الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وليس هذا الأمر للأغنياء على سبيل الوجوب، بل هو للاستحباب والندب.. ولهذا جاء التعبير عنه بقوله تعالى:«فَلْيَسْتَعْفِفْ» ولو كان للإلزام والوجوب لكان النظم هكذا: «فليعفّ» .. لأن فى الاستعفاف تردّد ومعاودة للفعل بعد الترك، والترك بعد الفعل.. وهكذا.
الآيتان: (7- 8)[سورة النساء (4) : الآيات 7 الى 8]
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (7) وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (8)
التفسير: هنا يجىء ذكر الميراث، وأحكامه، بعد ذكر اليتامى، ومالهم على الأوصياء- الذين هم من أقارب المورّث غالبا- من حقوق..
فاليتم لا يكون إلا بعد موت الوالدين، وخاصة الأب، وكذلك الميراث، لا تقوم أحكامه إلا بعد موت المورّث.
وفى قوله تعالى: «لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ.. الآية) حكم عام مجمل للميراث، وستجىء الآيات بعد ذلك بأحكامه مفصلة مخصّصة.
وقوله تعالى: «وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً» هو تدبير حكيم، من لدن عليم خبير، يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور..
فهذا مال ساقه القدر- على غير انتظار- لجماعة من قرابة المتوفّى،
وهاهم أولاء يقتسمون هذا الميراث فيما بينهم، ويذهب كل واحد منهم بنصيبه منه..!
هذا جانب من الصورة التي تبدو للعين بعد موت المورّث، وعند تقسيم تركته، وهو الجانب البارز الواضح منها..
ولكن هناك جانب آخر لتلك الصورة، لا تراه إلا البصائر النافذة، ولا تشعر به إلا القلوب المتفتحة! ويضمّ هذا الجانب من الصورة أشتاتا من الناس.. الأقارب الذين لا نصيب لهم فى الميراث، واليتامى الفقراء، والمساكين.. وهؤلاء جميعا تحدّق عيونهم فى هذا الميراث، وتتلمظ شفاههم به، ويسيل لعابهم إليه.. فإذا انتهى الموقف، وانفضّ الجمع، وذهب كل وارث بنصيبه، دون أن ينال هؤلاء الواقفون على الجانب الآخر شيئا من هذا الميراث، امتلأت نفوسهم غيظا، واحترقت أكبادهم حسدا، وهذا من شأنه أن يثير العداوة والبغضاء فى الجماعة، ويوقع الشرّ بينها.
والإسلام حريص على أن يسدّ هذه الثغرات، التي تهبّ منها على المجتمع ريح الفتنة، وعواصف الفرقة! وقد جاء هنا بتدبيره الحكيم، فأعطى كل ذى حقّ حقّه، وأقام موازين العدل والإحسان بين الناس، وجمعهم جميعا على المودة والرحمة.
ومن تدبير الإسلام فى هذا أن جعل لهؤلاء الذين يحضرون قسمة الميراث من الأقارب غير الورثة، ومن اليتامى الفقراء، والمساكين- جعل لهم نصيبا من هذا الميراث.. تطيب به خواطرهم، وتسد به مفاقرهم، دون أن يكون فى ذلك ما يضير الورثة، أو يجور على حقهم فى مال مورثهم.
فهذا المال الذي يبذلونه لمن حضر القسمة من هؤلاء المذكورين فى الآية، هو شىء قليل، متروك تقديره للورثة أنفسهم، ولداعى الخير عندهم، خاصة فى هذا المشهد الذي يذكرهم بالموت، وما وراء الموت.. الأمر الذي من شأنه أن تلين له القلوب القاسية، وتسخو فيه الأبدى الشحيحة! وانظر إلى تدبير الله، وإلى تقديره فى هذا الأمر..
(فأولا) الشرط الذي يستحق به هؤلاء المذكورون فى الآية- شيئا من التركة، هو أن يكونوا بمحضر من قسمة التركة، سواء أكان هذا الحضور واقعا أو حكما، بمعنى أن يكونوا فى مجلس القسمة، أو على علم به، لقربهم منه، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:«وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ..»
(وثانيا) القدر المطلوب لهؤلاء المذكورين من مال المتوفّى هو متروك لتقدير الورثة، وما تفيض به مشاعر الخير فى نفوسهم.. وهذا ما يشير إليه قوله سبحانه:«فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ» فهذا الرزق الذي يرزقونه هو من بعض هذا المال ومن حواشيه لا من صميمه، حتى لا يتأذّى الورثة بالعدوان الجائر على نصيبهم، وهذا على خلاف ما جاء فى الدعوة إلى الإنفاق على «السفهاء» من مالهم الذي فى أيدى الأوصياء، حيث قال تعالى:«وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ» .
وفى قوله تعالى: «وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً» دعوة إلى الإحسان بالقول، بعد الإحسان بالعمل.. فالكلمة الطيبة هنا تسدّ النقص الذي قد يستشعر به من يصيبهم شىء من هذا المال الذي بما يراه بعضهم قليلا إلى جانب ما ذهب به الورثة من الميراث.
وبهذا، وذاك تطيب النفوس، وتنقشع سحب العداوة، ودخان الأحقاد، بين جماعة تربطها روابط القرابة والإخاء!