الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وتبدّل الخبيث بالطيّب، أن يسلك الوصىّ بمال اليتيم مسالك التضييع والإهمال، والاغتيال.. فيكون بذلك قد ترك الطيب الذي أمره الله به، وأخذ الخبيث الذي دعته نفسه إليه، ومال به هواه نحوه.
«وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ» .
هو بيان لبعض المداخل التي يتبدل الأوصياء فيها الخبيث بالطيب، فى شأن اليتامى الذين فى أيديهم، وذلك بأن يضيفوا أموال اليتامى إلى أموالهم، ويحسبوا أنها من بعض ما يملكون، دون أن يكون فى تقديرهم أن مال اليتيم لليتيم وحده، وأنهم أمناء عليه، حرّاس له.
«إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً» .
الحوب الذنب والإثم.. والضمير فى «إنه» يعود إلى التصرف المعيب الذي يتصرفه الأوصياء فى أموال اليتامى، وإضافتها إلى أموالهم.. وذلك جور غاشم، وعدوان مبين.
الآية: (3)[سورة النساء (4) : آية 3]
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَاّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلَاّ تَعُولُوا (3)
التفسير: الذي ينظر فى الآية الكريمة نظرة مجرّدة، تقطعها عن سابقها ولاحقها من الآيات، لا ينكشف له وجهها، ولا يستقيم له معناها.. ومن هنا كان اضطراب كثير من المفسّرين حيالها، وتخبطهم فى التوفيق بين شرطها وجوابها.
فالشرط المشروط هنا وهو الخوف من ظلم اليتامى، أو بمعنى آخر طلب العدل والتماس الإحسان فى اليتامى- هذا الشرط معلق تحقيقه بنكاح ما طاب للأوصياء من النساء..
والأمر فى ظاهره، على النقيض من هذا الحكم الذي يجمع بين الشرط والجزاء.. فالعدل فى اليتامى لا يقوم أبدا على نكاح ما طاب للأوصياء من النساء مثنى وثلاث ورباع،، إذا أخذ على إطلاقه، بل إن ذلك ربما كان داعية إلى العدوان على اليتيم، والجور على ماله، وفاء لمطالب الزواج والأولاد الكثيرين، الذين يثمرهم هذا الزواج المتعدد.
ولكن وصل الآية بما قبلها وما بعدها من آيات، يجعلها بمكانها الصحيح من الصورة العامة التي ترسمها مجموعة الآيات الأولى، من السورة، تلك الصورة التي تدعو إلى تقوى الله فى محارمه، وتقواه فى ذوى الأرحام عامة، وفى الأيتام منهم خاصة..
وقد دعت الآية السابقة على هذه الآية- دعت الأوصياء على اليتامى أن يؤتوهم أموالهم، وأن يؤدوها إليهم كاملة، لا تفريط فيها، ولا عدوان عليها.
ثم يجىء بعد هذا قوله تعالى:
«وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ» - يجىء قول الله هذا، تأسيسا على ما أمر به فى الآية السابقة، وتقريرا له..
فقوله تعالى: «وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا.. الآية» هو خطاب لمن استجاب لقوله سبحانه: «وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ» أو لمن ترجى منه الاستجابة لهذا الأمر، أو هو خطاب للمؤمنين جميعا، وإلزام لهم أن
يستجيبوا له، إن كانوا مؤمنين حقا، لأنه أصل من أصول الإيمان، ودعامة من دعائمه.
وإذا كان الأمر كذلك، وإذا كان من شأن المؤمنين أن يستجيبوا لهذا الأمر وأن يحققوه، فإن هناك أمرا آخر يلحق بهذا الأمر، إذا هم فعلوه، عظم أجرهم، واستقام على التقوى طريقهم، وهذا الأمر هو العدول عن زواج اليتيمات، إلى زواج غيرهن من النساء.. فذلك أبعد للشّبه، وأقطع لنوازع الطمع فى ما لهنّ.
وعلى هذا يكون المعنى هكذا..
أما وقد خفتم أيها الأوصياء على اليتامى، أن تأكلوا أموالهم بالباطل، تريدون بهذا مرضاة الله، وتبتغون رضوانه- فإن من تمام هذا الأمر أن تخافوا ظلم اليتيمات فى أنفسهن، بعد أن خفتم ظلمهن فى مالهن.. فإن كنتم على خوف من ظلمهن وتريدون أن تجنبوا أنفسكم هذا الموقف، فدعوهن لشأنهن ولا تتزوجوهنّ وهنّ فى أيديكم، لا يملكون من أمرهن شيئا، وإن لكم فى غيرهن من النساء ما تشاءون.. مثنى وثلاث ورباع، ففى هذه التوسعة لكم فى زواج أكثر من واحدة نعمة من نعم الله عليكم، ومن شكر هذه النعمة ألّا تطمح أعينكم إلى اليتيمات، وما فى الزواج بهن من حرج.
وفى قوله تعالى: «فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ» ما يشير إلى أن اليتيمات المرغوب عن زواج الأوصياء منهن، هن الصغيرات اللاتي لا يصلحن للزواج، ولهذا كان الأمر الإرشادى بالزواج: من «ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ» أي البالغات، الصالحات للزواج، اللائي تشتهين النفس.
وفى قوله تعالى: «فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً» دعوة إلى العدل بين
الزوجات، والتسوية بينهن فى الحقوق والواجبات، وفى هذا ضمان لسلامة الأسرة واستقرارها، ورفع كثير من أسباب الخلاف بينها.
وإذا كانت التسوية بين الزوجات تسوية مطلقة، والعدل بينهن عدلا كاملا- أمرا غير ممكن، وإن أمكن فى حال فلن يمكن فى جميع الأحوال- إذا كان ذلك كذلك، فقد أشار الإسلام إلى الدواء الناجع لسلامة الإنسان فى دينه، فلا يظلم، وسلامته فى نفسه، فلا يقع بين مهاب العواصف من الشقاق والخلاف- هذا الدواء هو الاقتصار على زوجة واحدة والاكتفاء بها:«فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً» .
وفى قوله تعالى: «أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ» إشارة إلى دواء آخر يتداوى به من يرغب فى التزوج بأكثر من زوجة! فهناك «الإماء» وهن ما ملك المرء من الجواري، فله أن يتمتع بما شاء منهن.
وفى قوله سبحانه: «ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا» بيان للحكمة من الاقتصار على زوجة واحدة، أو التسرى بالإماء.
والعول: الميل، يقال عال الميزان عولا، أي مال.
والعول: الزيادة، وتحمل الزيادة هنا على الزيادة فى الظلم، أو الزيادة فى كثرة الأولاد والنفقات..
وعلى هذا يمكن أن يحمل العول هنا على هذه المعاني كلها.. الزيادة فى الظلم، والزيادة فى العيال والنفقة، ثم الحاجة والفقر! وقد يسأل سائل: أليس فى التسرى بالإماء كثرة فى العيال، وكثرة فى النفقة؟ فكيف تكون الدعوى إلى التسرى بهن، ثم يكون التعليل لذلك ما علل به وهو عدم العول؟