يسير بلا عقل ولا تفكير..
يسير بعقل غيره، وبتفكير غيره، وليس ببعيد أن يلتفت يوما فلا يجد من أعاره عقله وتفكيره، فإذا هو كتلة جامدة، أو تمثال من لحم ودم، لا حياة فيه، ولا معقول له! .. إن الأول مبصر يتخبط فى الظلام، ولكنه إذا رأى النور، أبصر، واهتدى واستقام على سواء السبيل..
أما الآخر.. فهو أعمى يقاد لكل يد تمتد إليه.. وكما انقاد ليد من ينصح له ويهديه، فإنه لن يمتنع عن الانقياد لمن يمكر به، ويضلّه.. وهل يملك الأعمى أن يأخذ طريقا غير طريق من يقوده، ويمسك بيده؟
وقوله تعالى: «قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ» هو ليس قيدا واردا على إطلاق الحرية فى الدّين، وإنما هو تقرير لبيان الحال من أمر الدعوة الإسلامية، وهو أنه يجب ألا يطوف حول دعوتها طائف من القهر والقسر، إذ قد استبانت معالمها، ووضحت حدودها، وإن الذي ينظر فى مقرراتها، وفى شواهدها وآياتها ثم لا يجد الهدى، ولا يقبل عليه، فلا سبيل إلى هداه، ولا جدوى من إيمانه! إنه فى حساب الناس.. لا شىء!.
قوله تعالى: «فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها» .
«الطاغوت» شىء مخيف، مفزع، أشبه بالشيطان.. لا تقع عليه العين، وإنما يصوره الوهم من هذا الاسم الذي يطلق عليه «الطاغوت» ، ويشكلّه من هذه الأحرف المتنافرة التي يتشكل منها اسمه:.. الطاء، والغين، والتاء، يجمعها كيان واحد.
وإن الذي يحترم عقله، ويكرم إنسانيته ليأبى أن ينقاد للوهم، ويتعبّد لآلهة من مواليد الباطل والضلال، إنه يجرى وراء سراب، ويتعلق بما هو أوهى من خيوط العناكب!.
والموقف الصحيح الذي ينبغى أن يأخذه الإنسان العاقل الرشيد، هو أن يعلو بعقله فوق هذه الأوهام، ويرتفع بإنسانيته عن هذا الهوان، وأن يجعل ولاءه وخضوعه لمن بيده ملكوت السموات والأرض، رب كل شىء، وخالق كل شىء.. وبهذا يمسك الإنسان بالسبب الأقوى، ويعلق بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، وبهذا تكتب له النجاة والسلامة.