الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والموقف الحكيم الذي ينبغى أن يقفه المسلمون إزاء هذه الجماعة، هو ألا يشغلوا أنفسهم بها، ففى ذلك تعويق لهم، وتفويت لخير كثير كان يمكن أن يحصلوا عليه بهذا الجهد الذي يبذلونه فى شغل أنفسهم بها..
وخير من هذا وأكثر عائدة على المسلمين هو أن ينظروا إلى أنفسهم، وأن يقيموها على ما أمرهم الله، فذلك هو الذي يحصل لهم الصبر والتقوى، وهى القوة التي لا تغلب أبدا.. من ظفر بهما فقد ظفر بنصر الله وتأييده..
أما هؤلاء المنافقون فأمرهم إلى الله.. «إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ» .
هذا، ولم تشر الآيات إلى تلك الجماعة التي كشفت عن مساوئها وحذرت المسلمين أن يوادّوهم ويأمنوا جانبهم.. ذلك أن هذه الصفات هى علامات مميزة، وسمات معينة لجماعة معروفة من الناس، هم اليهود، لا يشاركهم غيرهم فى هذه الصفات.. ومن هنا كان فى ذكرها غنى عن ذكرهم، كما فيه تشهير بهم، وتشنيع عليهم، بوضعهم هذا الموضع، الذي إذا ذكرت فيه سيئة علقت بهم، وأشارت إليهم.
الآيتان: (121، 122)[سورة آل عمران (3) : الآيات 121 الى 122]
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)
التفسير: القتال الذي تشير إليه الآية هو القتال الذي حدث فى معركة أحد، وقد أصيب فيها المؤمنون بعدد غير قليل من الشهداء والجرحى، كما ستشير الآيات التالية إلى هذا الحدث، وما وقع فيه.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن اليهود الذين يكيدون للإسلام ويتربصون به، قد وجدوا فيما أصاب المسلمين يوم «أحد» مقالا يقولونه فيهم وفى أمداد السماء التي أمدهم الله بها يوم بدر، والتي عدّها اليهود مزاعم وأباطيل.. فلما كان ما أصيب به المسلمون فى يوم أحد، أظهر اليهود الشماتة، وأخذوا يلقون إلى أسماع المنافقين ومن فى قلوبهم مرض بالشكوك والريب فى أمر محمد ودعوته..
وهذا ما حدّث القرآن الكريم عنه فى الآية (120) قبل هذه الآية:
«إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها..» ..
وقوله تعالى: «وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ» تذكير للنبىّ والمسلمين بغزوة أحد، وما كان فيها من أحداث، حيث أصيب المسلمون، وابتلوا فى أنفسهم، وكان فى هذا ما أشمت اليهود والمنافقين، وأطلق ألسنتهم بقالة السوء فى الإسلام، ونبى الإسلام، وهو ما حدّث عنه قوله تعالى:
«وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها» .
وفى غزوة أحد خرج النبي من أهله غدوة، أي مبكرا، ليلقى قريشا وجموعها التي أقبلت حتى أشرفت على المدينة، عند جبل «أحد» .. وهناك بوّأ النبيّ المؤمنين مقاعد للقتال، ووضع كل جماعة فى مكانها من المعركة.
وفى قوله تعالى: «وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» تذكير للمسلمين، وتحذير لغيرهم من المشركين والمنافقين، من قدرة الله على كشف ما فى الصدور، حتى لتصير الخواطر كأنها أصوات تسمع، أو كأنها مسطورات ترى وتقرأ.. فلا تخفى على الله خافية، مما يدور فى الصدور من خير أو شر.
وقوله تعالى: «إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا» هو من أنباء ما فى الصدور التي كشف عنها علم الله.
ففى جيش المسلمين وقع فى بعض النفوس شىء من التردد والخوف، وكاد ذلك يكون واقعا يدفع صاحبه إلى الفرار من المعركة قبل وقوعها.
وفى قوله تعالى: «وَاللَّهُ وَلِيُّهُما» بيان لرحمة الله ولطفه بهاتين الطائفتين من المؤمنين، إذ ربط على قلوبهم، وجلى عنهم خواطر الشك والريب، وثبّت أقدامهم على طريق الجهاد، فسلم لهم دينهم، وكان للمسلمين منهم قوة وعونا فى مواجهة العدو.
والهمّ بالشيء تحديث النفس به، ومراودة صاحبها عليه، دون أن يتخذ مظهرا عمليّا.
ولم يذكر القرآن الكريم اسم هاتين الجماعتين اللتين همّتا هذا الهمّ السيء. لأن رحمة الله تداركتهما، فلم يقع منهما ما يسوء، وكان من تمام رحمة الله ولطفه بهما أن ستر عليهما هذا الهمّ الذي همّتا به! ثم انظر فى قوله تعالى:«وَاللَّهُ وَلِيُّهُما» وكيف ترى أن ولاية الله لهما قد ألقت عليهما سترا من بهاء وجلال، فكانا من أولياء الله وأنصار الله.
«اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» (257: البقرة) فهل مع لطف اللطيف ورحمة الرحيم يبقى على الإنسان ذنب أوحوب؟ وكلا، ثم كلا! وكعادة المفسّرين، فى مثل هذه الأمور التي يذكر فيها القرآن الأحداث مطلقة، من غير تحديد أزمانها أو أمكنتها، أو أشخاصها، حيث لا تؤثر الأزمان ولا الأمكنة ولا الأشخاص فى العبر والعظات المستخلصة من الحدث- نراهم يجهدون الجهد كله فى البحث عن متعلقات الحدث، من زمان ومكان وأشخاص، يجلبونها من كل واد، ويلتقطونها من كل فم، ثم يلقونها بين يدى الحدث جثثا هامدة، مستجدية مستخزية!
وهنا ذكر المفسرون مقولات كثيرة فى هاتين الطائفتين، ولو أخذ بتلك المقولات جميعها لشملت المسلمين كلهم، من مهاجرين وأنصار! ونحن نحترم صمت القرآن هنا، ولا نقول من هما هاتان الطائفتان- لأنا لا ندرى على وجه اليقين من هما، ولو درينا لم نر داعية للقول- وحسبنا أن نعلم من هذا الحدث أمورا.. منها.
أولا: أن المؤمن لا يخلو فى حال من أن تطرقه وساوس سوء، أو تدور فى نفسه نزعات شر.
وثانيا: أن صدق الإيمان، وإخلاص النية يصلان الإنسان بربه، فيجد من أمداد لطفه ورحمته، ما يأخذ بيده إذا عثر، ويشد من عزمه إذا ضعف، وفى هذا يقول الله فى يوسف- عليه السلام وقد جاءته أمداد السماء، فصرفت عنه السوء الذي كاد يلمّ به:«وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ» (24: يوسف) .
ثالثا: أن ما يهمّ به المؤمن من سوء، وما تحدثه به نفسه من وساوس الشر، لا يؤاخذ عليه، حتى يتحول هذا الهمّ وتلك الوساوس إلى عمل، يؤثّر أثره فى الناس، وفى الحياة.
على أن الاستسلام لهواجس الشر، والاستماع الطويل لوساوس السوء، قد يمكّن لها فى كيان الإنسان، ويعطى لها سلطانا عليه، بحيث تصبح يوما فإذا هى مالكة زمام الإنسان، موجهة له..
وإذا كان الإنسان لا يستطيع أن يخلى نفسه من تلك الوساوس، فإنه يستطيع أن يصرفها عنه كلما طرقته، وألا يعطيها شيئا من قلبه أو غقله، بل يشغلهما بما هو أجدى وأولى.