الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
استبان له من عنادهم ولجاجهم، ومكرهم بآيات الله ومعجزاته، أنهم لن ينتفعوا بتلك الآيات، ولن يجدوا فيها طريقا يهديهم إلى الحق- لمّا تبين له ذلك من بنى إسرائيل ولمسه لمسا واقعيا، نقض يده منهم، واعتزلهم بمن آمن به، وأخلص الإيمان فى سره وعلنه.. فنادى فى القوم «مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ» فى الانجاء إليه، بنيّة صادقة وقلب سليم؟ فأجابه الحواريون، وهم تلاميذ المسيح وخلصاؤه الأولون، الذين سكنوا إليه، وتركوا كل ما فى أيديهم من أهل ومال:«قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ»
وكانت عدتهم اثنى عشر حواريّا، بعدد أسباط بنى إسرائيل الاثني عشر.
قوله تعالى: «رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ» هذا القول يمكن أن يكون لكل من يستمع آيات الله، وما أنزل على رسوله من كلماته، فيرى فيها نور الحق، ويستروح منها روح اليقين، فيؤمن بالله وبرسوله بالغيب، من غير أن يرى الرسول، أو يستمع إليه، ويقول مع المؤمنين:«رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ» أي اجعلنا فى عداد الذين شهدوا الرسول وآمنوا به، وهذا هو الوجه الأقرب إلى منطق الآية الكريمة.. كما يمكن أن يكون تتمة لمقول القول الذي نطق به الحواريون، إجابة لعيسى عليه السلام.
الآيتان: (54- 55)[سورة آل عمران (3) : الآيات 54 الى 55]
وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (54) إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)
التفسير: قوله تعالى: «وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ» المكر الذي مكره اليهود هو ما بينوه من أمر المسيح، وتدبيرهم التّهم لمحاكمته، وصلبه، وإقامة شهود الزور عليه، بأنه مشعوذ، ومفتر على الله، ومدّع أنه المبعوث ملكا على اليهود.. وقد انتهى أمره معهم إلى أن قدموه للمحاكمة، وشهدوا عليه زورا أمام الحاكم الرومانى «بيلاطس» الذي كان حاكما عليهم، فحكم عليه- حسب شريعتهم- بالصّلب.
والصلب لا يحكم به فى شريعة اليهود إلا على من جدّف على الله، وكفر به، وبهذا يستحق اللعنة والطرد من رحمة الله، ومن الدخول فى ملكوته! والصلب هو العقاب الدنيوي المعجّل- عند اليهود- لمن كفر بالله، وهو رمز على تلك اللعنة التي حلّت بهذا الكافر بالله.. وفى التوراة:«ملعون من علّق على خشبة» (تثنية: 21) أي صلب.
فالصلب فى حقيقته تجريم دينىّ لمن يحكم عليه به، ولعنة تصحب المصلوب إلى العالم الأخروى، وتأخذ عليه السبيل إلى ملكوت الله! ذلك هو مكر اليهود بالمسيح.
كانوا فى شك من أمره.. إذ يرون معجزاته القاهرة تملأ عليهم الزمان والمكان اللذين يحتويانهما.. ولكنهما كانوا- من جهة أخرى- ينتظرون مسيحا مخلصا لهم- حسب تأويلهم لشريعتهم- وكان مسيحهم الذي ينتظرونه على صورة- فى وجدانهم- غير صورة المسيح عيسى، الذي جاءهم.. فمسيحهم الذي ينتظرونه هو ملك يخلصهم من الحكم الأجنبى، ويعيد
إليهم مملكة سليمان ومجده.. والمسيح عيسى بن مريم لم يجئهم إلّا بمملكة سماوية، وهذه المملكة لا يدخلونها إلا إذا خرجوا مما فى أيديهم من هذه الدنيا، من مال وأهل وولد! فما أبعد البون بين مسيحهم الذي يؤملون، وهذا المسيح الذي يكذّبون!! من أجل هذا كانت صدمتهم قاسية حين التقوا بالمسيح، وغلبت عليهم شقوتهم فأنكروه، وأنكروا ما جاء به، ورأوا فى المعجزات التي حملها بين يديه شعوذة وسحرا.
وأرادوا أن يقطعوا الشك باليقين فى موقفهم المتردد من المسيح.
فليدخلوا إذن فى تجربة مع المسيح.
فليصلبوه إذن، وليكن هذا الصلب هو فيصل الحكم فيما بينهم وبينه.
إنه يدّعى أنه المسيح، والمسيح الحقيقي لا يصلب ولا يقع تحت اللعنة! وتمضى الأيام بهم، فيزداد عنادهم وإصرارهم كلما زاد شكهم وقوى حدسهم فى أنهم لم يصلبوا المسيح، وإنما صلبوا شخصا يشبهه..
ويظل هذا الخاطر يزعج اليهود، ويبيتهم فى هم وقلق.. حتى يجىء القرآن الكريم، واليهود أعرف الناس به وبصدقه، فيكشف لهم عن وجه الحق سافرا ويقطع الشك باليقين.. فيقول الحق جلّ وعلا:«وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً» (157، 158: النساء) .
وهنا يتجلّى لليهود سوء ما مكروا: «وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ» .
لقد دبّروا هذا التدبير السيء، فأبطل الله تدبيرهم، وردّ كيدهم فى نحورهم، وإذا هم وقد أرادوا أن يخرجوا المسيح من ملكوت الله، قد أخرجهم الله من ملكوته، وصبّ عليهم لعنته، وحمّلهم دم نبىّ لم يقتلوه، وقد خيل إليهم أنهم قتلوه! «1» وفى قوله تعالى:«إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا» يتعلق الظرف «إذ» بقوله تعالى فى الآية قبلها:
«وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ» أي مكر الله وتدبيره هو خير من مكرهم وتدبيرهم ثم علل لذلك وبينه بقوله:
«إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى
…
الآية» .
فقد أوحى الله سبحانه إلى عيسى عليه السلام بما بيّت الله القوم، ووعده سبحانه بأنهم لن ينالوا منه الذي أرادوا فيه، إذ أنه سبحانه سيوفّيه أجله المقدور له، غير منقوص منه شىء، وأن موته بيد الله لا بأيديهم، وسيرفع الله منزلته عنده، ويجعله من عباده المقربين إليه، ويطهره من اليهود فلا يصلب، ولا تمسه اللعنة، التي أرادوا أن يلبسوه إياها بصلبه! وقوله تعالى:«وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ»
(1) سوف نعرض هذه القضية قضية صلب المسيح عند تفسير الآيتين 157، 158 من سورة النساء- ومن أراد دراسة هذه القضية من جميع جوانبها فلينظر فى كتابنا «المسيح فى القرآن»
.