الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الذي ناله هؤلاء الذين أنعم الله عليهم، فاتقوه، وأنفقوا فى السّرّاء والضراء، وكظموا الغيظ وعفوا عن الناس.. ومثلهم أولئك الذين إذا فعلوا فاحشة، أو واقعوا المعصية ذكروا جلال الله وعظمته، فرجعوا إليه من قريب، باسطين يد التوبة والمغفرة..
فالجزاء الذي ناله هؤلاء المحسنون المتقون، شىء عظيم رائع.. وهل شىء أعظم من الجنة وأروع؟ .. ثم إن هذا الجزاء- وإن يكن فضلا من الله وإحسانا- هو عن إحسان كان من هؤلاء العاملين، وعن عمل من هؤلاء المحسنين: أجراه الله على أيديهم، ووفقهم إليه..
وفى هذا يقول الحق سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» (13- 14: الأحقاف) .
الآيات: (137- 138)[سورة آل عمران (3) : الآيات 137 الى 138]
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)
التفسير: كانت موقعة بدر، ثم موقعة أحد بعدها، تجربتين مثيرين فى مسيرة الدعوة الإسلامية، وفى كشف معالم الطريق الذي يسير فيه المسلمون
تجاه تلك القوى المتربصة بهم، وبالدّين الذي آمنوا به.
بدأت دعوة الإسلام هامسة، متخافتة. تمشى على خفوت وخشية بين ظلام الشرك، ووسط معاقل المشركين.. فلما أخذ صوتها يعلو ويبلغ الأسماع.
أجلب عليها المشركون بجبروتهم وعتوّهم يلاحقون الجماعة القليلة المستضعفة، حتى كادت تختنق الدعوة فى مهدها، لولا أن ثبت الله أقدام المؤمنين، وربط على قلوبهم، فصبروا على ما أوذوا، وخرجوا عن أموالهم وديارهم وأهليهم، فارّين بدينهم فى وجوه الأرض.. حتى كانت هجرة النبي الكريم إلى المدينة.
فتحدّد بذلك خط سير الدعوة، كما تحدد الأفق الذي ستشرق منه شمسها، وتنتشر أضواؤها.
وفى المدينة قامت الخمائر الأولى لدولة الإسلام.. فكان المهاجرون والأنصار الكتيبة الأولى التي أمسكت راية الحق لتلقى بها الشرك كلّه، والكفر كلّه، والنفاق كلّه.
وفى موقعة بدر كان أول صدام بين الإسلام، والكفر.. الإسلام كله، والشرك كلّه.. ولو أن هذه المعركة انتهت بالقضاء على هذه الجماعة القليلة المسلمة، لما قامت للإسلام بعدها قائمة، ولما كان إسلام ولا مسلمون بعدها..
ولكن الله بالغ أمره.
فلقد قضت إرادته سبحانه أن تغلب تلك الفئة القليلة دولة الشرك، وأن تنالها بيد قوية قاهرة، فتقتل وتأسر، كما تشاء! وتشهد الدنيا كلها من تلك المعركة «معجزة، قاهرة متحدية، وأن الإسلام ليس أمرا من أمور هذه الدنيا التي يقتتل الناس عليها، وإنما هو نور من نور الله، لا تطفئه الأفواه، ولا تحجبه الأيدى، وأنه بالغ الذي الذي
أراد الله أن يبلغه: «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» (9: الصف) .. (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ» (32: التوبة) وتفعل المعجزة فعلها فيمن شهد المعركة، وفيمن سمع أخبارها من المسلمين، والمشركين، والكافرين.. فكثير من المشركين والكافرين، الذين شهدوا المعركة، أو سمعوا أخبارها، قد دارت رءوسهم بها، وأخذوا يراجعون حسابهم مع الإسلام، ويحددون موقفهم من النبىّ، وفى كل يوم يزداد العقلاء قربا من الإسلام، على حين يزداد الحمقى والسفهاء، حمقا وسفاهة وبعدا!! أما المسلمون فقد امتلأت قلوبهم طمأنينة بالدين الذي آمنوا به، وبالنبيّ الذي استجابوا له، واتبعوا سبيله.. ثم نظر ناظرهم إلى آفاق بعيدة، فرأى يد الإسلام تنال ما تشاء.. وتبلغ ما تريد فى كل أفق تتجه إليه.. لا يمتنع عليها شىء، ولا يحول دونها حائل.. إنها تقاتل تحت راية الله، وتضرب أعداءها بيد الله.. فمن يقف لها، أو يردّ ضربتها؟ ألم تشارك ملائكة السماء فى القتال مع المسلمين؟ وهل تهزم جبهة تقاتل معها الملائكة، ولو كانت عدد أصابع اليد أو اليدين؟
لقد كان هذا الشعور مستوليا على المسلمين، بعد أن فرغوا من معركة بدر، وبعد أن عادوا وقد امتلأت أيديهم من الغنائم والأسرى، وبعد أن ملئوا أرض المعركة من أعدائهم، جثثا وأشلاء!! ولكن. ما هكذا تدبير الله وتقديره فيما بين الناس، وفيما بين الحق والباطل!! إنه لا بد من بذل وتضحية، ومن معاناة وابتلاء! وإلا فأين المحقّون وأين المبطلون؟ وأين إحسان المحسنين وإفساد المفسدين؟
وأين ما أعطى صاحب الحق من نفسه وماله، للحق الذي فى يده؟ وكيف تكون إثابة المحسن وجزاء العامل، إن لم يكن عمل وإحسان؟
إن العدل الإلهى يقضى بأن يجازى المحسن، ويعاقب المسيء..!
وفى مجال الصراع بين الحق والباطل، وبين الخير والشر، يمتاز المحقّون من البطلين، وينعزل الأخيار عن الأشرار..
وإذا كانت معركة بدر قد دارت على تلك الصورة الفريدة بين المعارك، ليثبّت الله بها الراية التي ركزها للإسلام، فإن ما يستقبل المسلمون بعد ذلك من معارك لن يكون على تلك الصورة التي شهدوها يوم بدر، وأن عليهم أن يبلوا بلاءهم مع عدوّهم، وأن يستعينوا عليه بالصبر والتقوى. فذلك هو السلاح الذي وضعه الله فى أيديهم، والذي إن حاربوا به عدوّهم كتب الله لهم النصر، وإن قلّ عددهم، وتضاعفت أعداد قوى الشرّ المتصدية لهم!! هكذا ينبغى أن يعرف المسلمون ما يجب أن يكون عليهم أمرهم، وهم مقدمون على لقاء العدو، الذي جاءهم بكل غيظه وحنقه، ليثأر للهزيمة التي نقيها فى معركة بدر!! وها هم أولاء المسلمون يتأهبون للقاء المشركين، الذين جمعوا جموعهم، يريدون أن يقتحموا بها المدينة، ويدمروها على من فيها من المهاجرين والأنصار! ويستشير النبي أصحابه.. ويكثر القول، ويختلف الرأى، ثم يعلو الصوت القائل بلقاء العدو خارج المدينة، ويرى النبي الكريم أن يستجيب للأغلبية، وإن كان يرى خلاف ذلك، فيلبس لباس الحرب، ويضع لامته على رأسه، ويؤذن أصحابه بأنه خارج معهم إلى لقاء المشركين..
وهنا يستشعر المسلمون الندم، ويرون أنّهم على أمر لم يكن يريده النبىّ..
فأقبلوا عليه يسألونه أن يكون عند رأيه الذي رآه.. فأبى عليهم ذلك، وقال:
«ما ينبغى لنبىّ إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل» .. وذلك أنه أقام أمره على عزيمة، وبهذه العزيمة لبس لبوس الحرب.. وما كان له أن يرجع بعد ما عزم.. فإن هذا الرجوع يعنى انحلال العزيمة، إذ ليس ثمّة ما يمنع بعد هذا أن يعزم عزما آخر، ويعود فليبس عدّة الحرب.. وهكذا تستولى عليه حال من التردد بين الإقدام والإحجام.. وليس بعد هذا اجتماع لعزيمة، أو استقامة على رأى.. وفى هذا ما فيه من ضياع وخذلان، لأى أمر، وفى كل عمل، يدخل عليه التردد من أي باب! ولهذا كان أمر الله لنبيّه الكريم:«وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ» (159: آل عمران) قاطعا الطريق إلى التردد بعد العزيمة، التي تجىء عن مناصحة ومشاورة! نقول: خرج النبىّ بأصحابه للقاء العدوّ، ومع المسلمين هذا الشعور الذي وقع فى نفوسهم من حملهم النبىّ على هذا الخروج- الشعور بالندم والحسرة- الأمر الذي لو صحبهم إلى المعركة لأفسد عليهم موقفهم من عدوهم، ولاغتال الكثير من عزمهم وقوّتهم! وهنا يتلقّى الرسول الكريم من ربّه، ما يذهب بمرارة هذا الأسى الذي وجده، ووجده معه أصحابه، فى مجلس الشورى، وما انتهى إليه.
فجاء قوله تعالى: «وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ» - جاء قوله تعالى فى هذه الآيات. ليذكّر النبي والمسلمين بما كان لله عليهم
من فضل، فى هذا النّصر العظيم، الذي امتلأت به أيديهم يوم بدر.. وفى هذه الصورة التي ترتفع للمسلمين من معركة بدر، تهبّ عليهم ريح الطمأنينة، وتدخل على قلوبهم السكينة والأمن، فيلقون عدوّهم بعزم جميع، وإرادة مصممة على النصر، واثقة من عون الله وتأييده.
وفى تلك الحال التي تمتد فيها أبصار المسلمين إلى معركة بدر، وتتعلق عيونهم بالمشاهد الواردة عليهم من ذكرياتها- تمتلىء أسماعهم بما يتلو عليهم الرسول الكريم، مما يتلقى من آيات ربه:«بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ» .. ويستشعر المسلمون من كلمات الله هذه أنهم من الله على حال غير الحال التي كانوا عليها يوم بدر.. إذ قد جاء وعد الله بإمدادهم بالملائكة يوم بدر غير مشروط بشرط، بل هو وعد مطلق، لا بد من تحقيقه.. وقد تحقق.
أمّا هذا الوعد الكريم الذي يتلقونه من الله فى هذا اليوم- يوم أحد- فهو مشروط بشرطين: أن يصبروا، وأن يتقوا.. وتحقيق هذين الشرطين، شرط لتحقيق ما وعدوا به من النصر.
إذن فهم مطالبون بشىء جديد، من الصبر والتقوى، غير ما كانوا عليه يوم بدر، وغير ما هم عليه اليوم، من صبر وتقوى..
وإنهم لو أعطوا المطلوب من الصبر والتقوى، لوجدوا فى أنفسهم من روح الله، قوة تعدل خمسة آلاف من تلك القوى التي ساندتهم، وقاتلت معهم يوم بدر! ثم يستمع المسلمون بعد هذا إلى قوله تعالى:«وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» فيستشعرون أن تلك الأمداد العلويّة، لا تجىء إليهم من بعيد، وإنما هى شرارات
من الإيمان والصبر، تنطلق من داخل أنفسهم، فتشتعل بنور الله، فإذا هى قوى يبلغ بها الإنسان فى ميدان القتال، ما لا يبلغ خمسة من الرجال، لا يملكون تلك القوى فى هذا الميدان! وهنا يلتفت المسلمون إلى أنفسهم التفاتا قويّا، يفتشون عن مواطن القوة والضعف فى إيمانهم وصبرهم، حتى يكونوا على الشرط الذي اشترطه الله عليهم، ليمدّهم بالقوة، وليمكّن لهم من عدوهم.
وتجىء آيات القرآن الكريم، لتلتقى مع هذا الشعور، الذي يفتش فيه المسلمون عن أنفسهم، ولتكون فى مجال البصر وهم يرتادون مواقع الخير الذي يدنيهم من التقوى، ويمكن لهم من الصبر.. وإذا فى الآيات التي يتلوها الرسول عليهم بعد أن تلقاها من ربّه لساعته- إذا فى هذه الآيات الدواء والشفاء، إذ يقول الله تعالى:
قد انطوت عليه مما نهى الله، مما لم يكن يراه، وهو فى زحمة الأحداث المتلاحقة، التي كانت تمرّ بالمسلمين فى تلك الفترة الحرجة من حياة الإسلام- فيعمل على تنقيتها، والخلاص منها.. وقد أشرنا من قبل إلى ما فى هذه الآيات الكريمة من معانى الإحسان، وما تحمل من دواء عتيد لسقام النفوس، ومرضى القلوب! ثم يجىء قوله تعالى بعد ذلك:
«قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ» فيذكر المسلمون من الآية الكريمة أن لله سبحانه وتعالى سننا فى خلقه، لن تتخلف أبدا، وأن من هذه السنن وتلك الأحكام والقوانين التي أخذ الله بها النّاس، ما تضمّنه قوله سبحانه «وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى» (39- 41: النجم) ..
وما جاء به قوله سبحانه: «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» (7- 8 الزلزلة) .
وبهذا يرى المسلمون أنهم مطالبون بأن يعملوا وأن يحسنوا ما وسعهم العمل، وما أمكنهم الإحسان، وأن يلقوا عدوّهم بالصّبر وتوطين النفس على الجهاد والتضحية والبذل فى سبيل الله، وأن يشروا أنفسهم ابتغاء مرضاة الله.. وهنا يأذن الله لهم بالنصر، ويريهم فى عدوّهم ما يحبّون، وإلّا فقد رضوا لأنفسهم بالهزيمة، التي اكتسبوها بالقعود عن البذل والتضحية.
وينظر المسلمون فى سنن الله التي خلت فى عباده، وما لهذه السنن من آثار فى تقدير مصائر الأمم والأفراد على السواء، وإذا الّذين كذّبوا بآيات الله، وآذوا رسل الله، قد أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.. قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم إبراهيم، وقوم لوط، وأصحاب مدين.. هؤلاء جميعا هم ممن كذبوا
الرّسل، فأخذهم الله بذنوبهم، وأوردهم موارد الهلاك فى الدنيا، ولهم فى الآخرة عذاب النار.. وفى هذا بقول الله تعالى:«فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» (40: العنكبوت) .. فهذا هو مصير الذين كفروا بآيات الله وكذّبوا رسله، وإلى مثل هذا المصير يصير أولئك الذين كذّبوا رسول الله وآذوه، ووقفوا منه ومن دعوته هذا الموقف العنادىّ المغرق فى العناد والضلال..
وفى هذا تطمين للمسلمين، وتثبيت لأقدامهم، وأنهم على طريق النصر، إذا هم صبروا واتقوا، وأن أعداءهم إلى البوار والهلاك إن أصرّوا على ما هم عليه من شرك وضلال.. والله سبحانه وتعالى يقول:«إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ» (51: غافر) .. ويقول سبحانه: «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» (31: المجادلة) ثم تمتلىء أسماع المسلمين وقلوبهم بعد هذا بقوله تعالى: «هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ» .. فيرجعون إلى هذا البيان الذي استقبلتهم به تلك الآيات، وهم على مشارف المعركة والالتحام بعدوّهم، ويرتلون هذا البيان مرة بعد مرة، فيخلص إليهم منه فى كل مرة ما يزيد إيمانهم إيمانا ويقينهم يقينا، وإذا هم يمضون إلى المعركة فى ثقة وطمأنينة، وفى إصرار على كسب المعركة وبلوغ النصر! وتدور المعركة، وتهبّ ريح النصر على المسلمين، وفى لحظة خاطفة يرون أنهم كسبوا المعركة، فألقى كثير منهم السلاح، وأقبل على الغنائم ينتزعها من بين يدى العدو قبل أن يفرّ بها! ولكن سرعان ما تتبدل الأمور، وتسكن ريح النصر، ويقع المسلمون ليد
أعدائهم، فيقتلون منهم نحو سبعين قتيلا.. وينكشف الرسول، إذ تتناثر الكتيبة التي حوله، بين قتيل، وجريح، ومهزوم.. ويثبت الرسول الكريم مع فئة قليلة من أصحابه، ويخلص إليه من سهام العدوّ أذى كثير، حتى لتشجّ رأسه، وتنكسر ثنيّته، وينادى منادى المشركين: أن محمدا قتل!! وهنا يستبدّ الهول والفزع بالمسلمين، وتكاد تنتهى المعركة بالهزيمة القاصمة، لولا أن نادى منادى الرسول: أن رسول الله هنا فى المعركة، يقاتل المشركين.. فتثوب إلى المسلمين ألبابهم الشاردة، ويجتمعون إلى رسول الله، ويصمدون معه فى ردّ عدوان المعتدين..
وتكتفى قريش بما نالت، وتقف بالمعركة عند هذا الحدّ، خوفا من أن تدور الدائرة عليها، لو أنها مضت بالحرب إلى آخر الشوط! ويعود النبىّ وأصحابه من المعركة، وقد أصيبوا فى أنفسهم، وفى أصحابهم..
وفى القلوب حزن وأسى، وفى النفوس ضيق واختناق، ويهبّ على المدينة إعصار محموم، يلفّ الناس فى جوّ كئيب، ملفف بالسواد، لا يرى فيه الرائي موقع قدميه! وأين بدر ويومها؟ وأين الوجه الذي استقبلت به المدينة أصحاب بدر، من هذا الوجه الذي تستقبل به أصحاب أحد؟
وتدور فى الرءوس، وعلى الشفاه، خواطر، وهمسات، وغمغمات، تكاد لكثرتها أن تكون هديرا كهدير البحر الهائج، أو عواء كعواء الريح العاصف! وتعلو أصوات المنافقين والكافرين، فتقرع أسماع المسلمين، بالتجديف على الإسلام، والتكذيب لرسول الله، والسخرية بالملائكة التي قيل إنها قاتلت مع المسلمين يوم بدر! فأين رب محمد؟ وأين الملائكة التي يقول إن ربّه يمدّه بها؟ لقد قتل أصحابه، وكاد أن يقتل هو.. فما لربّه لا يدفع عنه
وعن أصحابه ما أصابهم؟ وما للملائكة لا تخفّ لنجدته؟ أم ترى هل تفرّ الملائكة كما يفرّ الناس؟ وهل تهزم كما يهزم المحاربون؟ وكم من الملائكة من قتيل وجريح على أرض المعركة؟ .. إن ذلك ليس إلّا ضلالا فى ضلال، وغرورا فى غرور.. لقد «غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ» (49: الأنفال) فأوردهم موارد الهلاك وسوء المصير!! هكذا كان المشركون والمنافقون يرددون تلك المقولات المنكرة، ويلقون بها- فى شماتة وسخرية- إلى أسماع المسلمين، فتزيد من آلام جراحهم، وتثقل من هموم أنفسهم! والمسلمون فى صمت ووحوم، يمسكون أنفسهم على هموم، ويطوون صدورهم على حسرات وغمرات.. لا يدرون ما يقولون، ولا ما يفعلون!! تلك هى بعض المشاهد التي يمكن أن يرصدها الراصد لهذا اليوم، فيما كان يجرى فى المدينة، وما يدور فى محيط الجماعات التي تأوى إليها، من مسلمين، ومنافقين، ومشركين.. إنها مشاهد أرضية، تسبح صورها وخيالها فى غبار المعركة ودخانها، الذي انعقد فوق المدينة، وخيّم فى سمائها لأيام وأيام! ويتطلع الرسول والمؤمنون إلى السّماء، يرقبون ماذا يجىء من جهتها عن هذا الحدث العظيم.. وماذا كان حسابهم عند الله فيما كان منهم، ولما أخذوا أو تركوا فى هذا اليوم؟
وتقول السماء كلماتها، وتتنزل آيات الله بالحق، يقشع ظلام الباطل، ويفضح ضلال المبطلين، وتتلى كلمات الله فتلتئم بها جراحات المؤمنين،، وتمتلىء بها قلوبهم سكينة ورضى، وإيمانا:! وفى هذه الآيات المنزّلة، عزاء ورحمة وشفاء: