الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذه الدنيا، لأجل محدود، ومتاع قليل بهذا المال الذي استبقوه لاستيفاء حظوظهم من الشهوات واللذات.. ثم ما هى إلا لمحة كلمح البصر، وإذا هم فى موقف الحساب والجزاء.. وإذا هم وأنفسهم التي ضنّوا بها، وأموالهم التي أمسكوا عن الإنفاق منها، خصمان يقتتلان، وإذا هذا المال يتحول إلى أداة عذاب ونكال، يطوّق أعناقهم بأطواق ثقال، ثقل ما جمعوا وكنزوا:
«سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ» .
الآيتان: (181- 182)[سورة آل عمران (3) : الآيات 181 الى 182]
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (181) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَاّمٍ لِلْعَبِيدِ (182)
التفسير: فى معرض البخل بالمال والحرص عليه، يمثّل اليهود أسوأ صورة، وأقبح مثل لما يبلغه إنسان فى هذا الباب..
فالمال عند اليهود- كل يهودى- هو كل شىء، فاليهودى إذا سلم ماله فلا عليه إذا تلف كل شىء، وضاع منه أي شىء.. من دين أو خلق.
لهذا، جاءت الآية الكريمة- بعد أن كشفت الآية السابقة عن جريمة البخل، والعقوبة التي أعدها الله لمرتكبيها- جاءت لتكشف عن درجة من البخل لم يعرفها الناس إلا فى هذا الصنف المحسوب من الناس.. إنهم لم يجمعوا المال من وجوه الحرام والسحت وحسب، ولم يضنوا عن الإنفاق منه فى سبيل الحق والخير وحسب، بل بلغ بهم السّفه والفجر إلى تحدّى الله به، وإعلان الحرب الوقاح عليه، فكانت قولتهم الآثمة تلك، التي حكاها القرآن
عنهم: «إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ» - كانت تلك القولة المنكرة لسان حالهم، فى كل مشهد يشهدونه للمسلمين وهم يدعون للبذل الإنفاق فى سبيل الله، وينادون فى الناس بقول الله سبحانه:«مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» .
(245: البقرة) .. ولا يقع إلى آذان اليهود من كلمات الله تلك إلا «القرض» الذي يعرفونه، ويتعاملون به ربا فاحشا، يغتال أموال الناس، ويمتصّ ثمرة جهدهم.. والقرض لا يكون إلا من غنىّ إلى فقير، وإذ كان الله يطلب قرضا فهو فقير، وإذ كان اليهود هم أقدر الناس على الإقراض الربوىّ فهم أغنياء..
هكذا منطق المال عند اليهود.. حتى مع الله.
وقوله تعالى: «لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ» وعيد لليهود، ونذير بالعذاب الشديد لهم.. إذ كان ما قالوه تجديفا على الله، ومحاربة له.. والله سبحانه وتعالى قد سمع هذا القول المنكر منهم.. والمراد أنه سبحانه وتعالى قد علم ما قالوا.. والتعبير عن العلم بالسّمع أبلغ وأقوى فى حسابنا وتقديرنا نحن.. أما علم الله وسمع الله، وما لله من صفات، فهى جميعا على الكمال المطلق الذي لا يقبل زيادة أو نقصا.
وقوله سبحانه: «سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ» . هو مبالغة فى تغليظ هذا الجرم وتهويله، فقد كتبه الله عليهم ووثّقه، كما يكتبون هم ما يستدينه الدائنون منهم ويوثّقونه، فلا سبيل إلى الضياع أو الإنكار..
ولم يسجّل سبحانه عليهم هذا القول الشنيع وحده، بل قرنه إلى جرم آخر لا يقلّ عنه شناعة وإثما، وهو قتلهم الأنبياء بغير حقّ، وهنا تبدو قولتهم المنكرة تلك موازية لقتل الأنبياء بغير حق، ومعادلة لها فى جرمها وإثمها.
وهنا سؤال:
إن هؤلاء اليهود الذين يخاطبهم القرآن الكريم لم يقتلوا الأنبياء، ولكنّ القتلة هم آباؤهم.. فكيف يكتب القتل عليهم، ويضاف إلى جرائمهم التي أجرموها؟.
والجواب على هذا- والله أعلم- أن اليهود طبيعة واحدة، لا يختلف خلفهم عن سلفهم فى شىء مما هم عليه من عناد، وكفر بآيات الله، ومكر بآلائه ونعمه.. فهؤلاء الأبناء الذين يخاطبهم القرآن الكريم، هم اليهود الذين خاطبهم داود، وأيوب، ويوسف، وموسى، ويحيى، وعيسى، وغيرهم من أنبياء الله ورسله، وفيهم كل ما فى آبائهم من عناد وكفر، وأنه لو جاءهم نبىّ لهمّوا بقتله، ولو أمكنتهم الفرصة فيه لقتلوه..
فإضافة هذا الجرم إليهم- وهو قتل الأنبياء- هو إضافة لهم إلى آبائهم القتلة، فما مات هؤلاء الآباء، ولا انقطعت من الأرض جرثومة الشرّ التي كانت فيهم، بموتهم، بل هم أحياء فى هؤلاء الأبناء، بكل ما عرف عنهم من سوء وفساد.
وقوله وتعالى: «وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ» هو الجزاء المقابل لقولهم «إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ» . فهم قالوا «إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ» ونحن- أي الله- «نَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ» فهو قول يقابل قولا.. وشتان بين قول الله وقولهم.. هم قالوا زورا وبهتانا، والله يقول حقّا وعدلا.. هم قالوا أصواتا ضائعة فى الهواء، والله يقول نارا تلظّى، وعذابا سعيرا، يأخذهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم.
وقوله تعالى: «ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ» ردّ عليهم، وردع لهم إن هم أنكروا هذا العذاب الذي يساق إليهم، أو استفظعوه.. فهذا العذاب