الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فهذا النظام الذي ينتظم حركة الشمس قبل أن يولد هذا الإنسان المغرور بآلاف السنين وملايينها، ليس من صنع إنسان من الناس، إنه من عمل قدرة غير قدرة الناس.. فإذا كان النمرود إلها يناظر إله إبراهيم، فليجب على هذا التحدّى، ولينقض على إله إبراهيم عملا من عمله، وتدبيرا من تدبيره! «فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ!!» .
وأسقط فى يد الرجل، وخرس لسانه وشلّ تفكيره، وسقط من عليائه مبللا فى ثيابه، بعرق الخزي والخذلان! «فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» .
وهكذا يصاب الرجل فى مقاتله، بطعنة نافذة من يد الحق:«وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» .
الآية: (259)[سورة البقرة (2) : آية 259]
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)
التفسير: لمّا ذكر الله فى الآية (257) أنه ولىّ الذين آمنوا، وأنه بهذه الولاية لهم يخرجهم من الظلمات إلى النور، وأن الذين كفروا أولياؤهم
الطاغوت، وأنهم بهذه الولاية للطواغيت يخرجونهم من النور إلى الظلمات- لما ذكر الله هذا الحكم، لفت النبىّ الكريم إليه سبحانه، ليريه له الأمثال والشواهد فى الناس، ثم قدم له سبحانه شاهدين من التاريخ، ليسكونا مثلين للمؤمنين والكافرين.. أولياء، الله وأولياء الطاغوت.. والمثل البارز لأولياء الطاغوت هو ذلك الذي حاج إبراهيم فى ربه، أما المثل الآخر لأولياء الله فهو ذلك الذي مرّ على قرية وهى خاوية على عروشها.
فهذا العطف فى قوله تعالى: «أَوْ كَالَّذِي» هو عطف لهذا المثل على المثل السابق.. والتقدير: أتريد يا محمد شاهدا لهذا الحكم الذي حكمت به، وهو أنى ولىّ الذين آمنوا أخرجهم من الظلمات إلى النور، وأن الذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات؟ أتريد لهذا شاهدا؟ إليك شاهدين أو مثلين..
أما المثل الأول فتجده فى هذا الذي حاجّ إبراهيم فى ربه، وقد كان وليّا للطاغوت، فأخرجه من النور إلى الظلمات.
وأما المثل الثاني فتجده فى ذلك الذي مرّ على قرية وهى خاوية على عروشها.. فهو رجل مؤمن بالله، وهو يريد أن يستوثق لإيمانه، ويطلب له المزيد من الأدلة والشواهد، وليس هذا بالذي يضير المؤمن أو يجور على إيمانه، مادام حريصا على طلب الحق، مجتهدا فى السعى إليه، والبحث عنه، فإنه بهذه النية المخلصة سيجد العون والتوفيق من الله:«اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» .
وفى قوله تعالى: «أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها؟» ما يكشف عن مشاعر هذا المؤمن بالله، حين مرّ بقرية قد اندثرت معالمها، وخمدت الحياة فيها، فتمثل له
منها ما كانت عليه فى سالف الزمن، وما كانت تزخر به من عمران، وما كان يموج فيه أهلها من ألوان الحياة، ومذاهب العمل.. لقد صار كل ذلك ترابا فى تراب! واهتاجت مشاعر الرجل، وتمثل له من هذا الهمود الموحش صور من الماضي البعيد، وإذا القرية وأهلها حاضرة فى خياله، تنبض بالحياة، وتفور بالنشاط، كإحدى القرى الحية الماثلة لعينيه هنا أو هناك.. وفتح الرجل عينيه فطار حلم اليقظة الذي ارتسم فى خياله.. وتساءل: أهذا الحلم يمكن أن يصبح حقيقة؟
وهل تعود هذه الأجساد التي بلاها البلى وأكلها التراب؟ هل تعود مرة أخرى إلى الحياة؟ أذلك ممكن؟ ويهتف به هاتف الإيمان: أهذا امتحان لقدرة الله؟
أأنت فى شك من تلك القدرة القادرة على كل شىء؟ ويجيب على نفسه: معاذ الله أن أمتحن أو أشك.. ولكن!! وتموت الكلمات بعد ذلك فى صدره، ويمضى فى طريقه في صمت ووجوم!! وهنا تجىء نجدة السماء فى أطواء قوله تعالى:«اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» .. وكانت تجربة حية وجدها الرجل فى نفسه، وفى الأشياء التي بين يديه.. الرجل، وحماره، وطعامه، وشرابه.. وذلك يمثل الإنسان، والحيوان، والطعام، والماء.. إنها صورة مصغرة للقرية بكل مشخصاتها، مما يدخل عليه الفساد والانحلال مع الزمن.. الرجل وأشياؤه التي يضمها إليه.. فى رحلة إلى غاية يقصدها، ومنزلة يحط عندها رحاله.. والقرية وأشياؤها التي تضمها إليها.. في رحلة إلى غاية هى سائرة إليها، ومنزلة هى منتهية عندها.. يوم يقوم الناس لربّ العالمين! وما يكاد الرجل يعطى القرية ظهره، حتى تتردد فى أذنيه من جنباتها أصداء تلك الكلمات التي همس بها إلى نفسه:
«أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها» ؟ فلا يلبث أن يخرّ صعقا! .. «فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ»
إنها رحلة طويلة فى عالم ما بعد الحياة، استغرقت مئة عام قطعها الرجل وأشياؤه مع القرية فى مسيرتها.. وصحا الرجل بعدها، فوجد من يسأله من قبل الله، على لسان هاتف يهتف به:«كم لبثت» فى نومتك تلك؟
وما حسب أنه طوى هذا الزمن الطويل فى هذا النوم الثقيل، فقال:«لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ!» ذلك ما وقع فى تقديره، قبل أن يفتح عينيه على الحياة من حوله، ويرى سير الزمن بها، وأثره فيها.. فلما قيل له:«بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ» فزع، وكرب، وجهد أن يستحضر وجوده كله، ويقظته كلها، ليعلم أهو فى يقظة أم منام.. وصحا الرجل صحوة مشرقة، فرأى الأمر على ما أخبر به..
لقد تغيرت وجوه الأرض من حوله، فأنكرها وأنكرته، بل لقد أنكر نفسه بما طرأ عليه خلال نومه الطويل، من تغيّر فى هيئته.. ووقع فى يقينه أنه نام نومة استغرقت مئة عام، وهتف به هاتف الحق: أن انظر إلى طعامك وشرابك.. إنه على ما هو عليه لم يدخل عليه فساد، بل ما زال طيبا هنيئا «لم يتسنّه» أي لم تغيّره السنون- وأصله لم يتسنّ، والهاء للسكت!! «وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ» إنه ما زال قائما إلى جوارك على عهدك به!! ففيك وفى أشيائك التي بين يديك آية لك وللناس، يرون فيها قدرة الله التي لا يعجزها شىء، ويستيقنون منها إمكانية البعث الذي يرتاب فيه المرتابون.
وحين استبان للرجل كل شىء حوله، وأشرق قلبه بنور الحق، واستنارت بصيرته بهدى الله، دعى إلى أن ينظر نظرا أعمق وأشمل، إذ قيل له:
«وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً» ونشز العظام هو بروزها من بين أخلاط الجنين.. وفى النظر تتكشف عملية الخلق، وبعث الإنسان من عدم، كما يقول الله تعالى:«أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً» (67: مريم) . فالذى أوجد الحياة من موات، قادر على أن يرد هذه الحياة إلى موات، كما أنه قادر على أن يعيد الحياة إلى هذا
الموات.. «كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ» (104: الأنبياء) .
وتنجلى هذه التجربة المثيرة عن إيمان عميق بقدرة الله، يملأ كيان الرجل كله، وتندفع به غيوم الشك من صدره، ويزول دخان الريب من قلبه.
«فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» فهذا تصديق لما كان يعلمه من قبل، وليس إنشاء لعلم جديد. ولكن شتان بين علم وعلم، وإيمان وإيمان.. «وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً» (76: مريم) .
وهنا أسئلة:
فأولا: هل هذه حادثة وقعت، أم هى مثل مضروب للعبرة والعظمة؟.
والذي نقول به هو أن كل قصص القرآن وأمثاله، وما ورد فى هذا القصص والأمثال من أشخاص وأحداث، هو من الواقع الذي لا شك فيه، وإذا كان لنا نحن البشر أن نلجأ إلى الخيال والوهم لننسج منهما قصصا، وذلك حين يعجز الواقع عن أن يسعفنا بما نتصوره ونتمناه، فإن قدرة الخالق جلّ وعلا لا يعجزها شىء.. تريد فيقع ما تريد، كما أرادته، دون قصور أو مهل، إنها إرادة لا يخالطها وهم، ولا يطوف بها خيال، ولا تعللها الأمانىّ..
تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.
فالذين يرون أن من قصص القرآن ومن أمثاله ما لا يقع، إنما يتهمون قدرة الله، وينسبون إليه ما ينسبون إلى البشر من عجز وقصور.
وثانيا: هل كان الذي حدث للرجل موتا حقيقيا، أم كان سباتا ونوما طويلا، كما حدث لأصحاب الكهف؟.
وكلا الأمرين يمكن أن يكون، مادام ذلك متعلقا بقدرة الله..
وكذلك الشأن فى حماره الذي كان معه!.
على أننا- مع هذا- نميل إلى القول بأن ما حدث للرجل كان نوما ثقيلا
عميقا، فى مكان منعزل عن الناس والحياة، وليكن كهفا، وذلك على نحو ما حدث لأصحاب الكهف، ولكلبهم، الذي صحبهم فى نومهم الطويل.
وفى قوله تعالى: «فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ» مشابه كثيرة من قوله سبحانه فى أصحاب الكهف: «فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً» (11: 12 الكهف) وثالثا: ماذا أفادت هذه التجربة فى واقع الحياة؟ ولم كانت مئة عام ولم تكن عاما، أو بعض عام.. فإن امتداد الزمن وقصره سواء، بعد أن يجاوز المدى الذي يمكن أن يحتمله الإنسان فى الحياة بلا طعام أو شراب؟.
والجواب عن الشق الأول من السؤال، هو أن التجربة قد رفعت عن هذا الرجل المؤمن بالله غشاوة كانت تظلل إيمانه، وتزعج طمأنينة قلبه، وفى هذا رحمة من رحمة الله بعبد من عباده، إذ استنقذه من الضلال، وأدخله فى عباده الصالحين.. وليس هذا بالشيء القليل من معطيات هذه التجربة، كما أن هذه التجربة ليست بالشيء الكثير على قدرة الله- إنها لا تعدو أن تكون استيلادا لمولود جديد من مواليد الحياة! فإذا نظرنا إليها من هذه الزاوية هانت وصغرت بالنسبة لبابها الذي جاءت منه، وإذا نظرنا إليها من جهة دلالتها كانت شيئا رائعا عظيما مثيرا، للدلالة على قدرة الله وحكمته، وسعة رحمته! والجواب عن الشق الآخر من السؤال هو أن امتداد رحلة النوم أو الموت إلى مئة عام، إنما هو إخبار عن الحدث الذي وقع، ولو كانت هذه الرحلة عاما أو بعض عام أو عشرة أعوام أو ألف عام، لكان هذا السؤال واردا على أي زمن منها! وإذن فلا محلّ لهذا السؤال عن المائة عام! ولنؤمن بما أخبر الله به عنها، وأنها مئة عام.. ولنترك حكمة هذا الزمن الطويل لله وحده..