الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفى قوله تعالى. «وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» بيان لسعة علم الله، ونفوذه إلى كل خفىّ.. فعلم- سبحانه- لا يقف عند ظواهر الأشياء، ولكنه ينفذ إلى كل ذرة من ذراتها، وإلى كل دقيقة من دقائقها.
وذات الشيء: حقيقته. وكنهه، وما اشتمل عليه من أسرار وخفايا، وذات الصدور، حقيقتها، وما تلبّس بها من خفايا وأسرار.. فالصدور وما تكنّ، والضمائر وما تجنّ، يعلم منها الله ما لا يعلم صاحبها.. فسبحانه، سبحانه، وسع كل شىء علما!!
الآيات: (155- 158)[سورة آل عمران (3) : الآيات 155 الى 158]
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)
التفسير: هنا يلتفت الله سبحانه إلى المؤمنين، بعد أن كشف لهم عن موقف المنافقين، الذين يعيشون معهم بهذا الثوب الرقيق الذي يلبسونه من نسيج الإسلام! وفى هذه اللفتة يرى الله المسلمين جماعة منهم ضعفوا عند لقاء العدو، فتحول بعضهم عن مكانه إلى حيث السّلب والغنائم، وانهزم بعضهم وفرّ
مصعّدا فى الجبل.. فهؤلاء جميعا كانوا موضع لوم وعتب بين جماعة المسلمين الذين ثبتوا للعدو، وصمدوا لضرباته.. وقد كثر القول فيهم، وتضاربت الآراء فى إيمانهم! وتلك حال جدير بها أن تمزّق وحدة المسلمين، وأن تفتّ فى عضدهم، بل وأن تذهب ببعض نفوسهم همّا وكمدا.
وتجىء رحمة الله، فتهب هؤلاء الملومين عفوا ومغفرة. وتنقلهم من هذه العزلة الباردة القاتلة، إلى حيث دفء الطمأنينة، وروح السلامة والعافية..
وهذا ما يشير إليه قوله سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ» .
فهؤلاء الذين تولوا يوم القتال، إنما كان ذلك منهم لما مكّنوا للشيطان من أنفسهم، ببعض ما كسبوا من سيئات! وهذا يعنى أن المؤمن الحريص على إيمانه، الحارس له من نزعات الهوى، هو فى حصن حصين من أن ينفذ الشيطان إليه، ويوسوس له، ويستولى على زمام أمره..، إن المعاصي التي يرتكبها المؤمن، هى قذائف مدمرة، تدك حصون إيمانه، فيجد الشيطان طريقه إليه، ثم يرميه الرمية القاتلة.
وفى قوله تعالى: «وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ» إعلان كريم، من رب كريم، بالصلح الجميل، والمغفرة الواسعة، التي تصحح إيمان المؤمن، وتعيد بناءه أقوى قوة، وأشدّ صلاية! وفى قوله سبحانه:«إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ» إعلان آخر عن سعة رحمة الله ومغفرته، وأنها تسع العصاة كما تسع الطائعين.. فحلمه يستدعى مغفرته أن تغفر للمذنبين، ولا تأخذهم بما اقترفوا، حتى يعذروا بهذا الصفح وتلك المغفرة، مرة، ومرات..
ونجد فيما كان من رحمة الله ومغفرته لهؤلاء الذين استزلّهم الشيطان-
نجد فى هذا، كيف كان علم الله بما فى الإنسان من ضعف، وأنه فى معرض الخطأ والزلل، وذلك مما يقيم له عذره عند الله، فيمنحه عفوه ومغفرته، فإن هفا هفوة، أو زلّ زلة، أقال الله عثرته، وأنهضه من كبوته، وأعاده إلى حظيرة الإسلام، ولو تركه لشرد وضلّ، وهلك..
دعوة للمؤمنين أن يتجنبوا وساوس الكافرين الذين لا يؤمنون بقضاء الله، ولا يستسلمون لقدره.. فإذا مات لهم ميت أو قتل لهم قتيل، وهو يجاهد فى سبيل الله- قالوا هذا القول المنكر، الذي حكاه القرآن عنهم:
«لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا» .. وهذا ضلال فى الرأى، وكفر بالله، ودفع لقضائه.. فقد مات من مات وقتل من قتل، حين استوفى كل أجله..
وهذا الضلال فى الرأى، إنما هو- فوق أنه كفر بالله- هو مبعث حسرة وندم، تمتلىء بهما قلوب الكافرين كمدا وألما أن ذهب إخوانهم فى هذا الوجه، فكان ذلك سبب موتهم أو قتلهم، ولو أقاموا معهم ما ماتوا وما قتلوا:
«لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ» ولو أنهم عقلوا وآمنوا، لعلموا أن الموت والحياة بيد الله، ليس لأحد شأن أو تدبير فيهما:«وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» قد أحاط علمه بكل شىء، ونفذ حكمه فى كل شىء! وهذا من شأنه أن يدعو الإنسان إلى التسليم والرضا بالشر والخير، والضرّ والنفع.
والسؤال هنا: كيف يكون منهم قول لأولئك الذين قتلوا أو ماتوا؟
وكيف يسمّون بإخوانهم، وهؤلاء كافرون وأولئك مؤمنون؟
وللإجابة عن الشقّ الثاني من السؤال يتكلف النحاة القول بأن اللام فى «لإخوانهم» بمعنى «عن» والتقدير على هذا: أنهم قالوا عن إخوانهم الذين قتلوا أو ماتوا هذا القول: «لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا» وبهذا التخريج أخذ المفسرون.
ونحن لا نقبل أن تخضع كلمات الله لمثل هذا التمحّك الذي يمكن أن يحمل عليه كل كلام..
وننظر فنجد القرآن الكريم يعيد هذا القول مرة أخرى، على لسان هؤلاء القوم.. فيقول تعالى:«الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا» (68: آل عمران) فالتزام القرآن للام التعدية بعد القول فى الموضعين، فيه دلالة على إجراء القول على حقيقته، وهو أن يتعدى إلى مفعوله باللام، تقول: قلت له، وقال لى.
وعلى هذا تكون «اللام» فى قوله تعالى: «الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ» - فى الموضعين- هى لام التعدية، وأنهم فعلا قالوا لإخوانهم وتحدّثوا إليهم!! ولكن كيف هذا؟ وهؤلاء أحياء وأولئك أموات؟
والجواب- والله أعلم- أن هؤلاء المنافقين أو الكافرين، حين لم يؤمنوا بالله، ولم يستسلموا لحكمه، ويرضوا بقضائه- قد تلقوا مصرع من مات منهم فى ميدان القتال، أو فى طريقه إليه، قد تلقوه جزعين مذهولين، كأنهم يستقبلون أمرا لم يكن فى حسابهم أن يقع، لأنهم ينكرون الموت الذي يكون فى غير البيت، أو على غير فراش المرض، ويعدّون مثل هذا الموت خيانة لهم ممن مات منهم به، فتشتد حسرتهم، ويتضاعف ألمهم، ويخرج بهم ذلك إلى شىء من الهلوسة والخبل، فيندبون موتاهم هؤلاء، وينادونهم من
قريب نداءآت منكرة محمومة: ألم أقل لك يا فلان لا تذهب إلى القتال؟ إنك لو أطعتنى لما أصابك سوء.. ألم أحذرك يا فلان عاقبة الأمر الذي انطلقت إليه؟ إنك لو استمعت إلى نصحى لما قطعت حبل حياتك وأنت فى ريعان الصّبا، وفتاء الشباب؟؟
وهكذا يظلون أياما وليالى ينادون، ويناجون، ويندبون موتاهم، ويستحضرونهم فى تصوراتهم المريضة، ويرونهم فى مصارعهم تنهشهم السباع وتتخطفهم الطير، فيزداد حزنهم، وتشتد حسرتهم:«لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ» ! أما الجواب عن الشق الثاني من السؤال، وهو: كيف يسمّون إخوانهم، وهؤلاء كافرون وأولئك مؤمنون- فنقول- والله أعلم:
أولا: أن هؤلاء الكافرين كانوا فى جماعة المؤمنين أولا، فلما كانت وقعة أحد، ورأوا ما رأوا مما أصاب المسلمين، ساء ظنّهم بالله الذي آمنوا به، ثم بلغ بهم سوء الظن إلى الارتداد عن الإسلام- فتسميتهم إخوانا لهؤلاء المؤمنين تذكير لهم بالدين الذي كانوا عليه، ودعوة مجدّدة من الله إليهم ليدخلوا فيه، بعد أن خرجوا منه.
وثانيا: فى هذه التسمية للكافرين بأنهم إخوان لأولئك المؤمنين الذين قتلوا فى سبيل الله- فضح لهم، ومواجهة صريحة بالحكم الذي حكم الله به عليهم وهو أنهم كافرون، وفى هذا ما يجعلهم يتعرفون إلى أنفسهم، ويرون الهاوية التي سقطوا فيها، وهم يقولون هذه المقولات المنكرة- وأنهم إذا كان عند أحدهم شك فى أن هذه المقولات التي يقولها لا تدخل به إلى مداخل الكفر، فليعلم أنه يخدع نفسه، ويضلّلها.. فما هو بعد هذا من المؤمنين..
فإما أن يتوب ويرجع إلى الله، وإما أن يمضى فى طريقه، مع ضلاله وكفره..