الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هكذا كان المؤمنون، ثم هكذا أصبحوا.. كانوا أعداء فألّف الله بين قلوبهم، فأصبحوا بنعمته إخوانا. وكانوا عبدة أوثان وأصنام، وفى شرك وضلال يهويان بالمشركين الضالين إلى مهاوى السعير.. وكان هؤلاء الذين أدركهم الإسلام من مشركى الجاهلية على حافة الهاوية، فأنقذهم الله، إذ دخلوا فى الإسلام، وكانوا من المسلمين! فليذكر المسلمون هذا الذي كانوا فيه.. فإن لم يذكروه فى أنفسهم ذكروه فى آبائهم وأجدادهم.. ثم ليذكروا هذه النعمة السابغة التي أضفاها الله عليهم بالإسلام، ثم ليحفظوا هذه النعمة، وليحرصوا عليها، وليحرسوها من الآفات التي تطلع عليها من آفاق شتى.. وبهذا يسلم لهم دينهم، وتسلم لهم أنفسهم.
الآيات: (104- 107)[سورة آل عمران (3) : الآيات 104 الى 107]
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (107)
التفسير: علماء أهل الكتاب هم الذين أفسدوا على الناس دينهم، فغيروا، وبدلوا، وحرفوا.. وهذه خيانة لله، وخيانة للعلم، إذ كان العلماء هم ورثة الأنبياء، وهم المؤتمنون على دعوة السماء، بعد الرسل، يعلّمون الجاهلين، ويهدون الضالين، ويقيمون المنحرفين، فإذا تحول العلماء أنفسهم إلى أدوات هدم وتدمير فى المجتمع، كانت المصيبة قاصمة مهلكة! من أجل هذا، كانت دعوة الله سبحانه وتعالى إلى الأمة الإسلامية، أن تندّب منها أمة، أي جماعة، يتولون قيادة الناس، وهدايتهم إلى سبل الرشاد..
فيأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.. وبهذا يقومون فى المجتمع مقام الأطباء، الذين يرصدن الآفات والأمراض التي تعرض للناس، فيعملون على دفعها، والقضاء عليها.. ويمكن أن يكون قوله تعالى:«وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ» دعوة للأمة الإسلامية كلها أن تكون على تلك الصفة.. أمة تدعو إلى الخير، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر. ويكون معنى «من» فى «منكم» للبيان لا للتبعيض، وهذا ما يناسب قول الله تعالى بعد هذه الآية:«كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ.»
(110: آل عمران) وسواء أكان الأمر موجها إلى الأمة الإسلامية كلها، أو إلى جماعة العلماء المتخيّرة فيها، فإنّ معطيات هذا الأمر واحدة، حيث تكون الأمة كلها منقادة للقيادة الرشيدة فيها، وهى جماعة العلماء العاملين بعلمهم، الداعين إلى الخير، الآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر، وبهذا تصبح الأمة كلها على هذا الطريق المستقيم.
وإذ يأمر الله تعالى الجماعة الإسلامية بهذا، فإنه يحذّرها من أن تذهب مذاهب
الجماعات المنحرفة من أهل الكتاب الذين تفرقوا واختلفوا، ولم يقم من بينهم راشدون، يقومون فى وجه تلك الانحرافات، وهذه الاختلافات، فكان أن ضلّوا جميعا، وهلكوا جميعا!! وهكذا شأن الجماعات التي تفقد القيادة الرشيدة.. لا يستقيم لها طريق، ولا تستقر لها حال.. إنها أشبه بالغنم ليس لها راع يوردها موارد العشب والماء، ويدفع عنها عادية الذئاب والسباع..
وقوله تعالى: «يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ» الظرف هنا متعلق بقوله تعالى: «وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ..» أي أنهم يعذبون عذابا أليما فى هذا اليوم، يوم الحساب والجزاء.. يوم تبيضّ وجوه وتسودّ وجوه..
وابيضاض الوجوه واسودادها، كناية عن البهجة والنعيم الذي يعلو وجوه المؤمنين، والخزي والسوء الذي يحيط بالكافرين، فى ذلك اليوم العظيم.
وفى قوله تعالى: «فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ» بيان لما أجمل فى قوله تعالى: «يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ» .
ولم يجىء هذا التفصيل مرتبا على حسب ما جاء فى المجمل قبله، إذ كان الترتيب يقضى بأن يبدأ بالذين ابيضت وجوههم، حيث بدئ بهم أولا.
والذي جاء عليه النظم القرآنى، هو البيان المبين، الذي هو سمة الإعجاز من كلام ربّ العالمين، فقدّم أولا الذين ابيضت وجوههم وهم المؤمنون، لأن ذلك كان تعقيبا على ذكر الأمة الإسلامية، وما ينبغى لها أن تصون نفسها عنه، مما وقع فيه أهل الكتاب من فرقة وخلاف، كان لعلمائهم فيه الدور الأول.. ثم ذكر إزاء هذه الصورة صورة أهل الكتاب، وما يكون عليهم حالهم يوم القيامة:«يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ» المؤمنين «وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ» الكافرين من أهل الكتاب! .. وفى هذا ما فيه من تطمين للأمة الإسلامية، وترسيخ لأقدامها على الإيمان، والوحدة والألفة.
فإذا جاء تفصيل هذا الإجمال، ووقع تأويله، وسيق الناس إلى الحساب والجزاء قدّم أولئك الكافرون، ليقفوا موقف المذنبين للمحاكمة، ولم يمهلوا، وذلك إشعار لفظاعة جرمهم، وشناعة ذنبهم، الذي يقتضى تعجيل الجزاء السيّء الذي ينتظرهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:«أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ» (87، 88: آل عمران) .
وفى التعجيل بعرض هؤلاء الكافرين من أهل الكتاب ما يدخل الطمأنينة على المؤمنين، الذين ينتظرون دورهم فى ساحة الحكم.. فهذا الحكم الذي يقضى به على هؤلاء الكافرين فيه براءة ضمنية لغيرهم من المؤمنين، ولكنها براءة مشوبة بالخوف، محفوفة بالخشية.. فإذا جاء بعدها هذا الرضوان الذي يفتح لهم أبواب الجنات، وما يلقون فيها من نعيم- زادهم ذلك نعيما إلى نعيم، ورضوانا إلى رضوان..
وانظر كيف كانت مساءلة الكافرين، وكيف كان خزيهم وعيّهم عن ردّ الجواب «أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ؟» .. ثم انظر كيف كان الجواب على هذا السؤال:«فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ» وفى قوله تعالى: «أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ» إشارة إلى أن هؤلاء الكافرين هم أهل الكتاب الذين تحولوا من الإيمان إلى الكفر، وهم الذين أشار إليهم الله سبحانه وتعالى فى قوله تعالى:«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ» (91: آل عمران)