الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويجوز أن يكون المفعول به التخويف هم جماعة المؤمنين، ويكون حينئذ لمفعول به الثاني محذوفا، وتقديره:«إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ» ..
بمعنى أن هذه الأصوات المتنادية بأن الناس قد جمعوا لكم، هى من فعل الشيطان على ألسنة المنافقين وغيرهم، وهو يريد بهذا أن يخوّفكم أولياءه الكفار والمشركين، ولهذا جاء قوله تعالى:«فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» ردّا على كيد الشيطان، وإفسادا لتدبيره السيء.. ولهذا لم يقع هذا القول من نفوس المسلمين موقعا، بل تلقوه بالعزم والتصميم، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:«فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» .
الآيات: (176، 178)[سورة آل عمران (3) : الآيات 176 الى 178]
وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلَاّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (177) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (178)
التفسير: قوله تعالى:
«وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ» عزاء ومواساة للنبى الكريم، لما كان يجد فى نفسه من الحزن والألم، حين يرى بعض من دخلوا فى الإيمان، وحسبوا فى المؤمنين، وظنّ بهم أن خرجوا من ظلام الكفر وضلال الجاهلية إلى نور الإيمان وهدى الإسلام- فإذا بهم وقد عادوا إلى المنحدر، وأزلهم الشيطان عن هذا المقام الكريم..
والرسول الكريم يعلم أن ليس عليه إلا البلاغ، ولكنّ حرصه على هداية الناس، ورغبته الشديدة فى استنقاذهم من الضلال فى الدنيا، والنار فى فى الآخرة، يجعله يفرض على نفسه أن يبالغ فى النصح لقومه، وتعهدهم بتوجيهه وإرشاده، كما يتعهد الأب صغاره.. ولهذا كان صلوات الله وسلامه عليه، يأسى أشد الأسى، إذ يرى هذا العناد الذي يملأ الرءوس من قومه، ويمسكهم على شفير الهاوية، التي تهوى بهم إلى عذاب السعير.. ولهذا أيضا كانت كلمات الله تتنزل عليه حينا بعد حين، تدعوه إلى الرفق بنفسه، وألا يحمله حبّه للخير الذي يريد غرسه فى قلوب الناس إلى ما هو فيه همّ وحسرة وقلق.. «إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ» (56: القصص) (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ» (8: فاطر) .
فهؤلاء الذين يسارعون فى الكفر هم الخاسرون، قد ألقوا بأيديهم إلى التهلكة، ولن يضرّوا الله شيئا.
وفى التعبير بالظرف «فى» فى قوله تعالى: «يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ» بدلا من «يسارعون إلى الكفر» ما يشير إلى أنهم قد دخلوا فى حوزة الكفر فعلا، حتى لقد صار الكفر ظرفا يحتويهم ويشتمل عليهم، وهم يتحركون فى داخله، ليبلغوا الغاية فى الكفر والضلال.
وفى قوله تعالى: «إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً» تهوين لشأنهم وأنه لم يكن لينتفع بهم المسلمون لو كانوا معهم، لما فى قلوبهم من مرض، وما فى كيانهم من فساد، كما أنهم وقد تحوّلوا إلى الجبهة المعادية للمسلمين فإنّهم لن يكون لهم أثر فى مسيرة الدعوة الإسلامية، وفى انطلاقها إلى المدى الذي أراده الله لها، والخسران فى هذه الصفقة واقع عليهم وحدهم.. «ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ» (33: المائدة) .
وقوله تعالى:
«يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» فى نسبة الإرادة إلى الله هنا إغاظة لهم، بسلب إرادتهم، وسوقهم سوقا إلى الكفر الذي هم أهل له وأنه لا مصير لهم إلا هذا المصير المشئوم..
فتعطيل إرادتهم هنا يحرمهم هذا السلطان الذي يجده المرء فى نفسه، ويعتزّ به، حتى وهو يركب مراكب الهلاك.. إذ أنه هنا يجد كلمة «أنا حرّ» التي يجد فيها وجوده، ويردّ بها على من ينصح أو يلوم..
وهؤلاء الذين دخلوا فى الكفر، دخلوه وكأنهم مكرهون، بلا إرادة، ولا حرية، ولا اختيار.. إنهم ليسوا آدميين، حتى تكون لهم إرادة، وتكون لهم حرية واختيار.
وفى قوله تعالى: «يُرِيدُ اللَّهُ» وفى تعليق الفعل بالمستقبل، وقد أراده الله ووقع فعلا- فى هذا ما يقيمهم أبدا بهذا الوضع الذي هم، بلا إرادة ولا اختيار، لأن إرادة فوق إرادتهم قائمة عليهم أبدا.. فليس لهم- والأمر كذلك- أن ينتظروا يوما تعود إليهم فيه حريتهم وإرادتهم، أو أن يكونوا يوما فى وضع الإنسان الحر المريد! قوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» تأكيد لضالة شأن هؤلاء الذين باعوا أنفسهم للشيطان، واستحبّوا العمى على الهدى.. وقد توعّدهم الله- سبحانه- فى الآية السابقة بالعذاب العظيم، وتوعدهم فى هذه الآية بالعذاب الأليم، كما توعدهم فى الآية التالية بالعذاب المهين، فجمع لهم أشنع صور العذاب.. العذاب العظيم.. الأليم..
المهين.. العظيم فى صورته، الأليم فى آثاره الحسيّة، المهين فى آلامه النفسية..
وقوله تعالى:
فيه تكدير لهؤلاء الكافرين، وقطع لتلك اللذات التي يجدونها فيما بين أيديهم من مال وبنين. وأن هذا الذي هم فيه إنما هو أشبه بما يقدّم للحيوان من طعام، كى يكبر، ويكثر لحمه، ثم يذبح!، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى:
«وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ» (12، محمد) .
فالله سبحانه إنما يملى لأعدائه من الكافرين، والمشركين، والمنافقين، ويمدهم بنعمة وأفضاله، ليقيم الحجة عليهم، ولتحسب عليهم هذه النعم، التي كان من حقها أن يشكروا للمنعم بها، فاتخذوها أدوات لحرب الله، وحرب أولياء الله، فكانت عليهم بلاءا ووبالا.. «أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ؟ بَلْ لا يَشْعُرُونَ» (55- 56:
المؤمنون) .
هذا، والعرض الذي يعرض فيه الكافرون، وتكشف فيه أحوالهم، إنما يراد به أولا وقبل كل شىء، العبرة والعظة للمؤمنين، وتنفيرهم من هذه الصورة المنكرة التي يرون الكافرين عليها.. وفى هذا ما يثبت إيمانهم، ويقوّى صلتهم بالله، ويزيد فى حمدهم له، أن هداهم إلى الإيمان، وسلك بهم مسالك المؤمنين..