الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التفسير: هذا تعقيب على قوله تعالى فى الآية السابقة: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ» ، فالذين يفوّضون أمرهم إلى الله، ويشدّون عزائمهم إليه، ويعلّقون آمالهم به، هم الذين يحبّهم الله ويتولاهم، لأنهم أحبّوا الله وانتظموا فى مجتمع أوليائه.. وإنهم إذ يلوذون بحمى الله فإنما يستمسكون بالعروة الوثقى، ويعتصمون بأقوى معتصم، وهم بهذا فى ضمان النصر، وعلى طريقه، ولن يغلبهم أحد.. فإن تخلوا عن الله، ووكلوا أمرهم إلى حولهم وحيلتهم، فقد آذنوا الله أن يتخلّى عنهم، وأن يدعهم إلى أنفسهم، وهذا خذلان مبين، ومن خذله الله فلا ناصر له..
وفى قوله تعالى. «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» إشارة مشرقة يرى منها المؤمنون طريقهم فى كل أمورهم، وهى طريق التوكل عليه. «وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ» (3: الطلاق) .
الآية: (161)[سورة آل عمران (3) : آية 161]
وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (161)
التفسير: الغلّ: أخذ الشيء خفية.. يقال: غلّ الشيء إغلالا: إذا أخذه خلسة، ويقال: أغلّ الجازر إذا سرق من اللحم شيئا مع الجلد، والغلّ: الحقد الكامن فى الصدور، والغلّ: الخيانة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:«من بعثناه على عمل فغلّ شيئا جاء يوم القيامة يحمله على عنقه» .. وقوله صلى الله عليه وسلم: «هدايا الولاة غلول» .
والذي عليه المفسرون فى هذه الآية أنها نزلت فى قطيفة حمراء اختفت من الغنائم يوم بدر، فقال بعض المنافقين لعل النبىّ أخذها! وقيل إنها نزلت فى أحداث أحد، حيث ترك جماعة الرماة مكانهم الذي أقامهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، وذلك حين رأوا الهزيمة فى المشركين، وقد امتدت أيدى بعض المسلمين إلى ما تركوا من متاع وسلاح، فقال الرماة:
لعلّ رسول الله لا يقسم الغنائم بيننا كما فعل فى غنائم بدر، ويقول كما قال يومها:«من أخذ شيئا فهو له» فيذهب إخواننا بالغنائم، وليس لنا منها شىء.. فتركوا مكانهم، واندفعوا نحو الغنائم، يأخذون نصيبهم منها، فكان الذي كان! والرأى الأول بعيد.. إذا كان قد مضى عام على معركة بدر، ولو كان لقولة المشركين يومئذ أثر لما تركت هذه الفرية تعيش فى الناس عاما دون أن ينزل قرآن فى تفنيدها، وتكذيب مفتريها.
والخبر الثاني ضعيف، ووجه ضعفه أن المسلمين كانوا يعلمون فى أحد حكم الله فيما يقع لأيديهم من مغانم، حيث كانت سورة الأنفال قد نزلت فى أعقاب بدر، وفيها قوله تعالى:«وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ..» (41: الأنفال) ..
والرأى عندنا- والله أعلم- أن الغلّ هذا من الحقد، واشتمال النفس على البغضاء للناس.. وهذا ما لا يكون من نبىّ أبدا، إذ كانت مهمة الأنبياء نزع ما فى الصدور من عداوات وأحقاد، وغسل ما فى النفوس مما تنطوى عليه بغضاء وضغينة.. إنهم أساة الإنسانية من هذا الداء- داء الحقد الدفين- الذي إن شاع فى جماعة أكلها كما تأكل النار الحطب، أو فشا فى أمة قضى عليها، وحصدها، كما يحصد الوباء النفوس!
والمناسبة هنا قريبة، والموقف داع إلى إلفات النبىّ الكريم إلى هذا الداء، وتحذيره منه.
ففى أحداث أحد، وفى أعقابها، فرغ النّاس من المعركة، وشغلوا بالحديث عنها، والتعليق على مواقف الناس منها..!
وفى المسلمين من خالف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتخلّف عن القتال فى معركة أحد.
وفى المسلمين من تحوّل عن موقفه الذي أمره الرسول بالوقوف عنده، سواء كان للمسلمين النصر، أو كانت عليهم الهزيمة! وفى المسلمين من قاتل، وأبلى فى القتال.. ثم حين استشعر الهزيمة انهزم، وأعطى العدوّ ظهره..
وفى جوانب المعركة، وعلى حواشيها.. كلام يدور، تحرّكه أفواه المنافقين، وتلتوى به ألسنتهم، وتتغامز معه عيونهم..
هذا، والنبىّ الكريم يسمع، ويرى كلّ هذا، ويسوؤه أن يكون فى أصحابه هذا الذي يسمعه ويراه.. فيحزن لذلك ويأسى.
وقد صفح الله عن المؤمنين وعفا عنهم، وشملهم جميعا برحمته وغفرانه..
وكان على النبىّ أيضا أن يصفح ويغفر.. فجاء أمر الله سبحانه وتعالى، يدعوه إلى الصفح ويغريه به، بعد أن يرى النبىّ الصورة الكريمة التي له عنده الله، والتي ينبغى أن يكون عليها، وأن يحتفظ بها على هذا الوضع العلوىّ الوضيء..
…