الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بها أذى، حتى تصل إلى مكانها من الناس صافية، مشرقة، طيبة..
وهذا ما يجعل الرسول الكريم مستعدا لتحمّل الأذى فى سبيل رسالته، متجاوزا عن كل ما يعرض له فى طريقه، من حماقات الحمقى وسفاهات السفهاء، فإذا دعى من ربّه إلى أن يكظم غيظه، ويعفو الناس، ويلين لهم، ويستغفر للمسيئين منهم، وجدت تلك الدعوة الكريمة من قلب الرسول مكانا، ووجد منها الرسول الكريم ما تهفو إليه نفسه، ويناجيه به وجدانه..
وثانيا: فى الآية الكريمة أيضا، يرى المؤمنون ما آتاهم الله من فضله، وما أوسع لهم فى برّه وكرمه، إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم، يعرفون وجهه، ويأنسون إليه، ويتلقون من بين يديه ما يتلّقى هو من ربّه من نفحات ورحمات، يسوقها إليهم، فيعيدهم خلقا جديدا، فإذاهم ناس غير الناس، وقوم غير القوم.. قد أشرقت قلوبهم بنور الحق، واستنارت عقولهم بأضواء المعرفة..
«وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» .. وتلك نعم من الله سابغة، وأفضال غامرة، ينبغى أن يذكروها، ويؤدوا شكرها، إيمانا بالله، وجهادا فى سبيل الله، وطاعة وولاء لرسول الله، الذي حمل إليهم هذا الخير، وغرسه فى مغارسه، ورواه من خفقات قلبه، ومسارب وجدانه.
الآيات: (165- 168)[سورة آل عمران (3) : الآيات 165 الى 168]
أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (168)
التفسير: هذه مواجهة أخرى للمؤمنين الذين شهدوا أحدا، ورأوا ما أصيبوا به فى أنفسهم وفى إخوانهم هناك، ثم ما وقع فى نفوسهم من وساوس وظنون، كلّما خبت جذوتها، وبردت نارها، نفخ فيها المنافقون، والكافرون، فازداد ضرامها، وتسعّرت نارها..
وفى هذه المواجهة يجد المؤمنون عتابا رقيقا من الله، وعودا باللائمة عليهم فيما وقع لهم.. كما يجدون فيما بين العتاب واللوم عزاء وتسرية.
فإذا كان المسلمون قد أصيبوا يوم أحد، فقد كان لهم فى عدوهم الذي رماهم بما أصيبوا به، نكاية وجراحات فى يوم بدر ضعف ما أصابهم به فى يوم أحد.. «وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ» .
وإذن فلا يصح للمسلمين أن يقفوا بنظرهم عند ما أصيبوا به، دون أن يمتد هذا النظر إلى ما كان لهم فى عدوّهم، وهنا يستقيم النظر على الواقع كله، فيرون أنهم أرجح كفّة، وأربح صفقة.. وإذن فما ينبغى لهم أن يعجبوا، وأن ينكروا هذا الذي حدث لهم، ويقولوا:«أنّى هذا؟» تلك القولة التي يكادون يهلكون بها أنفسهم وما اشتملت عليه من إيمان.
ثم إنه إذا صح للمسلمين أن يعجبوا ويستنكروا هذا الحدث، فليكن ذلك مقصورا على ذات أنفسهم وحدها، بمعزل عن الدّين الذي آمنوا به وأضيفوا إليه! فإنه إذا كان ثمة خلل فى جماعة المسلمين مكّن لعدوّهم أن ينال منهم ما نال،
فذلك الخلل إنما هو فى ذات أنفسهم، لا فى الدين الذي يجاهدون فى سبيله:
«قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ» أي بما أحدثتم فى هذا اليوم من أمور، عزلت كثيرا منكم عن موقف الجهاد، وباعدت بينهم وبين الله! لقد تغيّرتم أنتم أيها المسلمون، وتغيّر ما بأنفسكم، فغيّر الله مكانكم من النصر الذي كان دانيا لكم، قريبا من أيديكم.
أمّا الله- سبحانه وتعالى فحاشا أن يتغيّر أو يتبدّل، فترونه قويّا عزيزا يوم بدر، ولا ترونه على تلك الصفة يوم أحد.. ذلك مما ينزّه الله عنه:
«إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» قدرة مطلقة دائمة، لا تحول ولا تزول أبدا.
وقوله تعالى:
«وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ» .
هو عزاء ومواساة للمسلمين، لما أصابهم فى تلك المعركة.. وأن يد المشركين ما كانت لتعلوهم إلا بإذن الله، ولأمور قدّرها الله وأرادها.
وقوله سبحانه:
«وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ» هو كشف لبعض ما أراد الله من هذا المصاب الذي وقع فى المسلمين..
فهو امتحان وبلاء لهم، ليعرفوا ما فى أنفسهم من إيمان وصبر، وليتعاملوا مع الله على قدر ما انكشف من إيمانهم وصبرهم..
وقوله تعالى:
هو وجه آخر من وجوه الحكمة التي تنكشف من وراء هذا الذي حدث فى أحد، وهو أن تنكشف وجوه المنافقين للمؤمنين، فيأخذوا حذرهم
منهم، ويعزلوهم عنهم، فإنهم- حيث كانوا- مرض خبيث، يغتال قوى الجماعة التي يندس فيها، ويختلط بها.
وقولة المنافقين هنا، والتي حكاها القرآن الكريم عنهم فى قوله تعالى:
«لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ» قولة منافقة خبيثة، تحمل وجوها من الكيد والتوهين لقوى المسلمين، وهم فى مواجهة العدو.
فقد تحمل هذه القولة على أن هذه الجماعة المنافقة لا تعلم أن قتالا سيكون بين المسلمين والمشركين، وأن قريشا، إنما جاءت لتعرض قوّتها، ولتلقى فى قلوب المسلمين الرعب منها، حتى لا يعترضوا تجارتها فى طريقها إلى الشام..
ثم تنصرف بلا قتال..
وقد تحمل هذه القولة أيضا- وهو الوجه الواضح منها- على أن ما بين المسلمين وبين قريش لن يكون حربا بالمعنى المفهوم.. لأن الحرب بهذا المعنى تكون بين قوتين متكافئتين، الأمر الذي لا يراه المنافقون بين المسلمين وبين قريش.. فالمسلمون- كما يرى المنافقون- فى عدد قليل وضعف ظاهر، وقريش فى جموع كثيرة، وأعداد وفيرة، وسلاح وعتاد يملأ السهل والوعر..
فكيف يكون بين هؤلاء وأولئك حرب؟ إنها ليست إلا ضربة واحدة بيد قريش حتى ينتهى كل شىء. فكيف ندعى إلى حرب ولا حرب؟
إنها عملية انتحار أقرب منها إلى الحرب.. هكذا يقول المنافقون..
وقوله تعالى:
«هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ» ..
إدانة لهم، وحكم عليهم، بهذه الكلمة المنافقة، التي باعدت بينهم وبين الإيمان الذي ينسبون أنفسهم إليه، والتي خطت بهم خطوات سريعة إلى الكفر، فكادوا يكونون كفرا خالصا..