الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قبل حين أدركه الغرق، فردّه الله سبحانه، ولم يقبل منه صرفا ولا عدلا:
إن إيمان فرعون هنا لم يكن عن اختيار بين الإيمان والكفر.. بل كان لا بدّ له من أن يؤمن حتى ينجو من الغرق، إن الكفر بالله هو الذي أورده هذا المورد، وإن الإيمان بالله الذي كفر به من قبل هو الذي يردّه عن هذا المورد ويدفعه عنه.. هكذا فكر وقدّر!! وشبيه بهؤلاء الذين لا يرجعون إلى الله، ولا يذكرونه إلا عند حشرجة الموت، أولئك الّذين يغرقون أنفسهم فى الآثام مادامت تواتيهم الظروف، وتسعفهم الأحوال، حتى إذا سدّت فى وجوههم منافذ الطريق إلى مقارفة الإثم، بسبب أو بأكثر من سبب، تعفّفوا وتابوا.. وتلك توبة العاجز المقهور، ورجعة المهزوم المغلوب على أمره. لا يخالطها شىء من الندم، ولا يقوم عليها سلطان من إرادة ومغالبة.. إنها توبة غير مقبولة.
الآيات: (19- 21)[سورة النساء (4) : الآيات 19 الى 21]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَاّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21)
التفسير: فى مقام التوبة، والتنديم على الذنوب والآثام، والرّغب إلى الله، والهرب من المآثم- فى هذا المقام يذكّر الله سبحانه وتعالى بالنساء وما لهن من حقوق، وما فى اهتضام هذه الحقوق والعدوان عليها من إثم يفسد على المؤمنين إيمانهم، ويعرضهم لنقمة الله، وعذاب الله.
فمن ذلك، الالتواء فى معاشرة النساء، وأخذهنّ بالضرّ والأذى، للوصول من وراء ذلك إلى عرض من أعراض الدنيا، بحملهن على شراء الخلاص لأنفسهن بما يريده الأزواج منهن من ثمن.
فقد تكون المرأة غير ذات حظوة عند الرجل، وقد يكون الرجل كارها لها وهى كارهة له، ومع هذا فهو يمسكها، ولا يسرّحها بإحسان، كما أمر الله سبحانه وتعالى:«فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ» (229: البقرة) ..
وهذا الإمساك للمرأة والمضارّة لها إنما يبغى الرجل من ورائهما أن تموت وهى فى عصمته، حتى إذا ماتت ورثها. وهذا ما نهى الله عنه، وعدّه عدوانا على المرأة إذ يقول سبحانه:«لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً» .. وقد ينتظر الرجل من وراء هذا الإمساك بالمرأة على كره، أن تخالعه المرأة على ما فى يدها من مهر كان أمهرها إياه، ولا تزال نفسه متطلعة إليه.. وهذا ما ينهى الله سبحانه وتعالى عنه بقوله:«وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ» ..
والعضل الإمساك على الضرّ والأذى.
وقوله تعالى «إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ» هو استثناء من الإمساك الذي هو من بعض مفاهيم العضل، ففى هذه الحالة، وهى أن تأتى المرأة بفاحشة قامت عليها بيّنة- يجوز أن يمسك الرجل المرأة، تأديبا لها، فهذا الإمساك وإن
كان عدوانا على المرأة، هو عدوان لردّ عدوان، وهو ما أجازه الله سبحانه وتعالى فى قوله:«فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ» (194: البقرة) ثم هو- أي العدوان هنا- إمضاء لأمر الله تعالى فى اللائي يأتين الفاحشة من النساء.
وفى قوله تعالى: «وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ» دعوة إلى ما ينبغى أن تكون عليه حياة المرأة مع الرجل، وهو أن تعاشر بالمعروف، وأن تعامل بالإحسان، حتى وهى مأخوذة بجريرتها التي قضت عليها بالإمساك فى البيت.
وفى قوله تعالى: «فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً» وصية كريمة من الله، بالإحسان إلى المرأة، أيّا كانت نظرة الرجل إليها، وموقعها من قلبه.. فقد لا يجد فى عشرته معها، والسكن إليها، ما يشرح صدره، فيحمله ذلك على الضجر بها، والتبرم منها، فيسىء عشرتها، ويرميها بالأذى، حتى يحملها على أن تترضاه من مالها ليطلقها.. وهنا يلقاه قوله تعالى:«فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً» .. فيتقبل هذا المكروه، ويصبر عليه، ثم ينجلى الموقف عن غير ما كان يحسب ويقدر، وإذا المرأة التي كان يكرهها قد علقت بقلبه، وملأت حياته أنسا ومسرّة..
فإنه ما أكثر أن تجىء الأمور على غير حسابنا وتقديرنا. فما نحسبه خيرا قد يجىء من ورائه الشرّ، وما نراه مكروها قد يجىء بما نحبّ ونرضى! وفى هذه الوصاة الكريمة، تنفير من الطلاق، وتحذير من المبادرة إلى هوى النفس، الذي يدعو إلى الطلاق، على حساب أنه الخير، وقد يكون الشرّ كلّه كامنا وراءه.
وقوله تعالى: «وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً» .
هو استكمال «للوصاة التي أوصى الله بها الرجال بالنساء.. ألا يرثوهن كرها أو يعضلوهن، وأن يعاشروهن بالمعروف، وأن يصبروا على ما يشعرون به من ضيق أو أذى منهن، فقد يكون من وراء ذلك خير كثير..
ثم إنه إذا لم يكن بد من الفرقة والطلاق، فليكن كما أمر الله:«تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ» فلا يعمل الرجل على أن يستردّ مما أعطاها من مهر شيئا، وألا يحملها حملا على أن تخلص من بين يديه، وأن تفتدى نفسها من عشرته بالمال..
وليقف عند أمر الله سبحانه: «وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً» إن ذلك عدوان عليها، وسلب لحق وقع فى يدها.. «أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً» فذلك ما ينكره الله، ويجزى عليه جزاء الآثمين.. والبهتان: هو العدوان، وتبرير هذا العدوان بطلاء زائف من التمويه والخداع.
وفى قوله تعالى: «وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً» إنكار بعد إنكار لأن تمتد يد إلى هذا الذي فى يد المرأة، التي أصبحت هى ومالها أمانة فى يد الزوج.. فكيف يخون الرجل أمانة من عاشره، واختلط به، وأصبح فى حال ما، بعضا منه؟ وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:«أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ» .. والإفضاء إلى الشيء الوصول إليه، والتغلغل فى صميمه.
والميثاق الغليظ: هو العهد القوىّ المؤكد، وهو ما أخذه الله على الرجال للنساء فى قوله تعالى:«وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ» .. وقد وضع الله هذا الميثاق الغليظ المؤكد فى يد المرأة. ليكون لها أن تقاضى الرجل به عند الله! وفى هذا تغليظ لهذا الميثاق الغليظ!