الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وتعارضا، وكتمانا لبعض الحقائق- قد يفهم من هذا أننا ننتقص من قدر الحواريين، ونسىء الظن بهم وبأمانتهم فيما نقلوا عن المسيح.. إذ أن الأناجيل الأربعة، ينسب ثلاثة منها إلى: متى، ومرقس، ويوحنا، وثلاثتهم من الحواريين..
ومعاذ الله أن نشكّ فى أمانة الحواريين، عليهم السلام، إنهم أجلّ من أن يكذبوا، أو يخونوا الأمانة، إذ كان الله سبحانه هو الذي اختارهم للمسيح أعوانا وأنصارا، كما يصرح بذلك القرآن الكريم، فى قوله تعالى:
«وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ» (111: المائدة) والذي يمكن أن يقال فيما وقع فى الأناجيل من اختلاف، وما جاء فيها من مقولات يقف العقل إزاءها موقف الشك أو الإنكار- هو أن الأناجيل إما أن تكون قد كتبت بأيدى هؤلاء الحواريين المعروفين، ثم دخل عليها ما ليس منها، مما هو موضع خلاف، أو شك، أو إنكار، وذلك عن طريق الناقلين والمترجمين..
وإما أن تكون قد كتبت بغير أيدى أصحابها، ثم أضيفت إليهم، وحسبت عليهم، لتكتسب ثقة وذيوعا.. وهنا يتسع المجال لوقوع ذلك الاختلاف بين الأناجيل، وما تحمل فى ثناياها من تلك المقولات المختلفة المتضاربة!
الآيات: (47- 51)[سورة آل عمران (3) : الآيات 47 الى 51]
قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)
التفسير: عجبت مريم لهذا الأمر العجيب، الذي تحدثها الملائكة به من عند ربها.. أن تلدا مولودا من غير أن تتصل بزوج! وكيف؟ وماذا تقول للناس؟ ومن يسمع لها أو يصدق قولها؟ وأنّى لها القوة التي نحتمل بها لذعات الألسنة، وغمزات العيون، وهمسات الشفاه؟ إنها تجربة فريدة فى عالمها، لم تكن لامرأة قبلها، فكيف لها باحتمالها، واحتمال تبعاتها؟
وفى وداعة العابدة المتبتلة، ولطف العذراء وحيائها.. نسأل ربها:
«رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ؟» ويجيبها رسول ربها:
«كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ» .. لا حدود لقدرته، ولا ضوابط من نواميس الطبيعة التي نعلمها، بالتي تحول بين قدرة الله وبين أن تأتى بما لا نحسب ولا نقدر! وفى قوله تعالى هنا «اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ» وقوله فى إجابة زكريا:
«اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ» مراعاة تامة للمقام هنا وهناك.
ففى أمر مريم عملية خلق كاملة. فناسبها قوله تعالى: «اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ»
أما فى قصة زكريا فهى على خلاف هذا.. مولود من رجل وامرأة، وإن كان كلّ من الرجل والمرأة غير أهل لأن يولد له فناسبه أن يعبر عنه بالفعل «اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ» والخلق والفعل وإن كانا من باب واحد، فإن هناك فرقا دقيقا بينهما، وهذا الفرق الدقيق له وزنه وله اعتباره فى بناء الأسلوب البلاغي الرفيع، الذي لا يوجد على كماله وتمامه إلا فى القرآن الكريم.
فى قوله تعالى: «وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ» ما يسأل عنه وهو: الكتاب والحكمة.. ما هما؟ لقد منّ الله على عيسى بأن علمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل.. والتوراة والإنجيل معروف أمرهما، إذ كانت التوراة كتاب موسى وشريعته، وبالكتاب وبالشريعة دان عيسى، ثم كان له كتابه وهو الإنجيل.. يبشر به وبكتاب موسى وشريعته.. فما الكتاب والحكمة اللذان تعلمها من الله قبل أن يتعلم التوراة والإنجيل؟
فى القرآن الكريم جاء ذكر الكتاب مقترنا بالحكمة فى كثير من المواضع، مثل قوله تعالى:«هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ» (164: آل عمران) وقوله سبحانه: «رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ» (129: البقرة) وقوله تعالى: «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ» (81: آل عمران) وقوله سبحانه: «فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً» (54: النساء) وقوله تعالى: «وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ»
(112: النساء)
وقد جاءت كلمة الحكمة مفردة فى قوله تعالى: «يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً» (269: البقرة) وفى قوله سبحانه عن داود عليه السلام: «وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ» (20: ص) والحكمة هى إصابة مواقع الحق فى القول والعمل، فهى بهذا ضرب من الهداية والتوفيق، يرزقهما الله من يشاء من عباده.
والكتاب المقترنة به الحكمة هنا يسبق الحكمة، أي أن الحكمة ثمرة من ثمراته، إذ كان طريق الوصول إلى الكتاب هو معرفة القراءة والكتابة، حتى يمكن الإفادة مما كتب الكاتبون ودرس الدارسون.. وقد تعلّم المسيح القراءة والكتابة، وقرأ ما كتب من كتب، وفتح الله بصيرته وأنار قلبه بالعلم والحكمة، قبل أن يقيمه قيّما على شريعة التوراة والإنجيل.
قوله تعالى: «وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ» أي ويجعله رسولا إلى بنى إسرائيل.. فالمسيح أحد الرسل الذين أرسلهم الله إلى بنى إسرائيل، ورسالته خاصة بهم، مكملة لرسالة موسى عليه السلام فيهم، كما جاء ذلك على لسان المسيح، فيما روت الأناجيل عنه..
ففى إنجيل «متى» : «ثم خرج يسوع من هناك وانصرف إلى نواحى صور وصيدا، وإذا امرأة كنعانية خارجة من تلك التخوم صرخت إليه قائلة:
ارحمني يا سيد يا ابن داود، ابنتي مجنونة جدا، فلم يجبها بكلمة، فتقدم تلاميذه وطلبوا إليه قائلين، اصرفها، لأنها تصيح وراءنا، فأجاب وقال: لم أرسل إلّا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة» (متى: الإصحاح الخامس عشر) .
وفى متى أيضا يوصى المسيح تلاميذه، وقد بعث بهم ليبشروا، قائلا:
«إلى طريق أمم لا تمضوا، ولا مدينة للسّامريين لا تدخلوا، بل اذهبوا بالحرىّ إلى خراف بيت إسرائيل الضالّة» (متى: الإصحاح العاشر) .
قوله تعالى: «وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ» أي يتحدث إلى بنى إسرائيل ويخبرهم بما أرسله الله به إليهم» ويقول لهم: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ، تشهد لى بأنى رسول من عنده، وتلك الآية هى ميلاده على الصورة الفريدة، إذ ولد من عذراء لم يمسسها بشر. وإذ كان ميلاده وظهوره فى بنى إسرائيل آية، فإن تلك الآية تتولد منها آيات ومعجزات. ومن تلك الآيات ما ذكره القرآن على لسانه:
«أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ» فمادة الطين التي منها تخلّقت الكائنات الحية من إنسان وحيوان- هى التي ينشىء منها نماذج لكائنات حية من الطير، ثم ينفخ فيها فإذا هى فى عالم الطير ترفّ بأجنحتها، وتسبح فى السماء، شأنها فى ذلك شأن بنات جنسها من هذا العالم.
ونسأل: لم لم تكن معجزته أن يصوّر من الطين إنسانا، فينفخ فيه فيكون إنسانا من الناس، فإن الذي يبعث الحياة فى الطين بنفخة منه، لا يعجزه أن يكون الإنسان أحد مخلوقاته، كما يفعل ذلك فى عالم الطير؟ وإنه لو فعل ذلك لكان أظهر لآيته، وأبلغ فى معجزته وإعجازه؟
ولكن لو وقع هذا لكان فتنة للناس.. إذ كيف يعيش مثل هذا الإنسان فى الناس؟ وكيف تطيب له الحياة بينهم؟ وبأية صلة يتصل بهم ولا نسب له فيهم؟ ثم ما شأنه بعد أن تتحقق المعجزة فيه؟ أيظل هكذا معجزة متحركة بين الناس يدورون معه حيث دار، ويتحركون معه حيث يتحرك؟ إنها الفتنة الممسكة بالناس إذن؟
إن شأن المعجزات المادية أن تكون بنت ساعتها، ثم تختفى فلا يرى الناس لها وجها بعد هذا.. إنها أشبه بإشارة ضوئية، تلمع ثم تختفى ليكون للناس نظر فيها، وتقدير لها، وليخلف عليها نظرهم وتقديرهم، وبهذا
يكون البلاء والامتحان.. ولو أن تلك المعجزات المحسوسة ظلت هكذا قائمة تحت بصر الناس لما كان هناك مكان للابتلاء، ولما كان لأحد فضل على أحد فى الإيمان بها، أو الشك فيها، أو الإنكار لها، ولاستقام أمرهم فيها على طريق واحد.. هو طريق الإيمان والتسليم، وعندها لا يكون للإنسان اختيار، ولا يكون إيمانه محسوبا له، إذ كان عن قهر، تحت ضغط هذه المعجزة القاهرة، التي تأخذ عليه كل سبيل إلى الفرار والزيغ! وانظر فى هذا الطائر، الذي كان تحت أعين الناس صورة من الطين، ثم أصبح بتلك النفخة طائرا ينطلق فى سبحات الجوّ.. ثم لا يلبث حتى يتوارى عن الأنظار، كما يلمع البرق ثم يختفى! .. هنا معجزة، ولكنها تحمل فى ثناياها امتحانا وابتلاء، فيؤمن بها من يؤمن، ويشك فيها من يشك، وينكرها ويكفر بها من ينكر ويكفر..
«وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً» (89: يونس) فهكذا تكون المعجزات، لمحة خاطفة، وإشارة عابرة.. فيها نظر لناظر، وعبرة لمعتبر.
ومن معجزات المسيح التي يلقى بها بنى إسرائيل، ما عرضه عليهم فى قول الله سبحانه على لسانه:«وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ» .
والأكمه من ولد أعمى، وهذا النوع من العمى ليس للطب قديما وحديثا بصر به، ولا عمل فيه، بل هو العجز المطلق حياله.. ومن هنا كان شفاؤه لا يتم إلا بمعجزة متحدية! والبرص مرض خبيث يصيب الجلد، فيذهب بلونه، ويأكل أديمه، كما تأكل
الأرضة لحاء الشجر.. وشأنه شأن الكمه، لا علاج له، ولا شفاء منه..
إلا بمعجزة متحدية! فكان من معجزات السيد المسيح إبراء الكمه والبرص، وإحياء الموتى! وتلك معجزات قاهرة متحدّية، تقف أمامها قوى البشر عاجزة مستخزية.
ومن معجزاته التي أجراها الله على يديه أنه يخبر عما غاب من شئون الناس، فيخبرهم بما أكلوا فى يومهم أو أمسهم، وما ادخروا فى بيوتهم من مال ومتاع.
ولكنها مع ذلك معجزات، يمكن أن يكون فيها للسفهاء قول، وللمتمارين والمجادلين مما حكات وتعليلات.
ولما جاء المسيح إلى بنى إسرائيل بتلك المعجزات، ليفتح قلوبهم إلى الله، وإلى ما يدعوهم إليه من هدى وإيمان، جاءهم مصدقا بالتوراة، وداعيا بما فيها.
وهذا أدعى إلى أن يستجيبوا له، ويؤمنوا به، إذ لم يأتهم بجديد، وإنما الجديد فى رسالته، أن يقيمهم على التوراة التي خرجوا عنها، وتأولوا أحكامها تأويلا فاسدا:«وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ» .
وأكثر من هذا، فإن المسيح جاء رحمة من رحمات الله بهم. جاء ليرفع عنهم بعض تلك الأحكام التأديبية التي أخذهم الله بها، عقابا لهم ونكالا، بما حرم عليهم من طيبات كانت أحلت لهم، كما يقول تعالى:«فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ» (160: النساء) .
فكان من رسالة المسيح إليهم أن يخفف عنهم بعض هذه الأحكام:
«وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ» وقوله تعالى «وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ» الآية هنا هى المعجزة التي