الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جريمة اللواط.. فقد جاء بعد قوله تعالى: «وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما» - جاء قوله سبحانه: «فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً» فهذا الأمر بالإعراض عن أهل «اللواط» بعد أن يتوبا ويصلحا، وهذه السبيل التي جعلها الله لمرتكبات «السحاق» إن صلح حالهن ورغب الأزواج فيهن- هذا وتلك، هما رحمة من رحمة الله، ولطف من ألطافه، يصحب المقدور، ويخفف البلاء، ويهوّنه.. «وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ؟» فسبحانه وسع كل شىء رحمة وعلما، يجرح ويأسو، ويحكم ويعفو.. آمنت به لا إله غيره، ولا ربّ سواه.
ومما يؤيد ما ذهبنا إليه فى فهم هاتين الآيتين، وحملهما على هذا الوجه الذي فهمناهما عليه، ما جاء بعدهما من قوله تعالى:«إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ» فذكر التوبة هنا، وأثرها فى محو السيئات، هو توكيد لقوله تعالى:«فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما» أي إن اللذين يأتيان الفاحشة «اللواط» من الرجال لهما مدخل إلى التوبة التي بها يتطهران من هذا الإثم، أما الزّنا فلا يطهر منه مقترفه إلا بإقامة الحدّ عليه، كما فعل «ماعز» حين ارتكب هذا المنكر، فجاء إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم، وقال:«طهّرنى» يا رسول الله.. وما زال يقول طهرنى يا رسول الله، والرسول الكريم يراجعه، حتى شهد على نفسه أربع شهادات. فأمر الرسول- صلى الله عليه وسلم بإقامة الحدّ عليه، ورجمه، وكذلك كان الأمر مع المرأة الغامدية.
الآيتان: (17- 18)[سورة النساء (4) : الآيات 17 الى 18]
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18)
رأينا فى الآيتين السابقتين كيف عادت رحمة الله فمسحت دمعة البائسين من أهل المنكرات، من الرجال والنساء، بعد أن تابوا وأصلحوا..
وهنا فى هاتين الآيتين بيان للتوبة التي يقبلها الله من عباده المذنبين، والتي يلقى بها ذنوبهم بالصفح والمغفرة..
فيقول سبحانه. «إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ» .
والمراد بالجهالة هنا ما يركب الإنسان من حمق، وطيش، ونزق.. وهو فى مواجهة المنكر، وليس المراد بالجهالة عدم العلم بالمنكر الذي يرتكبه.. فهذا معفوّ عنه، ومحسوب من باب الخطأ.
والمراد بالتوبة من قريب، أن يرجع المذنب إلى نفسه باللائمة والندم، وأن ينكر عليها هذا المنكر الذي وقع فيه، وألا يستمرئه، فإذا وقف الإنسان من نفسه هذا الموقف كانت له إلى الله رجعة من قريب.. فإن مثل هذا الشعور يزعج الإنسان عن هذا المورد الوبيل الذي يرده، ويلوى زمامه عنه.. إن لم يكن اليوم فغدا أو بعد غد.. وهذا ما حمده الله سبحانه وتعالى لأصحاب تلك النفوس التي يقلقها الإثم، ويزعجها المنكر إذا هى ألمّت بمنكر، أو واقعت ذنبا، فكان من حمده سبحانه لتلك النفس وتكريمه لها أن أقسم بها، فقال سبحانه:«لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ» (1- 2: القيامة) ..
وقال سبحانه: «وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً، أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ
فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ»
(135: آل عمران) فالعلم هنا مقابل للجهالة فى قوله تعالى: «يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ» ، أي أنهم لم يصرّوا على ما فعلوا من منكر وهم يعلمون أن هذا المنكر يجنى عليهم ويحبط أعمالهم، وإنما هم مغطّى على بصرهم، لما لبسهم حال غشيانهم المنكر من خفّة وطيش، فلما استبان لهم وجه المنكر، وعرفوا عاقبة أمرهم معه، أنكروه، وبرئوا إلى الله منه.
وقد مدح الله هؤلاء، الذين ينكرون المنكر حتى بعد أن يواقعوه..
وفى قوله تعالى: «وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ» ردّ وردع لأولئك الذين يستخفّون بمحارم الله، فيهجمون عليها فى غير تحرج ولا تأثم، ويبيتون معها، ويصبحون عليها، دون أن يكون لهم مع أنفسهم حساب أو مراجعة.. وهكذا يقطعون العمر، فى صحبة الفواحش، ظاهرها وباطنها، حتى إذا بلغوا آخر الشوط من الحياة، وأطلّ عليهم الموت، فزعوا وكربوا، وألقوا بهذا الزاد الخبيث من أيديهم، وقالوا: تبنا إلى الله، وندمنا على ما فعلنا من ركوب هذه المنكرات! إنها توبة لم تجىء من قلب مطمئن، وعقل مدرك، يحاسب ويراجع، ويأخذ ويدع، ولكنها توبة اليائس الذي لا يجد أمامه طريقا غير هذا الطريق.. إنه لم يثب وهو فى خيرة من أمره.. فيمسك المنكر أو يدعه، ويقيم على المعصية أو يهجرها.. وإنما هو إذ يتوب فى ساعة الموت، أشبه بالمكره على تلك التوبة، إذ لا وجه أمامه للنجاة غير هذا الوجه.. وقد فعلها فرعون من