الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفى قوله تعالى: «ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ» إشارة إلى أن تحوّل المعركة من جانب المسلمين إلى المشركين كان عن حكمة أرادها الله، وهى أن يبتلى المؤمنين بهذا البلاء، وأن يضعهم أمام تجربة يواجهون فيها الشدائد والمحن، ليروا ما عندهم من صبر واحتمال، وليسدّوا الخلل الذي يجدونه فى أنفسهم، استعدادا للمعارك المقبلة بينهم وبين المشركين.
وفى قوله تعالى: «وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ» إشارة أخرى إلى أن ما كان من المسلمين من تحول عن القتال، وانصراف إلى الغنائم، وإن كان مما كسبته أيديهم- قد عفا الله عنه، وتجاوز عن مقترفيه، لأنهم كانوا مقهورين تحت إرادة غالبة لله، فى هذا الذي كان منهم، ليكون لهم فيه درس نافع فى لقاء المشركين بعد هذا.. وفى توكيد فعل العفو باللام الموطئة للقسم، وبحرف التحقيق قد- «ولقد» - إظهار لسعة رحمة الله، وتمام فضله على عباده، المجاهدين فى سبيله «وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ» يغفر لهم، ويتجاوز عن سيئاتهم، ويعيدهم إليه إذا بعدت الطريق بهم عنه.
الآيتان: (153- 154)[سورة آل عمران (3) : الآيات 153 الى 154]
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (154)
التفسير: فى قوله تعالى: «إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ» تذكير للمسلمين بما كان منهم فى هذه المعركة- معركة أحد- وغمزة عتاب لهم على أن فرّوا صاعدين الجبل، لا يلوون على أحد، أي غير ملتفتين إلى من وراءهم.. وإن وراءهم إخوانا لهم صمدوا للمشركين، واستقبلوا الموت راضين.. بل وراءهم، نبيّهم يواجه العدوّ وحده فى بضعة رجال من أصحابه.. فكيف يفرّون؟ ثم إذا كانت منهم فرّة أفلا كانت منهم لفتة إلى النبىّ وقد أحاط العدوّ به؟ ثم ألا كانت منهم كرّة إلى العدوّ، يدفعون يده الضاغطة على رسول الله ومن معه؟ وهل شىء أحبّ إلى المسلم وأعزّ عنده من النبىّ.. ولو كانت نفسه التي بين جنبيه؟ إن ذلك خيانة للنفس ذاتها، وتضييع لها، بسلبها هذا الشرف العظيم، شرف الدفاع عن رسول الله، والموت فى موطن الدفاع عنه! وفى قوله تعالى:«وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ» مواجهة صريحة للمسلمين الذين فرّوا صاعدين فى الجبل، وأنهم أمعنوا فى الفرار، وبعدوا عن ميدان المعركة.. حتى لا يكاد صوت الرسول يبلغ مؤخرتهم وهو يهتف بهم:
إلىّ عباد الله!! وقوله تعالى: «فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ» .
الإثابة من الثواب، وهو الجزاء على عمل الإحسان بالإحسان! وفى التعبير بالإثابة عن الغمّ بالغمّ، إثارة لمشاعر الندم عند هؤلاء المسلمين
الذين فرّوا، لما فاتهم من الثواب العظيم الذي كان لهم أن يحصلوا عليه فى هذا الموطن، لو أنهم صبروا، وثبتوا.
ونعم إنهم أثيبوا.. ولكن لا يكادون يمدون أيديهم إلى هذا الثواب حتى يجدوه غمّا!! فأى ثواب هذا؟ إن ذلك هو ما يمكن أن يجازوا عليه إن كان لهم أن يطلبوا مثوبة على ما كان منهم!! والغم الذي جوزوا عليه بغم.. هو ما كان فى فرارهم الذي رآه النبىّ فاغتمّ له..
وأما الغم الذي كان جزاء لهم.. فهو ما وقع فى نفوسهم من حسرة وألم، حين انكشف لهم موقفهم، وعاينوا الآثار السيئة التي نجمت عن فعلتهم تلك، والتي نفذ منها المشركون إلى المسلمين، وأوقعوا الهزيمة بهم.
وهذه الحسرة التي ملأت قلوبهم، وذلك الألم الذي استولى على كيانهم، قد غطّيا على كلّ ما أصيبوا به فى هذا الموطن.. فلم يبالوا بعد هذا بالغنائم التي أفلتت من أيديهم، ولم يهتمّوا لما أصيبوا به فى أنفسهم، وفى إخوانهم، بعد أن استجابوا الرسول، وأقبلوا إليه، يقاتلون معه، ويتلقون عنه، سهام المشركين، وسيوفهم.
ولقد كان هذا الغمّ الّذى وجدوه فى أنفسهم حاجزا تتحطم عنده كل واردات الهمّ والحزن لما فاتهم، ولما أصابهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ» .. وفى هذا رحمة بهم، وفضل من الله عليهم.. بل هو ثواب فى مقام العقاب، وجزاء حسن فى معرض الحساب والمؤاخذة!
وهكذا يلقى الله عباده وأولياءه فى كل موطن.. يلقاهم بالخير دائما، وبالفضل والإحسان فى كل متّجه، حتى ولو كانوا على غير ما يحبّ الله منهم..
فإنه إذّاك يعاقبهم، ولكنه عقاب كلّه رحمة، وكلّه خير، إذ يعالج هموما، ويدفع آلاما.
وأكثر من هذا..
فإن هذا الغمّ الذي «أثاب» الله به أولئك المؤمنين يومئذ، لم يكن إلا دواء، وفى الدواء مرارة.. شأن كل دواء..
ومع هذا، فإن رحمة الله بهم لم تدع هذه المرارة تسكن فى نفوسهم، وتستقر فى كيانهم.. فما هى إلا أن يفعل الدواء فعله فى تسكين الداء، وفى الذهاب به، حتى تجىء رحمة الله فتنتزع تلك المرارة وتذهب بها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ» فقد ألقى الله على المسلمين وهم فى ذروة المعركة خفقة من نعاس، مرّت بهم مرور النسمة العليلة، فملأت قلوبهم سكينة وأمنا، ومسحت على أجسامهم بيد السلامة والعافية!! وعجب أن يطوف النعاس بجفن المحارب، والرّماح تنوشه، والسّهام والسيوف تتعاوره.. ولكنه القلب حين يستخفّ بالموت، والإيمان حين يرتفع بالإنسان فوق هذا التراب الذي تدبّ فوقه قدماه، فإذا هو محلّق فى السماء، يعلو فوق كل خطر، ويسمو فوق كل شدّة!! والطائفة التي تشير إليها الآية الكريمة، والتي أفرغ الله فى قلوبها هذا الأمن، وساق إليها تلك الخفقة من النعاس، هى الطائفة التي ثبتت مع النبي،
سواء من كان منها الذي ثبت طوال المعركة كلّها، أو من انهزم أو فرّ، ثم عاد إلى مكانه من القتال..
وهناك طائفة أخرى، ممن كانوا مع المسلمين أول الأمر، وعلى رأسهم عبد الله بن أبىّ بن سلول، فإنهم حين أوشك القتال أن يلتحم بين المسلمين وبين المشركين، انحاز بهم صاحبهم جانبا، متذرّعين بتلك الكلمة المنافقة، التي حكاها القرآن الكريم عنهم. فى قوله تعالى:«لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ» (166: آل عمران) وهم يعلمون يقينا أن القتال وشيك بين المسلمين وبين المشركين. ولكنهم لكى يجدوا لأنفسهم عذرا فى النكوص على أعقابهم قالوا تلك القولة الكاذبة التي حكاها القرآن عنهم..
هذه الطائفة لم يكن لها من هذا الأمن الذي سكبه الله فى قلوب المؤمنين، نصيب، وهى التي أشار الله سبحانه وتعالى إليها بقوله:
فهذه الطائفة، طائفة ابن سلول، قد أهمتهم أنفسهم، ولم يكن همّهم الإسلام، ولا الدفاع عنه.. بل طلبوا السلامة لأنفسهم أولا، فتجنبوا المعركة، ووقفوا بعيدا ينتظرون من تدور الدائرة عليه، من الفئتين المقاتلتين.
وفى قوله تعالى: «يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ» اتهام لهؤلاء الذين أهمّتهم أنفسهم، ومواجهة لهم بالجرم الذي ارتكبوه.. إنهم يظنون بالله ظنّ السّوء، فيكذّبون بما وعدهم الله به، وينظرون إلى الله تلك النظرة الباردة التي كانوا ينظرون بها إلى آلهتهم من الأصنام التي كانوا يعبدونها، فيجعلون حساب الله عندهم كحساب هذه الأصنام، حتى لكأن الإسلام لم
يغيّر من حالهم فى جاهليتهم شيئا..
وفى قوله تعالى: «يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ» كشف لبعض ظنونهم السيئة بالله.. فهم يسألون فى استبعاد واتهام «هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ؟» ..
والأمر الذي يسألون أو يتساءلون عنه هو أمر النصر والغلب الذي وعد الله به النبىّ والمؤمنين.. وقد أمر الله الرسول أن يجيبهم بقوله تعالى: «قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ» .. فلو كانوا مؤمنين بالله حقّا لما سألوا هذا السؤال، ولعلموا أن كل شىء بيد الله، وليد الله.. ولكان عليهم أن يستقيموا على ما دعاهم الله إليه من الجهاد، معتصمين بالصبر والتقوى.. ثم ليستقبلوا ما يكون بعد ذلك من نصر أو هزيمة، فإن كان النصر، حمدوا الله وشكروا له، وإن كانت الهزيمة أسلموا أمرهم لله، وصبروا على ما أصابهم.. وقالوا قولة المؤمنين عند لقاء الأمور على وجوهها المختلفة:«كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» (78: النساء) وقوله تعالى: «يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ» يكشف للنبىّ عن دخيلة هؤلاء الضعاف الإيمان، وأنهم يقولون فى أنفسهم، أي فيما بين المرء ونفسه، أو فيما بين بعضهم وبعض- يقولون شيئا غير هذا الذي واجهوا به النبي والمسلمين فى قولهم:«هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ؟» فهذا السؤال على ما فيه خبث، وضعف إيمان، يمكن أن يقبل منهم، ويحمل على الجهل وسوء الظن بالله..
ولكن الذي يدور فى أنفسهم، ويجرى فيما بينهم، هو اتهام صريح لله، وتجديف عليه، يكاد يكون ردّة عن الإسلام.. وهذا ما فضحه الله منهم وأعلنه على العالمين، فى قوله سبحانه:
«يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا» .
إنهم- هنا- يقولونها صريحة، بأن ما وعدهم الله لم يكن إلا غرورا.
وأنه لو كان هذا الوعد حقّا، لما كانت هذه الدائرة التي دارت على المسلمين، وذهبت بكثير من النفوس.
وفى قولهم: «ما قُتِلْنا هاهُنا» بإضافة القتل إليهم، مع أنهم لم يقتلوا، بل ولم يقاتلوا- فى هذا القول ما يكشف عن مدى إيمانهم بهذا القول المنكر، وأنه هو القول الذي كان ينبغى أن يكون لسان حال المسلمين جميعا، حسب تصويرهم وتقديرهم.
وقد ردّ الله عليهم بقوله: «قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ» أي أن هذا القتل الذي وقع فى المسلمين لم يكن يعصمهم منه عاصم، فما هو إلا أجل قد انقضى، وموت أنهى هذا الأجل عند انقضائه، على الصورة التي قضى الله أن ينتهى به عليها..
فهؤلاء الذين استشهدوا فى أحد، قد كتب الله عليهم أن يقتلوا فى هذا الوقت، وفى هذا المكان، وأن يكرموا بالشهادة.. وليس فى الوجود قوة تمنع قضاء الله أن ينفذ على الوجه الذي أراده، وقضى به..
وقوله تعالى: «وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ» معطوف على مفهوم من قوله تعالى: «لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ»
.. أي لو لزمتم بيوتكم، وأصررتم على التزامها، لدعا قضاء الله الذي قضاه على هؤلاء الذين قتلوا، أن يخرجوا إلى حيث التقوا بالعدوّ، وإلى حيث دارت المعركة، وسقط القتلى، فذلك أمر قضى الله به فيمن أراد قتله، وليبتلى ما فى قلوبكم أيها المجدفون على الله، من ضعف، وليخرج ما فى صدوركم من نفاق.. فلولا هذه المحنة وما كان فيها، لما ظهر ضعف إيمانكم، ولما استعان نفاقكم للمؤمنين.. وهذا بعض حكمة الابتلاء الذي يبتلى الله به المؤمنين، فيما فرضه عليهم من جهاد الكافرين والمنافقين!